آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱
جلد
1
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱
جلد
1
وهذا بخلاف أسماء الاشارة والضمائر ونحوهما،فانّ الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لا بدّ منه في مرحلة الاستعمال،بيان ذلك:أ نّه إن اريد بالاشارة استعمال اللفظ في المعنى ودلالته عليه،كما قد تستعمل في ذلك في مثل قولنا:قد أشرنا إليه فيما تقدّم،أو فلان أشار إلى أمر فلاني في كلامه أو كتابه،فهذه الاشارة يشترك فيها جميع الألفاظ،فلا اختصاص لها بأسماء الاشارة وما يلحق بها.
وإن اريد بها أمر زائد على الاستعمال،فلا بدّ من أخذه في الموضوع له،ضرورة أ نّه ليس كلحاظ المعنى ممّا لا بدّ منه في مقام الاستعمال،بمعنى أ نّه ليس شيئاً يقتضيه طبع الاستعمال بحيث لا يمكن الاستعمال بدونه،فلا بدّ من أخذه قيداً في المعنى الموضوع له،وإلّا فالاستعمال بدونه بمكان من الامكان.
فالصحيح في المقام أن يقال:إنّ أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجاً عند الاشارة والتخاطب لا مطلقاً،فلا يمكن إبراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالاشارة والتخاطب،فكل متكلم تعهد في نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم معانيها أن يتكلم بها مقترنة بهذين الأمرين،فكملة (هذا) أو (ذاك) لا تدل على معناها وهو المفرد المذكر إلّابمعونة الاشارة الخارجية،كالإشارة باليد كما هي الغالب أو بالرأس أو بالعين،وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلّامقترناً بالخطاب الخارجي.
ومن هنا لا يفهم شيء من كلمة (هذا) مثلاً عند إطلاقها مجردة عن أيّة إشارة خارجية،وعلى ذلك جرت سيرة أهل المحاورة في مقام التفهيم والتفهم، وصريح الوجدان ومراجعة سائر اللغات أقوى شاهد على ما ذكرناه.
ثمّ لا يخفى أنّ مثل كلمة (هذا) أو (هو) إنّما وضعت لواقع المفرد المذكر أعني به كل مفهوم كلّي أو جزئي لا يكون مؤنثاً،لا لمفهومه،وإلّا فلازمه أن يكون لفظ هذا مرادفاً مع مفهوم المفرد المذكر،مع أ نّه خلاف الضرورة والوجدان،
وعلى ذلك فيكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً،وقس عليهما غيرهما من أسماء الاشارة والضمائر.
اختلفوا في أنّ ملاك صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وما يناسب الموضوع له،هل هو بالطبع أو بالوضع،أعني ترخيص الواضع في الاستعمال لوجود علقة من العلائق ؟ وجهان بل قولان:
فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1إلى الأوّل،بدعوى أنّ ملاك صحّة ذلك الاستعمال قبول الطبع له وكونه حسناً عند العرف،فأيّ استعمال مجازي كان حسناً عندهم وقبله الطبع السليم فهو صحيح وإن فرض أنّ الواضع لم يأذن فيه،بل وإن منع عنه،وكل استعمال لم يقبله الطبع فهو غير صحيح وإن أذن الواضع فيه،فاطلاق لفظ القمر على حسن الوجه واستعماله فيه صحيح وإن فرض أنّ الواضع لم يأذن فيه بل منع عنه،هذا.
وذهب المشهور إلى الثاني،وأنّ ملاك صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي إذن الواضع وترخيصه،سواء كان ممّا يقبله الطبع أم لا.
وعلى الجملة:فعلى القول الأوّل تدور صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازي وعدم صحّته مدار حسنه طبعاً وعرفاً وعدم حسنه كذلك،سواء أكان هناك إذن نوعي من الواضع أيضاً أم لم يكن.وعلى القول الثاني تدور مدار الوضع
النوعي وجوداً وعدماً،كان حسناً عند الطبع والعرف أيضاً أم لم يكن.
التحقيق في المقام أن يقال:إنّ البحث عن ذلك يبتني على إثبات أمرين:
الأوّل:وجود الاستعمالات المجازية في الألفاظ المتداولة بين العرف.
الثاني:انحصار الواضع بشخص واحد أو جماعة وإلّا فلا مجال لهذا البحث، فانّا إذا التزمنا بأنّ كل مستعمل واضع حسب تعهّده،فهو لم يتعهد إلّابارادة المعنى الموضوع له عند عدم القرينة على الخلاف،وأمّا مع وجود القرينة فلا مانع من الاستعمال،وحيث لم يثبت كلا الأمرين فلا موضوع لهذا البحث.
أمّا عدم ثبوت الأمر الأوّل، فلإمكان أن نلتزم بما نسب إلى السكاكي من أنّ اللفظ يستعمل دائماً في المعنى الموضوع له،غاية الأمر أنّ التطبيق قد يكون مبتنياً على التنزيل والادعاء،بمعنى أنّ المستعمل ينزّل شيئاً منزلة المعنى الحقيقي ويعتبره هو فيستعمل اللفظ فيه فيكون الاستعمال حقيقياً،ولا بعد فيما نسب إليه،فان فيه المبالغة في الكلام الجارية على طبق مقتضى الحال،وهذا بخلاف مسلك القوم،فانّه لا مبالغة فيه،إذ لا فرق حينئذ بين قولنا:زيد قمر، وقولنا:زيد حسن الوجه،أو بين قولنا:زيد أسد،وقولنا:زيد شجاع،مع أنّ مراجعة الوجدان تشهد على خلاف ذلك،ووجود الفارق بين الكلامين.
ونظير ذلك ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أن كلمة (لا) في مثل قوله (عليه السلام)«لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد»إنّما استعمل في نفي الحقيقة لكنّه على نحو الادعاء والمبالغة،لا في نفي الصفة أو الكمال،وإلّا فلا دلالة في الجملة على المبالغة 1.
وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه أنّ المبالغة ليست من أفراد الكذب ولا
مانع منها فيما إذا اقتضتها الحال 1.
وقد تلخص من ذلك: أنّ ما نسب إلى السكاكي من إنكار المجاز في الكلمة، وأنّ جميع الاستعمالات بشتّى أنواعها وأشكالها استعمالات حقيقية،أقرب إلى الحق.
وعلى ذلك لا يبقى مجال لهذا البحث،فان موضوعه الاستعمال المجازي، والمفروض أ نّه لا مجاز في الكلمة حتى يقع البحث في أن صحّته متوقفة على الاذن أو على الطبع،بل المجاز حينئذ إنّما هو في الاسناد والتطبيق،وبعد التصرف في الاسناد وتنزيل المعنى المجازي بمنزلة المعنى الحقيقي واعتباره فرداً منه ادعاءً،فالاستعمال استعمال في المعنى الحقيقي لا محالة.
وأمّا عدم ثبوت الأمر الثاني، فلما حققناه سابقاً في مبحث الوضع 2من أنّ الواضع لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة ولا سيما على مسلكنا من أ نّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني،فانّه على هذا كان كل مستعمل واضعاً حقيقة فلا يختص الواضع بشخص دون شخص،وعليه فنقول:إنّ الواضع كما تعهد بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى خاص دون أن يأتي بأيّة قرينة، كذلك قد تعهد بذكر ذلك اللفظ عند إرادة معنى آخر،ولكن مع نصب قرينة تدل عليها،غاية الأمر أنّ الوضع على الأوّل شخصي وعلى الثاني نوعي، وتسميته بذلك بملاحظة أنّ العلائق والقرائن غير منحصرة بواحدة.
وعلى الجملة:فالتعهد والالتزام كما هما موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني الحقيقية،كذلك موجودان بالقياس إلى تفهيم المعاني المجازية،فكل متكلم كما
تعهّد بأ نّه متى ما قصد تفهيم معنى خاص يتكلم بلفظ مخصوص مجرداً عن القرينة،كذلك تعهد بأ نّه متى ما قصد تفهيم معنى مناسب للمعنى الموضوع له يتكلم بذلك اللفظ مصحوباً بالقرينة ليكون المجموع مبرزاً له.
وقد تلخص من ذلك: أنّ عدم انحصار الواضع بشخص أو جماعة لا يدع مجالاً وموضوعاً للبحث المذكور،فانّه مبتن على أن يكون الواضع من أهل كل لغة شخصاً خاصاً أو جماعة معيّنين،ليقال إنّ جواز استعمال اللفظ في المعنى المجازي هل هو منوط بإذنه أم لا ؟ وأمّا إذا لم يكن الواضع منحصراً بشخص أو جماعة وكان كل مستعمل واضعاً فلا مجال له أصلاً.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أ نّه لا شبهة في صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به،كما إذا قيل:ضرب مثلاً فعل ماض،أو صنفه كما إذا قيل:زيد في ضرب زيد فاعل،إذا لم يقصد به شخص القول،أو مثله كضرب في المثال فيما إذا قصد،وقد أشرنا إلى أنّ صحّة الإطلاق كذلك وحسنه إنّما كان بالطبع لا بالوضع وإلّا كانت المهملات موضوعة لذلك،لصحّة الإطلاق كذلك فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى،وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل:زيد لفظ واُريد منه شخص نفسه،ففي صحّته بدون تأويل نظر 1.
توضيح ذلك:أنّ العلاقة الخارجية بين المعنى الموضوع له والمعنى المجازي
إذا كانت مقتضية لارتباط اللفظ بالمعنى المجازي ولحسن الاستعمال بالطبع، كانت العلاقة الذاتية بين اللفظ وما استعمل فيه-فانّه من سنخ اللفظ وفرده – مقتضية له لا محالة،فانّ الذاتية أقوى بمراتب من العلاقة الخارجية الموجودة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،واستشهد على أنّ هذه الاستعمالات طبعية لا وضعية،بصحة ذلك الإطلاق في الألفاظ المهملة أيضاً مع أ نّه لا وضع فيها أصلاً،فهذا يكشف قطعياً عن أ نّه بالطبع لا بالوضع.
أقول: تحقيق الكلام في هذا المقام:هو أنّ ما أفاده (قدس سره) يبتني على أمرين:
الأوّل: إثبات أنّ الواضع شخص واحد أو جماعة معيّنون،إذ لو كان كل مستعمل واضعاً لم يستبعد وجود الوضع في المهملات أيضاً،فانّه كما تعهد باستعمال الألفاظ في معانيها،كذلك قد تعهد بأ نّه متى ما أراد تفهيم نوع اللفظ أو صنفه أو مثله يبرزها به،ولا مانع من الالتزام بمثل ذلك الوضع والتعهد في الألفاظ المهملة أيضاً،فانّه لا يوجب خروجها عن الاهمال إلى البيان،وذلك لأنّ إهمالها باعتبار أ نّها لم توضع لافادة المعاني،وهذا لا ينافي ثبوت الوضع فيها لافادة نفسها.
الثاني: إثبات أنّ هذه الإطلاقات من قبيل الاستعمال،فانّه إذا لم يكن كذلك لم يبق مجال للبحث عن أ نّه بالوضع أو بالطبع.
والصحيح هو أ نّها ليست من قبيل الاستعمال في شيء،بيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي:أنّ المعاني لمّا كانت بأنفسها ممّا لا يمكن إبرازها في الخارج وإحضارها في الأذهان من دون واسطة،ضرورة أ نّه في جميع موارد الحاجة لا يمكن إراءة شخص معنى أو صورته أو ما يشبهه،فان كل ذلك لا يفي بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات والممتنعات،فلا محالة نحتاج إلى واسطة بها
تبرز المعاني وتحضر في الأذهان،وتلك الواسطة منحصرة بالألفاظ،فانّ بها تبرز المعاني للتعهد بذكرها عند إرادة تفهيمها في موارد الحاجة،وهذا بخلاف نفس الألفاظ،فانّها بأنفسها قابلة لأن تحضر في الأذهان من دون أيّة واسطة خارجية،فلا حاجة إلى إبرازها وإحضارها فيها إلى آلة بها تبرز وتحضر، ضرورة أ نّها لو لم تحضر بنفسها في الذهن واحتيج في إحضارها فيه إلى آلة اخرى،فتلك الآلة إمّا أن تكون لفظاً أو غير لفظ.
أمّا غير اللفظ،فقد عرفت أ نّه غير واف في إبراز المقصود في جميع موارد الحاجة،وأمّا اللفظ،فلأنا ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ ونقول إنّه إمّا أن يحضر في الذهن بنفسه أو لا يحضر،وعلى الأوّل فلا فرق بين لفظ دون لفظ بالضرورة،وعلى الثاني فان احتاج إلى لفظ آخر ننقل الكلام إلى ذلك اللفظ وهكذا فيذهب إلى غير النهاية،وأمّا المعنى فهو يحضر فيه بتوسط اللفظ، فالحاضر أوّلاً في الذهن هو اللفظ وبتبعه يحضر المعنى،فكل سامع للفظ الصادر من المتكلم ينتقل إلى اللفظ أوّلاً وإلى المعنى ثانياً وبتبعه.
فعلى ضوء ذلك نقول: قد ظهر أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه أو نوعه أو صنفه أو مثله ليس من قبيل استعمال اللفظ في المعنى لا بالوضع النوعي ولا بالوضع الشخصي،والوجه فيه هو أنّ الوضع مقدمة للاستعمال وإبراز المقاصد ولولاه لاختلت أنظمة الحياة كلّها من المادية والمعنوية،فتنظيمها وتنسيقها بشتى ألوانها وأشكالها متوقف على الوضع،فانّ المعاني النفسانية التي تتعلق بها الأغراض المادية أو المعنوية لايمكن إبرازها وإحضارها في الأذهان إلّابالجعل والمواضعة والتعهد بذكر الألفاظ عند إرادة تفهيم تلك المعاني،ولذلك السبب فالوضع يصبح ضرورياً.
ومن هنا يتبيّن لك أنّ ما لا يحتاج إبرازه وإحضاره في الأذهان إلى واسطة
بل يمكن إحضاره فيها بنفسه عند تعلق الغرض به فلا حاجة إلى الوضع فيه أصلاً بل هو لغو وعبث.
وحيث إنّ اللفظ بنفسه قابل لأن يحضر في ذهن المخاطب بلا واسطة أيّ شيء فالوضع فيه لغو محض لا محالة،وهذا بيان إجمالي لجميع الأقسام المذكورة.
وإليك بيان تفصيلي بالقياس إلى كل واحد منها:
أقول:أمّا القسم الأوّل منها: وهو ما إذا اطلق اللفظ واُريد به شخصه كما إذا قيل:زيد ثلاثي واُريد به شخص ذلك اللفظ،فليس هو من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء،وذلك لأن لازمه اتحاد الدال والمدلول ذاتاً وحقيقةً،إذ شخص هذا اللفظ دال وهو بعينه مدلول،وهذا غير معقول.
وقد أجاب عن ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بأنّ الدال والمدلول في المقام وإن كانا متحدين حقيقة إلّاأ نّه يكفي تعددهما اعتباراً،ولا يلزم أن يكون الدال والمدلول متعددين ذاتاً،وبما أن هنا حيثيتين واقعيتين وهما حيثية صدور اللفظ عن لافظه وحيثية أنّ شخصه متعلق إرادته،فهو من الحيثية الاُولى دال ومن الحيثية الثانية مدلول فلا يتحد الدال والمدلول من جميع الجهات.
ويردّه: أنّ هذه الدلالة-أي دلالة اللفظ على أ نّه مراد ومقصود-وإن كانت موجودة هنا إلّاأ نّها أجنبية عن دلالة اللفظ على المعنى رأساً،بل هي دلالة عقلية سائرة في جميع الأفعال الاختيارية،فان كل فعل صادر بالاختيار يدل على أ نّه مراد لا محالة،بداهة لزوم سبق الارادة على الفعل الاختياري في تمام الموارد،فهذه الدلالة من دلالة المعلول على علته وهي أجنبية عن دلالة الألفاظ على معانيها بالكلية.
ومن هنا قد أجاب شيخنا المحقق (قدس سره) عن الاشكال بجواب آخر وإليك نصّه:التحقيق أنّ المفهومين المتضائفين ليسا متقابلين مطلقاً بل التقابل في قسم خاص من التضائف،وهو ما إذا كان بين المتضائفين تعاند وتناف في الوجود،كالعلية والمعلولية والاُبوّة والبنوّة ممّا قضى البرهان بامتناع اجتماعهما في وجود واحد،لا في مثل العالمية والمعلومية والمحبية والمحبوبية،فانّهما يجتمعان في الواحد غير ذي الجهات كما لا يخفى،والحاكي والمحكي والدال والمدلول كاد أن يكون من قبيل القسم الثاني،حيث لا برهان على امتناع حكاية الشيء عن نفسه كما قال (عليه السلام):«يا من دلّ على ذاته بذاته» وقال (عليه السلام):«أنت دللتني عليك» 1.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه أيضاً،وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ التقابل في قسم خاص من التضائف لا في مطلق المتضائفين وإن كان صحيحاً، إلّا أ نّه أجنبي عن محل كلامنا هنا بالكلية،فانّه في دلالة اللفظ على المعنى وهي قسم خاص من الدلالة التي لا يمكن أن تجتمع في شيء واحد،لما بيّناه من أنّ حقيقة تلك الدلالة عبارة عن وجود اللفظ وحضوره في ذهن المخاطب أوّلاً وحضور المعنى ووجوده فيه بتبعه ثانياً،فكل مخاطب بل كل سامع عند سماع اللفظ ينتقل إلى اللفظ أوّلاً وإلى المعنى ثانياً،فحضور اللفظ علّة لحضور المعنى، ومن البيّن الواضح أنّ ذلك لا يعقل في شيء واحد،بداهة أنّ العلية تقتضي الاثنينية والتعدد فلا يعقل علية حضور الشيء في الذهن لحضور نفسه،هذا بالقياس إلى المخاطب والسامع.
وأمّا بالقياس إلى المتكلم والمستعمل،فحقيقة الاستعمال إمّا هي عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى فكأ نّه لم يلق إلى المخاطب إلّاالمعنى ولا ينظر إلّاإليه كما
هو المشهور فيما بينهم،أو عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى ومبرزاً له كما هو الصحيح.فعلى التقديرين لا يعقل استعمال الشيء في نفسه،ضرورة استحالة فناء الشيء في نفسه وجعل الشيء علامة لنفسه،فانّهما لا يعقلان إلّابين شيئين متغايرين في الوجود.
وقد تلخّص من ذلك: أنّ اتحاد الدال والمدلول في الدلالة اللفظية غير معقول.
ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بدلالة ذاته تعالى على ذاته قياس مع الفارق، فان سنخ تلك الدلالة غير سنخ هذه الدلالة،إذ أ نّها بمعنى ظهور ذاته بذاته وتجلّي ذاته لذاته،بل ظهور جميع الكائنات بشتى ألوانها وأشكالها من الماديات والمجردات بذاته تعالى،وهذا بخلاف الدلالة هنا فانّها بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء آخر.
فعلى ضوء ذلك يظهر أنّ إطلاق اللفظ وإرادة شخصه لا يكون من قبيل الاستعمال في شيء،فانّ المتكلم بقوله:زيد ثلاثي مثلاً لم يقصد إلّاإحضار شخص ذلك اللفظ في ذهن المخاطب وهو بنفسه قابل للحضور فيه ومعه لا حاجة إلى الواسطة كما مرّ آنفاً 1.
وقد يشكل على هذا بأنّ لازم ذلك تركب القضية الواقعية من جزأين،فانّ القضيّة اللفظية تحكي بموضوعها ومحمولها ونسبتها عن القضيّة الواقعية،وحيث قد فرض أ نّه لا موضوع في المقام للقضيّة الواقعية في قبال القضيّة اللفظية، فليس هناك بحسب الفرض غير المحمول والنسبة،مع أنّ تحقق النسبة بدون الطرفين محال،هذا.
وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بما ملخصه مع أدنى توضيح:هو أنّ الاشكال المزبور مبتن على أن يكون الموضوع في القضيّة الحقيقية يحتاج في وجوده وحضوره في الأذهان إلى واسطة كاللفظ بالإضافة إلى المعنى،فانّه واسطة لوجوده وحضوره وليس نفسه بموضوع للقضيّة،بل هو لفظ الموضوع وحاك عنه،فموضوعية اللفظ لها إنّما هي باعتبار أ نّه الواسطة لإحضار ما هو موضوع فيها حقيقة،نعم هو موضوع في القضيّة اللفظية.
وأمّا إذا فرض أنّ الموضوع في القضيّة الحقيقية لا يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة،بل كان حاله حال بقية الأفعال الخارجية والموجودات الفعلية،فلا يلزم محذور تركب القضيّة من جزأين،ومقامنا من هذا القبيل،فانّ الموضوع في مثل قولنا:زيد ثلاثي،إذا اريد به شخصه،شخص ذلك اللفظ الذي هو من الكيف المسموع لا أ نّه لفظه،ومن البيّن الواضح أنّ اللفظ لا يحتاج في وجوده في الذهن إلى أيّة واسطة لامكان إيجاده على ما هو عليه وإثبات المحمول له،وعليه فالقضيّة مركبة من أجزاء ثلاثة:الموضوع وهو ذات اللفظ وشخصه،والمحمول وهو ثلاثي،مع النسبة بينهما.
وبتعبير آخر:أنّ كون الشيء موضوعاً في القضيّة باعتبار أنّ المحمول ثابت له،فقد يكون المحمول ثابتاً لما يحتاج في وجوده وحضوره إلى الواسطة كالمعنى كما هو الحال في القضايا المتعارفة،وقد يكون ثابتاً لما لا يحتاج في وجوده إلى الواسطة كاللفظ،ولمّا كان الموضوع في المقام شخص اللفظ من جهة أنّ المحمول ثابت له،فانّه سنخ حكم محمول عليه دون المعنى فلا يلزم المحذور المزبور،فان لزومه هنا مبتن على أن لا يكون الموضوع هو نفس اللفظ،وأمّا إذا فرض أ نّه
الموضوع في القضيّة والحكم ثابت له فلا محذور أصلاً.
وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا اطلق اللفظ واُريد منه نوعه كما إذا قيل:زيد لفظ أو ثلاثي،واُريد به طبيعي ذلك اللفظ فليس من قبيل الاستعمال أيضاً،بل هو من قبيل إحضار الطبيعي في ذهن المخاطب باراءة فرده،فالمتكلم بذلك اللفظ قد قصد ثبوت الحكم للطبيعي ليسري منه إلى أفراده،فأوجد المتكلم في ذهن المخاطب أمرين،أحدهما:شخص اللفظ الصادر منه.والثاني:طبيعي ذاك اللفظ الجامع بينه وبين غيره،ولما لم يمكن إيجاده على ما هو عليه في الخارج إلّا بايجاد فرده فلا يكون من قبيل استعمال اللفظ في المعنى في شيء،فان وجوده عين وجود فرده في الخارج وإيجاده عين إيجاد فرده،وعليه فلا يعقل أن يجعل وجود الفرد فانياً في وجوده أو مبرزاً له وعلامة عليه،فان كل ذلك لا يعقل إلّا بين وجودين خارجاً والمفروض أ نّه لا اثنينية في المقام،فلا يمكن أن يكون وجود الفرد واسطة لاحضار الطبيعي في الأذهان،فانّ الواسطة تقتضي التعدد في الوجود ولا تعدد هنا فيه أصلاً.
وقد تلخص من ذلك: أنّ ملاك الاستعمال لا يكون موجوداً في أمثال المقام،بل لا يعقل الاستعمال كما عرفت.فحال المقام حال ما إذا أشار أحد إلى حية فقال سامّة،فانّه قد أوجد في ذهن المخاطب باشارته هذه أمرين أحدهما:
شخص هذه الحية،والثاني:الطبيعي الجامع بينها وبين غيرها،فحكم على الطبيعي بسنخ حكم يسري إلى أفراده،فمقامنا من هذا القبيل بعينه.
وعلى الجملة:حيث إنّ إيجاد الطبيعي على ما هو عليه في الخارج أو الذهن بلا وساطة شيء بمكان من الامكان فلا يحتاج تفهيمه إلى دال ومبرز له.
وأمّا القسم الثالث والرابع: وهما ما إذا اطلق اللفظ واُريد منه صنفه أو مثله،فقد يتوهم أ نّهما من قبيل الاستعمال،بل لعل ذلك مشهور بينهم ولا سيما
في القسم الرابع.
وكيف كان،فالصحيح هو أنّ حال هذين القسمين حال القسمين الأوّلين من دون فرق بينهما أصلاً،وبيان ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة:وهي أ نّا قد ذكرنا فيما تقدّم 1أنّ الحروف والأدوات موضوعة لتضييقات المفاهيم الاسمية وتقييدها بقيود خارجة عن حريم ذواتها،فانّ الغرض قد يتعلق بتفهيم طبيعي المعنى الاسمي على إطلاقه وسعته،وقد يتعلق بتفهيم حصّة خاصة منه،وقد ذكرنا أنّ الدال على الحصّة ليس إلّاالحروف أو ما يحذو حذوها.
وإن شئت فقل: إنّ الموجود الذهني ليس كالموجود الخارجي،فانّه مطلقاً من أيّ مقولة كان لا ينطبق على أمر آخر وراء نفسه،وهذا بخلاف المفهوم الذهني فانّه بالقياس إلى الخارج عن افق الذهن قابل لأن ينطبق على عدّة حصص،ولكن الغرض يتعلق بتفهيم حصّة خاصة والدال عليه كما مرّ هو الحرف أو ما يشبهه.
وعلى ضوء ذلك فنقول: إنّ المتكلم كما إذا قصد تفهيم حصّة خاصة من المعنى يجعل مبرزه الحرف أو ما يقوم مقامه،كذلك إذا قصد تفهيم حصّة خاصة من اللفظ يجعل مبرزه ذلك،فالحرف كما يدل على تضييق المعنى وتخصيصه بخصوصية ما،كذلك يدل على تضييق اللفظ وتقييده بقيود ما،فانّ الغرض كما قد يتعلق بايجاد طبيعي اللفظ على ما هو عليه من الاطلاق والسعة يتعلق بتفهيم حصّة خاصة من ذلك الطبيعي كالصنف أو المثل،فالمبرز لذلك ليس إلّا الحرف أو ما يشبهه،بداهة أ نّه لا فرق في إفادة الحروف التضييق بين الألفاظ والمعاني،فكلمة (في) في قولنا:زيد في ضرب زيد فاعل،تدل على تخصص
طبيعي لفظ زيد بخصوصية ما من الصنف أو المثل،كما أ نّها في قولنا:الصلاة في المسجد حكمها كذا،تدل على أنّ المراد من الصلاة ليس هو الطبيعة السارية إلى كل فرد،بل خصوص حصّة منها.
وعلى الجملة: فلا فرق بين قولنا:الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في الدار،وقولنا:زيد في ضرب زيد فاعل،فكلمة (في) كما تدل في المثال الأوّل على أنّ المراد من الصلاة ما يقع منه في المسجد،كذلك تدل في المثال الثاني على أنّ المراد من لفظ زيد ليس هو الطبيعة المطلقة،بل حصّة خاصة منه من المثل أو الصنف.
ومن هنا يظهر لك ملاك القول بأنّ هذين القسمين ليسا من قبيل الاستعمال أيضاً،لما مرّ من إمكان إيجاد اللفظ بنفسه وإحضاره في ذهن المخاطب بلا وساطة شيء،فإذا تعلّق الغرض بتقييده بخصوصية ما يجعل الدال عليه الحرف أو ما يحذو حذوه،مثلاً لو قال أحد:زيد في ضرب زيد فاعل،فقد أوجد طبيعي لفظ زيد وأحضره بنفسه في ذهن المخاطب،وقد دلّ على تقييده بخصوصية ما من المثل أو الصنف بكلمة (في) فأين هنا استعمال لفظ في مثله أو صنفه.
فالنتيجة أنّ شيئاً من الاطلاقات المتقدمة ليس من قبيل الاستعمال،بل هو من قبيل إيجاد ما يمكن إرادة شخصه مرّة،ونوعه اخرى،وصنفه ثالثة،ومثله رابعة.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في آخر كلامه في هذا المقام بقوله:وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك،ممّا كان الحكم في القضيّة لا يكاد يعم شخص اللفظ كما في مثل:ضرب فعل ماض، غريب منه،وذلك لأنّ الفعل الماضي أو غيره إنّما لا يقع مبتدأ إذا استعمل في معناه الموضوع له واُريد منه ذلك لا مطلقاً حتّى فيما إذا لم يستعمل فيه ولم يرد
معناه،وحيث إنّ فيما نحن فيه لم يرد معناه،بل اريد به لفظه لا بما له من المعنى، فلا مانع من وقوعه مبتدأ ولا يخرج بذلك عن كونه فعلاً ماضياً،غاية ما في الباب أ نّه لم يستعمل في معناه،وهذا لا يوجب خروجه عن ذلك،وهذا نظير قولنا:ضرب وضع في لغة العرب للدلالة على وقوع الضرب في الماضي،فهل يتوهم أحد أ نّه لا يشمل نفسه لأنّه مبتدأ.
لا شبهة في أنّ اللّٰه (تعالى شأنه) فضّل الانسان على سائر مخلوقاته بنعمة عظيمة وهي نعمة البيان بمقتضى قوله عزّ من قائل: «خَلَقَ الْإِنْسٰانَ* عَلَّمَهُ الْبَيٰانَ» 1وذلك لحكمة تنظيم الحياة المادية والمعنوية،فان مدنيّة الانسان بالطبع تستدعي ضرورة الحاجة إلى البيان لابراز المقاصد خارجاً لئلّا تختل نظم الحياة،فالقدرة على البيان ممّا أودعه اللّٰه تعالى في الانسان.
إذا عرفت ذلك فنقول:إنّ الدلالة على أقسام ثلاثة:
،وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ، وهي لا تتوقف على شيء ولا تكون معلولة لأمر ما عدا العلم بالوضع،فهي تابعة له وليس لعدم القرينة دخل فيها أصلاً،فالعالم بوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص ينتقل إليه من سماعه،ولو فرض أنّ المتكلم نصب قرينة على عدم إرادته،بل ولو فرض صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن اصطكاك
حجر بحجر آخر وهكذا،وعلى الجملة:فالدلالة التصورية بعد العلم بالوضع أمر قهري خارج عن الاختيار.
،لأجل تصديق المخاطب المتكلم بأ نّه أراد تفهيم المعنى للغير،وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه،وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أ نّه في مقام التفهيم ولم ينصب قرينة متصلة على الخلاف، بل لم يأت في الكلام بما يصلح للقرينية،فانّه يهدم الظهور ويوجب الاجمال لا محالة،فلو لم يكن في ذلك المقام فلا ظهور ولا دلالة على الارادة التفهيمية أصلاً،كما أنّ وجود القرينة المتصلة مانع عن الظهور التصديقي.وعلى الجملة فهذه الدلالة تتقوّم بكون المتكلم في مقام التفهيم وبعدم وجود قرينة متصلة في الكلام.
،وهي دلالة اللفظ على أنّ الارادة الجدية على طبق الارادة الاستعمالية،وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء إلّاأ نّها تتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف،وإلّا فلا يكون الظهور كاشفاً عن الارادة الجدية في مقام الثبوت،فان وجود القرينة المنفصلة مانع عن حجيته.والحاصل:أنّ بناء العقلاء قد استقرّ على أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية ما لم تقم قرينة على عدم التطابق.
وبعد ذلك نقول:قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ الدلالة الوضعية هل هي الدلالة التصوّرية أو أ نّها الدلالة التصديقية ؟ فالمعروف والمشهور بينهم هو الأوّل،بتقريب أنّ الانتقال إلى المعنى عند تصور اللفظ لا بدّ أن يستند إلى سبب،وذلك السبب إمّا الوضع أو القرينة،وحيث إنّ الثاني منتف لفرض خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ فيتعين الأوّل.وذهب جماعة من
المحققين إلى الثاني،أي إلى انحصار الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية.
التحقيق حسب ما يقتضيه النظر الدقيق:هو القول الثاني،والوجه فيه أمّا بناءً على ما سلكناه في باب الوضع من أ نّه عبارة عن التعهد والالتزام فواضح، ضرورة أ نّه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالّاً على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار،بل ولو صدر عن اصطكاك حجر بآخر وهكذا،فانّ هذا غير اختياري فلا يعقل أن يكون طرفاً للتعهد والالتزام،وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته.
سواء كانت الإرادة تفهيمية محضة أم جدية أيضاً،فانّه أمر اختياري فيكون متعلقاً للالتزام والتعهد.
وعلى الجملة: قد ذكرنا سابقاً 1أنّ اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية لازم حتمي للقول بكون الوضع بمعنى التعهد والالتزام.وأمّا الدلالة التصورية وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ،فهي غير مستندة إلى الوضع، بل هي من جهة الاُنس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر،ومن ثمة كانت هذه الدلالة موجودة حتّى مع تصريح الواضع باختصاص العلقة الوضعية بما ذكرناه.
بل إنّ الأمر كذلك حتّى على ما سلكه القوم في مسألة الوضع من أ نّه أمر اعتباري،فانّ الأمر الاعتباري يتبع الغرض الداعي إليه في السعة والضيق، فالزائد على ذلك لغو محض،ولما كان الغرض الباعث للواضع على الوضع قصد تفهيم المعنى من اللفظ وجعله آلة لاحضار معناه في الذهن عند إرادة تفهيمه، فلا موجب لجعل العلقة الوضعية واعتبارها على الإطلاق،حتّى في اللفظ
الصادر عن لافظ غير شاعر كالنائم والمجنون ونحوهما،فان اعتباره في أمثال هذه الموارد من اللغو الظاهر.
وإن شئت فقل: حيث إنّ الغرض الباعث على الوضع هو إبراز المقاصد والأغراض خارجاً،فلا محالة لا يزيد سعة الوضع عن سعة ذلك الغرض،فانّه أمر جعلي واختياره بيد الجاعل،فله تقييده بما شاء من القيود إذا دعت الحاجة إلى ذلك،وبما أنّ الغرض في المقام قصد التفهيم فلا محالة تختص العلقة الوضعية بصورة إرادة التفهيم.
ودعوى مصادمة حصر الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية للبداهة،من جهة أنّ الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ضروري مدفوعة بما عرفت من أنّ ذلك الانتقال إنّما هو من ناحية الاُنس الحاصل من كثرة الاستعمال أو نحو ذلك لا من ناحية الوضع،فالانتقال عادي لا وضعي.
فالنتيجة هي انحصار الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية على جميع المسالك والآراء في تفسير حقيقة الوضع،من دون فرق في المسألة بين رأينا وسائر الآراء.
نعم،الفرق بينهما في نقطة واحدة وهي أنّ ذلك الانحصار حتمي على القول بالتعهد دون غيره من الأقوال.
ولا يخفى أنّ مراد العلمين المحقق الطوسي (قدس سره) والشيخ الرئيس ممّا حكي عنهما من أنّ الدلالة تتبع الارادة،هو ما ذكرناه من أنّ العلقة الوضعية مختصّة بصورة إرادة تفهيم المعنى،وليس مرادهما من ذلك أخذ الارادة التفهمية في المعنى الموضوع له،لكي يرد عليه ما اورد،فالألفاظ من جهة وضعها تدل
على إرادة اللافظ بها تفهيم معانيها كما هو صريح كلامهما في بحث الدلالات 1وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من حمل الدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقية غير الوضعية،فانّ تبعيتها للارادة في الواقع ونفس الأمر واضحة،فلا مجال للكلام فيها أصلاً.
ومن هنا يظهر فساد ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على حصر الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية بوجوه ثلاثة وإليك نصّه:
لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بازاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها:
1- لما عرفت من أنّ قصد المعنى على أنحائها من مقوّمات الإستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.
2- هذا مضافاً إلى ضرورة صحّة الحمل والاسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف،مع أ نّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صحّ بدونه، بداهة أنّ المحمول على زيد في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) مثلاً هو نفس القيام والضرب،لا بما هما مرادان.
3- مع أ نّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عاماً،والموضوع له خاصاً، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ،فانّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الارادة فيه كما لا يخفى،وهكذا الحال في طرف الموضوع 1،انتهى.
والجواب عن جميع هذه الوجوه:بكلمة واحدة،وهي أنّ تلك الوجوه بأجمعها مبتنية على أخذ الارادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها،وقد تقدّم أنّ الارادة لم تؤخذ فيها،وأنّ الانحصار المذكور غير مبتن على ذلك،بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية،فالعلقة مختصّة بصورة خاصة وهي ما إذا أراد المتكلم تفهيم المعنى باللفظ (2).
فالنتيجة: هي أنّ جعل الارادة من قيود العلقة الوضعية لايدع مجالاً للايرادات، لابتنائها جميعاً على أخذ الارادة التفهيمية في المعاني الموضوع لها،وقد ظهر أنّ الأمر خلاف ذلك وأنّ الارادة لم تؤخذ في المعاني لا قيداً ولا جزءاً،بل هي مأخوذة في العلقة الوضعية فهي تختص بصورة إرادة تفهيم تلك المعاني(1)بنحو
القضيّة الحقيقية وبنحو القوّة والتقدير،وفي مرحلة الاستعمال تخرج من القوّة والتقدير إلى الفعلية والتحقق،ولعل لأجل ذلك الاختصاص قد عبّر عن الموضوع له بالمعنى باعتبار كونه مقصوداً بالتفهيم.
قد أصبحت النتيجة بوضوح:أنّ الدلالة الوضعية تنحصر بالدلالة التصديقية ولا مناص من الالتزام بتلك النتيجة،ولا يرد عليها شيء من الايرادات التي تقدّمت،هذا تمام الكلام في الدلالات الثلاث.
وقبل البدء فيه ينبغي التنبيه على مقدمة وهي:أنّ محل الكلام هنا في وضع المركب بما هو مركب أعني وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة والمادة،مثلاً في قولنا:زيد شاعر قد وضعت كلمة زيد لمعنى خاص،وكلمة شاعر لمعنى آخر، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث،فكل ذلك لا إشكال ولا كلام فيه،وإنّما الكلام والإشكال في وضع مجموع المركب من هذه المواد على حده،وأمّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع أو مع إفادة
خصوصية اخرى أيضاً،أو لابراز أمر نفساني غير قصد الحكاية.
فعلى ضوء هذه المقدّمة قد ظهر أنّ الصحيح هو أ نّه لا وضع للمركب بما هو مركب بيان ذلك:هو أنّ كل جملة ناقصة كانت أو تامّة لها أوضاع متعددة باعتبار وضع كل جزء جزء منه أقلّها ثلاثة حسب ما يدعو إليه الحاجة،مثلاً جملة زيد انسان لها أوضاع ثلاثة:1-وضع زيد.2-وضع انسان.3-وضع الهيئة القائمة بهما.ولجملة الانسان متعجب أوضاع أربعة:1-وضع الانسان.
2-وضع متعجب مادة.3-وضعه هيئة.4-وضع الهيئة القائمة بالجملة.
ولجملة زيد ضارب عمر أوضاع ستّة:1-وضع زيد.2-وضع ضارب مادة.3-وضعه هيئة.4-وضع الهيئة القائمة بجملة زيد ضارب.5-وضع عمرو.6-وضع الهيئة القائمة بالمجموع.وهكذا إلى أن ربّما يبلغ الوضع إلى عشرة أو أزيد على اختلاف الأغراض الموجبة لاختلاف المركبات زيادة ونقيصة، فانّ الغرض قد يتعلق بالمركب من شيئين،وقد يتعلق بالمركب من أشياء ثلاثة، وقد يتعلق بالمركب من أشياء أربعة،وهكذا.
ومن الواضح أنّ هذه الأوضاع وافية لافادة الأغراض والمقاصد المتعلقة بالمركبات،سواء كان الغرض قصد الحكاية عن الواقع،أو إبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية،ولا يبقى أيّ غرض لا تكون تلك الأوضاع وافية لافادته، لنحتاج إلى وضع المركب بما هو على حدة لافادة ذلك الغرض،مثلاً هيئة ضرب زيد تدل على قصد الحكاية عن حدوث تلبس زيد بالمبدأ في الخارج، كما أنّ جملة ما أكرم القوم إلّازيداً تدل على حصر الاكرام بزيد زائداً على دلالتها على قصد الاخبار عن تلبس القوم بذلك.وهيئة إنّ زيداً عادل تدل على التأكيد وهيئة ضرب موسى عيسى تدل على أنّ موسى فاعل،لعدم دال آخر هنا غير تلك الهيئة،وهكذا.
وعلى الجملة:فالمتكلم متى ما أراد تفهيم خصوصية من الخصوصيات وإبرازها
في الخارج يتمكن من ذلك بهيئة من الهيئات،وعليه فلسنا بحاجة إلى وضع المركب بما هو،بل هو لغو وعبث.
وممّا يدلنا على ذلك-أي على عدم وجود وضع مستقل للمركبات بما هي – مضافاً إلى لغويته،أ نّه يستلزم إفادة المعنى الواحد مرّتين والانتقال إليه بانتقالين، وذلك لفرض تعدد الوضع الذي يقتضي تعدد الإفادة والانتقال،وهذا كما إذا تكلم الانسان بلفظ الدار مرّة،وبكلمات الحائط والغرفة والساحة اخرى،فانّه لا ريب حينئذ في أنّ الانتقال إلى المعنى يكون مرّتين غايته أ نّهما طوليان.
وأمّا في مقامنا فلو التزمنا بتعدد الوضع للزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين، وذلك لأنّ المركبات بما هي لو كان لها وضع فلا محالة كان وضعها لافادة ما يستفاد من مجموع الهيئة والمادة في الجملة،لعدم معنى آخر على الفرض،وعليه فلزمنا الالتزام بعرضية الانتقالين لتحقق كل من الدالين في عرض تحقق الآخر، وهذا مخالف للوجدان كما هو واضح.ومن هنا لم نجد قائلاً به وإن كان ابن مالك 1قد نسب القول به إلى بعض،ولكن من المحتمل قوياً أن يكون النزاع لفظياً بأن يكون مراد القائل بالوضع وضع هيئة المركب لا هو بنفسه.
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره أهل الأدب من تقسيم المجاز إلى المجاز في المفرد وإلى المجاز في المركب 2غير صحيح،وذلك لأنّ الاستعمال المجازي فرع وجود الموضوع له،فاذا فرض عدم الموضوع له للشي فلا يعقل المجاز فيه،وقد عرفت أنّ المركب بما هو لم يوضع لشيء ومعه كيف يتصور المجاز فيه.
نعم،يجوز تشبيه المركب بالمركب كما في قوله تبارك وتعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
اَلَّذِي اسْتَوْقَدَ نٰاراً»
1
وكذا يجوز الكناية في المركب كما في قولهم:أراك تقدّم رجلاً وتؤخر اخرى،فهو كناية عن التردد الحاصل في النفس الموجب لذلك.
قسّموا الوضع إلى نوعي كوضع الهيئات وإلى شخصي كوضع المواد.
ولا يخفى أنّ المراد بالوضع الشخصي ليس وضع شخص اللفظ الصادر من المتكلم،فان شخصه قد انقضى وانعدم فلا يمكن إعادته،وما يصدر منه ثانياً هو مثله لا عينه،بل المراد منه وضع اللفظ بوحدته الطبيعية وشخصيته الذاتية في قبال وضع اللفظ بجامعه العنواني ووحدته الاعتبارية،هذا.
وقد يشكل على ذلك:بأنّ ملاك شخصية الوضع في المواد إن كان وحدة كل واحدة منها طبيعة وذاتاً وامتيازها عن مادة اخرى بذاتها،فهو بعينه موجودة في الهيئات،فان كل هيئة بنفسها وبشخصها ممتازة عن هيئة اخرى، مثلاً هيئة فاعل ممتازة بذاتها عن سائر الهيئات فلها وحدة طبيعية وشخصية ذاتية،وإن كان ملاك نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاص الهيئة بمادة دون مادة فهو موجود بعينه في المواد،بداهة عدم اختصاص المادة بهيئة دون هيئة اخرى،مثلاً مادة (ض ر ب) كما هي موجودة في (ضرب) كذلك موجودة في زنة (ضارب) و (مضروب) ونحو ذلك من الأوزان،فلا فرق بين الهيئة والمادة ليكون وضع الاُولى نوعياً والثانية شخصياً.
وقد أجاب عنه شيخنا المحقق (قدس سره) بوجهين،وإليك قوله:
1- والتحقيق أنّ جوهر الكلمة ومادتها،أعني الحروف الأصلية المترتبة
الممتازة عن غيرها ذاتاً أو ترتيباً،أمر قابل للحاظ الواضع بنفسه فيلاحظ بوحدته الطبيعية وتوضع لمعنى،بخلاف هيئة الكلمة،فانّ الزنة لمكان اندماجها في المادة لا يعقل أن تلاحظ بنفسها لاندماجها غاية الاندماج في المادة،فلا استقلال لها في الوجود اللحاظي كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي،فلا يمكن تجريدها ولو في الذهن عن المواد،فلذا لا جامع ذاتي لها كحقائق النسب، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولهم:كل ما كان على زنة فاعل،وهو معنى نوعية الوضع،أي الوضع لها بجامع عنواني لا بشخصيتها الذاتية.
2- أو المراد أنّ المادة حيث يمكن لحاظها فقط فالوضع شخصي،والهيئة حيث لا يمكن لحاظها فقط إلّافي ضمن مادة فالوضع لها يوجب اقتصاره عليها فيجب أن يقال:هيئة فاعل وما يشبهها،وهذا معنى نوعية الوضع،أي لا لهيئة شخصية واحدة بوحدة طبيعية بل لها ولما يشبهها فتدبر 1،انتهى.
وما أفاده (قدس سره) من الجواب في غاية المتانة وحاصله:أنّ كل مادة يمكن للواضع أن يلاحظها بشخصها وبوحدتها الطبيعية،مثلاً لفظ الانسان أو مادة (ض ر ب) يمكن أن يلاحظه بشخصه وبوحدته ويوضع لمعنى،فالوضع لا محالة يوجب الاقتصار على تلك المادة أو ذلك اللفظ فلا ينحل إلى أوضاع عديدة،فيكون نظير الوضع الخاص والموضوع له الخاص،وهذا بخلاف الهيئة، فانّها حيث لا يمكن أن تلاحظ بشخصها ووحدتها الذاتية بدون مادة ما،يجب أن توضع بجامع عنواني،ومن هنا ينحل إلى أوضاع متعددة فيثبت لكل هيئة وضع خاص مستقل نظير وضع العام والموضوع له الخاص،وهذا معنى كون الوضع فيها نوعياً،أي أنّ الملحوظ حال الوضع جامع عنواني،ولكن الموضوع
معنون هذا العنوان لا نفسه.
والنتيجة: أنّ الوضع ينحل إلى أوضاع عديدة بتعدد أفراد تلك الهيئة الانتزاعية،وهذا معنى أنّ الوضع نوعي.وهذا بخلاف المواد،فان شخص كل مادة موضوع بازاء معنى ما،فلأجل ذلك كان الوضع فيها شخصياً.
إنّهم ذكروا للحقيقة علائم:
منها: التبادر وهو خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ وإطلاقه من دون لحاظ أيّة قرينة وعناية في البين من حالية أو مقالية،ومن الواضح أنّ مثل هذا التبادر معلول للوضع لا محالة وكاشف عنه كشفاً إنياً،والوجه في ذلك:هو أنّ دلالة اللفظ لا تخلو إمّا أن تكون ذاتية،أو تكون جعلية،وعلى الثاني إمّا أن تكون الدلالة مع القرينة أو بدونها.
أمّا الاُولى فقد عرفت بطلانها على ما حققناه في مسألة الوضع.
وأمّا الثانية فهي خارجة عن مفروض كلامنا في المقام،فيتعين الثالثة فيدل التبادر على الوضع.
وبتعبير آخر:أنّ مطلق تبادر المعنى من إطلاق اللفظ وفهمه منه ليس علامة لاثبات الحقيقة،بل العلامة حصّة خاصة منه وهي فهم المعنى من اللفظ نفسه بلا معونة خارجية،وهي كاشفة عن الوضع لا محالة،كما يكشف المعلول عن علّته.
وقد يورد على ذلك:باستلزامه الدور،بيانه:أنّ من المعلوم بالضرورة أنّ الوضع وحده لا يكفي للتبادر ولا يكون علّة تامّة له،فانّ الموجب للتبادر هو العلم بالوضع لا نفسه،فلو انتفى العلم به انتفى التبادر،فينتج أنّ التبادر في الحقيقة معلول للعلم بالوضع،فلو كان العلم بالوضع متوقفاً عليه لدار.
وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بوجهين:
الأوّل:أنّ التبادر عند العالم بالوضع علامة الحقيقة للجاهل به،فالمستعلم يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع،كما هو طريقة دارجة بين أهل المحاورة في مقام استعلام اللغات الأجنبية وتعاليمها،وبذلك يندفع الدور من أصله.
الثاني:أنّ التبادر وإن كان متوقفاً على العلم بالوضع لا محالة إلّاأنّ ذلك العلم ارتكازي مكنون في خزانة النفس،وثابت في حافظة أهل كل لغة بالقياس إلى لغاتهم،وهم يستعملون تلك اللغات في معانيها حسب ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيلي منهم إلى خصوصيات تلك المعاني من حيث السعة والضيق، فإذا حصل الالتفات منهم إلى خصوصيات تلك المعاني حصل لهم العلم تفصيلاً بها،وبذلك تحصل المغايرة بين العلمين فارتفع الدور من البين.
ثمّ لا يخفى أنّ تبادر المعنى من نفس اللفظ من دون قرينة لا يثبت به إلّا وضع اللفظ لذلك المعنى،وكون استعماله فيه حقيقياً في زمان تبادره منه،وأمّا وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه فلا يثبت بالتبادر المتأخر،فلا بدّ في إثبات ذلك من التشبث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجيته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائية وبناء أهل المحاورة عليه،فانّهم يتمسّكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجة أقوى على خلافه،بل
على ذلك الأصل تدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة،ضرورة أ نّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا،ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضاً ما لم تثبت قرينة على خلافها،وسمِّي ذلك الاستصحاب بالاستصحاب القهقرى،فانّه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة،فانّ المتيقن فيه أمر سابق،والمشكوك فيه لاحق،على عكس الاستصحاب القهقرى فانّ المشكوك فيه،أمر سابق، والمتيقن لاحق.
هذا كلّه فيما إذا احرز التبادر وعلم أنّ المعنى ينسبق إليه الذهن من نفس اللفظ،وأمّا إذا لم يحرز ذلك،واحتمل أنّ ظهور اللفظ مستند إلى وجود قرينة داخلية أو خارجية فلا يمكن إثبات الحقيقة بأصالة عدم القرينة،إذ لا دليل على حجيته،فانّه إن تمسك في إثبات حجيته بأخبار الاستصحاب،فيردّه أنّ الاستصحاب لا يثبت اللوازم غير الشرعية،ومن الظاهر أنّ استناد الظهور إلى نفس اللفظ من لوازم عدم القرينة عقلاً،فلا يثبت باستصحاب عدمه.
وإن تمسّك فيه ببناء العرف على عدم الاعتناء باحتمال القرينة،فيردّه أنّ بناء العرف وأهل المحاورة إنّما يختص بما إذا شكّ في مراد المتكلم ولم يعلم أ نّه المعنى الحقيقي أو معنى آخر غيره،وقد نصب على إرادته قرينة قد خفيت علينا،وأمّا إذا علم المراد وشكّ في أنّ ظهور اللفظ فيه من جهة الوضع أو من جهة القرينة، فلا بناء من أبناء المحاورة على عدم الاعتناء باحتمال القرينة.فتلخّص:أنّ إثبات الحقيقة يتوقّف على إحراز أنّ الظهور مستند إلى نفس اللفظ لا إلى القرينة.
ومنها: أي علائم الحقيقة عدم صحّة السلب،وذكروا أنّ صحّة السلب علامة المجاز،وقد يعبّر عن الاُولى بصحّة الحمل،وعن الثانية بعدم صحّة
الحمل،فيقال إنّ حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي على معنى علامة أ نّه حقيقة فيه وكاشف عن كونه موضوعاً بازائه،كما أنّ عدم صحّة حمل اللفظ كذلك على معنى علامة للمجاز،وكاشف عن عدم وضعه بازائه.
والصحيح أن يقال:إنّ شيئاً منهما لا يصلح لأن يكون علامة للحقيقة أو المجاز،بيان ذلك:أنّ ملاك صحّة الحمل مطلقاً،سواء كان حملاً أوّلياً ذاتياً،أم كان حملاً شائعاً صناعياً،هو الاتحاد من جهة لئلّا يلزم حمل المباين على مباين آخر،والمغايرة من جهة اخرى حتّى لا يلزم حمل الشيء على نفسه،والمغايرة قد تكون بالاعتبار،والمراد منه الاعتبار الموافق للواقع لا مجرد الفرض كما في حمل الحد على المحدود،فانّهما متحدان بالذات والحقيقة،ومختلفان باللحاظ والاعتبار،أعني به الاختلاف من جهة الاجمال والتفصيل والجمع والتفريق، مثلاً المفهوم من لفظ (الانسان)،ومن جملة (الحيوان الناطق) حقيقة واحدة، وهذه الحقيقة الواحدة المركبة ممّا به الاشتراك وما به الامتياز،ملحوظة في الانسان بنحو الوحدة والجمع،وفي الحيوان الناطق بنحو الكثرة والتفريق، فجهة الوحدة في الانسان كجهة الكثرة في الحيوان الناطق اعتبار موافق للواقع،ضرورة أنّ هذه الحقيقة الواحدة بتلك الجهة غير تلك الحقيقة بالجهة الاُخرى.
وقد ذكرنا سابقاً أ نّه يمكن تصوير شيء واحد مرّة بنحو الوحدة،ومرّة اخرى بنحو الكثرة،وقد مثّلنا لذلك بمفهوم الدار فانّه مركب من حيطان وساحة وغرفة أو غرف،وهذا المفهوم ملحوظ بنحو الجمع في لفظ الدار،وبنحو التفريق في كلمات الحيطان والساحة والغرف.وقد تكون المغايرة ذاتية والاتحاد في أمر خارج عن مقام الذات كما في الحمل الشائع الصناعي مثل قولنا:زيد إنسان أو كاتب،فان مفهوم زيد غير مفهوم الانسان أو الكاتب،فهما مفهومان متغايران،
ولكنهما موجودان في الخارج بوجود واحد،ويسمّى هذا الحمل بالشائع لأجل شيوعه بين عامّة الناس على عكس الاُولى،وبالصناعي لأجل استعماله في صناعات العلوم وأقيستها،وإذا اتّضح ذلك فنقول:إنّ صحّة شيء من ذينك الحملين لا تكون علامة للحقيقة،ولا يثبت بهما المعنى الحقيقي.
وتفصيل ذلك:أنّ الحمل الذاتي لا يكشف إلّاعن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتاً،ومغايرتهما اعتباراً،ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأ نّه حقيقي أو مجازي،مثلاً حمل (الحيوان الناطق) على الانسان،لا يدل إلّاعلى اتحاد معنييهما حقيقة،ولا نظر فيه إلى أنّ استعمال لفظ الانسان فيما اريد به حقيقي أو مجازي، ومن الظاهر أنّ مجرد الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.
وعلى الجملة: فصحّة الحمل الذاتي بما هو لا يكشف إلّاعن اتحاد المعنيين ذاتاً،وأمّا أنّ استعمال اللفظ في القضيّة استعمال حقيقي فهو أمر آخر أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها.نعم،بناءً على أنّ الأصل في كل استعمال أن يكون حقيقياً كما نسب إلى السيِّد المرتضى 1(قدس سره) يمكن إثبات الحقيقة إلّاأ نّه لم يثبت في نفسه،كما ذكرناه غير مرّة.على أ نّه لو ثبت فهو أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها.
وبكلمة اخرى: أنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول،فمع اتحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل وإلّا فلا،وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال،وبين الأمرين مسافة بعيدة.
نعم،لو فرض في القضيّة الحملية أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة،كان ذلك علامة الحقيقة،إلّاأ نّه مستند إلى التبادر لا إلى صحّة
الحمل.
وقد أصبحت النتيجة بوضوح أنّ صحّة ذلك الحمل بما هو حمل لا تكون علامة لاثبات الحقيقة،وكذا عدمها لا يكون علامة لاثبات المجاز،بل هما علامة الاتحاد والمغايرة لا غير،فنحتاج في إثبات الحقيقة إلى التمسك بالتبادر من الاطلاق أو نحوه،هذا.
وأمّا الحمل الشائع فتفصيل الكلام فيه:أنّ ملاك صحّته بجميع أنواعه اتحاد المعنيين،أي الموضوع والمحمول وجوداً،ومغايرتهما مفهوماً،فذلك الوجود الواحد إمّا أن يكون وجوداً لهما بالذات،أو يكون لأحدهما بالذات وللآخر بالعرض،أو لكليهما بالعرض،فهذه أقسام ثلاثة:
أمّا القسم الأوّل: فهو في حمل الطبيعي على أفراده ومصاديقه،وحمل الجنس على النوع،وحمل الفصل عليه،وبالعكس،فانّ الموضوع والمحمول في تمام هذه الموارد متحدان في الوجود الخارجي،بمعنى أنّ وجوداً واحداً وجود لهما بالذات والحقيقة،مثلاً وجود زيد هو وجود الانسان بعينه،لأنّ وجود الطبيعي بعين وجود فرده،وليس له وجود آخر غيره،فالوجود الواحد وجود لهما بالذات، وإنّما الاختلاف في جهتي النسبة،وكذلك الحال في قولنا:الانسان حيوان،أو قولنا:الانسان ناطق إلى غير ذلك،فانّ المحمول والموضوع في جميع ذلك متحدان فيما يكون وجوداً لهما بالذات.
وأمّا القسم الثاني: فهو في حمل العناوين العرضية على معروضاتها،كحمل الضاحك أو الكاتب أو العالم أو الأبيض أو الأسود على زيد مثلاً،فان هذه العناوين جميعها عرضية انتزاعية منتزعة من قيام الأعراض بموضوعاتها،وليس لها وجود في الخارج،والموجود فيه نفس الأعراض والمقولات التي هي من مبادئ تلك العناوين ومنشأ انتزاعها،وعليه فنسبة ما به الاتحاد وهو وجود
زيد المتصف بتلك المبادئ إلى تلك العناوين بالعرض والمجاز،وبمقتضى القاعدة السائرة في الكائنات بأجمعها وهي أنّ كل ما بالعرض لا بدّ وأنّ ينتهي إلى ما بالذات،ينتهي هذا الحمل-أي العناوين على معروضاتها-إلى حمل ثان، ويدل الكلام عليه بالدلالة الإلتزامية لا محالة،فذلك الحمل يكون من قبيل حمل الطبيعي على أفراده،فان في قولنا:زيد ضاحك مثلاً،بما أنّ الضاحك عنوان عرضي انتزاعي،فلا محالة ينتهي الأمر إلى حمل الضحك على الصفة القائمة بزيد،وهو من حمل الكلّي على فرده،فبالنتيجة يرجع هذا القسم إلى القسم الأوّل،وإن كان مغايراً له بحسب الصورة.
وأمّا القسم الثالث: فهو في حمل بعض العناوين العرضية على بعضها الآخر كقولهم:الكاتب متحرك الأصابع،أو المتعجب ضاحك ونحو ذلك.وقد اتّضح لك أ نّه ليس للعناوين العرضية وجود في عالم الخارج بالذات،بل يضاف إليها وجود ما يتصف بها إضافة بالعرض،وبقانون أنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات،فلا محالة ينتهي الأمر إلى حملين آخرين:أحدهما:حمل صفة الكتابة أو التعجّب على شيء.وثانيهما:حمل الحركة أو الضحك على شيء آخر،فيدخل هذا القسم أيضاً في القسم الأوّل،والاختلاف بينهما في الصورة لا في الحقيقة.
فتلخص من ذلك: أنّ مرجع جميع هذه الأقسام إلى قسم واحد وهو القسم الأوّل،وعلى ضوء أنّ الملاك في صحّة الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود الخارجي،ظهر أنّ صحّته لا تكشف عن الحقيقة،ضرورة أ نّها لا تكون أمارة إلّا على اتحاد المحمول مع الموضوع خارجاً،وأمّا أنّ استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة فهي لا تدل عليه،إذ ليس هنا إلّامجرد التعبير عنه بذلك اللفظ،وهو لا يزيد على الاستعمال،وهو أعم من الحقيقة.
نعم،إذا فرض تجرد اللفظ عن القرينة وتبادر منه المعنى،كان ذلك آية
الحقيقة إلّاأ نّه خارج عن محل الكلام بالكلية.
وعلى الجملة:فملاك صحّة الحمل نحو من أنحاء الاتحاد خارجاً،وملاك الحقيقة استعمال اللفظ في الموضوع له،فأحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر، لامكان أن يتّحد الموضوع والمحمول في الخارج مع كون استعمال اللفظ في المحمول مجازاً،وقد عرفت أنّ الحقيقة والمجاز أمران يرجعان إلى عالم الألفاظ، وصحّة الحمل ترجع إلى عالم المدلول،فاثبات أحدهما لا يكون دليلاً على إثبات الآخر.
فقد أصبحت النتيجة لحدّ الآن:كما أنّ صحّة الحمل الأوّلي الذاتي لا تكشف عن الحقيقة،كذلك صحّة الحمل الشائع الصناعي،ومن ذلك يظهر حال عدم صحّة الحمل أيضاً حرفاً بحرف.
ولكن في تقريرات بعض الأعاظم (قدس سره) أنّ صحّة الحمل مطلقاً، سواء كان ذاتياً أم كان شائعاً صناعياً،كاشفة عن الحقيقة،وأفاد في وجه ذلك ما ملخصه:أنّ صحّة الحمل الذاتي تكشف عن أنّ المعنى المعلوم لدى المستعلم تفصيلاً،والمعنى المعلوم لديه ارتكازاً متحدان بالذات والحقيقة،وبذلك الاتحاد يستكشف له تفصيلاً أنّ اللفظ موضوع لذاك المعنى المعلوم لديه تفصيلاً،ولكنّه (قدس سره) استثنى من ذلك حمل الحد على المحدود،كما في مثل الانسان حيوان ناطق فقال:إنّ صحّة الحمل في مثل ذلك لا تكشف عن الحقيقة اللغوية، بدعوى أنّ مفهوم الحيوان الناطق مفهوم مركب مفصّل،ومفهوم الانسان مفهوم مفرد بسيط.هذا في الحمل الأوّلي.
وأمّا صحّة الحمل الشائع الصناعي فهي تكشف عن اتحاد الموضوع والمحمول اتحاد الطبيعي مع فرده،وبذلك الاتحاد يستكشف أنّ اللفظ موضوع للطبيعي 1.
والجواب عن ذلك:قد ظهر ممّا تقدّم،فانّك قد عرفت أنّ صحّة الحمل مطلقاً ذاتياً كان أم صناعياً لا تتوقف على كون الاستعمال حقيقياً لتكون كاشفة عنه، فان ملاك أحدهما غير ملاك الآخر،فملاك صحّة الحمل اتحاد المفهومين،إمّا بحسب الحقيقة والذات أو بحسب الوجود،فإذا كانا كذلك صحّ الحمل سواء كان التعبير عن المعنى المعلوم تفصيلاً حقيقياً أم كان مجازياً،وهذا أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها رأساً،ضرورة أنّ حمل الانسان على زيد صحيح سواء كان إطلاق لفظ الإنسان على الطبيعي المنطبق على زيد في الخارج حقيقياً أم مجازياً.
وعلى الجملة:بمجرد صحّة حمل شيء على شيء عند العرف وأبناء المحاورة لا يستكشف منها الوضع والحقيقة إلّابمعونة التبادر أو نحوه،وإلّا فالحمل لو خلّي وطبعه لا يدل على أزيد من الاتحاد بين الموضوع والمحمول بنحو من أنحاء الاتحاد.
ومن الغريب أ نّه (قدس سره) فرّق في الحمل الذاتي بين حمل الحد على المحدود كقولك:الانسان حيوان ناطق،وبين غيره كقولك:الغيث مطر،فقال:إن الأوّل لا يدل على الوضع دون الثاني،وذلك لأنّ الاتحاد لو كان طريقاً إلى الحقيقة فمن اتحاد الحيوان الناطق مع الانسان بالذات والحقيقة،يستكشف بالضرورة أنّ لفظ الانسان موضوع لمعنى يحلله العقل إلى جزأين جزء مشترك فيه وهو الحيوان وجزء آخر يميزه عن غيره وهو الناطق فهما بعينهما معنى الانسان بالتحليل العقلي،كما هو شأن كل مفهوم بالاضافة إلى حكم العقل.وهذا لعلّه من الواضحات.
ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكره من أنّ صحّة الحمل عند المستعلم علامة لاثبات الحقيقة لا محصّل له،وذلك لأنّ الصحّة في مرتبة متأخرة عن إحراز ملاك الحمل
بين المفهومين،فلا بدّ أوّلاً من تصورهما تفصيلاً وإحراز الملاك المصحح لحمل أحدهما على الآخر،ثمّ يحمل هذا على ذاك،والعلم الارتكازي بالمعنى لا يكفي في صحّة الحمل،بل لا بدّ من الالتفات التفصيلي.
ومنها: أي علائم الحقيقة الاطراد،وذكروا عدم الاطراد من علائم المجاز.
لا يخفى أنّ المراد من الاطراد ليس تكرار الاستعمال في معنى،ضرورة أ نّه إذا صحّ الاستعمال فيه مرّة واحدة يصح فيه مرّات عديدة،من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي والمجازي.
ومن هنا فسّر الإطراد شيخنا المحقق (قدس سره) بمعنى آخر وإليك قوله:
مورد هاتين العلامتين-الاطراد وعدمه-ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلي على فرد يقطع بعدم كونه من حيث الفردية من المعاني الحقيقية،لكنّه يشك في أنّ ذلك الكلي كذلك أم لا،فاذا وُجد صحّة الإطلاق مطرداً باعتبار ذلك الكلي كشف عن كونه من المعاني الحقيقية،لأنّ صحّة الاستعمال فيه-وإطلاقه على أفراده مطرداً-لابدّ من أن تكون معلولة لأحد الأمرين:إمّا الوضع أو العلاقة، وحيث لا اطراد لأنواع العلائق المصححة للتجوز ثبت الاستناد إلى الوضع، فنفس الاطراد دليل على الحقيقة وإن لم يعلم وجه الاستعمال على الحقيقة،كما أنّ عدم الاطراد في غير مورد،يكشف عن عدم الوضع له،وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلة،لأنّ الوضع علّة صحّة الاستعمال مطرداً،وهذه العلامة علامة قطعية لو ثبت عدم اطراد علائق المجاز،كما هو المعروف والمشاهد في جملة من الموارد 1انتهى.
وحاصله:أنّ إطلاق لفظ باعتبار معنى كلّي على فرد مع القطع بعدم كون ذلك الفرد من حيث الفردية معنى حقيقياً،إن كان مطرداً كشف عن كونه من
المعاني الحقيقية،وإن لم يكن مطرداً كشف عن كونه من المعاني المجازية،مثلاً إطلاق لفظ الأسد على كل فرد من أفراد الحيوان المفترس مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقية،لمّا كان مطرداً كشف ذلك عن كون الحيوان المفترس معنى حقيقياً له،وإطلاقه على كل فرد من أفراد الشجاع لما لم يكن مطرداً،فانّه يصح إطلاقه باعتبار هذا المفهوم الكلي على الانسان وعلى جملة من الحيوانات،إلّاأ نّه لا يصح إطلاقه على النملة الشجاع مثلاً،كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازية.
نعم،إن إطلاق لفظ الشجاع باعتبار هذا المفهوم الكلي على جميع أفراده حيث كان مطرداً كشف هذا عن كون ذلك الاطلاق حقيقياً.
ولكن الصحيح أ نّه لا يمكن المساعدة عليه،وذلك لأنّ المراد من الاطراد كما لا يمكن أن يكون تكرار الاستعمال لما مرّ،كذلك لا يمكن أن يراد به التكرار في التطبيق أي تطبيق المعنى على مصاديقه وأفراده.
بيان ذلك:أنّ انطباق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه أمر عقلي، وأجنبي عن الاستعمال بالكلية،فلايعقل أن يكون المعنى كلياً ومع ذلك لاينطبق على تمام أفراده ومصاديقه،ولايصح إطلاقه عليها،فهذا من الواضحات الأوّلية وغير قابل للنزاع فيه أصلاً.
وأمّا عدم انطباق بعض المفاهيم في بعض الموارد فهو إنّما كان من جهة ضيق دائرة ذلك المفهوم من ناحية تخصصه بخصوصية ما عرفاً،ومن الواضح أنّ مثل هذا المفهوم لا ينطبق إلّاعلى أفراد تلك الحصّة خاصة دون غيرها،فانّ سعة الانطباق وضيقه تابعان لسعة المفهوم وضيقه،فإذا كان المفهوم وسيعاً كان الانطباق كذلك،وإذا كان مفهوماً ضيّقاً كان الانطباق مثله،وعلى كلٍّ فلا يعقل انطباقه على غير أفراده وعدم انطباقه إلّاعلى بعض أفراده،مثلاً مفهوم الانسان
إذا لاحظناه بما له من السعة والإطلاق فلا محالة ينطبق على جميع أفراده فلايعقل انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر،وإن لاحظناه بما له من الخصوصية كالعالمية أو الهاشمية أو العربية أو غير ذلك،فلا يعقل انطباقه إلّاعلى أفراد هذه الحصّة،فعدم الاطراد بهذا المعنى أو الاطراد،مشترك فيه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،وتابع لسعة المعنى وضيقه،مثلاً لفظ الماء في لغة العرب موضوع للجسم السيال البارد بالطبع،مع أ نّه لاينطبق على كل جسم سيال بارد بالطبع، وليس ذلك إلّامن جهة أنّ معناه حصّة خاصة منه،لا هو على إطلاقه وسريانه،وعليه فلا محالة لا ينطبق إلّاعلى أفراد تلك الحصّة دون غيرها وهكذا،وعلى ذلك لا يكون عدم الاطراد كاشفاً عن عدم الحقيقة.
ومنه يظهر أنّ عدم اطراد إطلاق لفظ الأسد باعتبار مفهوم الشجاع على كل فرد من أفراده،لا يكون إلّامن جهة أنّ صحّة ذلك الإطلاق إنّما كانت باعتبار حصّة خاصة من ذلك الكلّي،لا هو باطلاقه،ومن المعلوم أنّ ذلك الاطلاق باعتبار تلك الحصّة مطرد.
فالنتيجة لحدّ الآن امور:
الأوّل: أنّ انطباق طبيعي المعنى على أفراده ومصاديقه قهري وأجنبي عن الاستعمال رأساً.
الثاني: أنّ سعة الانطباق وضيقه تابعان لسعة المعنى وضيقه عرفاً،فان تعيين المفاهيم وخصوصياتها من حيث السعة والضيق أمر راجع إلى أهل العرف، فان كان معنى اللفظ عندهم وسيعاً كان الانطباق أيضاً كذلك،وإن كان ضيقاً وحصّة خاصة فالانطباق تابع له.
الثالث: أ نّه لا فرق في ذلك بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،فهما على حد سواء في ذلك.
الرابع: أنّ الاطراد بهذا المعنى وعدمه أجنبيان عن الحقيقة والمجاز.
والذي ينبغي أن يقال في المقام:هو أنّ الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاص في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة،مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز، فهذا طريقة عملية لتعليم اللغات الأجنبية،واستكشاف حقائقها العرفية.
توضيح ذلك:هو أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم إذا تصدى لتعلم اللغة السائرة في هذا البلد رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنى،ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنى آخر وهكذا،ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الاطلاقات من الاطلاقات الحقيقية أو المجازية،فإذا رأى أ نّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم بأ نّها معانٍ حقيقية،لأنّ جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين:إمّا الوضع،أو القرينة،وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطراد فلا محالة يكون مستنداً إلى الوضع،مثلاً إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ الماء في معناه المعهود، ولكنّه شكّ في أ نّه من المعاني الحقيقية،أو من المعاني المجازية،فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطراد علم بأ نّه من المعاني الحقيقية،ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حالية أو مقالية.
وبهذه الطريقة غالباً يتعلمون الأطفال والصبيان اللغات والألفاظ.
فقد تحصّل من ذلك:أنّ الاطراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لاثبات الحقيقة،بل إنّ هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً،فان تصريح الواضع وإن كان يعلم به الحقيقة إلّاأ نّه نادر جداً،وأمّا التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضع كما عرفت،إلّاأ نّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع،إمّا من جهة تصريح الواضع،أو من جهة الاطراد،والأوّل نادر فيستند إلى الثاني لا محالة.
التخصيص والتقييد والمجاز والاشتراك والاضمار.
ذكروا لتقديم كل واحد منها على الآخر فيما إذا وقعت المعارضة بينها وجوهاً.
ولكن الصحيح ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أنّ تلك الوجوه بأجمعها من الاُمور الاستحسانية التي لا اعتداد بها أصلاً في باب الألفاظ،فانّ المتبع في ذلك الباب الظهورات العرفية التي قد جرت على متابعتها السيرة العقلائية في مسألة الاحتجاج واللجاج،دون الاستحسانات العقلية، والاُمور الظنية،إذ لم يترتب عليها أيّ أثر شرعي،إلّاإذا كانت موجبة للظهور العرفي،فحينئذ العمل بالظهور،لا بها كما لا يخفى،فلا وجه لاطالة الكلام في ذلك أصلاً.
الكلام في هذه المسألة يقع في جهات:
الجهة الاُولى: قال جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2تظهر الثمرة في المسألة بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة كألفاظ العبادات والمعاملات على المعاني الشرعية،بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية،وعلى
المعاني اللغوية بناءً على عدم ثبوتها.
وقيل بالتوقف في المقام بناءً على الثاني،بدعوى أنّ الحقيقة الشرعية وإن لم تثبت إلّاأ نّه لا شبهة في صيرورة المعاني الشرعية من المجازات المشهورة من جهة كثرة استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني،والمختار في تعارض الحقيقة مع المجاز المشهور التوقف،بل المشهور على ذلك،إلّابناءً على حجية أصالة الحقيقة تعبداً كما نسب إلى السيِّد المرتضى 1(قدس سره) وأمّا بناءً على اعتبار الظهور فلا ظهور لها في معانيها الحقيقية،هذا.
والتحقيق: أ نّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً،وفاقاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2والوجه في ذلك:هو أنّ الكبرى المذكورة وهي:حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع على المعاني اللغوية أو التوقف بناءً على عدم الثبوت،وعلى المعاني الشرعية بناءً على الثبوت وإن كانت مسلّمة،إلّاأنّ الصغرى غير ثابتة، لعدم الشك في المراد الاستعمالي من هذه الألفاظ،سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية أم لم نقل،فهي على التقديرين استعملت في عرف المتشرعة في المعاني الشرعية،إذن لا يبقى مورد نشك فيه في المراد الاستعمالي.
وعلى الجملة: أنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) بواسطة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ومن الواضح جداً أنّ الحقيقة الشرعية وإن فرض أ نّها لم تثبت،إلّاأ نّه لا شبهة في ثبوت الحقيقة المتشرعية في زمن ما،وعليه فليس لنا مورد نشك فيه في مراد الشارع المقدّس من هذه الألفاظ،حتّى تظهر الثمرة المزبورة.
نعم،لو فرض كلام وصل إلينا من النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) بلا وساطة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فيمكن أن تظهر الثمرة فيه إذا فرض الشك في مراده (صلّى اللّٰه عليه وآله) منه،إلّاأ نّه فرض في فرض،فبالنتيجة أ نّه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة اصلاً،بل هو بحث علمي فقط.
تعيّني.
أمّا الوضع التعييني في المقام-بأن كان الشارع المقدس قد تصدى للوضع صريحاً-فهو مقطوع العدم،ضرورة أ نّه لو كان كذلك لنقل إلينا بالتواتر،كيف ولم ينقل حتّى بخبر الواحد،وذلك لعدم المانع منه مع توفر الداعي على نقله، وليس الوضع كمسألة الخلافة ونحوها لتوفّر الدواعي هناك على إخفائها وكتمانها، دونه.
وأمّا الوضع التعييني بمعنى آخر،بأن يكون الوضع متحققاً بنفس الاستعمال كما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1فيقع الكلام في إمكانه أوّلاً، وفي وقوعه ثانياً،فهنا مقامان:
أمّا الكلام في المقام الأوّل:فقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2عدم إمكانه،بدعوى أنّ حقيقة الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج،بحيث تكون الألفاظ مغفولاً عنها،فالاستعمال يقتضي أن يكون النظر إلى الألفاظ آلياً،والوضع يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ استقلالياً،فالجمع بين الوضع والاستعمال في شيء يلازم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، وهو غير معقول.
والتحقيق: أنّ الوضع-سواء كان بمعنى التعهد والالتزام النفساني،أو بمعنى اعتبار نفساني-على تمام أنحائه في مرتبة متقدمة على الاستعمال.أمّا على الأوّل:فواضح،ضرورة أنّ التعهد والتباني بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى ما،يكون مقدّماً على الاستعمال لا محالة،من دون فرق بين أن يكون إبراز هذا التعهد بمثل كلمة وضعت،أو نحوها الدالة على التعهد بالمطابقة،أو يكون المبرز نفس الاستعمال الدال على ذلك بالالتزام بمعونة القرينة.وأمّا على الثاني:فلأنّ اعتبار الملازمة أو نحوها بين لفظ خاص ومعنى ما،مقدّم على الاستعمال بالضرورة،وإن كان المبرز لذلك الاعتبار نفس الاستعمال مع نصب القرينة على ذلك،وكيف كان فالاستعمال متأخر عن الوضع لا محالة.
ونظير ذلك الهبة،فانّه تارة يبرزها بجملة (وهبتك) الدالة عليها بالمطابقة واُخرى يبرزها بجملة (خذ هذا الثوب) مثلاً الدالة عليها بالالتزام.
فقد أصبحت النتيجة أنّ محذور لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي مندفع على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع،فانّ الوضع أمر نفساني ثابت في افق النفس،والاستعمال أمر خارج عن افق النفس،فالوضع سابق على الاستعمال دائماً.
بل لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا الجمع بين الوضع والاستعمال في آن واحد،لم نسلّم استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي،فانّ هذا اللازم مبتن على مذهب المشهور في مسألة الاستعمال،حيث إنّهم يرون الألفاظ في مرحلة الاستعمال آليات،وأمّا على المذهب الصحيح من أنّ حال الألفاظ حال المعاني في مقام الاستعمال،فكما أنّ المعاني ملحوظة استقلالاً،فكذلك الألفاظ،ومن هنا يلتفت المتكلم إلى خصوصيات الألفاظ الصادرة منه من كونها لغة عربية أو فارسية أو غير ذلك،فلا يلزم من الجمع بين الوضع والاستعمال،الجمع بين
اللحاظين الآلي والاستقلالي.
فقد ظهر ممّا ذكرناه إمكان الوضع التعييني على أن يكون الدال عليه نفس الاستعمال،مع نصب القرينة على ذلك.
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فالظاهر أ نّه لا شبهة في وقوع الوضع التعييني على هذا النحو خارجاً،بل لعلّه كثير بين العرف والعقلاء في وضع الأعلام الشخصية والمعاني المستحدثة،وعليه فدعوى ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني على النحو المزبور في الجملة غير بعيدة.
إنّما الإشكال في أنّ ذلك الاستعمال،هل هو استعمال حقيقي أو مجازي،أو لا هذا ولا ذاك ؟ وجهان،بل قولان.
فقد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1الاحتمال الأخير،بدعوى أ نّه لايكون من الاستعمال الحقيقي،من جهة أنّ الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له،والمفروض أ نّه لا وضع قبل هذا الاستعمال،ليكون الاستعمال استعمالاً فيه،وأمّا أ نّه لا يكون من الاستعمال المجازي،فلأجل أنّ الاستعمال المجازي استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له،والمفروض أ نّه لا وضع قبل هذا الاستعمال،ومعه لا يعقل المجاز،فانحصر أن لا يكون ذلك الاستعمال حقيقياً ولا مجازياً،وقد ذكرنا أنّ صحّة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقياً أو مجازياً،بل صحّ الاستعمال بدون أن يكون متصفاً بأحدهما إذا كان حسناً عند الطبع،وقد عرفت أنّ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل هذا محصل ما أفاده (قدس سره).
وقد ظهر ممّا حققناه سابقاً 1أنّ الإطلاقات المذكورة ليست من قبيل الاستعمال في شيء على تفصيل تقدّم.
كما أ نّه قد تبين ممّا ذكرناه الآن أنّ هذا الاستعمال استعمال حقيقي وفي المعنى الموضوع له،بيانه:هو أ نّك عرفت أنّ الوضع في مرتبة متقدمة على الاستعمال على جميع المسالك في تفسير الوضع،وعليه فالوضع يحصل قبل الاستعمال، فاذا كان كذلك فالاستعمال استعمال في الموضوع له،وهذا واضح.
ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوضع ليس عبارة عن مجرد أمر نفساني من تعهد واعتبار ملازمة ونحو ذلك،بل للابراز دخل في حقيقة الوضع جزءاً أو قيداً،وبدونه لا يتحقق الوضع،كما هو الحال في مثل عنوان البيع والتجارة والهبة والصلح وما شاكل ذلك،فانّ هذه العناوين لا تتحقق عرفاً ولا تصدق خارجاً على مجرد الاعتبار النفساني ما لم يبرزه في الخارج بمبرز من قول أو فعل،فللابراز دخل فيها جزءاً أو قيداً،مثلاً عنوان البيع لا يصدق عرفاً على مجرد اعتبار البائع ملكية المبيع لزيد مثلاً،واعتبار زيد تملكه لنفسه بعوض معلوم ما لم يبرزه البائع بقوله:بعت أو ملكت،والمشتري بقوله:اشتريت أو قبلت،فالبيع عبارة عن الأمر الاعتباري الخاص المبرز في الخارج بمبرز، وهكذا غيره،فلو سلّمنا أنّ الوضع أيضاً كذلك فلايكون هذا الاستعمال استعمالاً في غير ما وضع له،والوجه في ذلك:هو أ نّه لا يعتبر في كون الاستعمال حقيقياً واستعمالاً في الموضوع له تقدّم الوضع على الاستعمال،بل غاية ما يقتضيه ذلك هو أن لا يكون الوضع متأخراً عن الاستعمال،فيكفي في كون الاستعمال حقيقياً مقارنة الوضع معه زماناً،والمفروض أنّ الوضع والاستعمال في مقامنا هذا
كذلك،وإن كان الاستعمال مقدّماً عليه طبعاً ورتبة باعتبار أ نّه جزؤه أو قيده، إلّا أ نّه لا يوجب تقدمه عليه زماناً.
وقد تحصّل من ذلك بوضوح:أنّ هذا الاستعمال استعمال في الموضوع له، ولو قلنا بأنّ الوضع يتحقق بنفس ذلك الاستعمال،وأ نّه الجزء الأخير والمتمم لتحققه.
وكيف كان،فقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) ما نصّه:
فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جداً،ومدعي القطع به غير مجازف قطعاً،ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته،ثمّ يؤيد ذلك بعدم وجود علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية في بعض الموارد…إلخ.وهذا الذي ذكره هو الصحيح.
ثمّ قال (قدس سره) هذا كلّه بناءً على كون معانيها مستحدثة في شرعنا، وأمّا بناءً على كونها ثابتة في الشرائع السابقة،كما هو قضيّة غير واحد من الآيات مثل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ…» إلخ،وقوله تعالى:
«وَ أَذِّنْ فِي النّٰاسِ بِالْحَجِّ» وقوله تعالى: «وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا» إلى غير ذلك،فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية،واختلاف الشرائع فيها جزءاً وشرطاً لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية،إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات،كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا،كما لا يخفى 1انتهى.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) يمكن الجواب عنه بوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يضر بثبوت الحقيقة الشرعية في شرعنا،ضرورة أنّ مجرّد الثبوت هناك لا يلازم التسمية بهذه الألفاظ الخاصة،وليس في المقام إلّاالتعبير عنها بهذه الألفاظ في الكتاب العزيز،ومن الواضح أ نّه لا يدل على وجود تلك الألفاظ في الشرائع السابقة، بل هو لأجل اقتضاء مقام الافادة ذلك،كما هو الحال بالقياس إلى جميع الحكايات والقصص القرآنية التي كانت بالسريانية كما في لغة عيسى (عليه السلام)،أو العبرانية كما في لغة موسى (عليه السلام) بل من المعلوم أنّ تلك المعاني كانت يعبّر عنها بألفاظ سريانية أو عبرانية،وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصة في شريعتنا لاقتضاء مقام الافادة ذلك.
وإن شئت فقل: إنّ معنى الحقيقة الشرعية ليس جعل المعنى واختراعه،بل جعل اللفظ بازاء معنى من المعاني،ولا يفرق فيه بين كون المعنى قديماً أو حادثاً في هذه الشريعة.
وما يتوهم من أنّ الصلاة بهذه اللفظة موجودة في إنجيل برنابا لا بلفظة اخرى،عبرانية أو سريانية،فكما أنّ المعاني لم تكن مستحدثة،فكذلك الألفاظ التي يعبّر بها عنها، مدفوع بأنّ وجود لفظ الصلاة في الإنجيل الرائج لا يدل على وجوده في أصله المعلوم أ نّه لم يكن باللغة العربيّة.هذا مضافاً إلى أنّ لفظ الصلاة الموجود في الانجيل والتوراة لم يكن بالمعنى المركب من الأجزاء والشرائط والكيفية الخاصّة،بل كان بمعنى الدعاء،فالصلاة بهذه الكيفية والأجزاء والشرائط والموانع مستحدثة لا محالة.
وربّما قيل بأنّ الألفاظ المذكورة موضوعة بازاء تلك المعاني قبل الشريعة الاسلامية،فالعرب قبلها كانوا قد تعهدوا لهذه المعاني في استعمالاتهم،والتزموا بذكر هذه الألفاظ عند إرادة تفهيمها،ومن هنا كانوا ينتقلون إلى معاني هذه
الألفاظ من لدن نزول هذه الآيات الكريمة كقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» 1وقوله تعالى: «وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا» 2إلى غير ذلك،وهم لا يتوقفون في فهم هذه المعاني من تلك الألفاظ،ومن المعلوم أنّ هذا يكشف كشفاً قطعياً عن كونها حقيقة فيها قبل زمن النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) فهي حقيقة لغوية وليست بحقيقة شرعية، والقرآن الكريم قد تابعهم في استعمالها،ليكون أوقع في النفوس،حيث إنّهم كانوا مستأنسين بالتعبير عنها بهذه الألفاظ الخاصة.
والجواب عنه: أنّ هذا وإن كان ممكناً في نفسه إلّاأ نّه لا شاهد عليه،لا من الآيات،ولا من الروايات،ولا من القرائن الخارجية.
أمّا الأخيرتان فظاهر.وأمّا الاُولى فكذلك،لأنّ شيئاً من هذه الآيات لا يشهد على ذلك،فقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ…» إلخ مثلاً،لا يدل على أنّ الصوم بهذا اللفظ الخاص كان موجوداً قبل الشريعة،غاية ما في الباب أنّ الآية تدل على أنّ الصوم كان موجوداً قبلها،أمّا أ نّه كان يعبّر عنه بهذا اللفظ الخاص،فهي ساكتة عن ذلك،والتعبير عنه في الآية المباركة من جهة اقتضاء مقام الافادة ذلك.
وأمّا انسباق هذه المعاني في أذهان القوم بمجرد نزول هذه الآيات،فهو من جهة أنّ هذه الألفاظ قد صدرت عن النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) قبل نزولها،ثمّ بعد ذلك جاءت الآيات الكريمة فحكت عمّا جاء به النبي الأعظم (صلّى اللّٰه عليه وآله) وقد استند فهم العرب إلى ذلك لا محالة.
الوجه الثاني: أ نّا لو سلّمنا أنّ تسمية هذه المعاني بهذه الألفاظ بالحقيقة الشرعية تدور مدار كونها مستحدثة في شرعنا،إلّاأنّ ثمرة ثبوت الحقيقة الشرعية تترتب على القول بثبوت الحقيقة في لسان الشارع لا محالة،ولا أثر لكون هذه المعاني قديمة وثابتة في الشرائع السابقة بالقياس إلى الثمرة المزبورة أصلاً،ولايترتب على كونها معاني حديثة أثر ما عدا التسمية بالحقائق الشرعية، فانّ الثمرة التي ذكرت في المسألة وهي-حمل الألفاظ في استعمالات الشارع المقدّس على المعاني الشرعية بناءً على الثبوت-لا تترتب على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة،إذ المراد من هذه الألفاظ في استعمالات النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله) هو هذه المعاني،سواء قلنا بكونها معاني حديثة في شريعتنا أم كانت معاني ثابتة في الشرائع السابقة.فعلى كلا التقديرين تعهد الشارع المقدّس لهذه المعاني في استعمالاته قبال معانيها اللغوية،كانت مسمّاة بالحقائق الشرعية أو بالحقائق اللغوية،فلا فرق بين التسميتين في ثمرة النزاع أصلاً.
فتلخّص أنّ ما أفاده (قدس سره) من توقف ثبوت الحقيقة الشرعية على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة على تقدير تسليمه لا يترتب على ذلك أيّ أثر.
وأمّا القسم الثاني وهو الوضع التعيّني الذي ينشأ من كثرة الاستعمال،لا من الجعل والمواضعة،فثبوته في زمن الصادقين (عليهما السلام) معلوم،بل وحتّى في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)،بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله) بلسانه (صلّى اللّٰه عليه وآله) ولسان تابعيه،لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلة التي ترد من السائلين لا سيما في مثل لفظ الصلاة الذي هو أكثر استعمالاً من غيره من ألفاظ العبادات.
نعم،ثبوته في خصوص لسانه (صلّى اللّٰه عليه وآله) مشكل جداً،لعدم
العلم بكثرة استعمالاته (صلّى اللّٰه عليه وآله) على حد توجب التعين،وقد أشار إلى ذلك الاشكال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بقوله،فتأمّل 1.
وعليه فالروايات التي صدرت عنهم (عليهم السلام) واشتملت على هذه الألفاظ قد أصبحت معلومة المراد،فانّها تحمل على هذه المعاني بلا قرينة، لثبوت الحقيقة المتشرعية في زمنهم (عليهم السلام) على الفرض،ومعه تنتفي الثمرة التي كنّا نتوقعها من هذا البحث،باعتبار أنّ الروايات التي وصلت عن المعصومين (عليهم السلام) إلينا المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوماً فلا ثمرة،بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك.
فقد أصبحت النتيجة لحدّ الآن في امور:
الأوّل: أنّ الصحيح ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني المتحقق بنفس الاستعمال.
الثاني: إن قلنا بعدم الوضع التعييني فلا شبهة في ثبوت الوضع التعيّني في زمن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من جهة كثرة استعمالات المتشرعة تلك الألفاظ في المعاني الجديدة.
الثالث: أ نّه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلاً،فان ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يداً بيد معلومتان من حيث المراد،فلا نشك في المراد الاستعمالي منهما،ولا يتوقف في حملها على المعاني الشرعية.
ومن هنا لا يهمنا إطالة البحث عن أنّ الحقيقة الشرعية ثابتة أو غير ثابتة، فانّ الثمرة المذكورة غير مبتنية على ثبوت الحقيقة الشرعية.
وقع الكلام بين الأعلام في أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات هل تكون أسامي للصحيحة أو للأعم ؟ قبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على جهات:
الجهة الاُولى: لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، فانّه القدر المتيقن في المسألة.
وإنّما الاشكال في جريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية،ولكن الظاهر بل المقطوع به جريان النزاع على هذا القول أيضاً،والوجه في ذلك:هو أنّ مرجع هذا القول إلى أنّ الشارع المقدس من لدن نزول القرآن الحكيم هل استعمل هذه الألفاظ في المعاني الصحيحة من جهة لحاظ علاقة بينها وبين المعاني اللغوية،أو استعملها في الأعم من جهة لحاظ علاقة بينه وبين المعاني اللغوية ؟ فعلى الأوّل يكون الأصل في استعمالات الشارع الاستعمال في الصحيح إلّا إذا قامت قرينة على الخلاف،وعلى الثاني ينعكس الأمر.
بل يجري النزاع حتى على القول بأنّ هذه الألفاظ استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغوية،ولكنّه أراد المعاني الشرعية من جهة نصب قرينة تدل على ذلك بنحو تعدّد الدال والمدلول،كما نسب هذا القول إلى الباقلاني 1والوجه في ذلك:هو أن يقع النزاع في أنّ الشارع حين إرادته المعاني الشرعية بالقرينة، هل نصب القرينة العامة على إرادة المعاني الصحيحة حتى يحتاج إرادة الأعم
إلى قرينة خاصة ؟ أو أ نّه نصبها على إرادة الأعم فارادة الصحيحة تحتاج إلى قرينة خاصة ؟
الجهة الثانية: الظاهر أنّ الصحّة بمعنى التمامية من حيث الأجزاء والشرائط التي يعبّر عنها في لغة الفرس بكلمة (درستي) وهي معناها لغة وعرفاً.
وأمّا تفسير الفقهاء الصحّة بمعنى إسقاط القضاء والإعادة،والمتكلمين بمعنى موافقة الشريعة،فكلاهما من باب التفسير باللازم،فالصلاة مثلاً إذا كانت تامّة من حيث أجزائها وشرائطها كانت موافقة للشريعة،ومسقطة للاعادة والقضاء، وليس شيء من ذلك معنى الصحة،ولا من الحيثيات التي يتمّ بها حقيقتها.
وهذا هو الحال في سائر المركبات الشرعية والعرفية.
ومن ذلك ظهر فساد ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) حيث قال ما لفظه:
إنّ حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما،ليست من لوازم التمامية بالدقة،بل من الحيثيات التي يتمّ بها حقيقة التمامية،حيث لا واقع للتمامية إلّا التمامية من حيث إسقاط القضاء،أو من حيث موافقة الأمر،أو من حيث ترتب الأثر إلى غير ذلك،واللازم ليس من متممات معنى ملزومه فتدبر.
ثمّ قال في هامش كتابه:إنّه إشارة إلى أنّ اللازم إن كان من لوازم الوجود صحّ ما ذكر،وإن كان من لوازم الماهية فلا،إذ لا منافاة في لازم الماهية وعارضها بين اللّزوم وكونه محققاً لها كالفصل بالإضافة إلى الجنس،فانّه عرض خاص له،مع أنّ تحصّل الجنس بتحصله،انتهى 1.
وجه الظهور:هو أنّ إسقاط القضاء والاعادة وموافقة الشريعة وغيرهما
جميعاً من آثار التمامية ولوازمها وهي التمامية من حيث الأجزاء والشرائط، وليست من متممات حقيقتها،ضرورة أنّ لها واقعية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم،والظاهر أ نّه وقع الخلط في كلامه (قدس سره) بين تمامية الشيء في نفسه،أعني بها تماميته من حيث الأجزاء والشرائط،وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء،فانّه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم.أو وقع الخلط بين واقع التمامية وعنوانها،فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي منتزع عن الشيء باعتبار أثره،فحيثية ترتب الآثار من متممات حقيقة ذلك العنوان.ولا واقع له إلّاالواقعية من حيث ترتب الآثار،ولكنّه خارج عن محل الكلام،فان كلمة الصلاة مثلاً،لم توضع بازاء ذلك العنوان ضرورة،بل وضعت بازاء واقعه ومعنونه وهو الأجزاء والشرائط،ومن الظاهر أنّ حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الأجزاء والشرائط،وعلى أيّ حال فلا وقع لما ذكره (قدس سره) أصلاً.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أ نّه لا منافاة بين كون شيء لازماً لماهية وكونه محققاً لها،فانّ الفصل لازم لماهية الجنس،مع كونه محققاً لها في الخارج، فهو وإن كان صحيحاً،إلّاأنّ اللازم لايعقل أن يكون من متممات معنى ملزومه، من دون فرق فيه بين لازم الوجود ولازم الماهية،فماهية الفصل بما هي من لوازم ماهية الجنس لايعقل أن تكون من متمماتها بالضرورة،نعم الفصل بحسب وجوده محصّل لوجود الجنس ومحقق له،ولكنّه بهذا الاعتبار ليس لازماً له، فاطلاق قوله (قدس سره) إنّ ذلك-أي اللازم ليس من متممات معنى ملزومه – إنّما يتم في لازم الوجود دون لازم الماهية غير تام،وكيف كان فالأمر ظاهر لا سترة فيه.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ الصحّة بمعنى تمامية المركب في نفسه وذاته،أعني بها
تماميته من حيث أجزائه وقيوده.ومن هنا يتبين أنّ البسيط لايتصف بالصحّة والفساد بل يتصف بالوجود أو العدم.
كما ظهر أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف حالات المكلّفين،مثلاً الصلاة قصراً صحيحة للمسافر،وفاسدة للحاضر،كما أ نّها إذا وقعت إلى ما بين المشرق والمغرب صحيحة لمن لم يتمكن من تشخيص القبلة،وفاسدة للمتمكن من ذلك،وهكذا.
فتحصّل: أنّ الصحّة التي هي داخلة في المسمّى على أحد القولين في المسألة من حيث أجزائه وقيوده،مع قطع النظر عن أيّ أثر يترتب عليها،فانّها في مرتبة سابقة على ترتب الآثار.
ومن هنا يظهر أنّ الصحّة الفعلية التي هي منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً،خارجة عن محل الكلام،ضرورة أ نّها في مرتبة متأخرة عن الأمر فكيف يعقل أخذها في المسمّى وفي متعلق الأمر،ومن الواضح أنّ المراد من الوضع للصحيح أو للأعم الوضع لما هو واقع في حيّز الأمر.
وعلى ذلك فلا وجه للترديد والقول بأنّ الصحة والفساد المبحوث عنهما في هذه المسألة هل هي بمعنى التمامية وعدمها من حيث موافقة الأمر،أو من حيث إسقاط القضاء والاعادة،أو من حيث استجماع الأجزاء والشرائط،أو من حيث ترتب الأثر وعدمه،أو غير ذلك،فانّك قد عرفت 1أنّ المبحوث عنه لا يمكن أن يكون إلّاالتمامية وعدمها بالاضافة إلى الأجزاء والشرائط، وأمّا بقية الحيثيات فهي أجنبية عن معنى التمامية بالكلية،بل هي من الآثار واللوازم المترتبة عليها في مرتبة متأخرة.وهذا واضح،فلا وجه لاطالة الكلام
في ذلك كما عن شيخنا المحقق (قدس سره).
الجهة الثالثة: لا شبهة في دخول الأجزاء جميعاً في محل النزاع،بلا فرق بين الأركان كالركوع والسجود والتكبيرة،وبين غيرها،وكذلك لا شبهة في دخول شرائط المأمور به في محل النزاع.
وتوهّم أ نّها خارجة عن محل النزاع،بدعوى أنّ مرتبة الأجزاء مرتبة المقتضي،ومرتبة الشرائط متأخرة عن المقتضي،فانّ الشرائط دخيلة في فعلية التأثير كما في تقريرات شيخنا العلّامة الأنصاري 1(قدس سره) ولا يجوز إدخالها في المسمى،لتكون مساوية مع الأجزاء في الرتبة، مدفوع بأنّ تأخر الشرائط رتبة عن الأجزاء لا يستلزم عدم إمكان وضع اللفظ بازاء المجموع، ضرورة أنّ الوضع بازاء المتقدم والمتأخر رتبة بل زماناً،من الواضحات الأوّلية كما لا يخفى،فالتأخر في مقام العلية لا يوجب التأخر في مقام التسمية،فان أحد المقامين أجنبي عن المقام الآخر بالكلية.
ولا إشكال أيضاً في أنّ كل ما لم يؤخذ في المأمور به جزءاً أو شرطاً فهو خارج عن المسمّى وإن كان له دخل في الصحّة،وذلك كقصد القربة،وعدم كون العبادة مزاحمة بواجب آخر الموجب لسقوط أمرها،وعدم كونها منهياً عنها.
وهذا لا لأجل ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من استحالة أخذ جميع ذلك في المسمّى،لما ذكره في وجهها وحاصله:أنّ الصحّة من جهة عدم المزاحم وعدم النهي ومن جهة قصد القربة في مرتبة متأخرة عن المسمّى وفرع تحققه، لينهى عنه أو يوجد له مزاحم،أو يقصد به التقرّب،وعليه فكيف يعقل اعتبارها في المسمّى وأخذها فيه،فيكون من قبيل أخذ ما هو متأخر رتبة في
المتقدم كذلك،وهو غير معقول 1.
فانّه يرد عليه: أنّ وضع لفظ بازاء شيئين طوليّين رتبة بل زماناً بمكان من الامكان وليس فيه أيّ محذور أبداً،ومقامنا من هذا القبيل،إذ مجرد كون قصد القربة وعدم المزاحم وعدم النهي في طول الأجزاء المأمور بها وشرائطها لا يوجب استحالة أخذها في مسمّى لفظ الصلاة مثلاً،ولا يوجب تقدّم الشيء على نفسه،وغير ذلك من المحاذير.
ومن الغريب استدلاله (قدس سره) على استحالة أخذ هذه الاُمور في المسمّى بكونها متفرعة على تحقق المسمّى في مرتبة سابقة عليها حتّى يوجد له مزاحم،أو ينهى عنه،أو يقصد به القربة،وذلك لأنّ قضيّة التفرع مبتنية على أن يكون المسمّى متحققاً بدون هذه الاُمور ولم يكن لها دخل في تحققه،وأمّا إذا فرض أ نّها أيضاً مأخوذة فيه كالأجزاء والشرائط،فلا تحقق له قبل هذه الاُمور حتّى يوجد له مزاحم أو غيره،وعليه فلو فرض مزاحم للمأمور به، أو فرض النهي عنه،أو أ نّه لم يقصد القربة به،لم يتحقق المسمّى،ضرورة انتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه.
نعم،غاية ما يلزم على هذا هو كون المسمّى غير ما تعلق به الأمر،وهذا ليس بمحذور امتناع عقلي،بل لأنّ دخل هذه الاُمور في المسمّى واضح البطلان، ومن ثمّ لم يحتمل أحد دخل هذه الاُمور في المسمّى حتّى على القول بأنّ الألفاظ موضوعة للصحيحة.
فالمتحصل ممّا ذكرناه:هو أنّ الأجزاء وشرائط المأمور به جميعاً داخلتان في محل النزاع من دون شبهة وإشكال،كما أ نّه لا إشكال في خروج هذه الاُمور
عن محل النزاع.
الجهة الرابعة: أ نّه لا بدّ على كلا القولين من تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الأفراد.
أمّا بناءً على أن يكون الموضوع له لأسماء العبادات والمعاملات عاماً كوضعها كما هو الصحيح،فالأمر واضح،فان لفظ الصلاة ونحوه من أسماء الأجناس،وقد تقدّم أنّ الموضوع له فيها عام،غاية الأمر أنّ ذلك الجامع على أحد القولين حصّة خاصّة،وعلى القول الآخر طبيعة مطلقة،وهذا لا يوجب التفاوت في المقام.
وأمّا بناءً على أن يكون الموضوع له فيها خاصاً فالأمر أيضاً كذلك،ضرورة أنّ تصوّر جميع الأفراد تفصيلاً غير معقول لعدم تناهيها،فلا بدّ حينئذ من تصوّرها بجامع يكون ذلك الجامع معرّفاً لها إجمالاً وبوجه،حتّى يمكن وضع اللفظ بازائها.
فبالنتيجة أنّ تصوّر الجامع على كلا القولين لابدّ منه،سواء قلنا بأنّ الموضوع له عام أو خاص.وأمّا الاشتراك اللفظي أو كون الألفاظ حقيقة في بعض الأصناف ومجازاً في الباقي فهو مقطوع البطلان،كما يظهر ذلك من إطلاق لفظ الصلاة مثلاً على أصنافها على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها.
وبعد ذلك نقول:الكلام يقع في مقامين:
المقام الأوّل:في العبادات.
المقام الثاني:في المعاملات.
[ في العبادات ]
فيقع في تصوير الجامع بين أفراد العبادات،وقد عرفت أنّ تصويره بينها لا بدّ منه،سواء قلنا بكونها موضوعة للصحيحة أم للأعم.
ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد خالف في المقام،وذهب إلى أ نّه لا ضرورة تدعو إلى تصوير جامع وحداني يشترك فيه جميع الأفراد،وأفاد في وجه ذلك أ نّه يمكن الالتزام بأنّ الموضوع له في مثل لفظ الصلاة مثلاً أوّلاً هو المرتبة العليا الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط،فانّ للصلاة باعتبار مراتبها عرضاً عريضاً،ولها مرتبة عليا وهي صلاة المختار،ولها مرتبة دنيا وهي صلاة الغرقى،وبين الحدّين متوسطات،فلفظة الصلاة ابتداءً موضوعة للمرتبة العليا على كلا القولين،واستعمالها في غيرها من المراتب النازلة من باب الادعاء والتنزيل،أو من باب الاشتراك في الأثر.
فالصحيحي يدعي أنّ استعمال لفظ الصلاة في بقية المراتب الصحيحة إمّا من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة فيما يصح فيه التنزيل،أو من باب الاشتراك في الأثر واكتفاء الشارع به في مقام الامتثال كما في صلاة الغرقى، فانّه لا يمكن فيها الالتزام بالتنزيل المزبور.
والأعمي يدعي أنّ استعمالها في بقية مراتبها الأعم من الصحيحة والفاسدة من باب العناية والتنزيل،أو من باب الاشتراك في الأثر،فكل واحد من الأمرين موجب لجواز الاستعمال حتّى في فاسد صلاة الغرقى من باب تنزيله منزلة الواجد منها،المنزّل منزلة التام الأجزاء والشرائط من جهة الاشتراك في الأثر.
نعم،استثنى (قدس سره) من ذلك القصر والاتمام،فقال إنّهما في عرض واحد، فلا بدّ من تصوير جامع بينهما،ثمّ رتّب على ذلك بطلان ثمرة النزاع بين قول الأعمي وقول الصحيحي،وهي جواز التمسك بالإطلاق على الأعمي،وعدم جوازه على الصحيحي،فانّه بناء على كون الصلاة مثلاً موضوعة لخصوص المرتبة العليا لم يجز التمسك بالاطلاق ولو فرض وجود مطلق في العبادات،لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام الاستعمال،ومعه يصبح اللفظ مجملاً لا محالة.
ثمّ قال:إنّ الحال في سائر المركبات الاختراعية أيضاً كذلك،يعني أنّ اللفظ فيها موضوع ابتداءً للمرتبة العليا،واستعماله في بقية مراتبها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد أو من جهة الاشتراك في الأثر 1.
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) ترجع إلى امور:
الأوّل: أنّ الموضوع له هو المرتبة العليا على كلا القولين،غاية الأمر الصحيحي يدعي صحّة الاستعمال في خصوص المراتب الصحيحة بين بقية المراتب،والأعمي يدعي صحّته على الاطلاق.
الثاني: أ نّه لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات الاختراعية.
الثالث: أنّ الصحيحي والأعمي محتاج كل منهما إلى تصوير جامع بين صلاتي القصر والإتمام،ليكون اللفظ موضوعاً بازاء ذلك الجامع.
الرابع: بطلان ثمرة النزاع بين القولين.
أمّا الأوّل: فيردّه أنّ إطلاق ألفاظ العبادات على جميع مراتبها الدانية والعالية بعرضهما العريض على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها،مثلاً إطلاق لفظ الصلاة على المرتبة العليا وهي صلاة المختار الواجدة لجميع الأجزاء
والشرائط،وعلى بقية المراتب كصلاة المضطر ونحوه،على نسق واحد بلا لحاظ عناية تنزيلها منزلة الواجد،أو اشتراكها مع المرتبة العليا في الأثر،فلو كانت لفظة الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا لكان استعمالها في غيرها من المراتب النازلة كصلاة بدون قيام،أو إلى غير القبلة مثلاً محتاجاً إلى لحاظ التنزيل،أو الاشتراك في الأثر،مع أنّ الأمر ليس كذلك،ضرورة أنّ المتشرعة يطلقون لفظ الصلاة على كل مرتبة من مراتبها،غافلين عن لحاظ التنزيل،أو اشتراك هذه المرتبة مع المرتبة العليا في الأثر،ولا يرون التفاوت في مرحلة الاستعمال والإطلاق بينها وبين بقية المراتب أصلاً،فهذا يكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الموضوع له هو الجهة الجامعة بين جميع المراتب،لا خصوص المرتبة العليا،من دون فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات فما أفاده (قدس سره) كما لا يتم في العبادات كذلك لا يتم في سائر المركبات.
وأمّا الثاني: فمع الاغماض عمّا أجبنا به عن الأمر الأوّل،يرد عليه:أ نّه فرق بين المركبات الشرعية وغيرها،وهو أنّ للمراتب العليا من المركبات غير الشرعية حدوداً خاصّة وأجزاء معيّنة التي لا يطرأ عليها الاختلاف بالزيادة والنقيصة،وتنعدم بفقدان واحد منها،كما إذا فرض أ نّها ذات أجزاء ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو عشرة أو أقل أو أزيد،على اختلافها باختلاف المركبات، فحينئذ يمكن دعوى أنّ اللفظ موضوع لخصوص المراتب العليا منها،وإطلاقه على بقية المراتب من باب الادعاء والتنزيل،أو من جهة الاشتراك في الأثر.
وهذا بخلاف العبادات،فانّ المراتب العليا منها ليست لها أجزاء خاصّة بحيث لاتختلف زيادة ونقيصة،فانّها بأنفسها مختلفة ومتشتتة من ناحية الكمّية أو الكيفية،مثلاً المرتبة العليا من صلاة الصبح غير المرتبة العليا من صلاة الظهرين،وكلتاهما غير المرتبة العليا من صلاة المغرب،وكل ذلك غير المرتبة
العليا من صلاة العشاء بحسب الكمّية أو الكيفية،وهي بأجمعها غير المرتبة العليا من صلاة الآيات وصلاة العيدين وغيرهما.
وعلى الجملة: فلاشبهة في أنّ للصلاة عرضاً عريضاً باعتبار أصنافها العديدة، ولكل واحد من أصنافها أيضاً عرض عريض باعتبار مراتبها الطولية،ومن المعلوم أنّ المرتبة العليا من كل صنف من أصنافها مباينة للمرتبة العليا من صنف آخر،وهكذا.
فالنتيجة:أنّ المراتب العالية أيضاً متعددة فلا بدّ من تصوير جامع بينها، ليكون اللفظ موضوعاً بازاء ذلك الجامع،للقطع بانتفاء الاشتراك اللفظي.
فقد ظهر أنّ الالتزام بالوضع لخصوص المرتبة العليا لا يغني عن تصوير الجامع،فهو ممّا لا بدّ منه سواء قلنا بأنّ الموضوع له المرتبة العليا،أم قلنا بأ نّه الجهة الجامعة بين جميع المراتب.
ومن هنا يظهر الجواب عن الأمر الثالث أيضاً،وهو أنّ الحاجة إلى تصوير الجامع لاتختص بالقصر والإتمام،بل لا بدّ من تصويره بين جميع المراتب العالية، وقد عرفت أ نّها كثيرة ولا تنحصر بالقصر والاتمام.
وأمّا الأمر الرابع: فقد تبيّن من ضوء بياننا المتقدم أنّ ثمرة النزاع بين الأعمى والصحيحي تظهر على هذا أيضاً،والوجه في ذلك:هو أنّ الأعمي لا محالة يدعي وضع اللفظ للجامع بين جميع المراتب العليا صحيحة كانت أو فاسدة، والصحيحي يدعي وضعه لخصوص الصحيحة منها،فعلى ذلك إذا فرض وجود مطلق في البين وشكّ في اعتبار شيء ما جزءاً أو شرطاً في المأمور به،فبناءً على الصحيحي لا يجوز التمسّك باطلاقه،لأنّ الشك في اعتباره مساوق للشك في صدق المسمّى،ومعه لا يمكن التمسّك بالإطلاق،وبناءً على الأعمي لا مانع منه،لأنّ صدق المسمّى محرز بالوجدان والشك إنّما هو في اعتبار أمر زائد
فيدفع بالإطلاق.
نعم،لا يمكن التمسّك بالإطلاق بالإضافة إلى بقية المراتب،لعدم إحراز الإطلاق من جهة عدم العلم بالتنزيل والادعاء،كما ذكره (قدس سره) فلا يمكن التمسك باطلاق ما دلّ على وجوب الصلاة لاثبات وجوبها على المضطر أو نحوه،وذلك من جهة عدم إحراز التنزيل والإدعاء بعد فرض أنّ الموضوع له لا يعم المشكوك فيه،لأنّه خصوص المرتبة العليا.
وقد أصبحت النتيجة بوضوح أنّ تصوير الجامع على كلا القولين قد أصبح ضرورياً،وعليه فإن أمكن تصويره في مقام الثبوت على كلا القولين فللنزاع في مقام الاثبات مجال،وإن لم يمكن تصويره إلّاعلى أحد القولين دون الآخر فلا مناص من الالتزام بذلك القول.فعلى ذلك يقع الكلام في مقامين:
الأوّل:في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة فقط.
الثاني:في تصويره بين الأعم من الصحيحة والفاسدة.
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1إلى أنّ وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة ممّا لا بدّ منه،وقد استدلّ على ذلك بقاعدة فلسفية وهي:أنّ الواحد لا يصدر إلّامن الواحد،إذ لا بدّ من السنخية بين العلّة ومعلولها،والواحد بما هو واحد لا يعقل مسانخته للكثير بما هو كثير، إذن لا بدّ من الالتزام بأنّ العلّة هو الجامع بين الكثير وهو أمر واحد،ثمّ طبّق
(قدس سره) هذه القاعدة على المقام بتقريب أنّ الأفراد الصحيحة من الصلاة مثلاً تشترك جميعها في أثر وحداني وهو النهي عن الفحشاء والمنكر بمقتضى قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ» 1كما هي تشترك في أ نّها عماد الدين ومعراج المؤمن،كما في عدّة من الروايات،ولا يعقل أن يكون المؤثر في ذلك الأثر الوحداني جميع الأفراد الصحيحة على كثرتها،لما عرفت من أنّ الواحد لا يسانخ الكثير،فلا محالة يستكشف كشفاً قطعياً عن وجود جامع وحداني بين تلك الأفراد الصحيحة يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني، ومن هنا قال (قدس سره) إنّ تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة بمكان من الامكان بل هو ضروري،دون الأعم لعدم تحقق صغرى هذه القاعدة على قول الأعمي وبدونها لا طريق لنا إلى كشف الجامع من ناحية اخرى.
ولكن لا يخفى ما فيما أفاده (قدس سره) بل لم يكن يترقب صدوره منه،وذلك من وجوه.
الأوّل: أنّ هذه القاعدة وإن كانت تامّة في العلل الطبيعية لا محالة،دون الفواعل الارادية،ولكن ذلك فيما إذا كان المعلول واحداً بوحدة شخصية، وأمّا إذا كان واحداً بوحدة نوعية فلا تجري فيه هذه القاعدة،وقد مرّ الكلام في ذلك في البحث عن حاجة العلوم إلى وجود الموضوع فليراجع 2.وحيث إنّ وحدة الأثر في المقام وحدة نوعية لا شخصية،فانّ النهي عن الفحشاء كلّي له أفراد وحصص بعدد أفراد الصلاة وحصصها في الخارج،فلا شيء هناك يكشف عن وجود جامع بين أفرادها،مثلاً صلاة الصبح يترتب عليها نهي عن
منكر،وصلاة المغرب يترتب عليها نهي آخر،وهكذا،فلا كاشف عن جهة جامعة بين الأفراد والحصص بقانون أنّ الاُمور المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً.
الثاني: لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا تمامية القاعدة حتى في الواحد النوعي، فانّها لا تتم في المقام،لأنّها لو تمّت فيما إذا كانت الوحدة وحدة ذاتية مقولية فلا تتم فيما إذا كانت الوحدة وحدة بالعنوان،دون الحقيقة والذات،ولمّا كانت وحدة النهي عن الفحشاء وحدة عنوانية لا وحدة مقولية،ضرورة أنّ النهي عن الفحشاء عنوان ينتزع عن ترك الأعمال القبيحة بالذات،أو من جهة النهي الشرعي،فكل واحد من هذه الأعمال حصّة من الفحشاء والمنكر،ويعبّر عن النهي عنه بالنهي عن الفحشاء،ولا مانع من أن ينتزع الواحد بالعنوان عن الحقائق المختلفة،والاُمور المتباينة خارجاً.
وعليه فلا كاشف عن جهة جامعة ذاتية مقولية،وغاية ما هناك وجود جامع عنواني بين الأفراد الصحيحة كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر،مع الاختلاف في الحقيقة والذات،ومن الضروري عدم وضع لفظ الصلاة لنفس العنوان.
الثالث: أ نّا نعلم بالضرورة أنّ الأثر في المقام غير مترتب على الجامع بين الأفراد،وإنّما هو مترتب على أفراد الصلاة بخصوصياتها من الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها،فان ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلاة ليس كترتب الإحراق على النار،أو كترتب سائر الآثار الخارجية على أسبابها،فانّ الأثر في جميع هذه الموارد مترتب على الجامع من دون دخل لأيّة خصوصية من الخصوصيات الفردية.
وهذا بخلاف المقام،فانّ النهي عن الفحشاء والمنكر ممّا يترتب على أفراد الصلاة وحصصها بخصوصياتها الخاصّة المعتبرة في صحّتها خارجاً،ولا ريب
في أنّ صحّة صلاة الصبح منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثانية، وصحّة صلاة المغرب منوطة بخصوصية وقوع التسليمة في الركعة الثالثة،وعدم وقوعها في الركعة الثانية،وصحّة صلاة الظهرين أو صلاة العشاء متوقفة على خصوصية وقوع التسليمة في الركعة الرابعة،ومشروطة بعدم وقوعها في الركعة الثالثة،وهكذا بقية الخصوصيات،فالمؤثر في جهة النهي عن الفحشاء حقيقة تلك الخصوصيات،ومع هذا كيف يمكن القول بأنّ المؤثر فيه الجامع بين الأفراد، فانّ الالتزام بذلك إنّما هو فيما إذا لم يكن دخل للخصوصيات في ترتب الأثر، وهذا لايعقل في المقام،إذ كيف يمكن وجود جامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه.
فتلخّص:أنّ الجامع الذاتي المقولي ولو سلّمنا إمكان تعقّله بين الأفراد الصحيحة،لم يكن لنا طريق إليه في مقام الاثبات.
الرابع: أنّ هذا الجامع الذي فرضه (قدس سره) لا يخلو من أن يكون مركباً أو يكون بسيطاً،ولا ثالث لهما.
والأوّل:لا يعقل،لأنّ الصحّة والفساد كما عرفت مفهومان إضافيان،ومن المعلوم أنّ كل مركب فرض جامعاً فذلك المركب يتداخل فيه الصحّة والفساد، سواء كان المركب من المراتب العالية كصلاة المختار أو من المراتب الدانية،أو من المراتب الوسطى،فعلى جميع التقادير كان ذلك المركب صحيحاً بالقياس إلى شخص أو زمان أو حالة،وفاسداً بالقياس إلى غير ذلك،مثلاً الصلاة قصراً صحيحة من المسافر وفاسدة من غيره،والصلاة قاعداً صحيحة للعاجز عن القيام،وفاسدة للقادر عليه،والصلاة مع الطهارة المائية صحيحة من واجد الماء وفاسدة من فاقده،ومع الطهارة الترابية بعكس ذلك،وهكذا،وعليه فكيف يعقل أن يكون المركب بما هو جامعاً.
وعلى الجملة: قد ذكرنا سابقاً أنّ للصلاة مراتب عريضة،ومن المعلوم أنّ تلك المراتب بأجمعها متداخلة صحّة وفساداً،فما من مرتبة من مراتب الصحيحة إلّا وهي فاسدة من طائفة،حتّى المرتبة العليا فانّها فاسدة ممّن لم يكلف بها فلا يعقل أن يؤخذ منها جامع تركيبي.
فقد أصبحت النتيجة أنّ استحالة تصوير الجامع التركيبي بين الأفراد الصحيحة أمر بديهي.
والثاني:وهو فرض الجامع بسيطاً أيضاً غير معقول،والوجه في ذلك هو أنّ الجامع المقولي الذاتي لا يعقل أن ينطبق على مركب من حقيقتين متباينتين بالذات والهوية،بداهة استحالة تحقق جامع ماهوي بين الحقيقتين المتباينتين ذاتاً،وإلّا فلا تكونان متباينتين،بل كانتا مشتركتين في حقيقة واحدة،وهذا خلف،ومقامنا من هذا القبيل بعينه،لأنّ الصلاة مركبة وجداناً من مقولات متباينة بحد ذاتها،كمقولة الوضع والكيف ونحوهما.
وقد برهن في محلّه أنّ المقولات متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها فلا اشتراك لها في حقيقة واحدة،ومن هنا كانت المقولات أجناساً عالية،فلو كانت مندرجة تحت مقولة واحدة لم تكن أجناساً عالية،ومع ذلك كيف يعقل جامع مقولي بين الأفراد الصحيحة،بل لا يعقل فرض جامع لمرتبة واحدة منها فضلاً عن جميع مراتبها المختلفة،والمركب بما هو مركب لا يعقل أن يكون مقولة على حدة، ضرورة اعتبار الوحدة الحقيقية في المقولة وإلّا لم تنحصر المقولات،بل لا يعقل تركب حقيقي بين أفراد مقولة واحدة فضلاً عن مقولات متعددة.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لايعقل تصور الجامع الحقيقي البسيط لمرتبة واحدة من الصلاة فضلاً عن جميع مراتبها،كما كان الأمر كذلك في الجامع التركيبي.
الخامس: قد ذكرنا سابقاً أنّ الصحّة في المقام بمعنى تمامية الشيء في نفسه،
أعني بها تماميته من حيث الأجزاء والشرائط،وقد تقدّم 1أنّ الصحّة من جهة قصد القربة،أو من جهة عدم النهي أو المزاحم،خارجة عن محل النزاع وغير داخلة في المسمّى،فانّه في مرتبة سابقة قد يوجد له مزاحم وقد يقصد به التقرب وقد ينهى عنه،ولكن مع ذلك لهذه الاُمور دخل في الصحّة وفي فعلية الأثر،فلو كان للصلاة مثلاً مزاحم واجب،أو أ نّها نهي عنها،أو لم يقصد بها التقرّب،لم يترتب عليها الأثر،وعليه فما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ يقيناً،وما وضع له اللفظ ليس إلّاما يكون مقتضياً وقابلاً لترتب الأثر عليه،وهذا كما يمكن صدقه على الأفراد الصحيحة يمكن صدقه على الأفراد الفاسدة،لأنّها أيضاً قد تقع صحيحة بالإضافة إلى شخص أو زمان أو حالة لا محالة.
وعلى الجملة: أنّ ما يترتب عليه الأثر بالفعل لم يوضع له اللفظ قطعاً،وما يترتب عليه الأثر بالاقتضاء جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة جميعاً.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ ترتب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلوات الصحيحة بالفعل لايفي باثبات القول بوضع الألفاظ للجامع بين الأفراد الصحيحة بخصوصها،فانّه سواء قلنا بذلك القول أم لم نقل،فترتبه متوقف على اعتبار شيء زائد على المسمّى لا محالة.
السادس: أنّ الجامع لا بدّ من أن يكون أمراً عرفياً،وما ذكره من الجامع على تقدير تسليم وجوده والاغماض عن جميع ما ذكرناه،لا يكون معنى عرفياً حتّى يكون مسمّى بلفظ الصلاة ومورداً للخطاب،ضرورة أنّ اللفظ لا يوضع لمعنى خارج عن المتفاهم العرفي،ولا يكون مثله متعلقاً للخطاب الشرعي،
فانّ الخطابات الشرعية كلّها منزّلة على طبق المفاهيم العرفية،فلو فرض معنى يكون خارجاً عن الفهم العرفي لم يقع مورداً للخطاب الشرعي أو العرفي،ولا يوضع اللفظ بازائه،وحيث إنّ الجامع في المقام ليس أمراً عرفياً فلا يكون مسمّى بلفظ الصلاة مثلاً،ضرورة أنّ محل كلامنا ليس في تصوير جامع كيف ما كان،بل في تصوير جامع عرفي يقع تحت الخطاب،لا في جامع عقلي بسيط يكون خارجاً عن متفاهم العرف.
وبتعبير آخر:أنّ المصلحة الداعية إلى وضع الألفاظ إنّما هي الدلالة على قصد المتكلم تفهيم معنى ما،فتلك المصلحة إنّما دعت إلى وضعها للمعاني التي يفهمها أهل العرف والمحاورة،وأمّا ما كان خارجاً عن دائرة فهمهم فلا مصلحة تدعو إلى وضع اللفظ بازائه،بل كان الوضع بازائه لغواً محضاً لا يصدر من الواضع الحكيم.
ولما لم يكن الجامع الذي فرضه بين الأفراد الصحيحة جامعاً عرفياً،فانّ كثيراً من الناس لا يعلم بتأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر فضلاً عن العلم بكشفه عن جامع ذاتي مقولي،لم يكن ذلك الجامع موضوعاً له لمثل كلمة الصلاة ونحوها،بل المتفاهم منها عرفاً في مثل قولنا:فلان صلّى أو يصلّي أو نحو ذلك،غير ذلك الجامع.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه:أنّ تصوير جامع ذاتي مقولي بين الأفراد الصحيحة غير معقول.
وأمّا تصوير جامع عنواني بينها فهو وإن كان ممكناً،كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر أو نحوه،إلّاأنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء هذا العنوان يقيناً، ضرورة أنّ لفظ الصلاة لو كان موضوعاً لذلك العنوان لكان مرادفاً لكلمة الناهي عن الفحشاء والمنكر،ولازم ذلك أن يكون حمل ذلك العنوان على الصلاة
من الحمل الأوّلي الذاتي،لا الشائع الصناعي وهو باطل قطعاً.
لا يقال: إنّ لزوم الترادف يبتني على أن يكون لفظ الصلاة موضوعاً لنفس العنوان المذكور،وأمّا إذا فرضنا أ نّه موضوع لواقع ذلك العنوان ومعنونه فلا يلزم ذلك.
فانّه يقال: إن اريد بالمعنون ما يكون جامعاً بين الأفراد الخارجية،ليكون صدقه عليها صدق الطبيعة على أفرادها،فقد عرفت أ نّه لا دليل عليه،بل البرهان قائم على خلافه.وإن اريد بالمعنون نفس الأفراد الخارجية ليكون الوضع من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص،فهو باطل جزماً،وذلك لأنّ إطلاق كلمة الصلاة على جميع أقسامها بشتّى أنواعها وأشكالها على نسق واحد،وليس استعمالها في نوع أو صنف أو فرد مغايراً لاستعمالها في نوع أو صنف أو فرد آخر.
ومن هنا يكون حمل كلمة الصلاة بما لها من المعنى المرتكز في أذهان المتشرعة على جميع أقسامها وأفرادها،من قبيل حمل الكلي على أفراده،والطبيعي على مصاديقه،فوحدة النسق في إطلاق الكلمة،وكون الحمل شائعاً صناعياً، يكشفان كشفاً قطعياً عن أنّ المعنى الموضوع له عام لا خاص.
وعلى الجملة:أنّ القول بكون الموضوع له خاصاً يشترك مع القول بالاشتراك اللفظي في البطلان،بل لا فرق بحسب النتيجة،حيث إنّ الموضوع له متعدد على كلا القولين،وإنّما الفرق بينهما في وحدة الوضع وتعدده.
فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه:أنّ تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح غير معقول،وتصوير جامع عنواني وإن كان شيئاً معقولاً إلّا أنّ اللفظ لم يوضع بازائه ولا بازاء معنونه كما عرفت،هذا.
وفي تقريرات بعض الأعاظم (قدس سره) بيان آخر لتصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة،وملخّصه:هو أنّ الجامع لاينحصر بالجامع المقولي ولا بالجامع العنواني،بل هنا جامع ثالث وهو المرتبة الخاصة من الوجود الساري،فانّ الصلاة مثلاً مركبة من مقولات متباينات،وتلك المقولات وإن لم تندرج تحت جامع مقولي حقيقي،إلّاأ نّها مندرجة تحت مرتبة خاصّة من الوجود الساري إليها،وتلك المرتبة الخاصّة البسيطة وجود سار إلى جملة من المقولات،ومحدود من ناحية القلّة بالأركان على سعتها،وأمّا من ناحية الزيادة فهو لا بشرط، وهذه جهة جامعة بين جميع الأفراد الصحيحة،فالصلاة عبارة عن تلك المرتبة الخاصّة من الوجود،وعلى هذا كانت الصلاة أمراً بسيطاً خاصاً يصدق على القليل والكثير والقوي والضعيف،وهكذا 1.
ويردّه أوّلاً: أ نّه لا ريب في أنّ لكل مقولة من المقولات وجود في نفسه في عالم العين،فكما أ نّه لا يعقل أن يكون بين مقولتين أو ما زاد جامع مقولي واحد،بأن تندرجا تحت ذلك الجامع،فكذلك لا يعقل أن يكون لهما وجود واحد في الخارج،ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة اخرى في الوجود.
وعلى الجملة:فكل مركب اعتباري عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر، فالوحدة بين أجزائه وحدة اعتبارية،ومن الضروري أ نّه ليس لمجموع تلك الأجزاء المتباينة بالذات والحقيقة حصّة خاصة من الوجود حقيقة سارية إليها، فالصلاة مثلاً مركبة من مقولات متباينة كمقولة الوضع والكيف ونحوهما،وليست تلك المقولات مشتركة في مرتبة خاصة بسيطة من الوجود لتكون وجوداً للجميع.
وعلى ذلك فانّه (قدس سره) إن أراد به اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود فهو لا يختص بها،بل يعم جميع الأشياء،وإن أراد به اشتراكها في حقيقة الوجود فالأمر أيضاً كذلك،وإن أراد أنّ لتلك المقولات وحدها مرتبة خاصة من الوجود،ففيه:أ نّه غير معقول كما عرفت،وقد برهن في محلّه أنّ الاتحاد الحقيقي في الوجود بين أمرين أو امور متحصلة مستحيل،ولو اعتبر الوحدة بينهما أو بينها ألف مرة،وكيف ما كان،فلا نعقل لذلك معنى متحصّلاً أصلاً.
وثانياً: أ نّه لو سلّم ذلك فانّ الصلاة ليست عبارة عن تلك المرتبة الخاصة الوجودية،ضرورة أنّ المتفاهم منها عند المتشرعة ليس هذه،بل نفس المقولات والأجزاء والشرائط،وهذا واضح.
وثالثاً: أ نّا قد ذكرنا سابقاً أنّ الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية،بل وضعت للماهيات القابلة لأن تحضر في الأذهان،وعليه فلا يعقل أن يوضع لفظ الصلاة لتلك المرتبة الخاصة من الوجود،فانّها غير قابلة لأن تحضر في الذهن.
ولشيخنا المحقق (قدس سره) بيان ثالث في تصويرالجامع بين الأفراد الصحيحة،وإليك نصّه:
والتحقيق أنّ سنخ المعاني والماهيات،وسنخ الوجود العيني الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم،في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان،فان سعة سنخ الماهيات من جهة الضعف والابهام،وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية،فلذا كلّما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر،وكلّما كان الوجود أشد وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأتم.
فان كانت الماهية من الماهيات الحقيقية كان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطوارئ
وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها،كالانسان مثلاً فانّه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقوّمين لحقيقته،وإنّما الإبهام فيه من حيث الشكل،وشدّة القوى وضعفها وعوارض النفس والبدن،حتّى عوارضها اللازمة لها ماهية ووجوداً.
وإن كانت الماهية من الاُمور المؤتلفة من عدّة امور بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً،فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفية بعض العناوين غير المنفكة عنها،فكما أنّ الخمر مثلاً مائع مبهم من حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما،ومن حيث اللون والطعم والريح،ومن حيث مرتبة الإسكار،ولذا لا يمكن وصفه إلّالمائع خاص، بمعرفية المسكرية من دون لحاظ الخصوصية تفصيلاً،بحيث إذا أراد المتصور تصوّره لم يوجد في ذهنه إلّامصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلّاحيثية المائعية بمعرفية المسكرية،كذلك لفظ الصلاة مع هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّاً وكيفاً،لا بدّ من أن يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء، أو غيره من المعرّفات،بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلّاإلى سنخ عمل خاص مبهم،إلّامن حيث كونه مطلوباً في الأوقات الخاصة،ولا دخل لما ذكرناه بالنكرة،فانّه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية،كما اخذت فيها.
وبالجملة:الإبهام غير الترديد،وهذا الذي تصورناه فيما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي،وجامع عنواني،ومن دون الالتزام بالاشتراك اللفظي،ممّا لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعيناً.
ثمّ قال (قدس سره) بقوله:وقد التزم بنظيره بعض أكابر فن المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية،جواباً عن تصور شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والمتوسطة والناقصة،حيث قال:نعم،الجميع مشترك في سنخ واحد
مبهم غاية الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة،ونقصها وراء الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف في الأفراد بحسب هوياتها انتهى.مع أنّ ما ذكرناه أولى به ممّا ذكره في الحقائق المتأصلة،والماهيات الواقعية،كما لا يخفى.
ثمّ قال (قدس سره) وأمّا على ما تصوّرنا الجامع،فالصحيحي والأعمي في إمكان تصوير الجامع على حد سواء،فانّ المعرّف إن كان فعلية النهي عن الفحشاء فهي كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة،وإن كان اقتضاء النهي عن الفحشاء فهو كاشف عن الجامع بين الأعم 1هذا.
يتلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في ضمن امور:
الأوّل: أنّ الماهية والوجود متعاكسان من جهة السعة والإطلاق،فالوجود كلّما كان أشد وأقوى كان الإطلاق والشمول فيه أوفر،والماهية كلّما كان الضعف والإبهام فيها أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أعظم وأوفر.
الثاني: أنّ الجامع بين الماهيات الاعتبارية كالصلاة ونحوها سنخ أمر مبهم في غاية الإبهام،فانّه جامع لجميع شتاتها ومتفرقاتها،وصادق على القليل والكثير والزائد والناقص،مثلاً الجامع بين أفراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جميع الجهات،إلّامن حيث النهي عن الفحشاء والمنكر،أو من حيث فريضة الوقت.
الثالث: أنّ الماهيات الاعتبارية نظير الماهيات المتأصلة التشكيكية من جهة إبهامها ذاتاً،بل إنّ ثبوت الابهام في الاعتباريات أولى من ثبوته في المتاصلات.
الرابع: أنّ القول بالصحيح والأعم في تصوير الجامع المزبور على حد سواء.
أمّا الأمر الأوّل: فهو وإن كان متيناً إلّاأ نّه خارج عن محل كلامنا في المقام.
وأمّا الأمر الثاني: فيردّه أنّ الماهيات الاعتبارية لا تكون مبهمة أصلاً، ضرورة أنّ للصلاة مثلاً حقيقة متعيّنة من قبل مخترعها،وهي أجزاؤها الرئيسية التي هي عبارة عن مقولة الكيف والوضع ونحوهما،ومن المعلوم أ نّه ليس فيها أيّ إبهام وغموض،كيف فانّ الابهام لا يعقل أن يدخل في تجوهر ذات الشيء، فالشيء بتجوهر ذاته متعيّن ومتحصّل لا محالة،وإنّما يتصور الابهام بلحاظ الطوارئ وعوارضه الخارجية كما صرّح هو (قدس سره) بذلك في الماهيات المتأصلة.
فحقيقة الصلاة حقيقة متعيّنة بتجوهر ذاتها،وإنّما الابهام فيها بلحاظ الطوارئ وعوارضها الخارجية،وعليه فالعمل المبهم إلّامن حيث النهي عن الفحشاء، أو فريضة الوقت،لا يعقل أن يكون جامعاً ذاتياً،ومنطبقاً على جميع مراتبها المختلفة زيادة ونقيصة انطباق الكلّي على أفراده،ومتحداً معها اتحاد الطبيعي مع مصاديقه ضرورة،إذ قد عرفت أنّ الصلاة مركبة من عدّة مقولات متباينة فلا تندرج تحت جامع ذاتي،فلا محالة يكون ما فرض جامعاً عنواناً عرضياً لها ومنتزعاً عنها،إذ لا ثالث بين الذاتي والعرضي،ومن الواضح جدّاً أنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء هذا العنوان،وإلّا لترادف اللفظان وهو باطل يقيناً،ومن هنا يظهر بطلان قياس المقام بمثل كلمة الخمر ونحوها ممّا هو موضوع للعنوان العرضي،دون الذاتي.
على أنّ الكلام في هذه المسألة كما مرّ 1إنّما هو في تعيين مسمّى لفظ الصلاة الذي هو متعلق للأمر الشرعي،لا في تعيين المسمّى كيف ما كان،ومن الظاهر
أنّ الجامع المزبور لايكون متعلق الأمر،بل المتعلق له هو نفس الأجزاء المتقيدة بقيود خاصة،فانّها هي التي واجدة للملاك الداعي إلى الأمر بها،كما لا يخفى.
ومن هنا كان المتبادر عرفاً من لفظ الصلاة هذه الأجزاء المتقيدة بتلك الشرائط لا ذلك الجامع.ومن الغريب أ نّه (قدس سره) قال:إنّ العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلّاإلى سنخ عمل مبهم،إلّامن حيث كونه مطلوباً في الأوقات المخصوصة،كيف فانّ العرف لا يفهم من إطلاق لفظ الصلاة إلّاكمّية خاصة من الأجزاء والشرائط التي تعلق الأمر بها وجوباً أو ندباً،وفي الأوقات الخاصة،أو في غيرها،ومن هنا كان إطلاق لفظ الصلاة على صلاة العيدين وصلاة الآيات إطلاقاً حقيقياً من دون إعمال عناية أو رعاية علاقة.
وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاده (قدس سره) في الأمر الثالث فلا حاجة إلى الإعادة.
وأمّا الرابع: فيرد عليه ما تقدّم من أنّ النهي عن الفحشاء إنّما يترتب فعلاً على ما يتصف بالصحّة بالفعل،وهو غير المسمّى قطعاً،فلا يمكن أن يكون ذلك جامعاً بين الأفراد الصحيحة.
وقد تلخص من جميع ما ذكرناه:أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة إمّا أ نّه غير معقول،أو هو معقول ولكن اللفظ لم يوضع بازائه.
إذا لم يعقل جامع بين الأفراد الصحيحة فما هو المؤثر في النهي عن الفحشاء والمنكر ؟
والجواب عنه:هو أنّ حديث كيفية تأثير الصلاة في الانتهاء عن الفحشاء
والمنكر يمكن أن يكون بأحد وجهين:
الأوّل: أنّ الصلاة باعتبار أجزائها المختلفة كمّاً وكيفاً،مشتملة على أرقى معاني العبودية والرقية،ولأجل ذلك تصرف النفس عن جملة من المنكرات وتؤثر في استعدادها،للانتهاء عنها من جهة مضادة كل جزء من أجزائها لمنكر خاص،فانّ المصلي الملتفت إلى وجود مبدأ ومعاد إذا قرأ قوله تعالى «الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ» التفت إلى أنّ لهذه العوالم خالقاً هو ربّهم،وهو رحمٰن ورحيم، وإذا قرأ قوله تعالى «مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» التفت إلى أنّ اللّٰه يسأل عمّا ارتكبه من القبائح ويجازي عليه في ذلك اليوم،وإذا قرأ قوله تعالى «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» التفت إلى أنّ العبادة والاستعانة منحصرتان به تعالى وتقدس،ولا يصلح غيره للعبادة والاستعانة.
وإذا قرأ «اهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرٰاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّٰالِّينَ» التفت إلى أنّ طائفة قد خالفوا اللّٰه وعصوه عناداً،ولأجله وقع عليهم غضبه تعالى وسخطه،أو أ نّهم خالفوه بغير عناد فصاروا من الضالِّين.
وهناك طائفة اخرى قد أطاعو اللّٰه ورسوله فوقعوا في مورد نعمائه تعالى ورضاه،ففاتحة الكتاب بمجموع آياتها تكون عبرة وعظة للمصلين الملتفتين إلى معاني هذه الآيات،ثمّ إذا وصل المصلي إلى حدّ الركوع والسجود فركع ثمّ سجد،التفت إلى عظمة مقام ربّه الجليل،وأنّ العبد لا بدّ أن يكون في غاية تذلل وخضوع وخشوع إلى مقامه الأقدس،فانّهما حقيقة العبودية وأرقى معناها،ومن هنا كانت عباديتهما ذاتية.
ومن هنا كان في الركوع والسجود مشقة على العرب في صدر الاسلام، فالتمسوا النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله) أن يرفع عنهم هذا التكليف ويأمرهم بما شاء،وذلك لتضادهما الكبر والنخوة،وبما أنّ الصلاة تتكرر في كل يوم وليلة
عدّة مرّات،فالالتفات إلى معانيها في كل وقت اتي بها لا محالة تؤثر في النفس وتصرفها عن الفحشاء والمنكر.
الثاني: أنّ الصلاة باعتبار أ نّها مشروطة بعدّة شرائط فهي لا محالة تنهى عن الفحشاء والمنكر،فانّ الالتزام باباحة المكان واللباس وبالطهارة من الحدث والخبث مثلاً،يصرف المكلف عن كثير من المحرمات الإلهٰية.
وقد نقل عن بعض السلاطين أ نّه كان يمتنع عن شرب الخمر لأجل الصلاة، وكيف ما كان فالصلاة باعتبار هاتين الجهتين ناهية عن عدّة من المنكرات لا محالة.
فتلخّص:أنّ تأثير الصلاة في النهي عن الفحشاء باعتبار هاتين الجهتين واضح،هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فيقع في تصوير الجامع على القول بالأعم، وقد ذكر فيه عدّة وجوه:
الأوّل: ما عن المحقق القمي (قدس سره) من أنّ ألفاظ العبادات موضوعة بازاء خصوص الأركان،وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به دون المسمّى،فلفظ الصلاة مثلاً موضوع لذات التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث،فانّها أركان الصلاة واُصولها الرئيسية،وأمّا البقية فجميعاً معتبرة في مطلوبيتها شرعاً،لا في تسميتها عرفاً 1فيرجع حاصل ما أفاده (قدس سره) إلى أمرين:
الأوّل:أنّ البقية بأجمعها خارجة عن المسمّى ودخيلة في المأمور به.
الثاني:أنّ الأركان هو الموضوع له.
وقد أورد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1على كل واحد من الأمرين إيراداً.
أمّا الأوّل: فقد أورد عليه بأ نّه إن أراد بعدم دخول بقية الأجزاء والشرائط في المسمى،عدم دخولها فيه دائماً،فيردّه:أ نّه ينافي الوضع للأعم،فان لازمه عدم صدق لفظ الصلاة على الفرد الصحيح إلّابنحو من العناية والمجاز،ومن باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.وإن أراد به دخولها فيه عند وجودها،وخروجها عنه عند عدمها فهو غير معقول،ضرورة أنّ دخول شيء واحد في ماهية عند وجوده،وخروجه عنها عند عدمه أمر مستحيل، لاستحالة كون شيء جزءاً لماهية مرّة،وخارجاً عنها مرّة اخرى،فان كل ماهية متقوّمة بجنس وفصل أو ما يشبههما،فلا يعقل أن يكون شيء واحد مقوّماً لماهية عند وجوده،ولا يكون كذلك عند عدمه.فإذن لا يعقل أن تكون البقية داخلة في المسمّى عند تحققها وخارجة عنه عند عدمها،فأمرها لا محالة يدور بين الخروج مطلقاً أو الدخول كذلك،وكلا الأمرين ينافي الوضع للأعم.
أمّا الأوّل فلما عرفت،وأمّا الثاني فلأ نّه يناسب الوضع للصحيح لا للأعم كما لا يخفى.
ثمّ أورد (قدس سره) على نفسه بأنّ الالتزام بالتشكيك في الوجود،وفي بعض الماهيات كالسواد والبياض ونحوهما يلزمه الالتزام بدخول شيء في الوجود أو الماهية عند وجوده،وبعدم دخوله فيه عند عدمه،فانّ المعنى الواحد على القول بالتشكيك يصدق على الواجد والفاقد والناقص والتام،فالوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على عرضه العريض،وكذا السواد يصدق
على الضعيف والشديد،فليكن الصلاة أيضاً صادقة على التام والناقص والواجد والفاقد على نحو التشكيك.
وأجاب عنه بأنّ التشكيك في حقيقة الوجود لا ندرك حقيقته،بل هو أمر فوق إدراك البشر ولا يعلم إلّابالكشف والمجاهدة كما صرّح به أهله،وأمّا التشكيك في الماهيات فهو وإن كان أمراً معقولاً إلّاأ نّه لا يجري في كل ماهية، بل يختص بالماهيات البسيطة التي يكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز كالسواد والبياض ونحوهما،وأمّا الماهيات التي تكون مركبة من جنس وفصل ومادة وصورة كالانسان ونحوه،فلا يعقل فيها التشكيك،وعليه فلا يعقل التشكيك في حقيقة الصلاة لأنّها على الفرض مركبة من أركان ومقولات عديدة، فلا يعقل أن تكون بقية الأجزاء والشرائط داخلة فيها مرّة وخارجة عنها مرّة اخرى،لتصدق الصلاة على الزائد والناقص.
وأمّا الثاني: فأورد عليه بأنّ الأركان أيضاً تختلف باختلاف الأشخاص من القادر والعاجز والغريق ونحو ذلك،فلا بدّ حينئذ من تصوير جامع بين مراتب الأركان فيعود الاشكال،وبيان ذلك:هو أنّ الشارع جعل الركوع والسجود بعرضهما العريض ركناً فهما يختلفان باختلاف الحالات من الاختيار والاضطرار،وأدنى مراتبهما الاشارة والإيماء،فحينئذ لا بدّ من تصوير جامع بين تلك المراتب ليوضع اللفظ بازاء ذلك الجامع،فإذن يعود الإشكال.
ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ ما ذكره (قدس سره) لا يرجع عند التأمل إلى معنى محصّل،هذا.
وأورد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1على هذا الوجه من تصوير الجامع إيراداً ثالثاً،وملخّصه:هو أ نّا نقطع بأنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء
الأركان الخاصة،ضرورة أ نّه يصدق على الفرد الفاقد لبعض الأركان إذا كان ذلك الفرد واجداً للبقية من الأجزاء والشرائط،ولا يصدق على الفرد الواجد لجميع الأركان إذا كان ذلك الفرد فاقداً لتمام البقية،فلا يصح إذن دعوى وضعها لخصوص الأركان،فانّه لا يدور صدق الصلاة مدارها وجوداً وعدماً،كما لا يخفى.
والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي (قدس سره) ولا يرد عليه شيء من هذه الايرادات.
أمّا الايراد الأوّل: فلأنّ فيه خلطاً بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية،فانّ المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة، ولكل واحد من الجزأين جهة افتقار بالاضافة إلى الآخر،لا يعقل فيها تبديل الأجزاء بغيرها،ولا الاختلاف فيها كمّاً وكيفاً،فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلاً لماهية،فلا يعقل أن يكون جنساً أو فصلاً لها مرّة،ولا يكون كذلك مرّة اخرى،ضرورة أنّ بانتفائه تنعدم تلك الماهية لا محالة،مثلاً الحيوان جنس للانسان فلا يعقل أن يكون جنساً له في حال أو زمان،ولا يكون جنساً له في حال أو زمان آخر وهكذا،فما ذكره (قدس سره) تام في المركبات الحقيقية ولا مناص عنه،وأمّا المركبات الاعتبارية التي تتركب من أمرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزأين جهة اتحاد حقيقة،ولا افتقار ولا ارتباط،بل إنّ كل واحد منهما موجود مستقل على حياله،ومباين للآخر في التحصّل والفعلية،والوحدة العارضة عليهما اعتبارية،لاستحالة التركب الحقيقي بين أمرين أو امور متحصّلة بالفعل،فلا يتم فيها ما أفاده (قدس سره) ولا مانع من كون شيء واحد داخلاً فيها عند وجوده،وخارجاً عنها عند عدمه.
وقد مثّلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ الدار فانّه موضوع لمعنى مركب وهو
ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة وهي أجزاؤها الرئيسية،ومقوّمة لصدق عنوانها،فحينئذ إن كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من أجزائها وداخلة في مسمّى لفظها،وإلّا فلا.
وعلى الجملة: فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركباً من أجزاء معيّنة خاصة،وهي:الحيطان والساحة والغرفة،فهي أركانها،ولم يلحظ فيها مواداً معيّنة وشكلاً خاصاً من الأشكال الهندسية،وأمّا بالاضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط،بمعنى أنّ الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى، وعلى تقدير عدمه خارج عنه،فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد.
ومن هذا القبيل لفظ القباء والعباء بالاضافة إلى البطانة ونحوها،فانّها عند وجودها داخلة في المسمى،وعند عدمها خارجة عنه وغير ضائر بصدقه.
ومن هذا القبيل أيضاً الكلمة والكلام،فانّ الكلمة موضوعة للمركب من حرفين فصاعداً،فان زيد عليهما حرف أو أزيد فهو داخل في معناها،وإلّا فلا، والكلام موضوع للمركب من كلمتين فما زاد،فيصدق على المركب منهما ومن الزائد على نحو واحد،وهكذا.
وبتعبير آخر:أنّ المركبات الاعتبارية على نحوين:
أحدهما: ما لوحظ فيه كثرة معيّنة من جانب القلّة والكثرة،وله حدّ خاص من الطرفين،كالأعداد فانّ الخمسة مثلاً مركبة من أعداد معيّنة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة.
وثانيهما: ما لوحظ فيه أجزاء معيّنة من جانب القلّة فقط،وله حد خاص من هذا الطرف،وأمّا من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد اخذ لا بشرط،وذلك
مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك،فانّ فيها ما اخذ مقوّماً للمركب،وما اخذ المركب بالاضافة إليه لا بشرط،ومن الظاهر أنّ اعتبار اللّا بشرطية في المعنى كما يمكن أن يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب،كما أ نّه لا مانع من أن يكون المقوّم للمركب الاعتباري أحد امور على سبيل البدل،وقد مثّلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى، فانّه موضوع للمركب المطبوخ من شكر وغيره،سواء كان ذلك الغير دقيق ارز أو حنطة أو نحو ذلك.
ولما كانت الصلاة من المركبات الاعتبارية،فانّك عرفت أ نّها مركبة من مقولات متعددة،كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها،وقد برهن في محلّه أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين،بل لايمكن بين أفراد مقولة واحدة، فما ظنّك بالمقولات،فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً.
والوجه في ذلك:هو أنّ معنى كل مركب اعتباري لا بدّ أن يعرف من قبل مخترعه،سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره،وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثيرة 1أنّ حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجوداً وعدماً،عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث على ما سنتكلم فيها عن قريب إن شاء اللّٰه تعالى،وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمّى،وعند عدمها خارجة عنه وغير مضرة بصدقه،وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى دخول الزائد،وقد عرفت أ نّه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية وكم له من نظير.
وإن شئت فقل:إنّ المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقاً بيد معتبرها، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو امور بشرط لا كما في الأعداد،وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد،كما هو الحال في كثير من تلك المركبات،فالصلاة من هذا القبيل،فانّها موضوعة للأركان فصاعداً.
وممّا يدلّ على ذلك:هو أنّ إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كمّاً وكيفاً على نسق واحد،بلا لحاظ عناية في شيء منها،فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا فلم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الأجزاء والشرائط بلا عناية،مع أ نّا نرى وجداناً عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد وإطلاقها على الفاقد أصلاً.
وقد تلخص من ذلك:أنّ دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرّة،وخروجه عنها مرّة اخرى،إنّما يكون مستحيلاً في الماهيات الحقيقية،دون المركبات الاعتبارية.
وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضاً:فانّ لفظ الصلاة موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كمّاً وكيفاً،وله عرض عريض،فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد كصدق كلمة الدار على جميع أفرادها المختلفة زيادة ونقيصه كمّاً وكيفاً.
إذن لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال.
وبتعبير واضح:أنّ الأركان وإن كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إلّاأ نّه لا يضر بما ذكرناه من أنّ لفظ الصلاة موضوع بازاء الأركان بعرضها العريض،ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة فانّه موضوع لها كذلك على سبيل البدل،وقد عرفت أ نّه لا
مانع من أن يكون مقوّم المركب الاعتباري أحد الاُمور على سبيل البدل.
ومن ذلك يتبين:أنّ ما ذكرناه غير مبني على جواز التشكيك في الماهية أو في الوجود،فانّه سواء قلنا به في الماهية أو الوجود أم لم نقل فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ إدراك التشكيك في الوجود أمر فوق إدراك البشر فلا يعلم إلّابالكشف والمجاهدة،ففساده غني عن البيان،كما لا يخفى على أهله.
وبما ذكرناه يظهر فساد الإيراد الثالث أيضاً،وذلك لأنّ الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها حتّى على الأعم، فلو كبّر المصلي ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتّى فرغ منها يحكم بصحّة صلاته بلا إشكال،ولم يستشكل في ذلك أحد من الفقهاء.
ومن هنا يظهر بطلان ما افيد ثانياً من أنّ لفظ الصلاة يصدق على الفاقد لبعض الأركان فيما إذا كان واجداً لسائر الأجزاء والشرائط،ووجه الظهور:هو ما عرفت من أنّ الروايات الكثيرة قد دلّت على أن حقيقة الصلاة التي تتقوّم بها هي التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث،والمراد منها أعم من المائية والترابية،كما أنّ المراد من الركوع والسجود أعم ممّا هو وظيفة المختار أو المضطر كما عرفت.
فقد أصبحت النتيجة أ نّه لا مانع من الالتزام بأنّ الموضوع له هو خصوص الأركان ولا يرد عليه شيء ممّا تقدّم.
قد نطقت روايات الباب والنصوص الكثيرة على أنّ الأركان أربعة،وهي:
التكبيرة والركوع والسجود والطهارة.
أمّا الاُولى: فقد دلّت نصوص عديدة 1على أنّ التكبيرة ابتداء الصلاة وبها افتتاحها،ومعنى هذا هو أنّ الصلاة لاتتحقق بدون ذلك،فالمصلي لو دخل في القراءة من دون أن يكبّر،لا يصدق أ نّه دخل فيها،ومن هنا يظهر أنّ عدم ذكر التكبيرة في حديث لا تعاد إنّما هو من جهة أنّ الدخول في الصلاة لا يصدق بدونها حتّى يصدق على الاتيان بها الإعادة،فانّها عرفاً وجود ثانٍ للشيء بعد وجوده أوّلاً.
أو فقل:إنّ المستفاد من هذه الروايات هو أنّ الصلاة عمل خاص لا يمكن
الدخول فيه بدون الافتتاح بالتكبيرة،ولذا ورد في بعض الروايات«لا صلاة بغير افتتاح» 1وعليه فلو دخل المصلي بدونها نسياناً أو جهلاً فلايكون مشمولاً للحديث.
وأمّا الركوع والسجود والطهور:فقد دلّت صحيحة الحلبي أو حسنته-بابن هاشم-على أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث:ثلث منها الطهور،وثلث منها الركوع، وثلث منها السجود،الحديث 2فقد حصرت الصحيحة الصلاة بهذه الثلاثة، ولكن لابدّ من رفع اليد عنها من هذه الجهة بما دلّ من الروايات على أنّ التكبيرة أيضاً ركن ومقوّم لها كما عرفت.
بقي هنا شيء: وهو أنّ التسليمة هل هي ركن للصلاة أيضاً أم لا ؟ وجهان بل قولان،فذهب بعضهم 3إلى أ نّها أيضاً ركن واستدلّ على ذلك بعدّةٍ من الروايات 4الدالة على أنّ اختتام الصلاة بالتسليم،فهي دالة على أنّ الصلاة
لا تتحقق بدون التسليم.
وذهب جماعة منهم السيِّد (قدس سره) في العروة إلى أ نّها ليست بركن 1وهذا هو الأقوى،ودليلنا على ذلك هو أ نّها لم تذكر في حديث لا تعاد،فلو ترك المصلي التسليمة في الصلاة نسياناً لم تجب عليه الإعادة في الوقت،فضلاً عن القضاء في خارجه.وكيف كان،فان قلنا بعدم كون التسليمة من الأركان كانت التسليمة أيضاً خارجة عن المسمى.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن امور:
الأوّل: أنّ لفظ الصلاة موضوع للأركان فصاعداً،وهذا على طبق الارتكاز العرفي كما هو الحال في كثير من المركبات الاعتبارية.
الثاني: أنّ اللفظ موضوع للأركان بمراتبها على سبيل البدل لا للجامع بينها، فانّ الجامع غير معقول كما عرفت،ولا لمرتبة خاصة منها،وذلك من جهة أنّ إطلاق اللفظ على جميع مراتبها على نسق واحد،هذا وقد تقدّم أ نّه لا بأس بكون المقوّم للمركب الاعتباري أحد امور على نحو البدل.
الثالث: أنّ الأركان على ما نطقت به روايات الباب عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة-والمراد الأعم من المائية والترابية-كما أنّ المراد من الركوع والسجود أعم ممّا هو وظيفة المختار أو المضطر،ولكن مع هذا كلّه يعتبر في صدق الصلاة الموالاة بل الترتيب أيضاً،وأمّا الزائد عليها فعند الوجود داخل فيها وإلّا فلا.
الرابع: أنّ دخول شيء واحد في مركب مرّة،وخروجه عنه مرّة اخرى ممّا لابأس به في المركبات الاعتبارية،بل هو على طبق الفهم العرفي كما لا يخفى.
الوجه الثاني من وجوه تصوير الجامع:ما قيل من أنّ لفظ الصلاة موضوع بإزاء معظم الأجزاء،ويدور صدقه مداره وجوداً وعدماً،وقد نسب شيخنا العلّامة الأنصاري 1(قدس سره) هذا الوجه إلى المشهور،وكيف ما كان،فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بوجهين:
الأوّل: ما أورده (قدس سره) ثانياً على الوجه الأوّل من أنّ لازم ذلك هو أن يكون استعمال لفظ الصلاة فيما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه مجازاً،وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل،لا من باب إطلاق الكلي على فرده والطبيعي على مصداقه،وهذا ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم.
الثاني: أ نّه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى،فكان شيء واحد داخلاً فيه تارة،وخارجاً عنه اخرى،بل مردداً بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء،وهو كما ترى سيّما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات 2.
توضيحه: هو أ نّه لا ريب في اختلاف الصلاة باختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والاختيار والاضطرار ونحو ذلك،كما أ نّه لاريب في اختلافها في نفسها باختلاف أصنافها من حيث الكم والكيف،وعليه فمعظم الأجزاء يختلف من هاتين الناحيتين،فيلزم دخول شيء واحد فيه مرّة وخروجه عنه مرّة اخرى،بل عند اجتماع تمام الأجزاء لا تعين لما هو الداخل عمّا ليس هو
بداخل،فانّ نسبة كل جزء إلى المركب على حد سواء،بل لا واقع له حينئذ، إذ جعل عدّة خاصة من معظم الأجزاء دون غيرها ترجيح بلا مرجح،فيكون المركب حينئذ من قبيل الفرد المردد الذي لا واقع له.
ولكن بما حققناه 1في الوجه الأوّل من أنّ المسمّى قد اعتبر لا بشرط بالإضافة إلى الزائد،قد تبين الجواب عن الإيراد الأوّل،فانّ معظم الأجزاء الذي اخذ مقوّماً للمركب مأخوذ لا بشرط بالقياس إلى بقية الأجزاء،فهي داخلة في المسمّى عند وجودها وخارجة عنه عند عدمها.
وبهذا يظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضاً،فانّ عند اجتماع تمام الأجزاء كان المسمّى هو تمام الأجزاء،لا خصوص بعضها ليقال إنّه أمر مردد بين هذا وذاك.
وإن شئت فقل:إنّ اللفظ لم يوضع بازاء مفهوم معظم الأجزاء وإلّا لترادف اللفظان وهو باطل قطعاً،بل هو موضوع بازاء واقع ذلك المفهوم ومعنونه،وهو يختلف باختلاف المركب نفسه،مثلاً معظم أجزاء صلاة الصبح بحسب الكم غير معظم أجزاء صلاة العشاء،فلو كان المعظم لصلاة الصبح أربعة أجزاء مثلاً،فلا محالة كان المعظم لصلاة المغرب ستّة أجزاء وهكذا،وعلى هذا فاللفظ موضوع بازاء المعظم على سبيل وضعه للأركان،بمعنى أنّ المقوّم للمركب أحد امور على نحو البدل،فقد يكون المقوّم أربعة أجزاء،وقد يكون ثلاثة أجزاء،وقد يكون خمسة أجزاء وهكذا،وقد تقدّم أ نّه لا مانع من الالتزام بذلك في المركبات الاعتبارية،وكم له من نظير فيها،بل هو على وفق الارتكاز كما عرفت.
وأمّا الزائد على المعظم فعند وجوده يدخل في المسمى وعند عدمه يخرج
عنه،فالموضوع له حينئذ هو مفهوم وسيع جامع لجميع شتاته ومتفرقاته،لا خصوص المعظم بشرط لا،ولا مرتبة خاصة منه،ومن هنا يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد.نظير لفظ الكلمة،فانّه موضوع في لغة العرب لما تركب من حرفين فصاعداً،فالحرفان مقوّمان لصدق عنوان الكلمة في لغة العرب،وأمّا الزائد عليهما من حرف أو حرفين أو أزيد،فعند وجوده داخل في المسمى،وعند عدمه خارج عنه.
ومن جميع ما ذكرناه يستبين:أ نّه لا بأس بهذا الوجه أيضاً مع الإغماض عن الوجه الأوّل،بأن يكون اللفظ موضوعاً للمعظم لا بشرط،هذا مع اعتبار الموالاة والترتيب أيضاً في المسمّى،إذ بدونهما لايصدق على المعظم عنوان الصلاة.
الوجه الثالث: ما قيل من أنّ لفظ الصلاة موضوع للمعنى الذي يدور مداره التسمية عرفاً.
وفيه: أنّ هذا الوجه بظاهره لا يرجع إلى معنى محصّل،وذلك لأنّ الصدق العرفي تابع لوجود المسمّى في الواقع ومقام الثبوت،فلا يعقل أن يكون وجود المسمّى في الواقع ونفس الأمر تابعاً للصدق العرفي.
ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ مرجع هذا الوجه إلى الوجه الثاني،فانّ المراد منه هو أنّ الكاشف عن وجود المسمّى ليس إلّاالفهم العرفي،فانّه طريق وحيد في مقام الإثبات إلى سعة المعنى أو ضيقه في مقام الثبوت،وحيث إنّ لفظ الصلاة يصدق عند العرف على معظم أجزائها ولا يصدق على غير المعظم،يكشف عن أ نّه موضوع بازاء المعظم على الكيفية التي تقدّمت،مثلاً لفظ الماء في لغة العرب موضوع لمعنىً في الواقع،ولكنّ الكاشف في مقام الاثبات عن مقدار سعته أو ضيقه لا يكون إلّاالصدق العرفي،فلو رأينا إطلاق العرف لفظ الماء على ماء الكبريت،نستكشف عن أ نّه موضوع لمعنى وسيع في الواقع.
وعلى الجملة: فالمتبع في إثبات سعة المعنى أو ضيقه إنّما هو فهم العرف، والصدق عندهم دليل على سعة المعنى بالقياس إلى ذلك المورد،كما أنّ عدم الصدق دليل على عدم السعة.
تتلخص نتيجة جميع ما ذكرناه لحدّ الآن في خطوط:
الخط الأوّل:فساد توهم الاشتراك في وضع ألفاظ العبادات كما سبق.
الخط الثاني:فساد توهم كون الوضع فيها عاماً والموضوع له خاصاً.
الخط الثالث:عدم إمكان تصوير جامع ذاتي مقولي على القول بالصحيح.
الخط الرابع:إمكان تصوير جامع عنواني على هذا القول،إلّاأ نّه ليس بموضوع له كما عرفت.
الخط الخامس:جواز تصوير جامع ذاتي بين الأعم من الصحيحة والفاسدة.
فالنتيجة على ضوء هذه الخطوط الخمسة قد اصبحت أنّ ألفاظ العبادات كالصلاة ونحوها،موضوعة للجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة،لا لخصوص الجامع بين الأفراد الصحيحة.
ومن هنا لا مجال للنزاع في مقام الإثبات عن أنّ الألفاظ موضوعة للصحيح أو للأعم،فانّ النزاع في هذا المقام متفرع على إمكان تصوير الجامع على كلا القولين معاً،فإذا لم يمكن تصويره إلّاعلى أحدهما فلا مجال له أصلاً.إذن لا بدّ من الالتزام بالقول بالأعم ولا مناص عنه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ المرتكز في أذهان المتشرعة هو أنّ إطلاق لفظ الصلاة على جميع أفرادها الصحيحة والفاسدة على نسق واحد من دون لحاظ عناية في شيء منها،ضرورة أ نّهم يستعملون هذا اللفظ في الجميع غافلين عن لحاظ قرينة المجاز والعناية في موارد إطلاقه على الفرد الفاسد،فلو كان اللفظ موضوعاً
لخصوص الصحيح فلا محالة كان إطلاقه على الفاسد محتاجاً إلى لحاظ عناية وقرينة،مع أنّ الأمر على خلاف ذلك،وأنّ الاستعمال في الجميع على نسق واحد،فلا فرق بين قولنا:فلان صلّى صلاة صحيحة،أو تلك الصلاة صحيحة، وبين قولنا:فلان صلّى صلاة فاسدة،أو هذه الصلاة فاسدة وهكذا،وحيث إنّ استعمالات المتشرعة تابعة للاستعمالات الشرعية،فتكشف تلك عن عموم المعنى الموضوع له عند الشارع المقدس أيضاً.
ذكروا لها ثمرات:
،والصحيحي يتمسك بقاعدة الاشتغال والاحتياط في تلك الموارد.
ولكن التحقيق أنّ الأمر ليس كذلك،ولا فرق في التمسك بالبراءة أو الاشتغال بين القولين أصلاً.
والوجه في ذلك:هو أ نّا إذا قلنا بالوضع للأعم فالتمسك بالبراءة مبتن على القول بانحلال العلم الإجمالي في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،فانّه إن قلنا بالانحلال وأنّ العلم الاجمالي ينحل إلى علم تفصيلي وشك بدوي،فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن وجوب الأكثر والتقييد الزائد،فانّ مسألتنا هذه من إحدى صغريات كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،وذلك لأنّ تعلق التكليف في المقام بالطبيعي الجامع بين المطلق والمقيد معلوم لنا تفصيلاً-وهو الماهية المهملة العارية عن جميع الخصوصيات-وإنّما شكنا هو في تعلّقه به على
نحو الإطلاق بمعنى عدم تقييده بشيء لا جزءاً ولا شرطاً،أو على نحو التقييد به بأحد النحوين المزبورين،فحينئذ إن قلنا بانحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة والرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد عن المقدار المعلوم كما هو كذلك، فنقول هنا أيضاً بالانحلال والرجوع إلى البراءة عن التقييد الزائد.وأمّا لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي في تلك المسألة فلا بدّ من الاحتياط والرجوع إلى قاعدة الاشتغال،وعلى ذلك فلا ملازمة بين قول الأعمي والرجوع إلى البراءة.
وأمّا على الصحيحي: فإن قلنا بأنّ متعلق التكليف عنوان بسيط،وخارج عن الأجزاء والشرائط،وإنّما هي سبب لوجوده،فلا محالة يكون الشك في جزئية شيء أو شرطيته شكّاً في المحصّل،فلا بدّ من القول بالاشتغال،إلّاأنّ هذا مجرّد فرض غير واقع في الخارج،بل إنّه خلاف مفروض البحث،إذ المفروض أنّ متعلق التكليف هو الجامع بين الأفراد الصحيحة،ونسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة الطبيعي إلى أفراده أو نسبة العنوان إلى معنونه،وعلى كلا التقديرين فلا يكون المأمور به مغايراً في الوجود مع الأجزاء والشرائط ومسبباً عنها.
وعلى الجملة: أنّ كلا من السبب والمسبب موجود في الخارج بوجود مستقل على حياله واستقلاله،كالقتل المسبب عن مقدمات خارجية،أو الطهارة الخبثية المسببة عن الغسل،بل الحدثية المسببة عن الوضوء والغسل والتيمم على قول،فإذا كان المأمور به أمراً بسيطاً مسبباً عن شيء آخر،ومترتباً عليه وجوداً،فلا محالة يرجع الشك في جزئيه شيء أو شرطيته بالإضافة إلى سببه إلى الشك في المحصّل،ولا إشكال في الرجوع معه إلى قاعدة الاشتغال في مورده.
ولكن المقام لا يكون من ذلك الباب،فانّ الجامع الذي فرض وجوده بين الأفراد الصحيحة لا يخلو أمره من أن يكون من الماهيات المتأصلة المركبة،أو
البسيطة،أو من الماهيات الاعتبارية والعناوين الانتزاعية،وعلى كل تقدير لا بدّ من أن يكون منطبقاً على الأجزاء والشرائط الخارجية انطباق الكلي على أفراده،ومعه لا يرجع الشك إلى الشك في المحصّل ليكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال.
أمّا على الأوّل: فلأنّ المفروض أنّ الجامع هو عين الأجزاء والشرائط، فالأجزاء مع شرائطها بأنفسها متعلقة للأمر،ووحدتها ليست وحدة حقيقية، بل وحدة اعتبارية،بداهة أ نّه لاتحصل من ضم ماهية الركوع إلى ماهية السجود ماهية ثالثة غير ماهيتهما،وعليه فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عند الشك في اعتبار شيء زائد على المقدار المعلوم،بناءً على صحّة الانحلال في مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين،لأنّ تعلق التكليف حينئذ بالمقدار المتيقن من الأجزاء وقيودها معلوم،والشك في غيره شك في التكليف،فالمرجع فيه البراءة،وبناءً على عدم الانحلال في تلك المسألة فالمرجع فيه قاعدة الاشتغال.
وأمّا على الثاني: فكذلك،لأنّ الطبيعي عين أفراده خارجاً ومتحد معها عيناً،فالأمر المتعلق به متعلق بالأجزاء مع شرائطها،سواء قلنا بأنّ متعلق الأوامر الطبائع أم قلنا بأ نّه الأفراد،أمّا على الثاني واضح.وأمّا على الأوّل، فلاتحاد الطبيعي معها،غاية الأمر أنّ الخصوصيات الفردية غير دخيلة في ذلك، فعلى كلا القولين يرجع الشك في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً إلى الشك في إطلاق المأمور به وتقييده،لا إلى أمر خارج عن دائرة المأمور به،فبناءً على الانحلال في تلك المسألة كان المرجع فيه البراءة عن التقييد المشكوك فيه.
وأمّا على الثالث: فالأمر أيضاً كذلك،لأنّ الأمر الانتزاعي لا وجود له خارجاً ليتعلق به الأمر،وإنّما الموجود حقيقة هو منشأ انتزاعه،فالأمر في الحقيقة متعلق بمنشأ الانتزاع،وهو في المقام نفس الأجزاء والشرائط،وأخذ
ذلك الأمر الانتزاعي في لسان الدليل متعلقاً للأمر إنّما هو لأجل الاشارة إلى ما هو متعلق الحكم في القضيّة.
فالنتيجة: أنّ الشك في اعتبار جزء أو قيد على جميع التقادير يرجع إلى الشك في تقييد نفس المأمور به بقيد زائد على المقدار المتيقن،فبناءً على ما هو الصحيح من انحلال العلم الاجمالي عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر نرجع هنا إلى البراءة.
وبتعبير آخر:أ نّا قد بيّنا في مبحث النهي عن العبادات وأشرنا فيما تقدّم 1أيضاً أنّ الصحّة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً لا يعقل أخذها في متعلق الأمر لتأخرها عنه،فالمتعلق على كلا القولين نفس الأجزاء مع قيودها الخاصة،غاية الأمر أ نّه على القول بالوضع للصحيح كان المسمّى تمام الأجزاء مع تمام القيود،وعلى القول بالوضع للأعم كان هو الأعم،وعلى هذا كان الشك في اعتبار أمر زائد على المقدار الذي نعلم بتعلق الأمر به من الأجزاء والشرائط مورداً للبراءة،بلا فرق في ذلك بين القول بالصحيح والقول بالأعم.
فتلخّص:أنّ أخذ الصحّة بمعنى التمامية في المسمّى لا يمنع عن جريان البراءة على القول بالانحلال كما هو القوي.
فقد أصبحت النتيجة من جميع ما ذكرناه:أنّ القول بوضع الألفاظ للأعم لا يلزمه جريان البراءة دائماً،كما أنّ القول بوضعها للصحيح لا يلزمه الالتزام بالاشتغال كذلك،بل هما في ذلك سواء،فان جريان البراءة وعدمه مبنيان على الانحلال وعدمه في تلك المسألة،لا على الوضع للصحيح أو الأعم.
وعلى ضوء هذا يستبين فساد ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أ نّه على الصحيحي لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال،كما أ نّه على الأعمي لا مناص من الرجوع إلى البراءة،بتقريب أنّ تصوير الجامع على الصحيحي لا يمكن إلّابتقييد المسمّى بعنوان بسيط خاص،إمّا من ناحية علل الأحكام أو من ناحية معلولاتها،وأنّ هذا العنوان خارج عن المأتي به ومأخوذ في المأمور به،وعليه فالشك في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً لا محالة يوجب الشك في حصول العنوان المزبور،فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في المحصّل، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال دون البراءة.
والوجه في فساده: هو ما سبق من أنّ الجامع على القول بالصحيح على كل تقدير لا بدّ من أن ينطبق على الأجزاء والشرائط انطباق الكلي على فرده، وعليه كان الشك في اعتبار جزء أو قيد في المأمور به من دوران المأمور به نفسه بين الأقل والأكثر،فعلى القول بالانحلال كان المرجع فيه البراءة عن وجوب الأكثر،فنتيجة ذلك هي أنّ المأمور به بتمام أجزائه وشرائطه هو الأقل دون الأكثر،وقد عرفت أنّ القول بالاشتغال مبني على أن يكون المأمور به عنواناً بسيطاً مسبباً عن الأجزاء والشرائط الخارجيتين ومتحصلاً منهما،وهو خلاف المفروض.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أ نّه على الصحيحي لا بدّ من تقييد المسمّى بعنوان بسيط،إمّا من ناحية العلل أو من ناحية المعلولات،فيردّه:أ نّه خلط بين الصحّة الفعلية التي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج، والصحّة بمعنى التمامية،فالحاجة إلى التقييد إنّما تكون فيما إذا كان النزاع بين الصحيحي والأعمي في أخذ الصحّة الفعلية في المسمّى وعدم أخذها فيه،فانّه
على الصحيحي لا بدّ من تقييده بعنوان خاص كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر،أو نحوه ممّا هو مؤثر في حصول الغرض.
ولكن قد تقدّم أ نّه لا يعقل أخذها في المأمور به فضلاً عن أخذها في المسمّى،فلا تكون الصحّة بهذا المعنى مورداً للنزاع،فانّ النزاع كما عرفت مراراً إنّما هو في الصحّة بمعنى التمامية،ومن المعلوم أ نّها ليست شيئاً آخر وراء نفس الأجزاء والشرائط بالأسر،ولا هي موضوع للآثار،ولا مؤثرة في حصول الغرض،وعليه فلا حاجة إلى تقييد المسمّى بعنوان بسيط خارج عنهما.
ومن هنا يظهر أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الاُصولية،والوجه في ذلك هو ما حقّقناه في أوّل الكتاب 1في مقام الفرق بين المسائل الاُصولية ومسائل بقية العلوم،من أنّ كل مسألة اصولية ترتكز على ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الاُولى:أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي الإلهٰي، وبهذه الركيزة امتازت المسائل الاُصولية عن القواعد الفقهية بأجمعها على بيان تقدّم.
الركيزة الثانية:أن يكون وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها،أي بلا ضم كبرى أو صغرى اصولية اخرى إليها،وبهذه الركيزة امتازت عن مسائل سائر العلوم الدخيلة في الاستنباط من النحو والصرف والرجال والمنطق واللغة ونحو ذلك،فان مسائل هذه العلوم وإن كانت دخيلة في الاستنباط،إلّاأ نّها ليست بحيث لو انضمّ إليها صغرياتها أنتجت نتيجة فقهية.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ هذه المسألة ليست من المسائل الاُصولية، بل هي من المسائل اللغوية،فلا تقع في طريق الاستنباط بلا ضم كبرى اصولية
إليها،وهي كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
ويترتب على ذلك:أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة،بل هي ثمرة لمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،وهي من مبادئ تلك المسألة،فالبحث عنها محقق لموضوع البحث عن تلك المسألة،وكذا الثمرة الآتية،فانّها ثمرة لمسألة المطلق والمقيد دون هذه المسألة.
نعم،هي محققة لموضوع التمسك بالإطلاق،فالبحث عن جواز التمسك بالاطلاق وعدم جوازه وإن كان بحثاً عن مسألة اصولية،إلّاأنّ البحث عن ثبوت الاطلاق وعدمه بحث عن المبادئ.
الثمرة الثانية: ما ذكره جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أ نّه يجوز التمسّك بالإطلاق أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً،ولا يجوز التمسك به على القول بالصحيح،بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى الاُصول العملية،بيان ذلك:أنّ التمسك بالإطلاق يتوقف على إثبات مقدّمات:
الاُولى:أن يكون الحكم في القضيّة وارداً على المقسم بين قسمين أو أقسام، بأن يكون له قابلية الانطباق على نوعين أو أنواع.
الثانية:أن يحرز كون المتكلم في مقام البيان ولو بأصل عقلائي،ولم يكن في مقام الإهمال أو الإجمال.
الثالثة:أن يحرز أ نّه لم ينصب قرينة على التعيين.
فإذا تمّت هذه المقدّمات استكشف بها الإطلاق في مقام الثبوت،وأنّ مراده الاستعمالي مطابق لمراده الجدي،وليس لأيّة خصوصية مدخلية فيه،فإذا شكّ
في دخل خصوصية من الخصوصيات فيه يدفع ذلك بالإطلاق في مقام الاثبات، وحيث إنّ هذه المقدمات تامّة على القول بالوضع للأعم،فانّ الحكم حينئذ قد تعلق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة،فإذا احرز أنّ المتكلم في مقام البيان،ولم ينصب قرينة على التقييد،فلا مانع من التمسك بالاطلاق لدفع ما شكّ في اعتباره جزءاً أو قيداً،لأنّه شكّ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ،وفي مثله لا مانع عن التمسك بالإطلاق لاثبات عدم اعتباره.
وعلى الجملة: فعلى القول بالأعم إذا تمّت المقدمتان الأخيرتان يجوز التمسك بالإطلاق لدفع كل ما احتمل دخله في المأمور به جزءاً أو شرطاً،لتمامية المقدمة الاُولى على الفرض،وعليه فما ثبت اعتباره شرعاً بأحد النحوين المزبورين فهو،والزائد عليه حيث إنّه مشكوك فيه ولم يعلم اعتباره فالمرجع فيه الإطلاق، وبه يثبت عدم اعتباره.
وهذا بخلاف القول بالوضع للصحيح،فانّ المقدمة الاُولى على هذا القول مفقودة،إذ الحكم حينئذ لم يرد إلّاعلى الواجد لتمام الأجزاء والشرائط،فلو شكّ في جزئية شيء أو شرطيته،فلا محالة يرجع الشك إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للمشكوك فيه،لاحتمال دخله في المسمّى،ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق.
فقد تحصّل من ذلك: جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم في موارد الشك في الأجزاء والشرائط،وعدم جوازه على القول بالصحيح.
نعم،على القول بالأعم لو شكّ في كون شيء ركناً للصلاة أم لم يكن،فلا يجوز التمسك بالاطلاق،لأنّ الشك فيه يرجع حينئذ إلى الشك في صدق اللفظ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق كما مرّ بيانه.
وقد يورد على هذه الثمرة بوجوه: