آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴
جلد
4
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴
جلد
4
عنوان کتاب : محاضرات فی أصول الفقه
نام ناشر : موسسه احیاء آثار الامام الخویی
جلد : 4
تعداد صفحات: 570
أنّ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لو لم يكن جائزاً لم يقع في الشريعة المقدّسة مع أ نّه واقع فيها،كما في موارد العبادات المكروهة،حيث قد اجتمع فيها الوجوب مع الكراهة مرّة كما في الصلاة في الحمام والصلاة في مواضع التهمة ونحوهما،والاستحباب معها مرّة اخرى كما في النوافل المبتدأة،ومن الواضح جداً أنّ وقوع شيء في الخارج أدل دليل على إمكانه وجوازه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادة،إمّا من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهىٰ،والجامع هو أ نّه لا يمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد، فكما أ نّه لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد،فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والكراهة فيه…وهكذا.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ من وقوع اجتماع الوجوب والكراهة في شيء واحد يكشف عن أ نّه لا مانع من اجتماع مطلق الأمر والنهي فيه،سواء أكانا إلزاميين أم لا.
ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد عدّ من أمثلة ذلك الصيام في
السفر 1.
وغير خفي أنّ الصوم في السفر ليس مثالاً لمحل الكلام هنا،والوجه في ذلك:
هو أ نّه ليس بمأمور به في غير الموارد المستثناة لا وجوباً ولا استحباباً ليلزم اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة،ضرورة أ نّه غير مشروع فيما عدا تلك الموارد،والاتيان به بقصد الأمر تشريع ومحرّم،فإذن لا وجه لعدّه من أمثلة المقام.وأمّا في موارد استثنائه كما إذا نذر الصوم في السفر فليس بمكروه ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة.
وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن هذا الدليل بوجهين:
الأوّل:بالاجمال.والثاني:بالتفصيل.
أمّا جوابه الاجمالي فإليك نصّه:فبأ نّه لا بدّ من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع،ضرورة أنّ الظهور لا يصادم البرهان.مع أنّ قضية ظهور تلك الموارد،اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد،ولا يقول الخصم بجوازه كذلك،بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين،فهو أيضاً لا بدّ له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها،سيما إذا لم يكن هناك مندوحة كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها،فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً كما لا يخفى 2.
ونوضّح ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الظاهر من هذه الموارد وإن كان اجتماع الحكمين في شيء واحد،
إلّا أ نّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر والتصرف فيه وتأويله من ناحية قيام الدليل القطعي على الامتناع واستحالة اجتماعهما في موضوع واحد،بداهة أنّ الظهور مهما كان لونه لا يمكن أن يصادم البرهان العقلي الذي قام على استحالة الاجتماع بمقتضى المقدّمات المتقدِّمة.
الثانية: أنّ هذه الموارد التي توهم اجتماع حكمين فيها لشيء واحد خارجة عن مورد النزاع في المسألة،والوجه في ذلك:هو أنّ النزاع فيها ما إذا كان الأمر متعلقاً بعنوانٍ كالصلاة مثلاً،والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب،وقد اتفق اجتماعهما في مورد واحد كالصلاة في الدار المغصوبة،فعندئذ يقع النزاع، فالقائل بالجواز يدّعي أنّ تعدد العنوان يكفي للقول بجواز الاجتماع،والقائل بالامتناع يدّعي أ نّه لا يكفي،فالعبرة إنّما هي بوحدة المعنون وتعدده،لا بوحدة العنوان وتعدده.وأمّا إذا فرض تعلق الأمر والنهي بشيء واحد بعنوانٍ،فهو خارج عن محل النزاع،ضرورة أ نّه لا يقول أحد بالجواز فيه حتى من القائلين به فضلاً عن غيرهم،فإنّهم إنّما يقولون بالجواز فيما إذا فرض تعلق كل من الأمر والنهي به بعنوانٍ،والمفروض أنّ في موارد العبادات المكروهة ليس الأمر كذلك،فإنّ النهي في تلك الموارد تعلق بعين ما تعلق به الأمر لا بغيره،والفرق بينهما بالاطلاق والتقييد.
وعلى الجملة: فالأمر في هذه الموارد تعلق بذات العبادات والنهي تعلق بها بعنوان خاص،كالنهي عن الصوم في يوم عاشوراء والنهي عن الصلاة في الحمام مثلاً،فلم يتعلق الأمر بها بعنوانٍ والنهي بعنوان آخر،كانت النسبة بينهما عموماً من وجه،فإذن تلك الموارد خارجة عن محل الكلام في المسألة.
الثالثة: أنّ القائلين بالجواز إنّما يقولون به فيما إذا كانت هناك مندوحة،وأمّا إذا فرض أ نّه لا مندوحة في البين فلا يقولون بالجواز فيه أصلاً،وعليه فلا
يمكن القول بالجواز في مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة وما شاكلهما مما لا بدل له.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فالأمر كما ذكره (قدس سره) وذلك لما تقدّم 1من أنّ المعنون إذا كان واحداً وجوداً وماهية في مورد الاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع،وبما أنّ المعنون في موارد العبادات المكروهة واحد،فلا بدّ من التوجيه والتأويل بعد استحالة كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
وأمّا النقطة الثانية: فهي في غاية الصحّة والمتانة،ضرورة أنّ أمثال هذه الموارد التي تعلق الأمر والنهي فيها بشيء بعنوان واحد،خارجة عن محل النزاع في المسألة،كما تقدّم الكلام في ذلك بشكل واضح.
وأمّا النقطة الثالثة: فيرد عليها ما تقدّم 2من أ نّه لا دخل لقيد المندوحة في جواز الاجتماع أصلاً،لما عرفت من أنّ القول بالجواز يبتني على تعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية،فإذا كان متعدداً كذلك لا مناص من القول به،سواء أكانت هناك مندوحة أم لا،كما أنّ القول بالامتناع يبتني على وحدة المجمع فيه،فإذا كان واحداً كذلك لا مناص من القول به ولو كانت هناك مندوحة،فلا دخل لقيد المندوحة ولا لعدمه في جواز الاجتماع وعدمه أصلاً.
وأمّا جوابه التفصيلي فإليك نصّه:إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء
والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات. ثانيها: ما تعلق النهي به كذلك،ويكون له البدل كالنهي عن الصلاة في الحمام. ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته بل بما هو مجامع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كالصلاة في مواضع التهمة،بناءً على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.
أمّا القسم الأوّل: فالنهي تنزيهاً عنه-بعد الاجماع على أ نّه يقع صحيحاً، ومع ذلك يكون تركه أرجح،كما يظهر من مداومة الأئمة (عليهم السلام) على الترك-إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض،وإن كان مصلحة الترك أكثر،فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين،فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، وإلّا فيتعين الأهم،وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض،كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات،وأرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً،كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع،فإنّ الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به،بخلاف المقام فانّه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض،كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.
وإمّا لأجل ملازمة الترك لعنوانٍ كذلك من دون انطباقه عليه،فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت،إلّافي أنّ الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز،وإنّما يكون في الحقيقة متعلقاً بما يلازمه من العنوان، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة،كما في سائر المكروهات من غير فرق،إلّاأنّ منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل،وفيه رجحان في الترك من دون حزازة في الفعل أصلاً،غاية الأمر كون الترك أرجح.
نعم،يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك،وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز فلا تغفل 1.
توضيح ما أفاده (قدس سره): هو أنّ الكراهة في هذه الموارد ليست كراهة مصطلحة،وهي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل وحزازة ومنقصة فيه،فإنّ الكراهة في المقام لو كانت كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع الفعل في الخارج صحيحاً،ضرورة عدم إمكان التقرب بما هو مبغوض للمولى ومشتمل على مفسدة غالبة،مع أ نّه لا شبهة في وقوعه صحيحاً وإمكان التقرب به،غاية الأمر أنّ تركه أرجح من فعله،مثلاً لا شبهة في صحّة الصوم يوم عاشوراء وأ نّه قابل لأن يتقرب به ومحبوب للمولى في نفسه،وليس النهي المتعلق به ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه،ضرورة أ نّه لو كان ناشئاً عنها لخرج عن قابلية التقرب ولا يمكن الحكم بصحته أبداً،لوضوح أ نّه لا يمكن التقرب بما هو مبغوض للمولى،بل هو ناشٍ عن رجحان تركه الطبيعة المأمور بها مع بقاء الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية كما يظهر من مداومة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على ذلك.
وعليه فلا محالة يكون هذا الرجحان إمّا من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه،فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض،وإن كانت مصلحة الترك غالبة على مصلحة الفعل،حيث إنّه في نفسه محبوب ومشتمل على مصلحة موافقة لغرض المولى،فالصوم يوم عاشوراء كبقية أفراد الصوم، ولكن بما أنّ بني اميّة (عليهم اللعنة) التزموا بصوم هذا اليوم شكراً وفرحاً من الانتصار الظاهر المزعوم،فتركه فيه مخالفة لهم،وهي مطلوبة للشارع،ولأجل
انطباق هذا العنوان-أعني عنوان المخالفة على هذا الترك-يكون ذا مصلحة غالبة على مصلحة الفعل،فإذن يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين،وحيث إنّ المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال، فلا بدّ من الالتزام بالتخيير إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر،وإلّا فيقدّم الأهم على غيره.
وفي المقام بما أنّ الترك أهم من الفعل فيقدّم عليه،وإن كان الفعل أيضاً يقع صحيحاً،لعدم قصور فيه أصلاً من ناحية الوفاء بغرض المولى ومحبوبيته،كما هو الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات،فانّه يصحّ الاتيان بالمهم عند ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك ومحبوبيته في نفسه،بل الأمر كذلك في الواجبات المتزاحمات،فانّه يصحّ الاتيان بالمهم عند ترك الأهم،لا من ناحية الترتب،لما تقدّم في بحث الضد 1من أ نّه (قدس سره) من القائلين باستحالة الترتب وعدم إمكانه،بل من ناحية اشتماله على الملاك والمحبوبية.
وإن شئت فقل: إنّ النهي في أمثال هذه الموارد غير ناشٍ عن مفسدة في الفعل ومبغوضية فيه،بل هو ناشٍ عن مصلحة في الترك ومحبوبية فيه،وهذا إمّا من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه،ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من الفعل،ولكن مع ذلك لا يوجب حزازة ومنقصة فيه أصلاً،فلو كان النهي عنه نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ومبغوضية فيه لكان يوجب حزازة ومنقصة لا محالة،ومعه لا يمكن الحكم بصحته أبداً،لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولىٰ.وإمّا من ناحية ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة خارجاً من دون انطباق ذلك العنوان عليه،كما إذا فرضنا أنّ عنوان المخالفة لبني اميّة (عليهم اللعنة) لا ينطبق على نفس ترك الصوم يوم عاشوراء،بدعوى استحالة انطباق العنوان
الوجودي على الأمر العدمي،وإن كانت هذه الدعوى خاطئة في خصوص المقام، من ناحية أنّ عنوان المخالفة ليس من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية،بل هو عنوان انتزاعي،ومن المعلوم أ نّه لا مانع من انتزاع مثل هذا العنوان من الأمر العدمي،بأن يكون ذلك الأمر العدمي منشأً لانتزاعه.
وعلى هذا فلا مانع من انتزاع عنوان المخالفة من ترك الصوم في هذا اليوم، نعم الذي لا يمكن انتزاع شيء منه هو العدم المطلق لا العدم المضاف،فإنّه ذو أثر شرعاً وعرفاً كما هو واضح.
وكيف كان،فإذا فرض أنّ الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من مصلحة الفعل،لا محالة يكون الترك أرجح منه،فلا فرق عندئذ بين هذه الصورة والصورة الاُولى،أعني ما كان العنوان الراجح منطبقاً على الترك،غاية الأمر أنّ الطلب المتعلق بالترك في هذه الصورة ليس طلباً حقيقياً،بل هو بالعرض والمجاز،إذ أ نّه في الحقيقة متعلق بذلك العنوان الراجح الملازم له،وهذا بخلاف الطلب المتعلق به في الصورة الاُولى كما مرّ.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ المصلحة الموجودة في صوم يوم عاشوراء مثلاً ليست بأنقص من المصلحة الموجودة في صوم بقيّة الأيام بما هو صوم،غاية الأمر أنّ المصلحة الموجودة في تركه حقيقة أو عرضاً أرجح منها،ولأجل ذلك يكون تركه أرجح من فعله،وعندئذ فالنهي المتعلق به كما يمكن أن يكون بمعنى طلب الترك،يمكن أن يكون إرشاداً إلى أرجحية الترك من الفعل،إمّا لأجل انطباق العنوان الراجح عليه،أو لأجل ملازمته له وجوداً وخارجاً.
وعليه فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين،وبما أنّ الترك أرجح فيقدّم على الفعل،كما يظهر ذلك من مداومة الأئمّة (عليهم السلام) على الترك،ولذا لم ينقل منهم (عليهم السلام) ولو بطريق ضعيف أ نّهم (عليهم السلام) صاموا في
يوم عاشوراء،كما أنّ سيرة المتشرعة قد استمرت على ذلك من لدن زمانهم (عليهم السلام) إلى زماننا هذا،هذا تمام ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره).
وقد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بما حاصله:أ نّه إذا فرض اشتمال كل من الفعل والترك على مصلحة،فبما أ نّه يستحيل تعلق الأمر بكل من النقيضين في زمان واحد،لا محالة يكون المؤثر في نظر الآمر إحداهما على فرض كونها أقوى وأرجح من الاُخرى،وعلى تقدير التساوي تسقط كلتاهما معاً عن التأثير،ضرورة استحالة تعلق الطلب التخييري بالنقيضين،فإنّه طلب الحاصل،وعلى هذا الضوء يستحيل كون كلٍّ من الفعل والترك مطلوباً فعلاً.
وبكلمة اخرى:أنّ فرض اشتمال كلٍّ من الفعل والترك على مصلحة يوجب التزاحم بين المصلحتين في مقام تأثيرهما في جعل الحكم،لا التزاحم بين الحكمين في مرحلة الامتثال،لما عرفت من استحالة جعل الحكمين للمتناقضين مطلقاً،أي سواء أكان تعيينياً أو تخييرياً.
ومن هذا القبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما،فإنّه لا يمكن جعل الحكم لكليهما معاً،لا على نحو التعيين ولا على نحو التخيير.أمّا الأوّل،فلأ نّه تكليف بالمحال.وأمّا الثاني،فلأ نّه طلب الحاصل.
ومن هذا القبيل أيضاً المتلازمين الدائميين،فإنّه لا يمكن جعل الحكمين المختلفين لهما،بأن يجعل الوجوب لأحدهما والحرمة للآخر،لا تعييناً ولا تخييراً،لاستلزام الأوّل التكليف بالمحال،والثاني طلب الحاصل.
فالنتيجة من ذلك قد أصبحت:أنّ المزاحمة لا تعقل بين أمرين متناقضين كالفعل والترك،ولا بين ضدّين لا ثالث لهما،ولا بين متلازمين دائميين على الشكل المتقدِّم،بل هذه الموارد جميعاً داخلة في كبرى باب التعارض كما هو ظاهر.
ولأجل ذلك قد تصدى (قدس سره) لجواب آخر وبنى ذلك الجواب على مقدّمة،وهي أ نّه لا شبهة في أنّ الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعبادة مستحبة كصلاة الليل أو نحوها متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي،ونتيجة ذلك لا محالة هي اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي،لاستحالة أن يكون كل من الأمرين محفوظاً بحدّه بعد ما كان متعلقهما واحداً،ولازم الاندكاك والاتحاد هو اكتساب كل منهما من الآخر جهة،فالأمر الوجوبي يكتسب جهة التعبدية من الأمر الاستحبابي،والأمر الاستحبابي يكتسب جهة اللزوم من الأمر الوجوبي،فيتحصل من اندكاك أحدهما في الآخر أمر واحد وجوبي عبادي.
والوجه في ذلك:ما أشرنا إليه من أ نّه إذا كان متعلق كل من الأمرين عين ما تعلق به الأمر الآخر،فلا بدّ من اندكاك أحدهما في الآخر،وإلّا لزم اجتماع الضدّين في شيء واحد وهو محال،هذا في النذر.
وأمّا الأمر الناشئ من قبل الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة كما في موارد النيابة عن الغير،فلا يكون متعلقاً بنفس العبادة المتعلق بها الأمر الاستحبابي ليندك أحدهما في الآخر ويتحد،بل يكون متعلق أحدهما غير متعلق الآخر، فانّ متعلق الأمر الاستحبابي على الفرض هو ذات العبادة،ومتعلق الأمر الناشئ من قبل الاجارة هو الاتيان بها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه، لوضوح أنّ ذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه لم يتعلق بها
غرض عقلائي من المستأجر،ولأجل ذلك تبطل الإجارة لو تعلقت بها.
وعلى هذا الضوء يستحيل اتحاد الأمرين واندكاك أحدهما في الآخر في موارد الاجارة على العبادات،ضرورة أنّ التداخل والاندكاك فرع وحدة المتعلق،والمفروض عدم وحدته في تلك الموارد،فإذن لا يلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد من تعلق الأمر الاستحبابي بذات العبادة والأمر الوجوبي باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.
وبكلمة اخرى:أنّ الأمر الطارئ على أمر آخر لا يخلو من أن يكون متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأوّل أو بغيره،والأوّل كموارد النذر المتعلق بالعبادة المستحبة،فإنّ الأمر الناشئ من ناحية النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة،وعليه فلا محالة يندك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي،فيتولد منهما أمر واحد وجوبي عبادي،ويكتسب كل منهما من الآخر جهة مفقودة فيه،فالأمر الوجوبي بما أ نّه فاقد لجهة التعبد فيكتسب تلك الجهة من الأمر الاستحبابي،والأمر الاستحبابي بما أ نّه فاقد لجهة الالزام فيكتسب تلك الجهة من الأمر الوجوبي،هذا نتيجة اتحاد متعلقهما في الخارج.
والثاني كموارد الاجارة على العبادات المستحبة،فإنّ الأمر الناشئ من ناحية الاجارة في هذه الموارد لم يتعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي وهو ذات العبادة،بل تعلق باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه،وإلّا فلا تترتب على تلك الاجارة فائدة تعود إلى المستأجر،ضرورة أ نّه لو أتى بها لا بذلك الداعي،بل بداعي الأمر المتعلق بذاتها،فلا ترجع فائدته إلى المستأجر أصلاً،بل ترجع إلى نفس العامل.
ومن هنا قد اشتهر بين الأصحاب أنّ الاجارة لو تعلقت بذات العبادة لكانت باطلة،لفرض أنّ الاتيان بذات العبادة بداعي أمرها في الخارج لا يفيد
المستأجر ولا ترجع فائدته إليه،وهي سقوط العبادات عن ذمته ورجوع أجرها وثوابها إليه،بل ترجع إلى نفس النائب والفاعل،ومن المعلوم أنّ حقيقة الاجارة هي تمليك المنفعة للمستأجر بأن تكون المنفعة له،وأمّا إذا فرض عدم كون المنفعة له فلا تتحقق حقيقة الاجارة،بداهة أ نّه لا معنى لاجارة عين مسلوبة المنفعة أو إجارة شخص على أن يعمل لنفسه،فانّ في مثل هذه الموارد لا تتحقق حقيقة الاجارة وواقعها الموضوعي ليقال إنّها صحيحة أو فاسدة،كما هو واضح.
ومن هنا يظهر أنّ الأمر الناشئ من ناحية الاجارة في طول الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة،ويترتب على ذلك أ نّه لا مقتضي للتداخل والاندكاك في موارد الاجارة أصلاً.
وبعد بيان ذلك قال (قدس سره):إنّ الاشكال في اتصاف العبادة بالكراهة في هذا القسم إنّما نشأ من الغفلة عن تحليل نقطة واحدة،وهي أنّ متعلق النهي فيها غير متعلق الأمر،فإنّ متعلق الأمر هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات العبادة،ضرورة أ نّه لا مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها،بل هو التعبد بهذه العبادة فانّه منهي عنه،لما فيه من المشابهة والموافقة لبني اميّة (لعنهم اللّٰه) وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ النهي المتعلق به بما أ نّه تنزيهي فهو غير مانع عن جواز الاتيان بمتعلقه والتعبد به،بل هو بنفسه متضمن للترخيص في الاتيان بمتعلقه بداعي امتثال الأمر المتعلق به.
نعم،لو كان النهي المتعلق به تحريمياً لكان مانعاً عن الاتيان بمتعلقه والتعبد به،وموجباً لتقييد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد المتعلق به النهي،بداهة أنّ الحرام يستحيل أن يكون مصداقاً للواحب،وعليه فلا محالة يقيد إطلاق دليل الأمر بغير هذا المورد.
وملخص ما أفاده:هو أنّ متعلق النهي في هذا القسم بما أ نّه مغاير لمتعلق الأمر فلا يكون منافياً له،فانّه في طول الأمر ويكون كموارد الاجارة المتعلقة بالعبادات المستحبة،فكما أنّ فيها متعلق الأمر الناشئ من قبل الاجارة غير متعلق الأمر الاستحبابي،فكذلك في المقام،فانّ متعلق النهي غير متعلق الأمر كما مرّ،وليس المقام من قبيل النذر المتعلق بها،لما عرفت من أنّ الأمر الناشئ من قبل النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي.
ثمّ إنّ نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) تمتاز عن نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في نقطة واحدة،وهي أنّ نظرية شيخنا الاُستاذ ترتكز على كون النهي في المقام في طول الأمر،فانّه متعلق بايقاع العبادة بداعي أمرها الاستحبابي أو الوجوبي المتعلق بذاتها،فلا يكون متعلقه متحداً مع متعلقه ليلزم اجتماع الضدّين في شيء واحد،كما أ نّه غير ناشئ عن وجود مفسدة في الفعل أو عن وجود مصلحة في تركه،بل الفعل باقٍ على ما هو عليه من المحبوبية والمصلحة،بل هو ناشئ عن مفسدة في التعبد بهذه العبادة،لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين.ويترتب على هذا أنّ النهي على وجهة نظره (قدس سره) نهي مولوي حقيقي ناشٍ عن مفسدة في التعبد بها.
ونظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ترتكز على كون الترك كالفعل مشتملاً على مصلحة أقوى من مصلحة الفعل،إمّا لأجل انطباق عنوان راجح عليه،أو لأجل ملازمته معه وجوداً وخارجاً،فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين.
ولنأخذ بالمناقشة على نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فانّ ما أفاده من الكبرى الكلية،وهي عدم جريان التزاحم في الموارد المتقدِّمة وإن كان صحيحاً،ضرورة أنّ تلك الموارد من موارد المعارضة بين الدليلين في مقام
الاثبات على وجه التناقض أو التضاد،لا من موارد التزاحم بين الحكمين،لما عرفت من استحالة جعلهما في هذه الموارد مطلقاً ولو على نحو التخيير،إلّاأنّ تلك الكبرى لا تنطبق على المقام،فإنّه ليس من صغرياتها ومصاديقها،وذلك لأنّ المقام إنّما يكون من إحدى صغريات هذه الكبرى إذا فرض قيام مصلحة بطبيعي صوم يوم عاشوراء،فعندئذ لا ثالث بين فعله وتركه،ومن المعلوم أ نّه إذا لم يكن بينهما ثالث فلا محالة لا تعقل المزاحمة بينهما كما تقدّم.
ولكنّ الأمر ليس كذلك،فانّ المصلحة إنّما قامت بحصة خاصة منها وهي الحصة العبادية،لا بمطلق وجود الفعل في الخارج والترك،وعليه فلهما ثالث وهو الحصة غير العبادية،فانّه لا مصلحة في فعلها ولا في تركها،فإذن لا مانع من جعل الحكمين لهما،غاية الأمر عندئذ تقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال فيدخل في كبرى مسألة المستحبين المتزاحمين،لفرض أنّ المكلف عندئذ قادر على تركهما والاتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة،وغير قادر على الجمع بينهما،كما هو مناط التزاحم في كل متزاحمين،سواء أكانا واجبين أم مستحبين.
وعلى الجملة: فلا شبهة في أنّ المستحب إنّما هو خصوص الحصة الخاصة من الصوم،وهي الحصة التي يعتبر فيها قصد القربة،وأمّا ترك هذه الحصة بخصوصها فلا رجحان فيه،بل الرجحان في ترك الامساك مطلقاً والافطار خارجاً،فإنّ فيه مخالفة لبني اميّة،فالمكلف إذا صام بقصد القربة أو أفطر فقد أتى بأمر راجح،وأمّا إذا أمسك بغير قربة فقد ترك كلا الأمرين الراجحين.
وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين استحباب الفعل واستحباب الترك،لفرض تمكن المكلف من ترك امتثال كليهما معاً،والاتيان بمطلق الفعل من دون قصد القربة،وغير متمكن من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد باب التزاحم.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الكبرى وهي عدم إمكان جريان التزاحم بين النقيضين ولا بين الضدّين لا ثالث لهما ولا بين المتلازمين الدائميين، وإن كان تاماً،إلّاأ نّه لا ينطبق على المقام كما عرفت.
وبعد بيان ذلك نأخذ بالمناقشة على جوابه (قدس سره) عن هذا القسم، وهي أنّ ما ذكره (قدس سره) في باب الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة في موارد النيابة عن الغير غير تام في نفسه،وعلى فرض تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه،فلنا دعويان:
الاُولى:عدم تمامية ما أفاده في موارد الاجارة المتعلقة بعبادة الغير.
الثانية:أ نّه على تقدير تماميته لا ينطبق على المقام.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد حققنا في محلّه 1أنّ الأوامر المتصورة في موارد الاجارة المتعلقة بعبادة الغير أربعة:
الأوّل: الأمر المتوجه إلى شخص المنوب عنه المتعلق بعبادته،كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك.وهذا الأمر يختص به ولا يعم غيره،ويسقط هذا الأمر عنه بموته أو نحوه.ولا يفرق في صحة الاجارة بين بقاء هذا الأمر، كما إذا كان المنوب عنه حياً ومتمكناً من الامتثال بنفسه،كمن نسي الرمي وذكره بعد رجوعه إلى بلده،أو كان حيّاً وعاجزاً عن الامتثال،كما في الاستنابة في الحج عن الحي فإنّ التكليف كما يسقط بموت المكلف كذلك يسقط بعجزه، لاستحالة التكليف في هذا الحال،لأنّه من التكليف بالمحال،وهو مستحيل من الحكيم.وكيف كان،فبقاء هذا الأمر وعدم بقائه وسقوطه بالاضافة إلى صحة الاجارة على حد سواء،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.
ومن ذلك يظهر أنّ هذا الأمر أجنبي عن النائب بالكلية،فلا يكون متوجهاً إليه أصلاً،بداهة أ نّه لا يعقل توجه تكليف شخصٍ إلى آخر،فإنّه خاص به ويسقط بموته أو نحوه،ولا يمكن توجهه إلى غيره،وهذا واضح.
وعلى هذا الضوء فقد تبيّن أنّ هذا الأمر مباين للأمر الناشئ من قبل الاجارة المتوجه إلى النائب،ولا يمكن دعوى اتحاده معه أبداً،لفرض أ نّهما مختلفان بحسب الموضوع،فيكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر،فان موضوع الأوّل هو المنوب عنه،وموضوع الثاني هو النائب،ومع هذا كيف يعقل دعوى الاتحاد بينهما واندكاك أحدهما في الآخر،ضرورة أ نّه فرع وحدة الموضوع،كما هو واضح.
الثاني: الأمر المتوجه إلى شخص النائب المتعلق بعباداته كالصلاة ونحوها، ومن المعلوم أنّ هذا الأمر أجنبي عن الأمر الأوّل بالكلية،لفرض أ نّهما مختلفان بحسب الموضوع والمتعلق،فان موضوع الأمر الأوّل هو المنوب عنه، وموضوع الأمر الثاني هو النائب،ومتعلقه هو فعل المنوب عنه،ومتعلق الثاني هو فعل النائب نفسه،ومع هذا الاختلاف لا يعقل اتحاد أحدهما مع الآخر أبداً كما هو ظاهر،كما أنّ هذا الأمر أجنبي عن الأمر الناشئ من ناحية الاجارة المتوجه إليه،وذلك لاختلافهما بحسب المتعلق،فان متعلق هذا الأمر هو فعل النائب،ومتعلق ذاك الأمر هو فعل المنوب عنه،غاية الأمر أ نّه ينوب عنه في إتيانه في الخارج،ومع هذا الاختلاف لا يعقل دعوى الاتحاد بينهما أصلاً،وهذا واضح.
الثالث: الأمر المتوجه إلى النائب المتعلق باتيان العبادة نيابة عن الغير، وهذا الأمر الاستحبابي متوجه إلى كل مكلف قادر على ذلك،فيستحب للانسان أن يصلي أو يصوم نيابة عن أبيه أو جدّه أو امّه أو استاذه أو صديقه
وهكذا…ثمّ إنّه من الواضح جداً أنّ هذا الأمر الاستحبابي كما أ نّه أجنبي عن الأمر الأوّل،كذلك أجنبي عن الأمر الثاني،ولا يعقل لأحدٍ دعوى اتحاده مع الأمر الأوّل أو الثاني.
الرابع: الأمر المتوجه إلى النائب الناشئ من قبل الاجارة المتعلق باتيان العبادة نيابة عن غيره،فهذا الأمر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي، فانّ الأمر الاستحبابي كما عرفت متعلق باتيان العبادة نيابة عن الغير، والمفروض أنّ هذا الأمر الوجوبي متعلق بعين ذلك،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً،وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام باندكاك أحد الأمرين في الآخر واتحادهما في الخارج،ضرورة أ نّه لا يمكن بقاء كلا الأمرين بحدّه بعد فرض كون متعلقهما واحداً وجوداً وماهية،فلا محالة يندك أحدهما في الآخر، ويتحصل منهما أمر واحد وجوبي عبادي،فإن كلاً منهما يكتسب من الآخر جهة مفقودة فيه،فيكتسب الأمر الوجوبي من الأمر الاستحبابي جهة التعبد، ويكتسب الأمر الاستحبابي من الأمر الوجوبي جهة اللزوم،وهذا معنى اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما خارجاً.
وقد تحصل من ذلك:أنّ الأمر الرابع يتحد مع الأمر الثالث،لاتحادهما بحسب الموضوع والمتعلق،ولايعقل اتحاده مع الأمر الأوّل أو الثاني،لاختلافهما في الموضوع أو المتعلق كما عرفت.
ومن هنا يظهر أنّ النائب يأتي بالعمل بداعي الأمر الناشئ من قبل الاجارة المتوجه إليه،لا بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه،ضرورة استحالة أن يكون الأمر المتوجه إلى شخص داعياً لشخصٍ آخر بالاضافة إلى الاتيان بمتعلقه،فان داعوية الأمر لشخص بالاضافة إلى ذلك إنّما تكون فيما إذا كان ذلك الأمر متوجهاً إليه،وإلّا فيستحيل أن يكون داعياً له،وهذا من الواضحات.
ولا فرق في داعوية الأمر إليه بين أن يكون الاتيان بمتعلقه من قبل نفسه،أو من قبل غيره،كما في موارد الاجارة،لوضوح أنّ العبرة إنّما هي بتوجه الأمر إلى شخص ليكون داعياً له إلى العمل،لا بكون متعلقه عمل نفسه أو عمل غيره،وهذا ظاهر.
ومن هنا قلنا إنّ صحة الاجارة لا تتوقف على بقاء ذلك الأمر ليأتي النائب بالعمل بداعيه،كما أ نّه لا يأتي به بداعي الأمر المتوجه إليه المتعلق باتيان عباداته من قبل نفسه،بداهة استحالة أن يكون ذلك الأمر داعياً إلى الاتيان بمتعلقه من قبل غيره ونيابة عنه،بل هو داعٍ إلى الاتيان به من قبل نفسه كما هو واضح.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ النائب يأتي بعمل المنوب عنه بداعي الأمر المتوجه إليه الناشئ من ناحية الاجارة المتعلق باتيانه نيابةً عنه،وبما أنّ هذا الأمر تعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي،فلا مناص من اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما خارجاً،فتكون النتيجة أمراً واحداً وجوبياً عبادياً.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الأمر الاستحبابي في موارد الاجارة متعلق بذات العبادة،والأمر الوجوبي الناشئ من ناحيتها متعلق باتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه،خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،وذلك لما عرفت من أنّ الأمر المتوجه إلى المنوب عنه يستحيل أن يكون داعياً للنائب إلى الاتيان بمتعلقه،بداهة أنّ الأمر المتوجه إلى شخص يمتنع أن يكون داعياً لشخص آخر،فإنّ الداعي لكل مكلف هو الأمر المتوجه إلى شخصه كما سبق،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الأمر الاستحبابي المتوجه إلى النائب ليس منحصراً بأمر واحد،بل هو أمران:أحدهما متعلق باتيان العمل من قبل نفسه،ومن
المعلوم أ نّه لا يعقل أن يتوهم أحد اتحاد هذا الأمر مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة،لاختلافهما في المتعلق،فانّ متعلق هذا الأمر الاستحبابي هو ذات العبادة،ومتعلق الأمر الوجوبي هو إتيانها من قبل الغير ونيابة عنه.
وثانيهما متعلق باتيان العمل من قبل غيره ونيابة عنه،وهذا الأمر الاستحبابي متحد مع الأمر الوجوبي في المتعلق،فيكون متعلقهما واحداً وجوداً وماهيةً، وهو إتيان العمل من قبل الغير،ومع هذا الاتحاد لا مناص من اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي.
ومن هنا تظهر نقطة اشتباه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وهي غفلته عن الأمر الاستحبابي المتعلق باتيان العبادات من قبل الغير،وتخيّل أ نّه منحصر بالأمر الاستحبابي الأوّل،والمفروض أ نّه متعلق باتيانها من قبل نفسه لا من قبل الغير،ولأجل ذلك حكم باستحالة اتحاده مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة واندكاكه فيه،لعدم وحدة متعلقهما كما مرّ.
وعلى هدىٰ هذا البيان قد تبيّن أ نّه لا فرق بين موارد الاجارة المتعلقة بعبادة مستحبة وموارد النذر المتعلق بها،فكما أنّ في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبله،فكذلك في موارد الاجارة، غاية الأمر أ نّه في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة مع الأمر الوجوبي،لفرض أ نّه متعلق بها كما عرفت،وفي موارد الاجارة يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق باتيانها من قبل الغير ونيابةً عنه مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الاجارة،لا الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة،ولكن هذا لا يوجب التفاوت فيما هو المهم في المقام،كما هو واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي أنّ ما أفاده (قدس سره) على تقدير تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه،والوجه في ذلك:هو أنّ ما أفاده (قدس سره) من
أنّ متعلق النهي في هذا القسم مغاير لمتعلق الأمر،لا يمكن المساعدة عليه من وجوه:
الأوّل: أنّ هذا خلاف مفروض الكلام في المقام،فانّه فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي واحداً لا متعدداً،وإلّا فلا كلام فيه،ضرورة أنّ محل البحث والكلام هنا بين الأصحاب في فرض كون متعلقهما واحداً،وأمّا إذا كان متعدداً فهو خارج عن محل الكلام والبحث،ولا إشكال فيه أصلاً.
الثاني: أنّ ما أفاده (قدس سره) خلاف ظاهر الدليل،لوضوح أنّ الظاهر من النهي عن الصوم في يوم عاشوراء هو أ نّه متعلق بذات الصوم وأ نّه منهي عنه،ودعوى أ نّه متعلق بجهة التعبد به لا بذاته خلاف الظاهر،فلا يمكن الالتزام به بلا قرينة وشاهد.وكذا الحال في النهي المتعلق بالنوافل المبتدأة في بعض الأوقات،فانّ الظاهر منه هو أ نّه متعلق بذات تلك النوافل،وأ نّها منهي عنها لا بجهة التعبد بها،ضرورة أنّ حمل النهي على ذلك خلاف الظاهر،فلا يمكن أن يصار إليه بلا دليل.
الثالث: أ نّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ النهي متعلق بجهة التعبد بها وإتيانها بقصد القربة لا بذاتها،فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره)،والوجه فيه ما حققناه من أنّ قصد القربة كبقية أجزاء العبادة مأخوذ في متعلق الأمر، غاية الأمر أ نّه على وجهة نظره (قدس سره) مأخوذ في متعلق الأمر الثاني دون الأمر الأوّل،وعلى وجهة نظرنا مأخوذ في متعلق الأمر الأوّل.
وعلى هذا الضوء فدعوى أنّ النهي في هذه الموارد تعلق بجهة التعبد بالعبادات لا بذاتها،لاتدفع محذور لزوم اجتماع الضدين في شيء واحد،ضرورة أنّ قصد القربة إذا كان مأخوذاً في متعلق الأمر يستحيل أن يتعلق به النهي، لاستحالة كون شيء واحداً مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
الرابع: لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ قصد القربة غير مأخوذ في متعلق الأمر مطلقاً،أي لا في متعلق الأمر الأوّل ولا في متعلق الأمر الثاني،فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره)،وذلك ضرورة أنّ النهي لم يتعلق بخصوص قصد القربة فحسب،ليكون متعلقه غير متعلق الأمر،بل تعلق بحصة خاصة من الصوم،وهي الحصة العبادية التي يعتبر فيها قصد القربة.مثلاً المنهي عنه في المقام هو خصوص الصوم العبادي في يوم عاشوراء في مقابل ما إذا كان المنهي عنه هو مطلق الامساك،لا أنّ المنهي عنه هو خصوص قصد القربة دون ذات العبادة،بداهة أ نّه لا يعقل أن يكون خصوص قصدها منهياً عنه كما هو واضح.فإذن لا محالة يكون المنهي عنه هو إتيانها بقصد القربة،وعليه فمحذور لزوم كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه باقٍ على حاله،ضرورة أنّ الاتيان بها بقصد القربة إذا كان منهياً عنه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به،لاستحالة أن يكون شيء واحداً محبوباً ومبغوضاً معاً.
فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت:أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) غير تام صغرى وكبرى.إذن فالصحيح هو ما ذكرناه من أنّ النهي هنا ليس ناشئاً عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه،بل هو باقٍ على ما هو عليه من المحبوبية،ولذا يكون الاتيان به صحيحاً،بل هو لأجل أرجحية الترك من الفعل باعتبار انطباق عنوان راجح عليه أو ملازمته له خارجاً ووجوداً،كما تقدّم ذلك بشكل واضح.هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.
وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا كان للعبادة المنهي عنها بدل،فيمكن أن يجاب عنه بعين هذا الجواب بلا زيادة ونقيصة.
ويمكن أن يجاب عنه بشكل آخر:وهو أنّ النهي في هذا القسم متعلق بحصة خاصة من الواجب،كالنهي عن الصلاة في الحمام وفي مواضع التهمة وما شاكل
ذلك،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى أنّ هذا النهي نهي تنزيهي وليس بتحريمي.
وعلى ضوء ذلك يتبيّن أنّ هذا النهي لايوجب تقييد إطلاق الطبيعة المأمور بها بغير هذه الحصة المنهي عنها،بيان ذلك:
أنّ النهي المتعلق بحصة خاصة من العبادة على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون إرشاداً إلى اقتران هذه الحصة بالمانع،بمعنى أنّ الخصوصية الموجبة لكونها حصة مانعة عنها،وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس وفي الميتة وما شاكل ذلك،فانّ هذه النواهي جميعاً إرشاد إلى مانعية هذه الاُمور عن الصلاة وتقيدها بعدمها،وقد ذكرنا غير مرّة أنّ أمثال هذه النواهي الواردة في أبواب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى المانعية بمقتضى الفهم العرفي،كما تقدّم الكلام فيها من هذه الناحية بصورة واضحة في أوّل بحث النواهي 1كما أ نّه لا شبهة في ظهور الأوامر الواردة في أبواب العبادات والمعاملات في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية،وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه النواهي كثيرة في كلا البابين،كما أنّ هذه الأوامر كذلك.
وعلى الجملة:فالأمر والنهي وإن كانا في أنفسهما ظاهرين في المولوية فلا يمكن حملهما على الارشاد بلا قرينة،إلّاأنّ هذا الظهور ينقلب في هذه النواهي والأوامر الواردتين في أبواب العبادات والمعاملات،فهما ظاهران فيها في الارشاد دون المولوية بمقتضى المتفاهم العرفي،كما هو واضح.
وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّ هذه النواهي لا محالة تكون مقيّدة
لاطلاق العبادة والمعاملة وموجبة لتقييدهما بغير الحصة المنهي عنها،فلا تنطبقان عليها،ومن هنا لم يستشكل أحد-فيما نعلم-في دلالة هذا النهي على الفساد في العبادات والمعاملات،والوجه فيه ما عرفت من أ نّها توجب تقييد المأمور به بغير هذه الحصة المنهي عنها،فهذه الحصة خارجة عن حيز الأمر ولا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها،ومع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بصحتها أبداً، لفرض أنّ الصحة تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به،وأمّا إذا فرض أ نّه لا ينطبق عليه فلا يمكن الحكم بصحته أصلاً كما هو ظاهر،كما أ نّها توجب تقييد المعاملة بغير هذه الحصة،ولازم ذلك هو أنّ اقترانها بها مانع عن صحتها،فلا يمكن الحكم بصحتها عند تخصصها بهذه الخصوصية المنهي عنها.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أ نّه لا شبهة في أنّ هذا القسم من النهي يوجب تقييد العبادة أو المعاملة بغير الفرد المنهي عنه،ومعه لا يكون هذا الفرد من أفرادها ولأجل ذلك يكون فاسداً.
الثاني: أن يكون لبيان حكم تحريمي فحسب،وذلك كالنهي عن الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب،أو النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة…وهكذا، فهذه النواهي تدل على حرمة متعلقها في الخارج ومبغوضيته،وأنّ الشارع لا يرضى بايجاده فيه أصلاً،ومن الواضح جداً أنّ أمثال هذه النواهي تنافي إطلاق المأمور به وتوجب تقييده بغير هذا الفرد المنهي عنه،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ مقتضى إطلاق المأمور به ترخيص المكلف في إيجاده في ضمن أيّ فرد من أفراده شاء المكلف إيجاده،ومقتضى هذا النهي عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج،وعدم جواز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه، ضرورة استحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب،وعليه فلا بدّ من رفع اليد عن
إطلاق المأمور به وتقييده بغير الفرد المنهي عنه،بداهة أنّ الشارع بنهيه عنه قد سدّ طريق امتثال المأمور به به،ومنع عن إيجاده في ضمنه،ومعه كيف يعقل بقاء إطلاقه على حاله الذي لازمه هو ترخيص الشارع المكلف في إيجاده في ضمن أيّ فرد من أفراده شاء إيجاده في ضمنه.
وإن شئت قلت: إنّ العقل وإن حكم من ناحية الاطلاق بجواز تطبيقه على أيّ فرد من أفراده شاء المكلف تطبيقه عليه،إلّاأنّ من المعلوم أنّ حكمه بذلك منوط بعدم منع الشارع عن بعض أفراده،ومع منعه عنه لا حكم له بذلك أصلاً،بل يحكم بعكس هذا،أعني بعدم جواز تطبيقه عليه وتقييد إطلاقه بغيره،ضرورة استحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب،ولا فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصلياً أو تعبدياً،فكما أنّ هذا النهي يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التعبدي،فكذلك يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التوصلي بعين هذا الملاك،وهو استحالة كون الحرام مصداقاً للواجب،وهذا واضح.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ هذا القسم من النهي يوجب تقييد إطلاق الواجب بغير الفرد المنهي عنه،من دون فرق فيه بين أن يكون الواجب تعبدياً أو توصلياً.
الثالث: أن يكون النهي تنزيهياً ملازماً للترخيص في متعلقه،ففي مثل ذلك لا موجب لتقييد الواجب بغيره حتّى إذا كان عبادياً،فضلاً عما إذا كان غير عبادي،بيان ذلك:أنّ المولى إذا نهى عن الصلاة في الحمام مثلاً وكان نهيه تنزيهياً وملازماً للترخيص في الاتيان بها،فمعناه جواز امتثال الواجب بالاتيان بالصلاة في الحمام وصحّتها،والجمع بين ذلك وبين النهي التنزيهي يقتضي أن يكون تطبيق الطبيعي الواجب على هذه الحصة في نظر الشارع مرجوحاً بالاضافة
إلى تطبيقه على سائر الحصص،وإلّا فالحصة بما أ نّها وجود للطبيعة المأمور بها لا نقصان فيها أصلاً،ومن هنا لو لم يتمكن المكلف من الاتيان بغير هذه الحصة لزمه الاتيان بها جزماً،فهذا يكشف عن اشتراكها مع سائر الحصص في الوفاء بالغرض،وعدم تقييد الواجب بغيرها.
ومن هذا البيان يظهر أ نّه لا وجه لما ذكره غير واحد من حمل النهي في هذا القسم على الارشاد إلى أقلّية الثواب بالاضافة إلى سائر الحصص والأفراد، وجه الظهور:أنّ تخصص الطبيعة المأمور بها بهذه الخصوصية الموجبة للنهي التنزيهي،إن كان مرجوحاً في نظر الشارع فالنهي مولوي لا محالة،وإلّا فلا موجب للارشاد إلى اختيار غير ما تعلق به من الأفراد.
ومما ذكرناه يظهر حال الأمر الاستحبابي المتعلق بحصة خاصة من الطبيعة الواجبة،فانّه بمعنى استحباب تطبيق الواجب على تلك الحصة،وكونها أفضل الأفراد المجامع مع جواز تطبيقه على سائر الأفراد،ومن هنا لا يوجب مثل هذا الأمر تقييداً في إطلاق المأمور به،سواء في ذلك الواجب وغيره،وتفصيل الكلام يأتي في بحث المطلق والمقيد 1إن شاء اللّٰه تعالى.
وأمّا القسم الثالث: وهو ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه بالنهي التنزيهي نسبة العموم من وجه،فقد ظهر الحال فيه مما تقدّم وحاصله:
أ نّه لا إشكال فيه في صحة العبادة على القول بالجواز-أي جواز اجتماع الأمر والنهي-ولا يكون دليل النهي عندئذ موجباً لتقييد إطلاق دليل المأمور به، لفرض تعدد متعلقي الأمر والنهي حينئذ في مورد الاجتماع من ناحية،وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر من ناحية اخرى،وعلى هذا فلا موجب للتقييد أصلاً.
وأمّا على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً،فربّما يتخيل فساد العبادة فيه من ناحية توهم التنافي بين صحتها في مورد الاجتماع وكونها مكروهة فيه،لتضاد الأحكام وعدم اختصاصه بالوجوب والحرمة،بل يعم جميع الأحكام الالزامية وغيرها،فإذن فرض كون العبادة مكروهةً ينافي كونها مصداقاً للواجب أو المستحب،وعليه فلا بدّ من تقييد إطلاق دليل الأمر بغير موارد الكراهة،كما هو الحال فيما إذا كان النهي تحريمياً.
ولكن هذا خيال خاطئ وغير مطابق للواقع،والوجه في ذلك:هو أنّ النهي عن حصة خاصة من العبادة لا يوجب تقييد إطلاقها بغيرها إذا كان تنزيهياً كما هو المفروض في المقام،فانّ النهي التنزيهي بما أ نّه ملازم للترخيص في إيجاد متعلقه في الخارج فلا ينافي الرخصة في انطباق الطبيعة المأمور بها عليه،وهذا بخلاف ما إذا كان النهي تحريمياً،فانّه ينافي إطلاق المأمور به على ما تقدّم بيان جميع ذلك بصورة واضحة فلا نعيد.وإن شئت قلت:إنّ القسم الثالث على القول بالامتناع يدخل في القسم الثاني ويكون من صغرياته فيجري فيه جميع ما ذكرناه فيه.
ما عن جماعة من أنّ المولى لو أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص،فلو خاطه في ذلك المكان لعدّ عاصياً للنهي عن الكون فيه، ومطيعاً لأمر الخياطة.
وغير خفي أنّ هذا الدليل غير قابل للاستدلال به،وذلك أمّا أوّلاً: فلأنّ الغرض من الخياطة يحصل بايجادها في الخارج،سواء أكان إيجادها في ذلك المكان المخصوص المنهي عنه أم لا،وسواء فيه القول باتحاد الخياطة مع الكون
فيه فرضاً أو القول بعدم اتحادهما معه. وأمّا ثانياً: فلأن متعلق الأمر هنا غير متعلق النهي،فانّ متعلق الأمر خياطة الثوب،ومتعلق النهي هو الكون في ذلك المكان،ومن المعلوم أنّ أحدهما غير الآخر وجوداً وماهيةً،وعليه فلا مانع من أن يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقاً للنهي،ولا يلزم من القول بالامتناع في المسألة القول بالامتناع هنا أبداً كما هو واضح.
ما عن المحقق القمي (قدس سره) 1من أنّ الأمر على الفرض تعلق بطبيعة كالصلاة مثلاً،والنهي تعلق بطبيعة اخرى كالغصب مثلاً أو نحوه،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الفرد الذي يكون مجمعاً لعنوانين في مورد الاجتماع مقدّمة لوجود الطبيعي في الخارج الذي يكون واجباً بوجوب نفسي، وعلى هذا الضوء يتوقف القول بالامتناع في المسألة على الالتزام بأمرين:
الأوّل:بوجوب المقدّمة.الثاني:بتنافي الوجوب الغيري مع النهي النفسي.
ولكن كلا الأمرين خاطئ،أمّا الأمر الأوّل:فقد ذكر (قدس سره) أنّ مقدمة الواجب ليست بواجبة ليكون تنافٍ بين وجوب هذا الفرد الذي يكون مقدمة للطبيعي الواجب وبين حرمته.وأمّا الأمر الثاني:مع تسليم أنّ مقدمة الواجب واجبة مطلقاً،فلما حققناه من أ نّه لا تنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي أصلاً ولا مانع من اجتماعهما في شيء واحد.
وعلى الجملة:فعلى فرض أنّ النهي يسري إلى هذه الحصة التي تكون مجمعاً
لهما،باعتبار انحلال هذا النهي وسريانه إلى جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها،فمع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين وهما الوجوب والحرمة في شيء واحد،لأنّ ما هو محرّم وهو الفرد ليس بواجب،وما هو واجب وهو الطبيعة المأمور بها ليس بمنهي عنه،وعلى فرض أنّ الفرد واجب بوجوب غيري،فمع ذلك لا يلزم اجتماع الضدّين،لعدم التنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي كما مرّ،فإذن لا مانع من القول بالجواز في المسألة.
وغير خفي ما فيه: وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) يرتكز على ركيزتين، وكلتاهما خاطئة.
أمّا الركيزة الاُولى: وهي كون الحصة والفرد مقدمةً للطبيعة المأمور بها، فواضحة الفساد،ضرورة أنّ الفرد ليس مقدمةً للطبيعي،بل هو عينه وجوداً وخارجاً ولا تعقل المقدمية بينهما،لوضوح أ نّها إنّما تعقل بين شيئين متغايرين في الوجود،وعليه فالحصة الموجودة في مورد الاجتماع بما أ نّها تكون محرّمة بنفسها ومنهياً عنها،فلا يعقل أن تكون مصداقاً للواجب،وهذا معنى القول بالامتناع،بداهة أ نّه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشيء واحد،كذلك يمتنع أن يكون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به.
وأمّا الركيزة الثانية: وهي كون الوجوب الغيري لا ينافي النهي النفسي، فهي أيضاً واضحة الفساد،ضرورة أنّ الوجوب الغيري على القول به لا يجتمع مع النهي النفسي،فالمقدّمة إذا كانت محرّمة لا يعقل أن تكون واجبة،فلا محالة يختص الوجوب بغيرها من المقدّمات،كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب 1
بشكل واضح.ولكنّ الذي يسهّل الخطب هو أ نّه لا مقدمية في البين،وعليه فإذا فرض أنّ الحصة في مورد الاجتماع محرّمة كما هو مفروض كلامه (قدس سره) فلا يعقل أن تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها،بداهة أنّ المحرّم لا يمكن أن يكون مصداقاً للواجب،وهذا معنى امتناع اجتماع الأمر والنهي.هذا إذا كان مراده من المقدمة ما هو ظاهر كلامه (قدس سره).
وأمّا لو كان مراده (قدس سره) منها هو أنّ الفرد لايتصف بالوجوب باعتبار أنّ متعلق الوجوب هو صرف وجود الطبيعة،ومن المعلوم أ نّه لا يسري إلى أفراده وحصصه،وهذا بخلاف النهي،فانّ متعلقه مطلق الوجود،ولذا ينحل بانحلال أفراده ويسري إلى كل واحد منها،وعلى هذا الضوء فلا يجتمع الوجوب والحرمة هنا في شيء واحد،فإنّ الحصة الموجودة في مورد الاجتماع لا تتصف بالوجوب على الفرض،وإنّما هي متصفة بالحرمة فحسب،فإذن لا يجتمع الوجوب والحرمة فيها ليكون محالاً.
فيرد عليه أوّلاً: أنّ هذا خلاف مفروض كلامه (قدس سره) فانّ المفروض فيه هو أنّ الفرد مقدمة لوجود الطبيعي في الخارج،لا أ نّه لا يتصف بالوجوب باعتبار أنّ متعلقه هو صرف الوجود. وثانياً: أنّ الأمر وإن كان كذلك،فانّ الحصة لا تتصف بالوجوب،إلّاأ نّها إذا كانت محرّمة يستحيل أن تقع مصداقاً للواجب،وعليه فاذا فرض أنّ المجمع في مورد الاجتماع محرّم ومنهي عنه، يستحيل أن ينطبق عليه الواجب،وهذا معنى القول بالامتناع،لما عرفت من أ نّه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشيء واحد،كذلك يمتنع أن يكون الحرام مصداقاً للواجب.
فالنتيجة: أنّ الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة هو ما
ذكرناه من وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً وتعدده كذلك،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع،وعلى الثاني من القول بالجواز على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.
إلى هنا قد تبيّن أنّ العمدة للقول بالجواز هي الوجه الأوّل،وأمّا الوجه الثاني والثالث فهما لا يرجعان إلى معنىً محصل أصلاً،كما أنّ الوجوه الاُخر التي ذكرت لهذا القول لا ترجع إلى معنى معقول،ولأجل ذلك لا نتعرض لتلك الوجوه،لوضوح فسادها وعدم ارتباطها للقول بالجواز أصلاً.
ونتائج البحث عن العبادات المكروهة عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ ما يمكن أن يستدل به للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة مطلقاً إنّما هو موارد العبادات المكروهة،بدعوى أ نّه لو لم يجز الاجتماع لم يمكن تعلق النهي بتلك العبادات،ضرورة عدم اختصاص المضادة بين الوجوب والحرمة فحسب،بل تعم جميع الأحكام من الالزامية وغيرها،فإذن تعلق النهي بها ووقوعه في الخارج أقوى برهان على إمكانه وعدم استحالته، وإلّا لم يقع.
الثانية: أنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد أجاب عن هذا الدليل بصورة إجمالية،ولكن قد عرفت النقد في بعض جهات جوابه،ثمّ أجاب عنه بصورة تفصيلية،حيث قسّم تلك العبادات إلى ثلاثة أقسام،وأجاب عن كل واحد واحد منها مستقلاً،ولا بأس بجوابه هذا في الجملة.
الثالثة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد أورد على ما أجاب به صاحب الكفاية (قدس سره) عن القسم الأوّل بما ملخصه:أنّ التزاحم لا يعقل بين النقيضين،ولا بين الضدّين اللذين لا ثالث لهما،وبما أنّ الصوم يوم عاشوراء
وتركه متناقضان،فلا يمكن جعل الحكم لهما معاً لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال،بل هما يدخلان في باب المعارضة فيرجع إلى قواعده وأحكامه.
ولكن قد ذكرنا أنّ ما أفاده (قدس سره) من الكبرى-وهي استحالة وقوع المزاحمة بين النقيضين والضدين اللذين لا ثالث لهما-وإن كان في غاية المتانة والاستقامة،إلّاأنّ تطبيق تلك الكبرى على المقام غير صحيح،وذلك لوجود أمر ثالث في البين وهو الامساك بدون قصد القربة فانّه لا موافقة فيه لبني اميّة ولا مخالفة لهم،فإذن لا مانع من جعل الحكمين لهما اصلاً،كما تقدّم ذلك بشكل واضح.
الرابعة: أنّ النهي في القسم الأوّل لا يخلو من أن يكون إرشاداً إلى محبوبية الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة عليه أو ملازمته له،أو يكون بمعنى الأمر،أعني به ما يكون نهياً صورة وشكلاً وأمراً واقعاً وحقيقةً.
الخامسة: أنّ النهي في القسم الثاني نهي مولوي،ويترتب على هذا أنّ الكراهة في المقام كراهة مصطلحة وليست بمعنى أقلّية الثواب،ومع ذلك لا تكون منافية لاطلاق العبادة فضلاً عن غيرها،غاية الأمر أنّ تطبيق الطبيعة المأمور بها على هذه الحصة المنهي عنها مرجوح بالاضافة إلى تطبيقها على غيرها من الحصص والأفراد،كما تقدّم.
السادسة: أ نّه لا فرق في القسم الثالث من أقسام العبادات المكروهة بين القول بالامتناع والقول بالجواز،فعلى كلا القولين تكون العبادة صحيحة في مورد الاجتماع،أمّا على القول بالجواز فهي على القاعدة،وأمّا على القول بالامتناع فلأجل ما ذكرناه في القسم الثاني من هذه الأقسام في وجه صحة العبادة باعتبار أنّ هذا القسم على هذا القول داخل فيه،ويكون من صغرياته كما تقدّم.
لتمييز موضع البحث هنا عن المباحث المتقدمة
و لكنّه باختياره ارتكب المحرّم وأتى بالواجب في ضمنه،وذلك كمن كان قادراً على الاتيان بالصلاة مثلاً في خارج الأرض المغصوبة وغير ملزم بالدخول فيها،ولكنه باختياره دخل فيها وصلّى،فعندئذ يقع الكلام في صحة هذه الصلاة وفسادها من ناحية أ نّها هل تتحد مع المحرّم خارجاً في مورد الاجتماع أم لا ؟ وهذه النقطة هي محل البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي، وقد تقدّم الكلام فيها بشكل واضح 1.
و لكنّه قادر على ترك الحرام،وذلك كما إذا توقف الوضوء أو الغسل مثلاً على التصرف في أرض الغير،بأن يكون الماء في مكان يتوقف التوضؤ أو الاغتسال به على التصرف فيها،فيدور عندئذ أمر المكلف بين أن يترك الواجب أو يرتكب المحرم أو يتخير بينهما،لعدم تمكنه من امتثال كليهما معاً،وهذه النقطة هي التي تدور عليها بحث التزاحم،وقد تقدّم الكلام فيها بصورة مفصّلة 2.
وذلك كمن كان محبوساً في الدار المغصوبة مثلاً،سواء أكانت مقدمته باختياره أو بغير اختياره،وبعد ذلك لا يتمكن من الخروج عنها فطبعاً عندئذ يضطر إلى الصلاة فيها،وهذه النقطة هي محل البحث في المقام دون غيرها.
وبعد ذلك نقول:الكلام فيها يقع في موضعين:
الأوّل:في الاضطرار الناشئ بغير سوء اختيار المكلف.
الثاني:في الاضطرار الناشئ بسوء اختياره.
أمّا الموضع الأوّل فالكلام فيه يقع في موردين:
الأوّل:في حكم الفعل المضطر إليه نفسه.
الثاني:في حكم العبادة الواقعة معه.
أمّا الأوّل: فلا إشكال في أنّ الاضطرار يوجب سقوط التكليف عن الفعل المضطر إليه ولا يعقل بقاؤه،ضرورة استحالة توجيه التكليف إلى المضطر،لأنّه تكليف بما لا يطاق وهو محال عقلاً.
هذا،مضافاً إلى ما دلّت عليه عدّة من الروايات[1].
وأمّا الكلام في الثاني فيقع في عدّة مقامات:
الأوّل:في بيان ما هو المستفاد من تعلق النهي بعبادة أو معاملة،وهذا وإن كان خارجاً عن محل الكلام فانّه في الاضطرار إلى ارتكاب المحرّم لا غيره،إلّا أ نّه لا بأس بالاشارة إليه لأدنى مناسبة.الثاني:في صحة العبادة في فرض عدم اتحادها مع المحرّم خارجاً.الثالث:في صحة العبادة في فرض اتحادها معه كذلك.
أمّا المقام الأوّل: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ النهي في العبادات كقوله (عليه السلام):
«لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»أو«في الميتة»أو«في الحرير»أو«في الذهب»أو «في النجس» 1أو ما شاكل ذلك،أو في المعاملات كقوله (عليه السلام):«لاتبع ما ليس عندك» 2وقوله (عليه السلام):«نهى النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم)
عن بيع الغرر» 1ونحوهما،ظاهر في الارشاد إلى مانعية هذه الاُمور عن العبادات أو المعاملات،ومعنى مانعيتها هو اعتبار عدمها فيها،ومن المعلوم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ المأمور به هو حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الاُمور وكذا الممضاة من المعاملة.
ويترتب على ذلك:أنّ الصلاة فيما لا يؤكل أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك ليست بمأمور بها،ومن المعلوم أنّ الاتيان بغير المأمور به لايجزئ عن المأمور به ولا يوجب سقوطه،فإذن لا محالة يقع فاسداً،بل لو أتى بها مع أحد هذه الموانع بقصد الأمر لكان تشريعاً ومحرّماً،وكذا لو فعل معاملةً غرريةً أو باع ما ليس عنده،فلا محالة تقع فاسدةً لفرض أ نّها غير ممضاة شرعاً.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ هذه النواهي إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة مع أحد هذه الاُمور،فيكون البطلان مدلولاً مطابقياً لها،ولا تدل على حكم تكليفي أصلاً،ولذا لا يكون إيجادها في الخارج من المحرّمات في الشريعة المقدّسة،فلا يكون لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس محرّماً ومبغوضاً.نعم، لبس الحرير والذهب من المحرّمات،إلّاأنّ حرمته غير مستفادة من هذا النهي، بل هي مستفادة من دليل آخر،وكيف كان فهذا واضح،وأنّ هذه النواهي من هذه الناحية-أي من ناحية كونها إرشاداً إلى مانعية تلك الاُمور-لا تدل على حرمة إيجادها في الخارج أبداً.نعم،يمكن استفادة حرمة بعضها من دليل آخر، وهذا لا صلة له بدلالة تلك النواهي عليها كما لا يخفى.
وعلى ضوء هذا البيان يترتب أنّ المكلف لو اضطرّ إلى لبس ما لا يؤكل في الصلاة أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك،فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط
الصلاة،لعدم تمكنه من الاتيان بها واجدةً لجميع الأجزاء والشرائط،ومعه لا محالة يسقط الأمر عنها،وإلّا لكانت تكليفاً بالمحال.وأمّا وجوب الفاقد لهذا القيد فهو يحتاج إلى دليل آخر،فإن دلّ دليل على وجوبه أخذنا به،وإلّا فلا وجوب له أيضاً.
وعلى الجملة: فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عن كل مركب إذا تعذر أحد أجزائه أو قيوده من الوجودية أو العدمية باضطرار أو نحوه،ولايعقل بقاء الأمر به في هذا الحال،لاستلزامه التكليف بغير المقدور وهو محال.وأمّا وجوب الباقي من الأجزاء والقيود فهو يحتاج إلى دليل آخر،فإن كان هناك دليل عليه فهو،وإلّا فلا وجوب له أيضاً.
نعم،قد ثبت وجوب الباقي في خصوص باب الصلاة من جهة ما دلّ من الروايات على أ نّها لا تسقط بحال 1،هذا مضافاً إلى قيام الضرورة والاجماع القطعي على ذلك.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل: أنّ الأوامر والنواهي بطبعهما ظاهرتان في المولوية،وحملهما على غيرها من الارشاد أو نحوه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خاصة تدل عليه، ولكن هذا الظهور قد انقلب في الأوامر والنواهي المتعلقتين بحصة خاصة من العبادات والمعاملات،فانّهما في هذه الموارد ظاهرتان في الارشاد،فالأوامر إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية والنواهي إلى المانعية.فتلخص أنّ ورودهما في أبواب العبادات والمعاملات قرينة عامّة على أ نّهما للارشاد.
الثاني: أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب عند تعذره بتعذر أحد أجزائه أو قيوده.وأمّا وجوب الباقي فهو يحتاج إلى دليل آخر ولا دليل عليه إلّا في باب الصلاة فحسب.
وأمّا المقام الثاني: فلا ينبغي الشك في صحة العبادة في مورد الاجتماع هنا، والوجه في ذلك ما ذكرناه هناك من أنّ من ثمرة المسألة-أعني مسألة الاجتماع – هي صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً،وقد تقدّم أنّ القول بالجواز يرتكز على ركيزتين:
الاُولى:أن يكون المجمع في مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهيةً.
الثانية:أن لا يسري الحكم من متعلق النهي إلى متعلق الأمر،وعلى هذا فإذا كانت العبادة صحيحة في مورد الاجتماع مع بقاء الحرمة وفعليتها،وأ نّها لا تكون مانعة عن صحتها،فما ظنك فيما إذا سقطت تلك الحرمة من ناحية الاضطرار أو الاكراه أو نحوهما،كما هو المفروض في مقامنا هذا.وعلى الجملة:
فقد ذكرنا أنّ العبادة كالصلاة مثلاً صحيحة على القول بالجواز مطلقاً،ومجرد ملازمة الحرام معها وجوداً لا يمنع عن صحتها بعد ما كان وجود أحدهما في الخارج مبايناً لوجود الآخر،فيكون نظير ما إذا استلزم الصلاة في مكانٍ النظر إلى الأجنبية فكما أ نّه غير مانع عن صحة الصلاة في ذلك المكان فكذلك في المقام،هذا حال ما إذا لم يكن المكلف مضطراً إلى ارتكاب المحرّم وصلّى باختياره في أرض مغصوبة.
وأمّا إذا كان مضطراً إلى ارتكابه والتصرف فيها،فلا إشكال في صحة صلاته،بل لو قلنا بالفساد هناك-إمّا من ناحية سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر،أو من ناحية أنّ مجرد ملازمة الحرام معها وجوداً في الخارج مانع عن صحتها،بدعوى اعتبار الحسن الفاعلي في صحة العبادة،
ومع ملازمة وجود الحرام معها خارجاً لا يكون صدورها حسناً-فلا نقول به في المقام،وذلك لأنّ المانع عن الحكم بالصحة إنّما هو الحرمة الواقعية من جهة أحد هذين الأمرين،والمفروض أ نّها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً،لفرض أ نّه رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً،فإذن لا مانع من الصحة أصلاً.
ومن هنا قلنا بصحة العبادة على القول بالامتناع في صورة النسيان أو نحوه بعين هذا الملاك،وهو أ نّه رافع للتكليف واقعاً،فإذا كانت الحرمة مرفوعة واقعاً من جهة النسيان أو نحوه لا مانع عندئذ من الحكم بالصحة أصلاً.وكيف كان،فلا إشكال في صحة العبادة في المقام ولو قلنا بفسادها على القول بالجواز في المسألة،وسيأتي بيان ذلك 1بشكل واضح إن شاء اللّٰه تعالى.
وأمّا المقام الثالث: وهو ما إذا كان المأمور به متحداً مع المنهي عنه في الخارج،فهل يصحّ الاتيان بالعبادة المضطر إليها المتحدة مع الحرام خارجاً أم لا ؟
وجهان بل قولان،المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأوّل، ولكن اختار جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2القول الثاني.
وقد استدلّ للمشهور:بأنّ الموجب لتقييد إطلاق المأمور به بغير الحصة المنهي عنها إنّما هو حرمة تلك الحصة،وإلّا فلا مقتضي لتقييده أصلاً، والمفروض في المقام أنّ حرمتها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً، فلا حرمة بحسب الواقع ونفس الأمر،ومن المعلوم أ نّه مع سقوطها كذلك
لا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر لاثبات كون هذه الحصة من مصاديق المأمور به وأفراده.
لتوضيح ذلك نأخذ مثالاً:وهو ما إذا اضطرّ المكلف إلى الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب فتوضأ أو اغتسل به،ففي أمثال هذا لا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل،فانّ المانع عن صحتهما إنّما هو حرمة التصرف في هذا الماء، حيث إنّها لا محالة توجب تقييد إطلاق دليليهما بغير هذه الحصة-أعني التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب-فهذه الحصة خارجة عن دائرة الأمر ومبغوضة للشارع فلا يعقل انطباق المأمور به عليها،لاستحالة كون المحرّم والمبغوض مصداقاً للواجب والمحبوب،ولازم ذلك لا محالة تقييد المأمور به بغيرها.فإذن النتيجة هي أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في هذا الماء بالمطابقة،فلا محالة يدل على تقييد الوضوء أو الغسل بغيره بالالتزام،لفرض أنّ هذا التقييد لازم حرمة التصرف فيه ومتفرع عليها،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء والوجود والحجية،فلا يعقل بقاء الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية،فالدلالة الالتزامية كما أ نّها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود فلا يعقل وجودها بدون وجود تلك الدلالة،كذلك تابعة لها في الحجية فلا يمكن بقاؤها على صفة الحجية مع فرض سقوط الدلالة المطابقية عنها.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ في المقام بما أنّ الدلالة المطابقية-وهي دلالة النهي على حرمة التصرف في هذا الماء-قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه،فلا محالة تسقط دلالته الالتزامية أيضاً،وهي الدلالة على تقييد الوضوء أو الغسل بغير الوضوء أو الغسل بهذا الماء،فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل لاثبات كون هذا
الفرد مأموراً به.
وبكلمة اخرى:أ نّه لا شبهة في أنّ المانع عن صحة الوضوء أو الغسل ليس هو التصرف في مال الغير بما هو تصرف في مال الغير،ضرورة أ نّه لو أذن في التصرف فيه فلا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به،بل المانع عنها إنّما هو حرمة التصرف فيه،لوضوح أ نّه إذا كان محرّماً يستحيل أن يكون مصداقاً للواجب،وأمّا إذا سقطت تلك الحرمة من جهة الاضطرار أو نحوه واقعاً كما هو المفروض في المقام،فلا مانع عندئذ من كون الوضوء أو الغسل به مصداقاً للمأمور به،لفرض أنّ التصرف فيه وقتئذ جائز واقعاً كالتصرف في الماء المملوك أو المباح،فإذا كان جائزاً كذلك فلا مانع من انطباق المأمور به عليه.
ومن هنا قوّينا صحة الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب في صورة النسيان إذا كان عن قصور لا عن تقصير،والوجه فيه ما تقدّم من أنّ النسيان كالاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فحسب،ومن المعلوم أ نّه إذا ارتفعت الحرمة واقعاً ارتفع ما هو معلول لها أيضاً،لاستحالة بقاء المعلول من دون علّته،وهو تقييد المأمور به بغير هذا الفرد المنهي عنه،وما نحن فيه من هذا القبيل.
وعلى ضوء ذلك قد تبين أ نّه لا فرق في صحة الوضوء أو الغسل بهذا الماء بين أن يكون للمكلف مندوحة،بأن يتمكن من أن يتوضأ أو يغتسل بماء آخر مباح أو مملوك له،أو لا يكون له مندوحة.
والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ حرمة التصرف في هذا الماء على الفرض قد سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه،ومن المعلوم أ نّه مع سقوط الحرمة عنه لا فرق بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في أمر آخر،وعليه فتمكن المكلف من استعمال هذا الماء في شيء آخر والتوضؤ أو الاغتسال بماء
مباح أو مملوك له لا يوجب لزوم صرفه في هذا الشيء والتوضؤ أو الاغتسال بماء آخر،لفرض أنّ التصرف فيه جائز واقعاً،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق فيه بين أنحاء التصرف.
نعم،يمكن ذلك فيما لو أذن المالك في التصرف في ماله من جهة خاصة دون جهة اخرى،فانّه على هذا وجب الاقتصار في التصرف فيه على تلك الجهة فحسب،إلّاأنّ ذلك أجنبي عن المقام بالكلّية،لفرض أنّ الاضطرار في المقام تعلق بطبيعي التصرف في هذا الماء لا بالتصرف فيه بجهة خاصة كما هو واضح.
تتلخص نتيجة استدلال المشهور في نقطتين رئيسيتين:
الاُولى:أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.
الثانية:أنّ الاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فقط كما هو الحال في الجهل فانّه رافع للتكليف ظاهراً ولا ينافي ثبوته واقعاً.
وقد أورد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1على النقطة الاُولى بما حاصله:
هو أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أنواع:
الأوّل: أن يكون إرشاداً إلى مانعية شيء واعتبار عدمه في المأمور به، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس والميتة والحرير وما شاكل ذلك،فاعتبار عدم هذه الاُمور في المأمور به كالصلاة مثلاً،يكون مدلولاً مطابقياً لهذا النهي وليس مدلولاً إلتزامياً كما هو ظاهر.
الثاني: أن يكون نهياً نفسياً تحريمياً،ولكن استفادة اعتبار قيد عدمي فيه
– أي في المأمور به-من ناحية مزاحمته مع المنهي عنه،بمعنى أنّ المكلف لا يتمكن من امتثال كليهما في الخارج فلا محالة تقع المزاحمة بينهما،وعلى هذا فبناءً على تقديم جانب النهي على جانب الأمر لا محالة يقيد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد.
الثالث: هذه الصورة بعينها،ولكن استفادة التقييد ليست من ناحية مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه،بل هو من ناحية الدلالة الالتزامية،بمعنى أنّ النهي يدل على الحرمة بالمطابقة وعلى التقييد بالالتزام.
أمّا النوع الأوّل، فلا إشكال في دلالته على الفساد،وذلك لأنّ مقتضى إطلاق هذا النهي هو اعتبار هذا القيد العدمي في المأمور به مطلقاً وفي جميع أحوال المكلف،ولازم ذلك سقوط الأمر عنه عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد لهذا القيد،كما لو اضطرّ المكلف إلى لبس الحرير أو الذهب أو الميتة في الصلاة،هذا ما تقتضيه القاعدة،ولكن في خصوص باب الصلاة قد دلّ الدليل على عدم سقوطها بحال،ومردّ هذا الدليل إلى إلغاء هذه القيود عند العجز وعدم التمكن من إتيانها.
وأمّا النوع الثاني، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه،فلا يدل على الفساد حتى فيما إذا تمكن المكلف من ترك الحرام بناءً على إمكان الترتب وصحته،أو بناءً على إمكان تصحيح العبادة بالملاك فضلاً عما إذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار،كما في المقام،وذلك لأنّ سقوط الحرمة يستلزم سقوط التقييد لا محالة،لفرض أنّ منشأه ليس دليلاً لفظياً له عموم أو إطلاق ليتمسك بعمومه أو إطلاقه لاثبات أ نّه باقٍ ولم يسقط،بل منشؤه مزاحمة الحرمة مع الوجوب،فإذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ارتفعت المزاحمة ومع ارتفاعها لا يعقل بقاؤه،بداهة أ نّه لا يعقل بقاء المعلول مع
سقوط علته وارتفاعها،وكذا الحال فيما إذا كانت الحرمة ثابتة في الواقع ولكنّها غير منجّزة،لوضوح أ نّها ما لم تكن منجّزة فلا تزاحم الوجوب ولا تكون معجّزاً للمكلف عن الاتيان بالمأمور به ومعذّراً له في تركه لتكون موجبة لتقييده بغير هذا الفرد.
فالنتيجة:أنّ الحرمة إذا سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه-كما فيما نحن فيه،أو فرض أ نّها وإن لم تسقط في الواقع بل هي باقية إلّاأ نّها غير منجّزة – فلا تمنع عن انطباق الطبيعي المأمور به على هذا الفرد الملازم وجوداً مع الحرام،لأنّ المانع عنه إنّما هو الحرمة المنجّزة الموجبة لتقييده بغيره بناءً على تقديمها على الوجوب كما هو المفروض،وأمّا إذا سقطت فلا مانع أصلاً.
وأمّا النوع الثالث، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن الدلالة الالتزامية،فقد أفاد (قدس سره) بما هو توضيحه:أنّ التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة،فلا سبق للحرمة على التقييد ليكون التقييد معلولاً لها،وعليه فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عند تعذر قيده،ضرورة استحالة بقاء الأمر بحاله مع تعذره،وإلّا لزم التكليف بالمحال،ومقتضى القاعدة الثانوية هو سقوط التقييد ولزوم الاتيان بالباقي من أجزاء الصلاة وشرائطها،والوجه في ذلك:هو أنّ الحرمة والوجوب متضادان،وقد تقدّم في بحث الضد 1بشكل واضح أنّ وجود الضد ليس مقدمةً لعدم الضد الآخر،ضرورة أنّ المقدمية تقتضي تقدم المقدمة على ذيها بالرتبة،والمفروض أ نّه لا تقدم ولا تأخر بين وجود ضد وعدم الآخر،كما أ نّه لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما،لأنّ تقدم شيء على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك مصحح له ولا يكون جزافاً،والمفروض أ نّه
لا ملاك له في المقام.فالنتيجة:أنّ عدم الضد ووجود ضد آخر في رتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما أبداً،فإذا كان الأمر كذلك يستحيل أن يكون أحدهما متفرعاً على الآخر وفي مرتبة متأخرة عنه.
وعلى ضوء ذلك قد تبين أ نّه لا يمكن أن يكون النهي دالاً على الحرمة في مرتبة وعلى التقييد وعدم الوجوب في مرتبة اخرى متفرعةً عليها،لما عرفت من عدم الاختلاف بينهما في الرتبة أصلاً،وعليه فلا محالة تكون دلالة النهي على كليهما في رتبة واحدة.
ونتيجة ذلك:هي أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر عن المركب عند تعذر قيد من قيوده دون سقوط التقييد،لفرض أنّ دلالة النهي عليه لم تكن متفرعة على دلالته على الحرمة،بل دلالته عليه كانت في عرض دلالته عليها.
ويترتب على ذلك:أ نّه إذا سقطت دلالته على الحرمة لضرورة فلا مقتضي لسقوط دلالته على التقييد أصلاً،لفرض أ نّها غير متفرعة عليها لتنتفي بانتفائها،بل هي في عرضها،فإذن مقتضى القاعدة الأوّلية هو عدم سقوط التقييد وأ نّه باقٍ بحاله،والاضطرار إنّما يوجب سقوط الحرمة فحسب،فانّ بقاءها معه غير معقول،لاستلزام بقائها في هذا الحال التكليف بالمحال،وأمّا التقييد فلا موجب لسقوطه.ومن المعلوم أ نّه لا منافاة بين سقوط الحرمة وبقاء التقييد أصلاً،بل هو مقتضى إطلاق دليله كما لا يخفى.
نعم،قد دلّ الدليل على سقوطه في خصوص باب الصلاة،ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بالباقي من أجزائها وشرائطها.
ولنأخذ بالنظر على ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما أفاده في النوع الأوّل من تلك النواهي،فهو في غاية الاستقامة،كما
تقدم ذلك غير مرّة فلا نعيد.
وأمّا ما أفاده في النوع الثاني منها،فأيضاً الأمر كذلك،فانّه لا إشكال في سقوط التقييد عندئذ-أي عند سقوط النهي واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه-ومعه لا شبهة في صحة العبادة،بل قد ذكرنا سابقاً أنّ العبادة صحيحة في فرض بقاء الحرمة وعدم سقوطها بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه،فضلاً عما إذا سقطت الحرمة.
وأمّا ما أفاده في النوع الثالث،فلا يمكن تصديقه بوجه،والصحيح فيه هو ما ذكره المشهور من أنّ دلالة النهي على التقييد متفرعة على دلالته على الحرمة فتنتفي بانتفائها،والوجه في ذلك:هو أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أ نّه لا تقدم ولا تأخر بين عدم ضد ووجود ضد آخر وأ نّهما في مرتبة واحدة،وإن كان في غاية المتانة والصحة بحسب مقام الواقع والثبوت، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ تقدم شيء على آخر في الرتبة بعد ما كان مقارناً معه زماناً لا يكون جزافاً،وإلّا لأمكن تقدم كل شيء على آخر بالرتبة،بل كان بملاكٍ كتقدم العلة على المعلول رتبةً بعد ما كانت مقارناً معه زماناً،فانّه قضية حق علّيتها عليه،وتقدم الشرط على المشروط كذلك،فانّه قضاء لحق الشرطية…وهكذا،ولا ملاك لتقدم عدم ضد على وجود ضد آخر رتبة أو بالعكس،كما بيّنا ذلك في بحث الضد بشكل واضح فلاحظ 1.
ولكنّه لا يتم بحسب مقام الاثبات والدلالة،بيان ذلك:هو أ نّه لا شبهة في أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير كقوله (عليه السلام)«لا يحل
مال امرئ مسلم إلّابطيب نفسه» 1ونحوه لا تدل على التقييد المزبور وعدم الوجوب إلّابالدلالة الالتزامية،ضرورة أنّ مدلولها المطابقي هو حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه لا ذلك التقييد وعدم الوجوب،ولكن بما أنّ الحرمة تنافي الوجوب ولا تجتمع معه فلا محالة ما دلّ على الحرمة بالمطابقة يدل على عدم الوجوب بالالتزام،نظير ما إذا أخبر أحد عن قيام زيد مثلاً، فانّ إخباره هذا يدل على قصد الحكاية عن قيامه بالمطابقة وعلى عدم قعوده بالالتزام،فانّ كل دليل يدل على ثبوت شيء لشيء بالمطابقة-سواء أكان إخباراً أو إنشاءً-يدل على عدم ثبوت ضدّه له بالالتزام،فلو دلّ دليل على حرمة شيء فلا محالة يدل بالالتزام على عدم وجوبه،وهذا من الواضحات الأوّلية.
ويترتب على ذلك:أنّ عدم التقدم بين عدم ضد ووجود ضد آخر أو بالعكس وعدم تفرّع أحدهما على الآخر بحسب مقام الواقع والثبوت،لا ينافي الترتب والتفرع بينهما بحسب مقام الاثبات والدلالة،بل قد عرفت أنّ ذلك من الواضحات،بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية وفي مرتبة متأخرة عنها وإن لم يكن بين ذاتي المدلولين-أعني المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي-تقدم وتأخر في مقام الثبوت والواقع أصلاً،فان ذلك لا يمنع عن كون دلالة الدليل على أحدهما في مرتبة سابقة على دلالته على الآخر، بل الأمر طبعاً كذلك في جميع الاُمور المتلازمة في الوجود خارجاً،فكلّما دلّ الدليل على وجود أحد المتلازمين بالمطابقة دلّ على وجود الآخر بالالتزام،
فتكون دلالته على وجود أحدهما في مرتبة متقدمة على دلالته على وجود الآخر،مع أ نّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.
وكذا ما دلّ على وجود المعلول بالمطابقة،لا محالة يدل على وجود العلة بالالتزام،فتكون دلالته على وجود المعلول في مرتبة سابقة على دلالته على وجود العلة،مع أنّ وجوده متأخر رتبة عن وجودها،ولذا قسّموا الدليل إلى دليل إنّي ودليل لمّي،والمراد بالأوّل هو ما كان المعلول واقعاً في طريق إثبات العلة،ويكون العلم بها معلولاً للعلم به،أو كان أحد المعلولين واقعاً في طريق إثبات المعلول الآخر،والمراد بالثاني هو ما كانت العلة واقعة في طريق إثبات المعلول.
فالنتيجة من ذلك: هي أنّ عدم التقدم والتأخر بين شيئين رتبةً بحسب مقام الواقع والثبوت لا يوجب عدم التقدم والتأخر بينهما بحسب مقام الاثبات والكشف أيضاً،لوضوح أ نّه لا مانع من أن يكون كشف أحدهما والعلم به متقدّماً رتبةً على كشف الآخر والعلم به،بل لا مانع من أن يكون كشف المتأخر رتبةً متقدماً على كشف المتقدم كذلك،كما هو الحال في الدليل الإنّي، بل هذا من البديهيات الأوّلية،ضرورة أنّ كل دليل دلّ على وجود شيء لا محالة يدل على عدم ضدّه ووجود لازمه أو ملزومه بالالتزام.
نعم،المستحيل إنّما هو كون الشيء المتأخر رتبةً واسطة وعلة لوجود الشيء المتقدم كذلك،أو كون أحد المتساويين في الرتبة علةً لوجود المتساوي الآخر، فان هذا غير معقول،لاستلزام ذلك تقدم الشيء على نفسه،وأمّا كون الشيء المتأخر واسطةً للعلم بالمتقدم أو كون أحد المتساويين واسطةً للعلم بالمتساوي الآخر فلا محذور فيه أبداً.فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب ليست متفرعة على دلالته على الحرمة بل
هي في عرضها،لا يرجع بظاهره إلى معنىً معقول أصلاً.
لحدّ الآن قد تبيّن أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة،وليست في عرض دلالته عليها،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ الدلالة المطابقية لو سقطت عن الحجية لسقطت الدلالة الالتزامية أيضاً،وبما أنّ في المقام قد سقطت الدلالة المطابقية وهي دلالة النهي على الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه،فلا محالة تسقط الدلالة الالتزامية أيضاً وهي دلالته على التقييد بمقتضى قانون التبعية.فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل الوجوب لاثبات كون هذه الحصة مصداقاً للمأمور به،وفي المثال المتقدم لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل عندئذ لاثبات جوازه في هذا الماء،أعني الماء المغصوب، فيكون المقام نظير ما إذا ورد التخصيص على دليل النهي من أوّل الأمر،فانّه لا محالة يوجب اختصاص الحرمة بغير موارد تخصيصه،وعليه فلا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر بالاضافة إلى تلك الموارد أصلاً.
ومن ذلك يظهر فساد ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أيضاً من أنّ الدلالة الالتزامية ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية،وإنّما هي تابعة لها في الحدوث،فإذن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها،ووجه الظهور ما عرفت على نحو الاجمال من أنّ الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحدوث والحجية،فلا يعقل بقاؤها على
صفة الحجية والاعتبار مع سقوط الدلالة المطابقية عنها،وقد تقدّم الكلام في بيان الجواب عن ذلك نقضاً وحلاً في بحث الضد 1بصورة واضحة،فلا نعيد.
فالنتيجة قد أصبحت إلى الآن:أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من صحة العبادة بعد سقوط الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً.
ولكن قد يناقش في ذلك: بأنّ الحرمة وإن ارتفعت واقعاً من جهة الاضطرار أو غيره،إلّاأنّ ملاكها وهو المفسدة باقٍ لعدم الدليل على ارتفاعه، فانّ الدليل إنّما قام على ارتفاع الحرمة الفعلية لأجل عروض ما يوجب ارتفاعها وهو الاضطرار،وأمّا ملاكها فلا دليل على ارتفاعه أصلاً،ودليل رفع الحكم لا يكون دليلاً عليه بنفسه،ضرورة أ نّه لا يدل إلّاعلى رفع الحكم فحسب،وأمّا رفع الملاك فلا.وعليه فبما أنّ الفعل في هذا الحال-أي حال الاضطرار-أيضاً مشتمل على ملاك التحريم،فلا يصلح أن يتقرب به،فإذن لا يمكن التمسك باطلاق دليل الأمر.
وبكلمة واضحة أنّ لنا في المقام دعويين:
الاُولى:أنّ ملاك التحريم باقٍ بحاله والمرفوع بأدلة الاضطرار إنّما هو الحرمة فحسب.
الثانية:أ نّه مع هذا الملاك لا يمكن الحكم بصحة العبادة والتقرب بها.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ حديث الرفع أو ما شاكله حيث قد ورد في مورد الامتنان،فلا محالة يدل على أنّ رفع الحكم لاضطرارٍ أو نحوه مستند إلى ذلك-أي الامتنان-وقضية ذلك ثبوت المقتضي والملاك له،وإلّا فلا معنى
لكونه وارداً في مورد الامتنان،ضرورة أنّ معنى وروده في ذلك المورد هو أ نّه لولا الامتنان لكان الحكم ثابتاً،وهذا قرينة واضحة على أنّ المقتضي له تام ولا قصور فيه أصلاً،وإلّا فلا يكون في رفعه امتنان.
وعلى الجملة:فلا شبهة في أنّ رفع الحكم امتناناً على الاُمّة في نفسه قرينة واضحة على ثبوت المقتضي والملاك له،وإلّا فلا منّة في رفعه أصلاً،كما هو واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: فلا ريب في أنّ الفعل إذا كان مشتملاً على مفسدة فلا يمكن التقرب به،ضرورة أنّ المفسدة مانعة عن التقرب بها وبدونه لا يمكن الحكم بصحته.
ولكن هذه الدعوى خاطئة جداً،وذلك لأنّ الفعل المضطر إليه وإن كان مشتملاً على ملاك التحريم ومقتضيه كما هو قضية رفعه امتناناً،إلّاأنّ ذلك الملاك بما أ نّه غير مؤثر في المبغوضية فلا يمنع عن صحة العبادة،فانّ المانع عنها كما عرفت إنّما هو المبغوضية والحرمة،والمفروض أ نّهما قد سقطتا من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً.ومجرد اشتمال الفعل على مفسدة غير مؤثرة فيهما لا أثر له أصلاً،ومن الواضح جداً أنّ الفعل إذا كان جائزاً واقعاً كالتصرف في الماء المغصوب عند الاضطرار إليه،فلا مانع من التمسك باطلاق الواجب لاثبات كونه مصداقاً له.
وعلى الجملة: فالتصرف في الماء المغصوب بعد سقوط الحرمة عنه واقعاً جائز كذلك،ومعه لا مانع من التوضؤ أو الاغتسال به،ومجرد اشتماله على مفسدة بلا تأثيرها في حرمته ومبغوضيته غير مانع عن التقرب بايجاد الطبيعة المأمور بها في ضمنه،هذا حال غير الصلاة من العبادات.
وأمّا الصلاة في الأرض المغصوبة في حال الاضطرار فيقع الكلام في حكمها
في مقامين:
الأوّل:فيما إذا لم يتمكن المكلف من الخروج عنها في الوقت،بمعنى أ نّه لا مندوحة له.
الثاني:فيما إذا تمكن من الخروج عنها فيه بأن تكون له مندوحة في الجملة.
أمّا المقام الأوّل: فهل يجوز له الاتيان بالصلاة فيها مع الركوع والسجود، أو يجب الاقتصار على الايماء والاشارة بدلاً عنهما،باعتبار أنّ الركوع والسجود تصرف زائد على مقدار الضرورة فلا يجوز ؟ قولان.
ذهب جماعة إلى القول الثاني،بدعوى أ نّه لا بدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار، فانّ الزائد عليه غير مضطر إليه فلا محالة لا يجوز،وبما أنّ الركوع والسجود تصرف زائد على ذاك المقدار فلا يسوغ،فإذن وظيفته الايماء والاشارة بدلاً عنهما.
هذا، وأمّا شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1فقد سلّم أنّ الأمر كذلك بنظر العرف ولم يكن كذلك بنظر العقل،فله (قدس سره) هنا دعويان:
الاُولى:أنّ الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف.
الثانية:أ نّهما ليسا بتصرف زائد عند العقل.
أمّا الدعوى الاُولى: فاستظهر أنّ الركوع والسجود يعدّان عرفاً من التصرف الزائد،باعتبار أ نّهما مستلزمان للحركة وهي تصرف زائد بنظر العرف،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ العبرة في صدق التصرف الزائد
على مقدار الضرورة بما أ نّها بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية،فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على الايماء والاشارة بدلاً عنهما.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ العقل يحكم بأن كل جسم يشغل المكان المغصوب بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق،ومن الواضح جداً أنّ ذلك المقدار لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله،ضرورة أ نّه سواء أكان على هيئة القائم أو القاعد أو الراكع أو الساجد أو ما شاكل ذلك،يشغل مقداراً خاصاً من المكان،وهذا لا يتفاوت زيادةً ونقيصةً بتفاوت تلك الأوضاع والأحوال،وعليه فكونه على هيئة الراكع أو الساجد ليس تصرفاً زائداً بنظر العقل على كونه على هيئة القائم أو القاعد…وهكذا،وهذا واضح.
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) هي وجوب الاقتصار على الايماء والاشارة في الصلاة وعدم جواز الاتيان بالركوع والسجود.
ولكنّ الصحيح هو القول الأوّل،والوجه في ذلك:هو أنّ كل جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه،ومن الطبيعي أنّ مقدار تحيزه وشغله المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله الهندسية من المثلث والمربع وما شاكلهما،بداهة أنّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه، ولا تختلف تلك النسبة زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه، مثلاً إذا اضطرّ الانسان إلى البقاء في المكان المغصوب كما هو مفروض الكلام في المقام لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه،وأن يكون راكعاً أو ساجداً،فكما أنّ الركوع والسجود تصرّف فيه،فكذلك القيام والقعود،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،بداهة أنّ الركوع والسجود ليسا تصرّفاً زائداً على القيام والقعود لا بنظر العقل ولا العرف،فعندئذ لا وجه للقول
بوجوب الاقتصار على الايماء بدلاً عنهما.
ودعوى أ نّهما يعدّان بنظر العرف من التصرف الزائد خاطئة جداً،ضرورة أ نّه لا فرق في نظر العرف بين أن يكون الانسان قائماً في الدار المغصوبة أو قاعداً،وبين أن يكون راكعاً أو ساجداً فيها،فكما أنّ الثاني تصرّف فيها بنظره فكذلك الأوّل،وليس في الثاني تصرّف زائد بنظره بالاضافة إلى الأوّل،وهذا لعلّه من الواضحات.
فإذن لا وجه لما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفرقة بين نظر العرف ونظر العقل.ولعل منشأها هو الغفلة عن تحليل نقطة واحدة،وهي عدم الفرق بين كون المكلف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة وكونه على هيئات متعددة،وتخيل أ نّه إذا كان على هيئة واحدة فهو مرتكب لحرام واحد، وإذا كان على هيئات متعددة كأن يكون راكعاً مرّةً وساجداً مرّة اخرى فهو مرتكب لمحرّمات متعددة،ولأجل ذلك لا محالة وجب الاقتصار فيها على هيئة واحدة،فانّ الضرورة تتقدر بقدرها فلا يجوز ارتكاب الزائد.
ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع له أبداً،وذلك لأنّ كون المكلف فيها على هيئة واحدة في كل آن وزمن تصرّف في الأرض ومحرّم،لا أنّ كونه عليها في جميع الآنات والأزمنة تصرّف واحد ومحكوم بحكم واحد، لتكون الحركة فيها تصرفاً زائداً،ومن الواضح جداً أ نّه لا فرق في ذلك بين نظر العقل ونظر العرف،فكما أنّ الكون في الأرض المغصوبة في كل آنٍ تصرّف فيها ومحرّم،بلا فرق بين أن يكون في ضمن هيئة واحدة أو هيئات متعددة بنظر العقل،فكذلك الكون فيها في كل آن تصرّف ومحرّم كذلك بنظر العرف.
وبكلمة اخرى: أنّ جعل الركوع والسجود تصرفاً زائداً مبني على ما ذكرناه من الخيال الخاطئ،وهو أنّ بقاء الانسان في الأرض المغصوبة على
حالة واحدة وهيئة فاردة من القيام أو القعود تصرّف واحد بنظر العرف،وأمّا إذا اشتغل بالركوع أو السجود فهو تصرف زائد،غفلةً عن أنّ بقاءه على تلك الحالة الواحدة حرام في كل آن،ضرورة أ نّه في كل آن تصرف في مال الغير بدون إذنه،كما أنّ انتقاله من هذه الحالة والهيئة إلى حالة اخرى وهيئة ثانية حرام،وليس هذا تصرفاً زائداً على بقائه على الحالة الاُولى،ضرورة أ نّه على الفرض لم يجمع بين الحالتين في مكانين لتكون الحالة الثانية تصرفاً زائداً،غاية الأمر أ نّه تصرّف في الحالة الاُولى في مكان وفي الحالة الثانية في مكان آخر،أو أ نّه تصرّف في كلتا الحالتين في مكان واحد وفضاء فارد،فانّ التصرف في مكان واحد قد يكون بهيئة واحدة ووضع فارد،وقد يكون بهيئات متعددة وأوضاع مختلفة،ومن الطبيعي أنّ تصرّفه في الحالة الثانية وبهيئة اخرى في مكان آخر أو في نفس المكان الأوّل بمقدار تحيزه في الحالة الاُولى وبالهيئة السابقة دون الزائد،لوضوح أنّ مقدار تحيز الجسم المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله لا عقلاً ولا عرفاً،كما هو واضح.
نعم،لو كان البقاء فيها على حالة واحدة محرّماً بحرمة واحدة في تمام الآنات والأزمنة،لكان الالتزام بما أفاده (قدس سره) مما لا بدّ منه،وعليه فلا بدّ من الحكم بحرمة كل حركة فيها والاقتصار على حالة واحدة في تمام آنات البقاء، ولكن قد عرفت أ نّه مجرد فرض لا واقع له أصلاً.
وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أ نّه ليست الصلاة مع الركوع والسجود تصرفاً زائداً على الصلاة مع الايماء والاشارة،ومما يشهد على ذلك:أنّ العرف لا يرون أنّ المصلي في الأرض المغصوبة إذا كان على وضع الراكع أو الساجد يكون تصرفه فيها أزيد مما إذا كان على غير هذا الوضع وغير هذا الشكل،كما هو واضح.فالنتيجة أنّ وظيفته هي الصلاة مع الركوع والسجود فيها دون
الصلاة مع الايماء.
وممن اختار هذا القول في المسألة صاحب الجواهر (قدس سره) حيث قال في بحث مكان المصلي ما إليك نصه:تصح منه صلاة المختار،ضرورة عدم الفرق بينه وبين المأذون في الكون بعد اشتراكهما في إباحته وحليته.نعم،لو استلزمت الصلاة تصرفاً زائداً على أصل الكون لم يجز،لعدم الاذن فيه،لا ما إذا لم تستلزم فانّها حينئذ أحد أفراد الكون الذي فرض الاذن فيه.على أنّ القيام والجلوس والسكون والحركة وغيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيز،وجميعها أكوان ولا ترجيح لبعضها على بعض،فهي في حد سواء في الجواز،وليس مكان الجسم حال القيام أكثر منه حال الجلوس.نعم،يختلفان في الطول والعرض،إذ الجسم لا يحويه الأقل منه ولا يحتاج إلى أكثر مما يظرفه،كما هو واضح بأدنى تأمل.
ثمّ قال:ومن الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أ نّه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أوّل الدخول إلى المكان المحبوس فيه،إن قائماً فقائم وإن جالساً فجالس، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة اخرى في غير الصلاة أيضاً،لما فيه من الحركة التي هي تصرف في مال الغير بغير إذنه،ولم يتفطن أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف أيضاً لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف،كما أ نّه لم يتفطن أ نّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشد ما عامله الظالم،بل حبسه حبساً ما حبسه أحد لأحد،اللّٰهمّ إلّاأن يكون في يوم القيامة مثله،خصوصاً وقد صرّح بعض هؤلاء أ نّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك،بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته ونحوها مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير،وكل
ذلك ناشٍ عن عدم التأمل في أوّل الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك 1.
أقول: الأمر كما أفاده (قدس سره) فانّه لو حرم عليه جميع الحركات والتقلبات فيها حتى مثل حركة اليد وما شاكلها فهذا كان غاية الضيق عليه وأشد مما حبسه الظالم،ومن الواضح جداً أنّ ذلك مناف لرفع الشارع حرمة التصرف عنه امتناناً،ضرورة أنّ في ذلك ليس أيّ امتنان بل هو خلاف الامتنان،كيف فانّ الانسان لا يخلو من مثل هذه التصرفات والتقلبات أبداً، فانّها من لوازم حياته،وأنّ الانسان الحي لا يخلو منها في زمان من الأزمنة، ومع هذا لا يمكن الحكم بحرمة هذه التقلبات والاقتصار على مقدار يتوقف عليه حفظ نفسه،ضرورة أنّ هذا أشد ظلماً مما فعله الظالم.
فيقع الكلام فيه في موردين:
الأوّل:ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الدار لبقاء الوقت، وهذا الفرض وإن كان خارجاً عن محل الكلام إلّاأ نّه لا بأس بالتعرض له لمناسبة.
الثاني:ما إذا لم يتمكن من الصلاة في الخارج لضيق الوقت وعدم تمكنه من إدراك تمام الصلاة فيه.
أمّا المورد الأوّل: فلا إشكال في لزوم الخروج عليه والتخلص عن الغصب في أوّل أزمنة الامكان عقلاً وشرعاً،ولا يجوز له البقاء فيها آناً ما بعد تمكنه من الخروج،لأنّه تصرف زائد على مقدار تقتضيه الضرورة.
وعلى الجملة:فكل من العقل والشرع ألزم المكلف بالتخلص عن الدار المغصوبة والخروج عنها في أوّل زمن الامكان ورفع الاضطرار،فلو بقي بعد ذلك ولو آناً ما فقد ارتكب محرّماً،لفرض أ نّه تصرّف فيها بغير اضطرار،ومن المعلوم أنّ تصرفه فيها بدونه محرّم على الفرض،هذا حكم التخلص والخروج.
ومن هنا يظهر أ نّه لا يجوز الاتيان بالصلاة،لأنّه يوجب زيادة البقاء فيها والتصرف بلا موجبٍ ومقتض،ومن الواضح أ نّه غير جائز.وأمّا إذا فرض أ نّه عصى وأتى بالصلاة فيها فهل يحكم بصحة صلاته أم لا،فهو مبني على النزاع في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه،فعلى القول بالجواز يحكم بصحتها،لفرض ا نّه على هذا القول يكون المجمع متعدداً وجوداً وماهيةً، فيكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه خارجاً،ومجرد ملازمته معه في الوجود الخارجي لا يمنع عن انطباق المأمور به عليه وصحته،كما تقدّم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح،وعلى القول بالامتناع يحكم ببطلانها،لفرض أ نّه على هذا يكون مصداق المأمور به متحداً مع المنهي عنه خارجاً،ومعه – أي مع الاتحاد-لا يمكن الحكم بالصحة أبداً،لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب كما سبق ذلك بصورة مفصّلة،هذا حكم الصلاة في الدار المغصوبة بعد رفع الاضطرار.
وأمّا الصلاة فيها قبل رفع الاضطرار،فعلى وجهة نظرنا لا إشكال في جواز الاتيان بها وعدم وجوب تأخيرها لأن يؤتى بها في خارج الدار،والوجه في ذلك واضح،وهو ما ذكرناه من أنّ الصلاة مع الركوع والسجود ليست تصرفاً زائداً على مقدار تقتضيه الضرورة،ومن هنا قلنا إنّ وظيفة غير المتمكن من التخلص عن الغصب هي الصلاة مع الركوع والسجود،وليست وظيفته الصلاة مع الايماء بدلاً عنهما،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:المفروض جواز
تصرف المتوسط في الدار المغصوبة بغير اختياره بمقدار تقتضيه الضرورة، لفرض ارتفاع حرمته من ناحية الاضطرار أو نحوه.ومن ناحية ثالثة:قد تقدم أ نّه لا فرق بين أن يكون المكلف فيها على هيئة واحدة ووضع فارد أو على هيئات متعددة وأوضاع مختلفة،وليس كون المكلف على هيئات متعددة تصرّفاً زائداً بالاضافة إلى كونه على هيئة واحدة،كما سبق بشكل واضح.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث:هي جواز الصلاة فيها مع الركوع والسجود،وعدم وجوب تأخيرها إلى أن يرتفع الاضطرار ويأتي بها في خارج الدار.
وأمّا على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فلا تجوز الصلاة فيها مع التمكن من الاتيان بها في خارج الدار،والوجه فيه ما عرفت 1من أنّ الركوع عنده من التصرف الزائد بالاضافة إلى مقدار الضرورة فلا يجوز،فإذن لا محالة وجب الاقتصار على خصوص الايماء في الصلاة وترك الركوع والسجود، ولكن بما أنّ المكلف متمكن من الصلاة معهما في غير المكان المغصوب كما هو المفروض،فلا تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الايماء فيه،ضرورة أ نّها وظيفة المضطر وغير المتمكن من الصلاة في تمام الوقت،والمفروض في المقام أنّ المكلف متمكن من الصلاة في الوقت مع الركوع والسجود،ومن الواضح جداً أ نّه مع هذا لا تنتقل وظيفته إلى بدلها الاضطراري وهو الصلاة مع الايماء، ضرورة أ نّها غير مشروعة في حق المتمكن من الاتيان بصلاة المختار.
نعم،لو كان مجرد الاضطرار كافياً في ذلك ولو لم يكن مستوعباً لتمام الوقت لكان الاتيان بها مجزئاً لا محالة،إلّاأنّ ذلك باطل قطعاً،ضرورة أنّ الاضطرار
الرافع للتكليف إنّما يكون رافعاً فيما إذا كان مستوعباً لتمام الوقت ليصدق عليه أ نّه مضطر إلى ترك الواجب لينتقل الأمر إلى بدله،وأمّا إذا كان الاضطرار إلى ترك الواجب في بعض الوقت دون بعضه الآخر فلا يصدق عليه أ نّه مضطر إلى ترك الواجب.نعم،يصدق عليه أ نّه مضطر إلى ترك بعض أفراده،لفرض أنّ الواجب هو الجامع بين الحدّين،والمفروض أنّ الاضطرار لم يتعلق بتركه،وما تعلق به الاضطرار لا يكون واجباً.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ هذه الثمرة التي تظهر بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) نتيجة الاختلاف في نقطة واحدة،وهي أنّ الركوع والسجود على وجهة نظره (قدس سره) من التصرف الزائد،وعلى وجهة نظرنا ليسا من التصرف الزائد.
أمّا المورد الثاني: وهو ما إذا لم يتمكن المكلف من الصلاة في خارج الدار لضيق الوقت،فلا إشكال في وجوب الصلاة عليه حال الخروج،لفرض أنّ الصلاة لا تسقط بحال،ولكن بما أ نّه كان في مقام التخلص عن الغصب فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على خصوص الايماء بدلاً عن الركوع والسجود،لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ولا مسوّغ له، ولأجل ذلك تنتقل الوظيفة من صلاة المختار إلى صلاة المضطر وهي الصلاة مع الايماء والاشارة.
وإن شئت فقل:إنّه لا يجوز للمكلف في هذا الحال الركوع والسجود.أمّا عدم جواز السجود في هذا الحال فواضح،وذلك لما تقدّم من أ نّه متحد مع الغصب خارجاً باعتبار أنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهومه، والمفروض أ نّه نحو تصرّف فيها،فإذن يتحد المأمور به مع المنهي عنه،ومع الاتحاد لا يمكن الحكم بصحته،لاستحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للمأمور به
وعليه فلا محالة تكون وظيفته الايماء دون السجدة.
وأمّا الركوع،فهو وإن لم يكن بنفسه تصرفاً في مال الغير،لما عرفت من أ نّه عبارة عن هيئة حاصلة للمصلي من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج،إلّاأ نّه مستلزم للبقاء فيها وهو تصرف زائد على مقدار الضرورة،فإذن تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة مع الركوع وبين حرمة التصرف في مال الغير،فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة،ولكن بما أنّ وجوب الصلاة مع الركوع خاصة مشروط بالقدرة شرعاً،لما تقدّم في بحث الضد 1من أنّ الأركان بعرضها العريض وإن كانت غير مشروطة بالقدرة الشرعية،إلّاأنّ كل مرتبة منها مشروطة بها،فعليه تتقدّم حرمة التصرف في مال الغير على وجوبه من ناحية ما ذكرناه من أ نّه إذا وقعت المزاحمة بين ما هو المشروط بالقدرة شرعاً وما هو المشروط بالقدرة عقلاً، فيتقدّم ما هو المشروط بالقدرة عقلاً على ما هو المشروط بها شرعاً،على تفصيل تقدّم في مسألة الضد.
فالنتيجة هي وجوب الاقتصار على الايماء في الصلاة للركوع والسجود.
نعم،لو تمكن المكلف من الاتيان بهما في الصلاة من دون استلزامه للتصرف الزائد لوجب ذلك،كما إذا فرض أنّ خروجه من الأرض المغصوبة بالسيارة أو الطيارة أو السفينة أو ما شاكل ذلك،فانّ الركوع والسجود في مثل ذلك لا يستلزمان التصرف الزائد،كما هو واضح،فإذن تتعين الصلاة بهما ولا يجوز الاقتصار على الايماء،لفرض أ نّه بدل اضطراري عنهما ومع تمكن المكلف من الاتيان بهما لا تصل النوبة إلى بدلهما الاضطراري،كما هو واضح.
نتيجة ما ذكرناه عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا إشكال في سقوط الحرمة واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه،وليس حاله حال الجهل الرافع للتكليف ظاهراً لا واقعاً.
الثانية: أ نّه لا شبهة في صحة العبادة فيما إذا لم تكن متحدةً مع الفرد المحرّم المضطر إليه،لما عرفت من أنّ العبادة صحيحة على هذا الفرض فيما إذا كانت الحرمة باقية بحالها فضلاً عما إذا سقطت.
الثالثة: أنّ الظاهر صحة العبادة فيما إذا فرض كونها متحدةً مع المحرّم المضطر إليه،وذلك لما عرفت من أنّ المانع عن صحتها إنّما هو حرمتها،فإذا فرض أ نّها سقطت بالاضطرار أو نحوه واقعاً فلا مانع عندئذ من صحتها أصلاً كما تقدّم.
الرابعة: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ دلالة النهي على حرمة شيء في عرض دلالته على تقييد المأمور به بعدمه،وليست متقدمةً عليها،قد تقدّم فساده بشكل واضح،وقلنا هناك إنّ حرمة شيء وعدم وجوبه وإن كانا في رتبة واحدة بحسب مقام الثبوت والواقع،لعدم ملاكٍ لتقدم أحدهما على الآخر،إلّاأ نّهما بحسب مقام الاثبات والدلالة ليسا كذلك،فانّ دلالة النهي على الحرمة في مرتبة متقدمة على دلالته على عدم الوجوب والتقييد، بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية.
الخامسة: أ نّه تظهر الثمرة بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في جواز التمسك بالاطلاق وعدمه،فانّه بناءً على وجهة نظرنا بما أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة فلا محالة تسقط بسقوط دلالته عليها،ومن المعلوم أ نّه مع سقوط التقييد لا مانع
من التمسك بالاطلاق.وبناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بما أنّ دلالته على التقييد وعدم الوجوب في عرض دلالته على الحرمة،فلا تسقط بسقوط تلك الدلالة،ومع عدم السقوط لا يمكن التمسك بالاطلاق.
السادسة: قد تقدّم أنّ رفع الحكم من ناحية الاضطرار بما أ نّه يكون للامتنان،فيدل على ثبوت المقتضي والملاك له،وإلّا فلا معنى للامتنان أصلاً، وهذا بخلاف رفع الحكم في غير موارد الامتنان،فانّه لا يدل على ثبوت مقتضيه،ضرورة أ نّه كما يمكن أن يكون من جهة المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون من جهة عدم المقتضي له،فلا دليل على أ نّه من قبيل الأوّل، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد سبق أنّ هذا الملاك بما أ نّه غير مؤثر في المبغوضية والحرمة فلا يمنع عن صحة العبادة وقصد التقرب بها.
السابعة: أنّ الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب في صورة الاضطرار إلى التصرف فيه صحيح مطلقاً،أي بلا فرق بين وجود المندوحة وعدمه كما سبق.
الثامنة: أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة لا تسقط عن المتوسط فيها بغير اختياره على القاعدة على وجهة نظرنا،لما عرفت من أنّ الصلاة فيها مع الركوع والسجود ليست تصرفاً زائداً على الكون فيها بدون الصلاة،وعليه فلا موجب لسقوطها أصلاً،كما أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوطها عنه على وجهة نظر جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ولكنّ القاعدة الثانوية تقتضي وجوب الاتيان بالباقي من الأجزاء والشرائط،والوجه فيه:ما تقدّم من أنّ الركوع والسجود بنظرهم من التصرف الزائد عرفاً فلا يجوز،فإذن لا محالة يسقطان عنه،ومع سقوطهما لا محالة يسقط الأمر عن الصلاة،ولكن دلّ دليل آخر على وجوب الاتيان بها مع الايماء بدلاً عنهما.
التاسعة: أنّ كل جسم يشغل المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق،ولا يختلف ذلك-أي مقدار تحيزه وشغله المكان-باختلاف هيئاته وأوضاعه عقلاً وعرفاً،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث إنّه قد فصّل بين نظر العرف والعقل،فذهب إلى أنّ اختلاف الجسم باختلاف الهيئات ليس تصرفاً زائداً بالدقّة العقلية،ولكنّه تصرف زائد بالنظر العرفي.ولكن قد عرفت فساده بشكل واضح.
العاشرة: أنّ الصلاة في حال الخروج لا بدّ فيها من الاقتصار على الايماء بدلاً عن الركوع والسجود،لفرض أ نّهما مستلزمان للتصرف الزائد على قدر الضرورة،إلّافيما إذا فرض أ نّهما لا يستلزمان له،كما إذا كان خروجه بالسيارة أو نحوها.ومن هنا تكون مشروعية هذه الصلاة أعني الصلاة مع الايماء منوطة بعدم تمكن المكلف من إدراك الصلاة في الوقت في خارج الأرض،وإلّا فلا تكون مشروعة،ضرورة أنّ المكلف مع التمكن من الاتيان بصلاة المختار لا يسوغ له الاتيان بصلاة المضطر،وكذا منوطة بعدم تمكنه من الصلاة في الأرض المغصوبة.
وذلك أمّا على وجهة نظرنا،فلما عرفت من أ نّه متمكن فيها من الصلاة مع الركوع والسجود الاختياريين من دون استلزامهما للتصرف الزائد،ومعه لا محالة تكون وظيفته هي صلاة المختار دون صلاة المضطر.نعم،لو أخّرها ولم يأت بها إلى زمان خروجه عنها فوجب عليه الاتيان بصلاة المضطر،وهي الصلاة مع الايماء،لفرض أ نّها لا تسقط بحال،ولكنه عصى في تأخيره وتفويت الواجب عليه،إلّاإذا فرض أنّ تأخيره كان لعذر شرعي.
وأمّا على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فلأجل أنّ الصلاة حال
الخروج تستلزم تفويت الاستقرار المعتبر فيها،ومن المعلوم أنّ المكلف إذا تمكن من الصلاة مع الاستقرار،فلو صلى بدونه بطلت لا محالة،وعليه فلا يجوز له تأخيرها إلى زمان الخروج،لاستلزام ذلك تفويت الاستقرار باختياره وهو غير جائز،إلّاإذا كان التأخير مستنداً إلى عذر شرعي.وعلى الجملة:فالصلاة في حال الخروج إذا كانت مستلزمة لتفويت شرط من شرائطها كالاستقرار أو الاستقبال دون الصلاة في الدار فيجب إتيانها في الدار.
الحادية عشرة: قد ظهر مما تقدّم أ نّه بناءً على وجهة نظرنا تصحّ الصلاة من المتوسط فيها بغير اختياره مطلقاً-أي بلا فرق بين كون المكلف متمكناً من الصلاة في الوقت في خارج الدار،وبين كونه غير متمكن منها كذلك-أمّا على الثاني فواضح،وأمّا على الأوّل فلفرض أ نّه متمكن من الاتيان بالصلاة التامة الأجزاء والشرائط،ومعه لا موجب للتأخير والاتيان بها في خارج الدار.
نعم،بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وجب التأخير في هذا الفرض،لأنّ المكلف على هذه النظرية لا يتمكن من صلاة المختار في الدار، لفرض أنّ الركوع والسجود تصرّف زائد عليها،والانتقال إلى صلاة المضطر مع التمكن من صلاة المختار لا دليل عليه،إلى هنا انتهى الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا الموضع الثاني،وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار،فيقع الكلام فيه في موردين:
الأوّل:في حكم الخروج في حدّ نفسه.
الثاني:في حكم الصلاة الواقعة حاله،أي حال الخروج.
أمّا المورد الأوّل: فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه إلى خمسة أقوال:
الأوّل: أنّ الخروج حرام بالفعل.
الثاني: أ نّه واجب وحرام معاً كذلك.أمّا أ نّه واجب فمن ناحية أ نّه إمّا أن يكون مقدمةً للتخلص عن الحرام الذي هو واجب عقلاً وشرعاً ومقدمة الواجب واجبة،وإمّا أن يكون من ناحية أ نّه مصداق له،أي للتخلص الواجب،وأمّا أ نّه حرام فمن ناحية أ نّه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرّم،وذهب إلى هذا القول أبو هاشم المعتزلي 1،ويظهر اختياره من المحقق القمي (قدس سره) أيضاً 2،وهذا القول يرتكز على أمرين:الأوّل:دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار عقاباً وخطاباً.الثاني:الالتزام بوجوب الخروج،إمّا لأجل أ نّه مقدمة للتخلص الواجب،ومقدمة الواجب واجبة،وإمّا لأجل أ نّه من مصاديقه وأفراده.
الثالث: أ نّه واجب فعلاً وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار، ولكن يجري عليه حكم المعصية،واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول (قدس سره) 3.
الرابع: أ نّه واجب فحسب ولا يكون محرّماً،لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق الساقط،واختار هذا القول شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 4
ووافقه فيه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1.
الخامس: أ نّه لا يكون فعلاً محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية،ولكنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه،ويجري عليه حكم المعصية.نعم،هو واجب عقلاً من ناحية أ نّه أقل محذورين وأخف قبيحين، واختار هذا القول المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2فهذه هي الأقوال في المسألة.
ولنأخذ بالنظر إلى كل واحد من هذه الأقوال:
أمّا القول الأوّل: فهو واضح الفساد،وذلك لاستلزام هذا القول التكليف بالمحال،بيان ذلك:هو أنّ المتوسط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:المفروض أنّ البقاء فيها محرّم،فلو حرم الخروج أيضاً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال،فإذن لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة.
وأمّا القول الثاني: فهو أوضح فساداً من الأوّل،وذلك ضرورة استحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً حتّى على مذهب الأشعري الذي يرى جواز التكليف بالمحال،فان نفس هذا التكليف والجعل محال،لا أ نّه من التكليف بالمحال.على أنّ وجوبه إمّا أن يكون مبنياً على القول بوجوب المقدمة بناءً على كون الخروج مقدمةً للتخلص الواجب وردّ المال إلى مالكه،وإمّا أن يكون مبنياً على كونه مصداقاً للتخلص ولردّ المال إلى مالكه.
أمّا الأوّل فقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب أ نّه لا دليل على وجوب المقدمة شرعاً.وأمّا الثاني فسيأتي عن قريب إن شاء اللّٰه تعالى أنّ الخروج ليس مصداقاً لقاعدة ردّ المال إلى مالكه،فإذن لا دليل على كون الخروج واجباً.
وأمّا حرمته فهي مبنية على قاعدة«الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً»،ولكن سيأتي 1بيان أنّ هذه القاعدة تنافي الخطاب،ضرورة أ نّه لا يمكن توجيه التكليف نحو العاجز ولو كان عجزه مستنداً إلى سوء اختياره، لكونه لغواً محضاً،وصدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل،وكيف كان فهذا القول غير معقول،وعلى تقدير كونه معقولاً فلا دليل عليه كما عرفت.
وأمّا القول الثالث: وهو كون الخروج واجباً فعلاً ومحرّماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه،فهو وإن كان له بحسب الظاهر صورة معقولة، ببيان أنّ الخروج بما أ نّه تصرّف في مال الغير بسوء اختياره فلا مانع من أن يعاقب عليه،لفرض أ نّه مبغوض للمولى وإن كان النهي عنه فعلاً غير معقول لاستلزامه التكليف بالمحال،وبما أ نّه مصداق للتخلية ولردّ المال إلى مالكه فلا مانع من كونه واجباً.
فالنتيجة:هي أنّ الخروج واجب فعلاً ومنهي عنه بالنهي السابق،إلّاأ نّه بحسب الواقع والدقّة العقلية ملحق بالقولين الأوّلين في الفساد،والوجه في ذلك:هو أنّ تعلق الأمر والنهي بشيء واحد محال،وإن كان زمان تعلق أحدهما غير زمان تعلق الآخر به،فان ملاك استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده،ولا عبرة بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده أصلاً،بداهة أ نّه لا يعقل أن يكون شيء واحد
في زمان واحد متعلقاً للايجاب والتحريم معاً،وإن فرض أنّ زمان الايجاب غير زمان التحريم،والسر في ذلك واضح،وهو أنّ الفعل الواحد في زمان واحد إمّا أن يكون مشتملاً على مصلحة ملزمة،وإمّا أن يكون مشتملاً على مفسدة كذلك،فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بوجوبه،وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بحرمته ولا يعقل إيجابه وتحريمه معاً،كما هو واضح.
تلخّص: أنّ العبرة إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده فحسب،فإن كان واحداً يستحيل تعلق الأمر والنهي به،وإن كان زمان تعلق أحدهما به غير زمان تعلق الآخر،وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلقهما به وإن كان زمان تعلقهما واحداً كما إذا أمر المولى يوم الخميس باكرام زيد يوم الجمعة ونهاه في ذلك اليوم عن إكرامه يوم السبت،فانّه لا محذور فيه أبداً.
نعم،يمكن للمولى العرفي أن يأمر بشيء وينهى عنه في زمان آخر اشتباهاً أو بتخيل أنّ فيه مصلحة مقتضية للوجوب ثمّ بان أ نّه لا مصلحة بل فيه مفسدة مقتضية للتحريم،إلّاأ نّه لا أثر في مثل ذلك لأحد الحكمين أصلاً،بل هو صدر اشتباهاً وغفلةً لا حقيقةً وواقعاً.
وبكلمة اخرى:فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الغرض من الأمر بشيء أو النهي عنه إنّما هو إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل في الخارج أو الترك في مقام الامتثال، ومن الواضح جداً أنّ الداعي إنّما يحصل له فيما إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال في ظرفه،وأمّا إذا لم يتمكن منه فلا يحصل له هذا الداعي ومع عدم حصوله يكون الأمر أو النهي لغواً محضاً فلا يترتب عليه أيّ أثر،ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم مستحيل،وعليه فلا يمكن أن يكون فعل واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ولو كان زمان أحدهما غير زمان الآخر من هذه الناحية أيضاً،أعني ناحية المنتهى والامتثال.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أنّ الخروج في مفروض الكلام إن كان مشتملاً على مفسدة امتنع تعلق الأمر به،وإن كان مشتملاً على مصلحة امتنع تعلق النهي به ولو من الزمان السابق،لفرض أنّ المولى علم باشتماله على المصلحة في ظرفه، ومعه يستحيل أن ينهى عنه في ذلك الظرف،وقد عرفت أنّ العبرة في استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد وإمكانه إنّما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده، فإن كان واحداً يستحيل أن يكون متعلقاً للأمر والنهي معاً،وإن كان زمان النهي سابقاً على زمان الأمر أو بالعكس،لعدم العبرة بتعدد زمانهما أصلاً، لفرض أ نّه لا يرفع المحذور المزبور،وإن كان متعدداً فلا مانع من تعلق الأمر والنهي به في زمان واحد فضلاً عن زمانين،لعدم التنافي بينهما عندئذ أصلاً، لفرض أنّ الأمر تعلق به في زمانٍ والنهي تعلق به في زمان آخر،ولا مانع من أن يكون شيء واحد في زمان محكوماً بحكم وفي زمان آخر محكوماً بحكم آخر غيره.
مثال الأوّل: ما إذا فرض أنّ المولى نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة وأمر به في يوم الجمعة،فانّه لا إشكال في استحالة ذلك،ضرورة أنّ صوم يوم الجمعة لا يمكن أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً،فانّه إن كان فيه ملاك الوجوب امتنع تعلق النهي به مطلقاً،وإن كان فيه ملاك الحرمة امتنع تعلق الأمر به كذلك.
ومثال الثاني: ما إذا أمر المولى يوم الخميس بصوم يوم الجمعة ونهى في ذلك اليوم عن صوم يوم السبت،فانّه لا إشكال في جواز ذلك وإمكانه.
فالنتيجة:أنّ ملاك استحالة اجتماع حكمين من الأحكام التكليفية في شيء واحد،وإمكان اجتماعه إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده،ولا اعتبار بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلاً.
وأمّا الأحكام الوضعية فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ حالها من هذه الناحية حال الأحكام التكليفية،فكما أنّ المناط في استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد وإمكانه هو وحدة زمان المتعلق وتعدده لا وحدة زمان الحكمين وتعدده،فكذلك المناط في استحالة اجتماع اثنين من الأحكام الوضعية في شيء واحد وإمكانه،هو وحدة زمان المعتبر وتعدده لا وحدة زمان الاعتبارين وتعدده.
ومن هنا أشكل (قدس سره) على ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم (قدس سره) وإليك نص ما أفاده:فلا وجه للقول بالكشف بمعنى تحقق المضمون قبل ذلك لأجل تحقق الاجازة فيما بعد،نعم بمعنى الحكم بعد الاجازة بتحقق مضمونه حقيقةً مما لا محيص عنه بحسب القواعد،فلو أجاز المالك مثل الاجارة الفضولية بعد انقضاء بعض مدتها،أو الزوج أو الزوجة عقد التمتع كذلك،فيصح اعتبار الملكية حقيقةً للمستأجر والزوجية لهما في تمام المدة التي قد انقضى بعضها،بل ولو انقضى تمامها لتحقق منشأ انتزاعها.
فإن قلت: كيف يصح هذا وكان قبل الاجازة ملكاً للمؤجر ولم يكن هناك زوجية،إلّاأن يكون مساوقاً لكون شيء بتمامه ملكاً لاثنين في زمان واحد، واجتماع الزوجية وعدمها كذلك. قلت: لا ضير فيه إذا كان زمان اعتبار الملكية لأحدهما في زمان غير زمان اعتبار الملكية للآخر في ذاك الزمان،لتحقق ما هو منشأ انتزاعها في زمان واحد لكل منهما في زمانين،وكذا الزوجية وعدمها 2.
وحاصل هذا الاشكال هو ما أفاده (قدس سره) من أنّ اختلاف زمان اعتبار الملكية للاثنين لا يدفع إشكال اجتماع المالكين في ملكٍ واحدٍ في زمان واحد،فان اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني الاخبار بوقوع المتناقضين في زمان واحد،وبمنزلة اختلاف زماني الحكم بحكمين متضادين، فانّ حكم الحاكم في يوم الجمعة لكون عين شخصية لزيد في هذا اليوم مع حكمه في يوم السبت بكون شخص هذه العين في يوم الجمعة لبكر متناقض، كما هو واضح.
وغير خفي أن ما افاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على المكاسب هو الصحيح،ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)، والوجه في ذلك:هو أنّ الأحكام الوضعية لا تشترك مع الأحكام التكليفية في ملاك الاستحالة والامكان،وذلك لأنّ الأحكام التكليفية بما أ نّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو لجهات اخرى،فلا يمكن أن يكون فعل في زمان واحد محكوماً بحكمين مختلفين كالوجوب والحرمة مثلاً،ولو كان تعلق أحدهما به في زمان وتعلق الآخر به في زمان آخر،ضرورة أنّ هذا الفعل في هذا الزمان لا يخلو من أن يكون مبغوضاً للمولى أو أن يكون محبوباً له ولا ثالث لهما.
فعلى الأوّل يستحيل تعلق الأمر به،وعلى الثاني يستحيل تعلق النهي به كما هو واضح،وهذا بخلاف الأحكام الوضعية،فانّها تابعة لجهات المصالح والمفاسد النوعية في نفس جعلها واعتبارها،وعليه فلا يمكن أن تقتضي مصلحة في زمان اعتبار شيء ملكاً لشخص،ومصلحة اخرى في ذلك الزمان بعينه اعتباره ملكاً لآخر.نعم،لا مانع من أن تقتضي المصلحة اعتبار ملكيته له في زمان،
والمصلحة الاُخرى في زمان آخر اعتبار ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه، بأن يكون زمان الاعتبارين مختلفاً وزمان المعتبرين واحداً كما حققنا ذلك بصورة مفصلة في مسألة الفضولي عند البحث عن كون الاجازة ناقلة أو كاشفة 1.
ونتيجته:هي أنّ القول بكون الاجازة ناقلة باطل ولا دليل عليه أصلاً،كما أنّ الكشف الحقيقي بالمعنى المشهور باطل،بل هو غير معقول،وهو أن تكون الملكية حاصلة من حين العقد وقبل زمان الاجازة،فالاجازة كاشفة عنها فحسب ولا أثر لها ما عدا الكشف عن ثبوت الملكية من الأوّل،ومن المعلوم أنّ هذا بلا موجب ودليل،بل الدليل قام على خلافه،ضرورة أنّ هذا العقد لم يكن عقداً للمجيز إلّابعد إجازته ورضاه به،ليكون مشمولاً لأدلة الامضاء، ومع هذا كيف يحكم الشارع بملكية المال له وانتقاله إليه قبل أن يرضى به ويجيزه،ولأجل ذلك قد التزمنا بالكشف بالمعنى الآخر-ولا بأس بتسميته بالكشف الانقلابي-وهو الالتزام بكون المال في العقد الفضولي باقياً على ملك مالكه الأصلي قبل الاجازة وإلى زمانها،وأمّا إذا أجاز المالك ذلك العقد ورضي به فهو ينتقل من ملكه إلى ملك الآخر وهو الأصيل من حين العقد وزمانه.
والوجه في ذلك:هو أنّ مفهوم الاجازة مفهوم تعلّقي،فكما أ نّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الماضي،وفي المقام بما أنّ إجازة المالك متعلقة بالعقد السابق،إذ المفروض أ نّه أجاز ذلك العقد الواقع فضولة لا عقداً آخر، ومن المعلوم أنّ العقد بمجرد إجازته ينتسب إليه حقيقةً،ولا مانع من انتساب الأمر السابق وهو العقد بواسطة الأمر اللّاحق وهو الاجازة،بداهة أنّ الانتساب والاضافة خفيف المؤونة فيحصل بأدنى شيء وأقل مناسبة،ولذلك
أمثلة كثيرة في العرف والشرع ولا حاجة إلى بيانها،فاذا صار هذا العقد عقداً له من حين صدوره،فلا محالة ينتقل ماله إلى الآخر من ذلك الحين،ومن هنا قلنا إنّ الكشف بذاك المعنى مطابق للقاعدة فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل.
ولكن قد يتخيل أنّ الكشف بهذا المعنى غير ممكن،وذلك لاستلزامه كون المال الواحد في زمانٍ ملكاً لشخصين،لفرض أنّ هذا المال باق في ملك مالكه الأصلي إلى زمان الاجازة حقيقة،ومعه كيف يعقل أن يصير هذا المال ملكاً للطرف الآخر في هذا الزمان بعينه بعد الاجازة فيلزم اجتماع الملكيتين على مال واحد في زمان فارد وهو غير معقول،لأنّه من اجتماع الضدّين على شيء واحد.
وغير خفي أنّ هذا خيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع يقيناً،والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية جميعاً امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،ولذا قلنا إنّه لا مضادة بينها في أنفسها،والمضادة بينها إنّما هي من ناحية المبدأ أو المنتهى.
وعلى هذا الضوء فبما أنّ في المقام زمان الاعتبار مختلف،فان زمان اعتبار بقاء هذا المال في ملك مالكه قبل الاجازة،وزمان اعتبار كونه ملكاً للآخر بعدها،وإن كان زمان المعتبر فيهما واحداً،فلا يلزم محذور التضاد،فان محذور التضاد إنّما يلزم فيما إذا كان زمان الاعتبار فيهما أيضاً واحداً،وأمّا إذا كان متعدداً كما في المقام فلا يلزم ذلك،ضرورة أ نّه لا مانع من أن تقتضي المصلحة الملزمة بعد الاجازة لاعتبار كون هذا المال ملكاً له من حين العقد،فانّ الاعتبار خفيف المؤونة،فهو قابل لأن يتعلق بالأمر السابق،كأن يعتبر المولى ملكية مال لشخص من زمان سابق ولا مانع فيه أبداً،كما أ نّه قابل للتعلق
بأمر لاحق،كما في باب الوصية أو نحوها.
ومن هنا قلنا إنّ التعليق في باب العقود أمر معقول في نفسه،بل هو واقع كما في باب الوصية،فانّ الموصي حكم بملكية ماله لشخص بعد موته ومعلقاً عليه، والشارع أمضاه كذلك،وكذا في بيع الصرف،فان إمضاء الشارع وحكمه بالملكية فيه معلّق على التقابض بين المتبايعين وإن كان حكمهما-أي المتبايعين-بالملكية غير معلّق على شيء.
فالنتيجة: أنّ التعليق في العقود أمر معقول،ولذا كلّما دلّ الدليل على وقوعه نأخذ به،وإنّما لا نأخذ به من ناحية الاجماع القائم على بطلانه.
وكيف كان،فلا مانع من تعلق الاعتبار بالملكية السابقة،كما أ نّه لا مانع من تعلقه بالملكية اللّاحقة،بداهة أ نّه لا واقع للملكية ولا وجود لها في الخارج على الفرض غير اعتبار من بيده الاعتبار،فإذا كان هذا أمراً ممكناً في نفسه فهو واقع في المقام لا محالة،لأنّ مقتضى تعلق الاجازة بالعقد السابق هو اعتبار كون هذا المال ملكاً له في الواقع من ذلك الزمان.
وبكلمة اخرى:أنّ اعتبار الملكية بما أ نّه تابع للملاك القائم به فهو مرّة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن سابق كما فيما نحن فيه،فانّ الاعتبار فعلي والمعتبر أمر سابق،واُخرى يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن متأخر كما في باب الوصية،فانّ الاعتبار فيه فعلي والمعتبر أمر متأخر،وثالثة يقتضي اعتبار ملكية شيء في زمن فعلي،فيكون الاعتبار والمعتبر كلاهما فعلياً،وهذا هو الغالب،ومن المعلوم أنّ جميع هذه الصور ممكن،غاية الأمر أنّ وقوع الصورة الاُولى والثانية في الخارج يحتاج إلى دليل إذا لم يكن في مورد مطابقاً للقاعدة كما في المقام،لأنّ اعتبار ملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي لمن انتقل إليه تابع لاجازة المالك،وبما أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق كما هو مقتضى
مفهومها،فلا محالة يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من ذلك الزمان لا من حين الاجازة،إذ من الواضح جداً أنّ الاجازة متعلقة بالعقد السابق وموجبة لاستناد ذلك العقد إلى المالك،فلابدّ من أن يكون الاعتبار متعلقاً بالملكية من حين العقد، فان أدلة الامضاء كقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 1، «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 2ونحوهما ناظرة إلى إمضاء ما تعلقت به الاجازة،والمفروض أنّ ما تعلقت به الاجازة هو العقد السابق الصادر من الفضولي،فإذن تدل الأدلة على صحة هذا العقد وانتسابه إلى المالك من ذاك الزمان،فيكون زمان الاعتبار فعلياً وهو زمان الاجازة وزمان المعتبر سابقاً وهو زمان صدور العقد،وهذا معنى ما ذكرناه من أنّ الكشف بهذا المعنى مطابق للقاعدة ولا مناص من الالتزام به.
وقد تحصّل من ذلك عدّة امور:
الأوّل: أنّ القول بالكشف بهذا المعنى لا يستلزم انقلاب الواقع،ضرورة أ نّه لا واقع للملكية ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ليلزم الانقلاب،فان انقلاب الواقع فرع أن يكون لها واقع،ليقال إنّ الالتزام به يستلزم انقلابها عما وقعت عليه وهو محال،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الاعتبار خفيف المؤونة،فكما يمكن تعلقه بأمر استقبالي أو حالي يمكن تعلقه بأمر سابق من دون لزوم محذور أصلاً.فما توهم من أنّ المحذور اللازم على القول بالكشف الحقيقي بالمعنى المشهور لازم على هذا القول أيضاً،فاسد جداً ولا أصل له أبداً،كما يظهر وجهه من ضوء بياننا المتقدم فلاحظ.
الثاني: أنّ الكشف بهذا المعنى أمر معقول في نفسه من ناحية،ومطابق
للقاعدة من ناحية اخرى،ولذا لا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل،فامكانه يكفي لوقوعه كما عرفت.
الثالث: أنّ ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام الوضعية في شيء واحد غير ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام التكليفية فيه،ولأجل ذلك يكون تعدد زمان الاعتبار في الأحكام الوضعية مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع اثنين منها في شيء في زمان واحد.وأمّا في الأحكام التكليفية فلا أثر له أصلاً كما تقدّم.ومن هنا يظهر أنّ الصحيح هو ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا القول الرابع: وهو ما اختاره شيخنا الاُستاذ 1تبعاً لشيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) فملخصه على ما أفاده:هو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه،ولا صلة له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،ولأجل ذلك يكون الخروج واجباً شرعاً ولا يجري عليه حكم المعصية.نعم،بناءً على دخوله في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،فالصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم شرعي فعلاً،ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار وهو المعصية،فله (قدس سره) دعاوٍ ثلاث:
الاُولى: أنّ الخروج لا يكون محكوماً بحكم من الأحكام الشرعية فعلاً، ولكن يجري عليه حكم المعصية للنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه، بناءً على كون المقام من صغريات قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
الثانية: أنّ المقام غير داخل في كبرى تلك القاعدة وليس من صغرياتها.
الثالثة: أ نّه داخل في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ولزوم التخلية بينه وبين صاحبه.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد أفاد (قدس سره) أ نّه يكفي لاثباتها بطلان القولين السابقين،أعني القول بكون الخروج واجباً وحراماً فعلاً،والقول بكونه واجباً فعلاً وحراماً بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه.وقد تقدم بطلان كلا القولين.
أمّا القول الأوّل: فلاستحالة كون شيء واحد واجباً وحراماً معاً.ودعوى أنّ الخطاب التحريمي في المقام خطاب تسجيلي،والغرض منه تصحيح عقاب العبد وليس خطاباً حقيقياً،كما هو الحال في الخطابات المتوجهة إلى العصاة مع علم الآمر بعدم تحقق الاطاعة منهم خاطئة جداً،وذلك لأنّه لا معنى للخطاب التسجيلي،فانّ العبد إن كان مستحقاً للعقاب بواسطة مخالفة أمر المولى أو نهيه مع قطع النظر عن هذا الخطاب فيكون هذا الخطاب لغواً ولا فائدة له أصلاً، ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم محال،وإن لم يكن مستحقاً له في نفسه مع قطع النظر عنه،فكيف يمكن خطابه بهذا الداعي-أي بداعي العقاب مع عدم قدرته على امتثاله-ضرورة أنّ هذا تعدّ من المولى على عبده وظلم منه.
فإذن لا يمكن الالتزام بالخطاب التسجيلي،وأمّا خطاب العصاة مع العلم بعدم تحقق الاطاعة منهم فهو خطاب حقيقي،بداهة أ نّه لا يعتبر في صحة الخطاب الحقيقي إلّاإمكان انبعاث المكلف أو انزجاره في الخارج،وهذا المعنى متحقق في موارد تكليف العصاة على الفرض،فانّ العصيان إنّما هو باختيارهم،فإذن قياس المقام بخطاب العصاة قياس مع الفارق،وكيف كان فلا شبهة في بطلان هذا القول.
وأمّا القول الثاني: فقد عرفت امتناع تعلق الحكمين بفعل واحد في زمان واحد ولو كان زمان تعلق الايجاب مغايراً لزمان تعلق التحريم،لما ذكرناه من أنّ ملاك الاستحالة والامكان إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده لا بوحدة زمان الايجاب والتحريم وتعدده كما تقدّم ذلك بشكل واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي عدم كون المقام داخلاً في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،فقد استدلّ عليها بوجوه:
الأوّل: أنّ ما يكون داخلاً في كبرى هذه القاعدة لا بدّ أن يكون مما قد عرضه الامتناع باختيار المكلف وإرادته كالحج يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره وقدرته،وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق،ونحوهما من الأفعال الاختيارية التي تعرض عليها الامتناع بالاختيار.ومن الواضح جداً أنّ الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك،فانّه باقٍ على ما هو عليه من كونه مقدوراً للمكلف فعلاً وتركاً بعد دخوله فيها،ولم يعرض عليه الامتناع كما هو واضح.
نعم،مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء بأقل مقدار يمكن فيه الخروج،وإن كان مما لا بدّ منه ولا يتمكن المكلف من تركه بعد دخوله فيها،إلّاأنّ ذلك أجنبي عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج كما هو محل الكلام،ضرورة أنّ الاضطرار إلى جامع لا يستلزم الاضطرار إلى كل واحد من أفراده،مثلاً لو اضطرّ المكلف إلى التصرف في ماء جامع بين ماء مباح وماء مغصوب فهو لا يوجب جواز التصرف في المغصوب، لفرض أ نّه لا يكون مضطراً إلى التصرف فيه خاصة ليكون رافعاً لحرمته،بل هو باقٍ عليها لعدم الموجب لسقوطها،فانّ الموجب له إنّما هو تعلق الاضطرار به،والمفروض أ نّه غير متعلق به وإنّما تعلق بالجامع بينه وبين وغيره،فإذن
لا يجوز التصرف فيه.نعم،يتعين عليه عندئذ التصرف في خصوص الماء المباح ورفع الاضطرار به،وما نحن فيه من هذا القبيل،فانّ الاضطرار إلى مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء لا يوجب الاضطرار إلى خصوص الخروج،بل الخروج باقٍ على ما هو عليه من كونه مقدوراً من دون أن يعرض عليه ما يوجب امتناعه.فالنتيجة أنّ الخروج ليس من مصاديق قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
الثاني: أنّ محل الكلام في هذه القاعدة إنّما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب تاماً في ظرفه ومطلقاً-أي من دون فرق في ذلك بين أن تكون مقدمته الاعدادية موجودة في الخارج أو غير موجودة-وأن يكون وجوبه مشروطاً بمجيء زمان متعلقه أو لا،وذلك كوجوب الحج،فانّه وإن كان مشروطاً بمجيء يوم عرفة بناءً على استحالة الواجب المعلّق،إلّاأنّ ملاكه يتم بتحقق الاستطاعة كما هو مقتضى قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1.
فانّه ظاهر في أنّ ملاك وجوبه في ظرفه صار تاماً بعد تحقق الاستطاعة، ولا يتوقف على مجيء زمان متعلقه وهو يوم عرفة،وعليه فمن ترك المسير إلى الحج بعد وجود الاستطاعة يستحق العقاب على تركه وإن امتنع عليه الفعل عندئذ في وقته،لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.وكذا من ألقى نفسه من شاهق فانّه يستحق العقاب عليه.هذا هو الملاك في جريان هذه القاعدة، ومن المعلوم أنّ هذا الملاك غير موجود في المقام بل هو في طرف النقيض مع مورد القاعدة،وذلك لأنّ الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن
مشتملاً على الملاك،فالدخول فيها من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه،ضرورة أنّ الداخل فيها هو الذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره.فإذن لا يمكن أن يكون الخروج داخلاً في موضوع القاعدة.
وعلى الجملة:فمورد القاعدة كما عرفت ما إذا كان ملاك الحكم تاماً مطلقاً – أي سواء أوجد المكلف مقدمته الوجودية أم لم يوجد-كوجوب الحج مثلاً فان ملاكه تام بعد تحقق الاستطاعة،وإن لم يوجد المكلف مقدمته في الخارج، غاية الأمر أ نّه إذا تركها امتنع عليه الحج فيدخل عندئذ في موضوع القاعدة، وهذا بخلاف الخروج،فانّه لا ملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول في الأرض المغصوبة،فيكون الدخول مما له دخل في تحقق الملاك فيه.
وعلى هذا الضوء يمتنع دخول الخروج في كبرى تلك القاعدة كما هو ظاهر.
الثالث: أنّ مناط دخول شيء في موضوع القاعدة هو أن يكون الاتيان بمقدمته موجباً للقدرة عليه،ليكون الآتي بها قابلاً لتوجيه التكليف إليه فعلاً، وهذا كالاتيان بمقدمة الحج،فانّه يوجب تحقق قدرة المكلف على الاتيان به وصيرورته قابلاً لتوجيه التكليف به فعلاً.وأمّا إذا ترك المسير إليه ولم يأت بهذه المقدمة،لامتنع الحج عليه ولسقط وجوبه،ولكن بما أنّ امتناعه منتهٍ إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه،وهذا معنى كونه من صغريات تلك القاعدة.
وأمّا المقام فليس الأمر فيه كذلك،لأنّ الدخول وإن كان مقدمةً إعدادية للخروج وموجباً للقدرة عليه،إلّاأ نّه يوجب سقوط الخطاب عنه،لا أ نّه يوجب فعلية الخطاب به،والوجه فيه ما ذكروه من أنّ المكلف في هذا الحال يدور أمره بين البقاء في الدار المغصوبة والخروج عنها،ومن المعلوم أنّ العقل
يلزمه بالخروج مقدمة للتخلص عن الحرام،ولا يجوز له البقاء لأنّه تصرف زائد.
وعلى هذا فلا محالة يضطر المكلف إلى الخروج عنها ولا يقدر على تركه تشريعاً وإن كان قادراً عليه تكويناً،ومعه لا يمكن للشارع أن ينهى عنه،ومن الطبيعي أنّ مثل هذا غير داخل في مورد القاعدة.
وإن شئت فقل:إنّ ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان،فانّ إيجاد المقدمة فيما نحن فيه-أعني بها الدخول في الأرض المغصوبة-يوجب سقوط الخطاب بترك الخروج،وفي مورد القاعدة يوجب فعلية الخطاب كما عرفت،فإذن كيف يمكن دخول المقام تحت القاعدة.
الرابع: أنّ الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل، وهذا يكشف عن كونه مقدوراً وقابلاً لتعلق التكليف به،ومن المعلوم أنّ كلّما كان كذلك-أعني كونه واجباً ولو بحكم العقل-لا يدخل في كبرى تلك القاعدة قطعاً،ضرورة أنّ مورد القاعدة هو ما إذا كان الفعل غير قابل لتعلق التكليف به لامتناعه،وأمّا إذا فرض كونه قابلاً لذلك ولو عقلاً،فلا موجب لسقوط الخطاب المتعلق به شرعاً أصلاً.فإذن فرض تعلق الخطاب الوجوبي به مع فرض كونه داخلاً في موضوع القاعدة فرضان متنافيان فلا يمكن الجمع بينهما،وعليه فكيف يمكن كون المقام من صغريات القاعدة.
نتيجة جميع ما ذكره (قدس سره) هي أنّ الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) من الوجوه:إنّ هذه الوجوه جميعاً تبتني على الاشتباه في نقطتين:
الاُولى: توهم اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية،والغفلة عن أ نّه لا فرق في جريانها بين موارد التكاليف الوجوبية وموارد التكاليف التحريمية،فهما من هذه الناحية على صعيد واحد،والفارق هو أنّ ترك المقدمة في التكاليف الوجوبية غالباً بل دائماً يفضي إلى ترك الواجب وامتناع فعله في الخارج،كمن ترك المسير إلى الحج فانّه يوجب امتناع فعله،وهذا بخلاف التكاليف التحريمية فان في مواردها إيجاد المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه لا تركها،مثلاً الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه،لا تركه فانّه لا يوجب امتناع فعله،فتكون موارد التكاليف التحريمية من هذه الناحية على عكس موارد التكاليف الوجوبية.
الثانية: توهم اختصاص جريان القاعدة بموارد الامتناع التكويني كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه،وعدم جريانها في موارد الامتناع التشريعي،فتخيل أنّ الامتناع العارض على الفعل المنتهي إلى اختيار المكلف وإرادته إن كان امتناعاً تكوينياً فيدخل في موضوع القاعدة،وإن كان تشريعياً فلا يدخل فيه.
ولكن كلتا النقطتين خاطئة:
أمّا النقطة الاُولى: فلضرورة أنّ الملاك في جريان هذه القاعدة في مورد هو أن يكون امتناع امتثال التكليف فيه منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته،فلا فرق بين أن يكون ذلك التكليف تكليفاً وجوبياً أو تحريمياً،وبلا فرق بين أن يكون امتناع امتثاله من ناحية ترك ما يفضي إلى ذلك كترك المسير إلى الحج،أو من ناحية فعل ما يفضي إليه كالدخول في الأرض المغصوبة،فكما أ نّه على الأوّل يقال إنّ امتناع فعل الحج يوم عرفة بما أ نّه منتهٍ إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه،فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،فكذلك على الثاني يقال إنّ
امتناع ترك الغصب بما أ نّه منتهٍ إلى الاختيار فلا يسقط العقاب،لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،فلا فرق بينهما في الدخول في موضوع القاعدة أصلاً.
وبكلمة اخرى:أ نّه لا واقع موضوعي لهذه القاعدة ما عدا كون امتناع امتثال التكليف منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته،فيقال إنّ هذا الامتناع بما أ نّه مستند إلى اختياره فلا ينافي العقاب،لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،هذا هو واقع تلك القاعدة،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في ذلك بين التكليف الوجوبي والتحريمي أبداً.نعم،تمتاز التكاليف التحريمية عن التكاليف الوجوبية في نقطة اخرى:وهي أنّ في موارد التكاليف الوجوبية يستند امتناع فعل الواجب في الخارج كما عرفت إلى ترك المقدمة اختياراً،وفي موارد التكاليف التحريمية يستند امتناع ترك الحرام كالمثال المتقدم وما شاكله إلى فعل المقدمة،ولكن من المعلوم أ نّه لا أثر لهذا الفرق بالاضافة إلى الدخول في موضوع القاعدة كما مرّ.
وأمّا النقطة الثانية: فلأ نّه لا فرق في الدخول في كبرى تلك القاعدة بين أن يكون الامتناع الناشئ من الاضطرار بسوء الاختيار تكوينياً كامتناع فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه وما شابه ذلك،أو تشريعياً ناشئاً من إلزام الشارع بفعل شيء أو بتركه،فانّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي،ضرورة أنّ الميزان في جريان هذه القاعدة كما عرفت هو ما كان امتناع الامتثال مستنداً إلى اختيار المكلف،ومن الطبيعي أنّ الامتثال قد يمتنع عقلاً وتكويناً وقد يمتنع شرعاً،ومن المعلوم أ نّه لا فرق بينهما من ناحية الدخول في موضوع القاعدة أصلاً إذا كان منتهياً إلى الاختيار،وهذا واضح.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد جميع هذه الوجوه:
أمّا الوجه الأوّل: فلأ نّه مبني على اختصاص القاعدة بموارد الامتناع التكويني،ليختص جريانها بما إذا عرضه الامتناع في الخارج تكويناً وكان ذلك بسوء اختيار المكلف كالاتيان بالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق مثلاً وما شابه ذلك،وعليه فلا محالة لا تشمل مثل الخروج عن الدار المغصوبة،لفرض أ نّه غير ممتنع تكويناً ومقدور للمكلف عقلاً فعلاً وتركاً،وإن كان غير مقدور له تشريعاً، ولكن قد عرفت أ نّه لا وجه لهذا التخصيص أصلاً،ولا فرق في جريان هذه القاعدة بين أن يكون امتناع الفعل تكوينياً أو تشريعياً،فكما أ نّها تجري على الأوّل،فكذلك تجري على الثاني.
وعلى هدى ذلك قد تبيّن أنّ الخروج عن الأرض المغصوبة في مفروض الكلام وما شاكله داخل في كبرى تلك القاعدة،وذلك لأنّ الخروج وإن كان مقدوراً للمكلف تكويناً فعلاً وتركاً،إلّاأ نّه لا مناص له من اختياره خارجاً، والوجه فيه:هو أنّ أمره في هذا الحال يدور بين البقاء في الأرض المغصوبة والخروج عنها ولا ثالث لهما،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ التصرف فيها بغير الخروج بما ا نّه محرّم فعلاً من جهة أ نّه أهمّ المحذورين وأقوى القبيحين،فلا محالة يحكم العقل بتعين اختيار الخروج والفرار عن غيره،ومع هذا يمتنع النهي عنه بالفعل،لأنّ حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلاً الموجب لامتناع ترك الخروج تشريعاً لا يجتمع مع النهي عن الخروج أيضاً،فالنتيجة:أ نّه لا يمكن النهي عنه في هذا الحال لامتناع تركه من ناحية إلزام الشارع بترك البقاء والتصرف بغيره كما هو واضح،ولكن بما أ نّه مستند إلى اختيار المكلف فلا ينافي العقاب فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وعلى الجملة: فمن دخل الأرض المغصوبة باختياره وإرادته وإن كان قادراً على الخروج منها عقلاً كما أ نّه قادر على البقاء فيها كذلك،فانّ ما هو خارج عن قدرته واختياره هو مطلق الكون فيها الجامع بين البقاء والخروج لا كل واحد منهما في نفسه،إلّاأنّ حرمة التصرف فعلاً بغير الخروج تستلزم لا محالة لزوم اختيار الخروج بحكم العقل فراراً عن المحذور الأهم،وعلى هذا فالنهي عن الخروج ممتنع لامتناع تركه من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره،ولكن هذا من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره،ولكن هذا الامتناع بما أ نّه منته إلى اختياره فلا ينافي العقاب،وهذا معنى كونه داخلاً في موضوع القاعدة.فما أفاده (قدس سره) في هذا الوجه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
وأمّا الوجه الثاني: فلأ نّه مبتنٍ على اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية،ببيان أنّ المعتبر في دخول شيء في تلك القاعدة هو أن يكون ملاك الواجب تاماً في ظرفه،سواء أكان المكلف أوجد مقدمته الوجودية أم لا، وذلك كالحج في الموسم فانّ ملاكه تام بعد حصول الاستطاعة وإن لم توجد مقدمته في الخارج،ففي مثل ذلك إذا ترك المكلف مقدمته كالمسير إليه فلا محالة امتنع الواجب عليه في ظرفه ويفوت منه الملاك الملزم،وبما أنّ تفويته باختياره فلأجل ذلك يستحق العقاب.وأمّا الخروج في مفروض الكلام بما أ نّه لا ملاك لوجوبه قبل حصول مقدمته وهي الدخول لفرض أنّ له دخلاً في ملاكه وتحقق القدرة عليه،فلا يكون مشمولاً لتلك القاعدة.
وغير خفي ما في ذلك، فانّ فيه خلطاً بين جريان القاعدة في موارد التكاليف الوجوبية وجريانها في موارد التكاليف التحريمية،وتخيل أنّ جريانها في كلا الموردين على صعيد واحد،مع أنّ الأمر ليس كذلك،لوضوح أنّ الكلام في دخول الخروج في موضوع القاعدة وعدم دخوله ليس من ناحية حكمه
الوجوبي ليقال إنّه قبل الدخول لا ملاك له ليفوت بتركه فيستحق العقاب عليه إذا كان بسوء اختياره،بل من ناحية حكمه التحريمي،وهذا لعلّه من الواضحات، ومن المعلوم أ نّه من هذه الناحية داخل في كبرى القاعدة،لما عرفت من أنّ حرمة التصرف فعلاً بغير الخروج أوجبت بحكم العقل لزوم اختياره فراراً عن المحذور الأهم،وامتناع تركه تشريعاً وإن لم يكن ممتنعاً تكويناً،ولكن بما أ نّه منتهٍ إلى الاختيار فيستحق العقاب عليه،لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا أنّ التكاليف الوجوبية تمتاز عن التكاليف التحريمية في نقطة،وهي أنّ في موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة غالباً أو دائماً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج تكويناً أو تشريعاً،وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة غالباً يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج كذلك،فهما من هذه الناحية على طرفي النقيض.
وعلى أساس تلك النقطة قد ظهر حال الخروج فيما نحن فيه،فانّ له ناحيتين،أعني ناحية حرمته وناحية وجوبه،فمرةً ننظر إليه من ناحية حرمته واُخرى من ناحية وجوبه.
أمّا من ناحية حرمته،فقد عرفت أ نّه لا إشكال في دخوله في موضوع القاعدة.
ولكنّ العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كيف غفل عن هذه الناحية ولم يتعرض لها في كلامه أبداً لا نفياً ولا إثباتاً،وأصرّ على عدم انطباق القاعدة عليه،مع أ نّه من الواضح جداً أ نّه لو التفت إلى هذه الناحية لالتزم بانطباق القاعدة عليه،بداهة أ نّه (قدس سره) لا يفرّق في جريان هذه القاعدة
بين التكاليف الوجوبية والتكاليف التحريمية،لعدم الموجب له أبداً وهذا واضح.
وأمّا من ناحية وجوبه،فعلى ما يراه (قدس سره) من أ نّه واجب شرعاً من جهة دخوله في موضوع قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه فالأمر كما أفاده،لوضوح أ نّه من هذه الناحية غير داخل في القاعدة،لعدم الملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي الدخول ليفوت منه ذلك بترك هذه المقدمة،ليستحق العقاب على تفويته إذا كان باختياره،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:أ نّه بعد إيجاد مقدمته بالاختيار لا يفوت منه الواجب على الفرض ليستحق العقاب على تفويته،فإذن لا يمكن أن يكون الخروج من هذه الناحية داخلاً في كبرى القاعدة.ولكن سنبين عن قريب إن شاء اللّٰه تعالى 1أنّ هذه الناحية ممنوعة وأنّ الخروج ليس بواجب شرعاً وإنّما هو واجب بحكم العقل،بمعنى أنّ العقل يدرك أنّ المكلف لا بدّ له من اختياره ولا مناص عنه من ناحية حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلاً،وعليه فلا وجه لخروجه عن موضوع القاعدة.
أضف إلى ذلك:أ نّه على فرض تسليم وجوبه وإن كان خارجاً عنه،إلّاأ نّه لا شبهة في دخوله فيه من ناحية تحريمه كما عرفت،فإذن لا وجه لاصراره (قدس سره) لخروجه عنه إلّاغفلته عن هذه الناحية كما أشرنا إليه آنفاً.
وأمّا الوجه الثالث فيرد عليه:أ نّه مبني على الخلط بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام والغفلة عن نقطة ميزهما،بيان ذلك:هو أنّ إيجاد المقدمة في موارد التكاليف الوجوبية يوجب قدرة المكلف على إتيان الواجب وامتثاله
وصيرورته قابلاً لأن يتوجه إليه التكليف فعلاً.وأمّا في موارد التكاليف التحريمية فترك المقدمة يوجب قدرة المكلف على ترك الحرام،وعلى هذا ففي موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة المزبورة يوجب امتناع فعل الواجب في الخارج فيدخل في مورد القاعدة كما عرفت،وفي موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام.ففيما نحن فيه الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع الخروج تشريعاً من ناحية حكم الشارع بحرمة التصرف بغيره فعلاً ويوجب سقوط النهي عنه،كما أنّ ترك الدخول فيها يوجب فعلية النهي عنه.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على خلط مقدمة الحرام بمقدمة الواجب.
وأمّا الوجه الرابع: فقد ظهر بطلانه مما تقدم،وملخصه:هو أنّ حكم العقل بلزوم اختياره الخروج دفعاً للمحذور الأهم وإن كان يستلزم كونه مقدوراً للمكلف تكويناً،إلّاأ نّه لا يستلزم كونه محكوماً بحكم شرعاً،لعدم الملازمة بين حكم العقل بلزوم اختياره في هذا الحال وإمكان تعلق الحكم الشرعي به، والوجه في ذلك:هو أنّ حكم العقل وإدراكه بأ نّه لا بدّ من اختياره وإن كان كاشفاً عن كونه مقدوراً تكويناً،إلّاأ نّه مع ذلك لا يمكن للشارع أن ينهى عنه فعلاً،وذلك لأنّ منشأ هذا الحكم العقلي إنّما هو منع الشارع عن التصرف بغيره فعلاً الموجب لعجز المكلف عنه بقاعدة أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، ومع ذلك لو منع الشارع عنه أيضاً منعاً فعلياً لزم التكليف بما لا يطاق وهو محال،فإذن لا يمكن أن يمنع عنه فعلاً كما هو واضح،وهذا معنى سقوط النهي عنه وعدم إمكانه،ولكن بما أنّ ذلك كان بسوء اختياره وإرادته فلا ينافي العقاب،لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فما أفاده (قدس سره) من دعوى الملازمة بين وجوب الخروج بحكم العقل
وكونه قابلاً لتعلق التكليف به خاطئة جداً ولا واقع لها أصلاً.نعم،هذه الدعوى تامة على تقدير القول بكون الخروج محكوماً بالوجوب كما هو مختاره (قدس سره).
إلى هنا قد تبيّن أنّ ما أفاده (قدس سره) من الوجوه لاثبات أنّ الخروج غير داخل في كبرى تلك القاعدة لا يتم شيء منها.
وأمّا الكلام في الدعوى الثالثة: وهي كون المقام داخلاً في كبرى قاعدة وجوب ردّ مال الغير إلى مالكه،فقد ذكر (قدس سره) 1أ نّه بعد بطلان دخول المقام في كبرى قاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالوجوه المتقدمة من ناحية،وبطلان بقية الأقوال من ناحية اخرى،لا مناص من الالتزام بكونه داخلاً في موضوع قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه،ببيان أ نّه كما يجب ردّ المغصوب إلى صاحبه في غير هذا المقام،يجب ردّه إلى مالكه هنا أيضاً وهو يتحقق هنا بالخروج،فإذن يكون الخروج مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه في غير المنقولات،فيكون واجباً لا محالة عقلاً وشرعاً،كما أنّ البقاء فيها على أنحائه محرّم.
والوجه في ذلك:هو أنّ الاضطرار متعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة الجامع بين البقاء والخروج،لا بخصوص البقاء لتسقط حرمته،ولا بخصوص الخروج ليسقط وجوبه،ضرورة أنّ ما هو خارج عن قدرة المكلف إنّما هو ترك مطلق الكون فيها بمقدار أقل زمان يمكن فيه الخروج،لا كل منهما، ولأجل ذلك لا يمكن النهي عن مطلق الكون فيها،ولكن يمكن النهي عن البقاء فيها بشتى أنحائه،لأنّ المفروض أ نّه مقدور للمكلف فعلاً وتركاً،ومعه لا مانع
من تعلق النهي به بالفعل أصلاً.
ومن هنا قلنا إنّ البقاء وهو التصرف فيها بغير الحركة الخروجية محرّم، ولا تسقط حرمته من ناحية الاضطرار لفرض عدم تعلقه به،والخروج بما أ نّه مصداق للتخلية بين المال وصاحبه فلا محالة يكون واجباً شرعاً،وعليه فيكون المقام من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير الذي يكون بعض أفراده واجباً وبعضها الآخر محرّماً،نظير ما إذا اضطرّ المكلف لرفع عطشه مثلاً إلى شرب الماء الجامع بين الماء النجس والطاهر،فانّه لا يوجب سقوط الحرمة عن شرب النجس،لفرض عدم الاضطرار إليه،بل هو باقٍ على حرمته ووجوب الاجتناب عنه.
وعلى الجملة: فالخروج واجب بحكم الشرع والعقل من ناحية دخوله في كبرى تلك القاعدة،أعني قاعدة وجوب التخلية بين المال ومالكه،وامتناع كونه داخلاً في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،ومن المعلوم أنّ عنوان التخلص والتخلية من العناوين المحسّنة عقلاً المطلوبة شرعاً من ناحية اشتمالها على مصلحة إلزامية،وأمّا غيره-أي غير الخروج من أقسام التصرف-فيبقى على حرمته كما عرفت.
والجواب عن ذلك: أنّ الحركات الخروجية مضادّة لعنوان التخلية والتخلص، ضرورة أنّ تلك الحركات تصرف في مال الغير حقيقةً وواقعاً ومصداق للغصب كذلك،ومعه كيف تكون مصداقاً للتخلية،لوضوح أنّ التخلية هي إيجاد الخلأ في المكان وهو يضاد الاشغال والابتلاء به،ومن الواضح جداً أنّ الحركات الخروجية مصداق لعنوان الاشغال والابتلاء،فكيف يصدق عليه عنوان التخلص والتخلية،فانّهما من العناوين المتضادة فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر،بداهة أنّ ظرف تحقق الخلاص وإيجاد الخلأ والفراغ بين المال ومالكه
حال انتهاء الحركة الخروجية،وعليه فكيف يعقل أن تكون تلك الحركات مصداقاً للتخلية ومعنونةً بعنوان التخلص.
وبكلمة اخرى:أنّ من يقول بهذه المقالة-أي بكون الحركة الخروجية مصداقاً للتخلص والتخلية-إن اريد بمصداقيتها لها بالاضافة إلى أصل الغصب هنا والتصرف في مال الغير،فيردّ ذلك ما عرفت الآن من أ نّه ما دام في الدار سواء اشتغل بالحركات الخروجية أم لا،فهو معنون بعنوان الابتلاء والاشغال بالغصب لا بعنوان التخلص والتخلية،فهما عنوانان متضادان لا يصدقان على شيء واحد.هذا إذا كان عنوان التخلص عنواناً وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ والخلأ بين المال وصاحبه،كما هو الصحيح.وأمّا إذا فرض أ نّه عنوان عدمي وعبارة عن ترك الغصب فيكون عندئذ نقيضاً لعنوان الابتلاء،ومن الطبيعي استحالة صدق أحد النقيضين على ما يصدق عليه الآخر،وكيف كان فعنوان التخلص سواء أكان عنواناً وجودياً أو عدمياً فهو مقابل لعنوان الابتلاء فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.
وإن اريد بالاضافة إلى الغصب الزائد على ما يوازي زمان الخروج،ببيان أنّ التصرف في مال الغير في هذا المقدار من الزمان مما لا بدّ منه فلا يتمكن المكلف من تركه،ولأجل ذلك ترتفع حرمته،وأمّا الزائد على ما يوازي هذا الزمان فهو متمكن من تركه بالخروج عنها وقادر على التخلص عنه،فعندئذ لا محالة تقع الحركات الخروجية مصداقاً للتخلية والتخلص بالاضافة إلى الغصب الزائد،ومعه تكون محبوبة ومشتملة على مصلحة إلزامية فتجب،فيرد على ذلك:أنّ عنوان التخلص لايصدق عليها بالاضافة إلى الغصب الزائد أيضاً، ضرورة أنّ صدق عنوان التخلص عن الشيء فرع الابتلاء به،فما دام لم يبتل بشيء فلا يصدق أ نّه خلص عنه إلّابالعناية والمجاز،والمفروض في المقام أنّ
المكلف بعدُ غير مبتلى به ليصدق عليه فعلاً أ نّه خلص منه بهذه الحركات الخروجية.نعم،بعد مضي زمان بمقدار يوازي زمان الخروج إن بقي المكلف فيها فهو مبتلى به لفرض بقائه وعدم خروجه،وإن خرج فهو متخلص عنه، فعنوان التخلص عن الغصب الزائد يصدق عليه بعد الخروج وفي ظرف انتهاء الحركة الخروجية إلى الكون في خارج الدار لا قبله،كما هو واضح،وعليه فكيف تتصف تلك الحركة بعنوان التخلص والتخلية.
ودعوى أنّ هذه الحركات وإن لم تكن مصداقاً لعنوان التخلية والتخلص لتكون واجبة بوجوب نفسي،إلّاأ نّه لا شبهة في كونها مقدمة له فتكون واجبة بوجوب مقدمي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً،وذلك لأنّ تلك الحركات الخاصة-أعني الحركات الخروجية-مقدّمة للكون في خارج الدار،ولا يعقل أن تكون مقدمة لعنوان التخلص،فان عنوان التخلص لا يخلو من أن يكون عنواناً وجودياً وعبارة عن إيجاد الفراغ بين المال وصاحبه كما هو الصحيح،أو يكون أمراً عدمياً وعبارة عن عدم الغصب وتركه،وعلى كلا التقديرين فهو ملازم للكون في خارج الدار وجوداً لا أ نّه عينه.
أمّا الثاني فواضح،ضرورة أنّ ترك الغصب ليس عين الكون في خارج الدار،بل هو ملازم له خارجاً،لاستحالة أن يكون الأمر العدمي مصداقاً للأمر الوجودي وبالعكس.وأمّا الأوّل فأيضاً كذلك،لوضوح أنّ عنوان التخلص والتخلية ليس عين عنوان الكون فيه خارجاً ومنطبقاً عليه انطباق الطبيعي على فرده بل هو ملازم له وجوداً في الخارج،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ حكم أحد المتلازمين لا يسري إلى الملازم الآخر فضلاً إلى مقدمته.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أ نّه لا يمكن الحكم بوجوب تلك الحركات من
باب المقدمة أيضاً،فان ما هو واجب وهو عنوان التخلص ليست تلك الحركات مقدمة له،وما كانت تلك الحركات مقدمة له وهو الكون في خارج الدار ليس بواجب،ضرورة أنّ الكون فيه ليس من أحد الواجبات في الشريعة المقدسة لتكون مقدمته واجبة.
وبكلمة اخرى:فقد عرفت أنّ عنوان التخلية إمّا أن يكون مضاداً للحركات الخروجية أو مناقضاً لها،وعلى كلا التقديرين لا يعقل أن تكون تلك الحركات مقدمة له،لما ذكرناه في بحث الضد 1من استحالة كون أحد الضدين مقدمةً للضد الآخر أو أحد النقيضين مقدمة لنقيضه،كما تقدم هناك بشكل واضح فلاحظ.
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ عنوان التخلص متحد مع عنوان الكون في خارج الدار ومنطبق عليه انطباق الطبيعي على مصداقه،فعندئذ وإن كانت تلك الحركات مقدمة له-أي لعنوان التخلية والتخلص-إلّاأ نّه قد تقدم في بحث مقدمة الواجب 2أ نّه لا دليل على ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته،لتكون تلك الحركات واجبة بوجوب مقدمي.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أنّ الخروج ليس بواجب لا بوجوب نفسي،لعدم الملاك والمقتضي له،ولا بوجوب مقدمي،لعدم ثبوت الصغرى أوّلاً،وعلى تقدير ثبوتها فالكبرى غير ثابتة.
أضف إلى ذلك: أنّ الخروج ليس عنواناً لتلك الحركات المعدّة للكون في الخارج،بل هو عنوان لذلك الكون فيه،ضرورة أ نّه مقابل الدخول،فكما أنّ
الدخول عنوان للكون في الداخل فكذلك الخروج عنوان للكون في الخارج، فإذن لو صدق عليه عنوان التخلية والتخلص أيضاً فلا يجدي في اتصاف تلك الحركات بالوجوب كما هو واضح،فما أفاده (قدس سره) من أنّ الخروج مصداق للتخلية بين المال وصاحبه لو سلّمنا ذلك فلا يفيده أصلاً،لأنّ ذلك لا يوجب كون تلك الحركات محبوبة وواجبة،لفرض أ نّها ليست مصداقاً لها، غاية الأمر أ نّها عندئذ تكون مقدمة للواجب،ولكن عرفت أنّ مقدمة الواجب غير واجبة ولا سيّما إذا كانت مبغوضة.
ومن هنا يظهر أنّ قياسه (قدس سره) المقام بالاضطرار إلى الجامع بين المحلل والمحرم قياس في غير محلّه،لما عرفت من أنّ الخروج ليس بواجب ليكون الاضطرار في المقام متعلقاً بالجامع بين الواجب والحرام.
إلى هنا قد تبيّن بوضوح بطلان بقية الأقوال وصحة قول المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وهو أنّ المقام داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،وقد ظهر وجهها مما تقدم بشكل واضح فلا نعيد.
ثمّ إنّ له (قدس سره) 1هنا كلاماً آخر وحاصله:هو أ نّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه في حال من الحالات ولو كان ذلك بعنوان التخلية وردّه إليه كالخروج عن الدار المغصوبة في المقام كما هو ليس ببعيد،فغاية ما يوجب ذلك هو أن يكون حال الخروج هنا حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة،بيان ذلك:
هو أنّ الشارع بما أ نّه ينهى عن شرب الخمر مطلقاً من أيّ شخص كان وفي أيّة حالة ولا يرضى بشربه أصلاً لما فيه من المفسدة الالزامية،فمن الطبيعي أ نّه
لا يرضى بارتكاب المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شربه،ولكن بعد ارتكاب تلك المقدمة في الخارج ولو باختياره واضطراره إلى شربه من ناحية توقف حفظ النفس عليه لا محالة لا يقع هذا الشرب المتوقف عليه ذلك إلّا محبوباً للمولى ومطلوباً له عقلاً وشرعاً،وذلك كمن يجعل نفسه مريضاً باختياره وإرادته ويضطر بذلك إلى شربه،أو يأتي بمقدمة يضطر بها في حفظ بيضة الاسلام إلى قتل نفس محترمة مثلاً وهكذا،ولكن بعد جعل نفسه مضطراً إلى ذلك لا يقع الشرب المتوقف عليه حفظ النفس إلّامطلوباً عقلاً وشرعاً، وكذا قتل النفس المحترمة المتوقف عليه حفظ الدين لا يقع في الخارج إلّامحبوباً ومطلوباً.
وما نحن فيه كذلك،فانّ الشارع بما أ نّه لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه مطلقاً ولو كان ذلك بالخروج وبعنوان التخلية وردّه إلى مالكه،فلا محالة يحكم بحرمة المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى الخروج أعني بها الدخول،فعندئذ يقع الدخول محرّماً من ناحية نفسه ومن ناحية كونه مقدمةً للخروج،وأمّا الخروج بعده فيقع محبوباً ومطلوباً،عقلاً وشرعاً.
وعلى الجملة: فالخروج لا يخلو من أن يكون حاله حال ترك الصلاة فيكون مبغوضاً في حال دون آخر،كما في حال الحيض والنفاس وما شاكل ذلك فانّه يجوز للمرأة أن تفعل فعلاً كأن تشرب دواء يترتب عليه الحيض لتترك صلاتها، أو يكون حاله حال شرب الخمر فيكون مبغوضاً في جميع الحالات،ولذا يحرم التسبيب إليه،فإن كان من قبيل الأوّل فهو واجب نفساً من ناحية كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه،وإن كان من قبيل الثاني فهو واجب غيري من ناحية كونه مقدمةً لواجب أهم وهو التخلية بين المال ومالكه،فيكون حاله عندئذ حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة،فكما أ نّه
بعد الاضطرار إليه بسوء اختياره واجب بوجوب غيري ومطلوب للشارع، فكذلك الخروج بعد الدخول،غاية الأمر أنّ المقدمة التي بها اضطر المكلف إلى شرب الخمر لحفظ النفس المحترمة سائغة في نفسها،ولكنها صارت محرّمة من ناحية التسبيب والمقدمية،والمقدمة التي بها اضطرّ إلى الخروج محرّمة في نفسها مع قطع النظر عن كونها مفضية إلى ارتكاب محرّم آخر ومقدمة له،ولكن من المعلوم أ نّه لا دخل لذلك فيما نحن فيه أصلاً،بداهة أ نّه لا فرق في وقوع شرب الخمر مطلوباً في هذا الحال بين كون المقدمة التي توجب اضطرار المكلف إليه سائغة في نفسها أو محرّمة كذلك،غاية الأمر على الثاني يكون العقاب من ناحيتين:من ناحية حرمتها النفسية،ومن ناحية التسبيب بها إلى ارتكاب محرّم آخر.
فالنتيجة: هي أنّ الخروج إمّا أن يكون ملحقاً بالقسم الأوّل،وعلى هذا فيكون واجباً في نفسه ومطلوباً لذاته ولا يكون محرّماً أبداً،بمعنى أنّ التصرف في أرض الغير بالدخول والبقاء فيها محرّم لا مطلقاً ولو كان بالخروج،فانّه واجب باعتبار كونه مصداقاً للتخلية بين المال ومالكه،وإمّا أن يكون ملحقاً بالقسم الثاني،وعلى هذا فيكون واجباً غيرياً باعتبار أ نّه مقدمة لواجب أهم، وإن كان محرّماً في نفسه من ناحية أ نّه تصرف في مال الغير وهو محرّم مطلقاً على الفرض،وكيف كان فهو على كلا التقديرين غير داخل في موضوع قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) وهي أنّ تلك الحركات-أعني الحركات التي هي مقدمة للكون في خارج الدار-خارجة عن كلا البابين، فكما أ نّها ليست من صغريات الباب الأوّل،فكذلك ليست من صغريات هذا الباب،والوجه في ذلك:ما تقدم من أنّ تلك الحركات بقيت على ما هي عليه
من المبغوضية من دون أن تعرض لها جهة محبوبية نفسية أو غيرية،بداهة أ نّها تصرف في مال الغير بدون إذنه ومصداق للغصب،ومعه كيف تعرض عليها جهة محبوبية،وقد سبق أ نّها ليست مقدمة لواجب أيضاً ليعرض عليها الوجوب الغيري،غاية ما في الباب أنّ العقل يرشد إلى اختيار تلك الحركات من ناحية أ نّها أخف القبيحين وأقلّ المحذورين،وبما أنّ ذلك منتهٍ إلى اختيار المكلف فلا ينافي استحقاق العقاب عليها.وعلى تقدير تسليم كونها مقدمة فقد عرفت أ نّها غير واجبة.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا عروض الوجوب الغيري لها،فمن الطبيعي أ نّه لا ينافي مبغوضيتها النفسية واستحقاق العقاب عليها إذا كان الاضطرار إليها بسوء الاختيار،كما هو الحال في المقام،ضرورة أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن الملاك ومحبوبية متعلقه ليقال إنّها كيف تجتمع مع فرض مبغوضيتها في نفسها،بل هو ناش عن مجرد صفة مقدميتها وتوقف الواجب عليها،ومن المعلوم أ نّها لا تنافي مبغوضيتها النفسية أصلاً.
ومن ذلك يظهر حال المثالين المزبورين أيضاً،وذلك لأنّ العقاب فيهما ليس على التسبيب والاتيان بالمقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شرب الخمر أو قتل النفس المحترمة،والوجه في ذلك:هو أنّ تلك المقدمة لو كانت محرّمةً في ذاتها ومبغوضة للمولى لاستحق العقاب على نفسها،سواء أكانت مقدمة لارتكاب محرّم آخر أم لا،وأمّا لو لم تكن محرّمة بذاتها وكانت سائغة في نفسها،فلا وجه لاستحقاق العقاب عليها أصلاً،بل يستحق العقاب عندئذ على ارتكاب المحرم كشرب الخمر مثلاً أو قتل النفس،لفرض أنّ الاضطرار إلى ذلك منتهٍ إلى الاختيار،بداهة أ نّه لو لم يكن هذا الشرب أو القتل الذي هو مقدمة لواجب أهم مبغوضاً للمولى،بل كان محبوباً له من ناحية عروض الوجوب الغيري له
على الفرض،لا معنى لاستحقاق العقاب على التسبيب إليه وكونه-أي التسبيب-مبغوضاً ومحرّماً لوضوح أنّ التسبيب إلى المحرّم حرام ومبغوض،لا التسبيب إلى غيره،وأمّا إذا فرض كون هذا الشرب أو القتل محبوباً فلا يعقل كون التسبيب إليه محرّماً وهذا واضح.فاذن لا مناص من الالتزام بكون العقاب على نفس هذا الشرب أو القتل باعتبار أنّ الاضطرار إلى ارتكاب ذلك منتهٍ إلى الاختيار فلا ينافي العقاب،ومجرد اتصافه بالوجوب الغيري على فرض القول به لا ينافي مبغوضيته في نفسه،لفرض أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن مصلحة ملزمة في متعلقه،بل هو ناشٍ عن مصلحة في غيره فلا ينافي مبغوضيته أصلاً كما عرفت.
فالنتيجة:أنّ هذين المثالين وما شاكلهما كالخروج جميعاً داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،وأنّ الجميع بالاضافة إلى الدخول في كبرى تلك القاعدة على صعيد واحد،وأنّ العقل في جميع ذلك يرشد إلى اختيار ما هو أخف القبيحين وأقل المحذورين.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الخروج أو ما شاكله ليس محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية فعلاً،ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار من جهة انتهائه إلى سوء الاختيار،ومعه لا محالة يبقى على مبغوضيته ويستحق العقاب على ارتكابه وإن كان العقل يرشد إلى اختياره ويلزمه بارتكابه فراراً عن المحذور الأهم،ولكن عرفت أنّ ذلك لا ينافي العقاب عليه إذا كان منتهياً إلى سوء اختياره،كما هو مفروض المقام.
[ حكم الصلاة حال الخروج ]
أمّا الكلام في المورد الثاني،وهو حكم الصلاة الواقعة حال الخروج،فيقع في عدة موارد:
الأوّل:ما إذا كان المكلف غير متمكن من الصلاة في خارج الدار أصلاً، لا مع الركوع والسجود ولا مع الايماء،لضيق الوقت أو نحوه.
الثاني:أن يتمكن من الصلاة مع الايماء فيه،ولا يتمكن من الصلاة مع الركوع والسجود.
الثالث:أن يتمكن من الصلاة في الخارج مع الركوع والسجود لسعة الوقت.
أمّا الكلام في المورد الأوّل: فيجوز له الصلاة حال الخروج،ولكن يقتصر فيها على الايماء بدلاً عن الركوع والسجود،وذلك لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة،ومعه لا محالة تنتقل الوظيفة إلى بدلهما وهو الايماء،هذا على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية.وأمّا على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع وجوداً فمقتضى القاعدة الأوّلية عدم جواز إيقاع الصلاة حال الخروج،لفرض أنّ الحركات الخروجية متحدة مع الصلاة خارجاً،ومعه لا يمكن التقرب بها،ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى،ولكن مقتضى القاعدة الثانوية هو لزوم الاتيان بها،لأنّها لا تسقط بحال،ومردّ ذلك إلى سقوط المبغوضية عن تلك الحركات بمقدار زمان تسع الصلاة فيه.
وبكلمة اخرى:أنّ من دخل الدار المغصوبة بسوء اختياره ولا يتمكن من