فهرست

پرش به محتوا

آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱

جلد

1

فهرست

فهرست

صفحه اصلی کتابخانه محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ صفحه 4

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 301)


ونستنتج ممّا ذكرناه حول القولين في وضع المشتق عدّة امور:

الأوّل:أنّ الوضع للمتلبس أو الأعم غير مبتنٍ على القول بالبساطة والتركيب في المفاهيم الاشتقاقية.

الثاني:أنّ تصوير الجامع على كلا القولين:البساطة والتركيب ممكن بأحد الوجهين المتقدمين.

الثالث:أنّ المشتق موضوع للمتلبس دون الأعم،وذلك بوجوه:1-التبادر.

2-صحّة السلب بالتقريب المتقدم.3-ارتكاز التضاد بين المشتقين المتضادين في المبدأ.

الرابع:أنّ قوله عزّ من قائل: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ» دلّ على عدم لياقة عبدة الأوثان للخلافة الإلهٰية أبداً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 302)


الخامس:أ نّه لا ثمرة تترتب على النزاع في وضع المشتق.

هل المشتق بسيط أم مركّب ؟

إنّ المفاهيم الاشتقاقية هل هي بسيطة أو أ نّها مركبة ؟ قولان في المسألة:

[معنى البساطة و التركب]

المشهور بين المتأخرين هو بساطتها،منهم السيِّد الشريف 1والمحقق الدواني(2) (قدس سره) وخالف فيه جماعة،منهم صاحب شرح المطالع(3) فذهب إلى التركيب،حيث قال في مقام تعريف الفكر:بأ نّه ترتيب امور معلومة لتحصيل أمر مجهول.

وأورد عليه: بأ نّه يصح تعريف الشيء بالخاصّة وبالفصل وحده،ولا يجب أن يكون التعريف دوماً بالحد أو بالرسم التام،بل كما يمكن أن يكون به يمكن أن يكون بالحد أو الرسم الناقص،فيقال:الإنسان ضاحك أو ناطق،وعليه فلايكون تعريف الفكر بهذا تعريفاً جامعاً لخروج تعريف الشيء بالحد أو الرسم الناقص عنه،لعدم ترتيب امور معلومة فيه،بل التعريف حينئذ بأمر واحد.

وأجاب عنه: بأنّ الخاصة أو الفصل وإن كانت في بداية الأمر وبالنظر السطحي أمراً واحداً،إلّاأ نّها في الواقع وبالنظر الدقي تنحل إلى أمرين:ذاتٍ ومبدأ،فالناطق ينحل إلى ذاتٍ ونطق،وكذا الضاحك،فلا يكون هنا ترتيب أمرٍ واحد،بل ترتيب امور معلومة عند النفس لتحصيل شيء مجهول.

وأشكل عليه المحقق الشريف في الهامش:بأ نّه لايمكن أخذ الشيء في مفهوم المشتق،وذلك لأنّ المأخوذ فيه إن كان مفهوم الشيء فيلزم دخول العرض العام في الفصل وهو محال،وإن كان مصداقه فيلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى


 

1) ،(2)،(3) شرح المطالع:11.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 303)


الضرورية،مثلاً جملة الانسان ضاحك قضيّة ممكنة،فإذا انحلت إلى قولنا:

الإنسان انسان له الضحك،صارت قضيّة ضرورية،لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وهو خلف.

ومن مجموع ذلك يستبين أنّ مركز النزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل والواقع،لا بحسب الإدراك والتصور،وذلك لأنّ البساطة الإدراكية تجتمع مع تركب المفهوم حقيقةً،ضرورة أنّ المتفاهم في مرحلة التصور من كل لفظ مفرد عند الاطلاق معنىً بسيط،سواء أكان في الواقع أيضاً بسيطاً،أم كان مركباً،وهذا بلا فرق بين المشتقات وغيرها من الألفاظ.إذن لا معنى لأن يجعل مركز البحث البساطة والتركيب بحسب التصور والادراك،ومن هنا سلّم شارح المطالع البساطة اللحاظية،إلّاأ نّه قال:بحسب التحليل ينحل إلى شيئين:

ذاتٍ متصفةٍ بالمبدأ.

وممّا يؤكّد ذلك: تصدّي المحقق الشريف لاقامة البرهان على البساطة:بأنّ الالتزام بالتركيب يستلزم أحد المحذورين المتقدمين،وظاهر أنّ إثبات البساطة اللحاظية لايحتاج إلى مؤونة استدلال واقامة برهان،فانّ المرجع الوحيد لاثباتها فهم أهل العرف أو اللغة،ولا إشكال في أ نّهم يفهمون من المشتق معنىً واحداً كما يفهمون من غيره من الألفاظ المفردة ذلك.

ومن الغريب ما صدر عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) حيث قال ما لفظه هذا:ارشاد،لا يخفى أنّ معنى البساطة-بحسب المفهوم-وحدته إدراكاً وتصوراً بحيث لايتصور عند تصوره إلّاشيء واحد لا شيئان،وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين،كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما.وبالجملة لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم كما لا يخفى،وإلى ذلك يرجع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 304)


الاجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد،مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتاً، فالعقل بالتعمل يحلّل النوع ويفصّله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمراً واحداً إدراكاً،وشيئاً فارداً تصوراً،فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق 1.

وجه الغرابة:هو ما عرفت من أنّ ما يصلح لأن يكون مورد البحث والنزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل العقلي،لا بحسب الإدراك والتصور، ضرورة أنّ البساطة اللحاظية لاتصلح لأن تكون محوراً للبحث ومركزاً لتصادم الأدلة والبراهين العقلية،بل لا تقع تحت أيّ بحث علمي كما لا يخفى.وقد أشرنا آنفاً أنّ المرجع في إثباتها فهم العرف،لأنّ واقعها انطباع صورة علمية واحدة في مرآة الذهن،سواء أكانت قابلة للانحلال في الواقع-كمفهوم الإنسان ونحوه – أم لم تكن.فمناط البساطة اللحاظية وحدة المفهوم إدراكاً،بل وحدة المفهوم في مرحلة التصور في كل مفهوم ومدلول للفظ واحد ممّا لم يقع لأحدٍ فيه شك وريب.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بالنتيجة من القائلين بالتركيب لا البساطة.

وكيف كان،فالمشهور بين الفلاسفة والمتأخرين من الاُصوليين منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2بساطة المفاهيم الاشتقاقية،وقد أصرّوا على أ نّه لا فرق بينها وبين المبادئ حقيقةً وذاتاً،وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار ولحاظ الشيء مرّةً لا بشرط،وبشرط لا مرّة اخرى،خلافاً لجماعة منهم شيخنا المحقق


 

1) كفاية الاُصول:54-55.
2) أجود التقريرات 1:97.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 305)


(قدس سره) 1وصاحب شرح المطالع 2فذهبوا إلى التركيب.

ويجب علينا أوّلاً تحقيق الأمر في أنّ المفاهيم الاشتقاقية بسيطة أو مركّبة ؟ ثمّ على تقدير التركيب فهل هي مركبة من مفهوم الشيء والمبدأ أو من واقعه ؟

[الاستدلال على التركب]

فنقول: الصحيح هو أ نّها مركبة لا بسيطة،وتركّبها إنّما هو لأخذ مفهوم الشيء فيها،فلنا دعويان:

الاُولى:أنّ مفاهيم المشتقات مركبة وغير بسيطة.

الثانية:أ نّها مركبة من مفهوم الشيء،لا من مصداقه.

وأمّا دعوى أ نّها مركبة من المبدأ ومصداق الشيء والذات فهي باطلة جزماً، وذلك لاستلزامها أن يكون المشتق من متكثر المعنى،فانّ الذوات متباينة بالضرورة،فإذا قلنا:زيد قائم،والجدار قائم،والصلاة قائمة فالذات المأخوذة في كل واحدة من هذه الجمل مباينة للذات المأخوذة في غيرها،فإذا كان المأخوذ في مفهوم المشتق هو واقع الذات لتكثر مفهوم القائم لا محالة،فلا مناص من أن يكون الوضع عاماً والموضوع له خاصّاً،وهذا مخالف للفهم العرفي يقيناً، وقد قدّمنا سابقاً 3أنّ المشتقات كالجوامد وضعت لمعنى عام،فيكون الموضوع له فيها كالوضع عاماً،فلا تكون من متكثر المعنى،كما أنّ الجوامد لم تكن معانيها متكثرة.

وعليه فالأمر دائر بين بساطة المفاهيم الاشتقاقية،وأخذ مفهوم الشيء


 

1) نهاية الدراية 1:216 وما بعدها.
2) شرح المطالع:11.
3) في ص 263 ولاحظ ص 91 أيضاً.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 306)


فيها،والصحيح هو الثاني.وقبل التكلم في ذلك ينبغي لنا بيان ما هو المراد من الذات المأخوذة في المشتقات ؟

فنقول: المراد منها ذات مبهمة في غاية الإبهام،ومعرّاة عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها،فهي لمكان إبهامها واندماجها قابلة للحمل على الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد،بل هي مبهمة من جهة أ نّها عين المبدأ أو غيره،ومن هنا يصدق المشتق على الجوهر والعرض والأمر الاعتباري والانتزاعي والزمان،وما فوقه من الواجب تعالى وغيره على وتيرةٍ واحدة،من دون لحاظ عناية في شيء منها،فهي كالموصولات في جهة الابهام فكما أ نّها مبهمة من جميع الجهات إلّامن ناحية صلتها،ولذا سميت بالمبهمات، فكذلك هذه.

ومن هنا يصحّ التعبير عنها ب‍«ما»و«من»الموصولتين،أو بكلمة«الذي» على اختلاف الموضوعات،باعتبار كونها من ذوي العقول أو من غيرها،فإذا قيل«العالم»فلا يراد منه إلّامن ثبت له صفة العلم،وإذا قيل«الماشي»فلا يراد منه إلّامن له صفة المشي،أو ما له صفة المشي وهكذا…

إذا عرفت هذا فأقول:يدل على تركب المعنى الاشتقاقي بالمعنى الذي أوضحناه:

الوجدان والبرهان.

أمّا الوجدان: فلأجل أنّ المتبادر عرفاً من المشتق عند إطلاقه هو الذات المتلبسة بالمبدأ على نحو الابهام والاندماج،مثلاً عند إطلاق لفظ«ضارب» تمثّل في النفس ذات مبهمة متلبسة بالضرب،وهكذا…وهذا المعنى وجداني لا ريب فيه.

وأمّا البرهان: فلما سنذكره من أ نّه لا يمكن تصحيح حمل المشتق على الذات إلّا بأخذ مفهوم الشيء فيه،لأنّ المبدأ مغاير معها ذاتاً وعيناً،ولا يمكن تصحيح

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 307)


حمله عليها بوجه،لمكان المغايرة بينهما حقيقةً وخارجاً.ومجرّد اعتباره لا بشرط لا يوجب اتحاده معها،ولا يقلبه عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة،لأنّ المغايرة لم تكن اعتبارية لتنتفي باعتبار آخر على ما سيأتي بيانه تفصيلاً.

[ما استدل به على البساطة]

ومع هذا،قد استدلّ القائلون بالبساطة بوجوه:

الأوّل: ما عن المحقق الشريف 1من أنّ الذات لو كانت مأخوذةً في المشتقات فلا يخلو الحال إمّا أن يكون الملحوظ حال الوضع مفهوم الذات أو مصداقها.

فان كان الأوّل،لزم دخول العرض العام في الفصل كالناطق مثلاً وهو محال، لأنّ الشيء عرض عام فيستحيل أن يكون مقوّماً للجوهر النوعي،لأنّ مقوّمه ذاتي له،والعرض العام خارج عنه.

وإن كان الثاني،لزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية،فانّ جملة:

الإنسان ضاحك،قضيّة ممكنة،إذ الضحك بما له من المعنى ممكن الثبوت للانسان، فلو كان الانسان الذي هو مصداق الشيء مأخوذاً فيه،لكان صدقه على الانسان ضرورياً لا محالة،لأنّه من ثبوت الشيء لنفسه.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (قدس سره) 2وجماعة من الفلاسفة المتأخرين منهم السبزواري في حاشيته على منظومته 3:أنّ الناطق فصل مشهوري، وليس بفصل حقيقي ليكون مقوّماً للجوهر النوعي،وذلك لتعذر معرفة حقائق الأشياء وفصولها الحقيقية،وعدم إمكان وصول أحد إليها ما عدا الباري (عزّ وجلّ) ومن هنا وضعوا مكانه ما هو لازمه وخاصته ليشيروا به إليه، فالناطق ليس بفصل حقيقي للانسان،بل هو فصل مشهوري وضع مكانه.


 

1) هامش شرح المطالع:11.
2) كفاية الاُصول:52.
3) شرح المنظومة (المنطق):35.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 308)


والوجه فيه:هو أنّ النطق المأخوذ في مفهوم الناطق إن اريد به النطق الظاهري الذي هو خاصة من خواص الانسان فهو كيف مسموع،فلا يعقل أن يكون مقوّماً للجوهر النوعي.وإن اريد به الإدراك الباطني-أعني إدراك الكليات-فهو كيف نفساني وعرض من أعراض الانسان أيضاً،فكيف يكون مقوّماً له،فانّ العرض إنّما يعرض الشيء بعد تقوّمه بذاته وذاتياته،وتحصّله بفصله.

وممّا يدل على هذا:أ نّهم جعلوا الناهق فصلاً للحمار،والصاهل فصلاً للفرس، وكلاهما كيف مسموع،فلا يعقل أن يقوّم الجوهر النوعي به.ومن هنا ربّما يجعلون لازمين وخاصتين مكان فصل واحد،فيقولون:الحيوان حساس متحرك بالارادة،فانّ الحساس والمتحرك بالارادة خاصتان للحيوان،وليستا بفصلين له،ضرورة أنّ الشيء الواحد لا يعقل أن يتقوّم بفصلين،فانّ كل فصل مقوّم للنوع وذاتي‌له،فلا يعقل اجتماعهما في شيء واحد.

وعليه فلا يلزم من أخذ الشيء في المشتق دخول العرض العام في الفصل، بل يلزم منه دخوله في الخاصة،ولا محذور فيه،إذ قد يتقيد العرض العام بقيد فيكون خاصّة.

فما أفاده السيِّد الشريف من استلزام أخذ مفهوم الشيء في المفهوم الاشتقاقي دخول العرض في الفصل غير تام بوجه،هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بأنّ الناطق بمعنى التكلم أو إدراك الكلّيات وإن كان من لوازم الانسان وعوارضه،إلّاأ نّه بمعنى صاحب النفس الناطقة فصل حقيقي،فيلزم من أخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتق دخول العرض العام في الفصل 1.


 

1) أجود التقريرات 1:102.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 309)


وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما صدر منه،فان صاحب النفس الناطقة هو الانسان وهو نوع لا فصل.إذن لا مناص من الالتزام بكون الناطق فصلاً مشهورياً وضع مكان الفصل الحقيقي لتعذر معرفته غالباً بل دائماً.

وأغرب منه ما أفاده (قدس سره) من أنّ الشيء ليس من العرض العام في شيء،بل هو جنس الأجناس وجهة مشتركة بين الجميع 1.

وذكر في وجه هذا:أنّ العرض العام ما كان خاصةً للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيز،والشيئية تعرض لكل ماهية من الماهيات وتنطبق عليها،فهي جهة مشتركة بين جميعها،وليس وراءها أمر آخر يكون ذلك الأمر هو الجهة المشتركة وجنس الأجناس لتكون الشيئية عارضة عليه وخاصّة له،كما هو شأن العرض العام.وعلى هذا فاللازم من أخذ مفهوم الشيء في المشتق دخول الجنس في الفصل لا دخول العرض العام فيه.

بل قال (قدس سره) ولم يظهر لنا بعد وجه تعبير المحقق الشريف عنه بالعرض العام وإن ارتضاه كل من تأخر عنه،ومن البيّن كما يستحيل دخول العرض العام في الفصل كذلك يستحيل دخول الجنس فيه،لأن لكل واحد من الجنس والفصل ماهية تباين ماهية الآخر ذاتاً وحدّاً،فلا يكون أحدهما ذاتياً للآخر، فالحيوان ليس ذاتياً للناطق وبالعكس،بل هو لازم أعم بالاضافة إليه وذاك لازم أخص،وعليه فيلزم من دخول الجنس في الفصل انقلاب الفصل إلى النوع وهو محال.

فقد أصبحت النتيجة:أنّ خروج مفهوم الشيء عن مفهوم المشتق أمر ضروري،سواء أقلنا بأنّ الشيء عرض عام أو جنس،وسواء أكان الناطق


 

1) أجود التقريرات 1:102.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 310)


فصلاً حقيقياً أم مشهورياً،فانّ دخول الجنس في اللازم كدخوله في الفصل الحقيقي محال.هذا ملخص ما أفاده (قدس سره).

ولكنّه غريب، فانّ الشيء لا يعقل أن يكون جنساً عالياً للأشياء جميعاً من الواجب والممكن والممتنع،فانّه وإن كان صادقاً على الجميع حتّى على الممتنعات فيقال:اجتماع النقيضين شيء مستحيل،وشريك الباري (عزّ وجلّ) شيء ممتنع وهكذا…إلّاأنّ صدقه ليس صدقاً ذاتياً ليقال إنّه جنس عالٍ له،بداهة استحالة الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة والماهيات المنتزعة والاُمور الاعتبارية،بل لا يعقل الجامع الماهوي بين المقولات المتأصلة بأنفسها.مع أ نّه كيف يعقل أن يكون الشيء جامعاً ماهوياً بين ذاته تعالى وبين غيره.

وعلى الجملة: أنّ صدق مفهوم الشيء على الواجب والممتنع والممكن على نسق واحد،فلا فرق بين أن يقال:اللّٰه شيء،وبين أن يقال:زيد شيء، وشريك الباري شيء،وحيث إنّه لا يعقل أن يكون صدقه على الجميع ذاتياً فلا محالة يكون عرضياً.

فما أفاده (قدس سره) من أنّ الشيء جنس لما تحته من الأجناس العالية، لا نعقل له معنىً محصّلاً،لأنّه إن أراد بالجنس معناه المصطلح عليه،فهو غير معقول،وإن أراد به معنىً آخر فلا نعقله،ضرورة أنّ الشيء إمّا جنس أو عرض عام فلا ثالث.

ودعوى أ نّه جنس لما تحته من المقولات الواقعية التي هي أجناس عاليات دون غيرها مدفوعة.

أوّلاً:بأنّ صدق الشيء بما له المفهوم على الجميع على حد سواء،وليس صدقه على المقولات ذاتياً،وعلى غيرها عرضياً.

وثانياً:أنّ الشيء لا يمكن أن يكون جنساً للمقولات الحقيقية،لاستحالة

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 311)


جامع حقيقي بينها،بل قد برهن في محلّه أنّ الجامع الحقيقي لا يعقل بين المقولات التسع العرضية فضلاً عن الجامع بين جميع المقولات.

فتحصّل:أنّ مفهوم الشيء يستحيل أن يكون جنساً تندرج تحته الأجناس العالية.

فالتحقيق: أنّ مفهوم الشيء مفهوم عام مبهم معرىً عن كل خصوصية من الخصوصيات،كمفهوم الأمر والذات،ويصدق على الأشياء جميعاً صدقاً عرضياً، فيكون من العرض العام لا من العرض المقابل للجوهر،فانّه لا يصدق على وجود الواجب تعالى ولا على غيره من الاعتبارات والانتزاعات ونحوهما.ومن الواضح أنّ الشيء بما له من المفهوم يصدق على الجميع على نسق واحد.

ثمّ إنّ مرادنا من العارض هنا ما هو خارج عن ذات الشيء ومحمول عليه، فهذا هو الضابط للعرض العام والخاص،والعموم والخصوص يختلفان بالاضافة، فالماشي عرض عام باعتبار وإضافة،وخاص باعتبار آخر وإضافة اخرى وهكذا…

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر بطلان ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الضابط للعرض العام،وهو ما كان خاصةً للجنس القريب أو البعيد كالماشي والتحيز مثلاً 1وذلك لعدم الشاهد والبرهان عليه،بل الشاهد والبرهان على خلافه كما مرّ،ولذا ذكروا أنّ الوجود من عوارض الماهية،بمعنى أ نّه خارج عن حيطة ذاتها ومحمول عليها،فما ذكره السيِّد الشريف وغيره من أنّ الشيء عرض عام هو الصحيح.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أ نّه على تقدير أخذ مصداق الشيء في المشتق


 

1) أجود التقريرات 1:102.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 312)


لزم انقلاب مادة الامكان إلى الضرورة،فيردّه:

أوّلاً:أنّ المأخوذ ليس واقع الشيء ومصداقه،بل مفهومه كما عرفت.

وثانياً:على تقدير تسليم أنّ المأخوذ مصداقه،إلّاأ نّه لا يوجب الانقلاب كما توهمه،لما سيجيء بيانه تفصيلاً إن شاء اللّٰه تعالى،بل عدم أخذه من جهة محذور آخر قد تقدّم بيانه 1.

الثاني: ما ذكره صاحب الفصول (قدس سره) من أ نّه لو اخذ مفهوم الشيء في المشتقات يلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية،فان قولنا:الانسان ضاحك أو كاتب،من القضايا الممكنة،نظراً إلى أنّ كلاً من ثبوت الضحك أو الكتابة وعدمه ممكن للانسان،فلو كان معنى الكاتب أو الضاحك شيء له الكتابة أو الضحك فالقضيّة ضرورية،باعتبار أنّ صدق الشيء بما هو على جميع الأشياء ضروري،فلو كان الشيء مأخوذاً في المشتق لزم الانقلاب 2.

والجواب عنه ما ذكره صاحب الكفاية 3وشيخنا الاُستاذ 4(قدس سرهما) وتوضيحه:

أنّ الشيء تارةً يلاحظ مطلقاً ولا بشرط،واُخرى يلاحظ مقيداً بقيد، وذلك القيد إمّا أن يكون مبايناً للانسان أو مساوياً له أو عاماً أو خاصاً.

فان لوحظ على النحو الأوّل،فثبوته وإن كان للانسان وغيره ضرورياً إلّا أ نّه خارج عن الفرض.


 

1) في ص 305.
2) الفصول الغرويّة:61.
3) كفاية الاُصول:52.
4) أجود التقريرات 1:105 وما بعدها.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 313)


وإن لوحظ على النحو الثاني،فان كان القيد الملحوظ فيه أمراً مبايناً للانسان امتنع ثبوته له،كما إذا لوحظ الشيء مقيداً بالطيران إلى السماء مثلاً أو ما شابه ذلك،فانّه بهذا القيد يستحيل صدقه عليه فالامتناع حينئذ ضروري.

وإن كان القيد أمراً مساوياً له،فهو إمّا أن يكون ممكن الثبوت له أو ثبوته ضروري.فعلى الأوّل القضيّة ممكنة كقولنا:الانسان ضاحك أو متعجب أو كاتب،وعلى الثاني ضرورية كقولنا:الانسان متكلم أو ناطق.

وإن كان عامّاً فثبوته له دائماً ضروري كقولنا:الانسان حيوان أو ماشٍ أو جوهر وما شاكله.

وإن كان خاصّاً فثبوت الانسان له ضروري على عكس المقام،كقولنا:

زيد انسان،العربي انسان،العجمي انسان وهكذا…وهذا-أي ثبوت الانسان للأخص منه-إنّما يكون ضرورياً إذا لوحظ الانسان لا بشرط،وأمّا إذا لوحظ بشرط شيء من العلم أو الكتابة أو ما شاكل ذلك فلا يكون ثبوته لزيد أو نحوه ضرورياً،بل هو ممكن وإن كان ثبوته لمن هو متصف بهذا الشيء فعلاً ضرورياً،والسر في جميع هذا،هو أنّ المحمول ليس ذات المقيد بما هي،بل المقيد بما هو مقيد على نحو خروج القيد ودخول التقيد.

وعلى هذا الضوء يتبين:أنّ ثبوت مفهوم الشيء بما هو ومطلقاً لما صدق عليه وإن كان ضرورياً،إلّاأ نّه لا يستلزم أن يكون ثبوته مقيداً بقيدٍ ما وبشرط شيء أيضاً كذلك،لما عرفت من اختلاف القيود وجوباً وإمكاناً وامتناعاً.

فما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره) من لزوم الانقلاب في صورة أخذ مفهوم الشيء في المشتق غير صحيح،بل إنّه حسب التحليل لا يرجع إلى معنىً معقول أصلاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 314)


ومن مجموع ما ذكرناه يستبين:أ نّه لا وجه لدعوى الانقلاب،حتّى لو كان المأخوذ فيه مصداق الشيء وواقعه،وذلك لأنّ قضيّة الانسان كاتب مثلاً،وإن انحلت على هذا إلى قضيّة الانسان إنسان له الكتابة،إلّاأنّ المحمول فيها ليس هو الانسان وحده،ليكون ثبوته للانسان من قبيل ثبوت الشيء لنفسه الذي هو ضروري،بل المحمول هو الانسان المقيد بالكتابة،ومن المعلوم أنّ ثبوته بهذا الوصف لا يكون ضرورياً.

ودعوى انحلال القضيّة على هذا إلى قضيّتين:إحداهما ضرورية،والاُخرى ممكنة، مدفوعة بأ نّا لا نسلّم الانحلال،وذلك لأنّه إن اريد بالانحلال انحلال عقد الوضع إلى قضيّة فعلية أو ممكنة على النزاع بين الشيخ الرئيس والفارابي 1فهو جارٍ في جميع القضايا فلا يختص ببعض دون بعض،وإن اريد به الانحلال الحقيقي بأن يدعى أنّ قضيّة الإنسان كاتب مثلاً تنحل حقيقة إلى قضيّتين مزبورتين،ففيه أ نّا لا نعقل له معنىً محصّلاً.

نعم،المحمول منحل إلى أمرين،وهذا ليس من انحلال القضيّة إلى قضيّتين في شيء،إلّاأن يقال إنّ مرادهم من انحلال القضيّة ذلك،فلو كان كذلك فلا بأس بهذا الانحلال،ولا محذور فيه،وإنّما المحذور هو انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة،وقد عرفت أنّ تركب المشتق لا يستلزمه.

فتلخص: أ نّه لا محذور في أخذ مصداق الشيء في المشتق إلّاما ذكرناه.

وكيف كان،فالأمر ظاهر فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك كما عن شيخنا المحقق (قدس سره) 2وغيره.


 

1) شرح المطالع:128.
2) نهاية الدراية 1:216 وما بعدها.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 315)


الثالث: ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ أخذ مفهوم الشيء في المفاهيم الاشتقاقية يستلزم تكرّر الموضوع في قضيّة زيد قائم،الإنسان كاتب وما شاكلهما،والتكرر خلاف الوجدان والمتفاهم عرفاً من المشتقات عند استعمالاتها في الكلام 1.

ولايخفى أ نّه قد سبق 2أنّ المأخوذ فيها شيء مبهم معرىً عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ به،ولا تعيّن له إلّابالانطباق على ذوات معيّنة في الخارج،كزيد وعمرو ونحوهما.وعليه فلا يلزم التكرار في مثل قولنا:

زيد قائم،والانسان كاتب ونحوهما،بداهة أ نّه لا فرق بين جملة:الإنسان كاتب،وجملة:الانسان شيء له الكتابة،فكما لا تكرار في الجملة الثانية فكذلك في الاُولى على التركيب،فانّ التكرار إعادة عين ما ذكر أوّلاً مرّة ثانية، وهو منتفٍ هنا.

نعم،إنّما يلزم ذلك لو كان المأخوذ في المشتقات مصداق الشيء وواقعه، ولكنّك عرفت أ نّه غير مأخوذ فيه،فالمأخوذ هو مفهوم الشيء على نحو الابهام والاندماج،وعليه فلا تكرار.

الرابع: ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 3من أ نّا لو سلّمنا إمكان أخذ الشيء في المبدأ الاشتقاقي إلّاأ نّه لم يقع في الخارج،وذلك لأنّ الواضع في مقام وضع لفظ لمعنى لا بدّ له من ملاحظة فائدة مترتبة عليه،وإلّا كان الوضع


 

1) كفاية الاُصول:54.
2) في ص 306.
3) أجود التقريرات 1:99.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 316)


لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم،والفائدة المترقبة من أخذ مفهوم الذات في المشتق هي توهم عدم صحّة حمله على الذات بدونه،ولكن الأمر ليس كذلك، فانّ الملاك المصحح للحمل هو اعتبار المبدأ في المشتق لا بشرط على ما سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه تعالى.فإذن يصبح أخذ مفهوم الشيء والذات فيه لغواً محضاً.

ولا يخفى أنّ أخذ الذات في المشتق ممّا لا بدّ منه،لاحتياج حمل العرض على موضوعه إلى ذلك،لما سنذكره 1إن شاء اللّٰه تعالى من أنّ وجود العرض في الخارج مباين لوجود الجوهر فيه،وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه،إلّاأ نّهما لايكونان متحدين خارجاً ليصح حمل أحدهما على الآخر، وملاك صحّة الحمل كما ذكرناه غير مرّة الاتحاد في الوجود،وهو منتفٍ بين العرض وموضوعه،ومجرد اعتبار العرض لا بشرط لا يوجب اتحاده معه،فانّه لا ينقلب الشيء عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة،فانّ المغايرة ليست بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر غيره،ومن الظاهر أنّ وجود العرض غير وجود الجوهر في نفسه،ولا يتحد معه باعتبار لا بشرط.

الخامس: ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2أيضاً:وهو أ نّه يلزم من أخذ الذات في المشتق أخذ النسبة فيه أيضاً،إذ المفروض أنّ المبدأ مأخوذ فيه، فيلزم حينئذ اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد،إحداهما في تمام القضيّة والاُخرى في المحمول فقط،وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به أصلاً.على أنّ لازم ذلك أن تكون المشتقات مبنية لاشتمالها على المعنى الحرفي وهو النسبة.

ولا يخفى ما فيه، أمّا ما ذكره (قدس سره) أوّلاً من لزوم اشتمال الكلام الواحد على نسبتين في عرض واحد،فيردّه:أنّ ذلك لو صحّ فانّما يلزم فيما لو كان المأخوذ فيه ذات خاصّة،مع أ نّه لا يلزم على هذا أيضاً،لأنّ النسبة في طرف المحمول لم تلحظ بنفسها وباستقلالها لتكون نسبة تامّة خبرية في عرض


 

1) في ص 319.
2) أجود التقريرات 1:100.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 317)


النسبة في تمام القضيّة،بل هي نسبة تقييدية مغفول عنها في الكلام،وإنّما تصير تامّة خبرية في صورة الانحلال وهي خلاف الفرض،ولا مانع من اشتمال الكلام الواحد على نسبة تقييدية ونسبة تامّة خبرية،فلو كان هذا محذوراً لم يختص ذلك بالمشتقات بل يعم كثيراً من القضايا والجملات كما لا يخفى.

هذا كلّه على تقدير أن يكون المأخوذ في مفهوم المشتق مصداق الشيء، ولكن عرفت أنّ الأمر ليس كذلك،بل المأخوذ فيه هو ذات مبهمة معراة عن كل خصوصية من الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها،وعليه فلا موضوع لما أفاده (قدس سره).

وأمّا ما ذكره (قدس سره) ثانياً فهو غريب،وذلك لأنّ مجرد المشابهة للحروف لا يوجب البناء،وإنّما الموجب له هو مشابهة خاصّة،وهي فيما إذا شابه الاسم من الحروف حسب وضعه كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات، فانّها حسب وضعها بما لها من المادة والهيئة تشبه الحروف.وأمّا ما كان من الأسماء مشتملاً على النسبة بهيئته فقط دون مادته كالمشتقات،فهو ليس كذلك وأنّ هذه المشابهة لا توجب البناء.

أو فقل:إنّ مادة المشتقات وضعت لمعنى حدثي مستقل بوضع على حدة، فهي لا تشابه الحروف أصلاً،وأمّا هيئاتها باعتبار اشتمالها على النسب وإن كان تشابه الحروف إلّاأ نّها لا توجب البناء.

ومن جميع ما ذكرناه يستبين أنّ شيئاً من هذه الوجوه لا يتم،فيتعين حينئذ القول بالتركيب،بل أصبح هذا ضرورياً.

ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1ذكر أنّ وجود العرض في حد نفسه


 

1) أجود التقريرات 1:108.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 318)


عين وجوده لموضوعه،بمعنى أنّ العرض غير موجود بوجودين:أحدهما لنفسه.

والآخر لموضوعه،بل وجوده النفسي عين وجوده الرابطي،فوجوده في الخارج هو الرابط بين موضوعاته.

وعليه فحيث إنّ للعرض حيثيتين واقعيتين:إحداهما وجوده في نفسه.

والاُخرى وجوده لموضوعه،فقد يلاحظ بما أ نّه شيء من الأشياء،وأنّ له وجوداً بحياله واستقلاله في مقابل وجود الجوهر كذلك،فهو بهذا الاعتبار عرض مباين لموضوعه وغير محمول عليه.وقد يلاحظ على واقعه بلا مؤونة اخرى،وأنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه،فهو بهذا الاعتبار عرضي ومشتق،وقابل للحمل على موضوعه،ومتحد معه حيث إنّه من شؤونه وأطواره فانّ شأن الشيء لا يباينه.

ويردّه أوّلاً: أنّ هذا الفرق ليس فارقاً بين المشتق ومبدئه،بل هو فارق بين المصدر واسم المصدر،وذلك لأنّ العرض كالعلم مثلاً كما عرفت أ نّه متحيث بحيثيتين واقعيتين:حيثية وجوده في حد نفسه،وحيثية وجوده لغيره،فيمكن أن يلاحظ مرّةً بإحداهما وهي أ نّه شيء من الأشياء،وأنّ له وجوداً في نفسه في مقابل وجود الجوهر،وبهذا الاعتبار يعبّر عنه باسم المصدر.

ويمكن أن يلاحظ مرّةً ثانيةً بالحيثية الاُخرى،وهي أنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه،وأ نّه من أطواره وعوارضه،وبهذا الاعتبار يعبّر عنه بالمصدر،إذ قد اعتبر فيه نسبته إلى فاعلٍ ما،دون اسم المصدر.

وإن شئت قلت: إنّ اسم المصدر وضع للدلالة على الوجود المحمولي في قبال العدم كذلك،والمصدر وضع للدلالة على الوجود النعتي في قبال العدم النعتي،هذا بحسب المعنى.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 319)


وأمّا بحسب الصيغة ففي اللغة العربية قلّما يحصل التغاير بين الصيغتين،بل الغالب أن يعبّر عنهما بصيغة واحدة كالضرب مثلاً،فانّه يراد به تارةً المعنى المصدري واُخرى ذات الحدث،فهما مشتركان في صيغة واحدة.وأمّا في اللغة الفارسية ففي الغالب أنّ لكل واحد منهما صيغة مخصوصة فيقال:كُتك وزدن، گردش وگرديدن،آزمايش وآزمودن،إلى غير ذلك.

ومن ذلك يتبيّن:أنّ المصدر أو اسم المصدر لايصلح أن يكون مبدأً للمشتقات، لاشتمال كل واحد منهما على خصوصية زائدة،والمبدأ الساري فيها لفظاً ومعنىً لا بدّ أن يكون معرىً عن كل خصوصية من الخصوصيات حتّى لحاظه بأحد النحوين المذكورين،مثلاً المبدأ في كلمة«ضرب»هو عبارة عن الضاد والراء والباء وهو مبدأ لجميع المشتقات منها المصدر واسم المصدر.

أو فقل: إنّ المبدأ كالهيولى الاُولى،فكما أ نّها عارية عن كل خصوصية من الخصوصيات وإلّا فلا تقبل أيّة صورة ترد عليها،ولا تكون مادة لجميع الأشياء فكذلك المبدأ،وهذا بخلاف المصدر أو اسم المصدر،فانّ كل واحد منهما مشتمل على خصوصية زائدة على نفس الحدث المشترك بينهما.

فالنتيجة:أنّ الفرق المذكور ليس فارقاً بين المبادئ والمشتقات،بل هو فارق بين المصدر واسم المصدر.

وثانياً: لا ريب في أنّ وجود العرض يباين وجود الجوهر خارجاً،وإن كان وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه،إلّاأ نّه ليس بمعنى أنّ وجوده وجود موضوعه،بل هو غيره حقيقة وواقعاً،وليست هذه المغايرة والمباينة بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر.

وعليه فكيف يقال:العرض إن لوحظ لا بشرط وعلى ما هو في الواقع وأنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه وأ نّه طور من أطواره وشأن من شؤونه ومرتبة من وجوده فهو متحد معه،وإن لوحظ بشرط لا وعلى حياله واستقلاله

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 320)


وأ نّه شيء من الأشياء فهو مغاير له،فان كل ذلك لايصحح اتحاده مع موضوعه وجوداً وحقيقة،ضرورة أنّ مجرد اعتباره لا بشرط وكونه من أطوار وجود موضوعه وشؤونه لا يوجب انقلاب الشيء عمّا هو عليه من المغايرة والمباينة إلى الاتحاد بينهما وجوداً.

وقد ذكرنا سابقاً في بحث صحّة السلب أنّ حمل شيء على شيء يتوقف على المغايرة من جهةٍ والاتحاد من جهة اخرى،بأن يكونا موجودين بوجود واحد ينسب ذلك الوجود الواحد إلى كل واحد منهما بالذات أو بالعرض أو إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض،وما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات.ومن الواضح أنّ العرض كما يباين الجوهر مفهوماً،كذلك يباينه وجوداً،ومجرد اعتباره لا بشرط بالاضافة إلى موضوعه لا يوجب اتحاده معه حقيقةً وخارجاً،وهذا واضح لا ريب فيه.

وثالثاً: لو تمّ هذا فانّما يتم في المشتقات التي تكون مبادؤها من المقولات التسع العرضية التي يكون وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها.ولكن قد سبق أنّ النزاع لا يختص بها،بل يعم المشتقات التي تكون مبادؤها من الاُمور الاعتبارية كالملكية والزوجية وما شاكلهما،أو من الاُمور الانتزاعية كالإمكان والوجوب والامتناع،أو من الاُمور العدمية.

ومن الظاهر أنّ اعتبار اللّا بشرط في هذه المشتقات لا يجدي في شيء،بداهة أنّ العدم ليس من عوارض ذات المعدوم،وكيف يعقل اتحاده معها إذا لوحظ لا بشرط،فانّه لا وجود له ليقال إنّ وجوده طور من أطوار وجود موضوعه، والامتناع ليس من عوارض ذات الممتنع،فانّه لا وجود له خارجاً ليقال إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه.والوجوب ليس عرضاً مقولياً لذات الواجب تعالى.والإمكان ليس من عوارض ذات الممكن كالإنسان مثلاً،وكذا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 321)


الملكية ليست من عوارض ذات المالك أو المملوك بمعنى العرض المقولي،ولا وجود لها خارجاً ليقال إنّه ملحوظ لا بشرط،وأنّ وجودها في نفسه عين وجودها لمعروضها.

تلخّص: أ نّا لو سلّمنا اتحاد العرض مع موضوعه خارجاً،فلا نسلّم الاتحاد في هذه الموارد.والتفكيك في وضع المشتقات بين هذه الموارد وتلك الموارد – التي يكون المبدأ فيها من الأعراض،بأن نلتزم بوضعها في تلك الموارد لمعانٍ بسيطة متحدة مع موضوعاتها،وفي هذه الموارد لمعانٍ مركبة-أمر لا يمكن، ضرورة أنّ وضع المشتقات بشتى أنواعها وأشكالها على نسق واحد،فالمعنى إذا كان بسيطاً أو مركباً كان كذلك في جميع الموارد.

ورابعاً: لو أغمضنا عن جميع ذلك وقلنا إنّ كل وصف متحد مع موصوفه، سواء أكان من المقولات أم كان من الاعتبارات أو الانتزاعات،إلّاأ نّا لا نسلّم ذلك في المشتقات التي لايكون المبدأ فيها وصفاً للذات كأسماء الأزمنة والأمكنة وأسماء الآلة،فانّ اتحاد المبدأ فيها مع الذات غير معقول،ضرورة أنّ الفتح لا يعقل أن يتحد مع الحديد،والقتل مع الزمان أو المكان الذي وقع فيه ذلك المبدأ وهكذا…

وعلى الجملة: أ نّا لو سلّمنا اتحاد الوصف مع موصوفه في الوعاء المناسب له من الذهن أو الخارج باعتبار أنّ وصف الشيء طور من أطواره وشأن من شؤونه،وشؤون الشيء لا تباينه،فلا نسلّم اتحاد الوصف مع زمانه ومكانه وآلته وغير ذلك من الملابسات،إذ كيف يمكن أن يقال:إنّ المبدأ إذا اخذ لا بشرط يتحد مع زمانه أو مكانه أو آلته،فانّ وجود العرض إنّما يكون وجوداً لموضوعه لا لزمانه ومكانه وآلته،إذن لا مناص للقائل ببساطة مفهوم المشتق أن يلتزم بالتركيب في هذه الموارد،ولازم ذلك هو التفكيك في وضع المشتقات

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 322)


حسب مواردها،وهو باطل جزماً،فانّ وضعها على نسق واحد،ولم ينسب القول بالتفصيل إلى أحد.

ومن ذلك كلّه نستنتج أمرين:

الأوّل:بطلان ما استدلّوا على البساطة من الوجوه كما تقدّم.

الثاني:عدم إمكان تصحيح الحمل على البساطة بوجه،وهذا بنفسه دليل قطعي على بطلان هذا القول،وضرورة الالتزام بالقول بالتركيب كما هو واضح.

[الاستدلال على التركب بوجهين آخرين]

ومضافاً إلى هذا يدل على التركيب وجهان آخران:

الأوّل: أ نّه هو المطابق للوجدان وما هو المتفاهم من المشتق عرفاً،مثلاً المتمثل من كلمة«قائم»في الذهن ليس إلّاذات تلبست بالقيام،دون المبدأ وحده،وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية عند العرف.

الثاني: أ نّا لو سلّمنا أ نّه يمكن تصحيح الحمل في حمل المشتق على الذات باعتبار اللّا بشرط،إلّاأ نّه لايمكن ذلك في حمل المشتق على مشتق آخر كقولنا:

الكاتب متحرك الأصابع،أو كل متعجب ضاحك،فانّ المشتق لو كان عين المبدأ فما هو الموضوع وما هو المحمول في أمثال هذه القضايا ؟

ولا يمكن أن يقال:إنّ الموضوع هو نفس الكتابة التي هي معنى المشتق على الفرض،أو نفس التعجب،والمحمول هو نفس تحرك الأصابع أو نفس الضحك، لأ نّهما متباينان ذاتاً ووجوداً،فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر،لمكان اعتبار الاتحاد من جهةٍ في صحّة الحمل كما عرفت،وبدونه فلا حمل.

وكذا لا يمكن أن يقال:إنّ الكتابة أو التعجب مع النسبة موضوع،ونفس تحرك الأصابع أو الضحك محمول بعين الملاك المزبور،وهو المباينة بينهما وجوداً وذاتاً.على أنّ النسبة أيضاً خارجة عن مفهوم المشتق على القول بالبساطة.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 323)


إذن لا مناص لنا من الالتزام بأخذ الذات في المشتق،ليصحّ الحمل في هذه الموارد،وهذا بنفسه برهان على التركيب.

فالنتيجة من مجموع ما ذكرناه لحدّ الآن:أنّ أخذ مفهوم الذات في المشتق يمكن الوصول إليه من طرق أربعة:

1-بطلان القول بالبساطة.

2-مطابقته للوجدان.

3-عدم إمكان تصحيح حمله على الذات بدون الأخذ.

4-عدم صحّة حمل وصف عنواني على وصف عنواني آخر بغيره.

[كلام المحقق الاصفهاني في المقام]

ثمّ إنّ لشيخنا المحقق (قدس سره) في المقام كلاماً وحاصله:هو أ نّه بعد ما اعترف بمغايرة المشتق ومبدئه وأنّ مفهوم المشتق قد اخذ فيه ما به يصح حمله على الذات،ذكر أنّ المأخوذ فيه هو الأمر المبهم من جميع الجهات لمجرد تقوّم العنوان،وليس من مفهوم الذات،ولا من المفاهيم الخاصّة المندرجة تحتها في شيء،بل هو مبهم من جهة انطباقه على المبدأ نفسه كما في قولنا:الوجود موجود أو البياض أبيض،ومن جهة عدم انطباقه عليه كما في قولنا:زيد قائم 1.

وأنت خبير بأنّ الأمر المبهم القابل للانطباق على الواجب والممكن والممتنع لا محالة يكون عنواناً عاماً يدخل تحته جميع ذلك،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّا لا نجد في المفاهيم أوسع من مفهوم الشيء والذات.إذن لا محالة يكون المأخوذ في مفهوم المشتق هو مفهوم الذات والشيء وهو المراد من الأمر المبهم،ضرورة أ نّا لا نعقل له معنىً ما عدا هذا المفهوم.


 

1) نهاية الدراية 1:220.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 324)


وإن شئت فقل:إنّ مفهوم الشيء والذات مبهم من جميع الجهات والخصوصيات،ومنطبق على الواجب والممتنع والممكن بجواهره وأعراضه وانتزاعاته واعتباراته.

فما أفاده (قدس سره) من أنّ المأخوذ في مفهوم المشتق ليس من مفهوم الذات ولا مصداقه في شيء غريب،والإنصاف أنّ كلماته في المقام لا تخلو عن تشويش واضطراب كما لا يخفى.

الفرق بين المشتق والمبدأ

المشهور بين الفلاسفة هو أنّ الفرق بين المبدأ والمشتق إنّما هو باعتبار اللّا بشرط وبشرط اللّا.وقع الكلام في المراد من هاتين الكلمتين:لا بشرط وبشرط لا.

وقد فسّر صاحب الفصول (قدس سره) مرادهم منهما بما يراد من الكلمتين في بحث المطلق والمقيد وملخصه:

هو أنّ الماهية مرةً تلاحظ لا بشرط بالإضافة إلى العوارض والطوارئ الخارجية.واُخرى بشرط شيء.وثالثةً بشرط لا.فعلى الأوّل تسمى الماهية مطلقةً ولا بشرط.وعلى الثاني تسمى بشرط شيء.وعلى الثالث بشرط لا.

وعلى هذا فلو ورد لفظ في كلام الشارع ولم يكن مقيداً بشيء من الخصوصيات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة وشككنا في الإطلاق ثبوتاً فنتمسك باطلاقه في مقام الإثبات لاثبات الاطلاق في مقام الثبوت بقانون التبعية إذا تمّت مقدّمات الحكمة.

مثلاً لو شككنا في اعتبار شيء في البيع كالعربية أو اللفظ،أو نحو ذلك،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 325)


لأمكن لنا التمسك باطلاق قوله تعالى «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» لاثبات عدم اعتباره فيه.وأمّا إذا كان مقيداً بشيء من الخصوصيات المتقدمة فنستكشف منه التقييد ثبوتاً بعين الملاك المزبور.

ثمّ أورد عليهم بأنّ هذا الفرق غير صحيح،وذلك لأنّ صحّة الحمل وعدم صحّته لا تختلف من حيث اعتبار شيء لا بشرط أو بشرط لا،لأنّ العلم والحركة والضرب وما شاكلها ممّا يمتنع حملها على الذوات وإن اعتبر لا بشرط ألف مرّة،فان ماهية الحركة أو العلم بنفسها غير قابلة للحمل على الشيء،فلا يقال:زيد علم،أو حركة،ومجرد اعتبارها لا بشرط بالإضافة إلى الطوارئ والعوارض الخارجية لا يوجب انقلابها عمّا كانت عليه،فاعتبار اللّا بشرط وبشرط اللّا من هذه الناحية على حد سواء،فالمطلق والمقيد من هذه الجهة سواء،وكلاهما آبيان عن الحمل،فما ذكروه من الفرق بين المشتق والمبدأ لا يرجع إلى معنىً صحيح 1.

ولايخفى أنّ ما ذكره ليس مراداً للفلاسفة من الكلمتين:اللّا بشرط وبشرط اللّا يقيناً كما سيتّضح ذلك.وعليه فما أورده (قدس سره) عليهم في غير محلّه.

وقال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في مقام الفرق بينهما ما هذا لفظه:الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوماً أ نّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصى عن الجري عليه،لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ فانّه بمعناه يأبى عن ذلك،بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو،وملاك الحمل والجري إنّما هو نحو من الاتحاد والهوهوية،وإلى هذا


 

1) الفصول الغرويّة:62.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 326)


المعنى يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما 1.

أقول: ظاهر عبارته (قدس سره) أنّ الفرق بينهما ذاتي،بمعنى أنّ مفهوم المشتق سنخ مفهوم يكون في حد ذاته لا بشرط فلا يأبى عن الحمل.ومفهوم المبدأ سنخ مفهوم يكون في حد ذاته بشرط لا فيأبى عن الحمل،لا أنّ هنا مفهوماً واحداً يلحظ تارةً لا بشرط،واُخرى بشرط لا،ليكون الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ.

ويرد عليه: أنّ هذا لا يختص بالمشتق ومبدئه،بل هو فارق بين كل مفهوم آبٍ عن الحمل وما لم يأب عن ذلك،بل إنّ هذا من الواضحات الأوّلية، ضرورة أنّ كل شيء إذا كان بمفهومه آبياً عن الحمل فهو لا محالة كان بشرط لا.وكل شيء إذا لم يكن بمفهومه آبياً عنه فهو لا محالة كان لا بشرط،ومن الواضح أنّ الفلاسفة لم يريدوا بهاتين الكلمتين هذا المعنى الواضح الظاهر،فانّه غير قابل للبحث،ولا أن يناسبهم التصدي لبيانه كما لا يخفى.

فالصحيح أن يقال: إنّ مرادهم كما هو صريح كلماتهم هو أنّ ماهية العرض والعرضي-المبدأ والمشتق-واحدة بالذات والحقيقة،والفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ،من جهة أنّ لماهية العرض في عالم العين حيثيتين واقعيتين:إحداهما حيثية وجوده في نفسه.واُخرى حيثية وجوده لموضوعه.

فهي تارةً تلاحظ من الحيثية الاُولى وبما هي موجودة في حيالها واستقلالها وأ نّها شيء من الأشياء في قبال وجودات موضوعاتها،فهي بهذا اللحاظ والاعتبار عرض ومبدأ بشرط لا،وغير محمول على موضوعه لمباينته معه،


 

1) كفاية الاُصول:55.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 327)


وملاك الحمل الاتحاد في الوجود.

وتارةً اخرى تلاحظ بما هي في الواقع ونفس الأمر،وأنّ وجودها في نفسه عين وجودها لموضوعها،وأنّ وجودها ظهور الشيء وطور من أطواره ومرتبة من وجوده،وظهور الشيء لا يباينه،فهي بهذا الاعتبار عرضي ومشتق لا بشرط فيصح حملها عليه.

وبعين هذا البيان قد جروا في مقام الفرق بين الجنس والمادة والفصل والصورة،حيث قالوا:إنّ التركيب بين المادة والصورة تركيب اتحادي لا انضمامي وهما موجودان في الخارج بوجود واحد حقيقةً،وهو وجود النوع كالانسان ونحوه،فانّ المركبات الحقيقية لا بدّ لها من جهة وحدة حقيقية،وإلّا لكان التركيب انضمامياً.ومن الظاهر أنّ الوحدة الحقيقية لا تحصل إلّاإذا كان أحد الجزأين قوّةً صرفةً والآخر فعلية محضة،فانّ الاتحاد الحقيقي بين جزأين فعليين،أو جزأين كلاهما بالقوّة غير معقول،لإباء كل فعلية عن فعلية اخرى، وكذا كل قوّة عن قوّة اخرى،ولذلك صحّ حمل الجنس على الفصل وبالعكس، وحمل كل منهما على النوع وكذا العكس،فلو كان التركيب انضمامياً لم يصح الحمل أبداً،لمكان المغايرة والمباينة.

وعلى هذا الضوء فالتحليل بين أجزاء المركبات الحقيقية لا محالة تحليل عقلي،بمعنى أنّ العقل يحلّل تلك الجهة الواحدة إلى ما به الاشتراك وهو الجنس وما به الامتياز وهو الفصل،فالجهة المميّزة لتلك الحقيقة الواحدة عن بقية الحقائق هي الفصل،وإلّا فالجنس هو الجهة الجامعة والمشتركة بينها وبين سائر الأنواع والحقائق ويعبّر عن جهة الاشتراك بالجنس مرّةً وبالمادة اخرى،كما أ نّه يعبّر عن جهة الامتياز بالفصل تارة وبالصورة تارة اخرى،وليس ذلك إلّا من جهة أنّ اللحاظ مختلف.

فقد تلاحظ جهة الاشتراك بما لها من المرتبة الخاصّة والدرجة المخصوصة

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 328)


من الوجود الساري،وهي كونها قوّةً صرفة ومادّةً محضة.

وقد تلاحظ جهة الامتياز بما لها من الحد الخاص الوجودي وهو كونه فعلية وصورة،ومن الظاهر تباين الدرجتين والمرتبتين بما هما درجتان ومرتبتان،فلا يصح حمل إحداهما على الاُخرى،ولا حمل كلتيهما على النوع، ضرورة أنّ المادة بما هي مادة وقوّة محضة كما أ نّها ليست بانسان كذلك ليست بناطق،كما أنّ الصورة بما هي صورة وفعلية كذلك،فكل جزء بحدّه الخاص يباين الجزء الآخر كذلك حقيقة وواقعاً،كما أ نّه يباين المركب منهما،وملاك صحّة الحمل الاتحاد،والمباينة تمنع عنه،وهذا مرادهم من لحاظهما بشرط لا.

وقد تلاحظ كل واحدة من جهتي الاشتراك والامتياز بما لهما من الاتحاد الوجودي في الواقع،نظراً إلى شمول الوجود الواحد لهما وهو الساري من الصورة وما به الفعلية إلى المادة وما به القوّة،ومتحدتان في الخارج بوحدة حقيقية، لأنّ التركيب بينهما اتحادي لا انضمامي كما مرّ.وبهذا اللحاظ صحّ الحمل،كما أ نّه بهذا الاعتبار يعبّر عن جهة الاشتراك بالجنس وعن جهة الامتياز بالفصل، وهذا مرادهم من لحاظهما لا بشرط.

فتبيّن معنى اتحاد الجنس والمادة والفصل والصورة بالذات والحقيقة، واختلافهما بالاعتبار واللحاظ،كما أ نّه تبيّن من ذلك معنى اتحاد جهتي الاشتراك والامتياز وجوداً وعيناً،وأ نّهما حيثيتان واقعيتان اختلفتا مفهوماً ولحاظاً واتحدتا عيناً وخارجاً.

وعلى هذا الضوء يتّضح لك الفرق بين الجنس والفصل والعرض وموضوعه، فانّ التركيب بين الأوّلين حقيقي،ولهما جهة واحدة بالذات والحقيقة كما عرفت، والتركيب بين الأخيرين اعتباري،والمغايرة حقيقية،وذلك لاستحالة التركيب الحقيقي بين العرض والجوهر من جهة فعلية كل واحد منهما خارجاً،وهي تمنع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 329)


عن حصول الاتحاد بينهما واقعاً.

وعلى نهج هذه النقطة الرئيسية للفرق بين العرض وموضوعه والجنس والفصل قد ظهر أمران:

الأوّل: أنّ ما ذكره الفلاسفة من أنّ جهتي الاشتراك والامتياز إن لوحظتا لا بشرط صحّ الحمل،وإن لوحظتا بشرط لا لم يصح فهو صحيح.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الاُولى من كلامهم،فلمكان ملاك الحمل وهو الاتحاد والهوهوية.

وأمّا بالنسبة إلى النقطة الثانية منه،فلمكان المغايرة بين المادة بدرجتها الخاصّة والصورة كذلك،فانّ الدرجتين بما هما درجتان متباينتان حقيقة،فلا ملاك للحمل وإن كانتا مشتركتين في وجود واحد،والوجود الواحد شامل لهما معاً،فهاتان الحيثيتان-حيثية اتحاد المادة مع الصورة وحيثية مغايرتها معها – حيثيتان واقعيتان لهما مطابق في الخارج،وليستا بمجرّد اعتبار لا بشرط وبشرط لا،ليقال كما أنّ اعتبار لا بشرط لا يجدي مع المغايرة ولا ينقلب الشيء به عمّا كان عليه كما تقدّم،كذلك اعتبار بشرط لا لا يجدي مع الاتحاد حقيقة،ولا يوجب انقلاب الشيء عمّا كان عليه،لأنّ الاتحاد ليس بالاعتبار لينتفي باعتبار طارئ آخر،بل المراد هنا هو أنّ اعتبار لا بشرط اعتبار موافق لحيثية لها مطابق في الواقع،واعتبار بشرط لا اعتبار موافق لحيثية اخرى لها مطابق فيه أيضاً،لا أنّ الواقع ينقلب عمّا هو عليه بالاعتبار.

الثاني: أنّ لهم دعويين:

الاُولى:أنّ مفهوم المشتق بسيط ذاتاً وحقيقةً،ولا فرق بينه وبين مفهوم المبدأ بالذات،وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 330)


الثانية:أنّ اعتبار لا بشرط يصحّح الحمل،فالمبدأ إذا لوحظ لا بشرط فهو مشتق وعرضي ويصح حمله على موضوعه،وإن اعتبر بشرط لا فهو عرض فلا يصح،كما هو الحال في الجنس والفصل والمادة والصورة.

ولا يخفى ما في كلتا الدعويين:

أمّا الدعوى الاُولى: فلما ذكرناه سابقاً من أنّ مفهوم المشتق مركب من ذات لها المبدأ،وقد أثبتناه بالوجدان والبرهان،وناقشنا في جميع ما يستدل على البساطة واحداً بعد واحد على ما تقدّم 1.

ثمّ لو فرضنا أنّ مفهوم المشتق بسيط فلا مناص من الالتزام بكونه غير مفهوم المبدأ ومبايناً له ذاتاً،وذلك لما عرفت من استحالة حمل مفهوم المبدأ على الذات في حال من الحالات،وضرورة صحّة حمل المشتق بما له من المفهوم عليها في كل حال،ونتيجة ذلك أنّ مفهوم المشتق على تقدير تسليم أن يكون بسيطاً فلا محالة يكون مبايناً لمفهوم المبدأ بالذات.

وأمّا الدعوى الثانية: فيردّها الوجوه المتقدمة 2جميعاً،وإليك ملخصها:

1- أنّ هذا الفرق ليس فارقاً بين المشتق ومبدئه،بل هو بين المصدر واسمه.

2- أنّ وجود العرض مباين لوجود الجوهر ذاتاً فلا يمكن الاتحاد بينهما باعتبار اللّا بشرط.

3- أنّ هذا لو تمّ فانّما يتم فيما إذا كان المبدأ من الأعراض المقولية دون غيرها.


 

1) في ص 305 وما بعدها.
2) في ص 318 وما بعدها.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 331)


4- أ نّا لو سلّمنا أ نّه تمّ حتّى فيما إذا كان المبدأ أمراً اعتبارياً أو انتزاعياً،إلّا أ نّه لا يتمّ في مثل اسم الآلة والزمان والمكان وما شاكل ذلك.

ما هي النسبة بين المبدأ والذات ؟

المبدأ قد يكون مغايراً للذات كما في قولنا:زيد ضارب مثلاً،واُخرى يكون عين الذات كما في الصفات العليا له تعالى فيقال:اللّٰه قادر وعالم.

لا إشكال في صحّة إطلاق المشتق وجريه على الذات على الأوّل،وإنّما الكلام في الثاني وأ نّه يصح إطلاقه على الذات أم لا ؟ فيقع الإشكال فيه من جهتين:

الاُولى: اعتبار التغاير بين المبدأ والذات،ولا يتم هذا في صفاته تعالى الجارية عليه،لأنّ المبدأ فيها متحد مع الذات بل هو عينها خارجاً،ومن هنا التزم صاحب الفصول (قدس سره) 1بالنقل في صفاته تعالى عن معانيها اللغوية.

الثانية: اعتبار تلبس الذات بالمبدأ وقيامه بها بنحو من أنحاء القيام،وهذا بنفسه يقتضي التعدد والاثنينية،ولا اثنينية بين صفاته تعالى وذاته،بل فرض العينية بينهما يستلزم قيام الشيء بنفسه،وهو محال.

لا يخفى أنّ هذه الجهة في الحقيقة متفرّعة على الجهة الاُولى،وهي اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات،فانّه بعد الفراغ عن اعتبارها يقع الكلام في الجهة الثانية،وأنّ ما كان المبدأ فيه متحداً مع الذات بل عينها خارجاً كيف يعقل


 

1) الفصول الغروية:62.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 332)


قيامه بالذات وتلبس الذات به،لأنّه من قيام الشيء بنفسه وهو محال.إذن لا يعقل التلبّس والقيام في صفاته تعالى.

وقبل أن نصل إلى البحث عن هاتين الجهتين نقدّم مقدّمةً:وهي أنّ الصفات الجارية عليه تعالى على قسمين:

أحدهما: صفاته الذاتية،وهي التي يكون المبدأ فيها عين الذات كالعالم والقادر والحي والسميع والبصير،وقد ذكرنا في بحث التفسير أنّ مرجع الأخيرين إلى العلم،وأ نّهما علم خاص وهو العلم بالمسموعات والمبصرات 1.

وثانيهما: صفاته الفعلية،وهي التي يكون المبدأ فيها مغايراً للذات كالخالق والرازق والمتكلم والمريد والرحيم والكريم وما شاكل ذلك،فانّ المبدأ فيها وهو الخلق أو الرزق أو نحوه مغاير لذاته تعالى.

ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الكفاية (قدس سره) 2من الخلط بين صفات الذات وصفات الفعل،حيث عدّ (قدس سره) الرحيم من صفات الذات مع أ نّه من صفات الفعل.

وكيف كان،إذا اتّضح لك هذا فنقول:إنّ صاحب الفصول (قدس سره) قد التزم في الصفات العليا والأسماء الحسنى الجارية عليه تعالى بالنقل والتجوّز.

1- من جهة عدم المغايرة بين مبادئها والذات.

2- من جهة عدم قيامها بذاته المقدّسة وتلبّسها بها لمكان العينية 3.


 

1) [ لم نعثر عليه في كتاب البيان في تفسير القرآن ].
2) كفاية الاُصول:56.
3) الفصول الغروية:62.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 333)


وقد أجاب عن المحذور الأوّل صاحب الكفاية 1وشيخنا الاُستاذ 2(قدس سرهما) بأنّ المبدأ في الصفات العليا له تعالى وإن كان عين ذاته المقدّسة، إلّا أنّ الاتحاد والعينية في الخارج لا في المفهوم واللحاظ،فانّ مفهوم المبدأ كالعلم أو القدرة مغاير لمفهوم ذاته تعالى،وتكفي المغايرة المفهومية في صحّة الحمل والجري،ولا يلزم معها حمل الشيء على نفسه.

وعلى هذا الضوء أوردا على الفصول (قدس سره) بأ نّه لا وجه للالتزام بالنقل والتجوّز في الصفات الذاتية له تعالى،فانّ مبادءها كما عرفت مغايرة للذات مفهوماً.

وأورد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ثانياً بعين ما أورد في الكفاية على الجهة الثانية،وهو أنّ الالتزام بالنقل والتجوّز يستلزم تعطيل العقول عن فهم الأوراد والأذكار بالكلّية،ويكون التكلم بها مجرّد لقلقة اللسان.

وأورد في الكفاية على الجهة الثانية،وهي أنّ اعتبار التلبّس والقيام يقتضي الاثنينية،بأ نّه لا مانع من تلبس ذاته تعالى بمبادئ صفاته العليا،فانّ التلبّس على أنحاء متعددة:تارةً يكون التلبّس والقيام بنحو الصدور.واُخرى بنحو الوقوع.وثالثةً بنحو الحلول.ورابعةً بنحو الانتزاع كما في الاعتبارات والاضافات.

وخامسةً بنحو الاتحاد والعينية كما في قيام صفاته العليا بذاته المقدّسة،فانّ مبادءها عين ذاته الأقدس،وهذا أرقى وأعلى مراتب القيام والتلبّس وإن كان خارجاً عن الفهم العرفي 3.


 

1) كفاية الاُصول:56.
2) أجود التقريرات 1:125.
3) كفاية الاُصول:57.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 334)


وقد ذكرنا غير مرّة أنّ نظر العرف لا يكون متبعاً إلّافي موارد تعيين مفاهيم الألفاظ سعةً وضيقاً،والمتبع في تطبيقات المفاهيم على مواردها النظر العقلي، فإذا كان هذا تلبساً وقياماً بنظر العقل،بل كان من أتم مراتبه،لم يضر عدم إدراك أهل العرف ذلك.

وعليه،فلا وجه لما التزم به في الفصول من النقل في الصفات الجارية عليه تعالى عمّا هي عليه من المعنى،كيف فانّ هذه الصفات لو كانت بغير معانيها جارية عليه تعالى،فلا بدّ أن تكون صرف لقلقة اللسان وألفاظاً بلا معانٍ،فانّ غير هذه المفاهيم العامّة غير معلوم لنا إلّاما يقابل هذه المعاني العامّة ويضادها،وإرادته منها غير ممكنة.

والتحقيق في المقام يقتضي التكلم في جهات ثلاث:

الاُولى: في اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقات حقيقةً وذاتاً،أو تكفي المغايرة اعتباراً أيضاً ؟

الثانية: في صحّة قيام المبدأ بالذات فيما إذا كانا متحدين خارجاً.

الثالثة: أ نّه على تقدير الالتزام بالنقل في صفاته العليا هل يلزم أحد المحذورين المتقدمين أم لا ؟

[الجهة الاُولى:في اعتبار المغايرة بين المبدأ والذات في المشتقات حقيقةً وذاتاً،أو تكفي المغايرة اعتباراً أيضاً؟]

أمّا الكلام في الجهة الاُولى: فقد تقدّم أ نّه يعتبر في صحّة حمل شيء على شيء التغاير بينهما من ناحية،والاتحاد من ناحية اخرى،وأمّا بين الذات والمبدأ فلا دليل على اعتبار المغايرة حتّى مفهوماً فضلاً عن كونها حقيقةً،بل قد يكون مفهوم المبدأ بعينه هو مفهوم الذات وبالعكس،كما في قضيّة الوجود فهو موجود والضوء مضيء وهكذا…فالمبدأ في الموجود هو الوجود وفي المضيء هو الضوء،فلا تغاير بين المبدأ والذات حتّى مفهوماً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 335)


وعلى الجملة:فالمبدأ قد يكون عين الذات خارجاً وإدراكاً،بل إطلاق العنوان الاشتقاقي عليها حينئذ أولى من إطلاقه على غيرها،وإن كان خارجاً عن الفهم العرفي،مثلاً إطلاق الموجود على الوجود أولى من إطلاقه على غيره، لأ نّه موجود بالذات وغيره موجود بالعرض.

وعلى هذا الضوء لا مانع من إطلاق صفاته العليا عليه تعالى حقيقةً وإن كانت مبادؤها عين ذاته الأقدس.

[الجهة الثانية:في صحّة قيام المبدأ بالذات فيما إذا كانا متحدين خارجاً.]

وأمّا الكلام في الجهة الثانية: فالمراد بالتلبّس والقيام ليس قيام العرض بمعروضه وتلبسه به وإلّا لاختصّ البحث عن ذلك بالمشتقات التي تكون مبادؤها من المقولات التسع،ولا يشمل ما كان المبدأ فيه من الاعتبارات أو الانتزاعات كما لا يخفى،مع أنّ البحث عنه عام.

بل المراد منه واجدية الذات للمبدأ في قبال فقدانها له،وهي تختلف باختلاف الموارد.

فتارةً يكون الشيء واجداً لما هو مغاير له وجوداً ومفهوماً كما هو الحال في غالب المشتقات.

واُخرى يكون واجداً لما هو متحد معه خارجاً وعينه مصداقاً،وإن كان يغايره مفهوماً،كواجدية ذاته تعالى لصفاته الذاتية.

وثالثةً يكون واجداً لما يتحد معه مفهوماً ومصداقاً وهو واجدية الشيء لنفسه،وهذا نحو من الواجدية،بل هي أتم وأشد من واجدية الشيء لغيره، فالوجود أولى بأن يصدق عليه الموجود من غيره،لأنّ وجدان الشيء لنفسه ضروري.

فتلخّص: أنّ المراد من التلبّس الواجدية،وهي كما تصدق على واجدية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 336)


الشيء لغيره،كذلك تصدق على واجدية الشيء لنفسه،ومن هذا القبيل واجدية اللّٰه تعالى لصفاته الكمالية،وإن كانت الواجدية بهذا المعنى خارجة عن الفهم العرفي إلّاأ نّه لا يضر بعد الصدق بنظر العقل.

وعلى هذا فلا أصل لاشكال استحالة تلبس الشيء بنفسه.

[الجهة الثالثة:أنّه على تقدير الالتزام بالنقل في صفاته العليا هل يلزم أحد المحذورين المتقدمين أم لا؟]

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة: وهي استلزام النقل تعطيل العقول عن فهم الأوراد والأذكار،فالظاهر أ نّه لا يتم في محل الكلام وإن تمّ في مقام إثبات أنّ مفهوم الوجود واحد ومشترك معنوي بين الواجب والممكن كما ذكره السبزواري في شرح منظومته 1وغيره.

أمّا أ نّه لا يتم في المقام،فلأنّ المغايرة بين المبدأ والذات حسب المتفاهم العرفي واللغوي من المشتقات الدائرة في الألسن أمر واضح لا ريب فيه،وقد مرّ أنّ الاتحاد والعينية بينهما خارج عن الصدق العرفي،فلا يصح حينئذ إطلاق المشتق عليه تعالى بهذا المعنى المتعارف.

وإن شئت فقل:إنّ المبدأ فيه عين ذاته المقدّسة فلا تغاير بينهما أصلاً،فلا محالة يكون إطلاقه عليه بمعنى آخر مجازاً،وهو ما يكون المبدأ فيه عين الذات، فلايراد من كلمتي العالم والقادر [ في ] قولنا يا عالم ويا قادر مثلاً معناهما المتعارف، بل يراد بهما من يكون علمه وقدرته عين ذاته،وإليه أشار بعض الروايات 2إنّ اللّٰه تعالى علم كلّه وقدرة كلّه وحياة كلّه،ولعل هذا هو مراد الفصول من النقل والتجوّز.وعليه فلا يلزم من عدم إرادة المعنى المتعارف من صفاته العليا لقلقة اللسان وتعطيل العقول.


 

1) شرح المنظومة (الحكمة):17.
2) بحار الأنوار 4:84 ح 17،18 (نقل بالمضمون).

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 337)


وأمّا أ نّه يتم في مفهوم الوجود،فلأجل أنّ إطلاق الموجود عليه تعالى إمّا أن يكون بمعناه المتعارف وهو الشيء الثابت،ويعبّر عنه في لغة الفرس«هستي» وإمّا أن يكون بما يقابله وهو المعدوم.وإمّا أن لايراد منه شيء أو [ يراد ] معنى لا نفهمه،فعلى الثاني يلزم تعطيل العالم عن الصانع.وعلى الثالث يلزم تعطيل العقول وأن يكون التلفظ به مجرد لقلقة اللسان وألفاظاً بلا معنى،وكلا الأمرين غير ممكن،فيتعين الأوّل.

ما هو المتنازع فيه في المشتق ؟

إنّ كلامنا في مسألة المشتق،والغرض من البحث عنها إنّما هو معرفة مفهومه ومعناه سعةً وضيقاً،كما هو الحال في سائر المباحث اللفظية،بمعنى أ نّه موضوع لمفهوم وسيع منطبق على المتلبس والمنقضي معاً،أو لمفهوم ضيق لا ينطبق إلّا على المتلبس فقط.

وأمّا تطبيق هذا المفهوم على موارده وإسناده إليها هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز،فهو خارج عن محل الكلام،فانّ الإسناد إن كان إلى ما هو له فهو حقيقة، وإن كان إلى غير ما هو له فهو مجاز.ولا يلزم مجاز في الكلمة في موارد الادعاء والإسناد المجازي،فانّ الكلمة فيها استعملت في معناها الحقيقي،والتصرف إنّما هو في الاسناد والتطبيق.

مثلاً لو قال:زيد أسد،فلفظ الأسد استعمل في معناه الموضوع له وهو الحيوان المفترس،فيكون حقيقة،ولكن في تطبيقه على زيد لوحظ نحو من التوسعة والعناية،فيكون التطبيق مجازاً.

وأوضح من ذلك:موارد الخطأ،فإذا قيل:هذا زيد ثمّ بان أ نّه عمرو،فلفظ زيد ليس بمجاز،لأنّه استعمل فيما وضع له،والخطأ إنّما هو في التطبيق،وهو

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 338)


لا يضر باستعماله فيه.أو قيل:هذا أسد ثمّ بان أ نّه حيوان آخر.أو إذا رأى أحد شبحاً من بعيد،وتخيل أ نّه إنسان فقال:هذا انسان ثمّ ظهر أ نّه ليس بانسان وهكذا…

فاللفظ في أمثال هذه الموارد استعمل في معناه الموضوع له،والتوسع إنّما هو في التطبيق والإسناد إمّا ادعاءً وتنزيلاً،أو خطأً وجهلاً.وكذا المشتقات فان كلمة الجاري في مثل قولنا:النهر جارٍ،أو الميزاب جارٍ،قد استعملت في معناها الموضوع له وهو المتلبس بالجريان،والمجاز إنّما هو في إسناد الجري إلى النهر أو الميزاب،لا في الكلمة،وهذا من دون فرق بين أن يكون مفهوم المشتق مركباً أو بسيطاً،كما هو واضح.

ومن هنا يظهر ما في كلام الفصول 1من أ نّه يعتبر في صدق المشتق واستعماله فيما وضع له حقيقةً أن يكون الاسناد والتطبيق أيضاً حقيقياً،فاستعمال المشتق في مثل قولنا:الميزاب جار،ليس استعمالاً في معناه الحقيقي،فانّ التلبّس والاسناد فيه ليس بحقيقي،وذلك لأنّ ما ذكره (قدس سره) مبني على الخلط بين المجاز في الكلمة،والمجاز في الاسناد،بتخيل أنّ الثاني يستلزم الأوّل،مع أنّ الأمر ليس كذلك،فانّ كلمتي سائل وجار في مثل قولنا:الميزاب جار،أو النهر سائل،استعملتا في معناهما الموضوع له،وهو المتلبس بالمبدأ فعلاً،غاية الأمر تطبيق هذا المعنى على النهر أو الميزاب إنّما هو بنحو من التوسعة والعناية،وهذا معنى مجاز في الاسناد دون الكلمة.فما أفاده (قدس سره) من اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة في غير محلّه.

[نتائج الأبحاث السابقة]

يتلخص البحث حول الموضوعات المتقدمة في عدّة امور:


 

1) الفصول الغروية:62.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 339)


الأوّل:أنّ محل البحث في مفاهيم المشتقات هو بساطتها وتركيبها بحسب
الواقع والتحليل العقلي،

لا بحسب الإدراك واللحاظ كما يظهر من الكفاية على ما مرّ.

الثاني:أنّ الذات المأخوذة فيها مبهمة من جميع الجهات والخصوصيات ما
عدا قيام المبدأ بها،

ولذا تصدق على الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد.

الثالث:أنّ جميع الوجوه التي أقاموها على بطلان القول بالتركيب باطلة
فلا يمكن الاعتماد على شيء منها.
الرابع:أنّ القول بوضع المشتق للمعنى المركب من مفهوم الذات والمبدأ دون
البسيط هو الصحيح،

لدلالة الوجدان والبرهان عليه كما سبق.

الخامس:أنّ ما ذكره الفلاسفة وغيرهم من أنّ الفرق بين المشتق ومبدئه
هو لحاظ الأوّل لا بشرط ولحاظ الثاني بشرط لا غير صحيح،

لوجوه قد تقدّمت.نعم،ما ذكروه من الفرق بين المادة والجنس والصورة والفصل-وهو اعتبار أحدهما لا بشرط والآخر بشرط لا-صحيح.

السادس:أنّه لا دليل على اعتبار التغاير بين المبدأ و الذات مفهوماً،

فضلاً عن اعتبار التغاير خارجاً وحقيقةً كما في الوجود والموجود والبياض والأبيض وهكذا…نعم،المتبادر من المشتقات الدائرة في الألسنة هو تغاير المبدأ والذات مفهوماً وخارجاً،ولذا قلنا إنّ إطلاق المشتق عليه تعالى ليس على نحو الإطلاق المتعارف بل هو على نحو آخر وهو كون المبدأ عين الذات،وإن كان هذا المعنى خارجاً عن الفهم العرفي.

السابع:أنّ المراد من التلبس و القيام واجدية الذات للمبدأ،

لا قيام العرض بموضوعه كما عرفت.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 340)


الثامن:لا يعتبر في استعمال المشتق فيما وضع له حقيقةً أن يكون الإسناد
والتلبّس أيضاً حقيقياً كما عن الفصول.

وإلى هنا قد تمّ الجزء الأوّل 1من كتابنا (محاضرات في اصول الفقه) وسيتلوه الجزء الثاني إن شاء اللّٰه تعالى،وبعونه وتوفيقه.

الحمد للّٰه‌أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.


 

1) [ حسب التجزئة السابقة ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 341)


بحث الأوامر

الكلام فيها يقع في مقامين:

الأوّل:في مادة الأمر (أ م ر).

الثاني:في هيئة (افعل) وما شاكلها من الهيئات،كهيئة فعل الماضي والمضارع، ونحوهما.

[المقام الأوّل:مادّة الأمر]

أمّا الأوّل: فالكلام فيه من جهات:

[الجهة الاُولى:معنى مادة الأمر]

الاُولى:ذكر جماعة أنّ مادة الأمر موضوعة لعدّة معان:الطلب،الشيء، الحادثة،الشأن،الغرض،الفعل،وغير ذلك،وقد أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر معنى.

واختار صاحب الفصول (قدس سره) أ نّها موضوعة لمعنيين من هذه المعاني، أي الطلب والشأن 1.

وذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ عدّ بعض هذه المعاني من معاني الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم،فانّ الأمر لم يستعمل في نفس هذه المعاني، وإنّما استعمل في معناه،ولكنّه قد يكون مصداقاً لها.ثمّ قال:ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في الطلب في الجملة والشيء 2.


 

1) الفصول الغروية:62.
2) كفاية الاُصول:61.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 342)


وذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1إلى أنّ لفظ الأمر موضوع لمعنىً واحد، وهو الواقعة التي لها أهمّية في الجملة،وجميع ما ذكر من المعاني يرجع إلى هذا المعنى الواحد حتّى الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة له،وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة،وقد ينطبق على الشأن،وقد ينطبق على الغرض،وهكذا.

نعم،لا بدّ أن يكون المستعمل فيه من قبيل الأفعال والصفات،فلا يطلق على الجوامد.بل يمكن أن يقال:إنّ الأمر بمعنى الطلب أيضاً من مصاديق هذا المعنى الواحد،فانّه أيضاً من الاُمور التي لها أهمّية،فلا يكون للفظ الأمر إلّا معنىً واحد يندرج الكل فيه،وتصوّر الجامع القريب بين الجميع وإن كان صعباً إلّا أ نّا نرى وجداناً أنّ استعمال الأمر في جميع الموارد بمعنى واحد،وعليه فالقول بالاشتراك اللفظي بعيد.

وما أفاده (قدس سره) يحتوي على نقطتين:

الاُولى:أنّ لفظ الأمر موضوع لمعنىً واحد يندرج فيه جميع المعاني المزبورة حتّى الطلب المنشأ بالصيغة.

الثانية:أنّ الأهمّية في الجملة مأخوذة في معناه.

ولنأخذ بالنقد على كلتا النقطتين:

أمّا الاُولى: فلأنّ الجامع الذاتي بين الطلب وغيره من المعاني المذكورة غير معقول،والسبب في ذلك:أنّ معنى الطلب معنىً حدثي قابل للتصريف والاشتقاق، دون غيره من المعاني فانّها من الجوامد وهي غير قابلة لذلك،ومن الواضح أنّ الجامع الذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد غير متصور.


 

1) أجود التقريرات 1:133.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 343)


وبكلمة اخرى:أنّ الجامع بينهما لايخلو من أن يكون معنىً حدثياً أو جامداً، ولا ثالث لهما،وعلى كلا التقديرين لا يكون الجامع المزبور جامعاً ذاتياً،إذ على الأوّل لا ينطبق على الجوامد.وعلى الثاني لا ينطبق على المعنى الحدثي،وهذا معنى عدم تصوّر جامع ذاتي بينهما.

وممّا يشهد على ذلك:اختلافهما-أي الأمر بمعنى الطلب والأمر بمعنى غيره – في الجمع،فانّ الأوّل يجمع على أوامر،والثاني على امور،وهذا شاهد صدق على اختلافهما في المعنى،ولهذا لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر،فلا يقال:بقي أوامر،أو ينبغي التنبيه على أوامر،وهكذا…فالنتيجة بطلان هذه النقطة.

وأمّا الثانية: فلأ نّه لا دليل على أخذ الأهمّية في معنى الأمر بحيث يكون استعماله فيما لا أهمّية له مجازاً،وذلك لوضوح أنّ استعماله فيه كاستعماله فيما له أهمّية في الجملة من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

وإن شئت قلت:إنّ الأهمّية لو كانت مأخوذةً في معناه لكانت متبادرة منه عرفاً عند إطلاقه وعدم نصب قرينة على الخلاف،مع أ نّها غير متبادرة منه كذلك،ومن هنا صحّ توصيفه بما لا أهمّية له،وبطبيعة الحال أ نّها لو كانت داخلة في معناه لكان هذا تناقضاً ظاهراً.

فالنتيجة:أنّ نظريّة المحقق النائيني (قدس سره) في موضوع بحثنا نظريّة خاطئة ولا واقع موضوعي لها.

ويمكن أن نقول: إنّ مادة الأمر موضوعة لغةً لمعنيين على سبيل الاشتراك اللفظي.

أحدهما: الطلب في إطار خاص،وهو الطلب المتعلق بفعل الغير،لا الطلب المطلق الجامع بين ما يتعلق بفعل غيره وما يتعلق بفعل نفسه،كطالب العلم،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 344)


وطالب الضالة،وطالب الحق،وما شاكل ذلك،والسبب فيه:أنّ مادة الأمر – بما لها من معنى-لا تصدق على الحصّة الثانية وهي المتعلقة بفعل نفس الانسان،وهذا قرينة قاطعة على أ نّها لم توضع للجامع بينهما.ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين الأمر والطلب عموم مطلق.

وثانيهما: الشيء الخاص،وهو الذي يتقوّم بالشخص من الفعل أو الصفة أو نحوهما في مقابل الجواهر وبعض أقسام الأعراض،وهي بهذا المعنى قد تنطبق على الحادثة،وقد تنطبق على الشأن،وقد تنطبق على الغرض وهكذا.

الدليل على ما ذكرناه أمران:

أحدهما:أنّ لفظ الأمر بمعناه الأوّل قابل للتصريف والاشتقاق،فتشتق منه الهيئات والأوزان المختلفة،كهيئة الماضي،والمضارع،والفاعل،والمفعول،وما شاكلها،وهذا بخلاف الأمر بمعناه الثاني حيث إنّه جامد فلا يكون قابلاً لذلك.

وثانيهما:أنّ الأمر بمعناه الأوّل يجمع على أوامر،وبمعناه الثاني يجمع على امور،ومن الطبيعي أنّ اختلافهما في ذلك شاهد صدق على اختلافهما في المعنى.

وعلى ضوء هذا قد اتّضح فساد كلا القولين السابقين:الاشتراك اللفظي، الاشتراك المعنوي.

أمّا الأوّل: فقد عرفت أنّ جميع المعاني المشار إليها آنفاً ليست من معاني الأمر على سبيل الاشتراك اللفظي،كيف فان استعماله فيها غير معلوم لو لم يكن معلوم العدم،فضلاً عن كونه موضوعاً بازائها،ومن هنا لا يكون المتبادر منه عند الاطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة الخلاف إلّاأحد المعنيين السابقين لا غير.

وأمّا الثاني، فلعدم تصور جامع ماهوي بينها ليكون موضوعاً له.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 345)


فالنتيجة:أ نّه موضوع بازاء المعنيين الماضيين على نحو الاشتراك اللفظي:

الحصّة الخاصّة من الطلب،الحصّة الخاصّة من مفهوم الشيء،وهي ما يتقوم بالشخص في قبال الجواهر وبعض أقسام الأعراض،ولأجل ذلك لا يصح أن يقال:رأيت أمراً عجيباً إذا رأى فرساً عجيباً،أو إنساناً كذلك،ولكن يصح أن يقال:رأيت شيئاً عجيباً إذا رأى فرساً أو إنساناً كذلك.والسبب في هذا ظاهر،وهو أنّ الشيء بمفهومه العام ينطبق على الأفعال والأعيان والصفات بشتى ألوانها وأشكالها،ولذلك قالوا إنّه عرض عام لجميع الأشياء.

وعلى أثر هذا البيان يظهر نقد ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أنّ الأمر وضع لمعنىً جامع وحداني على نحو الاشتراك المعنوي،وهو الجامع بين ما يصح أن يتعلق الطلب به تكويناً وما يتعلق الطلب به تشريعاً،مع عدم ملاحظة شيء من الخصوصيتين في المعنى الموضوع له،والأصل فيه أن يجمع على أوامر 1.

وجه الظهور:ما عرفت من أ نّه لا جامع ذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد ليكون الأمر موضوعاً بازائه،وأمّا الجامع الانتزاعي فهو وإن كان أمراً ممكناً وقابلاً للتصوير،إلّاأ نّه لم يوضع بازائه يقيناً.على أ نّه خلاف مفروض كلامه (قدس سره).

وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص،يردّه-مضافاً إلى ذلك-ما حققناه في مبحث الصحيح والأعم 2من أنّ نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاص كنتيجة الاشتراك اللفظي فلاحظ،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ اختلاف لفظ الأمر في الجمع قرينة قطعية على اختلافه في المعنى،ضرورة أنّ


 

1) نهاية الدراية 1:249-252.
2) في ص 170.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 346)


معناه لو كان واحداً لن يعقل اختلافه في الجمع،هذا على ما بيّناه في الدورات السابقة.

ولكن الصحيح في المقام أن يقال:إنّ مادة الأمر لم توضع للدلالة على حصّة خاصّة من الطلب،وهي الحصّة المتعلقة بفعل الغير،بل وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،والسبب في ذلك:ما حققناه في بحث الانشاء 1من أ نّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:ما ذكرناه في بحث الوضع من أ نّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي وضع مادة الأمر أو ما شاكلها بطبيعة الحال لما ذكرناه،أي للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني،لا للطلب والتصدّي،ولا للبعث والتحريك.نعم،إنّها كصيغتها مصداق للطلب والتصدّي،والبعث والتحريك،لا أ نّها معناها.

وبكلمة اخرى:أ نّنا إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً فلا نعقل فيه سوى شيئين:

أحدهما:اعتبار المولى ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة داعية إلى ذلك.

وثانيهما:إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كمادة الأمر أو نحوها، فالمادة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني، لا للطلب ولا للبعث والتحريك.


 

1) في ص 97.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 347)


نعم،قد عرفت أنّ المادة أو ما شاكلها مصداق للطلب والبعث،ونحو تصدٍ إلى الفعل،فانّ الطلب والبعث قد يكونان خارجيين،وقد يكونان اعتباريين، فمادة الأمر أو ما شابهها مصداق للطلب والبعث الاعتباري لا الخارجي،لوضوح أ نّها تصدٍ في اعتبار المولى إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه،لا تكويناً وخارجاً،كما هو ظاهر.

ونتيجة ما ذكرناه أمران:

الأوّل: أنّ مادة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،وهو اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف،ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.

الثاني: أ نّها مصداق للطلب والبعث لا أ نّهما معناها.

إلى هنا قد تبيّن أنّ القول بالاشتراك اللفظي بين جميع المعاني المتقدمة باطل لا واقع موضوعي له،وكذلك القول بالاشتراك المعنوي،فالصحيح هو القول بالاشتراك اللفظي بين المعنيين المتقدمين.

ثمّ لا يخفى أ نّه لا ثمرة عملية لذلك البحث أصلاً،والسبب فيه:أنّ الثمرة هنا ترتكز على ما إذا لم يكن المراد الاستعمالي من الأوامر الواردة في الكتاب والسنّة معلوماً،وحيث إنّ المراد الاستعمالي منها معلوم،فإذن لا أثر له.

المعنى الاصطلاحي للأمر

حكى المحقق صاحب الكفاية 1(قدس سره) أنّ الأمر قد نقل عن معناه الأصلي إلى القول المخصوص،وهو هيئة (افعل).


 

1) كفاية الاُصول:62.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 348)


ويرد عليه: أ نّه إن كان هذا مجرد اصطلاح،فلا مشاحة فيه،وإلّا فلا وجه له أصلاً،وذلك لأنّ الظاهر أنّ الاشتقاق منه بحسب معناه الاصطلاحي،وعليه فلو كان معناه الاصطلاحي القول المخصوص لم يمكن الاشتقاق منه لأنّه جامد، ومن الطبيعي أنّ مبدأ المشتقات لا بدّ أن يكون معنىً حدثياً قابلاً للتصريف والتغيير،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أن يكون المبدأ خالياً عن جميع الخصوصيات،ليقبل كل خصوصية ترد عليه.

ومن ثمة قلنا في بحث المشتق 1إنّ المصدر لا يصلح أن يكون مبدأً له،لعدم توفر الشرط الأساسي للمبدأ فيه،وهو خلوّه عن جميع الأشكال والصور المعنوية واللفظية،حتّى يقبل أيّة صورة ترد عليه،نظير الهيولى في الأجسام، حيث إنّها فاقدة لكل صورة افترضت،ولذا تقبل كل صورة ترد عليها بشتّى أنواعها وأشكالها،وبطبيعة الحال أ نّها لو لم تكن فاقدةً لها فلا تقبل صورة اخرى،لوضوح إباء كل صورة عن صورة اخرى،وكل فعلية عن فعلية ثانية.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ القول المخصوص لا يصلح أن يكون مبدأً للمشتقات،وأن يجعله شقة شقة،لاستحالة تصريفه وورود هيئة اخرى عليه،فيكون نظير الجملة والمفرد والكلمة والكلام وما شاكل ذلك ممّا هو اسم لنفس اللفظ،فانّها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات،لعدم توفر الركيزتين الأساسيتين للمبدأ فيها:المعنى الحدثي،الخلو من الخصوصيات.

نعم،التلفظ بالقول المخصوص قابل لأن تشتق منه المشتقات وترد عليه الهيئات والصور،وذلك لأنّ التلفظ إن لوحظ بنفسه مع عدم ملاحظة شيء


 

1) في ص 319.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 349)


معه من الخصوصيات الخارجة عن حدود ذاته،فهو مبدأ.وإن لوحظ قائماً بغيره فحسب فهو مصدر.وإن لوحظ زائداً على هذا وذاك وجوده وتحققه في الخارج قبل زمان التكلم فهو ماض،وفي زمانه وما بعده فمضارع،وهكذا.

ولكن من المعلوم أ نّه لا صلة لذلك بما ذكرناه أصلاً.

ولكن لشيخنا المحقق (قدس سره) في هذا الموضوع كلام،وهو أنّ الأمر بهذا المعنى أيضاً قابل للاشتقاق والتصريف،وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه:

وإن كان وجه الاشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنىً حدثياً،ففيه:

أنّ لفظ«اضرب»صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع،وهو من الأعراض القائمة بالمتلفظ به.

فقد يلاحظ نفسه من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير،فهو المبدأ الحقيقي الساري في جميع مراتب الاشتقاق.

وقد يلاحظ قيامه فقط،فهو المعنى المصدري المشتمل على نسبة ناقصة.

وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الزمان الماضي فهو المعنى الماضوي.

وقد يلاحظ صدوره في الحال أو الاستقبال،فهو المعنى المضارعي وهكذا، فليس هيئة (اضرب) كالأعيان الخارجية والاُمور غير القائمة بشيء حتّى لايمكن لحاظ قيامه فقط،أو في أحد الأزمنة.وعليه فالأمر موضوع لنفس الصيغة الدالة على الطلب مثلاً أو للصيغة القائمة بالشخص،و«أَمَرَ»موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي و«يأمر»موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في الحال أو الاستقبال 1.


 

1) نهاية الدراية 1:254.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 350)


ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) وحاصله:أنّ ما ذكره في إطاره وإن كان في غاية الصحّة والمتانة،إلّاأ نّه لا صلة له بما ذكرناه،والسبب في ذلك:أنّ لكل لفظ حيثيتين موضوعيتين:

الاُولى:حيثية صدوره من اللافظ خارجاً وقيامه به كصدور غيره من الأفعال كذلك.

الثانية:حيثية تحققه ووجوده في الخارج.

فاللفظ من الحيثية الاُولى وإن كان قابلاً للتصريف والاشتقاق،إلّاأنّ لفظ الأمر لم يوضع بازاء القول المخصوص من هذه الحيثية،وإلّا لم يكن مجال لتوهم عدم إمكان الاشتقاق والصرف منه،بل هو موضوع بازائه من الحيثية الثانية، ومن الطبيعي أ نّه بهذه الحيثية غير قابل لذلك كما عرفت.فما أفاده (قدس سره) مبني على الخلط بين هاتين الحيثيتين.

الجهة الثانية:هل أنّ العلوّ معتبر في معنى الأمر أم لا؟

الظاهر اعتباره،إذ لا يصدق الأمر عرفاً على الطلب الصادر من غير العالي، وإن كان بنحو الاستعلاء وإظهار العلوّ.

وعلى الجملة:فصدوره من العالي منشأ لانتزاع عنوان الأمر والبعث والتحريك والتكليف وما شاكل ذلك،دون صدوره عن غيره،بل ربّما يوجب توبيخه باستعماله الأمر.

ويدلّنا على ذلك:مضافاً إلى مطابقة هذا للوجدان،صحّة سلب الأمر عن الطلب الصادر من غير العالي،بل يستحق التوبيخ عليه بقوله:أتأمر الأمير مثلاً،ومن المعلوم أنّ التوبيخ لا يكون على أمره بعد استعلائه،وإنّما يكون على استعلائه واستعماله الأمر.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 351)


[الجهة الثالثة:منشأ تبادر الوجوب من لفظ الأمر]

الجهة الثالثة:لا إشكال في تبادر الوجوب عرفاً من لفظ الأمر عند الاطلاق،و إنّما الاشكال والكلام في منشأ هذا التبادر،هل هو وضعه للدلالة عليه،أو الاطلاق ومقدمات الحكمة،أو حكم العقل به ؟ وجوه بل أقوال.

المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو القول الأوّل.واختار جماعة القول الثاني،ولكن الصحيح هو الثالث،فلنا دعويان:الاُولى:بطلان القول الأوّل والثاني.

الثانية:صحّة القول الثالث.

أمّا الدعوى الاُولى: فلأ نّها تبتني على ركيزتين:

إحداهما:ما حققناه في بحث الوضع من أ نّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني.

وثانيتهما:ما حققناه في بحث الانشاء من أ نّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني،وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله.

وعلى ضوء هاتين الركيزتين يظهر أنّ مادة الأمر وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،فلا تدل على الوجوب لا وضعاً ولا إطلاقاً.أمّا الأوّل فظاهر.وأمّا الثاني فلأ نّه يرتكز على كونها موضوعةً للجامع بين الوجوب والندب،ليكون إطلاقها معيّناً للوجوب دون الندب،باعتبار أنّ بيان الندب يحتاج إلى مؤونة زائدة والاطلاق غير وافٍ به.ولكن قد عرفت أ نّها كما لم توضع لخصوص الوجوب أو الندب،كذلك لم توضع للجامع بينهما، بل وضعت لما ذكرناه.

هذا مضافاً إلى عدم الفرق بين الوجوب والندب من هذه الناحية.وإذن فلا يكون الاطلاق معيّناً للأوّل دون الثاني،فحاله حال الوجوب من هذه الناحية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 352)


من دون فرق بينهما أصلاً.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ العقل يدرك-بمقتضى قضيّة العبودية والرقية – لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى،ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه،فلو أمر بشيء ولم ينصب قرينةً على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه في الخارج،قضاء لحق العبودية وأداءً لوظيفة المولوية،وتحصيلاً للأمن من العقوبة،ولا نعني بالوجوب إلّاإدراك العقل لابدّية الخروج عن عهدته فيما إذا لم يحرز من الداخل أو من الخارج ما يدل على جواز تركه.

الجهة الرابعة:في الطلب والارادة.

قد سبق منّا في الجهة الثالثة:أنّ الأمر موضوع للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،فلا يدل على شيء ما عداه،هذا من ناحية.

[كلام صاحب الكفاية في المقام]

ومن ناحية اخرى:تعرّض المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام للبحث عن جهة اخرى،وهي أنّ الطلب هل يتحد مع الارادة أو لا ؟ فيه وجوه وأقوال.قد اختار (قدس سره) القول بالاتحاد،وإليك نص مقولته:

فاعلم أنّ الحق كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للاشاعرة،هو اتحاد الطلب والارادة،بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بازاء مفهوم واحد،وما بازاء أحدهما في الخارج يكون بازاء الآخر،والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائية.وبالجملة هما متحدان مفهوماً وانشاءً وخارجاً،لا أنّ الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه-كما عرفت-متحد مع الارادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً،ضرورة أنّ المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد،ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقةً كفاية،فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 353)


فانّ الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفةً اخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها،سوى ما هو مقدّمة تحققها عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه،والتصديق لفائدته،وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

وبالجملة لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والارادة هناك صفة اخرى قائمة بها يكون هو الطلب،فلا محيص إلّاعن اتحاد الارادة والطلب،وأن يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة،أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك،مسمى بالطلب والارادة،كما يعبّر به تارةً،وبها اخرى كما لا يخفى 1.

ما أفاده (قدس سره) يحتوي على عدّة نقاط:

1- اتحاد الارادة الحقيقية مع الطلب الحقيقي.

2- اتحاد الارادة الانشائية مع الطلب الانشائي.

3- مغايرة الطلب الانشائي للطلب الحقيقي،والارادة الانشائية للارادة الحقيقية،ولم يبرهن (قدس سره) على هذه النقاط،بل أحالها إلى الوجدان.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:

أمّا الاُولى: فهي خاطئة جداً،والسبب في ذلك:أنّ الارادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانية ومن مقولة الكيف القائم بالأنفس.وأمّا الطلب فقد سبق أ نّه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن الانسان بالارادة والاختيار،حيث إنّه عبارة عن التصدي نحو تحصيل شيء في الخارج،ومن هنا لا يقال طالب الضالّة،أو طالب العلم إلّالمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما،وأمّا من اشتاق


 

1) كفاية الاُصول:65.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 354)


إليهما فحسب وأراد فلا يصدق عليه ذلك،ولذا لا يقال طالب المال أو طالب الدُّنيا لمن اشتاق وأرادهما في افق النفس،ما لم يظهر في الخارج بقول أو فعل.

وبكلمة اخرى:أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً، فلا يصدق على مجرد الشوق والارادة النفسانية،ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا:طلبت زيداً فما وجدته،أو طلبت من فلان كتاباً-مثلاً-فلم يعطني، وهكذا،ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي،وليس إخباراً عن الارادة والشوق النفساني فحسب،ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلب متعلقاً بفعل نفس الانسان وعنواناً له كطالب الضالّة وطالب العلم وما شاكلها، وأن يكون متعلقاً بفعل غيره.وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الارادة.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ الطلب مباين للارادة مفهوماً ومصداقاً،فما أفاده (قدس سره) من أنّ الوجدان يشهد باتحادهما خطأ جداً.

وأمّا النقطة الثانية: فقد ظهر نقدها ممّا أوردناه على النقطة الاُولى،وذلك لما عرفت من أنّ الطلب عنوان للفعل الخارجي أو الذهني،وليس منشأ بمادة الأمر،أو بصيغتها،أو ما شاكلها.فإذن لا موضوع لما أفاده (قدس سره) من أنّ الطلب الانشائي عين الارادة الانشائية.

ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة: فانّها إنّما تتم إذا كانت متوفرة لأمرين:

الأوّل:القول بأنّ الطلب منشأ بالصيغة أو نحوها.

الثاني:القول بالارادة الانشائية في مقابل الارادة الحقيقية،ولكن كلا القولين خاطئ جداً.

وأمّا النقطة الرابعة: فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره)،إلّاأنّ عدم تحقق الطلب حقيقةً ليس بملاك عدم تحقق الارادة كذلك في أمثال الموارد،بل

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 355)


بملاك ما عرفت من أنّ الطلب عنوان لمبرز الارادة ومظهرها من قول أو فعل، وحيث لا إرادة ها هنا فلا مظهر لها حتّى يتصف بعنوان الطلب.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر فساد ما قيل:من أنّ الطلب والارادة متباينان مفهوماً ومتحدان مصداقاً وخارجاً 1ووجه الظهور ما عرفت من تباينهما مفهوماً ومصداقاً،فلا يمكن صدقهما في الخارج على شيء واحد كما مرّ بشكل واضح.

ثمّ لا يخفى أنّ غرض صاحب الكفاية (قدس سره) من هذه المحاولة نفي الكلام النفسي الذي يقول به الأشاعرة،بتخيل أنّ القول بتغاير الطلب والارادة يستلزم القول بثبوت صفة اخرى غير الصفات المعروفة المشهورة،وبطبيعة الحال أنّ مردّ ذلك هو التصديق بما يقوله الأشاعرة من الكلام النفسي.

ولكن قد عرفت أنّ هذه المحاولة غير ناجحة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّا سنذكر بعد قليل أنّ نفي الكلام النفسي لا يرتكز على القول باتحاد الطلب والارادة،حيث إنّا نقول بتغايرهما،فمع ذلك نبرهن بصورة قاطعة بطلان محاولة الأشاعرة لاثبات أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي.

بحث ونقد حول عدّة نقاط

الاُولى:نظريّة الأشاعرة:الكلام النفسي،ونقدها.

الثانية:نظريّة الفلاسفة:إرادته تعالى من الصفات الذاتية،ونقدها.

الثالثة:نظريّة الأشاعرة:مسألة الجبر،ونقدها.


 

1) درر الفوائد 1:41.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 356)


الرابعة:نظريّة المعتزلة:مسألة التفويض،ونقدها.

الخامسة:نظريّة الإمامية:مسألة الأمر بين الأمرين.

السادسة:نظريّة العلماء:مسألة العقاب.

(1) نظريّة الأشاعرة
الكلام النفسي،ونقدها

ذهب الأشاعرة إلى أنّ كلامه تعالى من الصفات الذاتية العليا،وهو قائم بذاته الواجبة،قديم كبقية صفاته العليا من العلم والقدرة والحياة،وليس من صفاته الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها،ولأجل ذلك قد اضطرّوا إلى الالتزام بأنّ كلامه تعالى نفسي ما وراء الكلام اللفظي،وهو قديم قائم بذاته تعالى،فانّ الكلام اللفظي حادث فلا يعقل قدمه،وقد صرّحوا به في ضمن محاولتهم واستدلالهم على الكلام النفسي،وإليكم نص مقولتهم:

وهذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن،بل نقول به ونسمّيه كلاماً لفظياً، ونعترف بحدوثه،وعدم قيامه بذاته تعالى،ولكنّا نثبت أمراً وراء ذلك،وهو المعنى القائم بالنفس،الذي يعبّر عنه بالألفاظ،ونقول هو الكلام حقيقة،وهو قديم قائم بذاته تعالى،ونزعم أ نّه غير العبارات،إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام،ولايختلف ذلك المعنى النفسي،بل نقول ليس ينحصر الدلالة عليه في الألفاظ،إذ قد يدل عليه بالاشارة والكتابة،كما يدل عليه بالعبارة، والطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لايتغير مع تغيّر العبارات،ولا يختلف

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 357)


باختلاف الدلالات،وغير المتغير-أي ما ليس متغيراً وهو المعنى النفسي – مغاير للمتغير الذي هو العبارات،ونزعم أ نّه-أي المعنى النفسي الذي هو الخبر-غير العلم،إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه،بل يعلم خلافه أو يشك فيه، وأنّ المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الارادة،لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا،فانّ مقصوده مجرد الاختبار،دون الاتيان بالمأمور به،وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه،فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه.

واعترض عليه:بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته، إذ لا طلب فيهما أصلاً،كما لا إرادة قطعاً،فإذن هو-أي المعنى النفسي الذي يعبّر عنه بصيغة الخبر والأمر-صفة ثالثة مغايرة للعلم والارادة،قائمة بالنفس، ثمّ نزعم أ نّه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى 1.

ومن الغريب جداً ما نسب إلى الحنابلة في شرح المواقف وهذا نصّه:قال الحنابلة:كلامه حرف وصوت،يقومان بذاته تعالى،وأ نّه قديم،وقد بالغوا فيه حتّى قال بعض جهلاً:الجلد والغلاف قديمان فضلاً عن المصحف 2.

يتضمن هذا النص عدّة خطوط:

1- إنّ للّٰه‌تعالى سنخين من الكلام:النفسي واللفظي.والأوّل من صفاته تعالى،وهو قديم قائم بذاته الواجبة دون الثاني.

2- إنّ الكلام النفسي عبارة عن المعنى القائم بالنفس،ويبرزه في الخارج بالألفاظ والعبارات بشتّى ألوانها وأشكالها،ولا يختلف ذلك المعنى باختلافها،


 

1) شرح المواقف:93.
2) شرح المواقف:92.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 358)


كما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.

3- إنّهم عبّروا عن ذلك المعنى تارةً بالطلب،واُخرى بالأمر،وثالثة بالخبر، ورابعة بصيغة الخبر.

4- إنّ هذا المعنى غير العلم،إذ قد يخبر الانسان عمّا لا يعلمه،أو يعلم خلافه،وغير الارادة إذ قد يأمر الرجل بما لايريده كالمختبر لعبده فانّ مقصوده الامتحان والاختبار،دون الاتيان بالمأمور به في الخارج.

ولنأخذ بالنقد على هذه الخطوط جميعاً.

أمّا الأوّل: فسنبيّنه بشكل واضح في وقت قريب إن شاء اللّٰه تعالى:أنّ كلامه منحصر بالكلام اللفظي،وأنّ القرآن المنزل على النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) هو كلامه تعالى،بتمام سوره وآياته وكلماته،لا أ نّه حاكٍ عن كلامه، لوضوح أنّ ما يحكي القرآن عنه ليس من سنخ الكلام،كما سيأتي بيانه،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ السبب الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو تخيل أنّ التكلم من صفاته الذاتية،ولكن هذا الخيال خاطئ جداً، وذلك لما سيجيء إن شاء اللّٰه تعالى بصورة واضحة أنّ التكلم ليس من الصفات الذاتية،بل هو من الصفات الفعلية.

وأمّا الثاني: فيتوقف نقده على تحقيق حال الجمل الخبرية والإنشائية.

أمّا الاُولى:فقد حققنا في بحث الإنشاء والإخبار 1أنّ الجمل الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع،هذا بناءً على نظريتنا.وأمّا بناءً على نظرية المشهور،فلأ نّها موضوعة


 

1) في ص 94.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 359)


للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.ومن الطبيعي أنّ مدلولها على ضوء كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام ليقال إنّه كلام نفسي،ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به وإن كان موجوداً نفسانياً،إلّاأنّ كل موجود نفساني ليس بكلام نفسي،بل لا بدّ أن يكون سنخ وجوده سنخ وجود الكلام، لفرض أ نّه ليس من سنخ وجود الصفات المعروفة الموجودة في النفس.ومن المعلوم أنّ قصد الحكاية على رأينا وثبوت النسبة على رأي المشهور ليس من ذلك.

وبكلمة واضحة:إذا حلّلنا الجمل الخبرية تحليلاً موضوعياً،وفحصنا مداليلها في إطاراتها الخاصّة،فلا نجد فيها سوى عدّة امور:الأوّل تصوّر معاني مفرداتها بموادها وهيئاتها.الثاني:تصوّر معاني هيئاتها التركيبية.الثالث:تصوّر مفردات الجملة.الرابع:تصوّر هيئاتها.الخامس:تصوّر مجموع الجملة.السادس:تصوّر معنى الجملة.السابع:التصديق بمطابقتها للواقع أو بعدم مطابقتها له.الثامن:

إرادة إيجادها في الخارج.التاسع:الشك في ذلك.

وبعد ذلك نقول:إنّ شيئاً من هذه الاُمور ليس من سنخ الكلام النفسي عند القائلين به.

أمّا الأوّل:فواضح،إذ الكلام النفسي عند القائلين به ليس من سنخ المعنى أوّلاً على ما سيأتي بيانه.وليس من سنخ المعنى المفرد ثانياً.

وأمّا الثاني:فلأنّ الكلام النفسي-كما ذكروه-صفة قائمة بالنفس كسائر الصفات النفسانية،ومن الطبيعي أنّ المعنى ليس كذلك،فانّه مع قطع النظر عن وجوده وتحققه في الذهن ليس قائماً بها،ومع لحاظ وجوده وتحققه فيه وإن كان قائماً بها،إلّاأ نّه بهذا اللحاظ علم،وليس بكلام نفسي على الفرض.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال جميع الاُمور الباقية،فانّ الثالث والرابع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 360)


والخامس والسادس والتاسع من مقولة العلم التصوري،والسابع من مقولة العلم التصديقي،والثامن من مقولة الارادة.

فالنتيجة: أنّ الكلام النفسي بهذا الاطار الخاص عند القائلين به غير متصوّر في موارد الجمل الخبرية،وحينئذٍ فلا يخرج عن مجرد افتراض ولقلقة اللسان، بلا واقع موضوعي له.

وأمّا الجمل الانشائية:فقد سبق الكلام فيها بشكل مفصل،وقلنا هناك إنّ نظريتنا فيها تختلف عن نظريّة المشهور،حيث إنّ المشهور قد فسّروا الانشاء بايجاد المعنى باللفظ.

ولكن قد حققنا هناك 1أ نّا لا نعقل لذلك معنىً صحيحاً معقولاً،والسبب في ذلك:هو أ نّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني،كايجاد الجوهر والعرض، فبطلانه من البديهيات التي لا تقبل الشك،ضرورة أنّ الموجودات الخارجية – بشتى أشكالها وأنواعها-ليست ممّا توجد بالألفاظ،كيف والألفاظ ليست واقعةً في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.

وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك،فيردّه:أ نّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني،من دون حاجة إلى اللفظ والتكلم به،ضرورة أنّ اللفظ في الجملة الانشائية لا يكون علّة لايجاد الأمر الاعتباري،ولا واقعاً في سلسلة علته،لوضوح أ نّه يتحقق بنفس اعتبار المعتبر في افق النفس،سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.

ودعوى: أنّ مرادهم بذلك الايجاد التنزيلي،ببيان أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه تنزيلاً،ومن هنا يسري إليه قبح المعنى وحسنه،


 

1) في ص 97.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 361)


وعلى هذا صحّ أن يفسّروا الانشاء بايجاد المعنى خاطئة جداً، وذلك لأنّ تمامية هذه الدعوى ترتكز على نطرية من يرى كون الوضع عبارة عن الهوهوية، وجعل وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى،ولكن قد ذكرنا في محلّه 1أنّ هذه النظريّة باطلة،وقلنا هناك إنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهد والالتزام النفساني، وعليه فلا اتحاد بينهما لا حقيقةً وواقعاً،ولا عنايةً ومجازاً ليكون وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً له.

وأمّا مسألة سراية القبح والحسن فهي لا ترتكز على النظرية المزبورة،بل هي من ناحية كون اللفظ كاشفاً عنه ودالاً عليه،ومن الطبيعي أ نّه يكفي لذلك وجود العلاقة الكاشفية بينهما،ولا فرق في وجود هذه العلاقة بين نظرية دون اخرى في مسألة الوضع.

وبعد ذلك نقول: إنّ مدلول الجمل الإنشائية على كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام النفسي عند القائلين به.

أمّا على نظرية المشهور فواضح،لما عرفت من أنّ الكلام النفسي عندهم عبارة عن صفة قائمة بالنفس في مقابل سائر الصفات النفسانية،وقديم كغيرها من الصفات الأزلية،وبطبيعة الحال أنّ إيجاد المعنى باللفظ فاقد لهاتين الركيزتين معاً،أمّا الركيزة الاُولى فلأ نّه ليس من الاُمور النفسانية ليكون قائماً بها.وأمّا الثانية فلفرض أ نّه حادث بحدوث اللفظ،وليس بقديم.

وأمّا على نظريتنا فأيضاً الأمر كذلك،فان إبراز الأمر الاعتباري ليس من الاُمور النفسانية أيضاً.

فالنتيجة لحدّ الآن،أ نّه لا يعقل في موارد الجمل الخبرية والانشائية ما


 

1) في ص 43،48.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 362)


يصلح أن يكون من سنخ الكلام النفسي،ومن هنا قلنا إنّه لا يخرج عن مجرد وهم وخيال،فلا واقع موضوعي له.

ثمّ انّه قد يتوهم أنّ صورة الكلام اللفظي المتمثلة في افق النفس هي كلام نفسي،ولكن هذا التوهم خاطئ،لسببين:

الأوّل:أنّ هذه الصورة وإن كانت موجودةً في افق النفس ومتمثلة فيه،إلّا أ نّها ليست بكلام نفسي،ضرورة أنّ الكلام النفسي عند القائلين به مدلول للكلام اللفظي،والمفروض أنّ تلك الصورة بهذا الاطار الخاص ليست كذلك، لما عرفت من أنّ مدلول الكلام سواء أكان إخبارياً أم إنشائياً أجنبي عنها.

أضف إلى ذلك:ما ذكرناه في محلّه 1من أنّ الموجود بما هو موجود لا يعقل أن يكون مدلولاً للفظ،من دون فرق في ذلك بين الموجود الخارجي والذهني.

فإذن لا يمكن أن تكون تلك الصورة مدلولاً له لتكون كلاماً نفسياً.على أ نّها لا تختص بخصوص الكلام الصادر عن المتكلم بالاختيار،بل تعم جميع الأفعال الاختيارية بشتى أنواعها وأشكالها،حيث إنّ صورة كل فعل اختياري متمثلة في افق النفس قبل وجوده الخارجي.

الثاني:أنّ هذه الصورة نوع من العلم والتصور وهو التصور الساذج،وقد تقدّم انّ الكلام النفسي عندهم صفة اخرى في مقابل صفة العلم والارادة ونحوهما.

وقد تخيّل بعضهم أنّ الكلام النفسي عبارة عن الطلب المدلول عليه بصيغة الأمر.ولكن هذا الخيال فاسد جداً،والسبب في ذلك ما حققناه سابقاً من أنّ الطلب وإن كان غير الارادة مفهوماً ومصداقاً،إلّاأ نّه ليس بكلام نفسي،لما


 

1) في ص 56.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 363)


عرفت من أ نّه عبارة عن التصدي نحو المقصود خارجاً،وهو من الأفعال الخارجية وليس من المفاهيم اللفظية في شيء حتّى يدعي أ نّه كلام نفسي،ومن هنا قلنا إنّ الصيغة مصداق للطلب،لا أ نّها وضعت بازائه.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران:الأوّل فساد توهم كون الطلب منشأ بالصيغة أو ما شاكلها.الثاني:أنّ الأشاعرة قد أخطأوا هنا في نقطة وأصابوا في نقطة اخرى.أمّا النقطة الخاطئة فهي أ نّهم جعلوا الطلب من الصفات النفسانية، وقد عرفت خطأ ذلك.وأمّا النقطة الثانية فهي أ نّهم جعلوا الطلب مغايراً للارادة ذاتاً وعيناً وقد سبق صحّة ذلك.

وأمّا الثالث: فنفس اختلاف كلماتهم في تفسيره يعني مرّة بالطلب،واُخرى بالخبر،وثالثة بالأمر،ورابعة بصيغة الأمر شاهد صدق على أ نّهم أيضاً لم يتصوّروا له معنى محصلاً،إلّاأن يقال إنّ ذلك منهم مجرد اختلاف في التعبير واللفظ والمقصود واحد،ولكن ننقل الكلام إلى ذلك المقصود الواحد وقد عرفت أ نّه لا واقع موضوعي له أصلاً،ولا يخرج عن حدّ الفرض والخيال.

وأمّا الرابع: فقد ظهر جوابه ممّا ذكرناه 1بصورة مفصّلة من أ نّه ليس في الجمل الخبرية والانشائية شيء يصلح أن يكون كلاماً نفسياً.

[الاستدلال على الكلام النفسي بوجوه اخر]

وقد استدلّ على الكلام النفسي بعدّة وجوه اخر:

الأوّل: أنّ اللّٰه تعالى قد وصف نفسه بالتكلّم في الكتاب الكريم بقوله «وَ كَلَّمَ اللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً» 2ومن المعلوم أنّ التكلم صفة له كالعلم والقدرة والحياة وما شاكلها،هذا من ناحية.


 

1) في ص 361.
2) النساء 4:164.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 364)


ومن ناحية اخرى:أنّ صفاته تعالى قديمة قائمة بذاته،ولا يمكن أن تكون حادثة،لاستحالة قيام الحادث بذاته تعالى كقيام الحال بالمحل،والصفة بالموصوف.نعم،يجوز قيام الحادث بها كقيام الفعل بالفاعل.

ومن ناحية ثالثة:أنّ الكلام اللفظي حيث إنّه مؤلف من حروف وأجزاء متدرجة متصرمة في الوجود لايعقل أن يكون قديماً،وعليه فلا يمكن أن يكون المراد من الكلام في الآية الكريمة الكلام اللفظي،ضرورة استحالة كون ذاته المقدسة محلاً للحادث.

ومن ناحية رابعة:أنّ الكلام النفسي حيث إنّه ليس من مقولة الألفاظ فلا يلزم من قيامه بذاته تعالى قيام الحادث بالقديم.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي.

ولنأخذ بالنقد على هذا الدليل:إنّ صفاته تعالى على نوعين:

الأوّل: الصفات الذاتية كالعلم والقدرة والحياة وما يؤول إليها،فان هذه الصفات عين ذاته تعالى في الخارج،فلا اثنينية فيه ولا مغايرة،وأنّ قيامها بها قيام عيني،وهو من أعلى مراتب القيام وأظهر مصاديقه،لا قيام صفة بموصوفها، أو قيام الحال بمحلّه.ومن هنا ورد في الروايات«إنّ اللّٰه تعالى وجود كلّه، وعلم كلّه،وقدرة كلّه،وحياة كلّه» 1وإلى هذا المعنى يرجع قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة«كمال الإخلاص به نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أ نّها غير الموصوف» 2.

الثاني: الصفات الفعلية كالخلق والرزق والرحمة وما شاكلها،فانّ هذه


 

1) بحار الأنوار 4:84 ح 16،17،19 (مع اختلاف).
2) نهج البلاغة:الخطبة الاُولى (مع اختلاف).

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 365)


الصفات ليست عين ذاته تعالى،حيث إنّ قيامها بها ليس قياماً عينياً كالصفات الذاتية،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ قيام هذه الصفات بذاته تعالى ليس من قيام الحال بمحلّه،والوجه في ذلك:أنّ هذه الصفات لا تخلو من أن تكون حادثة،أو تكون قديمة،ولا ثالث لهما،فعلى الأوّل لزم قيام الحادث بذاته تعالى وهو مستحيل، وعلى الثاني لزم تعدد القدماء وقد برهن في محلّه استحالة ذلك.

فالنتيجة على ضوئهما أمران:

الأوّل:أنّ مبادئ هذه الصفات أفعاله تعالى الاختيارية.

الثاني:أ نّها تمتاز عن الصفات الذاتية في نقطة واحدة،وهي أنّ الصفات الذاتية عين ذاته تعالى،فيستحيل اتصاف ذاته بعدمها بأن لا يكون ذاته في مرتبة ذاته عالماً ولا قادراً ولا حيّاً،وهذا بخلاف تلك الصفات،حيث إنّها أفعاله تعالى الاختيارية فتنفك عن ذاته وتتصف ذاته بعدمها،يعني يصح أن يقال:إنّه تعالى لم يكن خالقاً للأرض مثلاً ثمّ خلقها،ولم يكن رازقاً لزيد مثلاً ثمّ رزقه،وهكذا،ومن ثمة تدخل عليها أدوات الشرط وما شاكلها،ولم تدخل على الصفات العليا الذاتية.

وإن شئتم قلتم:إنّ القدرة تتعلق بالصفات الفعلية وجوداً وعدماً،فانّ له تعالى أن يخلق شيئاً،وله أن لا يخلق،وله أن يرزق،وله أن لا يرزق،وهكذا، ولم تتعلق بالصفات الذاتية أبداً.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنّ التكلم من الصفات الفعلية دون الصفات الذاتية،وذلك لوجود ملاك الصفات الفعلية فيه،حيث يصح أن يقال:إنّه تعالى كلّم موسى (عليه السلام) ولم يكلّم غيره،أو كلّم في الوقت الفلاني،ولم

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 366)


يكلّم في وقت آخر،وهكذا.ولا يصح أن يقال:إنّه تعالى ليس عالماً بالشيء الفلاني،أو في الوقت الفلاني،فما ذكره الأشاعرة من أنّ التكلم صفة له تعالى، وكل صفة له قديم،نشأ من الخلط بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية.

الثاني: أنّ كل كلام صادر من المتكلم بارادته واختياره مسبوق بتصوره في افق النفس على الشكل الصادر منه،ولا سيّما إذا كان للمتكلم عناية خاصّة به، كما إذا كان في مقام إلقاء خطابة أو شعر أو نحو ذلك،وهذا المرتب الموجود في افق النفس هو الكلام النفسي،وقد دلّ عليه الكلام اللفظي،وإلى ذلك أشار قول الشاعر: إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

ويردّه أوّلاً: أنّ هذه الدلالة ليست دلالة لفظية،وإنّما هي دلالة عقلية كدلالة وجود المعلول على وجود علّته،ومن هنا لا تختص بخصوص الألفاظ، بل تعم كافّة الأفعال الاختيارية.

وبكلمة اخرى:بعد ما ذكرنا في بحث الحروف 1أنّ الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية،ولا للموجودات الذهنية،فلا يعقل أن تكون تلك الصورة معنىً لها،لتكون دلالتها عليها دلالة وضعية،بل هي من ناحية أنّ صدور الألفاظ عن لافظها حيث كان بالاختيار والارادة،فبطبيعة الحال تدل على تصوّرها في افق النفس دلالة المعلول على علّته،بقانون أنّ كل فعل صادر عن الانسان بالاختيار لا بدّ أن يكون مسبوقاً بالتصور والالتفات،وإلّا فلا يكون اختيارياً،وعلى هذا فكل فعل اختياري ينقسم إلى نوعين:الأوّل الفعل النفسي.الثاني:الفعل الخارجي.فلا يختص ذلك بالكلام فحسب،ولا أظن أنّ


 

1) في ص 56.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 367)


الأشاعرة يلتزمون بذلك.

وثانياً: أنّ تلك الصورة نوع من العلم،وقد عرفت أنّ الأشاعرة قد اعترفت بأنّ الكلام النفسي صفة اخرى في مقابل صفة العلم 1.

الثالث: لا ريب في أنّ اللّٰه تعالى متكلم،وقد دلّت على ذلك عدّة من الآيات، ولازم ذلك قيام المبدأ على ذاته قياماً وصفياً،لا قيام الفعل بالفاعل،وإلّا لم يصح إطلاق المتكلم عليه،ومن هنا لا يصح إطلاق النائم والقائم والمتحرك والساكن والذائق وما شاكل ذلك عليه تعالى،مع أنّ مبادئ هذه الأوصاف قائمة بذاته قيام الفعل بالفاعل.

وإن شئت قلت: إنّ هذه الهيئات وما شاكلها لا تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الفعل بالفاعل،وإنّما تصدق على من قام عليه المبدأ قيام الصفة بالموصوف،هذا من جهة.

ومن جهة اخرى:أنّ الذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسي هو تصحيح متكلميته تعالى في مقابل بقية صفاته،فانّ الكلام اللفظي حيث إنّه حادث لا يعقل قيامه بذاته تعالى قيام الصفة بالموصوف،لاستحالة كون ذاته تعالى محلاً للحوادث.

فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ كلامه تعالى نفسي لا لفظي.

ولنأخذ بالمناقشة في هذا الدليل نقضاً وحلاً.

أمّا الأوّل: فلا ريب في أنّ اللّٰه تعالى متكلم بكلام لفظي،وقد دلّت على ذلك عدّة من الآيات والروايات،منها:قوله تعالى: «إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ


 

1) مرّ في ص 358.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 368)


يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»


1

فانّ قوله «كُنْ فَيَكُونُ» كلامه تعالى،ومن هنا لا نظن أنّ الأشاعرة ينكرون ذلك،بل قد تقدّم 2أ نّهم معترفون به.وعليه فما هو المبرّر لهم في إطلاق المتكلم بالكلام اللفظي عليه تعالى هو المبرّر لنا.

وأمّا الثاني: فلأنّ المتكلم ليس مشتقاً اصطلاحياً،لفرض عدم المبدأ له، بل هو نظير هيئة اللابن والتامر والمتقمص والمتنعل والبقّال وما شاكل ذلك، فانّ المبدأ فيها من أسماء الأعيان والذوات وهو اللبن والتمر والقميص والنعل والبقل،ولكن باعتبار اتخاذ الشخص هذه الاُمور حرفةً وشغلاً ولازماً له صارت مربوطة به،ولأجل هذا الارتباط صحّ إطلاق هذه الهيئات عليه.

نعم،إنّها مشتقات جعلية باعتبار جعلية مبادئها ومصادرها،والسبب في ذلك:أنّ الكلم ليس مصدراً للمتكلم،لفرض أنّ معناه الجرح لا الكلام، و«كلّم»ليس فعلاً ثلاثياً مجرداً له ليزاد عليه حرف فيصبح مزيداً فيه.وعليه فبطبيعة الحال يكون التكلم مصدراً جعلياً،والكلام اسم مصدر كذلك،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ المبدأ الجعلي للمتكلم في هذا الحال لا يخلو من أحد أمرين:إمّا التكلم أو الكلام،ولا ثالث لهما.

أمّا على الأوّل: فلا يرد عليه النقض بعدم صدق النائم والقائم والمتحرك وما شابه ذلك عليه تعالى،مع أ نّه موجد لمبادئها،وذلك لأنّ التكلم من قبيل الأفعال دون الأوصاف،والمبادئ في الهيئات المذكورة من قبيل الأوصاف دون الأفعال،ولأجل الاختلاف في هذه النقطة تمتاز هيئة المتكلم عن هذه الهيئات،


 

1) يس 36:82.
2) في ص 357.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 369)


حيث إنّها لا تصدق إلّاعلى من تقوم به مبادؤها قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل،ومن ثمة لا تصدق عليه تعالى،وهذا بخلاف هيئة المتكلم،فانّها تصدق على من يقوم به التكلم قيام الفعل بالفاعل،ولا يعتبر في صدقها الاتصاف والحلول،ولذلك صحّ إطلاقها عليه تعالى من دون محذور.

وأمّا على الثاني: فالأمر أيضاً كذلك،والوجه فيه:أنّ الكلام عبارة عن الكيف المسموع الحاصل من تموّج الهواء واصطكاكه،ومن الطبيعي أنّ المتكيّف بالكلام والمتصف به إنّما هو الهواء دون غيره،فلا يعقل قيامه بغيره قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل،ولا فرق في ذلك بين ذاته تعالى وغيره.

ونتيجة ذلك:أنّ إطلاق المتكلم عليه تعالى كاطلاقه على غيره باعتبار إيجاده الكلام،بل الأمر كذلك في بعض المشتقات المصطلحة أيضاً،كالقابض والباسط وما شاكلهما،فانّ صدقه عليه تعالى بملاك أ نّه موجد للقبض والبسط ونحوهما،لا بملاك قيامها به قيام وصف أو حلول.وأمّا عدم صحّة إطلاق النائم والقائم والساكن وما شاكل ذلك عليه تعالى مع أ نّه موجد لمبادئها، فيمكن تبريره بأحد وجهين:

الأوّل: أنّ ذلك ليس أمراً قياسياً،بحيث إذا صحّ الاطلاق بهذا الاعتبار في موردٍ صحّ إطلاقه في غيره من الموارد أيضاً بذلك الاعتبار،وليس لذلك ضابط كلّي،بل هو تابع للاستعمال والاطلاق،وهو يختلف باختلاف الموارد،فيصح في بعض الموارد دون بعض كما عرفت.

ودعوى أنّ هيئة الفاعل موضوعة لافادة قيام المبدأ بالذات قيام حلول خاطئة جداً، وذلك لما ذكرناه في بحث المشتق 1من أنّ الهيئة موضوعة


 

1) في ص 335.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 370)


للدلالة على قيام المبدأ بالذات بنحو من أنحاء القيام،وأمّا خصوصية كون القيام بنحو الحلول أو الايجاد أو الوقوع أو غير ذلك،فهي خارجة عن مفاد الهيئة.

وقد تحصّل من ذلك:أ نّه ليس لما ذكرناه ضابط كلّي،بل يختلف باختلاف الموارد،ومن هنا لا يصح إطلاق المشتق في بعض الموارد على من يقوم به المبدأ قيام حلول،كاطلاق المتكلم على الهواء فانّه لا يصح،وكذا إطلاق الضارب على من وقع عليه الضرب،وهكذا.مع انّ قيام المبدأ فيها قيام الحال بالمحل.

الثاني: يمكن أن يكون منشأ ذلك اختلاف نوعي الفعل،أعني المتعدي واللازم.

بيان ذلك:أنّ الفعل إذا كان متعدياً كفى في اتصاف فاعله به قيامه به قيام صدور وإيجاد،وأمّا الزائد على هذا فغير معتبر فيه،وذلك كالقابض والباسط والخالق والرازق والمتكلم والضارب وما شاكلها.وأمّا إذا كان لازماً فلا يكفي في اتصافه به صدوره منه،بل لا بدّ في ذلك من قيام المبدأ به قيام الصفة بالموصوف،والحال بالمحل،وذلك كالعالم والنائم والقائم وما شاكله.

وعلى ضوء هذا الضابط يظهر وجه عدم صحّة إطلاق النائم والقائم عليه تعالى،كما يظهر وجه صحّة إطلاق العالم والخالق والقابض والباسط والمتكلم وما شابه ذلك عليه (سبحانه وتعالى)،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:يظهر وجه عدم صحّة إطلاق المتكلم على الهواء،وإطلاق الضارب على من وقع عليه الضرب،وهكذا.

الرابع: أنّ الكلام كما يصح إطلاقه على الكلام اللفظي الموجود في الخارج، كذلك يصح إطلاقه على الكلام النفسي الموجود في الذهن،من دون لحاظ عناية في البين،ومن هنا يصح أن يقول القائل:إنّ في نفسي كلاماً لا اريد أن ابديه.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 371)


ويشهد على ذلك:قوله تعالى: «وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ» 1وقوله تعالى: «وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اللّٰهُ» 2ونحوهما ممّا يدلّنا على ذلك،وهذا الموجود المرتب في النفس هو الكلام النفسي،ويدل عليه الكلام اللفظي.

وجوابه يظهر ممّا ذكرناه آنفاً:من أنّ هذا الموجود المرتب في النفس ليس من سنخ الكلام ليكون كلاماً نفسياً عند القائلين به،بل هو صورة للكلام اللفظي،ومن هنا قلنا إنّ ذلك لا يختص بالكلام،بل يعم كافّة أنواع الأفعال الاختيارية.

وبكلمة واضحة:إن أرادوا به أن يكون لكل فعل فردان:فرد خارجي، وفرد ذهني ومنه الكلام،فهو غير معقول،وذلك لأنّ قيام الأشياء بالنفس – قياماً علمياً-إنّما هو بصورها لا بواقعها الموضوعي،وإلّا لتداخلت المقولات بعضها في بعض،وهو مستحيل.نعم،الكيفيات النفسانية كالعلم والارادة ونحوهما قائمة بها بأنفسها وبواقعها الموضوعي،وإلّا لذهبت إلى ما لا نهاية له.وعليه فلا يكون ما هو الموجود في النفس كلاماً حقيقةً،بل هو صورة ووجود علمي له.

وإن أرادوا به صورة الكلام اللفظي فقد عرفت أ نّها من مقولة العلم،وليست بكلام نفسي في شيء،على أ نّك عرفت أنّ الكلام النفسي عندهم مدلول للكلام اللفظي وتلك الصورة ليست مدلولة له،كما تقدّم 3.


 

1) الملك 67:13.
2) البقرة 2:284.
3) في ص 359.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 372)


ومن هنا يظهر أنّ إطلاق الكلام على هذا المرتب الموجود في النفس مجاز، إمّا بعلاقة الأول،أو بعلاقة المشابهة في الصورة.

وأمّا الآيتان الكريمتان فلا تدلّان بوجهٍ على أنّ هذا الموجود في النفس كلام نفسي.

أمّا الآية الاُولى:فيحتمل أن يكون المراد فيها من القول السر هو القول الموجود في النفس،فالآية تكون عندئذٍ في مقام بيان أنّ اللّٰه تعالى عالم به سواء أظهروه في الخارج أم لم يظهروه،وإطلاق القول عليه يكون بالعناية.ويحتمل أن يكون المراد منه القول السرّي،وهذا هو الظاهر من الآية الكريمة.فإذن الآية أجنبية عن الدلالة على الكلام النفسي بالكلّية.

وأمّا الآية الثانية:فيحتمل أن يكون المراد ممّا في الأنفس صورة الكلام، ويحتمل أن يكون المراد منه نيّة السوء،وهذا الاحتمال هو الظاهر منها،وكيف كان فلا صلة للآية بالكلام النفسي أصلاً.

نتائج البحث لحدّ الآن عدّة نقاط:

الاُولى: أنّ ما ذكر من المعاني المتعددة لمادة الأمر لا واقع موضوعي له، وقد عرفت أ نّها موضوعة لمعنيين:إبراز الأمر الاعتبار النفساني في الخارج وحصّة خاصّة من الشيء،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الأهمّية في الجملة مأخوذة في معنى الأمر لا أصل له،ومن هنا قلنا بصحّة توصيف الأمر بما لا أهمّية له بدون عناية،كما أ نّه لا أصل لجعل معناه واحداً،لما ذكرناه من أنّ اختلافه في الجمع شاهد على تعدد معناه.

ومن ناحية ثالثة:أنّ ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أ نّه موضوع

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 373)


للمعنى الجامع بينهما خاطئ جداً،لما سبق من أنّ الجامع الذاتي بينهما غير معقول.

الثانية: لا ثمرة للبحث عن أنّ معنى الأمر واحد أو متعدد.

الثالثة: لا يمكن أن يكون القول المخصوص-هيئة افعل-معنى الأمر،لعدم إمكان الاشتقاق منه باعتبار هذا المعنى،وما ذكره شيخنا المحقق (قدس سره) في تصحيح ذلك قد عرفت فساده.

الرابعة: أنّ العلوّ معتبر في معنى الأمر،ولا يكفي الاستعلاء.

الخامسة: أنّ الوجوب ليس مفاد الأمر لا وضعاً ولا إطلاقاً،بل هو بحكم العقل،فينتزعه عند عدم نصب قرينة على الترخيص.

السادسة: أنّ الطلب مغاير للارادة مفهوماً وواقعاً،حيث إنّ الطلب فعل اختياري للانسان،والارادة من الصفات النفسانية الخارجة عن الاختيار،ومن ثمة ذكرنا أ نّه لا وجه لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من اتحاده مع الارادة مفهوماً وخارجاً.

السابعة: أ نّه لا واقع موضوعي للكلام النفسي أصلاً،ولا يخرج عن مجرد الفرض والخيال.

الثامنة: أنّ ما ذكره الأشاعرة من الأدلة لاثبات الكلام النفسي قد عرفت فسادها جميعاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 374)


(2) نظريّة الفلاسفة
إرادته تعالى ذاتية،ونقدها

المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً هو أنّ إرادته تعالى من الصفات العليا الذاتية كصفة العلم والقدرة والحياة،ومال إلى ذلك جماعة من الاُصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية وشيخنا المحقق (قدس سرهما).

قال في الكفاية 1:إنّ إرادته التكوينية هو العلم بالنظام الكامل التام.

ولكن أورد عليه شيخنا المحقق 2(قدس سره) بأنّ هذا التفسير غير صحيح.

وقد أفاد في وجه ذلك بما إليك نصّه:

لا ريب في أنّ مفاهيم صفاته تعالى الذاتية متخالفة،لا متوافقة مترادفة، وإن كان مطابقها في الخارج واحداً بالذات من جميع الجهات،مثلاً مفهوم العلم غير مفهوم الذات،ومفهوم بقية الصفات،وإن كان مطابق الجميع ذاته بذاته لا شيء آخر منضماً إلى ذاته،فانّه تعالى صرف الوجود،وصرف القدرة،وصرف العلم،وصرف الحياة،وصرف الارادة،ولذا قالوا وجود كلّه،وقدرة كلّه، وعلم كلّه،وإرادة كلّه،مع أنّ مفهوم الارادة مغاير لمفهوم العلم ومفهوم الذات وسائر الصفات،وليس مفهوم الارادة العلم بالنظام الأصلح الكامل التام كما فسّرها بذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ضرورة أنّ رجوع صفة


 

1) كفاية الاُصول:67.
2) نهاية الدراية 1:278 (مع اختلاف في الألفاظ).

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 375)


ذاتية إلى ذاته تعالى وتقدس وإلى صفة اخرى كذلك إنّما هو في المصداق،لا في المفهوم،لما عرفت من أنّ مفهوم كل واحد منها غير مفهوم الآخر،ومن هنا قال الأكابر من الفلاسفة:إنّ مفهوم الارادة هو الابتهاج والرضا أو ما يقاربهما معنىً،لا العلم بالصلاح والنظام،ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا،والسرّ في التعبير عن الارادة فينا بالشوق المؤكد،وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى، هو أ نّا لمكان إمكاننا ناقصون في الفاعلية،وفاعليتنا لكل شيء بالقوّة،فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى مقدّمات زائدة على ذواتنا من تصور الفعل،والتصديق بفائدته،والشوق الأكيد،فيكون الجميع محرّكاً للقوّة الفاعلة المحركة للعضلات،وهذا بخلاف الواجب تعالى فانّه لتقدسه عن شوائب الامكان وجهات القوّة والنقصان،فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة،وحيث إنّه صرف الوجود وصرف الخير مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج،وذاته مرضي لذاته أتمّ الرضا، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي-وهو الارادة الذاتية-ابتهاج في مرحلة الفعل، فانّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره،وهذه المحبة الفعلية هي الارادة في مرحلة الفعل،وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بحدوثها.

يحتوي ما أفاده (قدس سره) على عدّة نقاط:

الاُولى: أنّ مفهوم الارادة غير مفهوم العلم،فانّ مفهوم الارادة الابتهاج والرضا،ومفهوم العلم الانكشاف،فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر،وإن كان مطابقهما واحداً،وهو ذاته تعالى.

الثانية: أنّ إرادته تعالى من الصفات الذاتية العليا كالعلم والقدرة وما شاكلهما،وليست من الصفات الفعلية.

الثالثة: أنّ الارادة فينا عبارة عن الشوق الأكيد المحرّك للقوّة العاملة المحرّكة للعضلات نحو المراد،وتحققها ووجودها في النفس يتوقف على مقدّمات

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 376)


كالتصور والتصديق بالفائدة ونحوهما،ومن الواضح أنّ الارادة بهذا المعنى لا تتصور في حقّه سبحانه وتعالى،فانّ فاعليته تامّة،لا نقصان فيها أبداً،وأ نّه فاعل بنفس ذاته العليمة المريدة،ولا تتوقف فاعليته على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته تعالى.

الرابعة: أنّ الابتهاج في مرحلة الفعل هو الارادة الفعلية المنبعث عن الابتهاج الذاتي الذي هو الارادة الذاتية،والروايات الدالّة على حدوث الارادة إنّما يراد بها الارادة الفعلية التي هي من آثار إرادته الذاتية.

و لنأخذ بالنظر في هذه النقاط:

أمّا النقطة الاُولى: فهي تامّة من ناحية،وهي أنّ مفهوم الارادة غير مفهوم العلم،وخاطئة من ناحية اخرى،وهي أنّ مفهوم الارادة الابتهاج والرضا.

أمّا تماميتها من الناحية الاُولى،فلما ذكرناه في بحث المشتق 1من أنّ مفاهيم الصفات العليا الذاتية مختلفة ومتباينة،فانّ مفهوم العلم غير مفهوم القدرة وهكذا، ولا فرق في ذلك بين الواجب والممكن.نعم،يفترق الواجب عن الممكن في نقطة اخرى،وهي أنّ مطابق هذه الصفات في الواجب واحد عيناً وذاتاً وجهةً، وفي الممكن متعدد كذلك.

وأمّا عدم تماميتها من الناحية الثانية،فلأنّ من الواضح أنّ مفهوم الارادة ليس هو الابتهاج والرضا،لا لغةً ولا عرفاً،وإنّما ذلك اصطلاح خاص من الفلاسفة،حيث إنّهم فسّروا الارادة الأزلية بهذا التفسير.ولعل السبب فيه التزامهم بعدّة عوامل تالية:

الأوّل:أنّ إرادته تعالى عين ذاته خارجاً وعيناً.


 

1) في ص 333.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 377)


الثاني:أ نّها ليست بمعنى الشوق الأكيد المحرّك للعضلات،كما عرفت.

الثالث:أ نّها مغايرة للعلم والقدرة والحياة،وما شاكلها من الصفات العليا بحسب المفهوم.

الرابع:أ نّه لم يوجد معنىً مناسب للارادة غير المعنى المذكور،وبطبيعة الحال أنّ النتيجة على ضوء هذه العوامل هي ما عرفت.

ولكن هذا التفسير خاطئ جداً،وذلك لأنّ الارادة لا تخلو من أن تكون بمعنى إعمال القدرة،أو بمعنى الشوق الأكيد،ولا ثالث لهما،وحيث إنّ الارادة بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته تعالى،تتعين الارادة بالمعنى الأوّل له سبحانه وهو المشيئة وإعمال القدرة.

وأضف إلى ذلك:أنّ الرضا من الصفات الفعلية كسخطه تعالى،وليس من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة ونحوهما،وذلك لصحّة سلبه عن ذاته تعالى، فلو كان من الصفات العليا لم يصحّ السلب أبداً.

على أ نّا لو فرضنا أنّ الرضا من الصفات الذاتية فما هو الدليل على أنّ إرادته أيضاً كذلك،بعد ما عرفت من أنّ صفة الارادة غير صفة الرضا،وكيف كان فما أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

وأمّا النقطة الثانية: -إرادته تعالى صفة ذاتية له-فهي خاطئة جداً، والسبب في ذلك أوّلاً:ما تقدّم من أنّ الارادة بمعنى الشوق المؤكّد لا تعقل في ذاته تعالى،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد سبق أنّ تفسير الارادة بصفة الرضا والابتهاج تفسير خاطئ لا واقع له.ومن ناحية ثالثة:أ نّا لا نتصور لارادته تعالى معنىً غير إعمال القدرة والسلطنة.

وثانياً:قد دلّت الروايات الكثيرة على أنّ إرادته تعالى فعله،كما نصّ به

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 378)


قوله سبحانه: «إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» 1وليس في شيء من هذه الروايات إيماء فضلاً عن الدلالة على أنّ له تعالى إرادة ذاتية أيضاً،بل فيها ما يدل على نفي كون إرادته سبحانه ذاتية،كصحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام) قال«قلت:لم يزل اللّٰه مريداً ؟ قال:إنّ المريد لا يكون إلّا لمراد معه لم يزل اللّٰه عالماً قادراً ثمّ أراد» 2ورواية الجعفري قال«قال الرضا (عليه السلام):المشيئة من صفات الأفعال،فمن زعم أنّ اللّٰه لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد» 3فهاتان الروايتان تنصّان على نفي الارادة الذاتية عنه سبحانه.

ثمّ إنّ سلطنته تعالى حيث كانت تامّة من كافّة الجهات والنواحي ولا يتصور النقص فيها أبداً،فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج ويوجد بصرف إعمالها من دون توقفه على أيّة مقدّمة اخرى خارجة عن ذاته تعالى كما هو مقتضى قوله سبحانه: «إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .

وقد عبّر عن هذا المعنى في الروايات تارة بالمشيئة،وتارة اخرى بالاحداث والفعل.

أمّا الأوّل: كما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام) قال:«المشيئة محدثة» 4.وصحيحة عمر بن اذينة عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام) قال:«خلق اللّٰه المشيئة بنفسها،ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة» 5ومن الطبيعي أنّ


 

1) يس 36:82.
2) اصول الكافي 1:109 ح 1.
3) بحار الأنوار 4:145 ح 18.
4) اصول الكافي 1:110 ح 7.
5) بحار الأنوار 4:145 ح 20.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 379)


المراد بالمشيئة هو إعمال القدرة والسلطنة،حيث إنّها مخلوقة بنفسها،لا بإعمال قدرة اخرى،وإلّا لذهب إلى ما لا نهاية له.

وأمّا الثاني: كما في صحيحة صفوان بن يحيى قال (عليه السلام):«الارادة من الخلق الضمير،وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل،وأمّا من اللّٰه تعالى،فارادته إحداثه لا غير ذلك،لأنّه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر،وهذه الصفات منفية عنه،وهي صفات الخلق،فارادة اللّٰه الفعل لا غير ذلك،يقول له كن فيكون، بلا لفظ،ولا نطق بلسان،ولا همة،ولا تفكر،ولا كيف لذلك،كما أ نّه لا كيف له» 1فهذه الصحيحة تنص على أنّ إرادته تعالى هي أمره التكويني.

وأمّا النقطة الثالثة: فهي تامة،لوضوح أنّ إرادتنا هي الشوق المؤكّد الداعي إلى إعمال القدرة والسلطنة نحو إيجاد المراد،وسنبيّن إن شاء اللّٰه تعالى أنّ ملاك كون الأفعال في إطار الاختيار هو صدورها بإعمال القدرة والمشيئة لا كونها مسبوقةً بالارادة،بداهة أنّ الارادة بكافة مقدّماتها غير اختيارية فلا يعقل أن تكون ملاكاً لاختياريتها.على أ نّا نرى وجداناً وبشكل قاطع أنّ الارادة ليست علّة تامّة للأفعال،وسيأتي توضيح هذه النقاط بصورة مفصّلة إن شاء اللّٰه تعالى.

وأمّا النقطة الرابعة: فيرد عليها أنّ الروايات قد دلّت على أنّ إرادته تعالى ليست كعلمه وقدرته ونحوهما من الصفات الذاتية العليا،بل هي فعله وإعمال قدرته كما عرفت.وإن شئتم قلتم:لو كانت للّٰه‌تعالى إرادتان:ذاتية وفعلية، لأشارت الروايات بذلك لا محالة،مع أ نّها تشير إلى خلاف ذلك.

ثمّ إنّ قوله (عليه السلام) في الصحيحة المتقدمة 2«إنّ المريد لا يكون إلّا


 

1) اصول الكافي 1:109 ح 3.
2) في الصفحة السابقة.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 380)


لمراد معه»إشارة إلى أنّ الارادة الإلهٰية لو كانت ذاتية لزم قدم العالم،وهو باطل.

ويؤيّد هذا:رواية الجعفري عن الرضا (عليه السلام)«فمن زعم أنّ اللّٰه لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد» 1فانّه صريح في أنّ إرادته ليست عين ذاته كالعلم والقدرة والحياة.

لحدّ الآن قد ظهر أمران:

الأوّل: أ نّه لا مقتضي لما التزم به الفلاسفة وجماعة من الاُصوليين منهم صاحب الكفاية وشيخنا المحقق (قدس سرهما) من كون إرادته تعالى صفة ذاتية له،بل قد تقدّم عدم تعقل معنى محصّل لذلك.

الثاني: أنّ محاولتهم لحمل الروايات الواردة في هذا الموضوع على إرادته الفعلية دون الذاتية،خاطئة ولا واقع موضوعي لها،فانّها في مقام بيان انحصار إرادته تعالى بها.

ولشيخنا المحقق الاصفهاني (قدس سره) في المقام كلام 2وحاصله:أنّ مشيئته تعالى على قسمين:

مشيئة ذاتية،وهي عين ذاته المقدّسة،كبقية صفاته الذاتية،فهو تعالى صرف المشيئة،وصرف القدرة،وصرف العلم،وصرف الوجود،وهكذا، فالمشيئة الواجبة عين الواجب تعالى.

ومشيئة فعلية،وهي عين الوجود الاطلاقي المنبسط على الماهيات،والمراد


 

1) بحار الأنوار 4:145 ح 18.
2) نهاية الدراية 1:287 في الهامش.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 381)


من المشيئة الواردة في الروايات من أ نّه تعالى خلق الأشياء بالمشيئة،والمشيئة بنفسها،هو المشيئة الفعلية التي هي عين الوجود المنبسط،والوجود الاطلاقي، والمراد من الأشياء هو الموجودات المحدودة الخاصّة،فموجودية هذه الأشياء بالوجود المنبسط،وموجودية الوجود المنبسط بنفسها،لا بوجود آخر،وهذا معنى قوله (عليه السلام)«خلق اللّٰه الأشياء بالمشيئة»أي بالوجود المنبسط الذي هو فعله الاطلاقي،وخلق المشيئة بنفسها،ضرورة أ نّه ليس للوجود المنبسط ما به الوجود.

ولا يخفى أ نّه (قدس سره) قد تبع في ذلك نظرية الفلاسفة القائلة بتوحيد الفعل،وبطبيعة الحال أنّ هذه النظرية ترتكز على ضوء علّية ذاته الأزلية للأشياء،وعلى هذا الضوء فلا محالة يكون الصادر الأوّل منه تعالى واحداً ذاتاً ووجوداً،لاقتضاء قانون السنخية والتناسب بين العلّة والمعلول ذلك.وهذا الصادر الواحد هو الوجود الاطلاقيّ المعبّر عنه بالوجود المنبسط تارةً وبالمشيئة الفعلية تارة اخرى،وهو الموجود بنفسه لا بوجود آخر،يعني أ نّه لا واسطة بينه وبين وجوده الأزلي،فهو معلوله الأوّل،والأشياء معلوله بواسطته،وهذا المعنى هو مدلول صحيحة عمر بن اذينة المتقدمة 1.

و لنأخذ بالنقد عليه من وجهين:

الأوّل: أنّ القول بالوجود المنبسط في إطاره الفلسفي يرتكز على نقطة واحدة، وهي أنّ نسبة الأشياء بشتى أنواعها وأشكالها إلى ذاته تعالى نسبة المعلول إلى العلّة التامة،ويترتب على هذا أمران:الأوّل:التجانس والتسانخ بين ذاته تعالى وبين معلوله.الثاني:التعاصر بينهما،وعليه حيث إنّه لا تجانس بين موجودات عالم المادة بكافة أنواعها وبين ذاته تعالى،فلا بدّ من الالتزام بالنظام الجملي السلسلي،وهو عبارة عن ترتب مسببات على أسباب متسلسلة،فالأسباب


 

1) في ص 378.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 382)


والمسببات جميعاً منتهيتان في نظامهما الخاص وإطارهما المعيّن بحسب الطولية والعرضية معاً إلى مبدأ واحد،وهو الحق سبحانه،وهو مبدأ الكل،فالكل ينال منه،وهو مسبّب الأسباب على الاطلاق.ونتيجة هذا أنّ الصادر الأوّل من اللّٰه تعالى لا بدّ أن يكون مسانخاً لذاته ومعاصراً معها،وإلّا استحال صدوره منه.

ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يكون إلّاالوجود المنبسط في إطاره الخاص.

وغير خفي أ نّه لا شبهة في بطلان النقطة المذكورة وأ نّه لا واقع موضوعي لها أصلاً،والسبب في ذلك واضح،وهو أنّ سلطنته تعالى وإن كانت تامة من كافة الجهات ولا يتصور النقص فيها أبداً،إلّاأنّ مردّ هذا ليس إلى وجوب صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه،كوجوب صدور المعلول عن العلة التامة،بل مردّه إلى أنّ الأشياء بكافة أشكالها وأنواعها تحت قدرته وسلطنته التامة،وأ نّه تعالى متى شاء إيجاد شيء أوجده بلاتوقف على أيّة مقدّمة خارجة عن ذاته وإعمال قدرته حتّى يحتاج في إيجاده إلى تهيئة تلك المقدمة،وهذا معنى السلطنة المطلقة التي لا يشذ شيء عن إطارها.

ومن البديهي أنّ وجوب وجوده تعالى،ووجوب قدرته،وأ نّه تعالى وجود كلّه،ووجوب كلّه،وقدرة كلّه لايستدعي ضرورة صدور الفعل منه في الخارج، وذلك لأنّ الضرورة ترتكز على أن يكون إسناد الفعل إليه تعالى كاسناد المعلول إلى العلّة التامة،لا إسناد الفعل إلى الفاعل المختار،فلنا دعويان:

الاُولى:أنّ إسناد الفعل إليه ليس كاسناد المعلول إلى العلّة التامة.

الثانية:أنّ إسناده إليه كاسناد الفعل إلى الفاعل المختار.

أمّا الدعوى الاُولى: فهي خاطئة عقلاً ونقلاً.

أمّا الأوّل: فلأنّ القول بذلك يستلزم في واقعه الموضوعي نفي القدرة والسلطنة عنه تعالى،فانّ مردّ هذا القول إلى أنّ الوجودات بكافة مراتبها الطولية والعرضية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 383)


موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم،وتتولد منه على سلسلتها الطولية تولد المعلول عن علّته التامة،فانّ المعلول من مراتب وجود العلّة النازلة،وليس شيئاً أجنبياً عنه.مثلاً الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها،وليست أجنبية عنها،وهكذا.

وعلى هذا الضوء فمعنى علّية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها،كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها،ويستحيل انفكاكها عنها،غاية الأمر أنّ النار علّة طبيعية غير شاعرة،ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية،فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب،وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه،فإذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة.على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفا شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية،لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علّته.

وأمّا الثاني: فقد تقدّم 1ما يدل من الكتاب والسنّة على أنّ صدور الفعل منه تعالى بارادته ومشيئته.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري،وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور،وحيث إنّه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري،لا يرجع إلى معنىً محصّل،بداهة أنّ علم العلّة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها،فانّ العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها،وإلّا لزم الخلف.


 

1) في ص 378.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 384)


فما قيل:من أنّ الفرق بين الفاعل الموجب والفاعل المختار هو أنّ الأوّل غير شاعر وملتفت إلى فعله دون الثاني،فلأجل ذلك قالوا إنّ ما صدر من الأوّل غير اختياري وما صدر من الثاني اختياري لا واقع موضوعي له أصلاً،لما عرفت من أنّ مجرد العلم والالتفات لا يوجبان التغيير في واقع العلية بعد فرض أنّ نسبة الفعل إلى كليهما على حد نسبة المعلول إلى العلّة التامة.

وأمّا الدعوى الثانية: فقد ظهر وجهها ممّا عرفت من أنّ إسناد الفعل إليه تعالى إسناد إلى الفاعل المختار،وقد تقدّم أنّ صدوره باعمال القدرة والسلطنة، وبطبيعة الحال أنّ سلطنة الفاعل مهما تمّت وكملت زاد استقلاله واستغناؤه عن الغير،وحيث إنّ سلطنة الباري (عزّ وجلّ) تامّة من كافّة الجهات والحيثيات، ولا يتصور فيها النقص أبداً،فهو سلطان مطلق،وفاعل ما يشاء،وهذا بخلاف سلطنة العبد،حيث إنّها ناقصة بالذات فيستمدها في كل آن من الغير،فهو من هذه الناحية مضطر فلا اختيار ولا سلطنة له،وإن كان له اختيار وسلطنة من ناحية اخرى،وهي ناحية إعمال قدرته وسلطنته،وأمّا سلطنته تعالى فهي تامّة وبالذات من كلتا الناحيتين.

لحدّ الآن قد تبيّن: أنّ القول بالوجود المنبسط باطاره الفلسفي الخاص وبواقعه الموضوعي يستلزم الجبر في فعله تعالى،ونفي القدرة والسلطنة عنه،أعاذنا اللّٰه من ذلك.

الوجه الثاني: أنّ ما أفاده (قدس سره) من المعنى للحديث المذكور خلاف الظاهر جداً،فانّ الظاهر منه بقرينة تعلّق الخلق بكل من المشيئة والأشياء تعدد المخلوق،غاية الأمر أنّ أحدهما مخلوق له تعالى بنفسه وهو المشيئة،والآخر مخلوق له بواسطتها.

وإن شئت قلت:إنّ تعدد الخلق بطبيعة الحال يستلزم تعدد المخلوق،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 385)


والمفروض أ نّه لاتعدد على المعنى الذي ذكره (قدس سره) تبعاً لبعض الفلاسفة، فانّ المخلوق على ضوء هذا المعنى هو الوجود المنبسط فحسب دون غيره من الأشياء،لأنّ موجوديتها بنفس الوجود المنبسط لا بايجاد آخر.مع أنّ ظاهر الرواية بقرينة تعدد الخلق أنّ موجوديتها بايجاد آخر.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزم به ثبوتاً ولا إثباتاً.

(3) نظريّة الأشاعرة
مسألة الجبر،ونقدها
[استدلال الأشاعرة على الجبر]

استدلّوا على الجبر بوجوه:

الأوّل: ما إليكم نصّه:لو كان العبد موجداً لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها،واللازم باطل.أمّا الشرطية-أي الملازمة-فلأنّ الأزيد والأنقص ممّا أتى به ممكن،إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان،فوقوع ذلك المعيّن منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه،والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البداهة، فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بدّ أن تكون مقصودة معلومة،وأمّا بطلان اللازم فلأنّ النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب آخر،ولا يشعر بكمّية ذلك الفعل وكيفيته 1.


 

1) شرح المواقف 8:148.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 386)


والجواب عنه: أنّ دخل العلم والالتفات في صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار أمر لا يعتريه شك ولم يختلف فيه اثنان،وبدون ذلك لا يكون اختيارياً،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ العلم المعتبر في ذلك إنّما هو العلم بعنوان الفعل والالتفات إليه حين صدوره بأن يعلم الانسان أنّ ما يصدر منه في الخارج ينطبق عليه عنوان شرب الماء مثلاً أو الصلاة أو الصوم أو الحج أو قراءة القرآن أو السفر إلى بلد أو التكلم أو ما شابه ذلك،ومن الواضح أ نّه لا يعتبر في صدور هذه الأفعال بالاختيار أزيد من ذلك،فإذا علم الانسان بالصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط وأتى بها كذلك،فقد صدرت منه بالاختيار وإن كان لا يعلم حقيقة أجزائها ودخولها تحت أيّة مقولة من المقولات.

فالنتيجة:أنّ ملاك صدور الفعل بالاختيار هو سبقه بالالتفات والتصور على نحو الاجمال في مقابل صدوره غفلةً وسهواً.

وبعد ذلك نقول:إن أراد الأشعري من العلم بتفاصيل الأفعال العلم بكنهها وحقيقتها الموضوعية فيردّه:

أوّلاً: أنّ ذلك لا يتيسر لغير علّام الغيوب،فان حقائق الأشياء بكافة أنواعها وأشكالها مستورة عنّا،ولا طريق لنا إليها،لأنّ أفكارنا لا تملك قوّة إدراكها والوصول إلى واقعها ومغزاها.

وثانياً: أنّ هذا العلم لا يكون ملاكاً لاتصاف الفعل بالاختيار كما عرفت.

وإن أراد منه العلم بما يوجب تمييز الأفعال بعضها عن بعضها الآخر،كأن يعلم بأنّ ما يفعله خارجاً ويأتي به شرب ماء مثلاً لاشرب خل وهكذا،وإن لم يعلم كنهه وحقيقته فهو صحيح كما مرّ،إلّاأنّ اللازم على هذا ليس بباطل،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 387)


لفرض أنّ كل فاعل مختار يعلم أفعاله في إطار عناوينها الخاصة.

وإن أراد منه العلم بحدها التام المشهوري أو برسمها التام أو الناقص فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ذلك العلم لا يتيسر لأغلب الناس،بداهة أنّ العامي لا يعرف جنس الأشياء ولا فصلها ولا خواصها حتّى يعرف حدّها التام أو الناقص أو رسمها التام أو الناقص.

وثانياً: قد سبق أنّ هذا العلم لا يكون مناطاً لصدور الفعل بالاختيار.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره لبيان بطلان اللازم من أنّ النائم وكذا الساهي قد يفعله باختياره غريب جداً،بداهة أنّ ما يصدر منهما من الحركة كالتقلب من جنب إلى جنب آخر أو نحو ذلك غير اختياري،ولذا لا يستحقان عليه المدح والذم والعقاب والثواب.وقد تقدّم أنّ الالتفات إلى الفعل على نحو الاجمال ركيزة أساسية لاختياريته،وبدونه لا يعقل صدوره بالاختيار.

الثاني: ما إليك نصّه:إنّ العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً فلا بدّ أن يتمكن من فعله وتركه،وإلّا لم يكن قادراً عليه مستقلاً فيه وأن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح،إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقياً لا اختيارياً،ويلزم أيضاً أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب،فينسدّ باب إثبات الصانع،وذلك المرجّح لا يكون من العبد باختياره،وإلّا لزم التسلسل،لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عنه ويكون الفعل عنده-أي عند ذلك المرجح-واجباً، أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه،وإلّا لم يكن الموجود-أي ذلك المرجح المفروض-تمام المرجح،لأنّه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 388)


يوجد معه الفعل تارةً ويعدم اخرى،مع وجود ذلك المرجح فيهما،فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت،فلا يكون ما فرضناه مرجحاً تاماً،هذا خلف،وإذا كان الفعل مع المرجح الذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطرارياً لازماً لا اختيارياً بطريق الاستقلال كما زعموه 1.

يتضمن هذا النص عدّة نقاط:

الاُولى:أنّ العبد لو كان مستقلاً في فعله ومختاراً فلازمه أن يكون متمكناً من تركه وفعله.

الثانية:أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه في الخارج يتوقف على وجود مرجح،إذ لو وجد بدونه لكان اتفاقياً لا اختيارياً.

الثالثة:أنّ وقوع أحد الجائزين-الوجود والعدم-في الخارج لو كان ممكناً من دون وجود مرجّح وسبب،لا نسدّ باب إثبات الصانع ولأمكن وجود العالم بلا سبب وعلّة.

الرابعة:أنّ المرجّح لا يمكن أن يكون تحت اختيار العبد،وإلّا لزم التسلسل.

الخامسة:أنّ وجود الفعل واجب عند تحقق المرجح.

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط:

أمّا النقطة الاُولى: فالصحيح على ما سيأتي بيانه بشكل واضح أن يقال:

إنّ ملاك صدور الفعل عن الانسان بالاختيار هو أن يكون باعمال القدرة والسلطنة ويعبّر عن هذا المعنى بقوله:له أن يفعل وله أن لا يفعل،ولا ينافي ذلك ما سنحققه إن شاء اللّٰه تعالى في المبحث الآتي وهو بحث الأمر بين


 

1) شرح المواقف 8:149.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 389)


الأمرين 1أنّ العبد لا يستقل في فعله تمام الاستقلال،حيث إنّ كافة مبادئ الأفعال كالحياة والقدرة والعلم والاختيار مفاضة من اللّٰه تعالى آناً فآناً وخارجة عن اختياره،بحيث لو انقطعت الافاضة آناً ما لانتفت تلك المبادئ بأسرها.

وعلى هذا الضوء فان اريد من استقلال العبد استقلاله من كافة النواحي فهو باطل،لا ما هو لازمه فانّه صحيح على تقدير ثبوته.وإن اريد منه استقلاله في فرض تحقق تلك المبادئ وإفاضتها فهو صحيح،وكذا لازمه.وعلى كلا التقديرين فالتالي صادق.

وأمّا النقطة الثانية: فهي خاطئة جداً،وذلك لأنّها ترتكز على ركيزة لا واقع لها،وهي استحالة ترجيح وجود الفعل على عدمه بدون وجود مرجّح، والسبب في ذلك:أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل في الخارج بلا سبب وفاعل، وأمّا صدور الفعل الاختياري عن الفاعل من دون وجود مرجّح له ليس بمحال،لما عرفت من أنّ وجوده خارجاً يدور مدار اختياره وإعمال قدرته من دون توقفه على شيء آخر كوجود المرجّح أو نحوه.نعم،بدونه يكون لغواً وعبثاً.

وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا دخل لوجود المرجّح في إمكان الفعل أصلاً، ولا صلة لأحدهما بالآخر.على أنّ وجود المرجّح لاختيار طبيعي الفعل كافٍ وإن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجّح بالاضافة إلى بعضها الآخر،ولا يلزم وجوده في كل فعل شخصي اختاره المكلف.

ودعوى أنّ الاختيار هو المرجّح في فرض التساوي ساقطة بأنّ الاختيار لا يمكن أن يكون مرجحاً،لوضوح أنّ المرجح ما يدعو الانسان إلى اختيار


 

1) في ص 436،440.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 390)


أحد فردين متساويين أو أفراد متساوية،فلا يعقل أن يكون هو المرجح،على أ نّه لو كان مرجّحاً لم يبق موضوع لما ذكر من أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه يتوقف على وجود مرجح،لفرض أ نّه موجود وهو الاختيار.

ومن هنا يظهر بطلان ما ذكر من أنّ الفعل الصادر من دون وجود مرجح اتفاقي لا اختياري.

وأمّا النقطة الثالثة: فقد ظهر فسادها ممّا أشرنا إليه في النقطة الثانية،من أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل بلا سبب وفاعل،لا وجوده بدون وجود مرجحّ.

وقد وقع الخلط في كلامه بين هذين الأمرين،وذلك لأنّ ما يوجب سدّ باب إثبات الصانع إنّما هو وجود الممكن بدونه،حيث قد برهن في موطنه استحالة ترجح الممكن ووجوده من دون سبب وفاعل،لأنّ حاجة الممكن إليه داخلة في كمون ذاته وواقع مغزاه،لفرض أ نّه عين الفقر والحاجة لا ذات له الفقر والحاجة،فلا يمكن تحققه ووجوده بدونه.

وأمّا وجوده بدون وجود مرجح كما هو محل الكلام فلا محذور فيه أصلاً.

وأمّا النقطة الرابعة: فقد عرفت أنّ الفعل الاختياري لا يتوقف على وجود مرجّح له.وعلى تقدير توقفه عليه وافتراضه فلا يلزم أن يكون اختيارياً دائماً، لوضوح أنّ المرجح قد يكون اختيارياً،وقد لا يكون اختيارياً.وعلى تقدير أن يكون اختيارياً فلا يلزم التسلسل،وذلك لأنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى وجود مرجّح،وأمّا المرجّح فلا يحتاج في وجوده إلى مرجّح آخر،بل هو ذاتي له،فلا يحتاج إلى سبب كما هو ظاهر.

وأمّا النقطة الخامسة: فيظهر خطؤها ممّا ذكرناه من أ نّه لا دخل للمرجّح في صدور الفعل بالاختيار،فيمكن صدوره عن اختيارٍ مع عدم وجود المرجّح

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 391)


له أصلاً.كما أ نّه يظهر بذلك أنّ وجوده لايوجب وجوب صدور الفعل وضرورة وجوده في الخارج،وذلك لأنّ الفعل الاختياري ما يصدر بالاختيار وإعمال القدرة،سواء أكان هناك مرجّح أم لم يكن،بداهة أنّ المرجّح مهما كان نوعه لا يوجب خروج الفعل عن الاختيار،ولو كان ذلك المرجّح هو الارادة،لما سنشير إليه 1إن شاء اللّٰه تعالى من أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها من القوّة والشدّة لا توجب سلب الاختيار عن الانسان.

الثالث: ما إليكم لفظه:إنّ فعل العبد ممكن في نفسه،وكل ممكن مقدور للّٰه تعالى،لما مرّ من شمول قدرته للممكنات بأسرها،وقد مرّ مخالفة الناس من المعتزلة والفرق الخارجة عن الاسلام في أنّ كل ممكن مقدور للّٰه‌تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية اللّٰه تعالى،ولا شيء ممّا هو مقدور للّٰه بواقع بقدرة العبد،لامتناع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد 2.

والجواب عنه: أمّا ما ذكره من الصغرى والكبرى-يعني أنّ فعل العبد ممكن،وكل ممكن مقدور للّٰه‌تعالى-وإن كان صحيحاً،ضرورة أنّ الممكنات بشتى أنواعها وأشكالها مقدورة له تعالى،فلا يمكن خروج شيء منها عن تحت قدرته وسلطنته،إلّاأنّ ما فرّعه على ذلك من أ نّه لا شيء ممّا هو مقدور للّٰه بواقع تحت قدرة العبد،لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد، خاطئ جداً،والسبب في ذلك ما سيأتي بيانه 3بشكل واضح من أنّ أفعال العباد رغم كونها مقدورةً للّٰه‌تعالى من ناحية أنّ مبادءها بيده سبحانه مقدورة للعباد أيضاً وواقعة تحت اختيارهم وسلطانهم،فلا منافاة بين الأمرين أصلاً.


 

1) في ص 397.
2) شرح المواقف 8:148 المرصد السادس.
3) في ص 417.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 392)


وبكلمة اخرى:أنّ كل مقدور ليس واجب الوجود في الخارج لتقع المنافاة بينهما،بداهة أ نّه لا مانع من كون فعل واحد مقدوراً لشخصين لعدم الملازمة بين كون شيء مقدوراً لأحد وبين صدوره منه في الخارج،فالصدور يحتاج إلى أمر زائد عليه وهو إعمال القدرة والمشيئة.

ومن ضوء هذا البيان يظهر وقوع الخلط في هذا الدليل بين كون أفعال العباد مقدورة للّٰه‌تعالى وبين وقوعها خارجاً باعمال قدرته.

وعليه فما ذكره من الكبرى وهي استحالة اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد خاطئ جداً.نعم،لو أراد من القدرة المؤثرة إعمالها خارجاً فالكبرى المزبورة وإن كانت تامة إلّاأ نّها فاسدة من ناحية اخرى،وهي أنّ أفعال العباد لا تقع تحت مشيئة اللّٰه وإعمال قدرته على ما سنذكره 1إن شاء اللّٰه تعالى،وإنّما تقع مبادؤها تحت مشيئته وإعمال قدرته لا نفسها،فإذن لا يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على شيء واحد.

لحدّ الآن قد تبيّن بطلان هذه الوجوه وعدم إمكان القول بشيء منها.

[كلام أبي الحسن الأشعري و نقده]

ثمّ إنّ من الغريب ما نسب في شرح المواقف إلى أبي الحسن الأشعري وإليك نصّه:إنّ أفعال العباد واقعة بقدرة اللّٰه تعالى وحدها،وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل اللّٰه سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرةً واختياراً،فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما،فيكون فعل العبد مخلوقاً للّٰه إبداعاً وإحداثاً ومكسوباً للعبد،والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له،وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري 2.


 

1) في ص 416.
2) شرح المواقف 8:145.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 393)


ووجه الغرابة أمّا أوّلاً:فلا دليل على ثبوت هذه العادة للّٰه‌تعالى.

وأمّا ثانياً:فقد قام البرهان القطعي على عدم واقع موضوعي لها أصلاً، توضيح ذلك:أنّ الكلام من هذه الناحية تارةً يقع في المعاليل الطبيعية المترتبة على عللها،واُخرى في الأفعال الاختيارية.

أمّا الاُولى: فلأ نّها تخضع لقوانين طبيعية ونظم خاصّة التي أودعها اللّٰه تعالى في كمون ذاتها وطبائعها ضمن إطار معيّن وهي مبدأ السنخية والتناسب، والسر في ذلك أنّ العلل تملك معاليلها في واقع ذواتها وكمون طبائعها بنحو الأتم والأكمل،وليست المعاليل موجودات اخر في قبال وجوداتها،بل هي تتولد منها ومن مراتب وجودها النازلة،وعليه فبطبيعة الحال تتناسب معها.مثلاً معنى كون الحرارة معلولةً للنار هو أنّ النار تملك الحرارة في صميم ذاتها وتتولد منها وتكون من مراتب وجودها،وهذا هو التفسير الصحيح لاعتبار السنخية والتناسب بينهما.

فالنتيجة:أنّ الكائنات الطبيعية بعللها ومعاليلها جميعاً خاضعة لقانون التناسب والتسانخ،ولا تتخلف عن السير على طبقه أبداً،وعلى ضوء هذا فلا يمكن القول بأنّ ترتب المعاليل على عللها بمجرد جريان عادة اللّٰه تعالى بذلك من دون علاقة ارتباط ومناسبة بينهما،رغم أنّ العادة لا تحصل إلّابالتكرار، وعليه فما هو المبرّر لصدور أوّل معلول عن علّته مع عدم ثبوت العادة هناك، وما هو الموجب لتأثيرها فيه ووجوده عقيب وجودها.ومن الطبيعي أ نّه ليس ذلك إلّامن ناحية ارتباطه معها ذاتاً ووجوداً،فإذا كان المعلول الأوّل خاضعاً لقانون العلّية،فكذلك المعلول الثاني وهكذا،بداهة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 394)


وكيف يمكن أن يقال:إنّ وجود الحرارة مثلاً عقيب وجود النار في أوّل سلسلتهما الطولية مستند إلى مبدأ السنخية والمناسبة وخاضع له،وأمّا بعده فهو من جهة جريان عادة اللّٰه تعالى بذلك،لا من جهة خضوعه لذلك المبدأ.

فالنتيجة أنّ مردّ هذه المقالة إلى إنكار واقع مبدأ العلّية وهو لا يمكن.

وأمّا الثانية: وهي الأفعال الاختيارية،فقد تقدّم أ نّها تصدر بالاختيار وإعمال القدرة،فمتى شاء الفاعل إيجادها أوجدها في الخارج،وليس الفاعل بمنزلة الآلة كما سيأتي بيانه 1بصورة مفصّلة.

على أ نّه كيف يمكن أن تثبت العادة في أوّل فعل صادر عن العبد،فإذن ما هو المؤثر في وجوده،فلا مناص من أن يقول إنّ المؤثر فيه هو إعمال القدرة والسلطنة،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق بينه وبين غيره من هذه الناحية.

فالنتيجة: أنّ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،هذا تمام الكلام في هذه الوجوه ونقدها.

بقي هنا عدّة وجوه اخر قد استدلّ بها على نظريّة الأشعري أيضاً:

الأوّل: المعروف والمشهور بين الفلاسفة قديماً وحديثاً أنّ الأفعال الاختيارية بشتّى أنواعها مسبوقة بالارادة،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أ نّها إذا بلغت حدّها التام تكون علّةً تامّةً لها.

وتبعهم في ذلك جماعة من الاُصوليين منهم المحقق صاحب الكفاية 2وشيخنا المحقق 3(قدس سرهما).فالنتيجة على ضوء ذلك هي وجوب صدور الفعل


 

1) في ص 397،403.
2) كفاية الاُصول:67.
3) نهاية الدراية 1:285.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 395)


عند تحقق الارادة واستحالة تخلفه عنها،بداهة استحالة تخلف المعلول عن العلّة التامّة.

وإلى هذا أشار شيخنا المحقق (قدس سره) بقوله:الارادة ما لم تبلغ حداً يستحيل تخلف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل،لأنّ معناه صدور المعلول بلا علّة تامّة،وإذا بلغت ذلك الحد امتنع تخلّفه عنها،وإلّا لزم تخلف المعلول عن علّته التامّة 1.

وقال صدر المتألهين:إنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه لم تكن صالحة لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر،وأمّا إذا صارت حدّ الوجوب لزم منه وقوع الفعل 2.ومراده من التساوي بعض مراتب الارادة كما صرّح بصحّة إطلاق الارادة عليه،كما أنّ مراده من صيرورتها حدّ الوجوب بلوغها إلى حدّها التام،فإذا بلغت ذلك الحد تحقق المراد في الخارج،وقد صرّح بذلك في غير واحد من الموارد.

وكيف كان،فتتفق كلمات الفلاسفة على ذلك رغم أنّ الوجدان لا يقبله،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ الارادة بكافة مبادئها من التصور والتصديق بالفائدة والميل وما شاكلها غير اختيارية وتحصل في افق النفس قهراً من دون أن تنقاد لها.نعم،قد يمكن للانسان أن يُحدث الارادة والشوق في نفسه إلى إيجاد شيء بالتأمل فيما يترتب عليه من الفوائد والمصالح،ولكن ننقل الكلام إلى ذلك الشوق


 

1) نهاية الدراية 1:285.
2) الأسفار 6:317.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 396)


المحرّك للتأمل فيه،ومن الطبيعي أنّ حصوله للنفس ينتهي بالآخرة إلى ما هو خارج عن اختيارها،وإلّا لذهب إلى ما لا نهاية له.

وعلى ضوء ذلك أنّ الارادة لا بدّ أن تنتهي إمّا إلى ذات المريد الذي هو بذاته وذاتياته وصفاته وأفعاله منتهٍ إلى الذات الواجبة،وإمّا إلى الارادة الأزليّة.

وقد صرّح بذلك المحقق الاصفهاني (قدس سره) بقوله:إن كان المراد من انتهاء الفعل إلى إرادة الباري تعالى بملاحظة انتهاء إرادة العبد إلى إرادته تعالى، لفرض إمكانها المقتضي للانتهاء إلى الواجب،فهذا غير ضائر بالفاعلية التي هي شأن الممكنات،فانّ العبد بذاته وبصفاته وأفعاله لا وجود له إلّابافاضة الوجود من الباري تعالى،ويستحيل أن يكون الممكن مفيضاً للوجود 1.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا مناص من الالتزام بالجبر وعدم السلطنة والاختيار للانسان على الأفعال الصادرة منه في الخارج.

ولنأخذ بنقد هذه النظريّة على ضوء درس نقطتين:

الاُولى:أنّ الارادة لا تعقل أن تكون علّة تامّة للفعل.

الثانية:أنّ الأفعال الاختيارية بكافّة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة.

أمّا النقطة الاُولى: فلا ريب في أنّ كل أحد إذا راجع وجدانه وفطرته في صميم ذاته حتّى الأشعري يدرك الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة يد غيره، وبين حركة النبض وحركة الأصابع،وبين حركة الدم في العروق وحركة اليد يمنة ويسرة وهكذا،ومن الطبيعي أ نّه لا يتمكن أحد ولن يتمكن من إنكار ذلك الفرق بين هذه الحركات،كيف حيث إنّ إنكاره بمثابة إنكار البديهي كالواحد نصف الاثنين،والكل أعظم من الجزء وما شاكلهما،ولو كانت الارادة علّةً تامّةً وكانت حركة العضلات معلولةً لها،كان حالها عند وجودها حال


 

1) نهاية الدراية 1:289 في الهامش.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 397)


حركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق ونحوهما،مع أنّ ذلك-مضافاً إلى أ نّه خلاف الوجدان والضمير-خاطئ جداً ولا واقع له أبداً.

والسبب في ذلك:أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب المعلول على علّته التامّة،بل الفعل على الرغم من وجودها وتحققها كذلك يكون تحت اختيار النفس وسلطانها،فلها أن تفعل ولها أن لا تفعل.

وإن شئت قلت: إنّه لا شبهة في سلطنة النفس على مملكة البدن وقواه الباطنة والظاهرة،وتلك القوى بكافة أنواعها تحت تصرفها واختيارها.وعليه فبطبيعة الحال تنقاد حركة العضلات لها وهي مؤثرة فيها تمام التأثير من غير مزاحم لها في ذلك،ولو كانت الارادة علّةً تامّةً لحركة العضلات ومؤثرةً فيها تمام التأثير لم تكن للنفس تلك السلطنة ولكانت عاجزةً عن التأثير فيها مع فرض وجودها،وهو خاطئ وجداناً وبرهاناً.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ الارادة-مهما بلغت من القوّة والشدّة – لا تترتب عليها حركة العضلات كترتب المعلول على العلّة التامّة،ليكون الانسان مقهوراً في حركاته وأفعاله.

وأمّا الثاني: فلأنّ الصفات التي توجد في افق النفس غير منحصرة بصفة الارادة،بل لها صفات اخرى كصفة الخوف ونحوها،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ صفة الخوف إذا حصلت في النفس تترتب عليها آثار قهراً وبغير اختيار وانقياد للنفس كارتعاش البدن واصفرار الوجه ونحوهما، ومن المعلوم أنّ تلك الأفعال خارجة عن الاختيار،حيث كان ترتبها عليها كترتب المعلول على العلّة التامّة،فلو كانت الارادة أيضاً علّةً تامّةً لوجود الأفعال فإذن ما هو نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الارادة والأفعال المترتبة على صفة الخوف،إذ على ضوء هذه النظريّة فهما في إطار واحد فلا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 398)


فرق بينهما إلّابالتسمية فحسب من دون واقع موضوعي لها أصلاً.

مع أنّ الفرق بين الطائفتين من الأفعال من الواضحات الأوّلية،ومن هنا يحكم العقلاء باتصاف الطائفة الاُولى بالحسن والقبح العقليين واستحقاق فاعلها المدح والذم،دون الطائفة الثانية،ومن الطبيعي أنّ هذا الفرق يرتكز على نقطة موضوعية،وهي اختيارية الطائفة الاُولى دون الطائفة الثانية،لا على مجرد تسمية الاُولى بالأفعال الاختيارية والثانية بالأفعال الاضطرارية، مع عدم واقع موضوعي لها.ومن ذلك يظهر أنّ الارادة تستحيل أن تكون علّةً تامّةً للفعل.

ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين،الأوّل:أ نّنا إذا افترضنا شخصاً تردد بين طريقين:أحدهما مأمون من كل خطر على النفس والمال والعرض،وفيه جميع متطلباته الحيويّة وما تشتهيه نفسه.والآخر غير مأمون من الخطر،وفيه ما ينافي طبعه ولا يلائم إحدى قواه،ففي مثل ذلك بطبيعة الحال تحدث في نفسه إرادة واشتياق إلى اختيار الطريق الأوّل واتخاذه مسلكاً له دون الطريق الثاني، ولكن مع ذلك نرى بالوجدان أنّ اختياره هذا ليس قهراً عليه،بل حسب اختياره وإعمال قدرته،حيث إنّ له والحال هذه أن يختار الطريق الثاني.

الثاني: إذا فرضنا أنّ شخصاً سقط من شاهق ودار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر المؤدّي إلى هلاكه،وبين أن يقع على ولده الأصغر،ولا يتمكن من التحفظ على نفس كليهما معاً،فعندئذ بطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه الأصغر مثلاً من جهة شدّة علاقته بابنه الأكبر حيث انّه بلغ حدّ الرشد والكمال من جهة وارتضى سلوكه من جهة اخرى،ومن البديهي أنّ اختياره السقوط على الأوّل ليس من جهة شوقه إلى هلاكه وموته وإرادته له،بل هو يكره ذلك كراهة شديدة ومع ذلك يصدر منه هذا الفعل بالاختيار واعمال القدرة،ولو

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 399)


كانت الارادة علّة تامّة للفعل لكان صدوره منه محالاً لعدم وجود علّته وهي الارادة،ومن المعلوم استحالة تحقق المعلول بدون علّته.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه أمران:

الأوّل:أنّ الارادة في أيّة مرتبة افترضت بحيث لا يتصور فوقها مرتبة اخرى لاتكون علّة تامّة للفعل ولاتوجب خروجه عن تحت سلطان الانسان واختياره.

الثاني:على فرض تسليم أنّ الارادة علّةً تامّة للفعل إلّاأنّ من الواضح جداً أنّ العلّة غير منحصرة بها،بل له علّة اخرى أيضاً وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس،ضرورة أ نّها لو كانت منحصرة بها لكان وجوده محالاً عند عدمها، وقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره الفلاسفة 1وجماعة من الاُصوليين منهم شيخنا المحقق (قدس سره) 2من امتناع وجود الفعل عند عدم وجود الارادة خاطئ جداً.

ولعلّ السبب المبرّر لالتزامهم بذلك-أي بكون الارادة علّة تامّةً للفعل مع مخالفته للوجدان الصريح ومكابرته للعقل السليم،واستلزامه التوالي الباطلة:

منها كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً-هو التزامهم بصورة موضوعية بقاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد،حيث إنّهم قد عمّموا هذه القاعدة في كافة الممكنات بشتّى أنواعها وأشكالها،ولم يفرّقوا بين الأفعال الارادية والمعاليل الطبيعية من هذه الناحية،وقالوا سرّ عموم هذه القاعدة حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة.ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في ذلك بين ممكن وممكن آخر،هذا


 

1) لاحظ الأسفار 6:351.
2) نهاية الدراية 1:285.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱ 400)


من ناحية.

ومن ناحية اخرى:حيث إنّهم لم يجدوا في الصفات النفسانية صفة تصلح لأن تكون علّةً للفعل غير الارادة،فلذلك التزموا بترتب الفعل عليها ترتب المعلول على العلّة التامّة.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ كل ممكن ما لم يجب وجوده من قبل وجود علّته يستحيل تحققه ووجوده في الخارج،ومن هنا يقولون:إنّ كل ممكن محفوف بوجوبين:وجوب سابق وهو الوجوب في مرتبة وجود علّته – ووجوب لاحق-وهو الوجوب بشرط وجوده خارجاً.

ولنبحث هنا عن أمرين:

الأوّل:عن الفرق الأساسي بين المعاليل الطبيعية والأفعال الاختيارية.

الثاني:عدم جريان القاعدة المذكورة في الأفعال الاختيارية.

أمّا الأمر الأوّل: فقد سبق بشكل إجمالي 1أنّ الأفعال الإرادية تمتاز عن المعاليل الطبيعية بنقطة واحدة،وهي أ نّها تحتاج في وجودها إلى فاعل،وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخٰالِقُونَ» 2فأثبت (عزّ من قائل) بذلك احتياج الفعل إلى فاعل وخالق وبدونه محال،والفاعل لهذه الأفعال هو نفس الانسان،فانّها تصدر منها بالاختيار وإعمال القدرة والسلطنة،وليس في إطارها حتم ووجوب،فلها أن تشاء وتعمل،ولها أنّ لا تشاء ولا تعمل،فهذه المشيئة والسلطنة لا تتوقف على شيء آخر كالارادة ونحوها،بل هي كامنة في صميم ذات النفس حيث إنّ اللّٰه تعالى خلق النفس


 

1) في ص 393-394.
2) الطور 52:35.
Pages: 1 2 3 4 5 6
Pages ( 4 of 6 ): «1 ... 3 4 56»