آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱
جلد
1
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱
جلد
1
عنوان کتاب : محاضرات فی أصول الفقه
نام ناشر : موسسه احیاء آثار الامام الخویی
جلد : 1
تعداد صفحات: 577
الحمد للّٰهربّ العالمين،والصّلاة على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين،واللعنة الدائمة علىٰ أعدائهم أجمعين.
وبعد،فهذا هو الجزء الأوّل من كتابنا«محاضرات في أُصول الفقه»و هو مشتمل على ما استفدته من تحقيقاتٍ عاليةٍ ومطالبَ شامخةٍ وأفكارٍ مبتكرةٍ من مجلس درس سيِّدنا الاُستاذ الأفخم فقيه الطائفة سماحة آية اللّٰه العظمى السيِّد أبو القاسم الخوئي،إذ عكفت ضمن المئات من الطلّاب على مجلس درسه الشريف في جامعة العلم الكبرى«النجف الأشرف»التي أسندت إليها زعامتها،وألقت بين يديه مقاليدها،فقام بالعبأ خير قيام في محاضراته وبحوثه،وتربّى على يديه الكريمتين جيل بعد جيلٍ من الأفاضل الأعلام.
وإنِّي إذ أبتهل إلى المولى سبحانه أن يوفّقني لإلحاق الجزء الثاني بهذا الجزء في الطبع،أسأله تعالى أن يمتّعنا وعموم المسلمين بدوام وجود استاذنا الأفخم ويديم أيام إفاداته العامرة،وما توفيقي إلّاباللّٰه عليه توكّلت وإليه انيب.
من الضروري الذي لايشكّ فيه أحد أنّ الشريعة الإسلامية المقدّسة تشتمل على أحكام إلزامية،من وجوبات وتحريمات تتكفّل بسعادة البشر ومصالحهم المادِّية والمعنوية،ويجب الخروج عن عهدتها وتحصيل الأمن من العقوبة من ناحيتها بحكم العقل.
وهذه الأحكام ليست بضرورية لكل أحد بحيث يكون الكل عالمين بها، من دون حاجة إلى تكلف مؤونة الإثبات وإقامة البرهان عليها.
نعم،عدّة منها أحكام ضرورية أو قطعية فيعلمها كل مسلم،من دون حاجة إلى مؤونة الإثبات والاستدلال.
ولكن جلّها نظريّات تتوقف معرفتها وتمييز موارد ثبوتها عن موارد عدمها على البحث والاستدلال،وأنّ ذلك يتوقّف على معرفة قواعد ومبادئ تكون نتيجتها معرفة الوظيفة الفعلية وتشخيصها في كل مورد،وأنّ هذه القواعد هي القواعد الاُصولية،فهي مبادٍ تصديقية لعلم الفقه المتكفل لتشخيص الوظيفة الفعلية في كل مورد بالنظر والدليل،وأنّ المباحث الاُصولية قد مهدت واُسست لمعرفة هذه القواعد وتنقيحها.
القسم الأوّل: ما يوصِل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني،وبنحو البت والجزم،وهي مباحث الاستلزامات العقلية كمبحث مقدّمة الواجب، ومبحث الضدّ،ومبحث اجتماع الأمر والنهي،ومبحث النهي في العبادات،فانّه بعد القول بثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته مثلاً،يترتب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها بعد ضمّ الصغرى إلى هذه الكبرى.
وكذا يحصل العلم البتي بفساد الضدّ العبادي عند الأمر بضدّه الآخر إذا ضمّ ذلك إلى كبرى ثبوت الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.
القسم الثاني: ما يوصِل إلى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بعلمٍ جعلي تعبّدي،وهي مباحث الحجج والأمارات،وهذه على ضربين:
الضرب الأوّل: ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ عنها،وهي مباحث الألفاظ بأجمعها،فانّ كبرى هذه المباحث-وهي مسألة حجية الظهور-محرزة ومفروغ عنها،وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام
السيرة القطعية عليها،ولم يختلف فيها اثنان،ولم يقع البحث عنها في أيّ علم، ومن هنا قلنا إنّها خارجة عن المسائل الاُصولية.
نعم،وقع الكلام في موارد ثلاثة:
الأوّل:في أنّ حجية الظهور هل هي مشروطة بعدم الظن بالخلاف أم بالظن بالوفاق،أم لا هذا ولا ذاك ؟
الثاني:في ظواهر الكتاب وأ نّها هل تكون حجة أم لا ؟
الثالث:في أنّ حجية الظواهر هل تختص بمن قصد إفهامه أم تعم غيره أيضاً ؟
والصحيح فيها على ما يأتي بيانه 1هو حجية الظهور مطلقاً،بلا اختصاص لها بالظن بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف،ولا بمن قصد إفهامه،كما أ نّه لا فرق فيها بين ظواهر الكتاب وغيرها.
ثمّ إنّ البحث في هذا الضرب يقع من جهتين:
الجهة الاُولى: في إثبات ظهور الألفاظ بحد ذاتها وفي أنفسها مع قطع النظر عن ملاحظة أيّة ضميمة خارجية أو داخلية كمباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم، ومعظم مباحث العموم والخصوص والمطلق والمقيد،كالبحث عن أنّ الجمع المحلّى باللّام هل هو ظاهر في نفسه في العموم أم لا،وعن أنّ النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي هل هي ظاهرة في العموم بحد ذاتها،وعن أنّ الفرد المعرّف باللّام هل هو ظاهر بنفسه في الاطلاق بلا معونة قرينة خارجية ما عدا مقدّمات الحكمة أم لا.
الجهة الثانية: في إثبات ظهورها مع ملاحظة معونة خارجية كبعض مباحث
العام والخاص والمطلق والمقيد،كالبحث عن أنّ العام والمطلق إذا خصصا بدليلين منفصلين فهل هما بعد ذلك ظاهران في تمام الباقي أم لا.والبحث عن أنّ المخصص والمقيد المنفصلين المجملين،هل يسري إجمالهما إلى العام والمطلق أم لا،ونحوهما.
الضرب الثاني: ما يكون البحث فيه عن الكبرى وهي مباحث الحجج – بعد إحراز الصغرى والفراغ عنها-كمبحث حجية خبر الواحد،والاجماعات المنقولة،والشهرات الفتوائية،وظواهر الكتاب.ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي-بناءً على الكشف-ومبحث التعادل والترجيح،فانّ البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.
القسم الثالث: ما يبحث عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين في حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأيّ دليل اجتهادي،من عموم أو إطلاق بعد الفحص بالمقدار الواجب،وما هو وظيفة العبودية في مقام الامتثال،وهي مباحث الاُصول العملية الشرعية،كالاستصحاب والبراءة والاشتغال.
القسم الرابع: ما يبحث عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال في فرض فقدان ما يؤدي إلى الوظيفة الشرعية،من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي،وهي مباحث الاُصول العملية العقلية،كالبراءة والاحتياط العقليين، ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي بناءً على الحكومة.
فالنتيجة المتحصلة إلى الآن:هي أنّ المسائل الاُصولية وقواعدها على أقسام أربعة:
الأوّل:ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني.
الثاني:ما يثبته بعلم جعلي تعبدي،وهذا القسم على ضربين كما مرّ.
الثالث:ما يعيّن الوظيفة العملية الشرعية بعد اليأس عن الظفر بالقسمين المتقدمين.
الرابع:ما يعيّن الوظيفة العملية بحسب حكم العقل في فرض فقدان الوظائف الشرعية-يعني الأقسام الثلاثة المتقدمة-وعدم الظفر بشيء منها.
فهذا كلّه فهرس المسائل الاُصولية وترتيبها الطبيعي.
ومن هنا ظهر فائدة علم الاُصول وهي:تعيين الوظيفة في مقام العمل الذي هو موجب لحصول الأمن من العقاب.
وحيث إنّ المكلف الملتفت إلى ثبوت الأحكام في الشريعة يحتمل العقاب وجداناً،فلا محالة يلزمه العقل بتحصيل مؤمّن منه،وحيث إنّ طريقه منحصر بالبحث عن المسائل الاُصولية،فإذن يجب الاهتمام بها،وبما أنّ البحث عنها منحصر بالمجتهدين دون غيرهم فيجب عليهم تنقيحها وتعيين الوظيفة منها في مقام العمل لنفسهم ولمقلديهم حتى يحصل لهما الأمن في هذا المقام.
وهو:العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهٰية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى اصولية اخرى إليها.
وعليه فالتعريف يرتكز على ركيزتين وتدور المسائل الاُصولية مدارهما
وجوداً وعدماً:
الركيزة الاُولى: أن تكون استفادة الأحكام الشرعية الإلهٰية من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق-أي تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها-كتطبيق الطبيعي على أفراده.
والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول هي الاحتراز عن القواعد الفقهية،فانّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهٰية،ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط بل من باب التطبيق،وبذلك خرجت عن التعريف.
ولكن ربّما يورد بأنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّة من المباحث الاُصولية المهمّة عن علم الاُصول،كمباحث الاُصول العملية الشرعية والعقلية،والظن الانسدادي بناءً على الحكومة،فانّ الاُولى منها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي،لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها على مصاديقها وأفرادها،لا من باب استنباط الأحكام الشرعية منها وتوسيطها لاثباتها،والأخيرتين منها لا تنتهيان إلى حكم شرعي أصلاً لا واقعاً ولا ظاهراً.
وبتعبير آخر:أنّ الأمر في المقام يدور بين محذورين:فانّ هذا الشرط على تقدير اعتباره في التعريف يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم فلا يكون جامعاً،وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهية فيها فلا يكون مانعاً.فإذن لا بدّ أن نلتزم بأحد هذين المحذورين،فامّا نلتزم باعتبار هذا الشرط لتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها اصولية،أو نلتزم بعدم اعتباره لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهية في التعريف،ولا مناص من أحدهما.
والتحقيق في الجواب عنه:هو أنّ هذا الاشكال مبتنٍ على أن يكون المراد
بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف،الاثبات الحقيقي بعلم أو علمي،إذ على هذا لا يمكن التفصي عن هذا الإشكال أصلاً،ولكنّه ليس بمراد منه،بل المراد به معنىً جامع بينه وبين غيره،وهو الاثبات الجامع بين أن يكون وجدانياً أو شرعياً أو تنجيزياً أو تعذيرياً،وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط،لأنّها تثبت التنجيز مرّة والتعذير مرّة اخرى،فيصدق عليها حينئذ التعريف لتوفر هذا الشرط فيها،ولا يلزم إذن محذور دخول القواعد الفقهية فيه.
نعم، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور وهو:العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية،فانّ ظاهرهم أ نّهم أرادوا بالاستنباط الاثبات الحقيقي،وعليه فالاشكال وارد ولا مجال للتفصي عنه كما عرفت.ولو كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه،فلا وقع له أصلاً كما مرّ.
وعلى ضوء هذا البيان ظهر الفرق بين المسائل الاُصولية والقواعد الفقهية، فإنّ الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية،سواء كانت مختصة بالشبهات الموضوعية كقاعدة الفراغ واليد والحلية ونحوها،أم كانت تعم الشبهات الحكمية أيضاً كقاعدتي لا ضرر ولا حرج-بناءً على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعي-وقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن وغيرها،إنّما هي من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها،لا من باب الاستنباط والتوسيط،مع أنّ نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية.
هذا،والصحيح أ نّه لا شيء من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية، فانّ قاعدتي نفي الضرر والحرج لا تجريان في موارد الضرر أو الحرج النوعي، وقاعدة ما يضمن أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك لاحترام ماله، فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة.
وعلى كل حال فالنتيجة هي أنّ القواعد الفقهية من حيث عدم توفّر هذا الشرط فيها غير داخلة في المسائل الاُصولية.
وعلى هذا الأساس ينبغي لك أن تميّز كل مسألة ترد عليك أ نّها مسألة اصولية أو قاعدة فقهية،لا كما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أنّ نتيجة المسألة الفقهية قاعدة كانت أو غيرها،بنفسها تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل،فيقال له:كلّما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط فقد وجبت عليك الصلاة،فيذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي،فيلقى إليه.وهذا بخلاف نتيجة المسألة الاُصولية فانّها بنفسها لا يمكن أن تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط،فان إعمالها في مواردها وظيفة المجتهدين دون غيرهم.نعم،الذي يلقى إليه هو الحكم المستنبط من هذه المسألة لا هي نفسها 1.
وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) بالقياس إلى المسائل الاُصولية وإن كان كما أفاد،فان إعمالها في مواردها وأخذ النتائج منها من وظائف المجتهدين،فلا حظّ فيه لمن سواهم،إلّاأنّ ما أفاده (قدس سره) بالاضافة إلى المسائل الفقهية غير تام على إطلاقه،إذ ربّ مسألة فقهية حالها حال المسألة الاُصولية من هذه الجهة كاستحباب العمل البالغ عليه الثواب بناءً على دلالة أخبار من بلغ عليه، وعدم كونها إرشاداً ولا دالّة على حجية الخبر الضعيف،فانّه ممّا لا يمكن أن يلقى إلى العامي،لعدم قدرته على تشخيص موارده من الروايات وتطبيق أخبار الباب عليها.
وكقاعدة نفوذ الصلح والشرط باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنّة أو
غير مخالفين لهما،فان تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافقاً لأحدهما أو غير مخالف ممّا لا يكاد يتيسر للعامي.
وكقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن،فانّ تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد.إلى غيرها من القواعد التي لا يقدر العامي على تشخيص مواردها وصغرياتها ليطبّق القاعدة عليها.
بل ربّ مسألة فقهية في الشبهات الموضوعية تكون كذلك،كبعض فروع العلم الاجمالي،فانّ العامي لا يتمكن من تشخيص وظيفته فيه،مثلاً إذا فرضنا أنّ المكلف علم إجمالاً بعد الفراغ من صلاتي الظهر والعصر بنقصان ركعة من إحداهما،ولكنّه لا يدري أ نّها من الظهر أو من العصر،ففي هذا الفرع وأشباهه لا يقدر العامي على تعيين وظيفته في مقام العمل،بل عليه المراجعة إلى مقلده، بل الحال في كثير من فروع العلم الاجمالي كذلك.
أمّا الشبهة: فهي توهم أنّ مسألتي البراءة والاحتياط الشرعيين خارجتان عن تعريف علم الاُصول،لعدم توفر الشرط المتقدم فيهما،إذ الحكم المستفاد منهما في مواردهما إنّما هو من باب التطبيق لا من باب الاستنباط،وقد سبق أنّ المعتبر في كون المسألة اصولية هو أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط دون الانطباق.
وأمّا الدفع: فلأنّ المراد بالاستنباط ليس خصوص الاثبات الحقيقي،بل الأعم منه ومن الاثبات التنجيزي والتعذيري،وقد سبق أ نّهما يثبتان التنجيز والتعذير بالقياس إلى الأحكام الواقعية،وهذا نوع من الاستنباط،وإطلاقه
عليه ليس بنحو من العناية والمجاز،بل على وجه الحقيقة،فانّ المعنى الظاهر منه عرفاً هو المعنى الجامع لا خصوص حصّة خاصّة.
ولو تنزّلنا عن ذلك وفرضنا أنّ وقوعهما في طريق الحكم ليس من باب الاستنباط،وإنّما هو من باب التطبيق والانطباق،كانطباق الطبيعي على مصاديقه وأفراده،فلا نسلّم أ نّهما خارجتان من مسائل هذا العلم،وذلك لأنّهما واجدتان لخصوصية بها امتازتا عن القواعد الفقهية،وهي كونهما ممّا ينتهي إليه أمر المجتهد في مقام الافتاء بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي كاطلاق أو عموم.
وهذا بخلاف تلك القواعد فانّها ليست واجدة لها،بل هي في الحقيقة أحكام كلّية إلهٰية استنبطت من أدلّتها لمتعلقاتها وموضوعاتها،وتنطبق على مواردها بلا أخذ خصوصية فيها أصلاً،كاليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي ونحوه.
فهما بتلك الخصوصيّة امتازتا عن القواعد الفقهية،ولأجلها دوّنتا في علم الاُصول وعدّتا من مسائله.هذا تمام الكلام في الركيزة الاُولى.
الركيزة الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى،وعليه فالمسألة الاُصولية هي المسألة التي تتصف بذلك.
ثمّ إنّ النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول أيضاً هي أن لا تدخل فيه مسائل غيره من العلوم،كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطق ونحوها،فانّها وإن كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعية واستنتاجها من الأدلة،فانّ فهم الحكم الشرعي منها يتوقف على علم النحو ومعرفة قوانينه من حيث الإعراب والبناء،وعلى علم الصرف ومعرفة أحكامه من حيث الصحّة والاعتلال،وعلى علم اللّغة من حيث معرفة معاني الألفاظ وما تستعمل فيه،وعلى علم الرجال من ناحية تنقيح أسانيد الأحاديث وتمييز صحيحها
عن سقيمها وجيّدها عن رديئها،وعلى علم المنطق لمعرفة صحّة الدليل وسقمه.
ولكن كل ذلك بالمقدار اللّازم في الاستنباط لا بنحو الاحاطة التامّة،فلو لم يكن الانسان عارفاً بهذه العلوم كذلك،أو كان عارفاً ببعضها دون بعضها الآخر،لم يقدر على الاستنباط،إلّاأنّ وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسها وبالاستقلال،بل لا بدّ من ضم كبرى اصولية وبدونه لا تنتج نتيجة شرعية أصلاً،ضرورة أ نّه لا يترتّب أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لم ينضم إليها كبرى اصولية وهي حجية الرواية،وهكذا.
وبذلك قد امتازت المسائل الاُصولية عن مسائل سائر العلوم،فان مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط كما عرفت،إلّاأ نّها لا بنفسها بل لا بدّ من ضم كبرى اصولية إليها،وهذا بخلاف المسائل الاُصولية،فانّها كبريات لو انضمت إليها صغرياتها لاستنتجت نتيجة فقهية من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى.
ومن هنا يتّضح أنّ مرتبة علم الاُصول فوق مرتبة سائر العلوم،ودون مرتبة علم الفقه،وحدّ وسط بينهما.
كما أ نّه يظهر أنّ مبحث المشتق،ومبحث الصحيح والأعم،وبعض مباحث العام والخاص،كمبحث وضع أداة العموم،كلّها خارجة عن مسائل هذا العلم، لعدم توفر هذا الشرط فيها،إذ البحث في هذه المباحث عن وضع ألفاظ مفردة مادةً كما في بعضها،وهيئةً كما في بعضها الآخر،ومن الواضح جداً أ نّه لا تترتب آثار شرعية على وضعها فقط،مثلاً أيّ أثر شرعي يترتب على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل أو للجامع بينه وبين المنقضي عنه المبدأ،وعلى وضع أسامي العبادات أو المعاملات لخصوص المعاني الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة،وعلى وضع الأدوات للعموم مثلاً من دون أن تنضم إليها مسألة
اصولية.
فالصحيح: هو أ نّها من المسائل اللغوية،ولكن حيث إنّها لم تدوّن في علم اللغة دوّنت في الاُصول.
ونتيجة ما ذكرناه:أنّ المسائل الاُصولية يعتبر فيها أمران:
الأوّل: أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط لا من باب الانطباق،وبها تتميز عن المسائل الفقهية.
الثاني: أن يكون وقوعها فيه بنفسها وبالاستقلال،من دون حاجة إلى ضم مسألة اخرى،وبها تتميز عن مسائل سائر العلوم.
الشبهة الاُولى: توهم أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي بناءً على اعتبار الشرط الثاني تخرج عن مسائل هذا العلم،إذ على القول باستحالة الاجتماع وعدم إمكانه لا يترتب عليها أثر شرعي ما عدا القطع بعدم فعلية كلا الحكمين،وإنّما نحتاج في ترتبه عليها إلى ضم مسألة اخرى وهي إجراء قوانين باب التعارض التي يكون المقام من صغرياتها على القول بالامتناع،وهذا ليس شأن المسألة الاُصولية بمقتضى هذا الشرط كما عرفت.
ويدفعها: أ نّه يكفي في كون المسألة اصولية،وقوعها في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل بأحد طرفيها،وإن كانت لا تقع كذلك بطرفها الآخر،إذ لو لم يكن ذلك كافياً في الاتصاف بكونها مسألة اصولية،للزم خروج كثير من المسائل الاُصولية عن تعريف علم الاُصول بمقتضى الشرط المزبور، منها:مسألة حجية خبر الواحد،فانّه على القول بعدمها لا يترتب عليها أثر
شرعي أصلاً.ومنها:مسألة حجية ظواهر الكتاب،على القول بعدم حجيتها، إلى غيرها من المسائل.
فالنتيجة هي أنّ الملاك في كون المسألة اصولية،وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها،في قبال ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة، كمسائل بقية العلوم،والمفروض أنّ هذه المسألة كذلك،فانّه يترتب عليها أثر شرعي على القول بالجواز،وهو صحّة العبادة،وإن لم يترتب على القول بالامتناع.
الشبهة الثانية: توهم خروج مسألة الضد عن التعريف،لعدم توفر هذا الشرط فيها،إذ لا يترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه لتكون المسألة اصولية.وأمّا حرمة الضد فهي وإن ثبتت بثبوت الملازمة،إلّاأ نّها حرمة غيرية لا تقبل التنجيز،كي تصلح لأن تكون نتيجة فقهية للمسألة الاُصولية.وأما فساد الضد فهو لا يترتب على ثبوت هذه الملازمة بلا ضم كبرى اصولية اخرى،وهي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.
ويدفعها: ما مرّ من الجواب عن الشبهة الاُولى،وملخصه:أ نّه يكفي في كون المسألة اصولية،ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها وإن لم تترتب على طرفها الآخر،والمفروض أ نّه يترتب على مسألتنا هذه أثر شرعي على القول بعدم الملازمة،وهو صحّة الضد العبادي،وإن لم يترتب على القول الآخر.
الشبهة الثالثة: دعوى أنّ اعتبار هذا الشرط يستلزم خروج مسألة مقدمة الواجب عن المسائل الاُصولية،لا من جهة أنّ البحث فيها عن وجوب المقدمة وهي مسألة فقهية،فانّ البحث فيها كما أفاد المحققون من المتأخرين،عن ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب شيء ووجوب مقدماته وعدم ثبوتها،بل من جهة
عدم ترتب أثر شرعي عليها بنفسها وعدم توفر ذاك الشرط فيها.أمّا وجوب المقدمة فهو وإن ترتب على ثبوت هذه الملازمة،إلّاأ نّه حيث كان غيرياً، لا يصلح أن يكون أثراً للمسألة الاُصولية،بل وجوده وعدمه سيّان من هذه الجهة،وأما غيره ممّا هو قابل لذاك،فلم يكن حتى يترتب عليها.
ويدفعها: ما سنذكره إن شاء اللّٰه تعالى في محلّه،من أن لتلك المسألة ثمرة مهمّة-غير وجوب المقدمة-تترتب عليها،وبها تكون المسألة اصولية.
وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محلّها،فلينتظر.
فيقع الكلام في جهات:
الجهة الاُولى:في مدرك ما التزم به المشهور من لزوم الموضوع في كل علم.
الجهة الثانية:في وجه ما التزموا به من أنّ البحث في كل علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتية لموضوعه.
الجهة الثالثة:في بيان تمايز العلوم بعضها عن بعض.
أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه:هو أنّ الغرض من أيّ علم من العلوم أمر واحد،مثلاً الغرض من علم الاُصول الاقتدار على الاستنباط،ومن علم النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال، ومن علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج.
وحيث إنّ هذا الغرض الوحداني يترتب على مجموع القضايا المتباينة في
الموضوعات والمحمولات التي دوّنت علماً واحداً وسميت باسم فارد،يستحيل أن يكون المؤثر فيه هذه القضايا بهذه الصفة،لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد،فإذن يكشف إنّاً عن أنّ المؤثر فيه جامع ذاتي وحداني بينها،بقانون أنّ المؤثر في الواحد لا يكون إلّاالواحد بالسنخ،وهو موضوع العلم.
وبتعبير آخر:أنّ البرهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعاً ومحمولاً،ليس إلّاأنّ الاُمور المتباينة لا تؤثِّر أثراً واحداً،كما عليه جلّ الفلاسفة لولا كلّهم.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ البرهان المزبور وإن سلّم في العلل الطبيعية لا في الفواعل الارادية،إلّاأنّ الغرض الذي يترتب على مسائل العلوم،لا يخلو إمّا أن يكون واحداً شخصياً،أو واحداً نوعياً،أو عنوانياً،وعلى أيّ تقدير لا تكشف وحدة الغرض عن وجود جامع ماهوي وحداني بين تلك المسائل.
أمّا على الأوّل، فإنّه يترتب على مجموع المسائل من حيث المجموع،لا على كل مسألة مسألة بحيالها واستقلالها،فحينئذ المؤثر فيه المجموع من حيث هو، فتكون كل مسألة جزء السبب لا تمامه،نظير ما يترتب من الغرض الوحداني على المركبات الاعتبارية من الشرعية:كالصلاة ونحوها،أو العرفية،فانّ المؤثر فيه مجموع أجزاء المركّب بما هو،لا كل جزء جزء منه،ولذا لو انتفى أحد أجزائه انتفى هذا الغرض.
فوحدة الغرض بهذا النحو لاتكشف عن وجود جامع وحداني بينها بقاعدة استحالة صدور الواحد عن الكثير،فان استناده إلى المجموع بما هو لا يكون مخالفاً لتلك القاعدة ليكشف عن وجود الجامع،إذ سببية المجموع من حيث هو،سببية واحدة شخصية،فالاستناد إليه استناد معلول واحد شخصي إلى
علة واحدة شخصية لا إلى علل كثيرة.
ومقامنا من هذا القبيل،فانّ المؤثر في الغرض الذي يترتّب على مجموع القضايا والقواعد،المجموع من حيث المجموع،لا كل واحدة واحدة منها، والمفروض-كما عرفت-أنّ سببية المجموع سببية واحدة شخصية فاردة، فاستناده إليه ليس من استناد الواحد إلى الكثير،بل حقيقةً من استناد معلول واحد شخصي إلى علة كذلك.
فإذن لا سبيل لنا إلى استكشاف وجود جامع ذاتي بين المسائل.
وأمّا على الثاني، بأن كان الغرض كلياً له أفراد يترتب كل فرد منها على واحدة من المسائل بحيالها واستقلالها-كما هو الصحيح-فالأمر واضح،إذ بناءً على ذلك لا محالة يتعدد الغرض بتعدد المسائل والقواعد،فيترتب على كل مسألةٍ بحيالها غرض خاص غير الغرض المترتب على مسألة اخرى.
مثلاً الاقتدار على الاستنباط الذي يترتب على مباحث الألفاظ،يباين الاقتدار على الاستنباط المترتب على مباحث الاستلزامات العقلية،وهما يباينان ما يترتب على مباحث الحجج والأمارات،فانّ الاقتدار على الاستنباط الحاصل من مباحث الاستلزامات العقلية اقتدار على استنباط الأحكام الشرعية على نحو البتّ والجزم،وهذا بخلاف الاقتدار الحاصل من مباحث الحجج والأمارات،وهكذا…
وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لنا إلى إثبات جامع ذاتي وحداني بين موضوعات هذه المسائل،لأنّ البرهان المزبور لو تمّ فانّما يتم في الواحد الشخصي البسيط بحيث لا يكون ذا جهتين أو جهات،فضلاً عن كونه واحداً نوعياً،فإذا فرضنا أنّ الغرض واحد نوعي فلا يكشف إلّاعن واحد كذلك،لا عن واحد شخصي.
وأمّا على الثالث، فالحال فيه أوضح من الثاني،فانّ القاعدة المزبور لو تمّت فانّما تتم في الواحد الحقيقي لا في الواحد العنواني،والمفروض أنّ الغرض في كثير من العلوم واحد بالعنوان لا بالحقيقة،فان صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج في علم المنطق،وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو، والاقتدار على الاستنباط في علم الاُصول،وهكذا،ليس واحداً بالذات،بل بالعنوان الذي انتزع من مجموع أغراض متعددة بتعدد القواعد المبحوث عنها في العلوم،ليشار به إلى هذه الأغراض.
فإذن كيف يكشف مثل هذا الواحد عن جامع ذاتي ؟ فانّ الواحد بالعنوان لا يكشف إلّاعن واحد كذلك.
وثانياً: أنّ الغرض المترتب على كل علم لايترتب على نفس مسائله الواقعية وقواعده النفس الأمرية،ليكشف عن جامع وحداني بينها،ويقال ذلك الجامع الوحداني موضوع العلم ومؤثر في ذلك الغرض،وهذا لعلّه من أبده البديهيات، فانّ لازم ذلك حصول ذلك الغرض لكل من كان عنده كتب كثيرة من علم واحد أو علوم مختلفة،من دون أن يكون عالماً بما فيها من القواعد والمسائل.
بل هو مترتب على العلم بنسبها الخاصة،وبثبوت محمولاتها لموضوعاتها، فانّ الاقتدار على الاستنباط في علم الاُصول،إنّما يترتب على معرفة قواعده، بأن يعرف حجية أخبار الثقة،وحجية ظواهر الكتاب،والاستصحاب،ونحوها، فإذا عرف هذه القواعد،وعلم بنسبها الخاصة،يحصل له الاقتدار على الاستنباط.
وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو إنّما يحصل لمن يعرف مسائله وقواعده،كرفع الفاعل ونصب المفعول وجرّ المضاف إليه،ونحو ذلك.
وصون الفكر عن الخطأ في علم المنطق،إنّما يترتب على معرفة قوانينه وقواعده،كايجاب الصغرى وكلية الكبرى وتكرر الحد الأوسط،وهكذا.
فلا بدّ من تصوير الجامع حينئذٍ بين العلوم أو لا أقل بين النسب الخاصة،لا بين الموضوعات.
وثالثاً: أنّ المحمولات التي تترتب على مسائل علم الفقه بأجمعها،وعدة من محمولات مسائل علم الاُصول،من الاُمور الاعتبارية التي لا واقع لها عدا اعتبار من بيده الاعتبار،فانّ محمولات مسائل علم الفقه على قسمين:
أحدهما:الأحكام التكليفية كالوجوب والحرمة والاباحة والكراهة والاستحباب.
والآخر:الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية والرقية ونحوها،وكلتاهما من الاُمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلّافي عالم الاعتبار.
نعم،الشرطية والسببية والمانعية ونحوها من الاُمور الانتزاعية التي تنتزع من القيود الوجودية أو العدمية المأخوذة في متعلقات الأحكام أو موضوعاتها، ولهذا لا تكون موجودة في عالم الاعتبار إلّابالتبع،ولكن مع ذلك هي تحت تصرف الشارع رفعاً ووضعاً،من جهة أنّ منشأ انتزاعها تحت تصرفه كذلك.
وإن شئت قلت: إنّ محمولات مسائل علم الفقه على سنخين:
أحدهما موجود في عالم الاعتبار بالأصالة،كجميع الأحكام التكليفية، وكثير من الأحكام الوضعية.
والآخر موجود فيه بالتبع كعدّة اخرى من الأحكام الوضعية.
ومن هنا ظهر حال بعض محمولات علم الاُصول أيضاً،كحجية خبر الواحد والاجماع المنقول،وظواهر الكتاب،وأحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال ونحوها،فانّها من الاُمور الاعتبارية حقيقة وواقعاً،بل البراءة والاحتياط الشرعيان أيضاً من هذا القبيل.
نعم،محمولات مثل مباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية والبراءة والاحتياط العقليين،ليست من الاُمور الاعتبارية في اصطلاح الاُصوليين،وإن كانت كذلك في اصطلاح الفلاسفة،فانّ المصطلح عندهم إطلاق الأمر الاعتباري على الأعم منه ومن الأمر الانتزاعي كالامكان والامتناع ونحوهما.والمصطلح عند الاُصوليين إطلاق الأمر الاعتباري في مقابل الأمر الانتزاعي الواقعي.
إذا عرفت ذلك فأقول: لو سلّم ترتب الغرض الواحد على نفس مسائل العلم الواحد،فلا يكاد يعقل أن يكشف عن جامع واحد مقولي بينها،ليقال إنّ ذلك الجامع الواحد يكشف عن جامع كذلك بين موضوعاتها،بقاعدة السنخية والتطابق،ضرورة أ نّه كما لا يعقل وجود جامع مقولي بين الأمر الاعتباري والأمر التكويني،كذلك لا يعقل وجوده بين أمرين اعتباريين أو امور اعتبارية، فانّه لو كان بينها جامع،لكان من سنخها لا من سنخ الأمر المقولي،فلا كاشف عن أمر وحداني مؤثر في الغرض الواحد،فانّ التأثير والتأثر إنّما يكونان في الأشياء المتأصلة،كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض.
ورابعاً: أنّ موضوعات مسائل علم الفقه على أنحاء مختلفة:
فبعضها من مقولة الجوهر كالماء والدم والمني،وغير ذلك.
ونحو من مقولة الوضع كالقيام والركوع والسجود،وأشباه ذلك.
وثالث من مقولة الكيف المسموع كالقراءة في الصلاة،ونحوها.
ورابع من الاُمور العدمية كالتروك في بابي الصوم والحج وغيرهما.
وقد برهن في محلّه أ نّه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين المقولات كالجواهر والأعراض،لأنّها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة،فلا اشتراك أصلاً بين مقولة الجوهر مع شيء من المقولات العرضية،ولا بين كل واحدة منها مع الاُخرى،وإذا لم يعقل تحقق جامع مقولي بينها،فكيف بين الوجود
والعدم.
وملخص ما ذكرناه أمران:
الأوّل: أ نّه لا دليل على اقتضاء كل علم وجود الموضوع،بل سبق أنّ حقيقة العلم عبارة عن:جملة من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول،التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرض واحد دعا إلى تدوينها علماً.
الثاني: أنّ البرهان قد قام على عدم إمكان وجود جامع مقولي بين موضوعات مسائل بعض العلوم كعلم الفقه والاُصول.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية: فتفصيل القول فيها يحتاج إلى تقديم مقدّمة وهي:أنّ المشهور قد قسّموا العوارض على سبعة أقسام:فانّ العارض على الشيء إمّا أن يعرض ذلك الشيء ويتّصف المعروض به بلا توسط أمر آخر، كادراك الكلّيات العارض للعقل،أو بواسطة أمر آخر مساوٍ للمعروض،كصفة الضحك العارضة للانسان بواسطة أمر مساوٍ له وهو صفة التعجب،أو هذه الصفة عارضة له بواسطة ما هو مساوٍ له،وهو صفة الادراك-هذا في الواسطة المساوية الخارجة عن ذات ذيها،بأن لا تكون جزءه-.
وقد يعرض على شيء بواسطة جزئه الداخلي المساوي له في الصدق، كعروض عوارض الفصل على النوع،مثل عروض النطق على الانسان بواسطة النفس الناطقة،أو بواسطة أمر أخص،كعروض عوارض النوع أو الفصل على الجنس،كما هو الحال في أكثر مسائل العلوم،فانّ نسبة موضوعات مسائلها إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس،فعروض عوارضها لها من العارض على الشيء بواسطة أمر أخص،أو بواسطة أمر أعم كعروض عوارض الأجناس للأنواع،مثل صفة المشي العارضة للانسان بواسطة كونه حيواناً،هذا
في الأعم الداخلي.
وربّما يعرض على شيء بواسطة أعم خارجي-أي خارج عن ذاته ولا يكون جنسه ولا فصله-أو بواسطة أمر مباين له،كعروض الحرارة للماء بواسطة النار أو الشمس،أو عروض الحركة للسيارة أو الطيارة بواسطة القوّة الكهربائية.
وملخص ما ذكرناه:هو أنّ الواسطة إمّا مساوية أو أعم،وهما إمّا داخليان كالجنس والفصل،وإمّا خارجيان،وإمّا خارجي أخص،وإمّا مباين،فهذه ستّة أقسام،والسابع منها ما لا يكون له واسطة.
إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ المعروف والمشهور بل المتفق عليه بينهم،أنّ ما لا واسطة له أو كانت أمراً مساوياً داخلياً من العوارض الذاتية،كما أنّ ما كانت الواسطة فيه أمراً مبايناً أو أعم خارجياً من العوارض الغريبة عندهم.
وأمّا الثلاثة الباقية فكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف،فاختار جمع منهم أنّ عوارض النوع ليست ذاتية للجنس،ومنها عوارض الفصل،واختار جمع آخر بل نسب إلى المشهور أنّ عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع.
وبهذا يشكل كون محمولات العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها،فانّها إنّما تعرض لموضوعات المسائل أوّلاً وبالذات،وبوساطتها تعرض لموضوعات العلوم فإذا فرض أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس،لزم أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة،لوضوح أنّ نسبة موضوعات المسائل إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس.
كما أنّ البحث في عدّة من مسائل هذا العلم عمّا يعرض لموضوعه بواسطة أمر أعم،كمباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية،فان موضوع العلم خصوص
الكتاب والسنّة،وموضوع البحث الأعم منهما،إذن بناءً على أنّ عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع،يكون البحث فيهما عن العوارض الغريبة لموضوع العلم.
وملخص الكلام: أنّ هذا الإشكال يبتني على أمرين:
الأوّل:أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعها.
الثاني:أن لا تكون عوارض النوع ذاتية للجنس وبالعكس.
ثمّ إنّهما يبتنيان على أمر واحد وأصل فارد،وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم،وإلّا فلا موضوع لهذين الأمرين فضلاً عن الاشكال.
وكيف كان،فقد ذهب غير واحد من الأعلام والمحققين في التفصي عنه يميناً وشمالاً،منهم صدر المتألهين في الأسفار،إلّاأنّ جوابه لا يجدي إلّافي المسائل الفلسفية فقط 1.
ولكن على ضوء ما حققناه سابقاً يتّضح لك أ نّه لا أساس للاشكال المذكور،
فانّه يبتني على الالتزام بالأمرين المزبورين اللّذين هما مبتنيان على أصل وأساس واحد،وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم،وقد سبق أ نّه لا دليل عليه بصورة عامة وعرفت قيام الدليل على عدمه بصورة خاصة في بعض العلوم،كعلم الفقه والاُصول.
وتوهم أنّ وحدة العلم تدور مدار وحدة موضوعه،فإذا فرض أ نّه لا موضوع له فلا وحدة له، مدفوع بأنّ وحدة كل علم ليست وحدة حقيقية، لنحتاج إلى تكلف إثبات وجود جامع حقيقي بين موضوعات مسائله،بل وحدته وحدة اعتبارية،فانّ المعتبر يعتبر عدّة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول علماً ويسميها باسم فارد من جهة اشتراكها في الدخل في غرض واحد.
ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا لزوم الموضوع للعلم،فلا دليل على اعتبار أن يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لموضوعه بالمعنى الذي فسّرها المشهور به،والوجه في ذلك ما بيّناه من أنّ حقيقة العلم عبارة عن عدّة من المسائل والقواعد المختلفة موضوعاً ومحمولاً،التي جمعها الاشتراك في غرض واحد، وعليه فيبحث في كل علم عمّا له دخل في غرضه،سواء كان من العوارض الذاتية في الاصطلاح،أم كان من الغريبة،ضرورة أ نّه لا ملزم بأن يكون البحث عن العوارض الذاتية فقط،بعد فرض دخل العوارض الغريبة أيضاً في المهم.
ولو تنزلنا عن هذا أيضاً وسلّمنا أنّ البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعاتها،إلّاأ نّه لا دليل على أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس،بل الصحيح أنّ ما يلحق الشيء بتوسط نوعه أو جنسه ذاتي له لا غريب،بداهة أنّ المراد منه ليس ما يعرض الشيء أوّلاً وبالذات ومن دون
واسطة،فانّ لازمه خروج كثير من محمولات العلوم التي لها دخل في الأغراض المترتبة عليها.
وبالجملة: لا وجه للقول بكون عوارض النوع غريبة للجنس،فانّ البحث عنها لا بدّ منه في العلوم،وبدونه لا يتم أمرها.
وعليه فنقول:لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين:إمّا أن نلتزم بأنّ عوارض النوع ذاتية للجنس،وإمّا أن نلتزم بأنّ المبحوث عنه في العلوم أعم من العوارض الذاتية والغريبة،وهو:كل ما له دخل في الغرض ذاتياً كان أو غريباً،ومع التنزل عن الثاني،فلا مناص من الالتزام بالأوّل.
وعلى ذلك فملاك الفرق بينهما:هو أنّ ما له دخل في الغرض فليس بعرض غريب،وما لا دخل له فيه غريب.ومن ذلك ظهر أ نّه لا وجه لإطالة الكلام في المقام،في بيان أنّ عارض النوع ذاتي للجنس وبالعكس،أو لا،كما صنعه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1وغيره.
ثمّ إنّ مرادنا من العرض مطلق ما يلحق الشيء،سواء كان من الاُمور الاعتبارية أم من الاُمور المتأصلة الواقعية،لا خصوص ما يقابل الجوهر.
وأمّا الكلام في الجهة الثالثة: فقد اشتهر أنّ تمايز العلوم بعضها عن بعض بتمايز الموضوعات.وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية (قدس سره) 2واختار أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض المترتبة عليها الداعية إلى تدوينها،كالاقتدار على الاستنباط في علم الاُصول،وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو،وصون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج في علم المنطق،وهكذا….
وأورد على المشهور بما ملخّصه:أنّ الملاك في تمايز العلوم لو كان تمايز موضوعاتها،فلازمه أن يكون كل باب بل كل مسألة علماً على حدة،لتحقق هذا الملاك فيهما.
والتحقيق في المقام أن يقال:إنّ إطلاق كل من القولين ليس في محلّه،وبيان ذلك:أنّ التمايز في العلوم تارةً يراد به التمايز في مقام التعليم والتعلم،لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه،ويعرف أ نّها مسألة اصولية أو مسألة فقهية أو غيرهما.
واُخرى يراد به التمايز في مقام التدوين،وبيان ما هو الداعي والباعث لاختيار المدوّن عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة،وتدوينها علماً واحداً، وتسميتها باسم فارد،واختياره عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة الاُخرى وتدوينها علماً آخر وتسميتها باسم آخر،وهكذا.
أمّا التمايز في المقام الأوّل:فيمكن أن يكون بكل واحد من الموضوع والمحمول والغرض،بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالاً،والوجه في ذلك:هو أنّ حقيقة كل علمٍ حقيقة اعتبارية،وليست وحدتها وحدةً بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بتباين الذات،كما لو كانت حقيقة كل واحد منهما من مقولة على حدة،أو بالفصل كما لو كانت من مقولة واحدة،بل وحدتها بالاعتبار،وتمييز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر يمكن بأحد الاُمور المزبورة.
وأمّا التمايز في المقام الثاني:فبالغرض إذا كان للعلم غرض خارجي يترتب عليه،كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس كعلم الفقه والاُصول والنحو والصرف ونحوها،وذلك لأنّ الداعي الذي يدعو المدوّن لأن يدوّن عدّة من القضايا المتباينة علماً كقضايا علم الاُصول مثلاً،وعدّة اخرى منها
علماً آخر كقضايا علم الفقه،ليس إلّااشتراك هذه العدّة في غرض خاص، واشتراك تلك العدّة في غرض خاص آخر،فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين،بل كان هو الموضوع،لكان اللّازم على المدوّن أن يدوّن كل باب بل كل مسألة علماً مستقلاً،لوجود الملاك كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره).
وأمّا إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتب عليه سوى العرفان والاحاطة به،كعلم الفلسفة الاُولى،فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول، كما إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل الموضوع فيه الكرة الأرضية مثلاً،ويبحث فيه عن أحوالها من حيث الكمية والكيفية والوضع والأين،إلى نحو ذلك،وخواصها الطبيعية ومزاياها على أنحائها المختلفة.
أو إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل موضوعه الإنسان ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه،وعن صفاته من الظاهرية والباطنية، وعن أعضائه وجوارحه وخواصها،فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك،إمّا بالذات أو بالموضوع،ولا ثالث لهما،لعدم غرض خارجي له ما عدا العرفان والإحاطة،ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي.
كما أ نّه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أنّ غرض المدوّن يتعلق بمعرفة ما تعرضه الحركة مثلاً،فله أن يدوّن علماً يبحث فيه عمّا تثبت الحركة له،سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات،فمثل هذا العلم لا امتياز له إلّابالمحمول.
وبما حققناه تبيّن لك وجه عدم صحّة إطلاق كل من القولين،وأنّ تميّز أيّ علم عن آخر كما لا ينحصر بالموضوع،كذلك لا ينحصر بالغرض،بل كما يمكن أن يكون بهما،يمكن أن يكون بشيء ثالث لا هذا ولا ذاك.
ثمّ إنّ من القريب جداً أن يكون نظر المشهور فيما ذهبوا إليه من أنّ تمايز العلوم بالموضوعات،إلى تقدم رتبة الموضوع على رتبتي المحمول والغرض، ولعلّهم لأجله قالوا إنّ التمايز بها،وليس مرادهم الانحصار،وإلّا فقد عرفت عدمه.
ويتلخص ما ذكرناه في امور:
الأوّل: أنّ صحّة تدوين أيّ علم لا تتوقف على وجود موضوع له،لما بيّنا من أنّ حقيقة العلم عبارة عن:مجموع القضايا والقواعد المتخالفة التي جمعها الاشتراك في غرض خاص لا يحصل ذلك الغرض إلّابالبحث عنها.
الثاني: أ نّه لا منافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم،وبين أن يكون لبعض العلوم موضوع،وذلك لأنّ ما ذكرناه إنّما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كل علم،بحيث لا يكون العلم علماً بدونه،ولذا يبحث في أكثر العلوم عن محمولات مسائلها المترتبة على موضوعاتها،وذلك لا ينافي وجود الموضوع لبعض العلوم،كما إذا فرض تعلق غرض المدوّن بمعرفة موضوع ما،فيدوّن علماً يبحث فيه عن عوارض موضوعه.
الثالث: أنّ تمايز العلوم بعضها عن بعض كما لا ينحصر بالموضوع،كذا لا ينحصر بالغرض،بل كما يمكن أن يكون بهما،يمكن أن يكون بالمحمول، وببيان الفهرس والأبواب إجمالاً،بل بالذات تارة،على حسب اختلاف العلوم والمقامات،هذا كلّه في موضوع العلم بصورة عامّة.
وأمّا الكلام في موضوع هذا العلم،فقد سبق أ نّه أقمنا البرهان على أ نّه لا موضوع له واقعاً،وأنّ حقيقته عبارة عن عدّةٍ من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول التي جمعها في مرحلة التدوين اشتراكها في الدخل في
غرض واحد.
ولو تنزلنا عن ذلك،وفرضنا أنّ له موضوعاً،فما هو الموضوع له ؟ قيل:إنّ موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها،وهذا القول هو مختار المحقق القمي (قدس سره) كما هو ظاهر كلامه في أوّل كتابه 1وقد صرّح بذلك في هامشه عليه 2.
ويرد عليه: أنّ لازم ذلك خروج المسائل الاُصولية عن علم الاُصول،وكونها من مبادئه،كمباحث الحجج والأمارات،ومباحث الاستلزامات العقلية،والاُصول العملية:الشرعية والعقلية،ومبحث حجية العقل،وظواهر الكتاب بل مبحث التعادل والترجيح،ما عدا مباحث الألفاظ،فانّ كبرى هذه المسألة-وهي مسألة حجية الظواهر-مسلّمة عند الكل،ولم يخالف فيها أحد ولم يقع البحث عنها في أيّ علم من العلوم،فلا كلام فيها.
وإنّما الكلام في صغريات هذه الكبرى،أعني ظهور الألفاظ في شيء وعدم ظهورها فيه،كالبحث عن أنّ الأمر أو النهي هل هو ظاهر في الوجوب أو التحريم أم لا،وغير ذلك.وعليه فيكون البحث عنها عن عوارض الدليل بما هو دليل،فانّه لا شبهة في دليليّة الكتاب والسنّة في أنفسهما،وإنّما الكلام هناك في تعيين مدلولهما،وذلك من عوارضهما.
أمّا خروج مباحث الحجج والأمارات فواضح،لأنّ البحث فيها بأسرها عن الدليليّة،وهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية،فتدخل إذن في مقدماته ومبادئه لا في مسائله،حتى مبحث التعادل والترجيح،على ما
هو الصحيح من أنّ البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.
وأمّا خروج مباحث الاستلزامات العقلية،فلأجل أنّ البحث فيها ليس عن عوارض أحد الأدلة الأربعة،لا بما هي أدلة ولا بما هي هي،بل عن أحوال الأحكام بما هي أحكام،مع قطع النظر عن كونها مستفادةً منها ومداليل أدلة.
ويظهر بذلك وجه خروج الاُصول العملية:الشرعية والعقلية.
ولأجل ذلك عدل صاحب الفصول (قدس سره) عن هذا المسلك،واختار أنّ الموضوع ذوات الأدلة الأربعة بما هي هي 1وعليه فالبحث عن دليليتها بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.
ويرد عليه أيضاً: لزوم خروج كثير من مسائل هذا العلم عن كونها اصولية،كمباحث الحجج والأمارات-ما عدا مبحث حجية العقل وظواهر الكتاب-ومباحث الاستلزامات العقلية،والاُصول العملية:الشرعية والعقلية.
والوجه في ذلك:هو أنّ البحث في كل علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتية لموضوعه،وإذا لم يكن كذلك،فهو ليس من مباحث العلم ومسائله في شيء،وعليه فكل مسألة يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة،فهي من مسائل علم الاُصول،وإلّا فلا.
وعلى ذلك يترتب خروج مباحث الاستلزامات العقلية،فانّ البحث فيها ليس عن أحوال أحد الأدلة مطلقاً،بل عن الاستحالة والامكان،وخروج مسألة حجية خبر الواحد،إذ البحث فيها ليس عن عوارض السنّة التي هي موضوع علم الاُصول،بل عن عوارض الخبر،وخروج مسألة حجية الإجماع
المنقول والشهرة الفتوائية،ومبحث التعادل والترجيح،والاُصول العملية:
الشرعية والعقلية،فانّ البحث في جميع هذه المسائل ليس عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة كما هو ظاهر.
فتحصّل: أ نّه لا فرق بين هذا القول والقول الأوّل إلّافي مسألة حجية ظواهر الكتاب وحجية العقل،فانّهما ليستا من المسائل الاُصولية على القول الأوّل، وتكونان منها على هذا القول.
ومن هنا التجأ شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) إلى إرجاع البحث عن مسألة حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنّة،وأنّ مرجعه إلى أنّ السنّة-أعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره-هل تثبت بخبر الواحد أو لا ؟ وبذلك تدخل في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة 1.
ويرد عليه: أ نّه غير مفيد،وذلك لأنّه لو اريد من الثبوت،الثبوت التكويني الواقعي،أعني كون خبر الواحد واسطة وعلة لثبوت السنّة واقعاً،فهذا غير معقول،بداهة أنّ خبر الواحد ليس واقعاً في سلسلة علل وجودها،وكيف يمكن أن يكون كذلك وهو حاك عنها،والحكاية عن شيء متفرعة عليه وفي مرتبة متأخرة عنه.على أنّ البحث في هذه المسألة حينئذ يكون عن مفاد كان التامة،أي عن ثبوت الموضوع،لا عن عوارضه.
ولو اريد منه الثبوت التكويني الذهني،أعني كون خبر الواحد واسطة لاثبات السنّة واقعاً ووجداناً،فهو أيضاً غير معقول،ضرورة أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم الوجداني بالسنّة،ولا يعقل انكشاف السنّة به واقعاً كما تنكشف بالمتواتر والقرينة القطعية،ومع فرض الانكشاف حقيقة،لا تبقى للبحث عن
حجية خبر الواحد موضوعية أصلاً،فانّ العبرة حينئذ بالعلم الوجداني الحاصل بالسنّة،فيجب الجري على وفقه دون الخبر بما هو.
والحاصل:أنّ لازم خبر الواحد بما هو أن يحتمل الصدق والكذب،فكما لا يعقل أن يكون واسطة في ثبوت السنّة واقعاً،فكذلك لا يعقل أن يكون واسطة لاثباتها كذلك.
وإن اريد منه الثبوت التعبدي-كما هو الظاهر-فالأمر وإن كان كذلك،أي أنّ السنّة الواقعية تثبت تعبّداً بخبر الواحد،إلّاأ نّه من عوارض الخبر دون السنّة،وذلك لأنّ الثبوت التعبّدي-بناءً على ما سلكناه-عبارة عن إعطاء الشارع صفة الطريقية والكاشفية لشيء وجعله علماً للمكلف شرعاً بعد ما لم يكن كذلك،وهذا وإن استلزم إثبات السنّة وانكشافها شرعاً-وهو من عوارضها ولواحقها-إلّاأ نّه ليس هو المبحوث عنه في هذه المسألة،وإنّما المبحوث عنه فيها طريقية خبر الواحد وجعله علماً تعبّداً،ومن الواضح أ نّها من عوارض الخبر دون السنّة.والثبوت التعبدي بناءً على ما سلكه المشهور عبارة عن إنشاء الحكم الظاهري على طبق الخبر،وهو أيضاً من عوارضه دونها كما هو ظاهر.
ومنه يظهر الحال على ما سلكه المحقق صاحب الكفاية من أ نّه عبارة عن جعل المنجزيّة والمعذريّة 1فانّهما أيضاً من عوارضه وصفاته لا من عوارضها، وهو واضح.
فتحصّل: أنّ البحث في هذه المسألة على جميع المسالك بحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة الواقعية.على أنّ ما أفاده (قدس سره) لو تمّ فانّما
يتم في خصوص هذه المسألة دون غيرها،وقد عرفت أنّ الإشكال المزبور غير منحصر فيها.
ولذلك عدل صاحب الكفاية (قدس سره) عن مسلك المشهور وذهب إلى أنّ موضوع العلم عبارة عن جامع مقولي واحد بين موضوعات مسائله 1.
ولكن قد مرّ الكلام في هذا مفصلاً وذكرنا هناك أ نّه لم يقم برهان على لزوم موضوع كذلك في العلوم فضلاً عن علم الاُصول،بل سبق منّا أ نّه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين موضوعات مسائله لتباينها تبايناً ذاتياً.
ثمّ إن أبيت إلّاأن يكون لكل علمٍ موضوع ولو كان واحداً بالعنوان كعنوان الكلمة والكلام في علم النحو،وعنواني المعلوم التصديقي والتصوري في علم المنطق،وعنوان فعل المكلف في علم الفقه وهكذا.
فأقول:إنّ موضوع علم الاُصول هو:الجامع الذي ينتزع من مجموع مسائله المتباينة،كعنوان ما تقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل.
ويقع الكلام فيه من جهات:
الجهة الاُولى:في أنّ منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هل هي المناسبة الذاتية بينهما لتصبح الدلالة ذاتية ؟ أو الجعل والمواضعة لتصبح جعلية محضة ؟
الجهة الثانية:في أنّ الواضع هل هو اللّٰه تبارك وتعالى أو البشر ؟
الجهة الثالثة:في أنّ الوضع من الاُمور الواقعية أو من الاُمور الاعتبارية ؟
الجهة الرابعة:في أقسام الوضع إمكاناً مرّة،ووقوعاً مرّة اخرى.
أمّا الجهة الاُولى: فربّما يقال فيها:إنّ دلالة الألفاظ على معانيها ناشئة عن مناسبة ذاتية بينهما 1.
وفيه:أ نّه لو اريد بذاتية الدلالة أنّ الارتباط الذاتي والمناسبة الذاتية بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه،فبطلانه من الوضوح بمكان لايقبل النزاع،فانّ لازم ذلك تمكن كل شخص من الإحاطة بتمام اللغات فضلاً عن لغة واحدة.
ولو اريد أنّ الارتباط المزبور والمناسبة المزبورة بينهما بحد يوجب أن يكون سماع اللفظ مقتضياً لانتقال الذهن إلى معناه،أي أنّ المناسبة اقتضائية لا علّة تامّة،ففيه:أنّ ذلك وإن كان بمكان من الامكان ثبوتاً وقابلاً للنزاع-إذ لا مانع عقلاً من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها،نظير الملازمة الثابتة بين أمرين فانّها ثابتة في الواقع والأزل بلا توقف على اعتبار أيّ معتبر أو فرض أيّ فارض،وبلا فرق بين أن يكون طرفاها ممكنين أو مستحيلين أو مختلفين، إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى: «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» 2نعم،إنّ سنخ ثبوتها غير سنخ
ثبوت المقولات كالجواهر والأعراض،ولذا ليست داخلة تحت شيء منها-إلّا أ نّه لا دليل على ثبوتها كذلك في مرحلة الإثبات فلا يمكن الالتزام بها.
وأمّا ما قيل من أ نّه لولا هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني،لكان تخصيص الواضع لكل معنى لفظاً مخصوصاً بلا مرجح،وهو محال كالترجح بلا مرجح، أي وجود حادث من دون سبب وعلّة.
فيرد عليه أوّلاً: أنّ المحال هو الثاني دون الأوّل،بل لا قبح فيه فضلاً عن الاستحالة إذا كان هناك مرجح لاختيار طبيعي الفعل مع فقد الترجيح بين أفراده ومصاديقه على ما يأتي بيانه في الطلب والارادة إن شاء اللّٰه تعالى،وحيث إنّ المرجح لاختيار طبيعي الوضع والتخصيص موجود فهو كاف في تخصيص الواضع وجعله لكل معنى لفظاً مخصوصاً وإن فقد الترجيح بين كل فرد من أفراده.
على أ نّه لايعقل تحقق المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني،لاستلزام ذلك تحققها بين لفظ واحد ومعانٍ متضادة أو متناقضة،كما إذا كان للفظ واحد معانٍ كذلك كلفظ جون الموضوع للأسود والأبيض،ولفظ القرء للحيض والطّهر وغيرهما،وهو غير معقول،فان تحققها بين لفظ واحد ومعانٍ كذلك يستلزم تحققها بين نفس هذه المعاني كما لا يخفى.
وثانياً: سلّمنا امتناع الترجيح بلا مرجح،إلّاأنّ المرجح غير منحصر بالمناسبة المزبورة كي يلزم الالتزام بها،بل يكفي فيه وجود مرجح ما وإن كان أمراً اتفاقياً،ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بما لا يلزم معه الترجيح بلا مرجح سواء كان ذاتياً أو اتفاقياً.
على أنّ المرجح لا بدّ وأن يقوم بالفعل الصادر من الفاعل فيجوز أن يكون
الرجحان في نفس الوضع وإن لم يكن هناك مناسبة بين اللفظ والمعنى.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية: فقد اختار المحقق النائيني (قدس سره) أنّ اللّٰه تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم،وقال في وجهه:فإنّا نقطع بحسب التواريخ التي بين أيدينا،أ نّه ليس هنا شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة لمعانيها التي تدل عليها فضلاً عن سائر اللغات،كما أ نّا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتية،بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به،بل اللّٰه (تبارك وتعالى) هو الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا،وجعله (تبارك وتعالى) هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب،وجعل الاُمور التكوينية التي جبل الانسان على إدراكها كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك.
فالوضع جعل متوسط بينهما لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي،بل يلهم اللّٰه (تبارك وتعالى) عباده-على اختلافهم-كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص.وممّا يؤكّد المطلب:أ نّا لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أيّ لغة،لما قدروا عليه،فما ظنّك بشخص واحد مضافاً إلى كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة 1.
أقول: يتلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في امور:
الأوّل: أنّ الواضع هو اللّٰه (تبارك وتعالى)،ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال الكتب،كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد،ولا بطريق
جعل الاُمور التكوينية التي جبل الانسان على إدراكها،بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر من عناصر البشر على حسب استعداده.
الثاني: التزامه (قدس سره) بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني.
الثالث: أنّ وضعه (تبارك وتعالى) إنّما كان على طبق هذه المناسبة.
الرابع: أنّ الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي.
الخامس: أ نّه (قدس سره) بعد نفي الدلالة الذاتية استند في دعوى أنّ اللّٰه (تبارك وتعالى) هو الواضع الحكيم دون غيره إلى أمرين:
الأوّل: أ نّه لا يمكن أن يكون الواضع هو البشر،لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة فضلاً عن جميع اللغات،فإذا امتنع أن يكون البشر واضعاً تعيّن أنّ اللّٰه تعالى هو الواضع الحكيم.
الثاني: أ نّه على فرض تسليم أنّ البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها بمعنى أنّ شخصاً أو جماعة معيّنين من أهل كل لغة يتمكن من وضع ألفاظها لمعانيها،إلّاأ نّه لمّا كان من أكبر خدمات للبشر فلا بدّ من تصدي التواريخ لضبطه التي هي معدّة لضبط الأخبار السالفة والوقائع المهمّة،خصوصاً مثل هذا الأمر المهم،مع أ نّه لم يكن فيها عن حدوث الوضع في أيّ عصر وزمان وعمّن تصدى له عين ولا أثر،فإذا فرض أنّ البشر كان هو الواضع لنقل ذلك في التواريخ فانّها تتكفل بنقل ما هو دونه فكيف بمثله.
ولكنّ للتأمل في جميع هذه الاُمور مجالاً واسعاً:
أمّا الأوّل: فيظهر ضعفه ممّا نذكره من ضعف ما اعتمد عليه من الوجهين المذكورين.
وأمّا الثاني: فيرده أ نّه تخرّص على الغيب،لما قد سبق من أ نّه لا دليل على
وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني،بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.
وأمّا الثالث: فيرد عليه أ نّا لو سلّمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلّم أنّ الواضع جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً على طبق تلك المناسبة،وذلك لأنّ الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك،ومعه فأيّ شيء يستدعي رعاية تلك المناسبة في الوضع.اللّٰهمّ إلّاأن يتمسّك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح،ولكن قد عرفت بطلانها.
وأمّا الرابع: وهو أنّ الوضع وسط بين الاُمور التكوينية والجعلية،فهو ممّا لا يرجع إلى معنى محصّل،وذلك لعدم واسطة بينهما،ضرورة أنّ الشيء إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أيّ معتبر،فهو من الموجودات التكوينية،وإلّا فمن الاُمور الاعتبارية الجعلية،ولا نعقل ما يكون وسطاً بين الأمرين.وأمّا حديث الإلهام فهو حديث صحيح ولا اختصاص له بالوضع.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: «اهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ» 1أنّ اللّٰه (تبارك وتعالى) كما منّ على عباده بهدايتهم تشريعاً،وسوقهم إلى الحياة الأبدية بارسال الرسل وإنزال الكتب،كذلك منّ عليهم بهدايتهم تكويناً بالهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم،بل إنّ هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات،فهي تسير نحو كمالها بطبعها أو باختيارها،واللّٰه هو الذي أودع فيها قوّة الاستكمال فترى الفارة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة.
وعلى الجملة: أنّ مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلّية،فانّ الإلهام من الاُمور التكوينية الواقعية،ولا اختصاص له بباب الوضع،والمبحوث
عنه هو معنى الوضع،كان الوضع بإلهام إلهٰي أم لم يكن.
وأمّا الأمر الخامس: وهو استناده فيما ذكره من أنّ اللّٰه (تبارك وتعالى) هو الواضع الحكيم،فلو تمّ فانّما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعياً وفي زمان واحد،إلّاأنّ الأمر ليس كذلك،فان سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة الغرض وضيقها،ومن الواضح أنّ الغرض منه ليس إلّاأن يتفاهم بها وقت الحاجة وتبرز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلّا يختل نظام حياتنا المادية والمعنوية،ومن الظاهر أنّ كمّية الغرض الداعي إليه تختلف سعة وضيقاً بمرور الأيام والعصور،ففي العصر الأوّل-وهو عصر آدم (عليه السلام)-كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ قليلة بازاء معان كذلك،لقلّة الحوائج في ذلك العصر، وعدم اقتضائها أزيد من ذلك،ثمّ ازدادت الحوائج مرّة بعد اخرى وقرناً بعد آخر بل وقتاً بعد وقت،فزيد في الوضع كذلك.
وعليه فيتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغة على وضع ألفاظها بازاء معانيها في أيّ عصر وزمن،فانّ سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقاً،ولما كان مرور الزمن موجباً لاتساع حاجاتهم وازديادها،كان من الطبيعي أن يزداد الوضع ويتّسع.
أمّا الذين يقومون بعملية الوضع فهم أهل تلك اللغة في كل عصر،من دون فرق بين أن يكون الواضع واحداً منهم أو جماعةً،وذلك أمر ممكن لهم،فانّ المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعبير عنها ليست بالمقدار الذي يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم،فانّها محدودة بحد خاص.
وقد تلخّص من ذلك أمران:
الأوّل: أنّ أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظها للمعاني التي تدور عليها
الافادة والاستفادة في جميع العصور ليقال إنّ البشر لا يقدر على ذلك،بل يمكن الوضع بشكل تدريجي في كل عصر حسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها.
الثاني: أ نّنا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني،فانّ الوضع لما يزيد عن مقدار الحاجة لغو محض.
وأمّا الثاني:وهو أنّ الواضع لو كان بشراً لنقل ذلك في التواريخ،لأن مثل هذا العمل يعتبر من أعظم الخدمات للبشر ولذلك تتوفر الدواعي على نقله.
فيرد عليه:أنّ ذلك إنّما يتم لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معيّنين، وأمّا إذا التزمنا بما قدّمناه من أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معيّنين،بل كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي،فلا يبقى مجال للنقل في التواريخ.
نعم،لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معينين،لنقله أصحاب التواريخ لا محالة.
وممّا يؤكّد ما ذكرناه:ما نراه من طريقة الأطفال عندما يحتاجون إلى التعبير عن بعض المعاني فيما بينهم،فانّهم يضعون الألفاظ لهذه المعاني ويتعاهدون ذكرها عند إرادة إبراز ما يختلج في أذهانهم من الأغراض والمقاصد،ولا نجدهم يتخلّفون عن هذه الحال،حتى إنّهم لو عاشوا في مناطق خالية من السكان لتكلموا بلغة مجعولة لهم لا محالة،ولا نعني بالوضع إلّاهذا التعهد وهذا الالتزام، وإليه أشار تعالى بقوله: «خَلَقَ الْإِنْسٰانَ* عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ» 1وذلك وإن كان ينتهي إليه تعالى،لأنّه من لطفه وعنايته،إلّاأ نّه أمر آخر غير أ نّه هو الواضع الحكيم.
وهذا الذي ذكرناه من دفع الاشكالين المتقدمين لا يفرق فيه بين مسلكنا ومسلك القوم في تفسير العلقة الوضعية،فانّ تدريجية الوضع وعدم اختصاصه بشخص خاص لاتدع مجالاً للاشكال المزبور،غاية الأمر أ نّه بناءً على مسلكنا كان كل مستعمل واضعاً وإن كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع الأوّل،إلّاأ نّه من جهة الأسبقية،وهذا بخلاف غيره من المسالك كما لا يخفى.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ اللّٰه (تبارك وتعالى) ليس هو الواضع الحكيم.
الثاني: أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معينين على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع.
وأمّا الكلام في الجهة الثالثة: وهي تعيين حقيقة الوضع:فذهب بعض الأعاظم (قدس سره) 1إلى أ نّها من الاُمور الواقعية،لا بمعنى أ نّها من إحدى المقولات،ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر،لانحصارها في خمسة أقسام:العقل،النفس،الصورة،المادة،الجسم،وهي ليست من إحداها،وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضية أيضاً،لأنّها متقوّمة بالغير في الخارج، لاستحالة تحققها في العين بدون موضوع توجد فيه،فانّ وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها،وهذا بخلاف حقيقة العلقة الوضعية فانّها قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى ومتقوّمة بهما فلا يتوقّف ثبوتها وتحققها على وجودهما في الخارج،
وهذا واضح،ولذا يصح وضع اللفظ لمعنى معدوم بل مستحيل كما لو فرضنا وضع لفظ الدور أو التسلسل لخصوص حصّة مستحيلة منه لا للمعنى الجامع بينها وبين غيرها،فلو كانت حقيقتها من إحدى هذه المقولات لاستحال تحققها بدون وجود اللفظ والمعنى الموضوع له.
بل بمعنى أ نّها عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له،نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الاُمور التكوينية،مثل قولنا:إن كان هذا العدد زوجاً فهو منقسم إلى متساويين، وإن كان فرداً فهو غير منقسم كذلك.فالملازمة بين زوجية العدد وانقسامه إلى متساويين،وبين فرديته وعدم انقسامه كذلك،ثابتة في نفس الأمر والواقع أزلاً، غاية الأمر أنّ تلك الملازمة ذاتية أزلية وهذه الملازمة جعلية اعتبارية،لا بمعنى أنّ الجعل والاعتبار مقوّم لذاتها وحقيقتها،بل بمعنى أ نّه علّة وسبب لحدوثها وبعده تصير من الاُمور الواقعية،وكونها جعلية بهذا المعنى لا ينافي تحققها وتقررها في لوح الواقع ونفس الأمر،وكم له من نظير.
وقد حققنا في محلّه أنّ هذه الملازمات ليست من سنخ المقولات في شيء كالجواهر والأعراض،فانّها وإن كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أيّ معتبر وفرض أيّ فارض كقوله تعالى: «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» 1فانّ الملازمة بين تعدد الآلهة وفساد العالم ثابتة واقعاً وحقيقة،إلّاأ نّها غير داخلة تحت شيء منها،فإن سنخ ثبوتها في الخارج غير سنخ ثبوت المقولات فيه،كما هو واضح.
والجواب عن ذلك: أ نّه (قدس سره) إن أراد بوجود الملازمة بين طبيعي
اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقاً حتى للجاهل بالوضع،فبطلانه من الواضحات التي لا تخفى على أحد،فان هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوره علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه،ولازمه استحالة الجهل باللغات مع أنّ إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات.وإن أراد (قدس سره) به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره،فيرد عليه:أنّ الأمر وإن كان كذلك-يعني أنّ هذه الملازمة ثابتة له دون غيره-إلّاأ نّها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة،ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي تترتب عليها الملازمة بين تصور اللفظ والانتقال إلى معناه.
وذهب كثير من الأعلام والمحققين (قدس سرهم) إلى أنّ حقيقة الوضع حقيقة اعتبارية،ولكنهم اختلفوا في كيفيتها على أقوال:
القول الأوّل: ما قيل 1من أنّ حقيقة الوضع عبارة عن:اعتبار ملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له،وحقيقة هذه الملازمة متقوّمة باعتبار مَن بيده الاعتبار-أي الواضع-كسائر الاُمور الاعتبارية من الشرعية أو العرفية.ثمّ إنّ الموجب لهذا الاعتبار والداعي إليه إنّما هو قصد التفهيم في مقام الحاجة،لعدم إمكانه بدونه.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه،وذلك لأنّه لو اريد به اعتبارها خارجاً بمعنى أنّ الواضع جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في الخارج،فيردّه:أ نّه لا يفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن،ضرورة أنّ بدونه لا يحصل الانتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه،وعلى تقدير وجودها وثبوتها فالملازمة الخارجية غير محتاج إليها،فانّ الغرض وهو الانتقال يحصل بتحقق هذه
الملازمة الذهنية،سواء كانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن،فلا حاجة إلى اعتبار المعنى موجوداً في الخارج عند وجود اللفظ فيه،بل هو من اللغو الظاهر.
وإن اريد به اعتبار الملازمة ذهناً،يعني أنّ الواضع اعتبر الملازمة بين اللفظ والمعنى في الذهن،ففيه:أ نّه لا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً حتى للجاهل بالوضع أو يختص بالعالم به.
لا يمكن المصير إلى الأوّل،فانّه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم لأنّه لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به،ولا معنى لأن يعتبر الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ له،فانّه إن علم بالوضع فالانتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له وغير قابل للجعل والاعتبار،وإن لم يعلم فالاعتبار يصبح لغواً.
ولا إلى الثاني لأنّه تحصيل حاصل،بل من أردأ أنحائه،فانّه لو كان عالماً بالوضع كان اعتبار الملازمة في حقّه من قبيل إثبات ما هو ثابت بالوجدان بالاعتبار وبالتعبّد.
وعلى الجملة:فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلة للجعل والاعتبار وليست معنى الوضع في شيء،بل هي مترتبة عليه فلا بدّ حينئذ من تحقيق معناه وأ نّه ما هو الذي تترتب عليه تلك الملازمة ؟
القول الثاني: أنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى،فهو هو في عالم الاعتبار وإن لم يكن كذلك حقيقة 1.
بيان ذلك:أنّ الموجود على قسمين:
أحدهما:ما له وجود تكويني عيني في نظام التكوين والعين،كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض.
والثاني:ما له وجود اعتباري فهو موجود في عالم الاعتبار وإن لم يكن موجوداً في الخارج،وذلك كالاُمور الاعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام التكليفية والوضعية،وقد قيل إن حقيقة العلقة الوضعية من قبيل القسم الثاني بمعنى أنّ الواضع جعل وجود اللفظ وجوداً للمعنى في عالم الاعتبار واعتبره وجوداً تنزيلياً له في ذلك العالم دون عالم الخارج والعين كالتنزيلات الشرعية أو العرفية مثل قوله (عليه السلام):«الطواف في البيت صلاة» 1وقوله (عليه السلام):«الفقاع خمر استصغره الناس» 2ونحوهما.ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال،وإلى المعنى استقلالياً بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلّاالمعنى ولا ينظر إلّاإليه.
وإن شئت قلت:إنّ الوضع لأجل الاستعمال ومقدمة له،فهمّ المستعمل في هذه المرحلة إيجاد المعنى باللفظ وإلقاؤه إلى المخاطب،فلا نظر ولا التفات له إلّا إليه.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامّة الواضعين غاية البعد ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة،بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضاً،وكيف كان فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهل التناول والمأخذ،فلا تكون بهذه الدقّة التي تغفل عنها أذهان الخاصّة فضلاً عن العامّة.
وثانياً: أنّ الغرض الداعي إلى الوضع،هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له لكي يدل عليه ويفهم منه معناه،فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة،ومن الواضح أنّ الدلالة اللفظية إنّما تكون بين شيئين أحدهما دال والآخر مدلول،
فاعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى أيضاً لغو وعبث.
وأمّا ما ذكره أخيراً ففيه:أنّ لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال،لا يستلزم أن يكون ملحوظاً كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين.
وبكلمة واضحة:أنّ حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ومستعمله كمستعملها،فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالاً من حيث الكم والكيف والوضع وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آلياً،فكذلك وضع الألفاظ واستعمالاتها من هذه الناحية.وعلى الجملة:أنّ لحاظ اللفظ آلياً في مرحلة الاستعمال لا يلازم اعتبار وجوده وجوداً للمعنى حال الوضع بوجه.
القول الثالث: ما عن بعض مشايخنا المحققين (قدّس اللّٰه أسرارهم) قال:
وقد لا يكون المعنى المعتبر تسبيبياً كالاختصاص الوضعي،فانّه لا حاجة في وجوده إلّاإلى اعتبار من الواضع،ومن الواضح أنّ اعتبار كل معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب،كي يتسبب إلى اعتبار نفسه بقوله:وضعت ونحوه، فتخصيص الواضع ليس إلّااعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص.
ثمّ إنّه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ، فانّه أيضاً ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ،غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري،بمعنى أنّ كون العَلَم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر،بخلاف اللفظ فانّه كأ نّه وضع على المعنى ليكون علامة عليه،فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص.
ومنه ظهر أنّ الاختصاص والارتباط من لوازم الوضع لا عينه،وحيث عرفت اتحاد حيثية دلالة اللفظ مع حيثية دلالة سائر الدوال،تعرف أ نّه لا
حاجة إلى الالتزام بأنّ حقيقة الوضع تعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلّة العصر،فانّك قد عرفت أنّ كيفية الدلالة والانتقال في اللفظ وسائر الدوال على نهج واحد بلا إشكال،فهل ترى تعهداً من ناصب العَلَم على رأس الفرسخ.بل ليس هناك إلّاوضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه،فكذلك فيما نحن فيه،غاية الأمر أنّ الوضع هناك حقيقي وهنا اعتباري 1.
يتلخّص ما أفاده (قدس سره) في امور:
الأمر الأوّل: أنّ حقيقة الوضع ليست أمراً تسبيبياً،بل هو أمر مباشري قائم بالمعتبر بالمباشرة.
الأمر الثاني: أنّ الارتباط والاختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شيء، بل هما من لوازمها.
الأمر الثالث: أنّ حقيقته ليست التعهد والالتزام النفساني،ولكن من دون أن يشيده بالبرهان.
الأمر الرابع: أ نّها من سنخ وضع سائر الدوال،غاية الأمر أنّ الوضع فيها حقيقي خارجي وفي المقام جعلي واعتباري،فهذا الأمر في الحقيقة نتيجة الاُمور الثلاثة المتقدمة ووليدتها.
أقول: أمّا الأمر الأوّل والثاني فهما في غاية الصحّة والمتانة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع،من دون فرق بين مسلكنا ومسلك القوم.
وأمّا الأمر الثالث فيدفعه ما سنبيّنه إن شاء اللّٰه تعالى عن قريب من أنّ الصحيح عند التحقيق هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد والالتزام النفساني.
وأمّا الأمر الرابع وهو أنّ سنخ الوضع هنا سنخ الوضع الحقيقي الخارجي فيرد عليه:
أوّلاً: عين الايراد الذي أوردناه على القول الثاني،وهو أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحّته في نفسه،تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامّة الواضعين ولا سيما القاصرين منهم كالأطفال والمجانين،مع أ نّا نرى صدور الوضع منهم كثيراً،والحال أ نّهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق،وأ نّه من قبيل وضع العَلَم على رأس الفرسخ،غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي وفي المقام اعتباري.ومن الواضح أ نّه لا يكاد يمكن أن يكون الوضع أمراً يغفل عنه الخواص فضلاً عن العوام.
وثانياً: أنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي كوضع العَلَم على رأس الفرسخ،والوجه في ذلك:هو أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركان:
الركن الأوّل:الموضوع وهو العَلَم.
الركن الثاني:الموضوع عليه وهو ذات المكان.
الركن الثالث:الموضوع له وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.
وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فانّه يتقوّم بركنين:
الأوّل:الموضوع وهو اللفظ.
الثاني:الموضوع له وهو دلالته على معناه،ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه،وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أ نّه لم يعهد في الاطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة،مع أنّ لازم ما أفاده (قدس سره) هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه.
ويتلخص نتيجة ما ذكرناه إلى الآن في خطوط ثلاثة:
الخط الأوّل:بطلان الدلالة الذاتية وأ نّها وضعية محضة.
الخط الثاني:فساد كون حقيقة الوضع حقيقة واقعية.
الخط الثالث:بطلان تفسير الوضع بكل واحد من التفسيرات الثلاثة المتقدمة، فالنتيجة على ضوئها هي أنّ حقيقة الوضع ليست إلّاعبارة عن التعهّد والالتزام النفساني،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:يرشد إلى ذلك الغرض الباعث على الوضع،بل الرجوع إلى الوجدان والتأمل فيه أقوى شاهد عليه،وبيان ذلك:أنّ الانسان بما أ نّه مدني بالطبع يحتاج في تنظيم حياته المادية والمعنوية،إلى آلات يبرز بها مقاصده وأغراضه ويتفاهم بها وقت الحاجة،ولمّا لم يمكن أن تكون تلك الآلة الاشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات،فلا محالة تكون هي الألفاظ التي يستعملها في إبراز مراداته من المحسوسات والمعقولات،وهي وافية بهما،ومن هنا خصّ (تبارك وتعالى) الإنسان بنعمة البيان بقوله عزّ من قائل:
«خَلَقَ الْإِنْسٰانَ* عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ»
1
.
ومن هنا-أي من أنّ الغرض منه قصد التفهيم وإبراز المقاصد بها-ظهر أنّ حقيقة الوضع هي التعهد والتباني النفساني،فان قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهد.وإن شئت قلت:إنّ العلقة الوضعية حينئذ تختص بصورة إرادة تفهيم المعنى لا مطلقاً،وعليه يترتب اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية كما سيأتي بيانه مفصّلاً من هذه الجهة إن شاء اللّٰه تعالى.
وعلى ذلك فنقول:قد تبيّن أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد بابراز المعنى
الذي تعلّق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص،فكل واحد من أهل أيّ لغة متعهد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص،أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً.
مثلاً التزم كل واحد من أفراد الاُمّة العربية بأ نّه متى ما قصد تفهيم جسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ الماء،ومتى قصد تفهيم معنى آخر أن يجعل مبرزه لفظاً آخر،وهكذا.
فهذا التعهد والتباني النفساني بابراز معنى خاص بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيمه،ثابت في أذهان أهل كل لغة بالاضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوّة،ومتعلق هذا التعهد أمر اختياري وهو التكلم بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى خاص.
ثمّ إنّ ذلك ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضيّة الحقيقية.
نعم،في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فرداً منه في استعمال،وفرداً آخر منه في استعمال آخر،وهكذا.
وبهذا يندفع إشكال الدور الذي قد يتوهم هنا،بتقريب أنّ تعهد ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى،يتوقف على العلم بأ نّه وضع له،فلو فرض أنّ الوضع عبارة عن ذلك التعهد لدار.
وتوضيح الاندفاع: أنّ ما يتوقف على العلم بالوضع إنّما هو التعهد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال،دون التعهد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضيّة الحقيقية،وقد عرفت أنّ حقيقة الوضع عبارة عن ذلك التعهد،ومن الظاهر أ نّه لا يتوقف على شيء، فظهر أنّ منشأ التوهم خلط المتوهم بين التعهد في مرحلة الاستعمال والتعهد في مرحلة الوضع،والذي يتوقف على الثاني هو الأوّل دونه.
وبتعبير آخر: أنّ حال الألفاظ حال الاشارت الخارجية،فكما قد يقصد
بها إبراز المعنى الذي تعلّق القصد بتفهيمه مثل ما إذا قصد إخفاء أمر عن الحاضرين في المجلس،أو قصد تصديق شخص،أو غير ذلك فيجعل مبرزه الاشارة باليد أو بالعين أو بالرأس،فكذلك الألفاظ فانّه يبرز بها أيضاً المعاني التي يقصد تفهيمها،فلا فرق بينهما من هذه الناحية.نعم،فرق بينهما من ناحية اخرى وهي أنّ الاشارة على نسق واحد في جميع اللغات والألسنة دون الألفاظ.
وعلى ضوء هذا البيان تبين أنّ كل مستعمل واضع حقيقة،فانّ تعهد كل شخص فعل اختياري له،فيستحيل أن يتعهد شخص آخر تعهده في ذمته، لعدم كونه تحت اختياره وقدرته.نعم،يمكن أن يكون شخص واحد وكيلاً من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداءً لمعانيها فيضعها بازائها-يعني يجعلها مستعدة لابرازها عند قصد تفهيمها-ويتعهد بذلك،ثمّ إنّهم تبعاً له يتعهدون على طبق تعهداته.أو يضع لغاتهم بلا توكيل من قبلهم بل فضولياً ولكنّهم بعد ذلك يتبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه والتزاماته،ومع هذا فهم واضعون حقيقة.
ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللّاحقة،غاية الأمر أنّ الطبقات اللّاحقة تتبعها في ذلك،بمعنى أ نّهم يتعهدون على وفق تعهداتهم وتبانيهم،وقد تتعهد الطبقات اللّاحقة تعهدات اخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون إلى تفهيمها في أعصارهم،وقد سبق أنّ الوضع تدريجي الحصول فيزيد تبعاً لزيادة الحاجة في كل قرن وزمن.
ومن ذلك تبين ملاك أنّ كل مستعمل واضع حقيقة.وأمّا إطلاق الواضع على الجاعل الأوّل دون غيره فلأسبقيته في الوضع،لا لأجل أ نّه واضع في الحقيقة دون غيره.
ولكن ربّما يشكل بأنّ التعهد والالتزام حسب ما ارتكز في الأذهان،أمر
متأخر عن الوضع ومعلول له،فانّ العلم بالوضع يوجب تعهد العالم به بابراز المعنى عند قصد تفهيمه بمبرز مخصوص لا أ نّه عينه،ومن هنا لا يصح إطلاق الواضع على غير الجاعل الأوّل،فلو كان معنى الوضع ذلك التعهد والالتزام النفساني لصحّ إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية،مع أنّ الأمر ليس كذلك.
والجواب عنه أن يقال: إنّه لو اريد بتأخر التعهد عن الوضع تعهد المتصدي الأوّل للوضع فذاك غير صحيح،وذلك لأنّ تعهّده غير مسبوق بشيء ما عدا تصوّر اللفظ والمعنى،ومن الواضح أنّ ذلك التصور ليس هو الوضع بل هو من مقدماته،ولذا لا بدّ منه في مقام الوضع بأيّ معنى من المعاني فسّر،وعليه فنقول:إنّ المتصدي الأوّل له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص،يتعهد في نفسه بأ نّه متى قصد تفهيمه،أن يجعل مبرزه ذلك اللفظ ثمّ يبرز ذلك التعهد بقوله:وضعت،أو نحوه في الخارج.
وممّا يدلنا على ذلك بوضوح:وضع الأعلام الشخصية،فان كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أ نّه إذا أراد أن يضع اسماً لولده مثلاً يتصوّر أوّلاً ذات ولده،وثانياً لفظاً يناسبه،ثمّ يتعهد في نفسه بأ نّه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ،وليس هاهنا شيء آخر ما عدا ذلك.
وإن اريد به تعهد غيره من المستعملين،فالأمر وإن كان كذلك-يعني أنّ تعهدهم وإن كان مسبوقاً بتعهده-إلّاأ نّه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة، ضرورة أنّ تعهد كل أحد لمّا كان فعلاً اختيارياً له،يستحيل أن يصدر من غيره،غاية الأمر التعهد من الواضع الأوّل تعهد ابتدائي غير مسبوق بشيء، ومن غيره ثانوي،ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأوّل.
وعلى هذه الالتزامات والتعهدات قد استقرّت السيرة العقلائية في مقام
الاحتجاج واللجاج،فيحتجّ العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته التزامه، ويؤاخذونه عليها،وكذلك الموالي والعبيد،فلو أن أحداً خالف التزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه،يحتجّ المولى عليه بمخالفته التزامه ويعاقب عليها ولا عذر له في ذلك،ولو عمل على طبق ظهوره فله حجة يحتجّ بها على مولاه،وهكذا.وعلى الجملة:أنّ أنظمة الكون كلّها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري على وفق هذه الالتزامات،ولولاه لاختلّت.
فبالنتيجة:أنّ مذهبنا هذا ينحل إلى نقطتين:
النقطة الاُولى: أنّ كل متكلم واضع حقيقة،وتلك نتيجة ضرورية لمسلكنا:
أنّ حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفساني.
النقطة الثانية: أنّ العلقة الوضعية مختصّة بصورة خاصّة،وهي ما إذا قصد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ،وهي أيضاً نتيجة حتمية للقول بالتعهد،بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا،فانّ عليها تترتب نتائج ستأتي فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى.
وأمّا ما ربّما يتوهم هنا من أنّ العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الاطلاق فلا يتبادر شيء من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم،أو عن شخص بلا شعور واختيار،فضلاً عمّا إذا صدرت عن اصطكاك جسم بجسم آخر،مع أ نّه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور، فمدفوع: بأنّ تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير مستند إلى العلقة الوضعية،بل إنّما هو من جهة الاُنس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها،وذلك لأنّ الوضع حيث كان فعلاً اختيارياً فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أيّ أثر وغرض داع إليه،يصبح لغواً وعبثاً.
ثمّ إنّ الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه،موافق لمعناه اللغوي أيضاً،فانّه في اللغة بمعنى الجعل والاقرار،ومنه وضع اللفظ،ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعية والعرفية،فانّه بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الاُمّة.كما أ نّه بذلك المعنى أيضاً يصحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني،باعتبار أنّ التعهد والالتزام المزبور إن كان ابتدائياً فهو وضع تعييني،وإن كان ناشئاً عن كثرة الاستعمال فهو وضع تعيّني،وعليه فيصح تعريفه بتخصيص شيء بشيء وتعيينه بإزائه أيضاً.
هذا كلّه في بيان الأقوال في حقيقة الوضع وقد عرفت المختار من بينها.
وأمّا الجهة الرابعة: فملخص الكلام فيها:أنّ الوضع لما كان فعلاً اختيارياً للواضع بأيّ معنى من المعاني فسّر،توقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى،وعليه فالكلام يقع في مقامين:الأوّل:في ناحية المعنى.والثاني:في ناحية اللفظ.
،وهو أن يتصور الواضع المعنى الكلّي حين الوضع فيضع اللفظ بازائه،سواء كان تصوره بالكنه والحقيقة، كما إذا تصور الانسان مثلاً بحدّه التام،أم كان ذلك بالوجه والعنوان كما إذا تصوره بحدّه الناقص،أو بالعنوان المعرّف والمشير من دون دخل لذاك العنوان فيه،نظير بعض العناوين المأخوذ في موضوع القضيّة لأجل الاشارة إلى ما هو الموضوع فيها حقيقة،بدون دخل له فيه أصلاً.فالوضع العام والموضوع له العام من قبيل القضية الطبيعية كقولنا:الانسان نوع،فكما أنّ المحمول فيها
ثابت للطبيعي بما هو،فكذلك الوضع هنا أي لطبيعي المعنى الجامع.
،وهو أن يتصور الواضع حين إرادته الوضع معنى خاصاً وجزئياً حقيقياً فيضع اللفظ بإزاء ذلك الخاص كوضع الأعلام الشخصية،سواء كان تصوره بالكنه أم كان بالوجه والعنوان،لكفاية تصور الشيء بوجهٍ ما في وضع لفظ بازائه،ولا يلزم تصوره بكنهه وحقيقته،فقضيّة الوضع الخاص والموضوع له الخاص كالقضيّة الشخصية التي ثبت الحكم فيها لأشخاص معيّنين.
،وهو أن يلاحظ الواضع حين الوضع معنى عاماً يكون وجهاً وعنواناً لأفراده ومصاديقه،بحيث يكون تصوره تصوراً لها بوجه فيضع اللفظ بازاء الأفراد والمصاديق.فهذا هو الوضع العام والموضوع له الخاص،وحاله كحال القضيّة الحقيقية.
وقد يتوهّم أنّ ذلك غير معقول،بتقريب أنّ أيّ مفهوم جزئياً كان أو كلياً لا يحكي إلّاعن نفسه،فيستحيل أن يحكي مفهوم عن مفهوم آخر،فكما لا يعقل أن يحكي المفهوم الخاص بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر، فكذلك لا يعقل أن يحكي المفهوم العام بما هو،عن مفهوم خاص أو عام آخر، بداهة أنّ لحاظ كل مفهوم وتصوره عين إراءة شخصه لا إراءة شيء آخر به، فكيف يكون معرّفة لغيره بوجه،وعليه فلا يمكن الوضع العام والموضوع له الخاص.
والجواب عنه: أنّ المفهوم في الجملة بما هو،سواء كان عاماً أو خاصاً، وإن كان لا يحكي في مقام اللحاظ إلّاعن نفسه،إلّاأنّ تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور أفراده ومصاديقه بوجه.
وتفصيل ذلك:هو أنّ المفاهيم الكلية المتأصلة كمفاهيم الجواهر والأعراض
كالحيوان والإنسان والبياض والسواد ونحو ذلك،لا تحكي في مقام اللحاظ والتصور إلّاعن أنفسها،وهي الجهة الجامعة بين الأفراد والمصاديق،وكذلك بعض المفاهيم الانتزاعية كالوجوب والامكان والامتناع والأبيض والأسود وما شاكلها،فان عدم حكايتها عن غيرها من الواضحات.
وأمّا العناوين الكلية التي تنتزع من الأفراد والخصوصيات الخارجية كمفهوم الشخص والفرد والمصداق،فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الأفراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال،فانّها وجه لها وتصوّرها في نفسها تصوّر لها بوجه وعنوان.
وبتعبير آخر:أنّ مرآتيتها للأفراد والأشخاص ذاتية لها،فتصوّرها لا محالة تصوّر لها إجمالاً بلا إعمال عناية في البين،فإذا تصوّرنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الانسان مثلاً فقد تصوّرنا جميع أفراده بوجه،ومن ثمّ جاز الحكم عليها في القضية الحقيقة،فلو لم يحك المفهوم عن أفراده لاستحال الحكم عليها مطلقاً، مع أنّ الاستحالة واضحة البطلان.
،وهو أن يتصور الواضع حين إرادة الوضع معنى خاصاً-أي ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين-فيضع اللفظ بازاء معنى كلّي.
ولكن على ضوء ما ذكرناه في الجهة الثالثة،قد تبيّن عدم إمكان ذلك،فان مفهوم الخاص مهما كان،لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو عن خاص آخر،ضرورة أنّ تصور مفهوم الخاص بما هو،تصور نفسه وإراءة شخصه، فيستحيل أن يكون تصوراً لغيره بوجه،بل لحاظ كل مفهوم لحاظ نفسه،وهو هو لا هو وغيره.
وعلى الجملة: أنّ الخاص بما هو لا يكون وجهاً وعنواناً للعام ليكون
تصوره تصوراً له بوجه،وهذا بخلاف مفهوم العام كمفهوم الشخص والفرد والمصداق فانّه وجه وعنوان للأفراد والمصاديق ولحاظه لحاظ لها بوجه،ومن هنا قلنا بامكان الوضع العام والموضوع له الخاص،وأمّا الخاص فلمّا لم يكن كذلك فلا يمكن الوضع الخاص والموضوع له العام.
وقد يتوهّم إمكان ذلك،أي الوضع الخاص والموضوع له العام،فيما إذا رأى شبحاً من بعيد وتيقن أ نّه حيوان ولكن لم يعلم أ نّه من أيّ نوع من أنواعه أو أيّ صنف من أصنافه،فان له حينئذ أن يتصور ذلك الشبح الذي هو جزئي حقيقي ويضع اللفظ بازاء معنى كلّي منطبق عليه وعلى غيره من الأفراد،فهذا من الوضع الخاص والموضوع له العام.
إلّاأ نّه توهم فاسد،وذلك لأنّه قد يتصور ذلك الشبح بعنوان أ نّه جزئي ومعنى خاص فيضع اللفظ بازاء واقعه-الشبح-،وقد يتصور ذلك بعنوان الكلّي المنطبق عليه وعلى غيره فيضع اللفظ بازاء معنونه ولا ثالث له،فهو على الأوّل من الوضع الخاص والموضوع له الخاص،وعلى الثاني من الوضع العام والموضوع له العام أو الخاص كما لا يخفى.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه لحدّ الآن هي:أنّ الممكن من أقسام الوضع ثلاثة وهي:الوضع العام والموضوع له العام،الوضع الخاص والموضوع له الخاص، الوضع العام والموضوع له الخاص.وأمّا القسم الرابع منها وهو الوضع الخاص والموضوع له العام فقد عرفت أ نّه غير ممكن.
ثمّ إنّ المعنى الموضوع له سواء كان عاماً أو خاصاً إنّما يكون من المفاهيم القابلة في نفسها للحضور في ذهن السامع في مرحلة التخاطب،فالألفاظ كما لم توضع للموجودات الخارجية لأنّها غير قابلة للحضور في الأذهان،كذلك لم توضع للموجودات الذهنية،فانّ الموجود الذهني غير قابل لوجود ذهني
آخر،بل هي موضوعة لذوات المعاني غير الآبية عن قبول نحوين من الوجود في نفسها،وتلك المعاني تتصف بالسعة وبالضيق لا بنفسها بل باعتبار الانطباق والصدق الخارجي.وبهذا اللحاظ كان تقسيم الموضوع له إلى العام تارة وإلى الخاص تارة اخرى،أي بلحاظ الانطباق على ما في الخارج لا في نفسه.هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
فالواضع حين إرادة الوضع إمّا أن يلاحظ اللفظ بمادته وهيئته كما في أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص، وإمّا أن يلاحظ المادة فقط كما في مواد المشتقات،وإمّا أن يلاحظ الهيئة كذلك كما في هيئات المشتقات وهيئات الجمل الناقصة والتامّة،فالوضع في الأوّل والثاني شخصي،وفي الثالث نوعي.
ثمّ إنّ ملاك شخصية الوضع هو لحاظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتية التي امتاز بها في ذاته عما عداه،وملاك نوعية الوضع هو لحاظ الواضع اللفظ بجامع عنواني كهيئة الفاعل مثلاً،لا بشخصه وبوحدته الذاتية.وبهذا ظهر ملاك الشخصية والنوعية في الطوائف الثلاث:
أمّا الطائفة الاُولى،فلأنّ الواضع لم يلحظ فيها في مقام الوضع إلّاشخص اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الممتازة،فالموضوع هو ذلك اللفظ الملحوظ كذلك،سواء كان الموضوع له معنى عاماً أو خاصاً،وكذا الحال في الطائفة الثانية.
وأمّا الطائفة الثالثة،فلمّا كانت الهيئة مندمجة في المادة غاية الاندماج،فلا يعقل لحاظها بنفسها مع قطع النظر عن المادة،إذ لا وجود لها بدونها في الوجود الذهني فضلاً عن الوجود العيني،فتجريدها عن المواد لا يمكن حتى في مقام اللحاظ،فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولك:كل ما كان
على هيئة الفاعل،لا بشخصيتها الذاتية،وهذا معنى نوعية الوضع.
وأمّا الكلام في الجهة الرابعة من حيث مرحلة الاثبات والوقوع،فيقع في الأقسام الثلاثة من الوضع،وهي الأقسام الممكنة:من الوضع العام والموضوع له العام،والوضع الخاص والموضوع له الخاص،والوضع العام والموضوع له الخاص.وأمّا القسم الرابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام،فحيث إنّه غير ممكن،فلا تصل النوبة إلى البحث عنه في مرحلة الإثبات،لأنه متفرع على إمكانه.
وعلى ذلك فنقول:لا شبهة في وقوع الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس،كما أ نّه لا شبهة في وقوع الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام الشخصية،وإنّما الكلام والإشكال في وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص،فذهب جماعة إلى أنّ وضع الحروف وما يشبهها منه،أي من الوضع العام والموضوع له الخاص 1ولكن أنكره جماعة آخرون منهم المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2.
وتحقيق الكلام في المقام يتوقف أوّلاً على تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية،ثمّ التكلم في أنّ الموضوع له فيها كوضعها عام أو أ نّه خاص،فيقع الكلام في مقامين:
المقام الثاني:في تحقيق أنّ معناها الموضوع له عام أو خاص.
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فقد اختلفوا فيها على أقوال:
القول الأوّل: ما نسب إلى المحقق الرضي (قدس سره) 1وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ والاعتبار،فكلمة (ابتداء) وكلمة (من) مشتركتان في طبيعة معنى واحد،ولا امتياز لاحداهما على الاُخرى إلّافي أنّ اللحاظ في مرحلة الاستعمال في الأسماء استقلالي،وفي الحروف آلي.
وقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ الاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى،فالمعنى في نفسه لا يتصف بأ نّه مستقل ولا بأ نّه غير مستقل، بل هما من توابع الاستعمال وشؤونه.
واستدلّ على عدم إمكان أخذ اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي لا في المعنى الموضوع له ولا في المستعمل فيه بوجوه:
الوجه الأوّل: ما توضيحه:أنّ لحاظ المعنى في مقام الاستعمال ممّا لا بدّ منه،وعليه فلا يخلو الحال من أن يكون هذا اللحاظ عين اللحاظ المأخوذ في المعنى الموضوع له،أو يكون غيره،فعلى الأوّل يلزم تقدّم الشيء على نفسه والثاني خلاف الوجدان والضرورة،إذ ليس في مقام الاستعمال إلّالحاظ واحد.
على أنّ الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لتعلق لحاظ آخر به،فانّ القابل لطروء الوجود الذهني إنّما هو نفس المعنى وذاته،والموجود لا يقبل وجوداً آخر.
الوجه الثاني: أنّ أخذ اللحاظ الآلي فيما وضعت له الحروف يلزمه أخذ اللحاظ الاستقلالي فيما وضعت له الأسماء،فكيف يمكن التفرقة بينهما بأنّ الموضوع له في الحروف جزئي وفي الأسماء كلّي.
الوجه الثالث: أ نّه يلزمه عدم صحّة الحمل وعدم إمكان الامتثال بدون تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني،لعدم انطباق ما في الذهن على ما في العين.
فتحصّل:أنّ المعنى الحرفي وإن كان لابدّ من لحاظه آلياً،كما أنّ المعنى الاسمي لا بدّ من لحاظه استقلالاً،إلّاأنّ ذلك لم ينشأ من أخذهما في الموضوع له،بل منشأ ذلك هو اشتراط الواضع ذلك في مرحلة الاستعمال،لا بمعنى أ نّه اشترط ذلك على حذو الشرائط في العقود والايقاعات فانّه لا يرجع في المقام إلى معنى محصل.
أمّا أوّلاً:فلعدم الدليل عليه،وعلى فرض تسليمه فلا دليل على وجوب اتباعه ما لم يرجع إلى قيد الموضوع أو الموضوع له.
وأمّا ثانياً:فلأ نّه لو ثبت هذا الاشتراط ولزوم اتباعه لم يستلزم ذلك استهجان استعمال الحرف موضع الاسم وبالعكس،بل غاية الأمر أنّ مخالفة الشرط توجب استحقاق المؤاخذة،وإلّا فالعلقة الوضعية على هذا غير مختصة بحالة دون اخرى،بل المراد بالاشتراط أنّ العلقة الوضعية في الحروف والأدوات مختصّة بحالة مخصوصة،وهي ما إذا لاحظ المتكلم المعنى الموضوع له في مرحلة الاستعمال آلياً،وفي الأسماء بحالة اخرى،وهي ما إذا لاحظ المعنى في تلك المرحلة استقلالاً.
وتوضيح ذلك: هو أنّ الوضع لما كان فعلاً اختيارياً للواضع فله تخصيصه بأيّ خصوصية شاء،فيخصص العلقة الوضعية في الحروف بحالة وفي الأسماء
بحالة اخرى،بل له ذلك في شيء واحد بجعله علامة لارادة أمرين أو امور من جهة اختلاف حالاته وطوارئه،كما إذا فرض أنّ السيِّد قد تبانى مع عبده أ نّه إذا وضع العمامة عن رأسه في وقت كذا فهو علامة لارادته أمر كذا،وإذا وضعها عنه في الوقت الفلاني فهو علامة لارادته الأمر الفلاني.ومن ثمة كانت الآلية والاستقلالية خارجتين عن حريم المعنى وليستا من مقوّماته وقيوده،بل من قيود العلقة الوضعية ومقوّماتها،فلذا كان استعمال كل واحد من الحرف والاسم في موضع الآخر بلا علقة وضعية،وإن كان طبيعي المعنى واحداً فيهما كما عرفت،ولأجله لا يصحّ ذلك الاستعمال.
وبتعبير واضح:أنّ القيد تارة من الجهات الراجعة إلى اللفظ،واُخرى من الجهات الراجعة إلى المعنى،وثالثة من الجهات الراجعة إلى الوضع نفسه.
أمّا على الأوّل: فيختلف اللفظ باختلافه،كالحركات والسكنات والتقدم والتأخّر بحسب الحروف الأصلية الممتازة بالذات عمّا عداها أو بالترتيب، – مثلاً-كلمة (بر) تختلف باختلاف الحركات والسكنات:(بِر) بالكسر و (بُر) بالضم و (بَر) بالفتح،فللكلمة الاُولى معنى وللثانية معنى آخر وللثالثة معنى ثالث،مع أ نّه لا تفاوت فيها بحسب حروفها الأصلية أصلاً.وكلمة (علم) يختلف معناها بتقدم بعض حروفها الأصلية على بعضها الآخر وتأخره عنه كعمل أو لمع،وهكذا في بقية الموارد.
وأمّا على الثاني: فيختلف المعنى باختلافه فانّ هيئة القاعد مثلاً هيئة واحدة،ولكنّها مع ذلك تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات الطارئة عليها، فإذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ قاعد،وإذا كانت مسبوقة بالاضطجاع يطلق عليها لفظ جالس،وهكذا في غير ذلك من الموارد.
وأمّا على الثالث: فتختلف العلقة الوضعية باختلافه كلحاظ الآلية
والاستقلالية،فانّها إذا قيّدت بالآلية تختلف عمّا إذا قيّدت بالاستقلالية،وحينئذ فلمّا كانت العلقة مختصّة في الحروف بما إذا قصد المعنى آلة وفي الأسماء بما إذا قصد المعنى استقلالاً،فمن الواضح أ نّها تكون في الحروف والأدوات غير ما هي في الأسماء،فتختص في كل واحدة منها بحالة تضاد الحالة الاُخرى.ومن هنا قال (قدس سره) في مبحث المشتق:إنّ استعمال لفظ (الابتداء) في موضع كلمة (من) ليس استعمالاً في غير الموضوع له،بل هو استعمال فيه ولكنّه من دون علقة وضعية 1.
فبالنتيجة: أنّ ذلك القول ينحل إلى نقطتين:
النقطة الاُولى:هي نقطة الاشتراك،وهي أنّ الحروف والأسماء مشتركتان في طبيعي معنى واحد،فالاستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى،فالمعنى في نفسه لا مستقل ولا غير مستقل.
النقطة الثانية:هي نقطة الامتياز،وهي أنّ ملاك الحرفية ملاحظة المعنى آلة، وملاك الاسمية ملاحظة المعنى استقلالاً فبذلك يمتاز أحدهما عن الآخر.
هذا،ولكن يرد على النقطة الاُولى: أنّ لازمها صحّة استعمال كل من الاسم والحرف في موضع الآخر مع أ نّه من أفحش الأغلاط،والوجه في ذلك:
هو أنّ استعمال اللفظ في معنى غير المعنى الموضوع له إذا جاز من جهة العلقة الخارجية والمناسبة الأجنبية مع فرض انتفاء العلقة الوضعية بينه وبين ذلك المعنى،كان مقتضاه الحكم بالصحّة بطريق أولى إذا كانت العلقة ذاتية وداخلية، ضرورة أ نّه كيف يمكن الحكم بصحّة الاستعمال إذا كانت المناسبة خارجية والعناية أجنبية،وبعدم صحّته إذا كانت داخلية وذاتية.
وإن شئت فقل: إنّ القدر الجامع بين هذا الاستعمال-أي استعمال الحرف في موضع الاسم وبالعكس-وبين استعمال اللفظ في المعنى المجازي،هو انتفاء العلقة الوضعية في كليهما معاً،ولكن لذاك الاستعمال مزيّة بها يمتاز ويتفوّق على ذلك الاستعمال،وهي أنّ الاستعمال هنا استعمال في المعنى الموضوع له،لفرض اشتراكهما في طبيعي معنى واحد ذاتاً،وهذا بخلاف ذلك الاستعمال فانّه استعمال في غير المعنى الموضوع له بعناية من العنايات الخارجية،فإذا صحّ ذلك فكيف لا يصحّ هذا،مع أ نّه من الغلط الواضح،بل لو تكلم به شخص لرمي بالسفه والجنون.
وعلى ضوء بياننا هذا يتّضح لك جلياً أنّ المعنى الحرفي والاسمي ليسا بمتحدين ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد،بل هما متباينان بالذات والحقيقة،فانّ هذا هو الموافق للوجدان الصحيح،ولأجله لا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر.
ويرد على النقطة الثانية: أنّ لازمها صيرورة جملة من الأسماء حروفاً، لمكان ملاك الحرفية فيها وهو لحاظها آلة ومرآة،كالتبين المأخوذ غاية لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى: «وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ …» الآية 1فانّه قد اخذ مرآة وطريقاً إلى طلوع الفجر،من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها،فبذلك يعلم أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آلياً.
وبتعبير آخر:إذا كان الملاك في كون المعنى حرفياً تارة واسمياً اخرى هو اللحاظ الآلي والاستقلالي وكان المعنى بحد ذاته لا مستقلاً ولا غير مستقل،
فكل ما كان النظر إليه آلياً فهو معنى حرفي فيلزم محذور صيرورة جملة من الأسماء حروفاً، هذا أوّلاً.
و ثانياً: أنّ ما هو المشهور من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلة لا أصل له، وذلك لأنّه لا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي في ذلك،إذ كما أنّ اللحاظ الاستقلالي والقصد الأوّلي يتعلقان بالمعنى الاسمي في مرحلة الاستعمال كذلك قد يتعلقان بالمعنى الحرفي فانّه هو المقصود بالافادة في كثير من الموارد،وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنّه كان جاهلاً بخصوصيتهما فسأل عنها فاُجيب على طبق سؤاله،فهو والمجيب إنّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية.
مثلاً إذا كان مجيء زيد معلوماً ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة عند أحد فلم يعلم أ نّه جاء مع غيره أو جاء وحده فسأل عنها،فقيل إنّه جاء مع عمرو، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الافادة والاستفادة في مثل ذلك إنّما هو هذه الخصوصية التي هي من المعاني الحرفية،دون المفهوم الاسمي فانّه معلوم،بل إنّ الغالب في موارد الافادة والاستفادة عند العرف النظر الاستقلالي والقصد الأوّلي بافادة الخصوصيات والكيفيات المتعلقات بالمفاهيم الاسمية.
القول الثاني: أنّ الحروف لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لتكون علامة على كيفية إرادة مدخولاتها،نظير حركات الاعراب التي لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لتكون قرينة على إرادة خصوصية من خصوصيات مدخولها من الفاعلية والمفعولية ونحوهما.فكما أنّ كل واحد من حركات الاعراب يفيد خصوصية متعلقة بمدخوله،فانّ الفتحة تفيد خصوصية في مدخولها،والكسرة تفيد خصوصية اخرى فيه،والضمّة تفيد خصوصية ثالثة فيه،فكذلك كل واحد من الحروف، فانّ كلمة في تفيد إرادة خصوصية في مدخولها غير ما تفيده كلمة على من
الخصوصية وهكذا،من دون أن تكون لها معانٍ مخصوصة قد وضعت بازائها 1.
ولكن هذا القول لا يمكن المساعدة عليه،وذلك لأنّ الخصوصيات التي دلّت عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بازائها، إذ المفروض أنّ تلك المعاني ليست ممّا تدلّ عليه الأسماء،لعدم كونها مأخوذة في مفاهيمها،فانحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف،ومن الواضح أنّ دلالتها عليها ليست إلّامن جهة وضعها بازائها،وعليه فلا معنى للقول بأ نّها لم توضع لمعنى وإنّما وضعت لكذا،بل هذا يشبه الجمع بين المتناقضين.وعلى كل حال فبطلان هذا القول من الواضحات الأوّلية.ومنه ظهر حال المقيس عليه وهو حركات الاعراب بلا زيادة ونقيصة.
القول الثالث: ما اختاره جماعة من المحققين (قدس سرهم) وهو أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الاسمية متباينتان بالذات والحقيقة،ولكنّهم اختلفوا في كيفية هذا التباين وما به الامتياز.
فقد ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إلى التباين بينهما بالايجادية والاخطارية بمعنى أنّ المفاهيم الاسمية بأجمعها مفاهيم إخطارية ومتقررة في عالم المفهومية ومستقلة بحد ذاتها وهويتها في ذلك العالم،والمعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية بأجمعها معان إيجادية في الكلام ولا تقرر لها في عالم المفهومية ولا استقلال بذاتها وحقيقتها.
وبيان ذلك:أنّ الموجودات في عالم الذهن كالموجودات في عالم العين،فكما أنّ الموجودات في عالم العين على نوعين:
أحدهما: ما يكون له وجود مستقل بحد ذاته في ذلك العالم،كالجواهر
بأنواعها من النفس والعقل والصورة والمادة والجسم،ولذا قالوا:إنّ وجودها في نفسه لنفسه يعني لا يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج.
وثانيهما: ما يكون له وجود غير مستقل كذلك في هذا العالم،بل هو متقوّم بالموضوع،كالمقولات التسع العرضية،فان وجوداتها متقوّمة بموضوعاتها،فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع يتقوّم به،ولذا قالوا:إنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه،فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين:
أحدهما: ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهومية والذهن،كمفاهيم الأسماء بجواهرها وأعراضها واعتبارياتها وانتزاعياتها،فان مثل مفهوم الانسان والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم المستقلة ذاتاً،فانّها تحضر في الذهن بلا حاجة إلى أيّة معونة خارجية،سواء كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن، بل لو فرضنا فرضاً أ نّه لم يكن في العالم مفهوم ما عدا مفهوم واحد مثلاً،لما كان هناك ما يمنع من خطوره في الذهن،فظهر أنّ حال المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم والذهن حال الجواهر في عالم العين والخارج.
وثانيهما: ما لا استقلال له في ذلك العالم،بل هو متقوّم بالغير كمعاني الحروف والأدوات،فانّها بحد ذاتها وأنفسها متقوّمة بالغير ومتدلية بها،بحيث لا استقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه لنقصان في ذاتها،فعدم الاستقلالية من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط، فلذا لا تخطر في الذهن عند التكلم بها وحدها-أي من دون التكلم بمتعلقاتها – فلو اطلق كلمة (في) وحدها-أي من دون ذكر متعلقها-فلا يخطر منها شيء في الذهن.
فتبيّن: أنّ حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية في عالم المفهوم،حال المقولات التسع العرضية في عالم العين.
إذا عرفت ذلك فنقول:قد اتّضح من ضوء هذا البيان أنّ المفاهيم الاسمية حيث إنّها كانت إخطارية ومتقررة ومستقلة في عالم المفهوم والمعنى،فيستحيل أن تكون الأسماء موجدة إيّاها في الكلام،ضرورة عدم إمكان كونها إيجادية بهذا المعنى،لما عرفت من أنّ معانيها تخطر في الذهن عند التكلم بها،سواء كانت مفردة أم كانت في ضمن تركيب كلامي،ولكن لمّا لم تكن بينها رابطة ذاتية توجب ربط بعضها ببعض،دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط بعضها ببعضها الآخر،وليست تلك الروابط إلّاالحروف وتوابعها، فانّ شأنها إيجاد الربط بين مفهومين مستقلين،ولذا قلنا إنّ معانيها إيجادية محضة،نسبية كانت كحرف من وعلى وإلى ونحوها،أو غير نسبية كحرف النداء والتشبيه والتمني والترجي،فانّها في كلا القسمين موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية.مثلاً كلمة (في) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين الظرف والمظروف.وكلمة (على) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين المستعلي والمستعلى عليه.وكلمة (من) لإيجاده بين المبتدأ به والمبتدأ منه.
وبعبارة جامعة: أنّ كل واحد منها موضوع لايجاد معنى ربطي خاص في تركيب مخصوص،ولا واقع له سواه،فلولا وضع الحروف لم توجد رابطة بين أجزاء الكلام أبداً،بداهة أ نّه لا رابطة بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في أنفسهما، لأ نّهما مفهومان متباينان بالذات،فلا بدّ من رابط يربط أحدهما بالآخر،وليس ذلك إلّاكلمة (في) مثلاً التي هي الرابطة بينهما،كما أنّ كلمة (من) رابطة بين المبتدأ به والمبتدأ منه،وكلمة (على) رابطة بين المستعلي والمستعلى عليه،وهكذا.
وعلى الجملة:أنّ المعاني الحرفية بأجمعها معان إيجادية،وليس لها واقع في أيّ وعاء من الذهن والخارج وعالم الاعتبار ما عدا التراكيب الكلامية،ونظيرها
صيغ العقود والايقاعات بناءً على ما ذهب إليه المشهور فيها من أ نّها آلات وأسباب لايجاد مسبباتها،كالملكية والزوجية والرقية ونحوها،ولكن الفرق بينها وبين المقام من ناحية اخرى وهي أ نّها بتوسط الاستعمال توجد مسبباتها في عالم الاعتبار فوعاؤها هو عالم الاعتبار،وأمّا الحروف فهي موجدة لمعانيها غير الاستقلالية في وعاء الاستعمال.على أنّ معاني صيغ العقود والايقاعات مستقلة في موطنها دون معاني الحروف،فالفرق إذن من جهتين:
الاُولى:أنّ المعاني الانشائية مستقلة في أنفسها دون المعاني الحرفية.
الثانية:أنّ معانيها موجودة في عالم الاعتبار،فوعاؤها ذلك العالم دون المعاني الحرفية،فان وعاءها عالم الاستعمال.وإلى ما ذكرناه من أنّ المعنى الحرفي إيجادي،أشارت الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) وهي:
«أنّ الحرف ما أوجد معنى في غيره» 1وقال (قدس سره):إنّ هذا التعريف أجود تعريفات الباب من حيث اشتماله على أركان المعاني الحرفية كلّها.
وقد اتّضح ممّا قدّمناه:أنّ المعاني إمّا إخطارية مستقلة بحد ذاتها في عالم مفهوميتها،وإمّا إيجادية غير مستقلّة كذلك في ذلك العالم فلا ثالث لهما، فالاخطارية تلازم الاستقلالية بالذات،والايجادية تلازم عدمها كذلك،وعليه فحكمة الوضع دعت إلى وضع الأسماء للطائفة الاُولى من المعاني،ووضع الحروف والأدوات للطائفة الثانية منها،لتكون رابطة بين الطائفة الاُولى بعضها ببعض،وبذلك يحصل الغرض من الوضع.
ومن هنا أجاد أهل العربية عندما عبّروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفية بأن كلمة (في) للظرفية،ولم يقولوا بأنّ (في) هي الظرفية،كما هو ديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الاسمية،وإن تسامحوا من جهة عدم التصريح بالنسبة،
بأن يقولوا كلمة (في) للنسبة.
ثمّ قال (قدس سره):يشبه المعاني الحرفية جميع ما يكون النظر فيه آلياً، كتعظيم شخص لأجل تعظيم آخر،أو إهانة شخص لأجل إهانة آخر،وهكذا 1.
ويتلخّص ما أفاده (قدس سره) في امور:
الأوّل: أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة،ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد.
الثاني: أنّ المفاهيم الاسمية مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها،والمفاهيم الحرفية مفاهيم غير استقلالية كذلك،بل هي متقوّمة بغيرها ذاتاً وهوية.
الثالث: أنّ معاني الأسماء جميعاً معان إخطارية ومعاني الحروف معان إيجادية،ولا يعقل أن تكون إخطارية كمعاني الأسماء وإلّا لكانت مثلها في الافتقار إلى وجود رابط يربطها بغيرها،فيلزم أن يكون في مثل قولنا:زيد في الدار،مفاهيم ثلاثة إخطارية:كمفهوم زيد ومفهوم الدار ومفهوم الظرفية،دون أن تكون هناك رابطة بين هذه المفاهيم التي لا يرتبط بعضها ببعض،فإذن لا يتحقق التركيب ولا يصحّ الاستعمال،لتوقفهما على وجود الرابط بين المفاهيم الاستقلالية،ومن الواضح أ نّه ليس إلّاالحروف أو ما يشبهها.
الرابع: أنّ حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية حال الألفاظ في مرحلة الاستعمال،فكما أنّ الألفاظ في حال الاستعمال ملحوظة آلةً والمعاني ملحوظة استقلالاً،فكذلك المعاني الحرفية فانّها في مقام الاستعمال ملحوظة آلة والمعاني الاسمية ملحوظة استقلالاً.
الخامس: أنّ جميع ما يكون النظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية كالعناوين
الكلية المأخوذة معرّفات وآليات لموضوعات الأحكام أو متعلقاتها.
أقول: أمّا ما أفاده (قدس سره) أوّلاً وثانياً،من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة،ومن أنّ المعاني الاسمية مستقلة بحد ذاتها في عالم المفهومية والمعاني الحرفية ليست كذلك،ففي غاية الصحّة والمتانة،بل ولا مناص من الالتزام بذلك كما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء اللّٰه تعالى.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) ثالثاً،من أنّ معاني الأسماء إخطارية ومعاني الحروف إيجادية،ففيه:أنّ المعاني الاسمية وإن كانت إخطارية تخطر في الأذهان عند التكلم بألفاظها-سواء كانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن-إلّاأنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية ليست بإيجادية،وذلك لأنّ المعاني الحرفية وإن كانت غير مستقلّة في أنفسها ومتعلقة بالمفاهيم الاسمية بحد ذاتها وعالم مفهوميتها بحيث لم تكن لها أيّ استقلال في أيّ وعاء فرض وجودها من ذهن أو خارج،إلّاأنّ هذا كلّه لايلازم كونها إيجادية بالمعنى الذي ذكره (قدس سره) لأنّ ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض،إنّما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بازائها،لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي.
مثلاً كلمة (في) في قولهم:زيد في الدار،باعتبار دلالتها على معناها الموضوع له، رابطة بين جزئي هذا الكلام غير المربوط أحدهما بالآخر ذاتاً،لا أ نّها توجد الربط في نفس ذلك التركيب،ولا واقع له في غير التركيب الكلامي،فكما أنّ الأسماء تحكي عن مفاهيمها الاستقلالية في حد أنفسها في عالم مفهوميتها، كذلك الحروف تحكي عن المفاهيم غير المستقلة كذلك.
فالكاشف في مقام الاثبات عن تعلّق قصد المتكلم في مقام الثبوت بافادة المعاني الاستقلالية هو الأسماء،والكاشف عن تعلّق قصده كذلك بافادة المعاني
غير الاستقلالية هو الحروف وما يحذو حذوها.
ونتيجة ذلك: عدم الفرق بين الاسم والحرف إلّافي نقطة واحدة،وهي أنّ المعنى الاسمي مستقل بحد ذاته في عالم المعنى وبذلك يكون إخطارياً،والمعنى الحرفي غير مستقل كذلك فلا يخطر في الذهن إلّابتبع معنى استقلالي،وهذا لا يستلزم كونه إيجادياً.
ومن هنا يظهر فساد ما أفاده (قدس سره) من أنّ المعنى إمّا إخطاري مستقل وإمّا إيجادي غير مستقل ولا ثالث لهما،فالأوّل معنى اسمي والثاني معنى حرفي.
وتوضيح الفساد:هو أنّ المعنى الحرفي وإن لم يكن إخطارياً في نفسه،لعدم استقلاله في نفسه إلّاأ نّه ليس بإيجادي أيضاً،لما قدّمناه من أنّ له نحو ثبوت في وعاء المفاهيم كالمعنى الاسمي.
وقد ظهر ممّا ذكرناه أمران:
الأوّل: بطلان القول بأنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية إيجادية محضة وليس لها ثبوت في أيّ وعاء،إلّاالثبوت في ظرف الاستعمال،وأنّ المعاني الحرفية تساوي المعاني الاسمية في أ نّها متقررة في عالم المفهومية والتعقل.
الثاني: أنّ عدم استقلالية المعاني الحرفية في حد أنفسها وتقوّمها بالمفاهيم الاسمية المستقلة لا يستلزم كونها إيجادية،لامكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه،ومع ذلك لا يكون إيجادياً.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) رابعاً،من أنّ المعاني الحرفية مغفول عنها في حال الاستعمال،دون المعاني الاسمية،فلا أصل له أيضاً،وذلك لأنّهما من واد واحد من تلك الجهة،فكما أنّ اللحاظ الاستقلالي يتعلق بافادة المعاني الاسمية عند الحاجة إلى إبرازها والتعبير عنها،فكذلك يتعلّق بالمفاهيم الحرفية من
دون فرق بينهما في ذلك،بل كثيراً ما يتعلّق اللحاظ الاستقلالي بالمعاني الحرفية، وإنّما يؤتى بغيرها في الكلام مقدّمة لافادة تلك الخصوصية والتضييق،فيقال في جواب السائل عن كيفية مجيء زيد مع العلم بأصله:إنّه جاء في يوم كذا،ومعه كيف يمكن القول بأنّ المعاني الحرفية ملحوظة آلة في حال الاستعمال،ومغفول عنها في تلك الحال.
فقد تحصّل ممّا بيّناه:أنّ الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي في نقطة واحدة، وهي استقلال المعنى بالذات في الاسم وعدم استقلاله في الحرف،وأمّا من بقية الجهات فلا فرق بينهما أصلاً.
وبذلك يتّضح فساد ما أفاده (قدس سره) من أنّ الفرق بينهما في أركان أربعة،وتوضيح الفساد:أنّ الأركان التي جعلها ملاك الفرق في المقام كلّها فاسدة.
، فنفي الأولى يستلزم إثبات الثانية.ولكنّك عرفت أ نّه لا مقابلة بينهما أصلاً، ومعه لا يكون نفي الايجادية عن المعاني الحرفية مستلزماً لاخطاريتها،فان ملاك إخطارية المعنى الاستقلال الذاتي،فإذا كان كذلك يخطر في الذهن عند التعبير عنه،سواء كان في ضمن تركيب كلامي أم لم يكن،وملاك عدم الاخطارية عدم الاستقلال كذلك،ولذا لا يخطر في الذهن عند التكلم به منفرداً،وهذا غير كونه إيجادياً وعليه فلا مقابلة بينهما.
،فلما بيّناه من أ نّها كالمعاني الاسمية ثابتة ومتقررة في عالم المفهومية،سواء استعملت الحروف والأدوات فيها أم لم تستعمل،غاية الأمر لا استقلال لها بحسب الذات.
،فيظهر فساده بما ذكرناه من أنّ معانيها ليست إيجادية ليكون الفرق بينهما مبتنياً على ما ذكره (قدس سره) من أ نّه لا وعاء لها غير الاستعمال والتركيب الكلامي،وهذا بخلاف الايجاد في الانشاء فانّ له وعاءً مناسباً وهو عالم الاعتبار.
ثمّ إنّ من الغريب جدّاً أ نّه (قدس سره) جعل هذا الركن هو الركن الوطيد في المقام،وذكر أنّ بانهدامه تنهدم الأركان كلّها،فانّ المعنى الحرفي لو كان ملتفتاً إليه لكان إخطارياً وكان له واقع غير التركيب الكلامي،وذلك لأنّه مضافاً إلى ما بيّناه من أنّ المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي مقصود في مقام التفهيم،أنّ الملاك في إخطارية المعنى استقلاليته بالذات كما عرفت لا الالتفات إليه واللحاظ الاستقلالي،ضرورة أنّ الالتفات إلى المعنى لا يجعله إخطارياً إذا لم يكن مستقلاً بحد ذاته،بحيث كلّما يطلق يخطر في الذهن ولو كان وحده ولم يكن في ضمن تركيب كلامي،ومن هنا قلنا:إنّ المعنى الحرفي مع كونه ملتفتاً إليه غير إخطاري،لعدم استقلاله في عالم مفهوميته.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) خامساً،من أنّ جميع ما يكون النظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية،فيرد عليه:
أوّلاً:ما ذكرناه الآن من أنّ النظر إلى المعنى الحرفي كالنظر إلى المعنى الاسمي استقلالي.
وثانياً:لو تنزلنا عن ذلك،وسلّمنا أنّ النظر إليه آلي،إلّاأ نّه لا يكون ملاكاً لحرفية المعنى،كما أنّ اللحاظ الاستقلالي لا يكون ملاك الاسمية بل ملاك المعنى
الحرفي التبعية الذاتية،وأ نّها تعلّقية محضة،وملاك الثانية الاستقلالية الذاتية وأ نّها بحد ذاتها غير متقوّمة بالغير.
وبتعبير آخر:أ نّه على المبنى الصحيح كما بنى (قدس سره) عليه من أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة لا يدور المعنى الحرفي والاسمي بما هما كذلك مدار اللحاظ الآلي والاستقلالي،بداهة أنّ المعنى حرفي وإن لوحظ استقلالاً،واسمي وإن لوحظ آلة،لعدم كونهما متقومين بهما ليختلف باختلافهما.
القول الرابع: ما اختاره بعض مشايخنا المحققين (قدس سرهم) 1من أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية عبارة عن النسب والروابط الخارجية التي ليس لها استقلال بالذات،بل هي عين الربط لا ذات له الربط.
وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه:أنّ المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً بدون أن تشتركا في طبيعي معنى واحد،فانّ الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرّد اللحاظ الآلي والاستقلالي،وكانا متحدين في المعنى،لكان قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين،كما يوجد في الذهن كذلك،مع أنّ المعاني الحرفية كأنحاء النسب والروابط لا توجد في الخارج إلّاعلى نحو واحد،وهو الوجود لا في نفسه.
وبيان ذلك:أنّ الفلاسفة قد قسّموا الوجود على أقسام أربعة:
،فانّ وجوده في نفسه ولنفسه وبنفسه،يعني أ نّه موجود قائم بذاته وليس بمعلول لغيره،فالكائنات التي يتشكل منها العالم بشتى ألوانها وأشكالها،معلولة لوجوده (تعالى وتقدس)، فانّه سبب أعمق وإليه تنتهي سلسلة العلل والأسباب بشتّى أشكالها وأنحائها.
،وهو وجود في نفسه ولنفسه،ولكن بغيره، يعني أ نّه قائم بذاته لكنّه معلول لغيره،ولذا يقال:الجوهر ما يوجد في نفسه لنفسه.
،وهو وجود في نفسه ولغيره،يعني أ نّه غير قائم بذاته بل متقوّم بموضوع محقق في الخارج وصفة له،فان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه،فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع موجود في العين،ولذا يقال:العرض ما يوجد في نفسه لغيره،ويسمى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في الاصطلاح.
،وهو وجود لا في نفسه،فان حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلّابتبع وجود المنتسبين من دون نفسية واستقلال لها أصلاً،فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها، وهذا بخلاف العرض فان ذاته غير متقوّمة بموضوعه،بل لزوم القيام به ذاتي وجوده.
وقد استدلّوا على ذلك،أي على الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي:
بأن كثيراً ما كنّا نتيقن بوجود الجوهر والعرض ولكن نشك في ثبوت العرض له،ومن الواضح جداً أ نّه لا يعقل أن يكون المتيقن بعينه هو المشكوك فيه، بداهة استحالة تعلق صفة اليقين والشك بشيء في آن واحد،لتضادهما غاية المضادة،وبذلك نستدل على أن للربط والنسبة وجوداً في مقابل وجود الجوهر والعرض،وهو مشكوك فيه دون وجودهما.
أمّا أنّ وجوده وجود لا في نفسه،فلأنّ النسبة والربط لو وجدت في الخارج بوجود نفسي،لزمه أن لا يكون مفاد القضيّة الحملية ثبوت شيء لشيء،بل ثبوت أشياء ثلاثة،فيحتاج حينئذ إلى الرابطة بين هذه الموجودات الثلاثة،
فإذا كانت موجودة في نفسها احتجنا إلى رابطة،وهكذا إلى ما لا يتناهى.
ويترتب على ذلك:أنّ الأسماء موضوعة للماهيات القابلة للوجود المحمولي – الوجود في نفسه-بجواهرها وأعراضها على نحوين،كما توجد في الذهن كذلك، والتي تقع في جواب ما هو إذا سئل عن حقيقتها.
والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات لا في أنفسها المتقوّمة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط،ولا تقع في جواب ما هو،فانّ الواقع في جواب ما هو،ما كان له ماهية تامة،والوجود الرابط سنخ وجود لا ماهية له،ولذا لا يدخل تحت شيء من المقولات،بل كان وجوده أضعف جميع مراتب الوجودات.
ومن هنا يظهر أنّ تنظير المعنى الحرفي والاسمي بالجوهر والعرض في غير محلّه،إذ العرض موجود في نفسه لغيره.
ثمّ إنّ الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط فانّه من المفاهيم الإسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها،وإنّما الموضوع لها الحروف واقع النسبة والربط-أي ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط-الذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وفرده،فإنّه متّحد معه ذهناً وخارجاً، دون العنوان فانّه لا يتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج،ومغاير للمعنون ذاتاً ووجوداً،نظير مفهوم العدم،وشريك الباري (عزّ وجلّ)،واجتماع النقيضين، بل مفهوم الوجود على القول بأصالة الوجود،فانّ نسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وأفراده،لأنّ تلك المفاهيم لا تتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج،ولأجل ذلك لا يصحّ حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي،فمفهوم النسبة والربط نسبة وربط بالحمل الأوّلي الذاتي ولا يكون كذلك بالحمل الشائع الصناعي،فان ما كان بهذا الحمل نسبة وربطاً
معنون هذا العنوان وواقعه.
ومن ثمة كان المتبادر من إطلاق لفظ الربط والنسبة واقعه لا مفهومه،فانّ إرادته تحتاج إلى عناية زائدة،كما هو الحال في قولهم:شريك الباري ممتنع، واجتماع النقيضين مستحيل،والمعدوم المطلق لا يخبر عنه،فانّ المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الاُمور،لا مفاهيمها فانّها غير محكومة بها،كيف وأ نّها موجودة وغير معدومة ولا ممتنعة.
تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً، سواء كانت بمفاد هل المركبة،أم بمفاد هل البسيطة،أم كانت من النسب الخاصة المقوّمة للأعراض النسبية،ككون الشيء في الزمان أو المكان،أو نحو ذلك.
وأمّا الموضوع بازاء مفاهيمها فهي ألفاظ النسبة والربط ونحوهما من الأسماء، المحكية عنها بتلك الألفاظ،لا بالحروف والأدوات،هذا ملخّص ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره).
أقول: يقع الكلام هنا في مقامين:
المقام الأوّل:في أنّ للنسبة والربط وجوداً في الخارج في مقابل وجودي الجوهر والعرض،أم لا ؟
المقام الثاني:على تقدير تسليم أنّ لها وجوداً،فهل الحروف موضوعة لها ؟
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فالصحيح هو أ نّه لا وجود لها في الخارج في قبال وجود الجوهر أو العرض،وإن أصرّ على وجودها جماعة من الفلاسفة.
والوجه في ذلك:هو أ نّه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير تام،وذلك لأنّ صفتي اليقين والشك وإن كانتا صفتين متضادتين فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة،إلّاأنّ تحققهما في الذهن لايكشف
عن تعدد متعلقهما في الخارج،فانّ الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجاً،ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلقاً لصفة اليقين والآخر متعلقاً لصفة الشك، كما إذا علم إجمالاً بوجود إنسان في الدار ولكن شكّ في أ نّه زيد أو عمرو،فلا يكشف تضادّهما عن تعدّد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي،فانّهما موجودان بوجود واحد حقيقة،وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق لليقين،ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك.أو إذا أثبتنا أنّ للعالم مبدأ،ولكن شككنا في أ نّه واجب أو ممكن على القول بعدم استحالة التسلسل فرضاً،أو أثبتنا أ نّه واجب ولكن شككنا في أ نّه مريد أو لا،إلى غير ذلك،مع أنّ صفاته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً كما أن وجوبه كذلك.
وما نحن فيه من هذا القبيل،فانّ اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر، والشك متعلق بثبوت حصّة خاصّة منه له،فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك،بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن من جهة اخرى.
تلخّص: أنّ تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلّاتعدد متعلقهما في افق النفس،وأمّا في الخارج عنه فقد يكون متعدداً وقد يكون متحداً.
وإن شئت فقل:إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهر أو عرض،وكل منهما زوج تركيبي-يعني مركب من ماهية ووجود-ولا ثالث لهما،والمفروض أنّ ذلك الوجود-أي الوجود الرابط-سنخ وجود لا ماهية له،فلا يكون من أقسام الجوهر ولا من أقسام العرض،والمفروض أ نّه ليس في الخارج موجود آخر لا يكون من أقسام الجوهر ولا العرض.
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فعلى تقدير تسليم أنّ للنسبة والرابط وجوداً في الخارج في مقابل الجوهر والعرض،لا نسلّم أنّ الحروف والأدوات موضوعة
لها،لما بيّناه سابقاً من أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات لا للموجودات الخارجية ولا الذهنية،فانّ الاُولى غير قابلة للاحضار في الذهن وإلّا فلا تكون بخارجية،والثانية غير قابله للاحضار ثانياً،فانّ الموجود الذهني لا يقبل وجوداً ذهنياً آخر،والمفروض أنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهم وهو لا يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي،بل لا بدّ أن يكون الوضع لذات المعنى القابل لنحوين من الوجود.
وبتعبير آخر: أنّ اللفظ موضوع بازاء المعنى اللّا بشرطي،سواء كان موجوداً في الخارج أم معدوماً،ممكناً كان أو ممتنعاً،وقد يعبّر عنه بالصور المرتسمة العلمية أيضاً،وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط،لأنّها كما عرفت سنخ وجود لا ماهية لها فلا تكون قابلة للاحضار في الذهن،وأمّا مفاهيم نفس النسب والروابط فهي من المفاهيم الاسمية وليست ممّا وضعت لها الحروف والأدوات.
هذا،ولو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا إمكان وضع اللفظ للموجود بما هو،ولكنّا نقطع بأنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد يستحيل فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد هل البسيطة فضلاً عن المركّبة، فلا فرق بين قولنا:(الوجود للانسان ممكن) و (للّٰه تعالى ضروري) و (لشريك الباري مستحيل) فان كلمة اللام في جميع ذلك تستعمل في معنى واحد،وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى على نسق واحد،بلا عناية في شيء منها،وبلا لحاظ أيّة نسبة في الخارج حتى بمفاد كان التامة،فان تحقق النسبة بمفاد كان التامة إنّما هو بين ماهية ووجودها كقولك:زيد موجود.وأمّا في الواجب تعالى وصفاته وفي الانتزاعيات والاعتبارات فلا يعقل فيها تحقق أيّة نسبة أصلاً.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه:هو أنّ صحة استعمال الحروف في موارد يستحيل فيها ثبوت أيّة نسبة خارجية كما في صفات الواجب تعالى وغيرها من دون لحاظ أيّة علاقة،تكشف كشفاً يقيناً عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج.
ومن هنا يظهر:أنّ حكمة الوضع لا تدعو إلى وضع الحروف لتلك النسب، وإنّما تدعو إلى وضعها لما يصح استعمالها فيه في جميع الموارد.فهذا القول لو تمّ فانّما يتم في خصوص الجواهر والأعراض،وما يمكن فيه تحقق النسبة بمفاد هل البسيطة،وأمّا في غير تلك الموارد فلا.
القول الخامس: ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أنّ الحروف والأدوات وضعت للأعراض النسبية الإضافية كمقولة الأين والاضافة ونحوهما،وملخّص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ الموجود في الخارج على أنحاء ثلاثة:
النحو الأوّل:ما يكون وجوده وجوداً لنفسه كالجوهر بأصنافه.
النحو الثاني:ما يكون وجوده في نفسه وجوداً لغيره كالأعراض التسعة التي قد يعبّر عن وجودها بالوجود الرابطي،وهي على طائفتين:
إحداهما:ما يحتاج في تحققه إلى موضوع واحد في الخارج ويستغنى به كالكم والكيف ونحوهما.
والثانية:ما يحتاج في تحققه إلى موضوعين ليتقوّم بهما كالعرض الأيني والاضافي وغير ذلك.
النحو الثالث:ما يكون وجوده لا في نفسه كأنحاء النسب والروابط.
وعلى ذلك فنقول:إنّ الحاجة دعت العقلاء إلى وضع الألفاظ التي تدور عليها الإفادة والاستفادة،وبعد أن فحصنا وجدنا أ نّهم وضعوا الأسماء للجواهر
وعدّة من الأعراض،ووضعوا الهيئات من المركبات والمشتقات للنسب والروابط، ووضعوا الحروف للأعراض النسبية الإضافية.فكلمة (في) مثلاً في قولنا:زيد في الدار،تدل على العرض الأيني العارض على موضوعه كزيد،والهيئة تدل على ربط هذا العرض بموضوعه وهكذا.
وإن شئت قلت:إنّ المعاني منحصرة بالجواهر والأعراض وربطها بمحلّها ولا رابع لها،ومن المعلوم أنّ الحروف لم توضع للاُولى ولا لبعض الأقسام الثانية، لأنّ الموضوع لها الأسماء،ولا للثالثة لأنّ الموضوع لها الهيئات،فلا محالة تكون موضوعة للأعراض النسبية الاضافية.فكلمة (في) وضعت للأين الظرفي،وكلمة (من) للأين الابتدائي وهكذا.ولا فرق في ذلك بين أقسام الحروف مطلقاً من الداخل على المركبات الناقصة والداخل على المركبات التامّة كحروف التمني والترجي والتشبيه ونحوها 1.
والجواب عنه: يظهر بما ذكرناه من الجواب عن القول الرابع،وتوضيح الظهور:
أوّلاً: أ نّا نقطع بعدم كون الحروف موضوعة للأعراض النسبية الاضافية، لصحّة استعمالها فيما يستحيل فيه تحقّق عرض نسبي كما في صفات الواجب تعالى والاعتبارات والانتزاعيات،فانّ العرض إنّما هو صفة للموجود في الخارج فلا يعقل تحققه بلا موضوع محقق خارجاً،وعليه فيستحيل وجوده في تلك الموارد.
وكيف كان،فلا شبهة في فساد هذا القول،فانّ صحّة استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيء منها، تكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الموضوع لها المعنى الجامع الموجود في جميع هذه
الموارد على نحو واحد،لا خصوص الأعراض النسبية الإضافية.
وثانياً: أنّ ذلك أفسد من القول السابق،بل لا يترقب صدوره من مثله (قدس سره) والوجه فيه:هو ما بيّناه من أنّ للأعراض التسعة جميعاً مفاهيم مستقلة بحد ذاتها وأنفسها في عالم مفهوميتها من دون فرق بين الأعراض النسبية وغيرها،غاية الأمر أنّ الأعراض النسبية تتقوّم في وجودها بأمرين، وغير النسبية لا تتقوّم إلّابموضوعها،وكيف فانّ الأعراض جميعاً موجودات في أنفسها وإن كان وجودها لموضوعاتها.
وقد تلخّص من ذلك:أنّ الحروف والأدوات لم توضع للأعراض النسبية الاضافية،بل الموضوع لها هي الأسماء ككلمة الظرفية والابتداء والاستعلاء ونحوها،هذا كلّه بالاضافة إلى معاني الحروف.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) بالاضافة إلى معاني الهيئات وأ نّها موضوعة لأنحاء النسب والروابط،فيرد عليه عين ما أوردناه على القول المتقدم من عدم الدليل على وجود النسبة في الخارج في مقابل وجود الجوهر أو العرض أوّلاً، وعدم وضع اللفظ لها ثانياً،وعدم ثبوتها في جميع موارد استعمالاتها ثالثاً،على تفصيل تقدم 1.
والنتيجة لحدّ الآن: ظهور بطلان جميع الأقوال والآراء التي سبقت،وعدم امكان المساعدة على واحد منها.
وعلى ذلك فيجب علينا أن نختار رأياً آخر في مقابل هذه الآراء.
التحقيق:أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وإن كانت مرتكزة في أذهان كل أحد ومعلومة لديه إجمالاً،ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها،إلّا أنّ الداعي إلى البحث عنها في المقام حصول العلم التفصيلي بها.
وبيان ذلك: أنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقة،ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد.وقد تبيّن حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها،وأ نّه لا شبهة في تباين المعنى الاسمي والحرفي بالذات فلا حاجة إلى الاعادة والبيان.
ونتكلم فيها فعلاً من ناحية اخرى بعد الفراغ عن تلك الناحية،وهي أنّ المعاني الحرفية التي تباين الاسمية بتمام الذات ما هي ؟
فنقول:إنّ الحروف على قسمين:
أحدهما:ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الافرادية كمن وإلى وعلى ونحوها.
والثاني:ما يدخل على المركبات التامّة ومفاد الجملة كحروف النداء والتشبيه والتمني والترجي وغير ذلك.
أمّا القسم الأوّل: فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسمية في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها،ومع هذا لا نظر لها إلى النسب والروابط الخارجية ولا إلى الأعراض النسبية الاضافية،فانّ التخصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.
توضيح ذلك:أنّ المفاهيم الاسمية بكليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها،ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات،سواء كان الاطلاق بالقياس إلى الحصص المنوّعة كاطلاق الحيوان مثلاً بالاضافة إلى أنواعه التي تحته،أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة كاطلاق الانسان بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده،أو بالقياس إلى حالات شخص واحد من كمّه وكيفه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مرّ الزمن.
ومن البديهي أنّ غرض المتكلم في مقام التفهيم والافادة كما يتعلق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بتفهيم حصّة خاصّة منه فيحتاج حينئذ إلى مبرز لها في الخارج،وبما أ نّه لا يكاد يمكن أن يكون لكل واحد من الحصص أو الحالات مبرز مخصوص،لعدم تناهي الحصص والحالات،بل عدم تناهي حصص أو حالات معنى واحد فضلاً عن المعاني الكثيرة،فلا محالة يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلم تفهيمها،وليس ذلك إلّاالحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالة على النسب الناقصة،كهيئات المشتقات وهيئة الاضافة والتوصيف.
فكل متكلم متعهد في نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم حصّة خاصّة من معنى، أن يجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه على نحو القضية الحقيقية،لا بمعنى أ نّه جعل بازاء كل حصّة أو حالة حرفاً مخصوصاً أو ما يحذو حذوه بنحو الوضع الخاص والموضوع له الخاص،لما عرفت من أ نّه غير ممكن من جهة عدم تناهي الحصص.فكلمة (في) في جملة:الصلاة في المسجد حكمها كذا،تدل على أنّ المتكلم أراد تفهيم حصّة خاصّة من الصلاة،وفي مقام بيان حكم هذه الحصّة لا الطبيعة السارية إلى كل فرد.وأمّا كلمتا الصلاة والمسجد فهما مستعملتان
في معناهما المطلق واللّا بشرط بدون أن تدلا على التضييق والتخصيص أصلاً.
ومن هنا كان تعريف الحرف بما دلّ على معنى قائم بالغير من أجود التعريفات وأحسنها،وموافقاً لما هو الواقع ونفس الأمر ومطابقاً لما ارتكز في الأذهان من أنّ المعنى الحرفي خصوصية قائمة بالغير وحالة له.
وإن شئت فعبّر:أنّ الأسماء بجواهرها وأعراضها وغيرهما تدل على المعاني المطلقة اللّا بشرطية،ولايدل شيء منها على تضييقات هذه المعاني وتخصيصاتها بخصوصيات،فلا محالة انحصر أن يكون الدال عليها هو الحروف أو ما يقوم مقامها.مثلاً كلمة (الدور) موضوعة لمعنى جامع وسيع ودالّة عليه،ولكن قد يتعلق الغرض بتفهيم حصّة خاصّة منه وهي خصوص الحصّة المستحيلة مثلاً، فإذن ما الذي يوجب إفادتها،وليس ذلك إلّاالحرف أو ما يشبهه،لعدم دالٍ آخر على الفرض ونفس الكلمة لا تدل إلّاعلى الطبيعي الجامع،وهكذا.
وبكلمة واضحة:أنّ وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع،فانّ القول بالتعهد لا محالة يستلزم وضعها لذلك،حيث عرفت أنّ الغرض قد يتعلق بتفهيم الطبيعي وقد يتعلق بتفهيم الحصّة،والمفروض أ نّه لايكون عليها دال ما عدا الحروف وتوابعها،فلا محالة يتعهد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصّة خاصّة،فلو قصد تفهيم حصّة من طبيعي الماء مثلاً،كماء له مادة أو ماء البئر،يبرزه بقوله:ما كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة،أو:ماء البئر معتصم،فكلمة اللّام في الأوّل وهيئة الاضافة في الثاني تدلّان على أنّ المراد من الماء ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد،بل خصوص حصّة منه.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحصص موجودة في الخارج أو معدومة، ممكنة كانت أو ممتنعة.ومن هنا يصح استعمالها في صفات الواجب تعالى
والانتزاعيات كالامكان والامتناع ونحوهما،والاعتباريات كالأحكام الشرعية والعرفية بلا لحاظ عناية في البين،مع أنّ تحقق النسبة في تلك الموارد حتى بمفاد هل البسيطة مستحيل،وجه الصحّة:هو أنّ الحروف وضعت لافادة تضييق المعنى في عالم المفهومية مع قطع النظر عن كونه موجوداً في الخارج أو معدوماً، ممكناً كان أو ممتنعاً،فانّها على جميع التقادير تدل على تضييقه وتخصيصه بخصوصية ما على نسق واحد،فلا فرق بين قولنا:ثبوت القيام لزيد ممكن، وثبوت القدرة للّٰهتعالى ضروري،وثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع، فكلمة اللام في جميع ذلك استعملت في معنى واحد،وهو تخصص مدخولها بخصوصية ما في عالم المعنى،بلا نظر لها إلى كونه محكوماً بالامكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع،فان كل ذلك أجنبي عن مدلولها،ومن هنا يكون استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيء منها.
نعم،إنّها تحدث الضيق في مقام الاثبات والدلالة،وإلّا لبقيت المفاهيم الاسمية على إطلاقها وسعتها،وهذا غير كون معانيها إيجادية،وكم فرق بين الايجادية بهذا المعنى والايجادية بذلك المعنى.
وأمّا بحسب مقام الثبوت فهي تكشف عن تعلق قصد المتكلم بافادة ضيق المعنى الاسمي،فما يستعمل فيه الحرف ليس إلّاالضيق في عالم المفهومية من دون لحاظ نسبة خارجية،حتى في الموارد الممكنة كما في الجواهر والأعراض فضلاً عما يستحيل فيه تحقق نسبة ما كما في صفات الواجب تعالى وما شاكلها.
وعلى الجملة: حيث إنّ الأغراض تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات فالمستعملون بمقتضى تعهداتهم النفسانية يتعهدون أن يتكلموا بالحروف أو ما يشبهها عند تعلق أغراضهم بتفهيم حصص المعاني وتضييقاتها،
فلو أنّ أحداً تعلق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمس وغروبها يبرزه بقوله:الصلاة فيما بين الحدّين حكمها كذا،وهكذا.
وملخص ما ذكرناه في المقام:هو أنّ المفاهيم الاسمية وإن كان بعضها أوسع من بعضها الآخر،مثلاً مفهوم الممكن أوسع من مفهوم الوجود وهو أوسع من مفهوم الجوهر،وهكذا إلى أن ينتهي إلى مفهوم لا يكون تحته مفهوم آخر، ولكل واحد منها لفظ مخصوص يدل عليه عند الحاجة إلى تفهيمه،إلّاأنّ حصصها أو حالاتها غير المتناهية لم يوضع بازاء كل واحدة منها لفظ خاص كي يدل عليها عند الحاجة وذلك لعدم تناهيها،فإذن ما هو الذي يوجب إفادتها في الخارج،وليس ذلك إلّاالحروف أو ما يشبهها بالتقريب الذي قدّمناه من أنّ الواضع تعهّد بذكر حرف خاص عند قصد تفهيم حصّة خاصّة من المعنى،ففي كل مورد قصد ذلك جعل مبرزه حرفاً من الحروف على اختلاف الموارد والمقامات.
يتلخص نتيجة ما ذكرناه في امور:
الأمر الأوّل: أنّ المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً ولا اشتراك لهما في طبيعي معنى واحد،فانّها متدليات بها بحد ذاتها وهي مستقلّات في أنفسها ولا جامع بين الأمرين أصلاً.
الأمر الثاني: أنّ معانيها ليست بإيجادية،ولا بنسبة خارجية،ولا بأعراض نسبية إضافية،بل هي عبارة عن تضييقات نفس المعاني الاسمية في عالم المفهومية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها،بلا نظر إلى أ نّها موجودة في الخارج أو معدومة،ممكنة أو ممتنعة،ومن هنا قلنا:إنّ استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.
والذي دعاني إلى اختيار ذلك القول أسباب أربعة:
السبب الأوّل:بطلان سائر الأقوال والآراء.
السبب الثاني:أنّ المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه بين جميع موارد استعمال الحروف،من الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد،وليس في المعاني الاُخر ما يكون كذلك كما عرفت.
السبب الثالث:أنّ ما سلكناه في باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع هي:التعهّد والتباني،ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة،ضرورة أنّ المتكلم إذا قصد تفهيم حصّة خاصّة فبأيّ شيء يبرزه،إذ ليس المبرز له إلّاالحرف أو ما يقوم مقامه.
السبب الرابع:موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز في الأذهان،فانّ الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى،غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها،وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم إمكانها،ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذّبها صريح الوجدان والبداهة كما لا يخفى،فهذا يكشف قطعياً عن أنّ الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره.
الأمر الثالث: أنّ معانيها جميعاً حكائية ومع ذلك لا تكون إخطارية،لأنّ ملاك إخطارية المعنى الاستقلالية الذاتية في عالم المفهوم والمعنى،وهي غير واجدة لذلك الملاك،وملاك حكائية المعنى نحو من الثبوت في عالم المعنى،هي واجدة له،فلا ملازمة بين عدم كونها إخطارية وكونها إيجادية كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
الأمر الرابع: في نقاط الامتياز بين رأينا وسائر الآراء:
يمتاز رأينا عن القول بأنّ معاني الحروف إيجادية في نقطة واحدة،وهي أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي ليس له واقع في أيّ وعاء ما عدا التراكيب
الكلامية،وأمّا على رأينا فله واقع في عالم المفهوم وثابت فيه كالمعنى الاسمي، غاية الأمر بثبوت تعلقي لا استقلالي.
ويمتاز عن القول بأنّ الحروف وضعت بازاء النسب والروابط في نقطة واحدة أيضاً،وهي أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي سنخ وجود خارجي،وهو وجود لا في نفسه،ولذا يختصّ بالجواهر والأعراض ولا يعمّ الواجب والممتنع،وأمّا على رأينا فالمعنى الحرفي سنخ مفهوم ثابت في عالم المفهومية ويعمّ الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.
ويمتاز عن القول بأنّ الموضوع لها الحروف هي الأعراض النسبية في نقطتين:
النقطة الاُولى:أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي مستقل بالذات،وأمّا على رأينا فهو غير مستقل بالذات.
النقطة الثانية:أنّ المعنى الحرفي على ذلك الرأي سنخ معنى يخصّ الجواهر والأعراض ولا يعمّ غيرهما،وأمّا على رأينا فهو سنخ معنى يعمّ الجميع،هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الحروف.
وأمّا القسم الثاني من الحروف:وهو ما يدخل على المركبات التامة أو ما في حكمها-كمدخول حرف النداء،فانّه وإن كان مفرداً إلّاأ نّه يفيد فائدة تامة – فحاله حال الجمل الانشائية،بيان ذلك:أنّ الجمل على قسمين:أحدهما:
إنشائية.والثاني:خبرية،والمشهور بينهم أنّ الاُولى موضوعة لايجاد المعنى في الخارج،ومن هنا فسّروا الانشاء بايجاد ما لم يوجد.والثانية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.
والصحيح-على ما سيأتي بيانه 1– أنّ الجملة الانشائية وضعت للدلالة
على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند إرادة تفهيمه.
والجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الواقع ثبوتاً أو نفياً.
توضيح ذلك:أنّ هذا القسم من الحروف كالجملة الانشائية،بمعنى أ نّه وضع للدلالة على قصد المتكلم إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية عند قصد تفهيمه،فحروف النداء ك (يا) مثلاً،وضعت لابراز قصد النداء وتوجيه المخاطب إليه،وحروف الاستفهام موضوعة لابراز طلب الفهم،وحروف التمني موضوعة لابراز التمني،وحروف الترجي موضوعة لابراز الترجي وكذا حروف التشبيه ونحوها.
وبتعبير آخر:أنّ وضع هذا القسم من الحروف لذلك المعنى أيضاً من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع،فان لازم القول بالتعهد والالتزام هو تعهد كل متكلم بأ نّه متى ما قصد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص،فاللفظ مفهم له ودال على أ نّه أراد تفهيمه به،فلو قصد تفهيم التمني يتكلم بلفظ خاص وهو كلمة (ليت)،ولو قصد تفهيم الترجي يتكلّم بكلمة (لعل) وهكذا.فالواضع تعهد ذكر هذا القسم من الحروف عند إرادة إبراز أمر من الاُمور النفسانية من التمني والترجي ونحوهما.
ومن هنا يظهر بطلان ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ معاني هذه الحروف أيضاً إيجادية،ووجهه ما تبين لك من أنّ معانيها ثابتة في عالم المفهومية كمعاني الجمل الانشائية،ولا فرق بينهما من هذه الجهة.فالنتيجة
هي:أنّ حال هذا القسم من الحروف حال الجمل الانشائية،كما أنّ القسم الأوّل منها حاله حال الهيئات الناقصة.هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا الكلام في المقام الثاني:
وهو أنّ الموضوع له في الحروف عام أو خاص،فيتضح ممّا بيّنّاه في المقام الأوّل،فان نتيجة ذلك أنّ الموضوع له فيها خاص والوضع عام.
أمّا في الطائفة الاُولى،فلأ نّها لم توضع بازاء مفاهيم التضييقات والتحصصات، لأ نّها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية في عالم مفهوميتها،بل لواقعها وحقيقتها – اي ما هو بالحمل الشائع تضييق وتحصص-ومفاهيمها ليست بهذا الحمل تضييقاً وإن كان كذلك بالحمل الأوّلي الذاتي.نعم،لا بدّ من أخذ تلك المفاهيم بعنوان المعرّف والآلة للحاظ أفرادها ومصاديقها إجمالاً حتى يمكن الوضع بازائها.
وبتعبير آخر:أ نّه كما لا يمكن أن يكون وضعها خاصاً كالموضوع له،لما تقدم 1من أنّ حصص المعنى الواحد غير متناهية فضلاً عن المعاني الكثيرة، فلا يمكن تصور كل واحد منها على وجه التفصيل،كذلك لا يمكن أن يكون الموضوع لها عاماً كالوضع،فانّه لا يعقل ذلك إلّاأن توضع لمفاهيم الحصص والتضييقات،والمفروض أ نّها من المفاهيم الاسمية وليست من المعاني الحرفية في شيء،ولا جامع مقولي بين أفراد التضييق وأنحائه لتوضع بازائه،فلا بدّ حينئذ من أن نلتزم بكون الموضوع له فيها خاصاً والوضع عاماً،بأن نقول:
إن كل واحد من هذه الحروف موضوع لسنخ خاص من التضييق في عالم المعنى، فكلمة (في) لسنخ من التضييق،وهو سنخ التضييق الأيني،وكلمة (على) لسنخ آخر منه،وهو سنخ التضييق الاستعلائي،وكلمة (من) لسنخ ثالث منه وهو سنخ التضييق الابتدائي،وهكذا سائر هذه الحروف.
ومن هنا يظهر أنّ الموضوع له في الهيئات الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة
الإضافة والتوصيف أيضاً من هذا القبيل-يعني أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص-لما عرفت من عدم الفرق بينها وبين هذا القسم من الحروف أصلاً.
وأمّا القسم الثاني منها فأيضاً كذلك،ضرورة أنّ الحروف في هذا القسم لم توضع لمفهوم التمني والترجي والتشبيه ونحوه،لأنّها من المفاهيم الاسمية الاستقلالية.
على أنّ لازمه أن تكون كلمة لعل مرادفاً للفظ الترجي،وكلمة ليت مرادفاً للفظ التمني وهكذا،وهو باطل يقيناً،كما أ نّها لم توضع بازاء مفهوم إبراز هذه المعاني،فانّه أيضاً من المفاهيم الاسمية،بل وضعت لما هو بالحمل الشائع إبراز للتمني والترجي والاستفهام ونحو ذلك،ولا جامع ذاتي بين مصاديق الابراز وأفراده ليكون موضوعاً بازاء ذلك الجامع،ولأجل ذلك في هذا القسم أيضاً يكون الموضوع له خاصاً والوضع عاماً،بمعنى أنّ الواضع تصور مفهوماً عاماً كابراز التمني مثلاً فوضع كلمة ليت بازاء أفراده ومصاديقه،وتعهد بأ نّه متى ما قصد تفهيم التمني يتكلم بكلمة ليت وهكذا.هذا تمام الكلام في تحقيق المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية وما يشبهها.
قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسمي متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي:لايبعد أن يكون الاختلاف بين الانشاء والخبر أيضاً من هذا القبيل،بمعنى أنّ طبيعي المعنى الموضوع له واحد فيهما والاختلاف بينهما إنّما هو في الداعي،فانّه في
الانشاء قصد إيجاد المعنى،وفي الخبر قصد الحكاية عنه،وكلاهما خارجان عن حريم المعنى.
توضيح ذلك:أنّ الصيغ المشتركة كصيغة:بعت وملكت وقبلت ونحوها، تستعمل في معنى واحد مادة وهيئة في مقام الإخبار والإنشاء.
أمّا بحسب المادة فظاهر،لأن معناها الطبيعي اللّا بشرط وهي تستعمل في ذلك الطبيعي دائماً،سواء كانت الهيئة الطارئة عليها تستعمل في مقام الاخبار أو الانشاء.
وأمّا بحسب الهيئة،فلأ نّها تستعمل في نسبة إيجاد المادة إلى المتكلم في كلا المقامين،غاية الأمر أنّ الداعي في مقام الانشاء إنّما هو إيجادها في الخارج وفي مقام الاخبار الحكاية عنها،فالاختلاف بينهما في الداعي لا في المستعمل فيه.
وإن شئت قلت:إنّ العلقة الوضعية في أحدهما غير العلقة الوضعية في الثاني،فإنّها في الجمل الانشائية تختص بما إذا قصد المتكلم إيجاد المعنى في الخارج،وفي الجمل الخبرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه 1.
أقول: ما ذكره (قدس سره) مبني على ما هو المشهور بينهم بل المتسالم عليه،من أنّ الجمل الخبرية موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه،فان طابقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية فصادقة وإلّا فكاذبة،وأنّ الجمل الانشائية موضوعة لايجاد المعنى في الخارج الذي يعبّر عنه بالوجود الانشائي،كما صرّح (قدس سره) به في عدّة من الموارد 1وقال:إنّ الوجود الانشائي نحو من الوجود،ولذا لا تتصف بالصدق أو بالكذب،فانّه على هذا لا مانع من أن يكون المعنى واحداً في كلتا الجملتين،وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال.
أقول: يقع الكلام هنا في مقامين:
والمقام الثاني:في الجملة الانشائية.
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فالصحيح هو أنّ الجملة الخبرية موضوعة
للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع،ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه،وذلك لسببين:
السبب الأوّل: أ نّها لا تدل على ثبوت النسبة خارجاً أو على عدم ثبوتها ولو ظنّاً مع قطع النظر عن حال المخبر وعن القرائن الخارجية،مع أنّ دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع،وإلّا لم يبق للوضع فائدة، فإذا فرضنا أنّ الجملة بما هي لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه أصلاً حتّى ظناً،فما معنى كون الهيئة موضوعة لها،بل يصبح ذلك لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم.نعم،إنّها وإن كانت عند الإطلاق توجب تصور الثبوت أو النفي في الواقع،إلّاأ نّه ليس مدلولاً للهيئة،فانّ التصور لا يكون مدلولاً للجملة التصديقية بالضرورة.وعلى الجملة:أنّ قانون الوضع والتعهد يقتضي عدم تخلف اللفظ عن الدلالة على معناه الموضوع له في نفسه،فلو كانت الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على النسبة الخارجية لدلّت عليها لا محالة.
السبب الثاني: أنّ الوضع على ما سلكناه عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني،ومقتضاه تعهد كل متكلم من أهل أيّ لغة أ نّه متى ما قصد تفهيم معنى خاص أن يتكلم بلفظ مخصوص،فاللفظ مفهم له ودال على أنّ المتكلم أراد تفهيمه بقانون الوضع،ومن الواضح أنّ التعهد والالتزام لا يتعلقان إلّا بالفعل الاختياري،إذ لا معنى للتعهد بالاضافة إلى أمر غير اختياري،وبما أنّ ثبوت النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلّق الالتزام والتعهّد به،فالذي يمكن أن يتعلق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الاخبار وإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية في الانشاء،لأنّهما أمران اختياريان داعيان إلى التكلم باللفظ في الجملة الخبرية والانشائية.
إذا عرفت ذلك فنقول:على ضوء هذا البيان قد أصبحت النتيجة أنّ الجملة
الخبرية لم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها عنه،بل وضعت لابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع ونفس الأمر.
وتوضيح ذلك على وجه أبسط:هو أنّ الانسان لمّا كان محتاجاً في تنظيم حياته المادية والمعنوية إلى آلات بها يبرز مقاصده وأغراضه،والإشارة ونحوها لا تفي بجميع موارد الحاجة في المحسوسات فضلاً عن المعقولات،فلا مناص من التعهد والمواضعة بجعل ألفاظ خاصة مبرزة لها في موارد الحاجة،ودالّة على أنّ الداعي إلى إيجاد تلك الألفاظ إرادة تفهيمها.
وعليه،فالجملة الخبرية بمقتضى تعهد الواضع بأ نّه متى ما قصد الحكاية عن الثبوت أو النفي في الواقع أن يتكلم بها،تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها ذلك، فتكون بنفسها مصداقاً للحكاية،وهذه الدلالة لا تنفك عنها حتّى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والافادة في مقام الثبوت والواقع إذا لم ينصب قرينة على الخلاف في مقام الاثبات،غاية ما في الباب أنّ تكلمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهده والتزامه،وأمّا الدلالة فهي موجودة لا محالة ويكون كلام المتكلم حجّة عليه ببناء العقلاء من جهة التزامه وتعهده.
نعم،تنتفي هذه الدلالة فيما إذا نصب قرينة على الخلاف،كما إذا نصب قرينة على أ نّه في مقام الإرشاد أو السخرية أو الاستهزاء أو الهزل،أو في مقام تعداد الجمل وذكرها من باب المثال،فانّ الجملة حينئذ لا تدل على قصد الحكاية عن الواقع،بل تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها أمر آخر غير قصد الحكاية.
ويترتب على ما ذكرناه:أنّ الجملة الخبرية من جهة الدلالة الوضعية لا تتصف بالصدق أو الكذب،فانّها ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب، فقولنا:زيد عادل،يدل على أنّ المتكلم في مقام قصد الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد،أمّا أ نّه مطابق للواقع أو غير مطابق فهو أجنبي عن دلالته على
ذلك بالكلية.
ومن هنا يظهر أ نّه لا فرق بينها وبين الجمل الانشائية في الدلالة الوضعية، فكما أنّ الجملة الإنشائية لا تتصف بالصدق أو الكذب،بل إنّها مبرزة لأمر من الاُمور النفسانية،فكذلك الجملة الخبرية فانّها مبرزة لقصد الحكاية عن الواقع نفياً أو إثباتاً،حتى فيما إذا علم المخاطب كذب المتكلم في إخباره،فالجملة الانشائية والإخبارية تشتركان في أصل الإبراز والدلالة على أمر نفساني،وإنّما الفرق بينهما فيما يتعلق به الابراز،فانّه في الجملة الانشائية أمر نفساني لا تعلق له بالخارج،ولذا لا يتصف بالصدق أو الكذب،بل يتصف بالوجود أو العدم، وفي الجملة الخبرية أمر متعلق بالخارج فان طابقه فصادق وإلّا فكاذب.
ومن هنا يتّضح أنّ المتصف بالصدق والكذب إنّما هو مدلول الجملة لا نفسها، واتصاف الجملة بهما إنّما هو بتبع مدلولها وبالعرض والمجاز،ولذا لو أمكن فرضاً الحكاية عن شيء بلا دال عليها في الخارج لكانت الحكاية بنفسها متصفة بالصدق أو الكذب لا محالة.
وممّا ذكرنا ظهر أ نّه لا فرق في إبراز الحكاية بين اللفظ وغيره من الاشارة أو الكتابة أو نحوهما،فان كل ذلك بالإضافة إلى إبراز الحكاية في الخارج على نسق واحد،كما أ نّه لا فرق في ذلك بين الجملة الاسمية والفعلية.
ثمّ ليعلم أنّ مرادنا من الخارج هو واقع نفس الأمر المقابل للفرض والتقدير أعم من الخارج والذهن،بل كل وعاء مناسب لثبوت النسبة وعدمها،فان موارد استعمالات الجملة الخبرية كما عرفت لا تنحصر بالجواهر والأعراض، بل تعم الواجب والممكن والممتنع والاُمور الاعتبارية على نحو واحد،هذا تمام الكلام في تحقيق معنى الجملة الخبرية.
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فالصحيح هو أنّ الجملة الإنشائية موضوعة
لابراز أمر نفساني غير قصد الحكاية ولم توضع لايجاد المعنى في الخارج، والوجه في ذلك:هو أ نّهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني كايجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات التي لا تقبل النزاع،بداهة أنّ الموجودات الخارجية بشتى أشكالها وأنواعها،ليست ممّا توجد بالإنشاء،كيف والألفاظ ليست واقعة في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.
وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك،فيردّه:أ نّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم به،ضرورة أنّ اللفظ في الجملة الإنشائية لا يكون علّة لإيجاد الأمر الاعتباري،ولا واقعاً في سلسلة علته،فانّه يتحقق بالاعتبار النفساني،سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.
نعم،اللفظ مبرز له في الخارج لا أ نّه موجد له،فوجوده بيد المعتبر وضعاً ورفعاً،فله أن يعتبر الوجوب على ذمة أحد وله أن لا يعتبر،وله أن يعتبر ملكية مال لشخص وله أن لا يعتبر ذلك،وهكذا.
وأمّا الاعتبارات الشرعية أو العقلائية فهي وإن كانت مترتبة على الجمل الانشائية،إلّاأنّ ذلك الترتب إنّما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً،والمفروض في المقام أنّ الكلام في تحقيق معانيها،وفيما يترتب عليه تلك الاعتبارات.
وبتعبير آخر:أنّ الجمل الإنشائية وإن كانت ممّا يتوقف عليها فعليّة تلك الاعتبارات وتحققها خارجاً،ولكن لا بما أ نّها ألفاظ مخصوصة،بل من جهة أ نّها استعملت في معانيها.
على أنّ في كل مورد من موارد الانشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء أو من الشرع،فان في موارد انشاء التمني والترجي والاستفهام ونحوها ليس أيّ
اعتبار من الاعتبارات لا من الشارع ولا من العقلاء،حتّى يتوصل بها إلى ترتبه في الخارج.
إذا عرفت ذلك فنقول:قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الجملة الإنشائية-بناءً على ما بيّناه من أنّ الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني-موضوعة لابراز أمر نفساني خاص،فكل متكلم متعهد بأ نّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلم بالجملة الإنشائية،مثلاً إذا قصد إبراز اعتبار الملكية يتكلم بصيغة بعت أو ملكت،وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجية يبرزه بقوله:زوّجت أو أنكحت،وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب يتكلم بصيغة إفعل ونحوها، وهكذا.
ومن هنا قلنا إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبرية في الدلالة الوضعية والابراز الخارجي،فكما أ نّها مبرزة لاعتبار من الاعتبارات كالملكية والزوجية ونحوهما،فكذلك تلك مبرزة لقصد الحكاية والاخبار عن الواقع ونفس الأمر.
فتحصّل ممّا ذكرناه:أ نّه لا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ طبيعي المعنى في الإنشاء والاخبار واحد،وإنّما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال،فانّك عرفت اختلاف المعنى فيهما،فانّه في الجملة الخبرية شيء وفي الجملة الانشائية شيء آخر.
وممّا يؤكّد ما ذكرناه:أ نّه لو كان معنى الانشاء والاخبار واحداً بالذات والحقيقة،وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي،كان اللازم أن يصح استعمال الجملة الاسمية في مقام الطلب كما يصح استعمال الجملة الفعلية فيه،بأن يقال:
المتكلم في الصلاة معيد صلاته،كما يقال إنّه يعيد صلاته أو إنّه إذا تكلم في صلاته أعاد صلاته،مع أ نّه من أفحش الأغلاط،ضرورة وضوح غلطية استعمال زيد قائم في مقام طلب القيام منه،فانّه ممّا لم يعهد في أيّ لغة من اللغات.
نعم،يصح إنشاء المادة بالجملة الاسمية،كما في جملة أنت حر في وجه اللّٰه أو هند طالق،ونحو ذلك.
قال صاحب الكفاية (قدس سره) يمكن أن يقال:إنّ المستعمل فيه في أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما أيضاً عام،وأنّ تشخصه إنّما جاء من قبل طور استعمالها،حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها،وكذا بعض الضمائر،وبعضها ليخاطب بها المعنى،والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى،فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل:هذا وهو وإيّاك،إنّما هو المفرد المذكر،وتشخصه إنّما جاء من قبل الإشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إليه،فانّ الاشارة والتخاطب لايكاد يكون إلّاإلى الشخص أو معه،غير مجازفة انتهى 1.
والتحقيق: أ نّا لو سلّمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتاً وحقيقة،واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي،لم نسلّم ما أفاده (قدس سره) في المقام،والوجه فيه:هو أنّ لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال ممّا لا بدّ منه ولا مناص عنه، ضرورة أنّ الاستعمال فعل اختياري للمستعمل فيتوقف صدوره على تصور اللفظ والمعنى،وعليه فللواضع أن يجعل العلقة الوضعية في الحروف بما إذا لوحظ المعنى في مقام الاستعمال آلياً،وفي الأسماء بما إذا لوحظ المعنى استقلالاً،ولا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى آلياً كان أو استقلالياً قيداً للموضوع له،بل هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده،وأ نّه في مقام الاستعمال ممّا لا بدّ منه.