فهرست

پرش به محتوا

آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱

جلد

1

فهرست

فهرست

صفحه اصلی کتابخانه محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ صفحه 3

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 201)


الأوّل: أ نّه لا فرق بين القولين في جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه، والوجه في ذلك:هو أنّ مناط الجواز كون المتكلم في مقام البيان،وأ نّه لم ينصب قرينة على التقييد،وعليه فكما أنّ الأعمي يتمسك بالاطلاق فيما إذا احتمل دخل شيء في المأمور به زائداً على القدر المتيقن،فكذلك الصحيحي يتمسك به إذا شكّ في اعتبار أمر زائد على المقدار المعلوم.ومن هنا يتمسك الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) باطلاق صحيحة حماد 1التي وردت في مقام بيان الأجزاء والشرائط،وبيّن الإمام (عليه السلام) فيها جميع أجزاء الصلاة من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود ونحوها،وحيث لم يبيّن فيها الاستعاذة مثلاً،فيتمسك باطلاقها على عدم وجوبها،فلا فرق في ذلك بين القول بالوضع للصحيح والقول بالوضع للأعم.

فتلخّص:أنّ العبرة بكون المتكلم في مقام البيان وعدم إتيانه بقرينة في كلامه،لا بكون الوضع للأعم أو الصحيح كما لا يخفى.

والجواب عنه: قد ظهر ممّا تقدّم وملخّصه:أنّ التمسك بالاطلاق موقوف على إحراز المقدمات الثلاث،أوّلها:إحراز تعلق الحكم بالجامع بحسب المراد الاستعمالي وقابلية انقسامه إلى قسمين أو أقسام.فهذه المقدمة لا بدّ من إحرازها وإلّا فلا يعقل الإطلاق في مقام الثبوت كي يستكشف ذلك بالاطلاق في مقام الإثبات،وحيث إنّه على القول بالصحيح قد تعلق الحكم بحصّة خاصة، وهي خصوص الحصّة الصحيحة،فالمقدمة الاُولى مفقودة،فالإطلاق اللفظي على القول بالصحيح غير معقول.

وأمّا ما استشهد على ذلك بتمسك الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) باطلاق صحيحة حماد المتقدمة فهو خلط بين الإطلاق الحالي والإطلاق اللفظي،فان


 

1) الوسائل 5:/459أبواب أفعال الصلاة ب 1 ح 1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 202)


إطلاق الصحيحة إطلاق مقامي،وهو أجنبي عن الإطلاق اللفظي المتقوّم باحراز صدق المفهوم على المورد المشكوك فيه،والذي لايمكن التمسك به على الصحيحي هو الإطلاق اللفظي،وأمّا الإطلاق المقامي فالتمسك به مشترك فيه بين القول بالصحيح والقول بالأعم،والسر في ذلك:أنّ المعتبر في الاطلاق اللفظي أن يرد الحكم في القضيّة على الطبيعي الجامع القابل للانطباق على حصص عديدة،ولا أقل من حصّتين.

وبعد ذلك تصل النوبة إلى إحراز بقية المقدمات،من كون المتكلم في مقام البيان،وعدم إتيانه بالقرينة على إرادة الخلاف،ولأجل ذلك لا يسع القائل بوضع الألفاظ للصحيح أن يتمسك بالإطلاق،وذلك للشك في صدق المفهوم على الفاقد لما يحتمل دخله في المسمى.وأمّا الإطلاق الأحوالي فلا يعتبر فيه ذلك،بل المعتبر فيه سكوت المتكلم عن البيان حينما يورد الحكم على نفس الأجزاء والشرائط أو الأفراد،مثلاً إذا كان المولى في مقام بيان ما يحتاجه اليوم من اللحم والخبز والاُرز واللبن وغيرها من اللوازم،فأمر عبده بشرائها ولم يذكر الدهن مثلاً،فبما أ نّه كان في مقام البيان ولم يذكر ذلك فيستكشف منه عدم إرادته له وإلّا لبيّنه.

ومن هنا لانحتاج في هذا النحو من الإطلاق إلى وجود لفظ مطلق في القضيّة، بل هو مناقض له كما عرفت آنفاً،والإطلاق في الصحيحة من هذا القبيل،فانّه (سلام اللّٰه عليه) كان في مقام بيان الأجزاء والشرائط،فكلّ ما لم يبيّنه يستكشف عدم دخله في المأمور به.

فالنتيجة: أنّ أحد الإطلاقين أجنبي عن الإطلاق الآخر رأساً،وجواز التمسك بأحدهما لايستلزم جواز التمسك بالآخر،كما أ نّه لا فرق في جواز التمسك بالاطلاق الأحوالي بين القول بالوضع للصحيح،والقول بالوضع للأعم.وأمّا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 203)


الإطلاق اللفظي فلا يجوز التمسك به على القول بالصحيح دون الأعم.فما أورده القائل من الإشكال لا يرجع إلى معنى محصّل.

الثاني: أنّ الأعميّ كالصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو قيد،وذلك لأنّ أدلة العبادات جميعاً من الكتاب والسنّة مجملة ولم يرد شيء منها في مقام البيان،فإذا كان المتكلم فيها في مقام الإهمال أو الإجمال،فلا يجوز التمسك باطلاقها،غاية الأمر أنّ عدم جواز التمسك على هذا القول من جهة واحدة وهي عدم ورود مطلقات العبادات في مقام البيان، بل إنّها جميعاً في مقام التشريع والجعل بلا نظر لها إلى خصوصيتها من الكمّية والكيفية.وعلى القول بالصحيح من ناحيتين:وهما عدم ورود المطلقات في مقام البيان وعدم تعلق الحكم بالجامع والمقسم،فالنتيجة عدم صحّة التمسك بالإطلاق على كلا القولين.

والجواب عنه: مضافاً إلى أ نّه رجم بالغيب،أنّ الأمر ليس كما ذكره القائل، فانّ من الآيات الكريمة ما ورد في الكتاب وهو في مقام البيان،كقوله تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»


1

فالمفهوم من كلمة الصيام عرفاً كف النفس عن الأكل والشرب،وهو معناه اللغوي،فالصيام بهذا المعنى كان ثابتاً في سائر الشرائع والأديان بقرينة قوله تعالى: «وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» 2حيث لم يعتبر فيه سوى الكف عن الأكل والشرب عند تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

نعم،إنّ ذلك يختلف كيفيةً باختلاف الشرائع،ولكن كل ذلك الاختلاف يرجع


 

1) البقرة 2:183.
2) البقرة 2:187.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 204)


إلى الخارج عن ماهية الصيام،بل قد يعتبر فيه كما في شرع الاسلام الكف عن عدّة امور اخر أيضاً كالجماع والارتماس في الماء والكذب على اللّٰه تعالى وعلى رسوله (صلّى اللّٰه عليه وآله) وعلى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وإن لم يكن الكف عنها معتبراً في بقية الشرائع والأديان.وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شيء في هذه الماهية قيداً،وعدم اعتباره كذلك،فلا مانع من أن نرجع إلى إطلاق قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ» وبه يثبت عدم اعتباره،فحال الآية المباركة حال قوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 2وما شاكلهما،فكما أ نّه لا مانع من التمسك باطلاقهما في باب المعاملات عند الشك في اعتبار شيء فيها،فكذلك لا مانع من التمسك باطلاق هذه الآية المباركة في باب الصوم عند الشك في دخل شيء في صحّته شرعاً.

هذا مضافاً إلى ما في السنّة من الروايات المطلقة الواردة في مقام البيان منها قوله (عليه السلام) في التشهد«يتشهد» 3فان مقتضى إطلاقه عدم اعتبار أمر زائد على نفس الشهادتين،فلو شكّ في اعتبار التوالي بينهما فيدفع بالإطلاق، وكذا غيره من نصوص الباب فلاحظ.

هذا كلّه على تقدير تسليم أن يكون الضابط في كون المسألة اصولية ترتب ثمرة فعلية عليها،إلّاأنّ الأمر ليس كذلك،فانّ الضابط للمسألة الاُصولية إمكان وقوعها في طريق الاستنباط لا فعليته.

وملخص ما ذكرناه في الجواب عن هذا الإيراد أمران:

الأوّل:أنّ المطلق الوارد في مقام البيان من الكتاب والسنّة موجود،وليس


 

1) البقرة 2:275.
2) النساء 4:29.
3) الوسائل 6:/404أبواب التشهد ب 8 ح 1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 205)


الأمر كما ذكره القائل.

الثاني:لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ المتكلم لم يكن في مقام البيان في شيء من مطلقات العبادات،إلّاأنّ إمكان ترتب هذه الثمرة يكفينا لكون المسألة اصولية،لما عرفت من أنّ الميزان فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي كلّي لا فعلية ذلك كما تقدّم.

نعم،الذي يرد هنا ما ذكرناه سابقاً من أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة ولا تترتب عليها بلا واسطة،بل هي من ثمرات كبرى مسألة المطلق والمقيد،وهي من صغريات تلك الكبرى ومن مبادئها،من جهة أنّ البحث فيها في الحقيقة عن ثبوت الإطلاق وعدم ثبوته،والبحث عن جواز التمسك به وعدم جوازه بحث عن المسألة الاُصولية،دونه.

الثالث: أنّ الإطلاق والتقييد في العبادات إنّما يلاحظ بالإضافة إلى المأمور به ومتعلق الأمر،لا بالقياس إلى المسمّى بما هو،ضرورة أنّ الإطلاق أو التقييد في كلام الشارع أو غيره إنّما يكون بالقياس إلى مراده،وأ نّه مطلق أو مقيد، لا إلى ما هو أجنبي عنه،وعلى ذلك فلا فرق بين القولين،فكما أنّ الصحيحي لا يمكنه التمسك بالإطلاق،فكذلك الأعمي.

أمّا الصحيحي:فلما عرفت من عدم إحرازه الصدق على الفاقد لما شكّ في اعتباره جزءاً أو شرطاً لاحتمال دخله في المسمّى.

وأمّا الأعمي:فلأجل أ نّه يعلم بثبوت تقييد المسمّى بالصحّة،وأ نّها مأخوذة في المأمور به ومتعلق الأمر،فانّ المأمور به حصّة خاصة من المسمّى وهي الحصّة الصحيحة،ضرورة أنّ الشارع لا يأمر بالحصّة الفاسدة،ولا بما هو الجامع بينها وبين الصحيحة،وعلى ذلك فلا يمكن التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئيه شيء أو شرطيته،للشك حينئذ في صدق المأمور به على الفاقد للشيء المشكوك فيه.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 206)


وعلى الجملة: فلا فرق بين أن تكون الصحّة مأخوذة في المسمّى،وأن تكون مأخوذة في المأمور به،فعلى كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالاطلاق،غاية الأمر أنّ الشك في الصدق على الصحيحي من جهة أخذ الصحّة في المسمّى، وعلى الأعمي من جهة العلم بتقييد المأمور به بالصحّة لا محالة.

فالنتيجة:هي عدم جواز الأخذ بالإطلاق على كلا القولين.إذن لا ثمرة في البين.

والجواب عنه: يظهر ممّا بيّناه سابقاً،فانّ الصحّة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً في موارد الامتثال والإجزاء،غير مأخوذة في المأمور به قطعاً،بل لا يعقل ذلك كما سبق،وإنّما النزاع في أخذ الصحّة بمعنى التمامية أعني به تمامية الشيء من حيث الأجزاء والقيود في المسمّى، فالقائل بالصحيح يدعي وضع لفظ الصلاة مثلاً للصلاة التامة من حيث الأجزاء والشرائط،والقائل بالأعم يدعي وضع اللفظ للأعم،وعلى ذلك فلو شككنا في اعتبار شيء جزءاً أو قيداً في المأمور به كالسورة مثلاً،فعلى القول بالوضع للصحيح كان صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد لها غير معلوم،لاحتمال دخلها فيه،وإمكان أن يكون المجموع هو المسمّى بلفظ الصلاة ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق.

وعلى القول بالوضع للأعم،كان صدق اللفظ على الفاقد معلوماً،وإنّما الشك في اعتبار أمر زائد عليه،وفي مثله لا مانع من التمسك بالاطلاق لنفي اعتبار الشيء المشكوك فيه،وبه نثبت أنّ المأمور به هو طبيعي الصلاة الجامع بين الفاقدة والواجدة للسورة،ومن انطباق ذلك الطبيعي على المأتي به بلا سورة ننتزع الصحّة،فالصحّة بمعنى التمامية تثبت بنفس التمسك بالإطلاق بضميمة ما علم من الأجزاء والشرائط تفصيلاً،والصحّة المنتزعة غير مأخوذة في المأمور به

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 207)


فضلاً عن المسمى.

وعلى الجملة: فالمأمور به على كلا القولين وإن كان هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،إلّاأنّ الاختلاف بينهما في نقطة اخرى،وهي أنّ صدق اللفظ على الفاقد لما يشك في اعتباره معلوم على قول الأعمي،وإنّما الشك في اعتبار أمر زائد عليه.وأما على الصحيحي فالصدق غير معلوم.وعلى أساس تلك النقطة يجوز التمسك بالاطلاق على القول بالأعم دون القول بالصحيح.

فقد أصبحت النتيجة أنّ هذه الشبهة مبتنية على أخذ الصحّة الفعلية في المأمور به،ولكن قد تقدّم فساده.

ومن هنا قال شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1إنّ هذه الشبهة ليست بذات أهمّية كما اهتمّ بها شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) وأطال الكلام فيها واعتنى بالجواب عنها فوق ما تستحق،والصحيح ما أفاده (قدس سره).

وربّما قيل: بأنّ ثمرة النزاع تظهر في النذر،وذلك كما لو نذر أن يعطي ديناراً للمصلي ركعتين،فبناءً على القول بالأعم يجزي الاعطاء للمصلي ركعتين ولو كانت صلاته فاسدة،وعلى القول بالصحيح لايجزي ذلك،بل يجب عليه الاعطاء للمصلي صلاة صحيحة،ولا تبرأ ذمّته إلّابذلك.

لا يخفى أنّ أمثال هذه الثمرة غير قابلة للذكر والعنوان في المباحث الاُصولية، لأ نّها ليست ثمرة للمسألة الاُصولية،فانّ ثمرتها استنباط الحكم الكلي الفرعي، وأمّا تطبيقه على موارده ومصاديقه فليس ثمرة للبحث الاُصولي،بل لا تصلح هذه الثمرة ثمرة لأيّة مسألة علمية ولو كانت المسألة من المبادئ.


 

1) أجود التقريرات 1:70.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 208)


هذا مضافاً إلى أنّ وجوب الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر في الكيفية والكمّية، وأجنبي عن الوضع للصحيح أو الأعم،فلو قصد الناذر من كلمة المصلي مَن أتى بالصلاة الصحيحة لم تبرأ ذمّته بالاعطاء لمن يصلي فاسدة ولو قلنا بوضع الألفاظ للأعم،ولو قصد منها الآتي بالصلاة ولو كانت فاسدة برأت ذمّته بذلك وإن قلنا بوضع الألفاظ للصحيح.

على أنّ الصحّة المتنازع دخلها في المسمّى غير الصحّة المعتبرة في مرحلة الامتثال،فيمكن أن يكون المأتي به صحيحاً من جهة وجدانه تمام الأجزاء والشرائط،وفاسداً من الجهات الاُخر،وعليه تحصل براءة الذمّة بالاعطاء لمن يصلي فاسدة أيضاً.

ثمّ إنّا قد ذكرنا في الدورة السابقة ثمرة لهذه المسألة غير ما ذكره القوم،وهي أنّ الحكم الوارد على عنوان الصلاة ومفهومها يختلف باختلاف القولين،مثلاً قد ورد النهي عن صلاة الرجل وبحذائه امرأة تصلي،فعلى القول بالصحيح لو علمنا بفساد صلاة المرأة لا تكون صلاة الرجل منهياً عنها لعدم صدق الصلاة على ما أتت المرأة به،فلا يصدق حينئذ أ نّه صلّى وبحذائه امرأة تصلي،وأمّا على القول بالأعم كانت منهياً عنها،هذا.

ولكن قد تبيّن ممّا تقدّم أنّ هذه الثمرة أيضاً ليست بثمرة لبحث اصولي،بل لا تترتب على النزاع بين القولين،فانّك عرفت أنّ القول بالصحيح لا يلازم الصحّة في مقام الامتثال،فانّ الصحّة هناك غير الصحّة المأخوذة في المسمّى على هذا القول،كما مرّ.

فقد استبان من مجموع ما ذكرناه تحت عنوان الثمرة لحدّ الآن امور:

الأوّل: أنّ البحث عن هذه المسألة ليس بحثاً اصولياً،بل بحث عن المبادئ،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 209)


وذكرها في هذا العلم لأجل أنّ لها فائدة جلية،ومناسبة شديدة مع بعض المسائل الاُصولية.

الثاني: أنّ ما ذكروه من الثمرات لها وعمدتها الثمرة الاُولى والثانية ليس بثمرة للبحث عن هذه المسألة كما عرفت.

الثالث: أنّ جواز الرجوع إلى البراءة أو عدم جوازه،غير مبني على القول بالوضع للصحيح أو الأعم،بل مبني على انحلال العلم الإجمالي وعدمه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

الرابع: أنّ القول بالوضع للأعم يحقق موضوع جواز التمسك بالاطلاق أو العموم،كما أنّ القول بالوضع للصحيح يحقق موضوع عدم جوازه.هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني في المعاملات

ويقع البحث عنه في مقامين:

الأوّل: فيما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك باطلاقات المعاملات من العقود والايقاعات على كلا القولين،ولا يختص الجواز باختيار الوضع للأعم، ومن هنا تنتفي الثمرة المتقدمة في العبادات هنا.

الثاني: فيما ذكره جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أنّ النزاع في المعاملات إنّما يجري فيما إذا كانت الألفاظ أسامي للأسباب دون المسببات،فانّ المسببات امور بسيطة غير قابلة لأن تتصف بالصحة والفساد،


 

1) .كفاية الاصول:32.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 210)


بل هي تتصف بالوجود عند وجود أسبابها،وبالعدم عند عدمها.

ولتحقيق الكلام في المقامين نقول:

[المقام الأوّل:التمسك باطلاق المعاملات على القولين]

أمّا المقام الأوّل: فالأمر كما ذهب إليه المشهور من جواز التمسك بالاطلاقات حتّى على القول بالصحيح،والوجه في ذلك:هو أنّ المعاملات امور عرفية عقلائية وليست من الماهيات المخترعة عند الشارع المقدس،وإنّما هي ماهيات قد اخترعها العقلاء قبل هذه الشريعة لتمشية نظام الحياة،ثمّ لمّا جاء نبيّنا الأعظم (صلّى اللّٰه عليه وآله) لم يخالفهم في هذه الطريقة المستقرّة عندهم،ولم يجعل (صلّى اللّٰه عليه وآله) طرقاً خاصة لا بدّ للناس أن يمشي على طبق تلك الطرق، بل ولم يتصرف فيها تصرفاً أساسياً،بل أمضاها على ما كانت عندهم،وتكلم بلسانهم،فهو (صلّى اللّٰه عليه وآله) كأحدهم من هذه الجهة.

نعم،قد تصرّف (صلّى اللّٰه عليه وآله) فيها في بعض الموارد،فنهى عن بعض المعاملات كالمعاملة الربوية وما شاكلها،وزاد في بعضها قيداً أو جزءاً لم يكن معتبراً عند العقلاء،كاعتبار البلوغ في المتعاقدين،واعتبار الصيغة في بعض الموارد.

وعلى ذلك الأصل نحمل ما ورد في الشرع من الآيات والروايات كقوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 1، «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 2، «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 3،وكقوله (صلّى اللّٰه عليه وآله):«النكاح سنّتي» 4،«والصلح جائز» 5ونحو ذلك،على المفاهيم التي قد استقرّت عندهم،وجرى ديدنهم عليها،فانّه (صلّى اللّٰه عليه وآله)


 

1) المائدة 5:1.
2) البقرة 2:275.
3) النساء 4:29.
4) المستدرك 14:/153أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18.
5) الوسائل 18:/443أبواب الصلح ب 3 ح 1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 211)


لم يتصرّف فيها لا لفظاً ولا معنى،وتكلّم بما تكلّموا به من الألفاظ واللّغات.

إذن تكون تلك الأدلة مسوقة لامضاء المعاملات العرفية العقلائية،وحيث إنّ المعاملات عندهم قسمان:فعلي وقولي،إلّافي بعض الموارد،فتلك الأدلة تدل على إمضاء كلا القسمين إلّافي بعض الموارد الخاصة التي اعتبر الشارع فيها اللفظ،أو اللفظ الخاص كما في الطلاق والنكاح وما يشبههما،وعليه فان دلّ دليل من قبل الشارع على اعتبار شيء جزءاً أو قيداً فنأخذ به،وإن شككنا فيه فنتمسك باطلاقات تلك الأدلة،ونثبت بها عدم اعتباره.

ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يورد على الشهيد (قدس سره) 1حيث قال:

إنّ الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود حقيقة في الصحيح،ومجاز في الفاسد،إلّاالحج لوجوب المضي فيه،مع أ نّه (قدس سره) كغيره يتمسك باطلاقات المعاملات،والحال أنّ الصحيحي لايمكنه التمسك بها لإجمال الخطاب.

ووجه الفساد هو ما عرفت من أ نّه لا مانع من التمسك باطلاقات المعاملات على القول بالصحيح،كما عرفت.

وعلى الجملة:فالمعاملات المأخوذة في موضوع أدلة الامضاء كالبيع ونحوه، معاملات عرفية عقلائية ولم يتصرف الشارع فيها أيّ تصرف لا من حيث اللفظ،ولا من حيث المعنى،بل أمضاها بما لها من المفاهيم التي قد استقرّ عليها الفهم العرفي،وتكلّم بالألفاظ التي كانت متداولة بينهم في محاوراتهم قبل الشريعة الاسلامية،فحينئذ إن شكّ في اعتبار أمر زائد على ما يفهمه العرف والعقلاء فنتمسك باطلاق الأدلة وننفي بذلك اعتباره،كما أ نّه لم يكن معتبراً عند العرف،إذ لو كان معتبراً للزم على الشارع المقدّس بيانه،وحيث إنّه (صلّى اللّٰه عليه وآله) كان في مقام البيان ولم يبيّن،فعلم عدم اعتباره.


 

1) القواعد والفوائد 1:158.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 212)


ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات،فانّ العبادات حيث إنّها ماهيّات مخترعة عند الشارع بجميع أجزائها وشرائطها،فلو كانت موضوعة للصحيحة لم يمكننا التمسك باطلاقاتها عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته لاحتمال دخله في المسمّى كما سبق.وهذا بخلاف المعاملات فانّها ماهيات مخترعة عند العرف فلو شككنا في اعتبار شيء فيها شرعاً،فيكون الشك في أمر زائد على ما كان معتبراً عندهم،وفي مثله لا مانع من التمسك بالإطلاق ولو على القول بكونها موضوعة للصحيحة.

نعم،لو شككنا في اعتبار شيء فيها عرفاً كاعتبار المالية مثلاً أو نحوها،فلا يمكننا التمسك بالإطلاق،لعدم إحراز صدق البيع على فاقد المالية أو نحوها، هذا بناءً على القول بالصحيح.وأمّا بناءً على الأعم فلا مانع من التمسك بالإطلاق حتّى إذا كان الشك في اعتبار شيء فيها عرفاً،إلّافيما إذا كان الشك في دخله في المسمى.

وصفوة القول: أنّ حال المعاملات عند العرف حال العبادات عند الشارع المقدس،فكما أنّ ثمرة جواز الأخذ بالإطلاق وعدم جوازه تظهر بين القولين في العبادات،فكذلك تظهر بينهما في المعاملات،وإنّما تنتفي الثمرة بين القولين فيها – أي المعاملات-لو شككنا في اعتبار جزء أو قيد فيها شرعاً لا عرفاً،فانّه يجوز حينئذ التمسك بالاطلاق مطلقاً حتّى على القول بالوضع للصحيح،كما مرّ.

[التفصيل بين وضع أسامي المعاملات للأسباب و بين وضعها للمسببات]

وربّما يورد: بأنّ حديث التمسك بالاطلاق في المعاملات إنّما يتم فيما لو كانت المعاملات أسامي للأسباب دون المسببات،فانّه حينئذ مجال للتمسك باطلاق قوله تعالى «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 2ونحوهما،لاثبات


 

1) البقرة 2:275.
2) النساء 4:29.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 213)


إمضاء كل سبب عرفي إلّاما نهى عنه الشارع،وأمّا لو كانت المعاملات أسامي للمسببات فالامضاء الشرعي المتوجه إليها لا يدل على إمضاء أسبابها،لعدم الملازمة بين إمضاء المسبب وهو المبادلة في البيع وما شاكلها،وإمضاء السبب وهو المعاطاة أو الصيغة الفارسية مثلاً،ومن الواضح أنّ أدلة الامضاء جميعاً من الآيات والروايات متجهة إلى إمضاء المسببات،ولا تنظر إلى إمضاء الأسباب أصلاً،ضرورة أنّ الحلية في قوله تعالى «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» ثابتة لنفس المبادلة والملكية في مقابل تحريمها،ولا معنى لحلية نفس الصيغة أو حرمتها، ووجوب الوفاء في قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 1ثابت للملكية والمبادلة، فانّ الوفاء على ما ذكرناه بمعنى الانهاء والاتمام،ومن المعلوم أ نّه لا يتعلق بنفس العقد فانّه آني الحصول فلا بقاء له،بل لا بدّ وأن يتعلق بما له قابلية البقاء والدوام،وهو ليس في المقام إلّانفس المسبب،والنكاح في قوله (صلّى اللّٰه عليه وآله):«النكاح سنّتي» 2نفس علاقة الزواج بين المرء والمرأة،لا نفس الصيغة،وكذا الصلح في قوله (صلّى اللّٰه عليه وآله):«الصلح جائز» 3ونحو ذلك،وعليه فلو شككنا في حصول مسبب من سبب خاص كالمعاطاة مثلاً، فمقتضى الأصل عدم حصوله والاقتصار على الأخذ بالقدر المتيقن،إلّافيما إذا كان له سبب واحد،فان إمضاء مسببه يستلزم إمضاءه لا محالة،وإلّا لكان


 

1) المائدة 5:1.
2) المستدرك 14:/153أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18.
3) الوسائل 18:/443أبواب الصلح ب 3 ح 1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 214)


إمضاؤه بدونه لغواً محضاً،وكذا فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقن،فان نسبة المسبب حينئذ إلى الجميع على حد سواء،فلا يمكن الحكم بامضاء بعض دون بعض،وفي غير هاتين الصورتين لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن،وفي الزائد عليه نرجع إلى أصالة العدم.

[جواب المحقق النائيني عن ذلك]

وقد أجاب عنه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بأنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى مسبباتها،ليكونا موجودين خارجيين يترتب أحدهما على الآخر ترتباً قهرياً،ويكون تعلق الارادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب من جهة أنّ اختيارية المسبب باختيارية السبب،كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية،بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها،والارادة تكون متعلقة بنفس المعاملة ابتداءً،كما هو الحال في سائر الانشاءات،فان قولنا:

بعت أو صلّ ليس بنفسه موجداً للملكية أو الطلب في الخارج،نظير الالقاء الموجد للاحراق،بل الموجد في الواقع هو الارادة المتعلقة بايجاده انشاءً.

فتحصّل:أ نّه إذا لم تكن الصيغ من قبيل الأسباب،والمعاملات من قبيل المسببات،فلم يكن هناك موجودان خارجيان مترتبان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاءً للآخر،بل الموجود واحد،غاية ما في الباب أ نّه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة،فالبيع المنشأ بالمعاطاة قسم،وبغيرها قسم آخر، وباللفظ العربي قسم،وبغير العربي قسم آخر وهكذا،فإذا كان دليل إمضاء البيع مثلاً في مقام البيان ولم يقيّده بنوع دون نوع،فيستكشف منه عمومه لجميع الأقسام والأنواع،كما في بقية المطلقات حرفاً بحرف،هذا ما أجاب به (قدس سره) عن الاشكال.

ولكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده (قدس سره) وذلك لعدم الفرق في محل الكلام بين أن يعبّر عن صيغ العقود بالأسباب أو يعبّر عنها بالآلات،فان أدلة الامضاء إذا لم تكن ناظرة إلى إمضاء تلك الصيغ فلا يفرق بين كونها أسباباً


 

1) أجود التقريرات 1:73.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 215)


أو آلة،ولا أثر للاختلاف في مجرد التعبير.

ومن الغريب أ نّه (قدس سره) قد استدلّ على شمول أدلة الامضاء لصيغ العقود بأنّ الآلة وذا الآلة ليسا كالسبب والمسبب يمتاز أحدهما من الآخر في الوجود،بل هما موجودان بوجود واحد،فامضاء ذي الآلة يلازم إمضاء الآلة لا محالة وجه الغرابة:أ نّه لا ريب في تعدد وجود الصيغ ووجود ما يعبّر عنه بالمسببات في باب المعاملات،فانّ المسببات هي الاُمور الاعتبارية النفسانية التي لا وجود لها إلّافي عالم الاعتبار،والأسباب عبارة عن الأفعال والألفاظ، وهما من الموجودات الحقيقية الخارجية،سواء عبّر عنها بالأسباب أو بالآلات، فكما أنّ إمضاء المسبب لا يلازم إمضاء السبب فكذلك إمضاء ذي الآلة لا يلازم إمضاء الآلة،لعدم تفاوت بينهما إلّافي التعبير.

وعليه فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن على كل تقدير،فلو شكّ في حصول مسبب كالملكية،أو نحوها من سبب خاص كالمعاطاة مثلاً أو بغير العربي أو نحو ذلك،فمقتضى الأصل عدم حصوله إلّاإذا كان له سبب واحد، فان إمضاء المسبب حينئذ يلازم إمضاء سببه لا محالة،وإلّا لكان إمضاؤه لغواً.

والصحيح في الجواب عنه: هو أ نّا لو سلّمنا أنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى مسبباتها،أو نسبة الآلة إلى ذيها،وأغمضنا النظر عمّا سلكناه في باب المعاملات من أ نّها أسام للمركب من المبرز والمبرز خارجاً، فلا سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذا آلة كما سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه تعالى،فمع ذلك لا يتمّ الاشكال المزبور،فانّه إنّما يتم فيما إذا كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة،فحينئذ يقال إنّ إمضاءه لا يلازم إمضاءها جميعاً،فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن لو كان،وفي الزائد نرجع إلى أصالة عدم حصوله.

نعم،لو فرضنا أ نّه لم يكن بينها قدر متيقن،بل كانت نسبة الجميع إليه على

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 216)


حد سواء،أمكننا أن نقول بأنّ إمضاء المسبب إمضاء لجميع أسبابه،فانّ الحكم بامضاء بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح،والحكم بعدم الإمضاء رأساً مع إمضاء المسبب على الفرض غير معقول،ولكنّه فرض نادر جدّاً،بل لم يتحقق في الخارج،وأمّا إذا كانت المسببات كالأسباب متعددة كما هو كذلك فلا يتم الإشكال بيان ذلك:

أنّ المراد بالمسبب إمّا أن يكون هو الاعتبار النفساني كما هو مسلكنا،أو يكون هو الوجود الانشائي المتحصّل من الصيغة أو غيرها كما هو مسلكهم في باب الانشاء،حيث إنّهم فسّروا الانشاء بايجاد المعنى باللفظ،ومن هنا قالوا إنّ صيغ العقود أسباب للمعاملات من جهة أ نّها لا توجد إلّابها،فالبيع لا يوجد إلّا بعد قوله:بعت،وكذا غيره،أو أنّ المراد بالمسبب هو الإمضاء العقلائي فانّه مسبب وفعل البائع مثلاً سبب،فإذا صدر من البائع بيع يترتب عليه إمضاء العقلاء ترتب المسبب على السبب.

وأمّا الإمضاء الشرعي فلا يعقل أن يكون مسبباً،بداهة أنّ المسبب هو ما يتعلق به الإمضاء من قبل الشارع المقدس فلا يعقل أن يكون هو نفسه،وإلّا لزم تعلق الإمضاء بنفسه في مثل قوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 2وقوله (صلّى اللّٰه عليه وآله):«النكاح سنّتي» 3ونحو ذلك،فانّ المعنى حينئذ هو أنّ اللّٰه أحلّ البيع الذي أحلّه،وأوجب الوفاء بالعقد الذي أوجب الوفاء به،وأنّ النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله) سنّ النكاح الذي سنّه…وهكذا.

وإن كان ربّما يظهر من كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في مبحث


 

1) البقرة 2:275.
2) المائدة 5:1.
3) المستدرك 14:/153أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 217)


النهي عن المعاملات حيث قال-بعد ما حكى عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة-:والتحقيق أ نّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب،لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلّافيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة 1.

وكيف كان،فاحتمال أن يكون المسبب هو الإمضاء الشرعي فاسد قطعاً.

وعلى جميع التقادير المذكورة لا يتم إشكال عدم التلازم بين إمضاء المسبب وإمضاء سببه.

أمّا بناءً على أن يكون المسبب عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس فلا محالة يتعدد المسبب بتعدد مبرزه خارجاً،مثلاً لو اعتبر زيد ملكية داره لشخص فأبرزها باللغة العربية،واعتبر ملكية بستانه لآخر فأبرزها باللغة الفارسية، واعتبر ملكية فرسه لثالث فأبرزها بالمعاطاة،واعتبر ملكية كتابه لرابع فأبرزها بالكتابة أو الاشارة،فهنا اعتبارات متعددة خارجاً،وكل واحد منها يباين الآخر لا محالة،وإن كان الجميع صادراً من شخص واحد فضلاً عمّا إذا صدر عن أشخاص متعددة،كما إذا باع زيد فرسه بالصيغة العربية،وباع عمرو داره بالصيغة الفارسية،وباع ثالث كتابه بالمعاطاة…وهكذا،حيث لا شبهة في أنّ الاعتبار القائم بزيد المبرز في الخارج بالصيغة العربية يباين كلاً من الآخرين، وكذا كل واحد منها بالاضافة إلى الآخرين.

وعلى ذلك فإذا فرضنا أنّ الشارع أمضى الاعتبار المبرز في الخارج باللغة الفارسية أو بالمعاطاة،فلا محالة أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية التي يعبّر عنها بالسبب،وإلّا لكان إمضاؤه بدون إمضائها لغواً محضاً،بداهة أ نّه لا معنى لأن يمضي الشارع الملكية المبرزة بالمعاطاة ولا يمضي نفس المعاطاة،ويمضي


 

1) كفاية الاُصول:189.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 218)


الملكية المظهرة بالعقد الفارسي ولا يمضي نفس هذا العقد…وهكذا،فان معنى عدم إمضاء الشارع هذا السبب عدم حصول الملكية به خارجاً،وهذا مناقض لحصولها به وإمضاء الشارع إيّاها.

وأمّا بناءً على أن يكون المسبب عبارة عن الوجود الإنشائي الحاصل بالتلفظ بصيغ العقود كصيغة بعت ونحوها فهو أوضح من الأوّل،بداهة أ نّه متى ما حصل التلفظ بصيغة بعت أو نحوها يتحقق المسبب خارجاً،فلو قال زيد مثلاً:

بعت داري،ثمّ قال:بعت بستاني،ثمّ قال:بعت فرسي…وهكذا،يتحقق بكل واحد من هذه الصيغ والأسباب وجود إنشائي الذي يعبّر عنه بالمسبب على مسلك القوم،فكما أنّ لكل صيغة وجوداً،فكذلك لكل منشأ وجوداً إنشائياً بوجود سببه،فلا يعقل انفكاك المنشأ عن الإنشاء والسبب،ولا سيّما فيما إذا كانت الأسباب مختلفة الحقائق كالعربية والعجمية وغيرهما.

وعلى الجملة: فالتلفظ بالصيغة يوجب تحصل وجود إنشائي للبيع على مسلكهم فلا يتصور انفكاكه عنه.وعليه فامضاء الوجود الإنشائي والتنزيلي إمضاء لسببه،فلا يعقل تعلّق الامضاء بأحدهما دون الآخر كما تقدّم.

وأمّا لو كان المراد من المسبب إمضاء العقلاء فالأمر فيه أوضح من الأوّلين، ضرورة أنّ العقلاء يمضون كل بيع صادر من البائع إذا كان واجداً للشرائط، بأن يكون صادراً من أهله ووقع في محلّه،مثلاً لبيع زيد كتابه إمضاء عقلائي، ولبيع زيد داره إمضاء عقلائي آخر،ولبيع زيد فرسه إمضاء عقلائي ثالث…

وهكذا،وليس إمضاؤهم متعلقاً بطبيعي البيع،فانّه لا أثر له،والآثار إنّما تترتب على آحاد البيع الصادرة عن آحاد الناس،ومن الواضح أنّ العقلاء إنّما يمضون تلك الآحاد المترتبة عليها الآثار،وليس إمضاء أحدها عين إمضاء الآخر،بل لكل واحد منها إمضاء على حياله واستقلاله،كما هو مقتضى كون البيع سبباً لامضاء عقلائي.وكيف كان،فلا ريب في أنّ لكل بيع من البيوع الموجودة في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 219)


الخارج إمضاء عقلائياً يباين إمضاء عقلائياً آخر…وهكذا،سواء كانت البيوع صادرة من شخص واحد،أو من أشخاص متعددة.

وعليه فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق قد دلّ باطلاقه على نفوذ كل إمضاء عقلائي،فلا محالة دلّ بالالتزام على إمضاء كل سبب يتسبب إليه،وإلّا فلا يعقل إمضاؤه بدون امضائه،فانّه نقض للغرض كما لا يخفى.

فالنتيجة من جميع ذلك:أنّ الإيراد المزبور إنّما يتم فيما لو كان هناك مسبب واحد وله أسباب عديدة،ولكن قد عرفت أ نّه لا أصل له على جميع المسالك في تفسير المسبب،ولايعقل أن يكون لمسبب واحد أسباب متعددة على الجميع بل لكل سبب مسبب،فامضاؤه بعينه إمضاء لسببه.

هذا كلّه بناءً على مسلك القوم في باب المعاملات.

التحقيق: أنّ كون صيغ العقود أسباباً أو آلة كل ذلك لا يرجع إلى معنى صحيح،وذلك لما حققناه سابقاً من أنّ ما هو المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ فاسد،فانّهم إن أرادوا به الإيجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول،بداهة أنّ اللفظ لا يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده وأسبابه.وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري،فيرده:أ نّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر،سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.فاللفظ لا يكون سبباً لايجاده ولا آلة له،فلا يكون محتاجاً إليه أصلاً،كيف فانّ الأمر الاعتباري لا واقع له ما عدا اعتبار المعتبر في افق النفس،وأمّا الخارج عنه من اللفظ والكتابة والإشارة والفعل، فأجنبي عنه بالكلية.

نعم،إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج يحتاج إلى مبرز،وذلك المبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب،وقد يكون اشارة،وقد يكون كتابة،وقد يكون فعلاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 220)


ومن هنا ذكرنا في بحث المعاملات 1أ نّها أسام للمركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه باللفظ أو نحوه في الخارج،فانّ الآثار المترقبة منها لا تترتب إلّا على المركب من الأمرين،فالبيع والإيجار والصلح والنكاح وما شاكلها لا يصدق على مجرد الاعتبار النفساني بدون إبرازه في الخارج بمبرز ما،فلو اعتبر أحد ملكية داره لزيد مثلاً،أو ملكية فرسه لعمرو بدون أن يبرزها في الخارج باللفظ أو ما شاكله،فلا يصدق أ نّه باع داره من زيد أو فرسه من عمرو،كما أ نّه لا يصدق هذه العناوين على مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه من دون اعتبار نفساني كما لو كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات،أو كان التكلم بها بداع آخر غير إبراز ما في افق النفس من الأمر الاعتباري،فلو قال أحد بعت أو زوجت أو نحو ذلك من دون اعتبار نفساني،فلا يصدق عليه عنوان البيع أو عنوان التزويج والنكاح…وهكذا.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح أ نّه لا سبب ولا مسبب في باب المعاملات، ولا آلة ولا ذا آلة،ليشكل أنّ إمضاء أحدهما لا يلازم إمضاء الآخر،بل المعاملات بعناوينها الخاصة من البيع والهبة وما شاكلها أسامٍ للمركب من الأمرين،فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص كما عرفت،والمفروض أ نّها بهذه العناوين مأخوذة في أدلة الامضاء كقوله تعالى «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 2وقوله (صلّى اللّٰه عليه وآله):«النكاح سنّتي» 3و«الصلح جائز» 4إلى غير ذلك،فالأدلة ناظرة إلى إمضائها بتلك العناوين،وعليه فمتى صدق هذه العناوين


 

1) مصباح الفقاهة 1:30،وفي المجلّد 2:52.
2) البقرة 2:275.
3) المستدرك 14:/153أبواب مقدّمات النكاح ب 1 ح 18.
4) الوسائل 18:/443أبواب الصلح ب 3 ح 1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 221)


عرفاً وشكّ في اعتبار أمر زائد عليه شرعاً جزءاً أو شرطاً فلا مانع من التمسك باطلاقها،وبه يثبت عدم اعتباره.كما أ نّه يتّضح ممّا ذكرناه أنّ ما يسمى بالمسبب عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة من دون احتياج إلى سبب ولا آلة.

ومن مجموع ما ذكرناه يستبين أ نّه لا فرق في جواز التمسك باطلاق أدلة الإمضاء بين أن تكون المعاملات أسامي للأعم أو للصحيحة:أمّا على الأوّل فواضح.وأمّا على الثاني،فلأنّ الصحّة عند العقلاء أعم منها عند الشارع،إذ ربّ معاملة تكون مورداً لامضاء العقلاء ولا تكون مورداً لامضاء الشارع، فإذا شكّ في ذلك يتمسك بالإطلاق.وأمّا الصحّة الشرعية فلا يعقل أخذها في المسمّى،وفي موضوع أدلة الإمضاء ليكون معنى قوله تعالى «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» أنّ اللّٰه أحلّ وأمضى البيع الذي أحلّه وأمضاه.نعم،يمكن أن تكون الصحّة عند العقلاء مأخوذة في الموضوع له،ليكون البيع مثلاً إسماً للاعتبار المبرز في الخارج الممضى عند العقلاء،لا للأعم منه وممّا لا يكون ممضى عندهم،فانّ الاعتبار إذا كان واجداً للشرائط كما إذا كان صادراً من العاقل مثلاً فيقع مورداً لامضائهم، وإذا كان فاقداً لها كما إذا كان صادراً عن الصبي غير المميز أو المجنون أو الفضولي أو ما شاكل ذلك،فلا يقع مورداً لامضائهم.وعليه فلو شككنا في اعتبار أمر زائد على ما أمضاه العقلاء كاعتبار اللفظ مثلاً،أو العربية أو نحو ذلك،فلا مانع من التمسك بالإطلاق لاثبات عدم اعتباره،لأنّ الشك حينئذ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ.

ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات،فانّ العبادات بما أ نّها ماهيات مخترعة من قِبَل الشارع المقدّس فلو كانت موضوعة للصحيحة فلا يمكننا التمسك باطلاق أدلتها،لأنّ الشك في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً يرجع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 222)


إلى الشك في صدق اللفظ على الفاقد للشيء المشكوك فيه،لاحتمال مدخليته في المسمى.وهذا بخلاف المعاملات،فانّها حيث كانت ماهيات مخترعة من قبل العقلاء لتنظيم الحياة المادية للبشر،فلو كانت أسامي للصحيحة لم يكن مانع من التمسك بالإطلاق،فانّ الصحيح عند العقلاء أعم مورداً من الصحيح عند الشارع.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ نقطة الميز بين البابين التي توجب جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات ولو كانت موضوعة للصحيحة،وعدم جوازه في باب العبادات لو كانت كذلك،هي أنّ الصحّة التي هي محل البحث في المعاملات الصحّة عند العقلاء،وقد عرفت أ نّها أعم عند الشارع،والصحّة التي هي محل البحث في العبادات الصحّة عند الشارع،فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.

نعم،تظهر الثمرة بين القولين في المعاملات أيضاً فيما إذا شكّ في اعتبار أمر عرفي فيها عند العقلاء جزءاً أو شرطاً،كما إذا شكّ في اعتبار المالية في البيع كما هو مقتضى ظاهر تعريف المصباح 1،أو في اعتبار شيء آخر عندهم،فعلى القول بكونها أسامي للصحيحة لا يجوز التمسك بالإطلاق،لاحتمال دخل المالية في صدق البيع،فلو باع الخنفساء أو مثقالاً من التراب أو نحو ذلك ممّا لا مالية له عند العقلاء فنشك في صدق البيع على ذلك،ومعه لا يمكننا التمسك بالإطلاق.

وعلى القول بالأعم لا مانع من التمسك بالإطلاق في هذه الموارد أيضاً.

وأمّا الكلام في المقام الثاني: فيتضح الحال فيه ممّا حققناه في المقام الأوّل وملخصه:هو أ نّا لا نعقل للمسبب في باب المعاملات معنى ما عدا الاعتبار النفساني القائم بالمعتبر بالمباشرة،ومن الظاهر أنّ المسبب بهذا المعنى يتصف


 

1) المصباح المنير:69.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 223)


بالصحّة والفساد،فانّ الاعتبار إذا كان من أهله وهو البالغ العاقل فيتصف بالصحّة حتّى عند العقلاء،وإذا كان من غير أهله وهو المجنون أو الصبي غير المميز فيتصف بالفساد كذلك.نعم،لو كان صادراً من الصبي المميز فيتصف بالصحّة عند العقلاء وبالفساد عند الشارع.

وعلى الجملة:فكما أنّ الصيغة تتصف بالصحّة والفساد،فيقال الصيغة العربية صحيحة،وغير العربية فاسدة،أو الصادرة عن البالغ العاقل صحيحة، ومن غيره فاسدة،فكذلك الاعتبار فيقال إنّ الاعتبار الصادر من العاقل صحيح، ومن غيره فاسد،وعليه فلا أصل لما ذكروه من أنّ المعاملات لو كانت أسامي للمسببات لم تتصف بالصحّة والفساد،بل تتصف بالوجود والعدم،فان هذا إنّما يتم لو كان المسبب عبارة عن الإمضاء الشرعي،فانّه غير قابل لأن يتصف بالصحّة والفساد،بل هو إمّا موجود أو معدوم،وكذا لو كان عبارة عن إمضاء العقلاء،فانّه لا يقبل الاتصاف بهما،فامّا أن يكون موجوداً أو معدوماً،إلّاأنّ المسبب هنا ليس هو الإمضاء الشرعي أو العقلائي،ضرورة أنّ المعاملات من العقود والايقاعات أسامٍ للأفعال الصادرة عن آحاد الناس،فالبيع مثلاً اسم للفعل الصادر عن البائع،والهبة اسم للفعل الصادر عن الواهب…وهكذا.ومن الواضح أ نّها أجنبية عن مرحلة الإمضاء رأساً.نعم،إنّها قد تقع مورداً للامضاء إذا كانت واجدة للشرائط من حيث الاعتبار أو مبرزه،وقد لا تقع مورداً له إذا كانت فاقدة لها كذلك.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه:أ نّه لا مانع من جريان النزاع في المسبب بهذا المعنى من هذه الجهة.نعم،هو خارج عن محل النزاع من جهة اخرى،وهي أنّ عنوان البيع وما شاكله لا يصدق عليه عرفاً بدون إبرازه في الخارج ولو على القول بالأعم،فلا محالة يكون البيع أو نحوه موضوعاً للمؤلف من الاعتبار وإبرازه

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 224)


إمّا مطلقاً أو فيما أمضاه العقلاء.

وملخّص ما ذكرناه في باب المعاملات لحدّ الآن امور:

الأوّل:أنّ المعاملات امور عرفية عقلائية،وليست من المخترعات الشرعية.

الثاني:جواز التمسك بالإطلاق في باب المعاملات مطلقاً ولو كانت أسامي للصحيحة.

الثالث:أنّ الصحّة المأخوذة في مسمّى المعاملات على القول بالصحيح هي الصحّة عند العقلاء،لا عند الشارع كما عرفت.

الرابع:أنّ المسببات في باب المعاملات عبارة عن الاعتبار القائم بالنفس بالمباشرة لا بالتسبيب والآلة،وقد عرفت أ نّه لا معنى للسبيبة والمسببية فيها أصلاً.

الخامس:أنّ المعاملات بعناوينها الخاصة أسامٍ للمؤلف من الاعتبار وإبرازه خارجاً فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص.هذا تمام الكلام في مسألة الصحيح والأعم.

[تذييل:دخول أجزاء الواجب و شرائطه في محل النزاع]
تذييل

إنّ كل واجب مركب كالصلاة ونحوها إذا لوحظ بالقياس إلى عدّة امور فلا يخلو الحال إمّا أن يكون الواجب أجنبياً عنها بالكلية فلا يكون لها دخل فيه، ولا في الفرد المقترن به لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية،وهذه الاُمور على قسمين:

أحدهما:ما كان راجحاً في نفسه كالأدعية الواردة في أيام وليالي شهر رمضان،فانّها وإن كانت مقترنه مع الواجب كالصوم أو نحوه،وذات رجحان

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 225)


في نفسها،إلّاأ نّها أجنبية عنه وغير موجبة لمزية فيه.

الثاني:ما لم يكن له رجحان في نفسه أيضاً،كنزول المطر مثلاً مقارناً للصلاة أو نحوها.

أو لا يكون كذلك،بل لها دخل في الواجب بنحو من أنحاء الدخل،وهذا على أقسام:

القسم الأوّل: ما هو خارج عن طبيعي الواجب فلا يكون جزأه ولا قيده، ولكنّه من خصوصيات الفرد ويوجب مزية فيه،وذلك كعنوان الجماعة والمسجد والقنوت ونحو ذلك،فانّ طبيعي الواجب باقٍ على ما هو عليه من المصلحة، فلا تزيد ولا تنقص باختلاف تلك الخصوصيات،غاية الأمر تطبيقه على الفرد الواجد لها أولى من تطبيقه على الفرد الفاقد.ومن هنا ورد أنّ الصلاة فريضة والجماعة مستحبة،هذا لا بمعنى أنّ الجماعة ليست من أفراد الواجب،بل بمعنى أنّ الصلاة جماعة حيث كانت واجدة لهذه الخصوصيات فتطبيق الصلاة عليها مستحب.

القسم الثاني: ما يكون له دخل في الواجب بنحو الشرطية،والضابط في الشرط هو أن يكون تقيد الواجب به داخلاً في حقيقته والقيد خارجاً عنها.

ومن هنا يظهر أنّ التقيد لا بدّ أن يكون اختيارياً للمكلف،سواء كان القيد أيضاً اختيارياً كالطهارة وما شاكلها أم لم يكن كالقبلة ونحوها.

القسم الثالث: ما يكون له دخل في الواجب بنحو الجزئية،والضابط في الجزء أن يكون الشيء بنفسه متعلقاً للأمر ومقوّماً لحقيقة الواجب.

وبعد ذلك نقول:لا إشكال في دخول الأجزاء في محل البحث،كما أ نّه لا إشكال في خروج ما عدا الأجزاء والشرائط عنه،وأمّا الشرائط نفسها فربّما

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 226)


قيل بخروجها عن حريم النزاع،ولكن قد تقدّم فساده 1.والصحيح هو أ نّها داخلة فيه أيضاً.هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالصحيح والأعم.

[مبحث الاشتراك]

الاشتراك

[الكلام في إمكان الاشتراك يقع من جهتين:]

الكلام فيه يقع من جهتين:

الاُولى:في إمكان الاشتراك أو وجوبه أو امتناعه.

الثانية:في منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعيينياً أو تعيناً أو شيء آخر ؟

[الجهة الاُولى:في إمكان الاشتراك أو وجوبه أو امتناعه.]

أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فذهب قوم إلى أنّ الاشتراك في اللغة واجب، بتقريب أنّ الألفاظ والتراكيب المؤلّفة منها متناهية،والمعاني الموجودة في الواقع ونفس الأمر غير متناهية،فالحاجة إلى تفهيم المعاني جميعاً تستدعي لزوم الاشتراك لئلّا يبقى معنى بلا لفظ دال عليه.

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2بوجوه:

الأوّل: أنّ وضع الألفاظ بازاء المعاني غير المتناهية غير معقول،لأنّه يستلزم أوضاعاً غير متناهية،وصدورها من واضع متناه محال.

الثاني: أ نّا لو سلّمنا إمكان ذلك كما إذا كان الواضع هو اللّٰه (تبارك وتعالى) إلّا أ نّه من الواضح أنّ الوضع مقدّمة للاستعمال ولابراز الحاجة والأغراض، وهو من البشر لا منه (تعالى وتقدس)،إذن وضع الألفاظ بازاء المعاني غير المتناهية يصبح لغواً محضاً،لأنّه زائد على مقدار الحاجة إلى الاستعمالات المتناهية.

وعلى الجملة:فالواضع وإن فرض أنّ اللّٰه تعالى وهو قادر على أوضاع غير


 

1) في ص 156.
2) كفاية الاُصول:35.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 227)


متناهية،إلّاأنّ المستعمل هو البشر فالاستعمال منه لا محالة يقع متناهياً، فالوضع زائداً على المقدار المتناهي غير محتاج إليه.

الثالث: أنّ المعاني الجزئية وإن لم تتناه،إلّاأنّ المعاني الكلّية متناهية كالألفاظ،فلا مانع من وضع اللفظ بازاء معنى كلّي يستعمل في أفراده ومصاديقه حسبما يتعلق الحاجة بها،ومن الواضح أنّ الأمر كذلك في جميع أسماء الأجناس من الحيوانات وغيرها،فيضع الواضع لفظاً خاصاً لواحد منها ثمّ يطلقه على كل واحد من أفراده من دون أن تكون للأفراد أسامٍ خاصة،مثلاً لفظ الهرة موضوع لطبيعي ذلك الحيوان الخاص ثمّ نستعمله في كل فرد من أفرادها من دون أن تكون لأفرادها أسماء خاصة،وكذا لفظ الأسد ونحوه.نعم،المتمايز أفراده بحسب الاسم من بين الحيوانات الانسان دون غيره.

فالنتيجة:أنّ المعاني الكلية متناهية فلا مانع من وضع اللفظ بازائها.

الرابع: أنّ المحذور المزبور إنّما يلزم لو كان اللفظ موضوعاً بازاء جميع المعاني، ويكون استعماله في الجميع على نحو الحقيقة،وأمّا إذا كان موضوعاً بازاء بعض منها ويكون استعماله في الباقي مجازاً،فلا يلزم المحذور،فان باب المجاز واسع، فلا مانع من أن يكون لمعنى واحد حقيقي معانٍ متعددة مجازية.

فمن جميع ما تقدّم يستبين أنّ الاشتراك ليس بواجب.

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) من امتناع الاشتراك بوضع اللفظ للمعاني غير المتناهية متين جداً،لاستلزامه أوضاعاً لا تتناهى.وكذا ما أفاده (قدس سره) ثانياً من أ نّه لو أمكن الوضع إلى غير متناهٍ فلا يقع في الخارج إلّابمقدار متناه،فانّ الوضع إنّما يكون بمقدار الحاجة إلى الاستعمال وهو متناه لا محالة، فالزائد عليه لغو فلا يصدر من الواضع الحكيم.

نعم،إنّ ما سلّمه (قدس سره) من تناهي الألفاظ فهو غير صحيح،وذلك

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 228)


لأ نّه يمكن لنا تصوير هيئات وتراكيب متعددة من الألفاظ باعتبار كونها مؤتلفة من الحروف الهجائية بعضها من بعض إلى عدد غير متناهٍ،فاللفظ الواحد يختلف باختلاف حركاته،فلو ضمّ أوّله أو فتح أو كسر فهو في كل حال لفظ مغاير للفظ في حالة اخرى،وكذا لو فتح آخره أو ضمّ أو كسر،وإذا اضيف إليه في جميع هذه الأحوال حرف من الحروف الهجائية صار لفظاً ومركباً ثانياً غير الأوّل وهكذا.فتصبح الألفاظ بهذه النسبة غير متناهية،مثلاً لفظ بر إذا ضمّ أوّله أو فتح أو كسر فهو لفظ غير الأوّل،ولو اضيف إليه الاختلاف بالتقديم أو التأخير أو حرف من الحروف صار لفظاً آخر وهكذا.

وإن شئت فقل:إنّ مواد الألفاظ وإن كانت مضبوطة ومحدودة من الواحد إلى الثمانية والعشرين حرفاً،إلّاأنّ الألفاظ المؤتلفة منها والهيئات الحاصلة من ضمّ بعضها إلى بعضها الآخر تبلغ إلى غير النهاية،فان اختلاف الألفاظ وتعددها بالهيئات والتقديم والتأخير والزيادة والنقصان والحركات والسكنات يوجب تعددها واختلافها إلى مقدار غير متناه.وهذا نظير الأعداد،فان موادها وإن كانت آحاداً معيّنة من الواحد إلى العشرة،إلّاأنّ تركبها منها يوجب تعددها إلى عدد غير متناه،مع أ نّه لم يزد على كل مرتبة من مراتبها إلّاعدد واحد، وتفاوت كل مرتبة من مرتبة اخرى بذلك الواحد،فإذا اضيف إليها ذلك صارت مرتبة اخرى،وهكذا تذهب المراتب إلى غير النهاية.

فالنتيجة:أنّ الألفاظ غير متناهية كالمعاني والأعداد.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) ثالثاً من أن جزئيات المعاني وإن كانت غير متناهية،إلّاأنّ كلياتها التي تنطبق عليها متناهية،ففيه:أ نّه (قدس سره) إن أراد بكليات المعاني المفاهيم العامة كمفهوم الشيء والممكن والأمر،فما أفاده (قدس سره) وإن كان صحيحاً،فانّها منحصرة ومتناهية،إلّاأنّ جميع الألفاظ لم توضع بازائها يقيناً على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص أو الوضع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 229)


العام والموضوع له العام،ضرورة أ نّه لا يمكن تفهيم جميع المعاني والأغراض التي تتعلّق الحاجة بابرازها بواسطة الألفاظ الموضوعة بازائها لو لم تكن لأنفسها أسامٍ خاصة يقع التفهيم والتفهم بها في مقام الحاجة،بل إنّ ذلك مستحيل عادة كما لا يخفى.

وإن أراد بها (قدس سره) المراتب النازلة منها كالانسان والحيوان والشجر والحجر وما شاكل ذلك،فيردّه أ نّها غير متناهية باعتبار أجزائها من الجنس والفصل وعوارضها من اللازمة والمفارقة المتصورة لها،وهكذا تذهب إلى غير النهاية،بل يكفي لعدم تناهي هذه المعاني نفس مراتب الأعداد،فانّك عرفت أنّ مراتبها تبلغ إلى حدّ لا نهاية له،وكل مرتبة منها معنى كلّي لها أفراد وحصص في الخارج والواقع،مثلاً العشرة مرتبة منها،والحادي عشر مرتبة اخرى، والثاني عشر مرتبة ثالثة وهكذا،ولكل واحدة منها في الخارج أفراد تنطبق عليها انطباق الطبيعي على أفراده،والكلي على مصاديقه.

فما أفاده (قدس سره) من أنّ المعاني الكلية متناهية غير صحيح.على أنّ التفهيم بها في جميع الموارد لا يخلو عن إشكال كما لا يخفى.

وكيف كان،فقد ظهر من جميع ما ذكرناه أنّ الاشتراك ليس بواجب،ولو سلّمنا إمكان وضع الألفاظ للمعاني غير المتناهية،لعدم تناهي الألفاظ أيضاً.

وقد قيل باستحالة الاشتراك في اللغات،لمنافاته المصلحة الباعثة للواضع إلى الوضع وهي التفهيم والتفهم في مقام الحاجة،حيث إنّ إبراز المقاصد لا يمكن في جميع الموارد إلّاباللفظ،وأمّا غيره كالاشارة أو نحوها فهو لا يفي بذلك في المحسوسات فضلاً عن المعقولات،وعليه فصار الوضع ضرورياً لضرورة الحاجة إلى التفهيم والتفهم،فالاشتراك بما أ نّه يخل بذلك الغرض ويوجب الاجمال في المراد من اللفظ،فهو محال صدوره من الواضع الحكيم،لكونه لغواً محضاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 230)


وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بوجهين:

الأوّل:أنّ إمكان التفهيم والتفهم من اللفظ المشترك بواسطة القرائن الواضحة الدالة على المقصود من الواضحات،فانّ اللفظ قد يدل على المقصود بنفسه وقد يدل عليه بواسطة القرائن،فاللفظ المشترك وإن لم يدل عليه بنفسه ولكنّه يدل عليه بواسطة ضم قرينة إليه،فلا يكون مخلاً بغرض الوضع.

نعم،لو كان الاشتراك علّة تامّة للاخلال والاجمال بحيث لا يمكن الافادة والاستفادة معه مطلقاً لتمّ ما أفاده القائل إلّاأنّ الأمر ليس كذلك.

الثاني:أ نّا نمنع كون الاشتراك يوجب الاخلال بغرض الوضع،فانّ الغرض كما يتعلق بالتفهيم والتفهم،كذلك قد يتعلق بالاهمال والاجمال فيلتجئ الواضع إلى الاشتراك لتحصيل هذا الغرض.

التحقيق: أنّ ما أفاده (قدس سره) من إمكان الاشتراك وأ نّه لا يمتنع ولا يجب وإن كان صحيحاً،إلّاأ نّه إنّما يتم على مسلك القوم في تفسير الوضع،فانّه على مسلك من يرى أنّ حقيقة الوضع عبارة عن 1-اعتبار الواضع وجعله الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له.2-أو جعله وجود اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً.3-أو جعله اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار،فلا مانع من الاشتراك وتعدد الجعل،إذ الاعتبار خفيف المؤونة ولا محذور في تعدده في اللفظ الواحد أصلاً.

وأمّا على ما نراه من أنّ حقيقة الوضع التعهد والالتزام النفساني فلا يمكن الاشتراك بالمعنى المشهور،وهو تعدد الوضع على نحو الاستقلال في اللفظ الواحد، والوجه في ذلك:هو أنّ معنى التعهد كما عرفت عبارة عن تعهد الواضع في نفسه


 

1) كفاية الاُصول:35.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 231)


بأ نّه متى ما تكلم بلفظ مخصوص لا يريد منه إلّاتفهيم معنى خاص،ومن المعلوم أ نّه لا يجتمع مع تعهده ثانياً بأ نّه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاص لا يقصد إلّاتفهيم معنى آخر يباين الأوّل،ضرورة أنّ معنى ذلك ليس إلّا النقض لما تعهّده أوّلاً.

أو فقل:إنّ الوضع على ما ذكرناه عبارة عن ذلك التعهد المجرد عن الإتيان بأيّة قرينة،وعليه فلا يمكن للواضع أن يجمع بين تعهدين كذلك أو أزيد في لفظ واحد،فانّ الثاني مناقض للأوّل،ولا يجتمع معه إلّاأن يرفع يده عن الأوّل، ويلتزم ثانياً بأ نّه متى ما تكلم بذلك اللفظ الخاص يقصد منه تفهيم أحد المعنيين الخاصين،فالذي يمكن من الاشتراك هو هذا المعنى،أعني به رفع اليد عن الالتزام الأوّل،والالتزام من جديد بأ نّه متى ما تكلم بذلك اللفظ فهو يريد منه تفهيم أحد المعنيين على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص.

نعم،في مقام الاستعمال لا بدّ من نصب قرينة على إرادة تفهيم أحدهما بالخصوص،فانّ اللفظ غير دال إلّاعلى إرادة أحدهما لا بعينه،فهذا المعنى نتيجة كالاشتراك اللفظي من ناحية تعدد الموضوع له،وكون استعمال اللفظ في كل واحد من المعنيين،أو المعاني استعمالاً حقيقياً ومحتاجاً إلى نصب قرينة معيّنة.

نعم،الفرق بينهما من ناحية الوضع فقط،فانّه متعدد في الاشتراك بالمعنى المشهور والمتنازع فيه،وواحد في الاشتراك على مسلكنا.

فالنتيجة: أنّ الاشتراك بالمعنى المعروف على مسلكنا غير معقول،وعلى مسلك القوم لابأس به.نعم،يمكن على مسلكنا ما تكون نتيجته نتيجة الاشتراك وهو الوضع العام والموضوع له الخاص،ولا مانع منه،فانّ الوضع فيه واحد، ومحذور الامتناع إنّما جاء في تعدد الوضع.

ثمّ لو قلنا بامكان الاشتراك فلا مانع من وقوعه في كلمات الفصحاء والبلغاء

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 232)


ومن استعمال اللفظ المشترك عند أهل المحاورة.

وقد يتوهم عدم إمكان استعماله في القرآن الحكيم،وذلك لأنّ اللّٰه تعالى إمّا أن يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل بلا طائل، وإمّا أن لا يعتمد على شيء في ذلك فيلزم الإهمال والإجمال،وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى. ولكنّه فاسد.

أمّا الأوّل:فلمنع لزوم التطويل بلا طائل إذا كان الاتكال على القرائن الحالية،فانّ القرائن لا تنحصر بالمقالية.ومنع كونه بلا طائل إذا كان الاتيان بها لغرض آخر زائداً على بيان المراد.

وأمّا الثاني:فلمنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى،فانّ الغرض قد يتعلّق بالاجمال والاهمال،كما أخبر هو (تعالى وتقدّس) بوقوعه في كلامه بقوله عزّ من قائل «مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ» 1فالمتشابه هو المجمل وقد وقع في القرآن العزيز في غير مورد،ولا مانع منه أصلاً إذا تعلق الغرض به ودعت الحاجة إلى الاتيان بذلك.

[الجهة الثانية:في منشأ الاشتراك]

وأمّا الكلام في الجهة الثانية: فالمشهور بينهم أنّ منشأ الاشتراك الوضع تعييناً كان أو تعيناً.ولكن نقل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين أنّ المنشأ لحصول الاشتراك في اللغات خلط اللغات بعضها ببعض،فانّ العرب مثلاً كانوا على طوائف:فطائفة منهم قد وضعت لفظاً خاصاً لمعنى مخصوص،وطائفة ثانية قد وضعته لمعنى آخر،وطائفة ثالثة قد وضعته لمعنى ثالث وهكذا،ولما جمعت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة،حدث الاشتراك.وكذلك الحال في الترادف،فانّه قد


 

1) آل عمران 3:7.
2) أجود التقريرات 1:76.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 233)


حصل من جمع اللغات وإلّا فالمعنى كان يعبّر عنه في كل لغة بلفظ واحد.

وعلى الجملة:فالمنشأ لوجود الاشتراك وتحققه في اللغة العربية وغيرها هو جمع اللغات وخلط بعضها ببعض،وإلّا فلا اشتراك في البين أصالةً وبالذات.

وفيه: أنّ ما ذكره هذا القائل وإن كان ممكناً في نفسه،إلّاأنّ الجزم به مشكل جداً،ولا سيّما بنحو الموجبة الكلية،لعدم الشاهد عليه من الخارج، حيث إنّه ممّا لم ينقل في كتب التأريخ ولا غيره،ومجرد نقل مؤرخ حسب اجتهاده لا يكون دليلاً عليه بعد عدم نقل غيره إيّاه،بل ربّما يبعّد ذلك وقوع الاشتراك في الأعلام الشخصية،فان شخصاً واحداً كالأب مثلاً يضع لفظاً واحداً لأولاده المتعددين لمناسبةٍ ما،كما نجد ذلك في أولاد الحسين (عليه السلام) فانّه (عليه السلام) قد وضع لفظ علي لثلاثة من أولاده،فيكون كل واحد منهم مسمّى بذلك اللفظ على نحو الاشتراك فيه،والتمييز بينهم في مقام التفهيم كان بالأكبر والأوسط والأصغر.

وكيف كان،فلا يهمنا تحقيق ذلك وإطالة الكلام فيه بعد أن كان الاشتراك ممكناً في نفسه بل واقعاً،كما في أعلام الأشخاص بل في أعلام الأجناس.

ونتيجة البحث عن الاشتراك امور:

الأوّل:أنّ الاشتراك على مسلك القوم في الوضع ممكن،وعلى مسلكنا فيه غير ممكن إلّاعلى الوجه الذي قدمناه.

الثاني:أنّ استعمال اللفظ المشترك في القرآن جائز فضلاً عن غيره.

الثالث:أنّ منشأ الاشتراك أحد أمرين:إمّا الوضع،أو الجمع بين اللغات على سبيل منع الخلو.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 234)


استعمال اللفظ:في أكثر من معنى واحد

يقع الكلام فيه من جهتين:

الاُولى:في إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.

الثانية:على تقدير إمكانه وجوازه فهل هذا الاستعمال على خلاف الظهور العرفي أم لا ؟

[الجهة الاُولى:في إمكان استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد.]

أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فقد اشتهر بين المتأخرين عدم إمكان هذا الاستعمال وأ نّه مستحيل عقلاً،وقبل بيان ذلك وتحقيقه ليعلم أنّ محل النزاع هو فيما إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلين بحيث يكون الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقين،والاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين،ويكون كل واحد من المعنيين مراداً على حياله واستقلاله،ومن هنا يظهر أنّ استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك خارج عن محل البحث،لأنّه في حكم الاستعمال الواحد في المعنى الواحد،بل هو هو بعينه،وإن كان مجازاً فانّ اللفظ لم يوضع بازائه،كما أنّ استعماله في أحدهما لا بعينه خارج عن محل النزاع، فمحل النزاع فيما إذا كان كل واحد من المعنيين مراداً من اللفظ على سبيل الاستقلال والانفراد كما عرفت.

[ما ذكره النائيني في وجه الاستحالة]

وبعد ذلك نقول: قد استدلّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1على استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بما ملخصه:أنّ حقيقة الاستعمال ليست


 

1) أجود التقريرات 1:76.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 235)


إلّا عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب خارجاً،ومن هنا لا يرى المخاطب إلّاالمعنى،فانّه الملحوظ أوّلاً وبالذات،واللفظ ملحوظ بتبعه وفانٍ فيه،وعليه فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلق اللحاظ الاستقلالي بكل واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلّافيه،ومن الواضح أنّ النفس لاتستطيع على أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد، ولاريب في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك،والمستلزم للمحال محال لا محالة.

ويردّه: أنّ الأمر ليس كما ذكره (قدس سره) وذلك لأنّ النفس بما أ نّها جوهر بسيط ولها صفحة واسعة تقتدر على أن تجمع بين اللحاظين المستقلين في صفحتها في آن واحد،ويدلنا على ذلك امور:

الأوّل: أنّ حمل شيء على شيء والحكم بثبوته له كقولنا:زيد قائم مثلاً، يستدعي لحاظ كل من الموضوع والمحمول والنسبة في آن واحد وهو آن الحكم، وإلّا لكان الحكم من النفس ممتنعاً،ضرورة أنّ مع الغفلة لا يمكن الحكم بثبوت شيء لشيء.إذن لا مانع من الجمع بين اللحاظين المستقلين في آن واحد،فانّ الحمل والحكم دائماً يستلزمان ذلك،كيف فانّ المتكلم حين الحكم لا يخلو إمّا أن يكون غافلاً،وإمّا أن يكون ملتفتاً إلى كل واحد من الموضوع والمحمول والنسبة،ولا ثالث،وحيث إنّ الأوّل غير معقول فتعيّن الثاني.وهذا معنى استلزام الحمل والحكم الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين.

الثاني: قد يصدر من شخص واحد فعلان أو أزيد في آن واحد،وذلك بأن يكون أحدهما بآلة والآخر بآلة اخرى،مثلاً الانسان يشتغل لسانه بالكلام ويحرّك يده في آن واحد،ومن البيّن أنّ كلاً منهما فعل اختياري مسبوق بالإرادة واللحاظ،وعليه فالإتيان بفعلين في آن واحد لا محالة يستلزم لحاظ كل واحد

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 236)


منهما بلحاظ استقلالي في آن كذلك.

الثالث: أ نّا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدناها أ نّها تقتدر على تصور امور متضادة أو متماثلة بتصورات مستقلة في آن واحد،وهذا غير قابل للانكار.

فقد أصبحت النتيجة من ذلك أنّ اجتماع اللحاظين المستقلين مع تعدد المعنى أمر واضح لا شبهة فيه.

[ما ذكره صاحب الكفاية في وجه الاستحالة]

وقد استدلّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على امتناع ذلك بوجه آخر وإليك نص بيانه:إنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لارادة المعنى،بل جعله وجهاً وعنواناً له،بل بوجهٍ نفسه كأ نّه الملقى،ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى،ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلّا لمعنى واحد،ضرورة أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر،حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّابتبع لحاظ المعنى فانياً فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون،ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.وبالجملة لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجهاً لمعنيين وفانياً في الاثنين،إلّاأن يكون اللاحظ أحول العينين.فانقدح بذلك امتناع استعمال اللفظ مطلقاً،مفرداً كان أو غيره،في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز،انتهى 1.

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم على ما هو المشهور بين المتأخرين من أنّ حقيقة الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة لارادة تفهيم المعنى،بل إيجاد للمعنى باللفظ وجعل اللفظ فانياً في المعنى ووجهاً وعنواناً له.وعلى ذلك


 

1) كفاية الاُصول:36.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 237)


فلا يمكن استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال،لأنّ لازمه فناء اللفظ في كل واحد منهما في آن واحد وهو محال،كيف فان إفناءه في أحدهما وجعله وجهاً وعنواناً له يستحيل أن يجتمع مع إفنائه في الآخر وجعله وجهاً وعنواناً له،فاللفظ الواحد لا يعقل أن يكون وجوداً لمعنيين مستقلين في زمن واحد.

وهذا مبتن على أن يكون حقيقة الوضع عبارة عن جعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى.ولكن قد سبق بطلانه مفصّلاً 1.

وأمّا بناءً على مسلكنا من أنّ حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفساني فلا مانع من ذلك،لأنّ الاستعمال ليس إلّافعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لابراز ما قصده المتكلم تفهيمه،ولا مانع حينئذ من جعله علامة لارادة المعنيين المستقلين،فاللفظ على هذا المسلك لا يكون إلّاعلامة لابراز ما في افق النفس،وهو-أي ما في الاُفق-قد يكون معنى واحداً فاللفظ علامة لابرازه، وقد يكون مجموع المعنيين،وقد يكون أحدهما لا بعينه،وقد يكون كلّاً من المعنيين مستقلاً،ولا مانع من جعل اللفظ علامة على الجميع،فكما أ نّه يجوز أن يجعل علامة لارادة المجموع أو أحدهما،فكذلك يجوز أن يجعل علامة لارادة تفهيم كل واحد منها على نحو الاستقلال والعموم الاستغراقي،إذ ليس شأن اللفظ على هذا إلّاعلامة في مقام الإثبات،ولا محذور في جعل شيء واحد علامة لارادة تفهيم معنيين أو أزيد.

ومن هنا قد قلنا سابقاً إنّه لا مانع من أن يراد بلفظ واحد تفهيم معناه وتفهيم أ نّه عارف باللغة التي يتكلم بها.

فقد تحصّل: أنّ الوضع على هذا المسلك لا يقتضي إلّاالتكلم بلفظ خاص


 

1) في ص 44.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 238)


عند قصد المتكلم تفهيم معنى مخصوص في افق النفس،وجعله علامة لابرازه خارجاً،وأمّا الفناء والوجه والعنوان كل ذلك لا يكون.

ومن هنا يظهر أنّ تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له،أو بجعل اللفظ على المعنى في عالم الاعتبار أيضاً،لا يستدعي فناء اللفظ في مقام الاستعمال.

نعم،تفسيره بجعل اللفظ وجوداً للمعنى تنزيلاً يقتضي ذلك،ولكن قد عرفت فساده.

وأمّا الأصل المشهور بينهم:وهو أنّ النظر إلى اللفظ آلي في مقام الاستعمال، وإلى المعنى استقلالي،فقد سبق أ نّه لا أصل له.فالمتحصّل من المجموع أ نّه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

[الجهة الثانية:على تقدير إمكانه وجوازه فهل هذا الاستعمال على خلاف الظهور العرفي أم لا؟]

وأمّا الكلام في الجهة الثانية: فيقع البحث عن موافقة هذا الاستعمال للظهور العرفي وعدمها،فلو وجدنا لفظاً مشتركاً خالياً عن القرينة التي تدل على إرادة تفهيم بعض معانيه،فهل نحمله على إرادة جميع المعاني أو على إرادة البعض أو يحتاج إرادة كل واحدة منهما إلى نصب قرينة تدل على ذلك ؟

لا ريب في أنّ إرادة الجميع خلاف الظهور العرفي فلا يحمل اللفظ عليها إلّا مع نصب قرينة تدل على ذلك،هذا على مسلكنا في باب الوضع واضح،فانّ الاشتراك لا يعقل إلّابرفع اليد عن التعهد الأوّل والالتزام بتعهد آخر وهو قصد تفهيم أحد المعنيين أو المعاني،فيكون المعنى الموضوع له للفظ أحد المعنيين أو المعاني لا الجميع،وعليه فاستعماله في الجميع استعمال في غير الموضوع له وعلى خلاف التعهد والالتزام،بل ولو قلنا بامكان الاشتراك على هذا المسلك، فأيضاً الاستعمال المزبور خلاف الظهور فلا يصار إليه بلا دليل،فانّ المتفاهم العرفي من اللفظ عند إطلاقه إرادة معنى واحد،فارادة المعنيين أو المعاني منه

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 239)


على خلافه،ولا فرق في ذلك بين مسلك التعهد وغيره،فان هذا الاستعمال مخالف للظهور على جميع المسالك،سواء قلنا بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد استعمال حقيقي أو أ نّه مجازي.

ولعل هذا هو مراد المحقق القمي (قدس سره) من اعتبار حال الوحدة في المعنى الموضوع له 1،يعني أنّ المتفاهم عرفاً من اللفظ عند الإطلاق إرادة معنى واحد لا أزيد،وليس مراده من ذلك أخذ حال الوحدة في الموضوع له، ضرورة أنّ فساده من الواضحات الأوّلية.

وعلى ذلك فان استعمل اللفظ في معنيين أو أزيد ولم يؤت معه بقرينة تدل على إرادة جميع المعاني،أو خصوص معنى،فاللفظ يصبح مجملاً ولا يدل على شيء.إذن فالمرجع هو الاُصول العملية على اختلافها باختلاف الموارد،هذا فيما إذا دار الأمر بين إرادة معنى واحد وإرادة الأكثر منه.

وأمّا إذا علم إرادة الأكثر ودار الأمر بين إرادة مجموع المعنيين على نحو العموم المجموعي،أو إرادة كل واحد منهما على سبيل العموم الاستغراقي،ولم تكن قرينة على تعيين أحد الأمرين،فقد قيل بلزوم حمل اللفظ على الثاني تقديماً للحقيقة على المجاز،ولكنّه لا يتم،فانّه لا وجه له حتّى على القول بأنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستغراق استعمال حقيقي،لما عرفت من أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد على خلاف الظهور العرفي وإن كان الاستعمال استعمالاً حقيقياً،وأصالة الحقيقة هنا غير جارية كما لا يخفى.

وتظهر الثمرة بين الأمرين فيما لو كان لشخص عبدان كل منهما مسمّى باسم واحد (الغانم) مثلاً،فباعهما المالك فقال للمشتري بعتك غانماً بدرهمين،ووقع


 

1) قوانين الاُصول 1:63.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 240)


النزاع بين البائع والمشتري في استعمال هذا اللفظ وأ نّه هل استعمل فيهما على سبيل المجموع ليكون ثمن العبدين درهمين،أو على سبيل الاستغراق ليكون ثمن كل منهما درهمين والمجموع أربعة دراهم،ففي مثل ذلك نرجع إلى أصالة عدم اشتغال ذمّة المشتري للبائع بأزيد من درهمين.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه:أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز ولا مانع منه أصلاً.نعم،هو مخالف للظهور العرفي فلا يمكن حمل اللفظ عليه بلا نصب قرينة ترشد إليه.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد،كما أ نّه لا فرق بين أن يكون المعنيان حقيقيين أو مجازيين أو أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً،فانّ الملاك في الجميع واحد جوازاً ومنعاً.

وما قيل في بيان استحالة إرادة المعنى المجازي والمعنى الحقيقي معاً،من أنّ إرادة المعنى المجازي تحتاج إلى القرينة الصارفة عن إرادة المعنى الحقيقي وهي مانعة عن إرادته ولا تجتمع معها، يندفع بأنّ هذا إنّما هو فيما إذا أراد المتكلم خصوص المعنى المجازي،وأمّا إذا أراد المعنى المجازي والحقيقي معاً على نحو المجموع أو الجميع،فيحتاج ذلك إلى القرينة الصارفة عن إرادة خصوص المعنى الحقيقي،لا عن إرادته مع المعنى المجازي إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك.

[تفصيل صاحب المعالم في المقام]

وكيف كان،فقد ظهر ممّا ذكرناه أ نّه لا وجه لما ذكره صاحب المعالم (قدس سره) 1من التفصيل بين التثنية والجمع وبين المفرد،حيث جوّز إرادة الأكثر من معنى واحد في التثنية والجمع دون المفرد،بل اختار (قدس سره) أنّ الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع،واستدلّ على ذلك بأنّ التثنية في قوّة تكرار


 

1) معالم الدين:39-40.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 241)


المفرد مرّتين،والجمع في قوّة تكراره مرّات،فقولنا:رأيت عينين في قوّة قولنا:

رأيت عيناً وعيناً،وكما يجوز أن يراد من العين الأوّل معنى ومن الثاني معنى آخر على نحو الحقيقة،كذلك يجوز أن يراد المعنيان من التثنية.

وممّا يؤكد ذلك:صحّة التثنية في الأعلام الشخصية كقولك:زيدان،فانّ المراد منه فردان متغايران لا محالة.

وما ذكره من أنّ الاستعمال حقيقي في التثنية والجمع لا يمكن المساعدة عليه أصلاً،والوجه في ذلك هو أنّ للتثنية والجمع وضعين:أحدهما للمادة.والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون.

أمّا المادة،فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتّى الخصوصية اللّا بشرطية.

وأمّا الهيئة،فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها،فحينئذ إن اريد من المدخول ككلمة العين مثلاً في قولك:رأيت عينين،معنيان كالجارية والباكية،أو الذهب والفضّة،بناءً على ما حققناه من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد،فالهيئة الطارئة عليها تدل على إرادة المتعدد منهما، ويكون المراد من قولنا عينان حينئذ فردان من الجارية وفردان من الباكية،أو فردان من الذهب وفردان من الفضّة،فالتثنية تدل على أربعة أفراد.

وهذا وإن كان صحيحاً على ما ذكرناه،إلّاأ نّه أجنبي عن استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد،فانّه من استعمال المفرد في ذلك،والتثنية مستعملة في معناه الموضوع له وهو الدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها.وهذا بعينه نظير ما إذا ثنّى ما يكون متعدداً من نفسه كالعشرة مثلاً أو الطائفة أو الجماعة أو القوم إلى غير ذلك،كقولنا:رأيت طائفتين،فكما أ نّه لم يذهب إلى وهم أحد أنّ التثنية في أمثال هذه الموارد مستعملة في أكثر من معنى واحد،فكذلك في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 242)


المقام فلا فرق في ذلك بين المقامين أصلاً،غاية الأمر أنّ المفرد هنا استعمل في المتعدد بالعناية دون هناك.

وكيف كان،فهذه الصورة غير مرادة لصاحب المعالم (قدس سره) يقيناً،لأنّ التثنية فيها لم تستعمل في أكثر من معنى واحد فلا معنى حينئذ لكونها حقيقة.

وإن اريد من كلمة العين معنى واحد كالذهب مثلاً لتدل الهيئة على إرادة أكثر من طبيعة واحدة،ففيه:أ نّه غير معقول وذلك لما عرفت من أنّ للتثنية وضعين:

أحدهما:للهيئة وهي تدل على إرادة المتعدد من المدخول.

والثاني:للمادة وهي تدل على الطبيعة المهملة.إذن إن اريد بالمادة طبيعة واحدة كالذهب مثلاً،فالهيئة تدل على إرادة المتعدد منه ويكون المراد من العينين فردين من الذهب،وحيث إنّ المفروض في المقام إرادة طبيعة واحدة من المدخول،فالتثنية تفيد تكرارها بارادة فردين منها،ومع هذا كيف تدل على تعدد المدخول من حيث الطبيعة،وليس هنا شيء آخر يكون دالاً على إرادة طبيعة اخرى كالفضّة مثلاً.

نعم،يمكن أن يؤوّل العين بالمسمّى ويراد من تثنيتها الفردان منه كالذهب والفضّة أو نحوهما،كما هو الحال في تثنية الأعلام الشخصية،إلّاأ نّه أيضاً ليس من استعمال التثنية في أكثر من المعنى الواحد كما لا يخفى.مع أنّ هذا التأويل مجاز بلا كلام ولا شبهة.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ تفصيل صاحب المعالم (قدس سره) باطل من أصله.فالصحيح هو ما ذكرناه من أ نّه يجوز الاستعمال في أكثر من معنى واحد، بلا فرق في ذلك بين التثنية والجمع وبين المفرد.نعم،هو خلاف الظهور العرفي.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 243)


ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بعد ما منع عن جواز الاستعمال في المعنيين قال:وهم ودفع:لعلّك تتوهم أنّ الأخبار الدالة على أنّ للقرآن بطوناً سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلاً عن جوازه.ولكنّك غفلت عن أ نّه لا دلالة لها أصلاً على أنّ إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ،فلعلها كانت بارادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها.أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وإن كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها،انتهى 1.

[الروايات الدالة على أنّ للقرآن بطونا]

ويردّه: أ نّه لو كان المراد من البطون ما ذكره (قدس سره) أوّلاً لم يكن ذلك موجباً لعظمة القرآن على غيره ولفضيلته على سائر المحاورات،لامكان أن يراد المعاني بأنفسها حال التكلم بالألفاظ في غير المحاورات القرآنية،بل يمكن إرادتها كذلك حال التكلم بالألفاظ المهملة فضلاً عن الألفاظ الموضوعة،فمن هذه الجهة لا فرق بين الكتاب وغيره،بل لا فرق بين اللفظ المهمل والموضوع، فالكل سواء ولا فضل لأحدهما على الآخر.على أنّ لازم ذلك أن لا تكون البطون بطوناً للقرآن ومعاني له،بل كانت شيئاً أجنبياً عنه،غاية الأمر أ نّها اريدت حال التكلم بألفاظه،وكلا الأمرين مخالف لصريح الروايات المشتملة على البطون،فهي كما نطقت باثبات الفضيلة والعظمة للقرآن على غيره من جهة اشتماله على ذلك،كذلك نطقت باضافة تلك البطون إليه وأ نّها معانٍ للقرآن لا أ نّها شيء أجنبي عنه.

منها:«ما في القرآن آية إلّاولها ظاهر،ظهر وبطن…»إلخ 2.


 

1) كفاية الاُصول:38.
2) البحار 92:47/94.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 244)


ومنها:«وإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانّه شافع مشفّع-إلى أن قال-وله ظهر وبطن،فظاهره حكم وباطنه علم،ظاهره أنيق وباطنه عميق،وله تخوم وعلى تخومه تخوم،لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه» 1وما شاكلهما من الروايات الكثيرة.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) ثانياً من أنّ المراد من البطون لوازم معناه وملزوماته-من دون أن يستعمل اللفظ فيها-التي لن تصل إلى إدراكها أفهامنا القاصرة إلّابعناية من أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) الذين هم أهل القرآن،فهو الصحيح،وتدلّنا على ذلك روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر إجمالاً بلا ريب:

منها: «إنّ القرآن حي لم يمت وأ نّه يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر،ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا» 2.

ومنها: «إنّ القرآن حي لا يموت والآية حيّة لا تموت،فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن،ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين» 3.

ومنها: «لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء،ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السّماوات والأرض ولكل قومٍ آية يتلونها،هم منها من خير أو شر» 4.


 

1) الوسائل 6:/171أبواب قراءة القرآن ب 3 ح 3 و فيه«نجوم»بدل«تخوم»،تفسير البرهان 1:14.
2) البحار 35:403-404.
3) البحار 35:403-404.
4) البحار 92:4/115،تفسير العياشي 1:10.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 245)


ومن هنا قد ورد في عدّة من الروايات أنّ الآية من القرآن إذا فسّرت في شيء فلا تنحصر الآية به،وهو كلام متصل ينصرف على وجوه 1،وأنّ القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه 2.وهذا معنى أنّ للقرآن بطوناً لن تصل إليها أفهامنا القاصرة إلّابتوجيه من أهل البيت (عليهم السلام) كما وجّهنا إليها في بعض الموارد،وقد دلّت على ذلك المعنى روايات كثيرة واردة من طرق العامّة والخاصّة.ومن أراد الاطلاع على مجموع هذه الروايات في جميع هذه الأبواب فليطلبها من مصادرها.

وفي بعض الروايات إشارة إلى صغرى هذه الكبرى وهو ما ورد:إنّ القرآن ظاهره قصة وباطنه عظة 3،فانّه في الظاهر بيّن قصص السابقين وقضاياهم كقصة بني إسرائيل وما شاكلها،ولكنّها في الباطن عظة للناس وعبر ودروس لهم،فانّ التأمّل في القضايا الصادرة عن الاُمم السابقة دروس وعبر لنا.وينبهنا على أنّ السير على منهاجه ينجينا عن الضلال،وأنّ الكفر بنعم اللّٰه تعالى يوجب السخط على الكافرين والعاصين.

وعلى الجملة:أنّ قصص الكتاب في الظاهر وإن كانت حكايات وقصصاً إلّا أ نّها في الباطن دروس وعبر للناس.

فقد أصبحت نتيجة هذا البحث لحدّ الآن اموراً:


 

1) البحار 92:45/94،48،تفسير البرهان 1:45-46.
2) مجمع البيان 1:13.
3) لم نعثر عليه.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 246)


الأوّل:أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد جائز على مسلك من يرى حقيقة الوضع التعهد والالتزام،نعم هو خلاف الظهور عرفاً.

الثاني:أنّ المراد من بطون القرآن لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وملزوماته وملازماته،من دون استعمال اللفظ فيها على ما نطقت به الروايات من طرق الخاصّة والعامّة.

الثالث:أنّ هذه البواطن التي تضمنها القرآن لا يعرفها إلّامن خوطب به وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).

ومن هنا قد وقفنا على بعضها في بعض الموارد بواسطة الآثار المنقولة منهم (عليهم السلام).


الأمر الحادي عشر في المشتق

لا ريب في صحّة إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلاً،وعلى المنقضي عنه المبدأ،وعلى من لم يتلبس به بعد،ولكنّه سيتلبس به في المستقبل،ولا إشكال أيضاً في أنّ إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلاً إطلاق حقيقي،كما أ نّه لا إشكال في أنّ إطلاقه على من يتلبس بالمبدأ في المستقبل إطلاق مجازي، وإنّما الكلام والإشكال في إطلاق المشتق على من انقضى وانصرم عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقة ؟ وقبل تحقيق الحال في المقام ينبغي التنبيه على امور:

الأمر الأوّل:أنّ اللفظ الموضوع لمعنى على قسمين:

أحدهما:ما يسمى بالمشتق وهو ما كان لكل واحدة من مادته وهيئته وضع خاص مستقل.

والثاني:ما يسمى بالجامد وهو ما كان للمجموع من مادته وهيئته وضع واحد لا وضعان.

أمّا المشتق فهو على قسمين:

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 247)


أحدهما:ما يكون موضوعاً لمعنى يجري على الذات المتصفة بالمبدأ بنحو من أنحاء الاتصاف ويصدق عليها خارجاً كاسم الفاعل والمفعول والزمان والمكان وما شاكل ذلك.

وثانيهما:ما يكون موضوعاً لمعنى لا يجري على الذات ولا يصدق عليها خارجاً،وذلك كالأفعال جميعاً والمصادر المزيدة،بل المصادر المجردة،بناءً على ما هو الصحيح من أنّ المصادر المجردة أيضاً مشتقات.

وأمّا الجامد فهو أيضاً على قسمين:

أحدهما:ما يكون موضوعاً لمعنى منتزع عن مقام الذات كالانسان والحيوان والشجر والتراب ونحو ذلك.

وثانيهما:ما يكون موضوعاً لمعنى منتزع عن أمر خارج عن مقام الذات وذلك كعنوان الزوج والرق والحر وما شابه ذلك،فهذه أربعة أقسام،ومحل النزاع في هذه المسألة لا يختص بالمشتقات المصطلحة فقط كما ربّما يوهم عنوان النزاع فيها،بل يعم القسم الثاني من الجوامد أيضاً،كما أ نّه لا يعم جميع المشتقات بل يختص بخصوص القسم الأوّل منها.

فالنتيجة: أنّ محل البحث هنا في القسم الأوّل من المشتق والقسم الثاني من الجامد،والقسمان الآخران خارجان عنه.

ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين المشتق في حريم البحث وكل من المشتق المصطلح والجامد عموم من وجه،فانّ الأفعال والمصادر المزيدة والمجردة جميعاً من المشتقات المصطلحة ومع ذلك هي خارجة عن محل النزاع،والعناوين الانتزاعية كعنوان الزوج والحر والرق وما شاكل ذلك من الجوامد،ومع ذلك هي داخلة في محل البحث،فالنزاع يجري في كل عنوان جارٍ على الذات باعتبار

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 248)


تلبسها بالمبدأ بنحو من أنحائه،سواء أكان ذلك المبدأ من إحدى المقولات التسع الواقعية كالكم والكيف والأين وأشباه ذلك،أم كان من توابعها كالشدة والضعف والسرعة والبطء،أم كان من الاعتبارات كالملكية والزوجية والحرية وما شابهها،أم كان من الانتزاعيات كالفوقية والتحتية والسابقية والمسبوقية والامكان والوجوب والامتناع وما شاكلها.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ دخول شيء في محل النزاع هنا يبتني على ركنين:

الركن الأوّل:أن يكون الشيء جارياً على الذات المتلبسة بالمبدأ ومتحداً
معها خارجاً بنحو من الاتحاد،

وبذلك الركن خرجت المصادر المزيدة،لأنّها لا تجري على الذات المتصفة بها،فانّها مغايرة معها خارجاً وعيناً فلا يقال:

زيد إكرام إذا كان زيد متصفاً بهذا المبدأ،بل يقال:زيد كريم.وكذا المصادر المجردة لا يشملها النزاع لعدم صحّة حملها على الذات،فلا يقال:زيد علم إلّا مبالغة،وإن قلنا بأ نّها من جملة المشتقات كما هو الصحيح.وهكذا الأفعال بجميع أنواعها لا يجري فيها النزاع،لعدم جريانها على الذوات وإن كانت من المشتقات.

فتحصّل:أنّ المصادر المزيدة والمجردة والأفعال بأجمعها خارجة عن محل النزاع لكونها فاقدة لهذا الركن.

الركن الثاني:أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ

،بأن تكون لها حالتان حالة تلبسها بالمبدأ،وحالة انقضاء المبدأ عنها،وبذلك الركن خرج القسم الأوّل من الجوامد كالانسان والحيوان والشجر وما يضاهيها من العناوين الذاتية،والوجه فيه:أنّ المبادئ في أمثال ذلك مقوّمة لنفس الحقيقة والذات، وبانتفائها تنتفي الذات فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ.

وبتعبير آخر:أنّ شيئية الشيء بصورته لا بمادته،فإذا فرضنا تبدل الانسان

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 249)


بالتراب أو الكلب بالملح فما هو ملاك الإنسانية أو الكلبية-وهو الصورة النوعية-قد انعدم وزال ووجدت حقيقة اخرى وصورة نوعية ثانية وهي:

صورة النوعية الترابية أو الملحية،ومن الواضح أنّ الانسان أو الكلب لا يصدق على التراب أو الملح بوجه من الوجوه،لأنّ الذات غير باقية وتنعدم بانعدام الصورة النوعية-وهي صورة الانسانية أو الكلبية-ومع عدم بقاء الذات لا يشملها النزاع،ولا معنى لأن يقال إنّ الإطلاق عليها حقيقة أو مجاز.

وأمّا المادة المشتركة بين الجميع المعبّر عنها بالهيولى وإن كانت باقية،إلّا أ نّها قوّة صرفة لافاضة الصور عليها،وليست ملاكاً لشيء من هذه العناوين، ولا تتصف بالانسانية أو الكلبية أو نحوها بحال من الأحوال.

وأمّا القسم الثاني من الجوامد،وهو ما كان منتزعاً عن أمر خارج عن مقام الذات،فهو داخل في محل النزاع،كعنوان الزوج والرق والحر وما شاكل ذلك،لأنّ الذات فيه باقية بعد انقضاء المبدأ عنها،وحينئذ يشمله النزاع في أنّ الإطلاق عليها حال الانقضاء حقيقة أو مجاز.

وممّا يشهد لما ذكرناه من عموم النزاع لهذا القسم من الجامد أيضاً:ما ذكره فخر المحققين والشهيد الثاني (قدس سرهما) في الإيضاح 1والمسالك 2من ابتناء الحرمة في المرضعة الثانية على النزاع في مسألة المشتق،في من كانت له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة وقد أرضعت الكبيرتان الصغيرة فتحرم عليه المرضعة الاُولى لصدق أم الزوجة عليها،والصغيرة لصدق بنت الزوجة عليها، وإنّما الكلام والإشكال في المرضعة الثانية،فقد ابتني الحرمة في هذه المسألة على النزاع في مسألة المشتق،فبناءً على أ نّه موضوع للأعم يصدق عليه عنوان امّ


 

1) إيضاح الفوائد 3:52.
2) المسالك 7:268.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 250)


الزوجة،باعتبار أنّ المرتضعة كانت زوجة فتحرم،وبناءً على أ نّه موضوع لخصوص المتلبس فعلاً لا يصدق عليها هذا العنوان بالفعل فلا تحرم (1).


 

1) منها:صحيحة محمّد بن مسلم قال:«سألت أحدهما (عليهما السلام) عن رجل كانت له جارية فاعتقت فزوجت فولدت أيصلح لمولاها الأوّل أن يتزوج ابنتها ؟ قال (عليه السلام):لا،هي حرام وهي ابنته والحرة والمملوكة في هذا سواء». ومنها:صحيحة [ ابن ] أبي نصر قال:«سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يتزوج المرأة متعة أيحل له أن يتزوج ابنتها ؟ قال (عليه السلام):لا». ومنها:موثقة غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه«أنّ علياً (عليه السلام) قال:إذا تزوج الرجل المرأة حرمت عليه ابنتها إذا دخل بالاُم…»الحديث [ الوسائل 20:/457أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب 18 ح 2،1،4 ]. فالصحيحة الاُولى صريحة في حكم المقام-وهو حرمة بنت الزوجة التي ولدت متأخرة عن زمان الزوجية-بل موردها خصوص ذلك.وأمّا الصحيحة الثانية والموثقة فهما تدلّان على حكم المقام بالاطلاق.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 251)


 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 252)


 


 

1) النساء 4:23.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 253)


 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 254)


 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 255)


 


 

1) الوسائل 20:/402أبواب ما يحرم بالرضاع ب 14 ح 1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 256)


 


 

1) المسالك 7:269.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 257)


 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 258)


 


 

1) الكافي 5:13/446،التهذيب 7:1232/293.
2،3) الوسائل 20:/399أبواب ما يحرم بالرضاع ب 10 ح 2،1.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 259)


 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 260)


[كون النزاع في المشتق في وضع الهيئة]

ثمّ إنّ النزاع في هذه المسألة في وضع الهيئة وفي سعة المفهوم الاشتقاقي وضيقه،من دون اختصاص لها بمادّة دون مادّة،فلا ينظر إلى أنّ المادّة ذاتيّة أو عرضيّة وبزوالها تنتفي الذات أو لا تنتفي،فانّ كل ذلك لا دخل له في محلِّ النزاع.

نعم،المادّة إذا كانت ذاتيّة لا يعقل فيها بقاء الذات مع زوال التلبّس.لكن الهيئة غير مختصّة بها،بل تعم ما يعقل فيه بقاء الذات مع زوال التلبّس،مثلاً المادّة في الناطق ذاتيّة ولكن الهيئة لا يختصّ وضعها بها،بل يعم غيرها كالقائم ونحوه،وهكذا المادّة في الحيوان فانّها ذاتيّة ولا يعقل بقاء الذات بدونها،إلّا أنّ الهئية غير مختصّة بها،بل تعم غيرها أيضاً كالعطشان ونحوه،وهكذا.

وعلى الجملة: فالنزاع هنا يختصّ بوضع الهيئة فقط،وأنّها موضوعة لمعنى وسيع أو لمعنى ضيِّق،ولا ينظر إلى المادّة والمبدأ أصلاً،فلا فرق بين أن يكون المبدأ ذاتيّاً أو عرضيّاً،فانّ ذاتيّة المبدأ لا تضرّ بوضع الهيئة للأعم إلّا إذا كان وضع الهيئة مختصّاً بذلك المبدأ كما في العناوين الذاتية،حيث إنّ الوضع فيها شخصي فلا يجري النزاع فيها.

فالنتيجة:أنّ الخارج عن البحث العناوين الذاتية من الجوامد والأفعال والمصادر من المشتقّات.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 261)


[كلام المحقق النائيني في خروج بعض العناوين عن محل النزاع]

ولشيخنا الاُستاذ (قدس سرّه) 1في المقام كلام:وهو أنّ ما يكون المبدأ فيه منتزعاً عن مقام الذات ولا يحاذيه شيء في الخارج وكان من الخارج المحمول كالعلّة والمعلول والممكن وما يقابلانه من الواجب والممتنع خارج عن محل البحث،بتقريب أنّ في أمثال هذه العناوين لا يعقل بقاء الذات وزوال التلبّس فتكون كالعناوين الذاتية،فإنّ الامكان مثلاً منتزع عن مقام ذات الممكن وهو الانسان،لا عن أمر خارج عن مقام ذاته وإلّا فلازمه أن يكون الممكن في مرتبة ذاته خالياً عن الإمكان ولا يكون متّصفاً به،وحينئذٍ لزم انقلاب الممكن إلى الواجب أو الممتنع،لاستحالة خلوّ شيء عن أحد المواد الثلاثة.

أو فقل:إنّ المواد الثلاثة أعني بها الوجوب والإمكان والامتناع،وإن كانت خارجة عن ذات الشيء وذاتياته،لأنّها نسبة إلى وجود الشيء الخارج عن مقام ذاته،إلّاأ نّها منتزعة عن ذلك المقام،فلا تعقل أن تخلو ماهية من الماهيات عن إحدى هذه المواد الثلاث في حال من الأحوال،وهكذا العلية والمعلولية،فانّهما وإن كانتا خارجتين عن مقام ذات العلّة وذات المعلول،إلّا أ نّهما منتزعتان عن نفس ذاتهما لا عن خارج مقام الذات،فلا يعقل زوال المادة مع بقاء الذات وإلّا للزم اتصاف ذات العلّة وذات المعلول بغيرهما،وهو كما ترى.

ولكن بالتأمل فيما ذكرناه يظهر الجواب عنه،وذلك لأنّ البحث في المشتق كما أشرنا إليه آنفاً إنّما هو في وضع الهيئة فقط بلا اختصاص لها بمادة دون مادة،لما تقدّم سابقاً من أنّ وضع الهيئات نوعي لا شخصي،مثلاً هيئة (فاعل) وضعت لمعنى،وهيئة (مفعول) وضعت لمعنى،وزنة (مفعل) وهي:اسم فاعل من باب الإفعال وضعت لمعنى وهكذا،ومن الواضح أنّ عدم جريان النزاع في بعض أفراد الهيئة من جهة عدم إمكان بقاء الذات فيها مع زوال المبدأ لا يوجب


 

1) أجود التقريرات 1:78.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 262)


عدم جريانه في كلّي الهيئة التي تعم ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ، ولا يكون البحث حينئذ من سعة مفهوم هذه الهيئة وضيقه لغواً بعد ما كانت الذات باقية حال الانقضاء في جملة من المواد،وما نحن فيه من هذا القبيل،فانّ النزاع في وضع هيئة (مفعل) وهيئة (فاعل) وهيئة (مفعول) ولا ريب أنّ هذه الهيئات لاتختص بالمواد التي لايعقل فيها بقاء الذات مع زوالها كالممكن والواجب والممتنع والعلة والمعلول وما شاكل ذلك لئلّا يجري النزاع فيها،بل تعم ما يمكن فيه بقاء الذات مع زوال التلبّس وانقضاء المبدأ عنها كالمقيم والمنعم والقائم والضارب والمملوك والمقدور وأشباه ذلك،ومن المعلوم أنّ عدم جريان النزاع في بعض الأفراد والمصاديق لايوجب لغوية النزاع عن الكلي بعد ما كانت الذات في أكثر مصاديقه قابلة للبقاء مع زوال المادة.

نعم،لو كانت الهيئة في مثل لفظ الممكن وما يقابلانه موضوعة بوضع على حدة،لكان لما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) مجال واسع،وكان البحث عن سعة مفهومهما وضيقه حينئذ لغواً محضاً،إلّاأنّ الأمر ليس كذلك،فانّ الهيئة فيها موضوعة في ضمن وضع لفظ جامع بينها وبين غيرها بوضع نوعي وهو هيئة مفعل مثلاً.

فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فيه خلط بين جريان النزاع في الهيئات الخاصّة والهيئات العامّة التي لا يختص وضعها بمادة.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ الخارج عن البحث أمران:

أحدهما:العناوين الذاتية.

وثانيهما:الأفعال والمصادر.

[الاشكال في دخول اسم الزمان في محل النزاع]

ثمّ إنّه قد يشكل في دخول هيئة اسم الزمان في محل النزاع باعتبار أ نّها فاقدة للركن الثاني الذي قد مرّ اعتباره في دخول شيء في محل البحث وهو

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 263)


بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها،لأنّ الذات فيه وهي الزمان من الاُمور المتقضية والمتصرمة في الوجود آناً فآناً،فلا يعقل بقاؤها فيه مع زوال المبدأ عنها ليكون داخلاً في موضع النزاع،وأمّا إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد كاطلاق مقتل الحسين (عليه السلام) على اليوم العاشر من المحرّم في كل عام، فهو من باب التجوز والعناية بلا إشكال.

وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصّه:ويمكن حلّ الإشكال بأنّ انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بازاء الفرد دون العام،وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة،مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى 1.

وتوضيحه:أنّ انحصار مفهوم كلّي في فردين:أحدهما ممكن والآخر ممتنع لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي ليضطر إلى وضعه للفرد الممكن،فانّه يمكن ملاحظة المعنى الجامع بين الفردين ووضع اللفظ له،وما نحن فيه من هذا القبيل،فان انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له،بل يمكن ملاحظة المفهوم العام ووضع اللفظ بازائه،غاية الأمر انحصاره في الخارج في فرد واحد وهو الزمان المتلبس بالمبدأ بالفعل،وامتناع تحقق فرده الآخر وهو الزمان المنقضي عنه المبدأ،ولا مانع من وضع لفظ للجامع بين الفرد الممكن والمستحيل أصلاً،وكم له من نظير.

ومن هنا وقع النزاع في وضع لفظ الجلالة«اللّٰه»وأ نّه اسم للجامع أو علم لذاته المقدّسة،فلو لم يمكن الوضع للكلي بين الممكن والممتنع،لم يصحّ النزاع


 

1) كفاية الاُصول:40.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 264)


فيه،بل كان المتعيّن أ نّه علم لا اسم جنس،إذ لو كان من قبيل الثاني لكان الوضع لا محالة للمعنى الجامع،مع أنّ بقية أفراده غير ذاته المقدسة ممتنعة،بل قال (قدس سره) إنّ ذلك واقع في كلمة الواجب،فانّها موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر أفراده غير ذاته تعالى.

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) من أ نّه لا مانع من وضع لفظ للمعنى الجامع بين الفرد الممكن والممتنع صحيح،بل إنّه لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد الممتنع،كوضع لفظ بسيط للحصّة المستحيلة من الدور أو التسلسل أو لمفهوم اجتماع النقيضين،فضلاً عن الوضع للجامع بين ما يمكن وما يستحيل،كما هو الحال في لفظ الدور والتسلسل والاجتماع وما شاكل ذلك، فانّ الجميع وضع للمفهوم العام مع امتناع بعض أفراده في الخارج كاجتماع النقيضين والضدّين،وتوقف العلّة على المعلول المتوقف على علّته فانّه دور مستحيل،والتسلسل فيما لا يتناهى،وكثير من أفرادها ممكنة في الخارج كدور الشيء حول نفسه والتسلسل فيما يتناهى وغيرهما.

وعلى الجملة:فلا شبهة في إمكان هذا الوضع على جميع المسالك في تفسيره وهذا واضح،ولكن وقوع مثل هذا الوضع متوقف على تعلّق الحاجة بتفهيم الجامع المزبور،وذلك لأنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهم في المعاني التي تتعلّق الحاجة بابرازها كما في الأمثلة المذكورة،فانّ الحاجة كثيراً ما تتعلق باستعمال تلك الألفاظ في الجامع،بل تطلق كثيراً ويراد منها خصوص الفرد المستحيل والحصّة الممتنعة.وأمّا إذا لم تتعلق الحاجة بذلك كان الوضع له لغواً، فلا يصدر عن الواضع الحكيم،ولمّا لم تكن حاجة متعلقة باستعمال اسم الزمان في الجامع بين الزمان المنقضي عنه المبدأ والزمان المتلبس به فعلاً،كان الوضع له لغواً،إذن يخرج عن مورد النزاع.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 265)


ومن هنا يظهر فساد قياس المقام باسم الجلالة الذي وقع الخلاف في أ نّه علم لذاته المقدّسة أو اسم جنس،وذلك لأنّ الحاجة تتعلق باستعمال لفظ الجلالة في الجامع في مسألة البحث عن التوحيد وغيره.وهذا بخلاف اسم الزمان،فانّ الحاجة لا تتعلق باستعمال اللفظ في الجامع بين المنقضي والمتلبس، إذن كان وضع اللفظ بازائه لغواً.

وأمّا تمثيله لما وضع للجامع مع استحالة بعض أفراده بلفظ الواجب فهو غريب،وذلك لأنّ الواجب بمعنى الثابت،وهو مفهوم جامع بين الواجب تعالى وغيره،فانّه يصدق على كل موجود،فان كل موجود واجب لا محالة.نعم إنّه تعالى واجب لذاته وغيره واجب بارادته،والواجب لذاته وإن كان منحصراً باللّٰه تعالى إلّاأنّ هذه الجملة لم توضع بوضع واحد ليكون من الوضع للعام مع انحصار فرده في واحد.

وعلى الجملة:فلفظ الواجب مرادف لكلمة الثابت،فهو يصدق على الاُمور التكوينية والتشريعية،وبزيادة كلمة الوجود إليه يعم جميع الموجودات من الواجب لذاته وبغيره،وبزيادة كلمة لذاته ينحصر باللّٰه سبحانه فلا يشمل غيره، إلّا أنّ ذلك أجنبي عن وضع لفظ بازاء جامع ينحصر بفرد،فانّ الانحصار فيه من ضم مفهوم إلى مفاهيم اخر ومن باب تعدد المدلول بتعدد الدال.

والتحقيق في المقام:أنّ أسماء الأزمنة لم توضع بوضع على حدة في قبال أسماء الأمكنة،بل الهيئة المشتركة بينهما وهي هيئة«مفعل»وضعت بوضع واحد لمعنى واحد كلّي،وهو ظرف وقوع الفعل في الخارج،أعم من أن يكون زماناً أو مكاناً،وقد سبق أنّ النزاع إنّما هو في وضع الهيئة بلا نظر إلى مادة دون مادة،فإذا لم يعقل بقاء الذات في مادة مع زوالها لم يوجب ذلك عدم جريان النزاع في الهيئة نفسها التي هي مشتركة بين ما يعقل فيه بقاء الذات مع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 266)


انقضاء المبدأ عنها وما لايعقل فيه ذلك،وحيث إنّ الهيئة في محل البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بين الزمان والمكان،كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو الأعم نزاعاً معقولاً،غاية الأمر أنّ الذات إذا كانت زماناً لم يعقل بقاؤها مع زوال التلبّس عن المبدأ،وإذا كانت مكاناً يعقل فيه ذلك،وقد عرفت أ نّه لا مانع من وضع اللفظ للجامع بين الفرد الممكن والممتنع إذا تعلقت الحاجة بتفهيمه.

نعم،لو كانت هيئة اسم الزمان موضوعة بوضع على حدة لخصوص الزمان الذي وقع فيه الفعل،لم يكن مناص من الالتزام إلّابخروج اسم الزمان عن النزاع.

[الأمر الثاني:خروج المصادر و الأفعال عن محل النزاع]

الأمر الثاني: قد سبق أنّ المصادر المزيد فيها،بل المصادر المجردة والأفعال جميعاً،خارجة عن محل النزاع،لأنّها غير جارية على الذوات.

أمّا المصادر،فلأ نّها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجاً فلا تقبل الحمل عليها.

وأمّا الأفعال،فلأ نّها وضعت للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال،فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى الذات، والفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة،وفعل الأمر يدل على طلب تلك النسبة،ومن المعلوم أنّ معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات.

[دلالة الفعل على الزمان]

ثمّ إنّ المشهور بين النحويين دلالة الأفعال على الزمان وقالوا:إنّ الفعل الماضي يدل على تحقق المبدأ في الزمن السابق على التكلم،والمضارع يدل على تحققه في الزمن المستقبل أو الحال،وصيغة الأمر تدل على الطلب في الزمان الحال،ومن هنا قد زادوا في حدّ الفعل الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة،دون الاسم والحرف.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 267)


ولكن الصحيح عدم دلالته على الزمان،والوجه في ذلك:هو أنّ كون الزمان جزءاً لمدلول الأفعال باطل يقيناً،لأنّها لا تدل عليه لا مادة ولا هيئة، أمّا بحسب المادة فظاهر،لأنّها لا تدل إلّاعلى نفس الطبيعة المهملة غير مأخوذة فيها أيّة خصوصية فضلاً عن الزمان،وأمّا بحسب الهيئة،فقد تقدّم أنّ مفادها نسبة المادة إلى الذات على نحو من أنحاء النسبة،فالزمان أجنبي عن مفاد الفعل مادة وهيئة.

والحاصل:أنّ احتمال كون الزمان جزءاً لمدلول الفعل فاسد في نفسه، والقائلون بدلالته على الزمان لم يريدوا ذلك يقيناً.

وأمّا احتمال كون الزمان قيداً لمداليل الأفعال بأن يكون معنى الفعل مقيداً به على نحو يكون القيد خارجاً عنه والتقيد به داخلاً،فهو وإن كان أمراً ممكناً في نفسه،إلّاأ نّه غير واقع،وذلك لأنّ دلالة الأفعال عليه لا بدّ أن تستند إلى أحد أمرين:إمّا إلى وضع المادة أو إلى وضع الهيئة،ومن الواضح أنّ المادة وضعت للدلالة على نفس طبيعي الحدث اللّا بشرط،والهيئة وضعت للدلالة على تلبّس الذات به بنحو من أنحائه كما عرفت،وشيء منهما لا يدل عليه.

وممّا يدلّنا على ذلك:ما نرى من صحّة إسناد الأفعال إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات الخالية عن الزمان والخارجة عن دائرته من دون لحاظ عناية في البين،فلا فرق بين قولنا (علم اللّٰه) و (علم زيد) و (أراد اللّٰه) و (أراد زيد) و (مضى الزمان) و (مضى الأمر الفلاني) فالفعل في جميع هذه الأمثلة استعمل في معنى واحد وعلى نسق فارد،فلو كان الزمان مأخوذاً فيه قيداً لم يصح إسناده إلى نفس الزمان بلا لحاظ تجريد،فانّ الزمان لا يقع في الزمان وإلّا لدار أو تسلسل،وكذا لم يصح إسناده إلى ما فوق الزمان من المجردات،إذ أفعالها لا تقع في الزمان لأنّها غير محدودة بحد،وما كان في الزمان محدود بحد

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 268)


لا محالة.وبهذا يستكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الزمان غير مأخوذ في الفعل لا جزءاً ولا قيداً.

نعم،الفعل المسند إلى الزماني وإن كان يدل على وقوع الحدث في أحد الأزمنة الثلاثة،إلّاأ نّه ليس من جهة الوضع،بل من جهة أنّ الأمر الزماني لا بدّ وأن يقع في أحد الأزمنة.

فتحصّل: أنّ الأفعال لا تدل على الزمان وأنّ استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة،ولا فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه واستعمالها في الزماني، فالإسناد في الجميع اسناد حقيقي.

ولكن مع هذا كلّه يمتاز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما،ولأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ويكون الاستعمال غلطاً واضحاً.

وتفصيل ذلك: أنّ الخصوصية في الفعل الماضي هي أ نّه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمان التكلم،وهذه الدلالة موجودة في جميع موارد استعمالاته،سواء أكان الإسناد إلى نفس الزمن وما فوقه أم إلى الزماني،فقولنا:مضى الزمان،يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق الزمن قبل زمن التكلم،وإن كان الزمان لا يقع في ضمن الزمان،وكذا قولنا:علم اللّٰه وأراد اللّٰه وما شاكل ذلك،يدل على أنّ المتكلم قاصد للإخبار عن تحقق المادة وتلبس الذات بها قبل زمن التكلم،وإن كان صدور الفعل ممّا هو فوق الزمان لا يقع في زمان،وكذلك إذا اسند الفعل إلى الزماني كقولنا:قام زيد وضرب عمرو،فانّه يدل على قصد المتكلم الإخبار عن تحقق المبدأ وتلبّس الذات به قبل حال التكلم،فهذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 269)


نعم،بين الإسناد إلى الزماني والإسناد إلى غيره فرق من ناحية اخرى، وهي أنّ الاسناد إلى الزماني يدل بالالتزام على وقوع الحدث في الزمان الماضي.

فهذه الدلالة وإن كانت موجودة إلّاأ نّها غير مستندة إلى أخذ الزمان في الموضوع له،بل من جهة أنّ صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلم يستلزم وقوعه في الزمان الماضي لا محالة.

وأمّا الخصوصية في الفعل المضارع،فهي أ نّه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المادة في زمن التكلم أو ما بعده،ولا يدل على وقوعها في الحال أو الاستقبال،كيف فانّ دلالته على ذلك في جميع موارد إسناده على حد سواء،فلا فرق بين إسناده إلى الزمن وما فوقه،كقولنا (يمضي الزمان) و (يريد اللّٰه) و (يعلم اللّٰه) وبين إسناده إلى الزماني،غاية الأمر إذا اسند إلى الزماني يدل على وقوع المبدأ في الزمن الحال أو الاستقبال بالالتزام،من جهة أنّ الفاعل الزماني يقع فعله في الزمن لا محالة،وإلّا فالمضارع بوضعه لا يدل إلّاعلى تحقق المبدأ حال تحقق التكلم أو ما بعده من دون أن يدل على وقوعه في الزمان.

وقد تحصّل من ذلك أمران:

الأوّل: أنّ الأفعال جميعاً لاتدل على الزمان لابنحو الجزئية ولا بنحو القيدية، لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية.نعم،إنّها تدل عليه بالدلالة الالتزامية إذا كان الفاعل أمراً زمانياً،وهذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع، بل هي مستندة إلى خصوصية الاسناد إلى الزماني،ولذا هذه الدلالة موجودة في الجمل الإسمية أيضاً إذا كان المسند إليه فيها زمانياً،فإذا قيل:زيد قائم،فهو يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدأ وتلبس الذات به في الخارج بالمطابقة،وعلى وقوعه في أحد الأزمنة الثلاثة بالالتزام.

الثاني: أن كلاً من الفعل الماضي والمضارع يدل على خصوصية بها يمتاز

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 270)


أحدهما عن الآخر،وتلك الخصوصية مأخوذة في المعنى على نحو التقييد، فيكون معنى الفعل الماضي تحقق المادة مقيداً بكونه قبل زمن التلفظ بنحو دخول التقيد وخروج القيد،ومعنى المضارع تحقق المادة مقيداً بكونه في زمن التكلم أو فيما بعده.هذا كلّه فيما إذا كان الفعل مطلقاً فيدل على تحقق المادة ونسبتها إلى الذات قبل زمن التكلم أو مقارناً معه أو متأخراً عنه.ولكن قد يقيد بالسبق واللحوق أو التقارن بالاضافة إلى شيء آخر غير التكلم،إذن لا يكون الماضي ماضياً حقيقة والمستقبل مستقبلاً كذلك،وإنّما يكون ماضياً أو مستقبلاً بالاضافة إلى شيء آخر،كما في قولنا:جاءني زيد قبل سنة وهو يضرب غلامه،فاللحوق أو التقارن إنّما يلاحظ في هذا المثال بالقياس إلى شيء آخر وهو المجيء لا زمن التلفظ،و [ قولنا:] يجيء زيد في شهر كذا وقد ضرب عمراً قبله بأيام،فالسبق هنا إنّما يلاحظ بالإضافة إلى شيء آخر وهو مجيء زيد،لا زمن التكلم.

وعلى الجملة:لا ريب في صحّة استعمال الماضي والمضارع في هذه الموارد في اللغة العربية وغيرها.

فقد ظهر: أنّ الملاك في صحّة استعمال الماضي جامع السبق،سواء كان بالإضافة إلى زمن التكلم أم كان بالإضافة إلى شيء آخر،وإن كان الظاهر عند الإطلاق خصوص الأوّل،والملاك في صحّة استعمال المضارع جامع التقارن أو اللحوق،وإن كان الظاهر عند الاطلاق خصوص التقارن أو اللحوق بالإضافة إلى زمن التكلم.

[الأمر الثالث:أقسام موادّ المشتقات و مبادئها]

الأمر الثالث: أنّ مواد المشتقات ومبادءها تنقسم إلى أقسام:

منها: ما يكون من قبيل الأفعال الخارجية كالقيام والقعود والركوع والسجود والتكلم والمشي وما شاكل ذلك،ويكون الانقضاء فيها برفع اليد عن تلك

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 271)


الأفعال ولو آناً ما.

ومنها: ما يكون من قبيل الملكة والقوّة والاستعداد كما في المجتهد والمهندس والمفتاح والمكنسة وما شاكل ذلك،والانقضاء فيها لا يكون إلّابزوال القوّة والملكة والاستعداد،فما دامت قوّة الاستنباط موجودة في المجتهد أو استعداد الفتح موجوداً في المفتاح مثلاً فالتلبّس فعلي وغير زائل.نعم،إذا زالت الملكة عن شخص مثلاً كان صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة داخلاً في محل الكلام.

ومنها: ما يكون من قبيل الحرفة والصنعة كما في الخيّاط والبنّاء والبزّاز والحدّاد والنسّاج والتمّار ونحو ذلك،ويكون التلبّس بها بأخذ تلك المبادئ حرفة أو صنعة له،فالبنّاء مثلاً هو من اتّخذ البناء حرفة له،والانقضاء في مثل ذلك إنّما يكون بترك هذه الحرفة،فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها فالتلبّس فعلي وإن لم يشتغل بالبناء فعلاً،ففعلية التلبّس بتلك المبادئ تدور مدار اتخاذها شغلاً وكسباً،وانتسابها إلى الذات،سواء كان ذلك الانتساب انتساباً حقيقياً كما في الخياط والنسّاج وما شاكلهما،أم كان انتساباً تبعياً كما في البقال والبزّاز والتامر واللابن والحدّاد وأمثالها،لأنّ موادها ومبادءها من أسماء الأعيان، ومن المعلوم أ نّها غير قابلة للانتساب إلى الذات حقيقة،فلا محالة يكون انتسابها إليها بتبع اتخاذ الفعل المتعلق بها حرفة وشغلاً،فمن اتّخذ بيع التمر شغلاً له صار التمر مربوطاً به تبعاً،ومن اتّخذ بيع اللبن شغلاً صار اللبن مربوطاً به وهكذا.

ثمّ إنّ كون التلبّس بالمادة على نحو القوّة والاستعداد،قد يكون من جهة أنّ المادة موضوعة لذلك كما في الاجتهاد ونحوه،وقد يكون من جهة استفادة ذلك من الهيئة كما في المكنس والمفتاح،فانّ المادة فيهما وهي الفتح والكنس ظاهرة في الفعلية،لا في القابلية والاستعداد،ولكن الهيئة فيهما موضوعة لافادة تلبس

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 272)


الذات بها شأناً واستعداداً،فالمفتاح والمكنس موضوعان لما من شأنه الفتح والكنس لا للمتلبس بالفتح أو الكنس فعلاً.

ومن هنا يصدق لفظ المفتاح حقيقة على كل ما فيه قابلية للفتح ولو لم يقع الفتح به خارجاً،فما دامت القابلية موجودة فالتلبّس فعلي،ويكون الانقضاء فيها بزوال القابلية عنه ولو بانكسار بعض أسنانه،فبناءً على القول بكون المشتق موضوعاً للمعنى الجامع بين الذات المنقضية عنه المبدأ والمتلبسة به فعلاً،يصدق عليه أ نّه مفتاح على نحو الحقيقة.وعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبس به فعلاً لا يصدق عليه إلّامجازاً.

وممّا ذكرناه يستبين أنّ اختلاف المواد في المشتقات لا دخل له في محل البحث أصلاً،فانّ النزاع إنّما هو في وضع الهيئات للمشتقات،وأ نّها موضوعة للمعنى الجامع أو للحصّة الخاصة منه،بلا نظر إلى وضع موادها،وأ نّها ظاهرة في الفعلية أو في القابلية والملكة أو الحرفة والصنعة،ففي جميع ذلك يجري النزاع،غاية الأمر أنّ الانقضاء في كل مورد بحسبه.ومن هنا كان اختلاف المواد من هذه الناحية موجباً لاختلاف زمن التلبّس طولاً وقصراً كما عرفت.

[دخول اسم الآلة و اسم المفعول في محل النزاع]

وبذلك يظهر فساد ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من خروج أسماء الآلة وأسماء المفعولين عن محل النزاع تبعاً لصاحب الفصول (قدس سره) 2بتقريب أنّ الهيئة في أسماء الآلة كما عرفت قد وضعت للدلالة على القابلية والاستعداد،وهذا الصدق حقيقي وإن لم يتلبس الذات بالمبدأ فعلاً.وأمّا أسماء المفعولين،فلأنّ الهيئة فيها وضعت لأن تدل على وقوع المبدأ على الذات،وهذا المعنى ممّا لا يعقل فيه الانقضاء،لأنّ ما وقع على الذات كيف يعقل انقضاؤه


 

1) أجود التقريرات 1:123-124.
2) الفصول:60.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 273)


عنها،ضرورة أنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه،والمفروض أنّ الضرب قد وقع عليها،فدائماً يصدق أ نّها ممّن وقع عليه الضرب،إذن لا يفرق في صدق المشتق بين حال التلبس والانقضاء،ففي كلا الحالين على نسق واحد بلا عناية في البين،بل لا يتصور فيه الانقضاء كما مرّ.

وجه الظهور: أنّ الهيئة في الآلة إذا دلّت على قابلية الذات للاتصاف بالمادة شأناً،فما دامت القابلية موجودة كان التلبّس فعلياً وإن لم تخرج المادة عن القابلية إلى الفعلية أصلاً،فالمفتاح يصدق على ما من شأنه الفتح وإن لم يتلبس به أبداً،وعليه فانقضاء التلبّس إنّما يكون بسقوطها عن القابلية،كما لو انكسر بعض أسنانه مثلاً،ومعه كان الصدق على نحو الحقيقة بناءً على الأعم،وعلى نحو المجاز بناءً على الوضع لخصوص المتلبس.

فما أفاده (قدس سره) مبتنٍ على الخلط بين شأنية الاتصاف بالمبدأ وفعليته به،وتخيّل أنّ المعتبر في التلبّس إنّما هو التلبّس بالفعل بالمبدأ.

وأمّا أسماء المفعولين،فلأن ما ذكره (قدس سره) في وجه خروجها عن محل النزاع عجيب،والوجه في ذلك:هو أ نّه لو تمّ ما ذكره لجرى ذلك في أسماء الفاعلين أيضاً،فانّ الهيئة فيها موضوعة لأن تدل على صدور الفعل عن الفاعل، ومن المعلوم أ نّه لا يتصور انقضاء الصدور عمّن صدر عنه الفعل خارجاً،لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه،والمبدأ الواحد كالضرب مثلاً لا يتفاوت حاله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول،غاية الأمر أنّ قيامه بأحدهما قيام صدوري وبالآخر قيام وقوعي.

وحل ذلك: أنّ أسماء المفعولين كأسماء الفاعلين وضعت للمفاهيم الكلية،لما تقدّم منّا من أنّ الألفاظ وضعت بازاء المعاني التي هي قابلة للانطباق على ما في الخارج تارة،وعلى ما في الذهن اخرى،لا بازاء الموجودات الخارجية،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 274)


لأ نّها غير قابلة لأن تحضر في الأذهان،ومن هنا قد يكون للموضوع له مطابق في الخارج وقد لا يكون له مطابق فيه،فالمضروب مثلاً قد يكون موجوداً وقد يكون معدوماً،وهكذا الحال في سائر الألفاظ،فالنزاع هنا في أنّ اسم الفاعل أو اسم المفعول موضوع لمعنى لا ينطبق إلّاعلى خصوص المتلبس أو للأعم منه ومن المنقضي.

وعلى الجملة: لا نجد فرقاً بين اسم الفاعل والمفعول،فكما أنّ النزاع يجري في هيئة اسم الفاعل وأ نّها وضعت لمفهوم كان مطابقه في الخارج فرداً واحداً وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً،أو فردين أحدهما المتلبس والآخر المنقضي، فكذلك يجري في هيئة اسم المفعول وأ نّها وضعت لمعنى كان مطابقه في الخارج فرداً واحداً أو فردين،مثلاً لو فرض أنّ زيداً كان عالماً بقيام عمرو ثمّ زال عنه العلم به،فكما أنّ النزاع جارٍ في صحّة إطلاق العالم على زيد وعدم صحّة إطلاقه إلّامجازاً،فكذلك النزاع جارٍ في صحّة إطلاق المعلوم على قيام عمرو وعدم صحّة إطلاقه عليه إلّاعلى نحو المجاز،ضرورة أ نّه لا فرق بين الهيئتين هنا أصلاً،فانّ المبدأ في كلتيهما واحد،والمفروض أنّ ذلك المبدأ قد زال، وبزواله كان إطلاق العالم على زيد وإطلاق المعلوم على قيام عمرو من الإطلاق على المنقضي عنه المبدأ لا محالة.

[الأمر الرابع:المراد بالحال المأخوذ في عنوان البحث]

الأمر الرابع: أنّ المراد من (الحال) المأخوذ في عنوان المسألة ليس زمن النطق يقيناً،ضرورة عدم دلالة الأوصاف المشتقة عليه،ولا على غيره من الماضي أو المستقبل،لا بنحو الجزئية ولا بنحو القيدية،فحالها من هذه الجهة كحال أسماء الأجناس،فكما أ نّها لا تدل على زمان خاص،فكذلك تلك.ومن هنا لا تجوّز في قولنا:زيد كان قائماً بالأمس أو زيد سيكون ضارباً ونحو ذلك،كما أ نّه لا تجوّز في قولنا:زيد كان انساناً أو سيكون تراباً إلى غير ذلك،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 275)


فلو كان زمن النطق داخلاً في مفهومها لزم التجوّز في هذه الأمثلة لا محالة، وكذا لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة أيضاً،وذلك لأنّ تلك الأوصاف كما تستند إلى الزمانيات،كذلك تستند إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه من المجردات،مع أ نّه لايعقل أن يكون للزمان زمان،وكذا للمجرّدات،والاسناد في الجميع على نسق واحد،ولو كان خصوص زمان أو أحد الأزمنة داخلاً في مفهومها لكان إسنادها إلى نفس الزمان وما فوقه محتاجاً إلى لحاظ عناية وتجريد.

نعم،إذا اسندت إلى الزمانيات تدل على أنّ تلبس الذات بالمبدأ واقع في أحد الأزمنة،وهذا لا من جهة أنّ الزمان مأخوذ في مفهومها جزءاً أو قيداً، بل من جهة أنّ قيام الفعل بالفاعل الزماني لا يكون إلّافي الزمان،فوقوعه في أحد الأزمنة ممّا لا بدّ منه.

ومن هنا يظهر أنّ المراد من الحال ليس زمن النطق والتكلم ولا أحد الأزمنة الثلاثة،بل المراد منه فعلية تلبس الذات بالمبدأ،إذن مرجع النزاع إلى سعة المفاهيم الاشتقاقية وضيقها،بمعنى أنّ المشتقات هل هي موضوعة للمفاهيم التي مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدأ،أو الأعم من ذلك ومن حال الانقضاء،فبناءً على القول بالأعم كانت مفاهيمها قابلة للانطباق خارجاً على فردين:هما المتلبس فعلاً والمنقضي عنه المبدأ.وعلى القول بالأخص كانت مفاهيمها غير قابلة للانطباق إلّاعلى فرد واحد،وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً.

وأمّا ما يقال: من أنّ الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها على شيء هو فعلية تلبس الذات بالمبدأ حين النطق والتكلم،فانّ الظاهر من قولنا:زيد قائم كونه كذلك بالفعل وفي زمان النطق،فلا معنى للنزاع في كون المشتق موضوعاً

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 276)


للأعم أو للأخص،بعد التسالم على أنّ المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها هو فهم العرف،والمفروض أنّ المتفاهم عندهم من الإطلاق والحمل هو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً حين التكلم، فهو وإن كان صحيحاً بالاضافة إلى الاستظهار من الاطلاق،إلّاأ نّه لا يستلزم بطلان النزاع في المقام،فانّ الظهور من جهة الإطلاق يختص بموارد الحمل وما بحكمه،ولا يعم جميع الموارد، كما إذا قيل:لا تكرم الفاسق أو لا تهن العالم ونحو ذلك،فيقع البحث في أنّ موضوع الحكم هو خصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم منه ومن المنقضي.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ المراد بالحال هو فعلية التلبّس بالمبدأ لا حال النطق، ولذا صحّ إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبّس وإن لم يكن ذلك زمان النطق.

[الأمر الخامس:الأصل العملي في المسألة]

الأمر الخامس: ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أ نّه لا أصل في المقام ليعوّل عليه عند الشك في تعيين الموضوع له وأ نّه المعنى الوسيع أو المعنى الضيّق،بعد عدم تمامية الأدلة على تعيين الوضع لأحدهما،بتقريب أنّ أصالة عدم ملاحظة الواضع الخصوصية في الموضوع له عند وضعه،معارضة بأصالة عدم ملاحظته العموم والإطلاق فيه،لأنّ المفاهيم في حد مفهوميتها متباينات، فإذا دار الأمر بين الوضع لمفهوم عام أو لمفهوم خاص،فكما يحتمل لحاظ الأوّل عند الوضع،فكذلك يحتمل لحاظ الثاني،وحيث إنّ كل واحد من اللحاظين حادث مسبوق بالعدم،فجريان الأصل في أحدهما معارض بجريانه في الآخر.هذا مضافاً إلى عدم جريانه في نفسه،لأنّ أصالة عدم لحاظ الخصوصية لا تثبت الوضع للأعم إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت،وكذا العكس.

وعليه فتنتهي النوبة إلى الاُصول الحكمية.


 

1) كفاية الاُصول:45.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 277)


وذكر في الكفاية 1أنّ هذه الاُصول تختلف باختلاف الموارد،فالموارد التي يشك فيها في حدوث الحكم بعد زوال العنوان الذي اخذ في الموضوع يرجع فيها إلى أصالة البراءة،كما إذا فرضنا أنّ زيداً كان عالماً ثمّ زال عنه العلم،وبعد ذلك ورد في الدليل:أكرم كل عالم،فشككنا في وجوب إكرام زيد لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم.وأمّا الموارد التي يشك فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته،فالمرجع فيها هو الاستصحاب،وذلك كما لو كان زيد عالماً وأمر المولى بوجوب إكرام كل عالم ثمّ بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلاً،فلا محالة نشك في بقاء الحكم لاحتمال كون المشتق موضوعاً للأعم،إذن نستصحب بقاءه.

لا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) أوّلاً من أ نّه لا أصل هنا ليعوّل عليه عند الشك في الوضع للمفهوم الوسيع أو الضيّق فهو صحيح،لما عرفت.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) ثانياً من أ نّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام وهو أصالة البراءة في موارد الشك في الحدوث،والاستصحاب في موارد الشك في البقاء،فلا يمكن المساعدة عليه،وذلك لأنّه لا فرق بين موارد الشك في الحدوث وموارد الشك في البقاء،ففي كلا الموردين كان المرجع هو أصالة البراءة دون الاستصحاب.

أمّا في موارد الشك في حدوث التكليف فالأمر واضح.

وأمّا في موارد الشك في البقاء فبناءً على ما سلكناه في باب الاستصحاب 2من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافاً للمشهور فالأمر أيضاً واضح،


 

1) كفاية الاُصول:45.
2) مصباح الاُصول 3:42.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 278)


فانّ الاستصحاب فيها دائماً معارض باستصحاب عدم سعة المجعول،وبالتعارض يتساقط الاستصحابان لا محالة.

وأمّا على المسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، فالاستصحاب لا يجري في المقام أيضاً،وذلك لاختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم فيه متعيناً ومعلوماً من حيث السعة والضيق،وكان الشك متمحضاً في سعة الحكم المجعول وضيقه،كما لو شككنا في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال،فالمرجع فيه هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل،أو لو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره،أو في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً بناءً على نجاسة الماء القليل بالملاقاة،فالمرجع في جميع ذلك هو استصحاب بقاء الحكم،وبه يثبت سعته.

وأمّا فيما لا يتعين مفهوم اللفظ ومعناه،وهو المعبّر عنه بالشبهة المفهومية، فلا يجري الاستصحاب فيه،لا حكماً ولا موضوعاً.

أمّا الأوّل: فلما ذكرناه في بحث الإستصحاب 1من اعتبار وحدة القضيّة المتيقنة مع المشكوك فيها موضوعاً ومحمولاً في جريان الاستصحاب،ضرورة انّه لا يصدق نقض اليقين بالشك مع اختلاف القضيتين موضوعاً أو محمولا، وحيث إن في موارد الشبهات المفهومية لم يحرز الاتحاد بين القضيتين لا يمكن التمسك بالاستصحاب الحكمي،فإذا شكّ في بقاء وجوب صلاة العصر أو الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس من جهة الشك في مفهوم المغرب وأنّ المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة،فعلى الأوّل كان الموضوع وهو جزء النهار منتفياً،وعلى الثاني كان باقياً،وبما انّا لم نحرز


 

1) مصباح الاُصول 3:271.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 279)


بقاء الموضوع فلم نحرز الاتحاد بين القضيتين،وبدونه لايمكن جريان الاستصحاب.

وأمّا الثاني: وهو استصحاب بقاء الموضوع فلعدم الشك في انقلاب حادث زماني ليحكم ببقاء المتيقن،إذ مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردد مفهومه بين السعة والضيق ليس لنا شك في أمر خارجي،فان استتار القرص عن الاُفق حسّي معلوم لنا بالعيان،وذهاب الحمرة غير متحقق كذلك،فماذا يكون هو المستصحب.

وبعبارة واضحة:أنّ المعتبر في الاستصحاب أمران:اليقين السابق والشك اللّاحق مع اتحاد المتعلق فيهما،وهذا غير متحقق في الشبهات المفهومية،فان كلاً من الاستتار وعدم ذهاب الحمرة متيقن فلا شك،وإنّما الشك في بقاء الحكم،وفي وضع اللفظ لمعنى وسيع أو ضيّق،وقد عرفت أنّ الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم غير جارٍ،لعدم إحراز بقاء الموضوع،وأمّا بالاضافة إلى وضع اللفظ فقد تقدّم أ نّه لا أصل يكون مرجعاً في تعيين السعة أو الضيق.وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه،فانّ الشبهة فيه مفهومية،والموضوع له مردد بين خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي،فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز اتحاد القضيّة المتيقنة مع المشكوكة،وقد مرّ أنّ الاتحاد ممّا لا بدّ منه في جريان الاستصحاب،مثلاً العالم بما له من المعنى موضوع للحكم، وحيث إنّه مردد بين أمرين:المتلبس بالمبدأ والأعم،فالتمسك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشك في بقاء موضوعه،وكذلك لا يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الموضوع،لعدم الشك في شيء خارجاً مع قطع النظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بين الأعم والأخص،وقد عرفت أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب أمران:اليقين السابق والشك اللّاحق مع وحدة متعلقهما في الخارج، والشك في مقامنا غير موجود،فانّ تلبس زيد مثلاً بالمبدأ سابقاً وانقضاء المبدأ

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 280)


عنه فعلاً كلاهما متيقن فلا شك في شيء،وإنّما الشك في وضع المشتق وبقاء الحكم،أمّا بالنسبة إلى وضع المشتق فقد عرفت أ نّه لا أصل يرجع إليه في تعيين مفهوم اللفظ ووضعه سعة أو ضيقاً.

وتوهم جريان الأصل في بقاء الموضوع بوصف موضوعيته فانّه مشكوك فيه،مدفوع بأ نّه عبارة اخرى عن جريان الأصل في بقاء الحكم،وقد عرفت عدم جريانه فيه.

فالنتيجة:أنّ الاستصحاب في الشبهات المفهومية ساقط ولو قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فيما إذا كان الشك في سعة المجعول وضيقه.

وقد أشار شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) في آخر بحث الاستصحاب 1في مسألة اشتراط بقاء الموضوع فيه إلى هذا المعنى،وهو عدم جريان الاستصحاب في موارد الشبهات المفهومية.

فقد أصبحت النتيجة:أنّ المرجع في كلا الموردين هو أصل البراءة.

فما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من الفرق بين الموردين،وأنّ المرجع في المورد الثاني هو الاستصحاب دون البراءة غير صحيح.

[نتائج الأبحاث إلى هنا]

نستنتج ممّا ذكرناه حول المشتق لحدّ الآن عدّة امور:

الأوّل:أنّ محل البحث لا يعم جميع المشتقات بل يخص بعضها ويعم بعض
أصناف الجوامد،

وهو ما كان مفهومه منتزعاً عن أمر خارج عن مقام ذاته.

الثاني:أنّ ملاك دخول شيء في محل البحث أن يكون واجداً لركيزتين:

1- أن يكون قابلاً للحمل على الذات ولا يأبى عنه.


 

1) فرائد الاُصول 2:691.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 281)


2- أن تبقى الذات بعد انقضاء المبدأ عنها،فإذا اجتمعت هاتان الركيزتان في شيء دخل في محل البحث،وإلّا فلا.

الثالث:أنّ محل النزاع هنا يتمحض في وضع هيئات المشتقات وسعة معانيها
وضيقها،

بلا نظر إلى موادها أصلاً،واختلافها لا يوجب الاختلاف في محل البحث كما تقدّم.

الرابع:أنّ الأفعال جميعاً لاتدل على الزمان حسب وضعها.

نعم،إذا اسندت إلى الزماني دلّت على وقوع الحدث في زمنٍ ما،إلّاأنّ هذه الدلالة خارجة عن مداليلها،ومستندة إلى خصوصية اخرى كما سبق.

الخامس:أنّ نقاط الميز بين الأفعال بعد خروج الزمان عن مداليلها هي:أنّ
الفعل الماضي يدل على تحقق الحدث قبل زمن التكلم،

والمضارع يدل على تحقق الحدث في زمن التكلم أو ما بعده،والأمر يدل على الطلب حال التلفظ، فهذه النقاط هي النقاط الرئيسية للفرق بينها،وهي توجب تعنون كل واحد منها بعنوان خاص واسم مخصوص،وتمنع عن صحّة استعمال أحدها في موضع الآخر،وموجودة في جميع موارد استعمالاتها كما مرّ بيانه.

السادس:أنّ المراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة هو فعلية تلبس
الذات بالمبدأ،لا زمان النطق،

كما سبق من أنّ الزمان مطلقاً-سواء كان زمان النطق أم غيره-لم يؤخذ في مفاهيم المشتقات.

السابع:أنّه لا أصل موضوعي يرجع إليه عند الشك في وضع المشتق للأعم
أو الأخص.
الثامن:أنّ الأصل الحكمي في المقام هو البراءة مطلقاً ولو كان للحكم حالة
سابقة.

هذا تمام الكلام في المقدّمات.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 282)


الأقوال في المسألة

قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت، إلّا أ نّها حدثت بين المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين،لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى،أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال،وقد مرت الإشارة إلى أ نّه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده 1.

أقول: الصحيح كما أفاده (قدس سره) وذلك لما عرفت من أنّ مركز البحث والنزاع هنا في وضع هيئة المشتق وفي سعة معناه وضيقه واختلافه من كل من الناحيتين المزبورتين أجنبي عن المركز بالكلية.

[ابتناء النزاع على البساطة و التركب]

ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2في المقام كلام وحاصله:هو أنّ النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً أو للأعم منه مبتنٍ على البساطة والتركب في المفاهيم الاشتقاقية،فعلى القول بالتركب حيث إنّه قد اخذ في مفهوم المشتق انتساب المبدأ إلى الذات،ويكفي في صدق الانتساب التلبّس في الجملة،فلا محالة يكون المشتق موضوعاً للأعم،وعلى القول بالبساطة فمفهوم المشتق ليس إلّانفس المبدأ المأخوذ لا بشرط فهو ملازم لصدق نفس المبدأ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة،ويكون حاله حينئذ حال الجوامد في أنّ المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ،وإن كان بينهما فرق من جهة اخرى، وهي أنّ شيئية الشيء حيث إنّها بصورته لا بمادته،فالمادة لا تتصف بالعنوان أصلاً،ولذا لا يصح استعمالها في المنقضي عنه وما لم يتلبس به بعد ولو مجازاً.


 

1) كفاية الاُصول:45.
2) أجود التقريرات 1:110 وما بعدها.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 283)


وهذا بخلاف المشتقات،فانّ المتصف بالعناوين الاشتقاقية هي الذوات وهي باقية بعد الانقضاء وزوال التلبّس فيصحّ الاستعمال مجازاً،وحيث إنّ المختار عندنا القول ببساطة المفاهيم الاشتقاقية،فيتعين أنّ الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً،هذا.

ثمّ عدل (قدس سره) عن هذه الملازمة،أي استلزام القول بالتركب الوضع للأعم،واستلزام القول بالبساطة الوضع للأخص وقال:الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس مطلقاً سواء قلنا بالبساطة أم بالتركب،وأفاد في وجه ذلك ما ملخّصه:

أمّا على البساطة، فلأنّ الركن الوطيد على هذا القول هو نفس المبدأ،غاية الأمر أ نّه ملحوظ على نحو لا بشرط،ومعه لا يأبى عن الحمل على الذات ولا يكون مبايناً لها في الوجود الخارجي،فالصدق حينئذ متقوّم بالمبدأ وجوداً وعدماً،فإذا انعدم فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلّابالعناية،بل قال:

إنّ العناوين الاشتقاقية من هذه الجهة أسوأ حالاً من العناوين الذاتية،فانّ العناوين الذاتية وإن كانت فعليتها بفعلية صورها والمادة غير متصفة بالعنوان أصلاً،إلّاأ نّها موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه،ومن هنا يكون الاستعمال فيها قبل الاتصاف وبعد انقضائه غلطاً،لأنّ العلائق المذكورة في محلّها من الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان كلّها مختصة بباب المشتقات.وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية،فانّها عين مبادئها،وهي بسيطة سواء كانت المبادئ من إحدى المقولات أم كانت من غيرها،وغير مركبة من صورة ومادة،فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلية،ولا يبقى منها شيء أبداً.

وتوهم: أ نّه لابدّ على هذا أن لا يصح استعمال العنوان الاشتقاقي في المنقضي عنه وما لم يتلبس بعد ولو مجازاً بطريق أولى،لأنّه أسوأ حالاً من العنوان

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 284)


الذاتي،والمفروض كما عرفت عدم جواز استعماله فيهما مطلقاً، مدفوع بأ نّه وإن كان أسوأ حالاً منه،إلّاأنّ المتصف بالعناوين الاشتقاقية حين الاتصاف هي الذوات،وحيث إنّها موجودة قبل الاتصاف وبعده،فيصحّ الاستعمال بعلاقة الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان،فبقاء الموصوف فيها هو المصحح لجواز الاستعمال وإن لم يؤخذ في المعنى.

وهذا بخلاف العناوين الذاتية،فانّها كما عرفت عناوين لنفس الصور دون المادة،فالمادة لاتتصف بها في حال من الأحوال،مثلاً إنسانية الانسان بصورتها النوعية والمادة المشتركة لا تتصف بالانسانية أبداً،ولا يصدق عليها عنوانها، وتلك المادة وإن كانت موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه،إلّاأ نّها لا تتصف بالانسانية في حال،ولذا لا يصحّ الاستعمال في المنقضي وما لم يتلبس بعد حتّى مجازاً،لعدم تحقق شيء من العلائق المزبورة.

فقد أصبحت النتيجة أنّ البراهين القائمة على البساطة تدل بالملازمة على وضع المشتق لخصوص المتلبس فعلاً،دون الأعم.

وأمّا على التركب، فلأنّ الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقية لا تكون مطلق الذات،بل خصوص ذات متلبسة بالمبدأ ومتصفة بصفة ما على أنحائها المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما،ومن الواضح أ نّه لا جامع بين الذات الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها،فانّ مفهوم المشتق على القول بالتركب مركب من الذات والمبدأ وليس مركباً من المبدأ والنسبة الناقصة،ليكون المفهوم مركباً من مفهوم اسمي وحرفي،وإلّا لم يصح حمله على الذات أبداً،ولم يصح استعماله إلّافي ضمن تركيب كلامي،مع أنّ الأمر ليس كذلك،لصحّة الحمل على الذات،وصحّة الاستعمال منفرداً،بل هو كما عرفت مركب من الذات والمبدأ،غاية الأمر أنّ المفهوم على هذا متضمن لمعنى حرفي كأسماء الاشارة

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 285)


والضمائر ونحوهما،ومن هنا قلنا إنّه بناءً على التركب فالذات هي الركن الوطيد، ولكنها لم تؤخذ مطلقة،بل المأخوذ هو حصّة خاصة منها وهي الذات المتلبسة بالمبدأ والمتلونة بهذا اللون فعلاً،ولا يكون جامع بينها وبين الذات المنقضية عنها المبدأ،ليصدق عليهما صدق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه.

أو فقل: إنّ وضع المشتق للأعم يتوقف على تصوير جامع بين المنقضي والمتلبس في الواقع ومقام الثبوت،ولمّا لم يعقل وجود جامع بينهما ثبوتاً،فلا مجال لدعوى كون المشتق موضوعاً للأعم إثباتاً.

نعم،لو كان الزمان مأخوذاً في مدلول المشتق بأن يقال إنّه وضع للدلالة على المتلبس في زمنٍ ما،وهو صادق على المتلبس في الحال وفي الماضي وجامع بينهما،لأمكن أن يدعى بأ نّه موضوع للجامع بين الفردين.ولكن قد تقدّم أنّ الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه لا جزءاً ولا قيداً ولا خاصّاً ولا عامّاً،بل لو قلنا بأخذ النسبة الناقصة في مداليلها فهي لم توضع إلّاللمتلبس، وذلك لأنّ النسبة الناقصة هنا حالها حال سائر النسب التقييدية والاضافات، وهي لاتصدق إلّافي موارد التلبّس الفعلي،ومن الظاهر أ نّه لا جامع بين النسبة في حال التلبّس والنسبة في حال الانقضاء،ليكون المشتق موضوعاً بازاء ذلك الجامع.

تلخّص على ضوء ما بيّناه:أنّ المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلاً على كلا القولين،ولا مجال حينئذ للنزاع في مقام الإثبات أبداً،فانّه متفرع على إمكان تصوير الجامع في مقام الثبوت،وقد عرفت عدم إمكانه.

وغير خفي أ نّه يمكن تصوير الجامع على القول بالتركب بأحد الوجهين:

الأوّل: أن يقال إنّ الجامع بين المتلبس والمنقضي اتصاف الذات بالمبدأ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتصف به بعد،فانّ الذات في الخارج على قسمين:

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 286)


قسم منها لم يتلبس بالمبدأ بعد وهو خارج عن المقسم.

وقسم منها متصف به،ولكنّه اعم من أن يكون الاتصاف باقياً حين الجري والنسبة أم لم يكن باقياً،وهو جامع بين المتلبس والمنقضي،وصادق عليهما صدق الطبيعي على أفراده،فالموضوع له على القول بالأعم هو صرف وجود الاتصاف العاري عن أيّة خصوصية،كما هو شأن الجامع والمقسم في كل مورد،وهو كما ينطبق على الفرد المتلبس حقيقة،كذلك ينطبق على الفرد المنقضي،فان هذا المعنى موجود في كلا الفردين.

أو فقل:إنّ الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود،فانّ المبدأ كما خرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبس،كذلك خرج في موارد الانقضاء، فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده وبقائه جامع بين الفردين، وخصوصية البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد،وهما خارجتان عن المعنى الموضوع له.

الثاني: أ نّا لو سلّمنا أنّ الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن،إلّاأ نّه يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما،نظير ما ذكرناه في بحث الصحيح والأعم من تصوير الجامع الانتزاعي بين الأركان.ولا ملزم هنا لأن يكون الجامع ذاتياً،لعدم مقتضٍ له،إذ في مقام الوضع يكفي الجامع الانتزاعي،لأنّ الحاجة التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بازائه،وهو لا يستدعي أزيد من تصوير معنى ما،سواء كان المعنى من الماهيات الحقيقية أم من الماهيات الاعتبارية،أم من العناوين الانتزاعية.إذن للواضع في المقام أن يتصور المتلبس بالمبدأ فعلاً ويتصور المنقضي عنه المبدأ،ثمّ يتعهد على نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم أحدهما يجعل مبرزه هيئة ما من الهيئات الاشتقاقية على سبيل الوضع العام والموضوع له العام أو الخاص.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 287)


فالنتيجة:أنّ تصوير الجامع على القول بالأعم بأحد هذين الوجهين بمكان من الامكان.

وعلى هذا الضوء يظهر أنّ للنزاع في مقام الاثبات مجالاً واسعاً.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أ نّه على البساطة لا يتصور الجامع بين المتلبس والمنقضي والواجد والفاقد،فالأمر كما أفاده لو كان مفهوم المشتق بعينه هو مفهوم المبدأ،وكان الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ-أي اعتباره لا بشرط وبشرط لا-إذ حينئذ كان الركن الوطيد هو المبدأ،فإذا زال زال العنوان الاشتقاقي لا محالة،إلّاأنّ هذا القول باطل،فان مفهوم المشتق كما سيأتي بيانه ليس بسيطاً،وعلى تقدير أ نّه كان بسيطاً فلا يكون عين مفهوم المبدأ،بل هو مباين له،هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

[أدلة وضع المشتق لخصوص المتلبس]

وأمّا الكلام في مقام الاثبات،فلا ينبغي الشك في أنّ المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلاً،ويدل على ذلك امور:

الأوّل:أنّ المتبادر من المشتقات والمرتكز منها عند أذهان العرف والعقلاء
خصوص المتلبس لا الأعم،

وهذا المعنى وجداني لكل أهل لغة بالقياس إلى لغته،فهم يفهمون من المشتقات عند إطلاقاتها واستعمالاتها المتلبس بالمبدأ فعلاً،ولاتصدق عندهم إلّامع فعلية التلبس والاتصاف،وصدقها على المنقضي عنه المبدأ وإن أمكن،إلّاأ نّه خلاف المتفاهم عرفاً،فلا يصار إليه بلا قرينة.

وهذا التبادر والارتكاز غير مختص بلغة دون اخرى،لما ذكرناه غير مرّة أنّ الهيئات في جميع اللغات وضعت لمعنى واحد على اختلافها باختلاف اللغات، مثلاً هيئة ضارب في لغة العرب وضعت لعين المعنى الذي وضعت هيئة (زننده) في لغة الفرس له وهكذا.ومن هنا يفهم من تبادر عنده من كلمة (زننده) خصوص المتلبس أنّ كلمة ضارب أيضاً كذلك.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 288)


نعم،تختلف المواد باختلاف اللغات،فيختص التبادر فيها بأهل كل لغة،فلا يتبادر من لفظ العجمي للعربي شيء وبالعكس،نظراً إلى اختصاص الوضع بأهله،وهذا هو السر في رجوع أهل كل لغة في فهم معنى لغة اخرى إلى أهلها وتبادره عنده،فالعجمي يرجع في فهم اللغة العربية إلى العرب،وهكذا بالعكس، وهذا بخلاف الهيئات،فانّها على اختلاف اللغات مشتركة في معنى واحد، فالهيئات الاشتقاقية بشتّى أنواعها وأشكالها وضعت لمعنى واحد وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً.

ثمّ إنّ هذا التبادر لا يختص بالجمل التامة،ليقال إنّ منشأه ظهور الحمل في التلبس الفعلي،بل إنّ حال هيئة المشتق حال هيئة المركبات التقييدية كالاضافة والتوصيف،فكما أنّ المتبادر عند أهل العرف من تلك المركبات فعلية النسبة والقيد،ولا تصدق خارجاً إلّامع فعلية الاتصاف،فكذلك المتبادر عندهم من المشتقات ذلك.فهذا التبادر يكشف كشفاً قطعياً عن الوضع لخصوص المتلبس، لأ نّه غير مستند إلى القرينة على الفرض،ولا إلى كثرة الاستعمال،ضرورة أنّ العرف حسب ارتكازهم يفهمون من المشتقات المتلبس من دون ملاحظة الكثرة وحصول الاُنس منها،فالنتيجة:دعوى أنّ هذا التبادر مستند إلى كثرة الاستعمال دون الوضع دعوى جزافية.

الثاني:صحّة سلب المشتق عمّن انقضى عنه المبدأ،

فيقال زيد ليس بعالم بل هو جاهل،وهي أمارة أنّ المشتق مجاز فيه وإلّا لم يصحّ السلب عنه.

وقد يورد عليه: أنّ المراد من صحّة السلب إن كان صحّة السلب مطلقاً فغير صحيح،ضرورة صحّة حمل المشتق على المنقضي عنه المبدأ بمعناه الجامع.

وإن كان مقيداً فغير مفيد،لأنّ علامة المجاز صحّة سلب المطلق دون المقيد.

ولا يخفى أنّ هذا صحيح فيما إذا تردد المفهوم العرفي للفظ بين السعة والضيق

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 289)


ولم يعلم أ نّه موضوع للمعنى الموسّع أو المضيق كلفظ العمى مثلاً لو تردد مفهومه عرفاً ودار بين أن يكون مطلق عدم الابصار ولو من جهة أ نّه لا عين له كبعض أقسام الحيوانات،وبين خصوص عدم الابصار مع وجود عين له ومع شأنية الابصار،ولم يثبت أ نّه موضوع للثاني،لم يمكن إثبات أ نّه وضع للمعنى الثاني بصحّة السلب.

وذلك لأنّه إن اريد بصحّة السلب صحّة سلب العمى عما لا عين له بالمعنى المطلق فهو غير صحيح،بداهة صحّة حمله عليه بهذا المعنى.وإن اريد بها صحّة سلبه عنه بالمعنى الثاني-عدم الابصار مع شأنيته-فهو وإن كان صحيحاً إلّا أ نّه لايثبت أنّ العمى لم يوضع للأعم،لأن سلب الأخص لا يلازم سلب الأعم، وقد ثبت في المنطق أنّ نقيض الأخص أعم من نقيض الأعم،فسلب الأوّل حيث إنّه أعم لا يستلزم سلب الثاني.إلّاأنّ ذلك لا يتم في محل كلامنا،وذلك لما تقدّم من أنّ المتبادر عرفاً من المشتق خصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً،وهو آية الحقيقة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:إذا صحّ سلب المشتق بما له من المفهوم العرفي عن المنقضي عنه المبدأ،فهو كاشف عن عدم وضعه للجامع، وإلّا لم يصح سلبه عن مصداقه وفرده في حين من الأحيان،فإذا صحّ سلب المشتق بمفهومه العرفي عمّن انقضى عنه المبدأ،ثبت أ نّه موضوع للمتلبس.

نعم،مع قطع النظر عن التبادر لا يمكن إثبات أنّ المشتق موضوع للمتلبس بصحّة سلبه عن المنقضي كما عرفت.

الثالث:لا ريب في تضاد مبادئ المشتقات عرفاً بما لها من المعاني الثابتة في
الأذهان المرتكزة في النفوس،

كالقيام والقعود،والحركة والسكون،والسواد والبياض والعلم والجهل وما شاكلها،ضرورة أنّ اثنين منها لا يجتمعان في الصدق في آن واحد،وعليه فطبعاً تكون العناوين الاشتقاقية المنتزعة عن

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 290)


اتصاف الذات بها متضادة،ومن هنا يرى العرف التضاد بين عنوان العالم والجاهل، والأسود والأبيض،والمتحرك والساكن…وهكذا،وهو بنفسه يدل على أنّ المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم،وإلّا لم يكن بينها مضادة عرفاً بما لها من المعاني،بل كان مخالفة،وأمكن صدق عنوانين منها معاً على الذات في زمن واحد فيما إذا كان التلبّس بأحدهما فعلياً وبالأخير منقضياً،فيجتمعان في الصدق في آنٍ واحد،فلا مضادة.

وبتعبير آخر:أنّ المشتق لو كان موضوعاً للأعم لم يلزم اجتماع الضدّين عند صدق عنوانين على الذات حقيقة،بل يصح أن يقال عرفاً:هذا أسود وأبيض، أو عالم وجاهل في آن واحد،مع أنّ الأمر ليس كذلك،ضرورة أنّ هذا من اجتماع الضدّين حقيقة،كما أنّ قولنا:هذا سواد وبياض،أو علم وجهل،كذلك.

نعم،لو كان الصدق مختلفاً في الزمان،بأن كان صدق أحدهما في زمان وضدّه الآخر في زمان آخر،أو لم يكن الإطلاق في كلا الحملين حقيقياً،بل كان في أحدهما بالحقيقة،وفي الآخر بالعناية فلا تضاد،إذ المعتبر في تحقق التضاد أو التناقض في أي مورد كان وحدة الزمان مع اعتبار بقية الوحدات،ومع الاختلاف فيه أو في غيره من الوحدات،أو لم يكن الإطلاق في كليهما على نحو الحقيقة،ينتفي التضاد.

فالنتيجة: أنّ ارتكاز التضاد بين العناوين بما لها من المعاني قرينة عرفية على الوضع للمتلبس.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه من الأدلة على الوضع لخصوص المتلبس لا يختص بهيئة دون اخرى،وبلغة دون ثانية،بل يجري في الجميع،ولا أثر لاختلاف المبادئ في ذلك،كما أ نّه لا أثر لاختلاف الطوارئ والحالات،وهذا واضح.

وعليه فما ذكره القوم من التفصيلات باعتبار اختلاف الطوارئ والحالات

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 291)


تارة،وباعتبار اختلاف المبادئ تارة اخرى،لا يرجع إلى معنىً محصل.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه: أ نّه لا مناص من الالتزام بوضع المشتق لخصوص المتلبس.

وممّا يؤيد ما ذكرناه من الإختصاص:أنّ الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) لم يلتزموا بترتيب الآثار في موارد الانقضاء،ومن هنا لم يحكموا بوجوب الانفاق على الزوجة بعد انقضاء الزوجية عنها بطلاق أو نحوه،وكذا بجواز النظر إليها.

أدلّة القول بالأعم

وقد استدلّ على القول بالأعم بأنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في موارد التلبس،فيقال:هذا قاتل زيد وذاك مضروب عمرو…

وهكذا.فلو كان المشتق موضوعاً للمتلبس لزمه أن تكون هذه الاستعمالات وما شاكلها استعمالات مجازية،وهذه بعيدة في نفسها.مع أ نّها تنافي حكمة الوضع التي دعت إلى وضع الألفاظ لغرض التفهيم،فانّ الاستعمال في موارد الانقضاء إذا كان أكثر،فالحاجة تدعو إلى الوضع بازاء الجامع دون خصوص المتلبس.

ويردّه أوّلاً: أنّ ذلك مجرد استبعاد،ولا مانع من أن يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي مع القرينة،ولا محذور في ذلك أبداً،كيف فان باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي، ومن هنا تستعمل التشبيه والكناية والاستعارة والمبالغة التي هي من أقسام المجاز في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم،والسر في كثرة الاستعمال في المعاني المجازية أنّ استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له حيث إنّه يجوز بأدنى مناسبة فلا محالة يتكثر بتكثر المناسبات على

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 292)


حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها،ومن ثمّ لا يكون لذلك ضابط كلّي،فقد يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي،وقد يكون بالعكس،وقد يكون لمعنى واحد حقيقي معانٍ متعددة مجازية،بل ربّما تزداد المعاني المجازية بمرور الزمن.

وثانياً: أنّ استعمال المشتق في موارد الانقضاء وإن كان كثيراً ولا شبهة فيه،إلّاأ نّه لم يعلم أنّ هذه الاستعمالات بلحاظ حال الانقضاء،بل الظاهر أ نّها كانت بلحاظ حال التلبس،ولا إشكال في أنّ هذه الاستعمالات على هذا حقيقة، فانّها استعمالات في المتلبس واقعاً،فاطلاق (ضارب عمرو) على زيد باعتبار زمان تلبسه به لا باعتبار اتصافه به فعلاً…وهكذا.إذن فلا صغرى للكبرى المذكورة،وهي أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي لا تلائم حكمة الوضع، فانّه لا مجاز على هذا ليكون الاستعمال فيه أكثر.

والنتيجة:أنّ الاستعمالات التي جاءت في كلمات الفصحاء في موارد الانقضاء ليس شيء منها بلحاظ حال الانقضاء،بل إنّ جميعها بلحاظ حال التلبّس فتكون حقيقة لا مجازاً.

ثمّ إنّ استعمال المشتق في المنقضي بلحاظ حال الانقضاء وإن كان محتملاً في القضايا الخارجية في الجملة،إلّاأ نّه في القضايا الحقيقية غير محتمل،فانّ الاستعمال فيها دائماً في المتلبس دون المنقضي،بل لا يعقل فيها حال الانقضاء، وهذا كما في قوله تعالى: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» 1وقوله تعالى: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» 2فانّ المقصود منهما أنّ


 

1) النور 24:2.
2) المائدة 5:38.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 293)


كل شخص فرض متلبساً بالزنا أو السرقة فهو محكوم عليه بجلده أو بقطع يده،فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في المتلبس،وهو تمام الموضوع للحكم المذكور فيهما،وقد ذكرناه غير مرّة أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية لا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الخارج،ومن هنا ترجع كل قضية حقيقية إلى قضيّة شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له،فالموضوع في الآيتين كل إنسان فرض متلبساً بالزنا أو السرقة في الخارج،فعنوان الزاني أو السارق مستعمل في من تلبس بالمبدأ،غاية ما في الباب أنّ زمان القطع والجلد متأخر في الخارج عن زمن التلبّس بأحد المبدأين المزبورين،فانّهما يتوقفان على ثبوت التلبّس بأحدهما عند الحاكم بأحد الطرق المعتبرة كالبيّنة أو نحوها.

فقد تحصّل: أنّ الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقية غير معقول،بل يكون الاستعمال دائماً في المتلبس.

وعلى هذا الضوء يظهر فساد ما ذكره بعضهم من أنّ المشتق في الآيتين وما شاكلهما استعمل في من انقضى عنه المبدأ،وفي ذلك دلالة على أنّ المشتق وضع للأعم،كما أ نّه يظهر بذلك أ نّه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1في مقام الجواب عن هذا الاستدلال من أنّ الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس دون الانقضاء،وذلك لما عرفت من أنّ حالة الانقضاء في أمثال المقام لاتتصوّر،ليكون الاستعمال بلحاظ حال التبس دونها،وهذا نظير قولك:الجنب أو الحائض يجب عليهما الغسل،فانّ المراد بالجنب أو الحائض هو كل إنسان فرض متلبساً بالجنابة أو الحيض خارجاً فهو محكوم عليه بالغسل،فعنوان


 

1) كفاية الاُصول:50.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 294)


الجنب أو الحائض قد استعمل في من تلبس بالمبدأ ولا يتصور فيه الانقضاء، غاية الأمر أنّ الامتثال يقع متأخراً عن زمان الوجوب كما كان هو الحال في الآيتين.

فالنتيجة قد أصبحت أ نّه لا وجه للاستدلال على الوضع للأعم بالآيتين المزبورتين.

وقد استدلّ ثانياً على القول بالأعم بما استدلّ الإمام (عليه السلام) بقوله تعالى: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ» 1على عدم لياقة من عبد الأصنام للخلافة ولو بعد دخوله في الإسلام 2،وتقريب الإستدلال به أنّ المشتق لو كان موضوعاً لخصوص المتلبس لم يتم استدلال الإمام (عليه السلام) بالآية المباركة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهٰية،لأنّهم في زمن دعواهم لمنصب الخلافة كانوا متشرّفين بقبول الاسلام،وغير متلبسين بالظلم وعبادة الوثن ظاهراً،وإنّما كان تلبسهم به قبل التشرف بالاسلام وفي زمن الجاهلية، فالاستدلال بالآية لا يتم إلّاعلى القول بالوضع للأعم،ليصدق عليهم عنوان الظالم فعلاً فيندرجوا تحت الآية.

ولا يخفى أنّ النزاع كما عرفت لا يتأتى في الآية المباركة،فانّها من القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود،فانّ فعلية الحكم فيها تابعة لفعلية موضوعه،ولا يعقل تخلف الحكم عنه،فانّه كتخلف المعلول عن علّته التامة.

نعم،يجري النزاع في القضايا الخارجية التي يكون الموضوع فيها أمراً موجوداً خارجياً،فانّه يمكن أن يؤخذ الحكم فيها باعتبار خصوص المتلبس،أو الأعم


 

1) البقرة 2:124.
2) البرهان في تفسير القرآن 1:321.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 295)


منه ومن المنقضي عنه المبدأ،فالترديد في استعمال المشتق في المتلبس أو الأعم إنّما يتأتى في القضايا الخارجية دون القضايا الحقيقية،مثلاً عنوان العالم في قولنا:يجب إكرام العالم،يستعمل في من تلبس بالمبدأ أبداً،سواء تحقق التلبّس في الخارج أم لم يتحقق،فانّه قد فرض فيه وجود شخص متلبس بالعلم وحكم بوجوب إكرامه ولا نعقل الانقضاء فيه ليتنازع في عموم الوضع له.

وعلى هذا الضوء يظهر أنّ استدلال الإمام (عليه السلام) بالآية المباركة على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة غير مبتن على كون المشتق موضوعاً للأعم،ليصدق على من انقضى عنه المبدأ حقيقة،بل هو مبتن على نزاع آخر أجنبي عن نزاع المشتق،وهو أنّ العناوين التي تؤخذ في موضوعات الأحكام ومتعلقاتها في القضايا الحقيقية هل تدور الأحكام مدارها حدوثاً وبقاءً،أم تدور مدار حدوثها فقط ؟

والصحيح أنّ الأحكام المترتبة على تلك العناوين تختلف حسب اختلاف الموارد ومقتضياتها،ففي غالب الموارد تدور مدارها حدوثاً وبقاءً،وهذا هو المتفاهم منها عرفاً،فإذا ورد النهي عن الصلاة خلف الفاسق،يفهم منه عرفاً أنّ عدم جواز الاقتداء به يدور مدار فسقه حدوثاً وبقاءً،فلو انتفى عنه الفسق فلا محالة ينتفي الحكم المترتب عليه أيضاً.

وفي بعض الموارد لا يدور بقاء الحكم مدار بقاء عنوان موضوعه،بل يبقى بعد زوال العنوان أيضاً،فالعنوان وإن كان دخيلاً في حدوث الحكم إلّاأ نّه لا دخل له في بقائه-ويعبّر عنه بأنّ حدوثه علّة محدثة ومبقية-وهذا كما في آيتي الزنا والسرقة،فان وجوب القطع والجلدة يحدثان عند حدوث التلبّس بهذين المبدأين،ولكنهما لا يدوران مدار بقاء العنوان أصلاً،ولا دخل لهذا بوضع المشتق للأعم أو للأخص.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 296)


وبتعبير واضح:أنّ العناوين التي تؤخذ في القضايا على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن تلاحظ معرّفة إلى الأفراد ومشيرة إليها من دون كونها دخيلة في الحكم أصلاً،وهذا يتفق في القضايا الخارجية،فانّ العناوين التي تؤخذ فيها قد تلاحظ معرفة إلى الأفراد،فيقال:صلّ خلف ابن زيد،فعنوان ابن زيد قد اخذ معرّفاً إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.

الثاني: تلاحظ دخيلة في الحكم،بمعنى أنّ الحكم يدور مدارها حدوثاً وبقاءً، وهذا هو الظاهر عرفاً من العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية،فقوله عزّ من قائل «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ» 1ظاهر في أنّ وجوب السؤال يدور مدار صدق هذا العنوان وجوداً وعدماً.

الثالث: تلاحظ دخيلة في الحكم حدوثاً لا بقاءً،بمعنى أنّ بقاء الحكم لا يدور مدار بقاء العنوان،فيكون حدوث العنوان علّة محدثة ومبقية معاً، فعناوين القضايا الحقيقية لا تخلو عن القسمين الأخيرين وإن كان القسم الأوّل منهما هو الغالب والكثير فيها،ومن ثمّ لم نجد لحدّ الآن مورداً يكون العنوان في القضيّة الحقيقية لوحظ معرّفاً إلى ما هو الموضوع في الواقع بلا دخل له في الحكم.

وعلى ضوء معرفة هذا يقع الكلام في أنّ عنوان الظالم المأخوذ في موضوع الآية المباركة هل لوحظ دخيلاً في الحكم على النحو الأوّل أو على النحو الثاني؟ فالاستدلال بالآية الكريمة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة إلى الأبد مبتن على أن يكون دخله على النحو الثاني دون الأوّل.


 

1) الأنبياء 21:7.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 297)


ولا يخفى أنّ الارتكاز الناشئ من مناسبة الحكم والموضوع يستدعي أنّ التلبّس بهذا العنوان آناً ما كافٍ لعدم نيل العهد والخلافة أبداً.

والوجه فيه:أنّ جبّلة الناس على أنّ المتقمص لمنصب الخلافة والإمامة التي هي أعظم منصب إلهٰي بعد الرسالة،لا بدّ أن يكون مثالاً سامياً للمجتمع في سيرته وأخلاقه،ومعرّاً عن أيّة منقصة خَلقية وخُلقية،وقدوة للناس وقائداً مثالياً لهم،فلو أنّ أحداً اعتاد شرب الخمر والزنا أو اللواط في زمان ثمّ ترك وتاب،وبعد ذلك ادّعى منصب الخلافة من اللّٰه تعالى لم تقبل دعواه،لأجل أنّ الناس لا يرونه قابلاً لأن يتصدى هذا المنصب الإلهٰي،بل يعتقدون أنّ اللّٰه تعالى لا يجعله خليفة لهم،فانّ الخليفة هو ممثّل من قبله تعالى،والممثّل من قبله لا بدّ أن يكون مثالاً روحياً للبشر،ومربياً لهم في سيرته وداعياً إلى اللّٰه تعالى بأخلاقه وأعماله،ليكون أثره أثراً طيباً وسامياً في النفوس.وهذا كنبينا محمّد (صلّى اللّٰه عليه وآله) وأوصيائه الأطيبين (عليهم السلام) وليس معنى هذا اعتبار العصمة قبل الخلافة،ليقال إنّها لا تعتبر قبلها،بل من جهة أنّ الخلافة لعلوّ شأنها وجلالة قدرها ومكانتها لا بدّ أن يكون المتصدي لها مثالاً أعلى للمجتمع الإنساني،في علوّ الشأن وجلالة القدر والمكانة،فمن عبد الوثن في زمن معتد به كيف يكون أهلاً لذلك،وكيف يجعله اللّٰه تعالى ممثّلاً وهادياً للاُمّة، والحال أ نّه كغيره من أفراد الاُمّة،ولا امتياز له عن البقية في شيء.وهذا ممّا تستدعيه مناسبة الحكم والموضوع.

ويؤكده أمران آخران أيضاً:

الأوّل: نفس إطلاق الحكم في الآية المباركة،فانّ الإتيان بصيغة المضارع وهي كلمة «لاٰ يَنٰالُ» بلا تقييدها بوقت خاص،يدل على عدم اختصاص الحكم بزمن دون زمن،وأ نّه ثابت أبداً لمن تلبس بالظلم ولو آناً ما.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 298)


الثاني: قد ورد في عدّة من الروايات 1النهي عن الصلاة خلف المحدود والمجذوم والأبرص وولد الزنا والأعرابي،فتدل على أنّ المتلبس بأحد هذه العناوين لايليق أن يتصدى هذا المنصب الكبير،لعدم المناسبة بينهما.وبالأولوية القطعية تدل على أنّ المتلبس بالظلم وعبادة الوثن أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسي الخلافة،لعلو المنصب وعظم المعصية،بل إنّ المحدود بالحد الشرعي في زمان ما لا يليق للمنصب المزبور إلى الأبد وإن تاب بعد ذلك وصار من الأتقياء الخيار.

[ثمرة النزاع في المشتق]

فقد أصبحت نتيجة ما ذكرناه حول الآية المباركة:أنّ الاستدلال بها على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة أبداً لا يبتني على النزاع في وضع المشتق للأعم أو للمتلبس بالمبدأ.

بل ومن مطاوي ما ذكرناه يستبين أ نّه لا تترتب ثمرة على النزاع في وضع المشتق أصلاً،بيان ذلك:أنّ الظاهر من العناوين الاشتقاقية المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلقاتها بنحو القضايا الحقيقية،هو أنّ فعلية الأحكام تدور مدار فعليتها حدوثاً وبقاءً،وبزوالها تزول لا محالة.وإن قلنا بأنّ المشتق موضوع للأعم،فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتية.

نعم،قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجية أنّ حدوث العنوان


 

1) منها:حسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال«قال أمير المؤمنين(عليه السلام):لايصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا،والأعرابي لايؤمّ المهاجرين»[ الوسائل 8:/325أبواب صلاة الجماعة ب 15 ح 6 ]. ومنها:صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)«أ نّه قال:خمسة لا يؤمّون الناس ولا يصلّون بهم صلاة فريضة في جماعة:الأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي حتّى يهاجر،والمحدود»[ الوسائل 8:/324أبواب صلاة الجماعة ب 15 ح 3 ]،وما شاكلهما من الروايات.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 299)


علّة محدثة ومبقية معاً كما تقدّم.

وكيف ما كان،فلا أثر للقول بأنّ المشتق وضع للأعم أو للأخص،إذ على كلا التقديرين كانت الأحكام في فعليتها تابعة لفعلية العناوين المأخوذة في موضوعاتها،وبانقضائها وزوال التلبّس عنها تنقضي بتاتاً.

ومن هنا لم يلتزم الفقهاء بترتب أحكام الحائض والنفساء والمستحاضة والزوجة وما شاكلها بعد انقضاء المبدأ عنها،حتّى على القول بكون المشتق موضوعاً للأعم،بل لم يحتمل ابتناء هذه المسائل وما شابهها على النزاع في مسألة المشتق،فتصبح المسألة بلا ثمرة مهمّة.

وما نسبه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1إلى الفخر الرازي غير صحيح، من أ نّه اعترف بدلالة الآية الشريفة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهٰية أبداً،لأنّهم كانوا عابدين للوثن في زمان معتد به،وفي ذلك الزمان شملهم قوله تعالى: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ» فدلّت على عدم اللياقة إلى الأبد 2.


 

1) أجود التقريرات 1:121.
2) وإليك نص كلامه: المسألة الرابعة:الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر من ثلاثة أوجه: الأوّل:أنّ أبا بكر وعمر كانا كافرين،فقد كانا حال كفرهما ظالمين،فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أ نّهما لا ينالان عهد الإمامة البتّة،وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت أ نّهما لا ينالان عهد الإمامة البتّة ولا في شيء من الأوقات،ثبت أ نّهما لا يصلحان للإمامة. الثاني:أنّ مَن كان مذنباً في الباطن كان من الظالمين،فإذن ما لم يعرف أنّ أبا بكر وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهراً وباطناً وجب أن لا يحكم بإمامتهما،وذلك إنّما يثبت في حق من تثبت عصمته،ولمّا لم يكونا معصومين بالاتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتّة. الثالث:قالوا كانا مشركين،وكل مشرك ظالم،والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهما عهد الإمامة،أمّا أ نّهما كانا مشركين فبالاتفاق،وأمّا أنّ المشرك ظالم فلقوله تعالى «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» و أمّا أنّ الظالم لايناله عهد الإمامة فبهذه الآية. لا يقال:إنّهما كانا ظالمين حال كفرهما،فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم. لأنّا نقول:الظالم من وجد منه الظلم،وقولنا وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد منه الظلم في الماضي أو في الحال،بدليل أنّ هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين،ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين،وما كان مشتركاً بين القسمين لا يلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين،فلا يلزم من نفي كونه ظالماً في الحال نفي كونه ظالماً. والذي يدل عليه نظراً إلى الدلائل الشرعية:أنّ النائم يسمى مؤمناً،والإيمان هو التصديق،والتصديق غير حاصل حال كونه نائماً،فدلّ على أ نّه يسمى مؤمناً لأنّ الإيمان كان حاصلاً قبل،وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالماً لظلم وجد من قبل. وأجاب عنه بقوله:كل ما ذكرتموه معارض بما أ نّه لو حلف لا يسلّم على كافر فسلّم على إنسان مؤمن في الحال إلّاأ نّه كان كافراً قبل بسنين متطاولة،فانّه لايحنث،فدلّ على ما قلناه ولأنّ التائب عن الكفر لايسمّى كافراً،والتائب عن المعصية لايسمّى عاصياً،انتهى كلامه،تفسير الرازي 4:45-46. وغير خفي:أنّ ما ذكره من الجواب عن دلالة الآية أجنبي عنها بالكلية،بل هما في طرفي النقيض،وذلك لأنّ دلالة الآية المباركة على الحكم المذكور مبنية على وجوه ثلاثة: الأوّل:مناسبة الحكم والموضوع،فانّها تقتضي بقاء الحكم أبداً. الثاني:الاتيان بصيغة المضارع وهي كلمة«لا ينال»وعدم توقيتها بوقت خاص،فهي على هذا تدل على بقاء الحكم واستمرارها حتّى بعد زوال التلبس. الثالث:ما ورد من نظائره في الشريعة المقدسة،فانّه يدل على أنّ بقاء هذا الحكم في الآية المباركة وعدم زواله بزوال المبدأ أولى.ومن الواضح أنّ شيئاً من هذه الوجوه الثلاثة لا تجري فيما ذكره من الجواب،بل المتفاهم العرفي كما عرفت من الأمثلة التي ذكرها هو أنّ الحكم يدور مدار العنوان حدوثاً وبقاءً على عكس المتفاهم من الآية الكريمة. على أنّ النذر تابع لقصد الناذر في الكيفية والكمّية،وأجنبي عن دلالة اللفظ وظهوره في شيء.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 300)


Pages: 1 2 3 4 5 6
Pages ( 3 of 6 ): «12 3 4 ... 6»