آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱
جلد
1
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۱
جلد
1
كذلك.وهذا بخلاف المعاليل الطبيعية،فانّها تحتاج في وجودها إلى علل طبيعية تعاصرها وتؤثر فيها على ضوء مبدأ السنخية،في إطار الحتم والوجوب،ولا يعقل فيها الاختيار.
وإن شئت فقل: إنّ الفعل الاختياري حيث كان يخضع لاختيار الانسان ومشيئته فلا يعقل وجود نظام له كامن في صميم ذاته،ليكون سيره ووجوده تحت إطار هذا النظام الخاص من دون تخلفه عنه،والوجه في هذا واضح،وهو أنّ مشيئة الانسان تختلف باختلاف أفراده كما تختلف باختلاف حالاته النفسية ودواعيه الداخلية والخارجية،فلهذا السبب جعل لها نظم وقوانين خاصّة، ليكون سيرها الوجودي تحت إطار هذه النظم.
وهذا بخلاف سلسلة المعاليل الطبيعية،فانّها تخضع في سيرها الوجودي نظاماً خاصّاً وإطاراً معيّناً الذي أودعه اللّٰه تعالى في كمون ذاتها،ويستحيل أن تتخلّف عنه،ولذا لايعقل جعل نظام لها من الخارج،لعدم خضوعها له واستحالة تخلّفها عن نظمه الطبيعية،وهذا برهان قطعي على أنّ السلسلة الاُولى سلسلة اختيارية، فأمرها وجوداً وعدماً بيد فاعلها،دون السلسلة الثانية فانّها مقهورة ومجبورة في سيرها على طبق نظمها الطبيعية الموضوعة في صميم ذاتها وكمون واقعها.
لحدّ الآن قد تبيّن افتراق السلسلة الاُولى عن السلسلة الثانية بنقطة موضوعية،فلو كانت السلسلة الاُولى كالسلسلة الثانية مقهورة ومجبورة في سيرها الوجودي لم يمكن الفرق بينهما.
وأمّا الأمر الثاني: فالقاعدة المذكورة وإن كانت تامّةً في الجملة،إلّاأ نّه لا صلة لها بالأفعال الاختيارية،والسبب في ذلك:أنّ هذه القاعدة ترتكز على مسألة التناسب والسنخية التي هي النقطة الأساسية لمبدأ العلية،فان وجود المعلول-كما تقدّم-مرتبة نازلة من وجود العلّة،وليس شيئاً أجنبياً عنه.
وعلى هذا فبطبيعة الحال أنّ وجود المعلول قد أصبح ضرورياً في مرتبة وجود العلّة،لفرض أ نّه متولد منها ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزاها، وهذا معنى احتفاف وجوده بضرورة سابقة.ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن تفسير الضرورة في القاعدة المذكورة على ضوء مبدأ العلّية إلّافي المعاليل الطبيعية، ولا يمكن تفسيرها في الأفعال الاختيارية أصلاً،وذلك لأنّ الأفعال الاختيارية – سواء أكانت معلولةً للارادة أم كانت معلولة لإعمال القدرة والسلطنة-لا يستند صدورها إلى مبدأ السنخية،بداهة أ نّها لا تتولد من كمون ذات علّتها وفاعلها،ولا تخرج من واقع وجوده وصميم ذاته لتكون من شؤونه ومراتبه، بل هي مباينة له ذاتاً ووجوداً.وعلى هذا فلا يمكن التفسير الصحيح لاحتفافها بالضرورة السابقة،فانّ معنى هذا كما عرفت وجود المعلول في مرتبة وجود علّته،وهذا لا يعقل إلّافي المعاليل الطبيعية.
ومن هنا يظهر أ نّنا لو قلنا بأنّ الارادة علّة تامّة لها فمع ذلك لا صلة لها بالقاعدة المزبورة،لوضوح أ نّه لا معنى لوجوب وجودها في مرتبة وجود الارادة ثمّ خروجها من تلك المرتبة إلى مرتبتها الخاصّة.
وعلى الجملة: فإذا كانت العلّة مباينةً للمعلول وجوداً ولم تكن بينهما علاقة السنخية فبطبيعة الحال لا يتصور هنا وجوب وجود المعلول من قبل وجود علّته،فإذن ليس هنا إلّاوجوده بعد وجودها من دون ضرورة سابقة،ومردّ هذا بالتحليل العلمي إلى عدم قابلية الارادة للعلية.وقد تحصّل من ذلك:أنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى فاعلٍ ما،ويصدر منه باختياره وإعمال قدرته،ولا تأثير للارادة فيه بنحو العلّة التامّة،نعم قد يكون لها تأثير فيه بنحو الاقتضاء.
فالنتيجة:أ نّه لا مجال للقاعدة المتقدمة في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية فتختص بسلسلة المعاليل الطبيعية.
وأمّا النقطة الثانية: وهي أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الانسان باختياره وإعمال قدرته،فقد تبيّن وجهها على ضوء ما حققناه في النقطة الاُولى،من أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها من القوّة لن تكون علّة تامّة للفعل،وعليه فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل في الخارج إلى أمر آخر،وهذا الأمر هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنهما بالاختيار،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ اللّٰه (عزّ وجلّ) قد خلق النفس للانسان واجدةً لهذه السلطنة والقدرة،وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها،ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها،فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة اخرى.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل من أنّ الاختيار ممكن،والمفروض أنّ كل ممكن يفتقر إلى علّة،فإذن ما هو علّة الاختيار،ووجه الظهور ما عرفت من أنّ الفعل الاختياري يحتاج إلى فاعل وخالق لا إلى علّة،والفاعل لهذه الصفة – أي صفة الاختيار-هو النفس،غاية الأمر أ نّها تصدر منها بنفسها-أي بلا توسط مقدّمة اخرى-وسائر الأفعال تصدر منها بواسطتها.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ الفعل الاختياري إنّما يصدر عن الفاعل باعمال قدرته لا بالارادة، نعم الارادة قد تكون مرجحةً لاختياره.
الثاني: أنّ اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالباً إلى وجود مرجح،إلّا أ نّه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه،بل من ناحية خروجه عن اللغوية.
ولشيخنا المحقق (قدس سره) في هذا الموضوع كلام،حيث إنّه (قدس سره)
بعد ما أصرّ على أنّ الارادة علّة تامّة للفعل،أورد على ما ذكرناه-من أنّ الفعل الاختياري ما أوجده الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة وليس معلولاً للارادة-بعدّة وجوه،وقبل بيان هذه الوجوه تعرّض (قدس سره) لكلامٍ لا بأس بالاشارة إليه ونقده،وإليكم نصّه:
إنّ الالتزام بالفعل النفساني المسمّى بالاختيار إمّا لأجل تحقيق استناد حركة العضلات إلى النفس حتّى تكون النفس فاعلاً ومؤثراً في العضلات،بخلاف ما إذا استندت حركة العضلات إلى صفة النفس وهي الارادة،فانّ المؤثر فيها هي تلك الصفة لا النفس.وإمّا لأجل أنّ الارادة حيث إنّها صفة قهرية منتهية إلى الارادة الأزلية،توجب كون الفعل المترتب عليها قهرياً غير اختياري،فلا بدّ من فرض فعل نفساني هو عين الاختيار،لئلّا يلزم كون الفعل بواسطة تلك الصفة القهرية قهرياً.
فان كان الأوّل،ففيه:أنّ العلّة الفاعلية لحركة العضلات هي النفس بواسطة اتحادها مع القوى،والعلم والقدرة والارادة مصححات لفاعلية النفس،وبها تكون النفس فاعلاً بالفعل،والفعل مستند إلى النفس،وهي العلّة الفاعلية دون شرائط الفاعلية كما في غير المقام،فانّ المقتضى يستند إلى المقتضي دون الشرائط، وإن كان له ترتب على المقتضي وشرائطه،فمن هذه الحيثية لا حاجة إلى فعل نفساني يكون محققاً للاستناد.
وإن كان الثاني،ففيه:أنّ هذا الأمر المسمى بالاختيار،إن كان عين تأثير النفس في حركة العضلات وفاعليتها لها،فلا محالة لا مطابق له في النفس، ليكون أمراً ما وراء الارادة،إذ ما له مطابق بالذات ذات العلّة والمعلول،وذات الفاعل والمفعول،وحيثية العلّية والتأثير والفاعلية انتزاعية،ولا يعقل أن يكون
لها مطابق 1،إذ لو كان لها مطابق في الخارج لاحتاج ذلك المطابق إلى فاعل، والمفروض أنّ لحيثية فاعلية هذا الفاعل أيضاً مطابقاً فيه،وهكذا إلى ما لا نهاية له،ولأجل ذلك لا يعقل أن يكون لهذه الاُمور الانتزاعية مطابق بالذات، بل هي منتزعة عن مقام الذات،فلا واقع موضوعي لها أصلاً.
وإن كان أمراً قائماً بالنفس،فنقول:إنّ قيامه بها قيام الكيف بالمتكيف، فحاله حال الارادة من حيث كونه صفةً نفسانيةً داخلةً في مقولة الكيف النفساني،فكل ما هو محذور ترتب حركة العضلات على صفة الارادة وارد على ترتب الحركات على الصفة المسماة بالاختيار،فانّها أيضاً صفة تحصل في النفس بمبادئها قهراً،فالفعل المترتب عليها كذلك 2.
وغير خفي أ نّه لا وجه لتشقيقه (قدس سره) الاختيار بالشقوق المذكورة، ضرورة أنّ المراد منه معلوم،وهو كونه فعل النفس ويصدر منها بالذات-أي بلا واسطة مقدّمة اخرى-كما عرفت.وبقية الأفعال تصدر منها بواسطته،وهو فعل قلبي لا خارجي.ومن هنا يظهر أ نّه ليس من مقولة الكيف،ولا هو عبارة عن فاعلية النفس،وعليه فبطبيعة الحال يكون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل، لا الكيف بالمتكيف،ولا الحال بالمحل،ولا الصفة بالموصوف.
ولكنّه (قدس سره) أورد على ذلك-أي على كون قيامه بها قيام الفعل بالفاعل-بعدّة وجوه:
الأوّل: ما إليك لفظه:إنّ النفس بما هي مع قطع النظر عن قواها الباطنة
والظاهرة لا فعل لها،وفاعلية النفس لموجودات عالم النفس التي مرّت سابقاً هو إيجادها النوري العقلاني في مرتبة القوّة العاقلة،أو الوجود الفرضي في مرتبة الواهمة،أو الوجود الخيالي في مرتبة المتخيلة.كما أنّ استناد الإبصار والاستماع إليها أيضاً بلحاظ أنّ هذه القوى الظاهرة من درجات تنزل النفس إليها.ومن الواضح أنّ الايجاد النوري المناسب لإحدى القوى المذكورة أجنبي عن الاختيار الذي جعل أمراً آخر ممّا لا بدّ منه في كل فعل اختياري،بداهة أنّ النفس بعد حصول الشوق الأكيد ليس لها إلّاهيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلاتية 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ النفس تتحد مع كافة قواها الباطنة والظاهرة،ولذا قد اشتهر في الألسنة أنّ النفس في وحدتها كل القوى،وعليه فبطبيعة الحال أنّ الأفعال التي تصدر من هذه القوى تصدر حقيقة منها،لفرض أ نّها من شؤونها ومن مراتب وجودها ومنقادة لها تمام الانقياد فلا يصدر منها فعل إلّابأمرها.
الثانية: أ نّه لا فعل للنفس بالمباشرة،وإنّما الفعل يصدر منها بواسطة هذه القوى،ومن المعلوم أنّ شيئاً من الأفعال الصادرة منها ليس بصفة الاختيار.
الثالثة: أنّ النفس في وحدتها لا تؤثر في شيء من الأفعال الخارجية،وإنّما تؤثر فيها بعد حصول الارادة والشوق الأكيد،حيث يحصل لها بعده هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلاتية،فتكون الارادة الجزء الأخير من العلّة التامّة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فالأمر فيها كما ذكره (قدس سره) لأنّ هذه القوى كلّها جنود للنفس وتعمل بقيادتها،فالأفعال الصادرة منها في الحقيقة تصدر عن النفس،وهذا واضح فلا حاجة إلى مزيد بيان.
وأمّا النقطة الثانية: فيرد عليها أوّلاً:أنّ الأمر ليس كما ذكره (قدس سره) إذ لا ريب في أنّ للنفس أفعالاً تصدر منها باختيارها وسلطنتها مباشرة،أي من دون توسيط إحدى قواها الباطنة والظاهرة.
منها:البناء القلبي،فانّ لها أن تبني على شيء،وأن لا تبني عليه،وليس البناء فعلاً يصدر من إحدى قوّة من قواها كما هو ظاهر.
ومنها:قصد الاقامة عشرة أيام،فانّ لها أن تقصد الاقامة في موضع عشرة أيام،ولها أن لا تقصد،فهو تحت يدها وسلطنتها مع قطع النظر عن وجود كافّة قواها.
ومنها:عقد القلب،وقد دلّ عليه قوله تعالى: «وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ» 1فأثبت سبحانه أنّ عقد القلب على شيء غير اليقين به،فانّ الكفّار كانوا متيقنين بالرسالة والنبوّة بمقتضى الآية الكريمة ولم يكونوا عاقدين بها.
وكيف كان،فلا شبهة في أنّ للنفس أفعالاً في افقها تصدر منها باختيارها وإعمال سلطنتها،كالبناء والالتزام والقصد وعقد القلب وما شاكل ذلك.
وثانياً: على فرض تسليم عدم صدور الفعل من النفس من دون توسط إحدى قواها الباطنة والظاهرة،إلّاأ نّك عرفت أنّ الأفعال التي تصدر من قواها في الحقيقة تصدر منها،وهي الفاعل لها حقيقةً وواقعاً.
والسبب في ذلك:أنّ هذه القوى بأجمعها تصحح فاعلية النفس بالفعل،فانّ
فاعليتها كذلك تتوقف على توفر شروط،منها:وجود إحدى قواها،حيث إنّ فاعليتها في مرتبة القوّة العاقلة إدراك الاُمور المعقولة بواسطتها،وفي مرتبة القوّة الواهمة الفرض والتقدير،وفي مرتبة القوّة المتخيّلة الخيال،وفي مرتبة القوّة الباصرة الإبصار،وفي مرتبة القوّة السامعة الاستماع،وفي مرتبة القوّة العضلاتية التحريك نحو إيجاد فعل في الخارج.
وإن شئت قلت: إنّ النفس متى شاءت أن تدرك الحقائق الكلّية أدركت بالقوّة العاقلة،ومتى شاءت أن تفرض الأشياء وتقدرها قدرت بالقوّة الواهمة، ومتى شاءت أن تفعل شيئاً فعلت بالقوّة العضلاتية،وهكذا.
وعلى هذا،فبطبيعة الحال أنّ هذه الأفعال التي تصدر منها بواسطة تلك القوى جميعاً مسبوقة بإعمال قدرتها واختيارها،ولا فرق من هذه الناحية بين الأفعال الخارجية التي تصدر منها بالقوّة العضلاتية،وبين الأفعال الداخلية التي تصدر منها بإحدى تلك القوى.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ أفعال تلك القوى أجنبية عن الاختيار،مبني على جعل الاختيار في عرض تلك الأفعال،ولذلك قال:ما هو فاعله والمؤثر فيه.ولكن قد عرفت بشكل واضح أنّ الاختيار في طولها وفاعله هو النفس.
فالنتيجة: أنّ الاختيار يمتاز عن هذه الأفعال في نقطتين:الاُولى:أنّ الاختيار يصدر من النفس بالذات لا بواسطة اختيار آخر وإلّا لذهب إلى ما لا نهاية له، وتلك الأفعال تصدر منها بواسطته لا بالذات.الثانية:أنّ الاختيار لم يصدر منها بواسطة شيء من قواها،دون تلك الأفعال حيث إنّها تصدر منها بواسطة هذه القوى.
وأمّا النقطة الثالثة: فقد ظهر خطؤها ممّا قدّمناه آنفاً 1من أنّ الارادة
ليست علّةً تامّةً للفعل،ولا جزءاً أخيراً لها،فلاحظ ولا نعيد.
الثاني: ما إليك لفظه:إنّ هذا الفعل النفساني المسمى بالاختيار إذا حصل في النفس،فان ترتبت عليه حركة العضلات بحيث لا تنفك الحركة عنه،كان حال الحركة وهذا الفعل النفساني حال الفعل وصفة الارادة،فما المانع عن كون الصفة علّةً تامّةً للفعل دون الفعل النفساني،وكونه وجوباً بالاختيار مثل كونه وجوباً بالارادة 1.
وغير خفي أنّ ما ذكره (قدس سره) من الغرائب،والسبب في ذلك:أنّ الفعل وإن كان مترتباً على الاختيار وإعمال القدرة في الخارج،إلّاأنّ هذا الترتب بالاختيار،ومن المعلوم أنّ وجوب وجود الفعل الناشئ من الاختيار لا ينافي الاختيار،بل يؤكّده.
وبكلمة اخرى:أنّ النفس باختيارها وإعمال قدرتها أوجدت الفعل في الخارج، فيكون وجوب وجوده بنفس الاختيار وإعمال القدرة،ومردّه إلى الوجوب بشرط المحمول-أي بشرط الوجود-ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الوجوب لا ينافي الاختيار،حيث إنّ وجوبه معلول له فكيف يعقل أن يكون منافياً له، فيكون المقام نظير المسبب المترتب على السبب الاختياري،وهذا بخلاف وجوب وجود الفعل من ناحية وجود الارادة،فانّه ينافي كونه اختيارياً،وذلك لأنّ الارادة كما عرفت بكافة مبادئها غير اختيارية،فإذا فرضنا أنّ الفعل معلول لها ومترتب عليها كترتب المعلول على العلّة التامّة،فكيف يعقل كونه اختيارياً، نظير ترتب المسبب على السبب الخارج عن الاختيار.وعلى ضوء هذا البيان يمتاز وجوب الفعل المترتب على صفة الاختيار عن وجوب الفعل المترتب على
صفة الارادة.
الثالث: ما إليك نص قوله:إنّ الاختيار الذي هو فعل نفساني،إن كان لا ينفك عن الصفات الموجودة في النفس من العلم والقدرة والإرادة،فيكون فعلاً قهرياً لكون مبادئه قهرية لا اختيارية.وإن كان ينفك عنها وأنّ تلك الصفات مرجحات،فهي بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة ولا يوجد المعلول إلّابعلّته التامّة.
وتوهم الفرق بين الفعل الاختياري وغيره من حيث كفاية وجود المرجّح في الأوّل دون الثاني من الغرائب،فانّه لا فرق بين ممكن وممكن في الحاجة إلى العلّة،ولا فرق بين معلول ومعلول في الحاجة إلى العلّة التامّة،فانّ الامكان مساوق للافتقار إلى العلّة،وإذا وجد ما يكفي في وجود المعلول به كان علّةً تامّةً له،وإذا لم يكن كافياً في وجوده فوجود المعلول به خلف،فتدبّره فانّه حقيق 1.
ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على عموم قاعدة أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد للأفعال الاختيارية أيضاً،وأ نّه لا فرق بينها وبين المعاليل الطبيعية من هذه الناحية.ولكن قد تقدّم 2بشكل واضح عدم عمومية القاعدة المذكورة واختصاصها على ضوء مبدأ السنخية والتناسب بسلسلة المعاليل الطبيعية،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد سبق 3أنّ الارادة وكذا غيرها من الصفات النفسانية لا تصلح أن تكون علّةً تامّةً لوجود الفعل في الخارج.
ومن ناحية ثالثة:أنّ الصفات الموجودة في النفس كالعلم والقدرة والارادة
وما شاكلها ليست من مبادئ وجوده وتحققه في النفس كي يوجد فيها قهراً عند وجود هذه الصفات،بل هو مباين لها،كيف حيث إنّه فعل النفس وتحت سلطانها،وهذا بخلاف تلك الصفات فانّها امور خارجة عن إطار اختيار النفس وسلطانها.
وعلى ضوء هذه النواحي يظهر أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الاختيار على تقدير انفكاكه عن النفس يلزم كون النفس مع هذه الصفات علّةً ناقصةً لا تامّة،مع أنّ المعلول لا يوجد إلّابوجود علّته التامّة،خاطئ جداً،والسبب في ذلك:
أوّلاً:ما تقدّم من أنّ الاختيار ذاتي للنفس فلا يعقل انفكاكه عنها،وليس حاله من هذه الناحية حال سائر الأفعال الاختيارية.
وثانياً:ما عرفت بشكل واضح من أنّ الفعل لا يفتقر في وجوده إلى وجود علّة تامّة له،بل هو يحتاج إلى وجود فاعل،والمفروض أنّ النفس فاعل له.
فإذن لا معنى لما أفاده (قدس سره) من أنّ الفعل ممكن وكل ممكن يحتاج إلى علّة تامّة.
وإن أصررت على ذلك وأبيت إلّاأن يكون للشيء علّة تامّة،ويستحيل وجوده بدونها فنقول:إنّ العلّة التامّة للفعل إنّما هي إعمال القدرة والسلطنة بتحريك القوّة العضلاتية نحوه،ومن الطبيعي أنّ الفعل يتحقق بها ويجب وجوده، ولكن بما أنّ وجوب وجوده مستند إلى الاختيار ومعلول له فلا ينافي الاختيار.
فالنتيجة:هي أنّ الممكن وإن كان بكافة أنواعه وأشكاله يفتقر من صميم ذاته إلى علّة تامّة له،إلّاأنّ العلّة التامّة في الأفعال الاختيارية حيث إنّها الاختيار وإعمال القدرة،فبطبيعة الحال تكون ضرورتها من الضرورة بشرط الاختيار،ومن الواضح أنّ مثل هذه الضرورة يؤكّد الاختيار.
الرابع: إليكم لفظه:إنّ الفعل المسمى بالاختيار إن كان ملاكاً لاختيارية الأفعال،وأنّ ترتب الفعل على صفة الارادة مانع عن استناد الفعل إلى الفاعل، لكان الأمر في الواجب تعالى كذلك،فانّ الملاك عدم صدورها عن اختياره، لا انتهاء الصفة إلى غيره،مع أنّ هذا الفعل المسمّى بالاختيار يستحيل أن يكون عين ذات الواجب،فانّ الفعل يستحيل أن يكون عين فاعله،فلا محالة يكون قائماً بذاته قيام الفعل بالفاعل صدوراً،فان كان قديماً بقدمه،كان حال هذا القائل حال الأشعري القائل بالصفات القديمة القائمة بذاته الزائدة عليها،وإن كان حادثاً كان محلّه الواجب فكان الواجب محلاً للحوادث،فيكون حاله حال الكرامية القائلين بحدوث الصفات،ويستحيل حدوثه وعدم قيامه بمحل، فانّ سنخ الاختيار ليس كسنخ الأفعال الصادرة عن اختيار من الجواهر والأعراض حتّى يكون موجوداً قائماً بنفسه أو قائماً بموجود آخر،بل الاختيار يقوم بالمختار لا بالفعل الاختياري في ظرف وجوده وهو واضح 1.
يحتوى ما أفاده (قدس سره) على عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا فرق بين فاعليته (سبحانه وتعالى) وفاعلية غيره من ناحية صدور الفعل بالارادة والاختيار،نعم فرق بينهما من ناحية اخرى وهو أنّ فاعليته تعالى تامّة وبالذات من كافّة الجهات،كالعلم والقدرة والحياة والارادة وما شاكلها،دون فاعلية غيره فانّها ناقصة وبحاجة إلى الغير في تمام هذه الجهات،بل هي عين الفقر والحاجة،فلا بدّ من إفاضتها آناً فآناً من قبل اللّٰه تعالى.
الثانية: أ نّه لو كان ملاك الفعل الاختياري صدوره عن الفاعل باعمال القدرة والاختيار،لكان الأمر في الباري (عزّ وجلّ) أيضاً كذلك،وعندئذ نسأل عن
هذا الاختيار هل هو عين ذاته أو غيره،وعلى الثاني فهل هو قديم أو حادث، والكل خاطئ.أمّا الأوّل،فلاستحالة كون الفعل عين فاعله ومتحداً معه خارجاً وعيناً.وأمّا الثاني،فيلزم تعدد القدماء وهو باطل.وأمّا الثالث،فيلزم كون الباري تعالى محلاً للحوادث وهو محال.
الثالثة: أنّ سنخ الاختيار ليس كسنخ بقية الأفعال الخارجية،فانّها لا تخلو من أن تكون من مقولة الجوهر أو من مقولة العرض،ومن الواضح أنّ الاختيار ليس بموجود في الخارج حتّى يكون في عرض هذه الأفعال وداخلاً في إحدى المقولتين،بل هو في طولها وموطنه فيه تعالى ذاته وفي غيره نفسه،فالجامع هو أنّ الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري،ولا بموجود آخر ولا بنفسه.
وعلى هذا فتأتي الشقوق المشار إليها في النقطة الثانية،وقد عرفت استحالة جميعها.
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت أنّ الاختيار أمر غير معقول.
هذا،ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي وإن كانت تامّة من ناحية عدم الفرق بين ذاته تعالى وبين غيره في ملاك الفعل الاختياري،إلّاأنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ ملاكه هو صدوره عن الفاعل بالارادة والعلم خاطئ جداً،وذلك لأنّ نسبة الارادة إلى الفعل لو كانت كنسبة العلّة التامّة إلى المعلول استحال كونه اختيارياً، حيث إنّ وجوب وجوده بالارادة منافٍ للاختيار،ولا فرق في ذلك بين الباري (عزّ وجلّ) وغيره،ومن هنا صحّت نسبة الجبر إلى الفلاسفة في أفعال الباري تعالى أيضاً،بيان ذلك:
هو أنّ مناط اختيارية الفعل كونه مسبوقاً بالارادة والالتفات في افق النفس،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:الارادة علّة تامّة للفعل على ضوء
مبدأ افتقار كل ممكن إلى علّة تامّة واستحالة وجوده بدونها،ولا فرق في ذلك بين إرادته تعالى وإرادة غيره.نعم،فرق بينهما من ناحية اخرى،وهي أنّ إرادته سبحانه عين ذاته،ومن هنا تكون العلّة في الحقيقة هي ذاته،وحيث إنّها واجبة من جميع الجهات وكافة الحيثيات فبطبيعة الحال يجب صدور الفعل منه على ضوء مبدأ أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.
ومن ناحية ثالثة:أ نّهم قد التزموا بتوحيد أفعاله تعالى على ضوء مبدأ أنّ الواحد لا يصدر منه إلّاالواحد واستحالة صدور الكثير منه.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي ضرورة صدور الفعل منه واستحالة انفكاكه عنه،وهذا معنى الجبر وواقعه الموضوعي في أفعاله سبحانه.
وإن شئت قلت:إنّ الارادة الأزليّة لو كانت علّة تامّة لأفعاله تعالى لخرجت تلك الأفعال عن إطار قدرته سبحانه وسلطنته،بداهة أنّ القدرة لا تتعلق بالواجب وجوده أو المستحيل وجوده،والمفروض أنّ تلك الأفعال واجبة وجودها من جهة وجوب وجود علّتها،حيث إنّ علّتها-وهي الارادة الأزلية على نظريّتهم-واجبة الوجود وعين ذاته سبحانه،وتامّة من كافّة الحيثيات والنواحي ولا يتصور فيها النقص أبداً،فإذا كانت العلّة كذلك فبطبيعة الحال يحكم على هذه الأفعال الحتم والوجوب،ولا يعقل فيها الاختيار،ومن الواضح أنّ مردّ هذا إلى إنكار قدرة اللّٰه تعالى وسلطنته.
ومن هنا قلنا إنّ أفعاله تعالى تصدر منه بالاختيار وإعمال القدرة،وذكرنا أنّ إرادته تعالى ليست ذاتية بل هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة،كما أ نّا ذكرنا أنّ معنى تمامية سلطنته تعالى من جميع الجهات وعدم تصور النقص فيها ليس وجوب صدور الفعل منه،بل معناها عدم افتقار ذاته سبحانه إلى غيره، وأ نّه سلطان بالذات دون غيره فانّه فقير بالذات والفقر كامن في صميم ذاته.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الضابط لكون الفعل في إطار الاختيار هو صدوره عن الفاعل بالمشيئة وإعمال القدرة،لا بالارادة والشوق المؤكّد.
وأمّا النقطة الثانية: فقد تبيّن من ضمن البحوث السابقة بصورة موسّعة أنّ صدور الفعل من الباري (عزّ وجلّ) إنّما هو باعمال قدرته وسلطنته،لا بغيرها.
وما ذكره (قدس سره) من الايراد عليه فغريب جداً،بل لا نترقب صدوره منه (قدس سره)،والوجه في ذلك:هو أنّ قيام الاختيار بالنفس قيام الفعل بالفاعل، لا قيام الصفة بالموصوف والحال بالمحل،وذلك لوضوح أ نّه لا فرق بينه وبين غيره من الأفعال الاختيارية،وكما أنّ قيامها بذاته سبحانه قيام صدور وإيجاد، فكذلك قيامه بها.
وعلى هذا فلا موضوع لما ذكره (قدس سره) من الشقوق والاحتمالات، فانّها جميعاً تقوم على أساس كون قيامه بها قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل،فما ذكره (قدس سره) من أنّ الاختيار قائم بذات المختار لا بالفعل الاختياري وإن كان صحيحاً إلّاأنّ مدلوله ليس كونه قائماً بها قيام الصفة بالموصوف.
فالنتيجة:أنّ الاختيار يشترك مع بقية الأفعال الاختيارية في نقطة،ويمتاز عنها في نقطة اخرى.
أمّا نقطة الاشتراك:فهي أنّ قيام كليهما بالفاعل قيام صدور وإيجاد،لا قيام صفة أو حال.
وأمّا نقطة الامتياز:فهي أنّ الاختيار صادر عن ذات المختار بنفسه وبلا اختيار آخر،وأمّا بقية الأفعال فهي صادرة عنها بالاختيار لا بنفسها.
وأمّا النقطة الثالثة: فهي خاطئة جداً،والسبب في ذلك:أنّ الأفعال الصادرة
عن الفاعل بالاختيار وإعمال القدرة لاتنحصر بالجواهر والأعراض،فانّ الاُمور الاعتبارية فعل صادر عن المعتبر بالاختيار،ومع ذلك ليست بموجودة في الخارج فضلاً عن كونها قائمة بنفسها أو بموجود آخر.وعلى هذا فلا ملازمة بين عدم قيام فعل بنفسه ولا بموجود آخر وبين قيامه بذات الفاعل قيام الصفة بالموصوف أو الحال بالمحل،لما عرفت من أنّ الاُمور الاعتبارية فعل للمعتبر على رغم أنّ قيامها به قيام صدور وإيجاد،لا قيام صفة أو حال،فليكن الاختيار من هذا القبيل،حيث إنّه فعل اختياري على الرغم من عدم قيامه بنفسه ولا بموجود آخر،بل يقوم بذات المختار قيام صدور وإيجاد.
فالنتيجة لحدّ الآن:هي أنّ ما ذكره (قدس سره) من الوجوه غير تام.
الوجه الثاني: أنّ أفعال العباد لا تخلو من أن تكون متعلقةً لارادة اللّٰه سبحانه وتعالى ومشيئته أو لا تكون متعلقة لها ولا ثالث لهما،فعلى الأوّل لا بدّ من وقوعها في الخارج،لاستحالة تخلف إرادته سبحانه عن مراده،وعلى الثاني يستحيل وقوعها،فانّ وقوع الممكن في الخارج بدون إرادته تعالى محال حيث لا مؤثر في الوجود إلّااللّٰه،ونتيجة ذلك أنّ العبد مقهور في إرادته ولا اختيار له أصلاً.
والجواب عن ذلك: أنّ أفعال العباد لا تقع تحت إرادته (سبحانه وتعالى) ومشيئته،والوجه فيه:ما تقدّم بشكل مفصّل 1من أنّ إرادته تعالى ليست من الصفات العليا الذاتية،بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة،وعليه فبطبيعة الحال لا يمكن تعلّق إرادته تعالى بها لسببين:
الأوّل: أنّ الأفعال القبيحة كالظلم والكفر وما شاكلهما التي قد تصدر من
العباد لايمكن صدورها منه تعالى باعمال قدرته وإرادته،كيف حيث إنّ صدورها لا ينبغي من العباد فما ظنّك بالحكيم تعالى.
الثاني: أنّ الارادة بمعنى إعمال القدرة والسلطنة يستحيل أن تتعلق بفعل الغير،بداهة أ نّها لاتعقل إلّافي الأفعال التي تصدر من الفاعل بالمباشرة،وحيث إنّ أفعال العباد تصدر منهم كذلك،فلا يعقل كونها متعلقةً لارادته تعالى وإعمال قدرته.
نعم،تكون مبادئ هذه الأفعال كالحياة والعلم والقدرة وما شاكلها تحت إرادته سبحانه ومشيئته.نعم،لو شاء (سبحانه وتعالى) عدم صدور بعض الأفعال من العبيد فيبدي المانع عنه أو يرفع المقتضي له،ولكن هذا غير تعلق مشيئته بأفعالهم مباشرة ومن دون واسطة.
الوجه الثالث: أنّ اللّٰه تعالى عالم بأفعال العباد بكافّة خصوصياتها من كمّها وكيفها ومتاها وأينها ووضعها ونحو ذلك،ومن الطبيعي أ نّه لا بدّ من وقوعها منهم كذلك في الخارج،وإلّا لكان علمه تعالى جهلاً تعالى اللّٰه عن ذلك علواً كبيراً.وعليه فلا بدّ من الالتزام بوقوعها خارجاً على وفق إطار علمه سبحانه، ولا يمكن تخلّفه عنه،فلو كانوا مختارين في أفعالهم فلا محالة وقع التخلف في غير مورد وهو محال.
وقد صرّح بذلك صدر المتألهين بقوله:وممّا يدل على ما ذكرناه من أ نّه ليس من شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل،حيث إنّ اللّٰه تعالى إذا علم أ نّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني،فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً،وذلك محال،والمؤدي إلى المحال محال،فعدم وقوع ذلك الفعل محال، فوقوعه واجب،لاستحالة خروجه من طرفي النقيضين 1.
والجواب عنه: أنّ علمه (سبحانه وتعالى) بوقوع تلك الأفعال منهم خارجاً في زمان خاص ومكان معيّن لا يكون منشأ لاضطرارهم إلى إيقاعها في الخارج في هذا الزمان وذاك المكان،والسبب في ذلك:هو أنّ علمه تعالى قد تعلق بوقوعها كذلك منهم بالاختيار وإعمال القدرة،ومن الطبيعي أنّ هذا العلم لا يستلزم وقوعها بغير اختيار،وإلّا لزم التخلف والانقلاب.والسرّ فيه أنّ حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه لدى العالم من دون أن يوجب التغيير فيه أصلاً،ونظير ذلك ما إذا علم الانسان بأ نّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني من جهة إخبار المعصوم (عليه السلام) أو نحوه،فكما أ نّه لا يوجب اضطراره إلى إيجاده في ذلك الوقت،فكذلك علمه سبحانه.
وبكلمة اخرى:أنّ الاضطرار الناشئ من قبل العلم الأزلي يمكن تفسيره بأحد تفسيرين:
الأوّل:تفسيره على ضوء مبدأ العلّية،بدعوى أنّ العلم الأزلي علّة تامّة للأشياء،منها أفعال العباد.
الثاني:تفسيره على ضوء مبدأ الانقلاب،أي انقلاب علمه تعالى جهلاً من دون وجود علاقة العلّية والمناسبة بينهما.
ولكن كلا التفسيرين خاطئ جداً.
أمّا الأوّل: فلا يعقل كون العلم من حيث هو علّة تامّة لوجود معلومه، بداهة أنّ واقع العلم وحقيقته هو انكشاف الأشياء على ما هي عليه لدى العالم، ومن الطبيعي أنّ الانكشاف لا يعقل أن يكون مؤثراً في المنكشف على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة،ضرورة انتفاء هذا المبدأ بينهما.وأضف إلى ذلك:أنّ العلم الأزلي لو كان علّةً تامّةً لأفعال العباد فبطبيعة الحال ترتبط تلك الأفعال
به ذاتاً وتعاصره زماناً،وهذا غير معقول.
وأمّا الثاني: فلفرض أنّ العلم لا يقتضي ضرورة وجود الفعل في الخارج، حيث إنّه لا علاقة بينهما ما عدا كونه كاشفاً عنه،ومن الطبيعي أنّ وقوع المنكشف في الخارج ليس تابعاً للكاشف بل هو تابع لوجود سببه وعلّته، سواء أكان هناك انكشاف أم لم يكن،وعليه فلا موجب لضرورة وقوع الفعل إلّا دعوى الانقلاب،ولكن قد عرفت خطأها وعدم واقع موضوعي لها.
ونزيد على هذا:أنّ علمه سبحانه بوقوع أفعال العباد لو كان موجباً لاضطرارهم إليها وخروجها عن اختيارهم،لكان علمه سبحانه بأفعاله أيضاً موجباً لذلك.فالنتيجة:أنّ هذا التوهم خاطئ جداً.
الوجه الرابع: ما عن الفلاسفة 1من أنّ الذات الأزلية علّة تامّة للأشياء، وتصدر منها على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة،حيث إنّ الحقيقة الإلهٰية بوحدتها وأحديّتها جامعة لجميع حقائق تلك الأشياء وطبقاتها الطولية والعرضية، ومنها أفعال العباد فانّها داخلة في تلك السلسلة التي لا تملك الاختيار ولا الحرّية.
والجواب عنه أنّ هذه النظريّة خاطئة من وجوه:
الأوّل: ما تقدّم 2بشكل موسّع من أنّ هذه النظريّة تستلزم نفي القدرة والسلطنة عن الذات الأزلية،أعاذنا اللّٰه من ذلك.
الثاني: أ نّه لا يمكن تفسير اختلاف الكائنات بشتّى أنواعها وأشكالها ذاتاً وسنخاً على ضوء هذه النظريّة،وذلك لأنّ العلّة التامّة إذا كانت واحدة ذاتاً ووجوداً وفاردة سنخاً،فلا يعقل أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها،ضرورة
استحالة صدور الآثار المتناقضة المختلفة والأفعال المتباينة من علّة واحدة بسيطة،فانّ للعلّة الواحدة أفعالاً ونواميس معيّنة لا تختلف ولا تتخلف عن إطارها المعيّن،كيف حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على مبدأ السنخية والمناسبة بين العلّة والمعلول،ومن الطبيعي أنّ القضاء على هذا المبدأ يستلزم انهيار جميع العلوم والاُسس القائمة على ضوئه،فلا يمكن عندئذ تفسير أيّة ظاهرة كونية ووضع قانون عام لها.
ودعوى الفرق بين الذات الأزلية والعلّة الطبيعية هو أنّ الذات الأزلية وإن كانت علّةً تامّةً للأشياء،إلّاأ نّها عالمة بها،دون العلّة الطبيعية فانّها فاقدة للشعور والعلم،وإن كانت صحيحةً إلّاأنّ علم العلّة بالمعلول إن كان مانعاً عن تأثيرها فيه على شكل الحتم والوجوب بقانون التناسب فهذا خلف،حيث إنّ في ذلك القضاء الحاسم على علّية الذات الأزلية وأنّ تأثيرها في الأشياء ليس كتأثير العلّة التامّة في معلولها،بل كتأثير الفاعل المختار في فعله.
وإن لم يكن مانعاً عنه كما هو الصحيح،حيث إنّ العلم لا يؤثر في واقع العلّية وإطار تأثيرها-كما درسنا ذلك سابقاً 1– فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً،فإذن ما هو منشأ هذه الاختلافات والتناقضات بين الأشياء،وما هو المبرّر لها ؟ وبطبيعة الحال لايمكن تفسيرها تفسيراً يطابق الواقع الموضوعي إلّاعلى ضوء ما درسناه سابقاً 2بشكل موسّع من أنّ صدور الأشياء من اللّٰه سبحانه بمشيئته وإعمال سلطنته وقدرته،وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية،وزاوية المعاليل الطبيعية،وعلى أساس هذا الفرق تحلّ المشكلة.
الثالث: أ نّه لا يمكن على ضوء هذه النظريّة إثبات علّةٍ اولى للعالم التي لم تنبثق عن علّة سابقة،والسبب في ذلك:أنّ سلسلة المعاليل والحلقات المتصاعدة التي ينبثق بعضها من بعض لا تخلو من أن تتصاعد تصاعداً لا نهائياً،أو تكون لها نهاية ولا ثالث لهما.
فعلى الأوّل هو التسلسل الباطل،ضرورة أنّ هذه الحلقات جميعاً معلولات وارتباطات فتحتاج في وجودها إلى علّة أزلية واجبة الوجود كي تنبثق منها، وإلّا استحال تحققها.
وعلى الثاني لزم وجود المعلول بلا علّة،وذلك لأنّ للسلسلة إذا كانت نهاية فبطبيعة الحال تكون مسبوقة بالعدم،ومن الطبيعي أنّ ما يكون مسبوقاً به ممكن فلا يصلح أن يكون علّة للعالم ومبدأ له،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا علّة له.فالنتيجة على ضوئهما هي وجود الممكن بلا علّة وسبب وهو محال،كيف حيث إنّ في ذلك القضاء المبرم على مبدأ العلّية.فإذن على القائلين بهذه النظريّة أن يلتزموا بأحد أمرين:إمّا بالقضاء على مبدأ العلّية أو بالتسلسل وكلاهما محال.
الرابع: أنّ لازم هذه النظريّة انتفاء العلّة بانتفاء شيء من تلك السلسلة، بيان ذلك:أنّ هذه السلسلة والحلقات حيث إنّها جميعاً معاليل لعلّة واحدة ونواميس خاصّة لها ترتبط بها ارتباطاً ذاتياً وتنبثق من صميم ذاتها ووجودها، فيستحيل أن تتخلف عنها كما يستحيل أن تختلف.وعلى هذا الضوء إذا انتفى شيء من تلك السلسلة فبطبيعة الحال يكشف عن انتفاء العلّة،ضرورة استحالة انتفاء المعلول مع بقاء علّته وتخلّفه عنها،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا شبهة في انتفاء الأعراض في هذا الكون،ومن الطبيعي أنّ انتفاءها من ناحية انتفاء علّتها وإلّا فلا يعقل انتفاؤها،فالتحليل
العلمي في ذلك أدّى في نهاية المطاف إلى انتفاء علّة العلل.وعلى هذا الأساس فلا يمكن تفسير انتفاء بعض الأشياء في هذا الكون تفسيراً يلائم مع هذه النظريّة.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ تلك النظريّة خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي بطلان نظريّة الجبر مطلقاً – يعني في إطارها الأشعري والفلسفي-وأ نّها نظريّة لا تطابق الواقع الموضوعي، ولا الوجدان ولا البرهان المنطقي.
ذهب المعتزلة إلى أنّ اللّٰه (سبحانه وتعالى) قد فوّض العباد في أفعالهم وحركاتهم إلى سلطنتهم المطلقة على نحو الأصالة والاستقلال،بلا دخل لارادةٍ وسلطنةٍ اخرى فيها،وهم يفعلون ما يشاؤون ويعملون ما يريدون،من دون حاجةٍ إلى الاستعانة بقدرةٍ اخرى وسلطنةٍ ثانية،وبهذه النقطة تمتاز عن نظريّة الأمر بين الأمرين،فانّ العبد على ضوء تلك النظريّة وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويعمل ما يريد،إلّاأ نّه في عين ذلك بحاجة إلى استعانة الغير فلا يكون مستقلاً فيه 1.
وغير خفي أنّ المفوّضة وإن احتفظت بعدالة اللّٰه تعالى،إلّاأ نّهم وقعوا في محذور لا يقل عن المحذور الواقع فيه الأشاعرة وهو الاسراف في نفي السلطنة المطلقة عن الباري (عزّ وجلّ) وإثبات الشريك له في أمر الخلق والايجاد.
ومن هنا وردت روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر في ذم هذه الطائفة،وقد ورد فيها أ نّهم مجوس هذه الاُمّة 1حيث إنّ المجوس يقولون بوجود إلهٰين:
أحدهما خالق الخير.وثانيهما خالق الشر،ويسمّون الأوّل يزدان،والثاني أهريمن، وهذه الطائفة تقول بوجود آلهة متعددة بعدد أفراد البشر،حيث إنّ هذا المذهب يقوم على أساس أنّ كلاً منهم خالق وموجد بصورة مستقلة بلا حاجةٍ منه إلى الاستعانة بغيره،غاية الأمر أنّ اللّٰه تعالى خالق للأشياء الكونية كالانسان ونحوه، والانسان خالق لأفعاله الخارجية من دون افتقاره في ذلك إلى خالقه.
وقد استدلّ على هذه النظريّة:بأنّ سرّ حاجة الممكنات وفقرها إلى العلّة هو حدوثها،وبعده فلاتحتاج إليها أصلاً،لاستغناء البقاء عن الحاجة إلى المؤثّر.
وعليه فالانسان بعد خلقه وإيجاده لا يحتاج في بقائه إلى إفاضة الوجود من خالقه.فإذن بطبيعة الحال يستند صدور الأفعال إليه استناداً تاماً لا إلى العلّة المحدثة،ومن الواضح أنّ مردّ هذا إلى نفي السلطنة عن اللّٰه (عزّ وجلّ) على عبيده نفياً تامّاً.
والجواب عن ذلك: يظهر على ضوء درس هذه النقطة-استغناء البقاء عن المؤثر-ونقدها:مرّةً في الأفعال الاختيارية،واُخرى في الموجودات التكوينية.
أمّا في الأفعال الاختيارية، فهي واضحة البطلان،والسبب في ذلك:ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ كل فعل اختياري مسبوق باعمال القدرة والاختيار، وهو فعل اختياري للنفس،وليس من مقولة الصفات،وواسطة بين الارادة والأفعال الخارجية،فالفعل في كل آن يحتاج إليه ولا يعقل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه،فهو تابع لاعمال قدرة الفاعل حدوثاً وبقاءً،فان أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج،وإن لم يعملها فيه استحال تحققه،فعلى الأوّل إن استمرّ في
إعمال القدرة فيه استمرّ وجوده وإلّا استحال استمراره.
وعلى الجملة: فلا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى السبب والعلّة-وهو إعمال القدرة والسلطنة-فان سرّ الحاجة وهو إمكانه الوجودي وفقره الذاتي كامن في صميم ذاته وواقع وجوده،من دون فرق بين حدوثه وبقائه.
مع أنّ البقاء هو الحدوث،غاية الأمر أ نّه حدوث ثانٍ ووجود آخر في قبال الوجود الأوّل،والحدوث هو الوجود الأوّل غير مسبوق بمثله،وعليه فبطبيعة الحال إذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار فهو كما يحتاج إلى إعمال القدرة فيه والاختيار،كذلك يحتاج إليه في الآن الثاني والثالث وهكذا،فلا يمكن أن نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.
وبكلمة اخرى: أنّ كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان،فيكون في كل آنٍ فعل صادر بالاختيار وإعمال القدرة،فلو انتفى الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه.ومن هنا لا فرق بين الدفع والرفع عقلاً إلّابالاعتبار،وهو أنّ الدفع مانع عن الوجود الأوّل،والرفع مانع عن الوجود الثاني،فكلاهما في الحقيقة دفع.
فالنتيجة: أنّ احتياج الأفعال الاختيارية في كل آنٍ إلى الارادة والاختيار من الواضحات الأوّلية،فلا يحتاج إلى زيادة مؤونة بيان وإقامة برهان.
وأمّا في الموجودات التكوينية، فالأمر أيضاً كذلك،إذ لا شبهة في حاجة الأشياء إلى علل وأسباب،فيستحيل أن توجد بدونها،وسرّ حاجة تلك الأشياء بصورة عامّة إلى العلّة وخضوعها لها بصورة موضوعية،هو أنّ الحاجة كامنة في ذوات تلك الأشياء،لا في أمر خارج عن إطار ذواتها،فان كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلق به،سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن،
ضرورة أنّ فقرها كامن في نفس وجوده،ومن الطبيعي أنّ الأمر إذا كان كذلك فلا فرق بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلّة،فان سرّ الحاجة-وهو الامكان-لاينفك عنه،كيف فانّ ذاته عين الفقر والامكان لا أ نّه ذات لها الفقر.
وعلى ضوء هذا الأساس،فكما أنّ الأشياء في حدوثها في أمسّ الحاجة إلى وجود سبب وعلّة،فكذلك في بقائها،فلا يمكن أن نتصوّر وجوداً متحرراً عن تلك الحاجة،إذ النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ العلّية والايجاد ليست هي حدوثها،لاستلزام هذه النظريّة تحديد حاجة الممكن إلى العلّة من ناحيتين:المبدأ والمنتهى.
أمّا من الناحية الاُولى: فلأ نّها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث وهي الأشياء الحادثة بعد العدم،وأمّا إذا فرض أنّ للممكن وجوداً مستمراً بصورة أزلية لاتوجد فيه حاجة إلى المبدأ،وهذا لايطابق مع الواقع الموضوعي للممكن حيث يستحيل وجوده من دون علّة وسبب،وإلّا لانقلب الممكن واجباً،وهذا خلف.
وأمّا من الناحية الثانية: فلأنّ الأشياء على ضوء هذه النظريّة تستغني في بقائها عن المؤثر،ومن الطبيعي أ نّها نظريّة خاطئة لا تطابق الواقع الموضوعي، كيف فانّ حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم ذاتها وحقيقة وجودها كما عرفت.
فالنتيجة:أنّ هذه النظرية بما أ نّها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ وتوجب تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص،فلا يمكن الالتزام بها.
فالصحيح إذن هو نظريّة ثانية،وهي أنّ منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعاً ذاتياً هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي.وعلى هذا الأساس فلا فرق بين الحدوث والبقاء أصلاً.
ونتيجة ذلك:أنّ المعلول يرتبط بالعلّة ارتباطاً ذاتياً وواقعياً،ويستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر،فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلّة،كما لا يمكن أن تبقى العلّة والمعلول غير باقٍ،وقد عبّر عن ذلك بالتعاصر بين العلّة والمعلول زماناً.
وقد يناقش في ذلك الارتباط:بأ نّه مخالف لظواهر الموجودات التكوينية من الطبيعية والصناعية،حيث إنّها باقية بعد انتفاء علّتها،وهذا يكشف عن عدم صحّة قانون التعاصر والارتباط،وأ نّه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علّته،وذلك كالعمارات التي بناها البنّاؤون وآلاف من العمّال، فانّها تبقى سنين متمادية بعد انتهاء عملية العمارة والبناء،وكالطرق والجسور ووسائل النقل المادية بشتّى أنواعها،والمكائن والمصانع وما شاكلها ممّا شاده المهندسون وذوو الخبرة والفن في شتّى ميادينها،فانّها بعد انتهاء عمليتها تبقى إلى سنين متطاولة وأمد بعيد من دون علّة وسبب مباشر لها،وكالجبال والأحجار والأشجار وغيرها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض،فانّها باقية من دون حاجة في بقائها إلى علّة مباشرة لها.
فالنتيجة:أنّ ظواهر تلك الأمثلة تعارض قانون التعاصر والارتباط،حيث إنّها بظاهرها تكشف عن أنّ المعلول لا يحتاج في بقائه واستمرار وجوده إلى علّة،بل هو باقٍ مع انتفاء علّته.
ولنأخذ بالنقد على تلك المناقشة،وحاصله:هو أ نّها قد نشأت عن عدم فهم معنى مبدأ العلّية فهماً موضوعياً،وقد تقدّم بيان ذلك وقلنا هناك إنّ حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب كامنة في واقع ذاتها وصميم وجودها،ولايمكن أن تملك حرّيتها بعد حدوثها،والوجه في ذلك:هو أنّ علّة تلك الأشياء والظواهر حدوثاً غير علّتها بقاءً،وبما أنّ الرجل المناقش لم ينظر إلى علّة تلك الظواهر
لا حدوثاً ولا بقاءً نظرة صحيحة موضوعية وقع في هذا الاشتباه والخطأ،بيان ذلك:
أنّ ما هو معلول للمهندسين والبنّائين وآلاف من العمّال في بناء العمارات والدور بشتّى ألوانها،وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الاُخرى بمختلف أشكالها،من السيّارات والطيّارات والصواريخ والمكائن وما شاكلها،إنّما هو نفس عملية بنائها وصنعها وتركيبها وتصميمها في إطار مخصوص،ومن الطبيعي أنّ تلك العملية نتيجة عدّة من حركات أيدي الفنّانين والعمّال والجهود التي يقومون بها،ونتيجة تجميع المواد الخام الأوّلية من الحديد والخشب والآجر وغيرها لتصنيع هذه الصناعات وتعمير تلك العمارات،ومن المعلوم أنّ ما هو معلول للعمّال والصادر منهم بالارادة والاختيار إنّما هو هذه الحركات لا غيرها، ولذا تنقطع تلك الحركات بصرف إضراب العمّال عن العمل وكف أيديهم عنها.
وأمّا بقاء تلك الأشياء والظواهر على وضعها الخاص وإطارها المعيّن،فهو معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية،وقوّة حيويتها،وأثر الجاذبية العامّة التي تفرض على تلك الجاذبية المحافظة على وضع الأشياء بنظامها الخاص،ونسبة الجاذبية إلى هذه الأشياء كنسبة الطاقة الكهربائية إلى الحديد عند اتصاله بها بقوّة جاذبية طبيعية تجرّه إليها آناً فآناً بحيث لو انقطعت منه تلك القوّة لانقطع منه الجذب لا محالة.
ومن ذلك يظهر سرّ بقاء الكرة الأرضية وغيرها بما فيها من الجبال والأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها من الأشياء الطبيعية على وضعها الخاص ومواضعها المخصوصة،وذلك نتيجة خصائص طبيعية موجودة في صميم موادها،والقوّة الجاذبية التي تفرض على جميع الأشياء الكونية والمواد الطبيعية.وقد أصبحت عمومية هذه القوّة في يومنا هذا من الواضحات وقد أودعها اللّٰه (سبحانه وتعالى)
في صميم هذه الكرة الأرضية وغيرها للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها المعيّن ونظامها الخاص،في حين أ نّها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة وفي مدار خاص حول الشمس.
وإن شئت فقل: إنّ بقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية من ناحية،والقوّة الجاذبية المحافظة عليها من ناحية اخرى، فلا تملك حرّيتها بقاءً،كما لا تملك حدوثاً.
ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان:
الاُولى:بطلان نظريّة أنّ سرّ حاجة الأشياء إلى العلّة هو الحدوث،لأنّ تلك النظريّة ترتكز على أساس تحديد حاجة الأشياء إلى العلّة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق الواقع الموضوعي،وعدم فهم معنى العلّية فهماً صحيحاً يطابق الواقع.
الثانية:صحّة نظريّة أنّ سرّ الحاجة إلى العلّة هو إمكان الوجود،فان تلك النظريّة قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلّية فهماً صحيحاً مطابقاً للواقع، وأنّ حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجوداتها فلا يعقل وجود متحرر عن المبدأ.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الأشياء بشتّى أنواعها وأشكالها خاضعة للمبدأ الأوّل خضوعاً ذاتياً،وهذا لاينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة اللّٰه تعالى وإعمال قدرته من دون أن يحكم عليه قانون التناسب والسنخية،كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية.أو فقل:إنّ الأفعال الاختيارية تشترك مع المعاليل الطبيعية في نقطة واحدة،وهي الخضوع للمبدأ والسبب خضوعاً ذاتياً الكامن في صميم ذاتها ووجودها.ولكنّها تفترق عنها في نقطة اخرى،وهي أنّ المعاليل تصدر عن عللها على ضوء قانون التناسب،دون الأفعال فانّها تصدر
عن مبدئها على ضوء الاختيار وإعمال القدرة.
إنّ طائفة الإمامية بعد رفض نظريّة الأشاعرة في أفعال العباد ونقدها صريحاً، ورفض نظريّة المعتزلة فيها ونقدها كذلك،اختارت نظريّة ثالثة فيها وهي:
الأمر بين الأمرين،وهي نظريّة وسطى لا إفراط فيها ولا تفريط،وقد أرشدت الطائفة إلى هذه النظريّة الروايات الواردة في هذا الموضوع من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) 1الدالّة على بطلان الجبر والتفويض من ناحية،وعلى إثبات
الأمر بين الأمرين من ناحية اخرى.ولولا تلك الروايات لوقعوا بطبيعة الحال في جانبي الافراط أو التفريط،كما وقع أصحاب النظريتين الاُوليين.
وعلى ضوء هذه الروايات كان علينا أن نتّخذ تلك النظريّة لكي نثبت بها العدالة والسلطنة للّٰه(سبحانه وتعالى) معاً،بيان ذلك:أنّ نظريّة الأشاعرة وإن تضمنت إثبات السلطنة المطلقة للباري (عزّ وجلّ) إلّاأنّ فيها القضاء الحاسم على عدالته (سبحانه وتعالى)،وسنتكلم فيها من هذه الناحية في البحث الآتي إن شاء اللّٰه تعالى.ونظريّة المعتزلة على عكسها،يعنى أ نّها وإن تضمّنت إثبات العدالة للباري تعالى إلّاأ نّها تنفي بشكل قاطع سلطنته المطلقة وأسرفت في تحديدها.
وعلى هذا،فبطبيعة الحال يتعيّن الأخذ بمدلول الروايات لا من ناحية التعبّد بها حيث إنّ المسألة ليست من المسائل التعبّدية،بل من ناحية أنّ الطريق الوسط الذي يمكن به حل مشكلة الجبر والتفويض منحصر فيه.
تفصيل ذلك: أنّ أفعال العباد تتوقف على مقدّمتين:
الاُولى:حياتهم وقدرتهم وعلمهم وما شاكل ذلك.
الثانية:مشيئتهم وإعمالهم القدرة نحو إيجادها في الخارج.
والمقدّمة الاُولى تفيض من اللّٰه تعالى وترتبط بذاته الأزلية ارتباطاً ذاتياً وخاضعة له،يعنى أ نّها عين الربط والخضوع،لا أ نّه شيء له الربط والخضوع.
وعلى هذا الضوء لو انقطعت الافاضة من اللّٰه (سبحانه وتعالى) في آنٍ،انقطعت الحياة فيه حتماً.وقد أقمت البرهان على ذلك بصورة مفصّلة عند نقد نظريّة المعتزلة 1وبينّا هناك أنّ سرّ حاجة الممكن إلى المبدأ كامن في صميم ذاته ووجوده،فلا فرق بين حدوثه وبقائه من هذه الناحية،أصلاً.
والمقدّمة الثانية: تفيض من العباد عند فرض وجود المقدمة الاُولى،فهي مرتبطة بها في واقع مغزاها ومتفرعة عليها ذاتاً،وعليه فلا يصدر فعل من العبد إلّاعند إفاضة كلتا المقدمتين،وأمّا إذا انتفت إحداهما فلا يعقل تحققه.
وعلى أساس ذلك صحّ إسناد الفعل إلى اللّٰه تعالى،كما صحّ إسناده إلى العبد.
ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً عرفياً لتمييز كل من نظريتي الجبر والتفويض عن نظرية الإمامية،بيانه:أنّ الفعل الصادر من العبد خارجاً على ثلاثة أصناف:
الأوّل: ما يصدر منه بغير اختياره وإرادته،وذلك كما لو افترضنا شخصاً مرتعش اليد وقد فقدت قدرته واختياره في تحريك يده،ففي مثله إذا ربط المولى بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً،وفرضنا أنّ في جنبه شخصاً راقداً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع عليه فيهلكه حتماً.ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الفعل خارج عن اختياره ولا يستند إليه،ولا يراه العقلاء مسؤولاً عن هذا
الحادث ولا يتوجه إليه الذم واللوم أصلاً،بل المسؤول عنه إنّما هو من ربط يده بالسيف ويتوجه إليه اللوم والذم،وهذا واقع نظريّة الجبر وحقيقتها.
الثاني: ما يصدر منه باختياره واستقلاله من دون حاجة إلى غيره أصلاً، وذلك كما إذا افترضنا أنّ المولى أعطى سيفاً قاطعاً بيد شخص حر وقد ملك تنفيذ إرادته وتحريك يده،ففي مثل ذلك إذا صدر منه قتل في الخارج يستند إليه دون المعطي،وإن كان المعطي يعلم أنّ إعطاءه السيف ينتهي به إلى القتل، كما أ نّه يستطيع أن يأخذ السيف منه متى شاء،ولكن كل ذلك لا يصحح استناد الفعل إليه،فانّ الاستناد يدور مدار دخل شخص في وجوده خارجاً،والمفروض أ نّه لا مؤثر في وجوده ما عدا تحريك يده الذي كان مستقلاً فيه.وهذا واقع نظريّة التفويض وحقيقتها.
الثالث: ما يصدر منه باختياره وإعمال قدرته على رغم أ نّه فقير بذاته، وبحاجةٍ في كل آن إلى غيره بحيث لو انقطع منه مدد الغير في آنٍ انقطع الفعل فيه حتماً،وذلك كما إذا افترضنا أنّ للمولى عبداً مشلولاً غير قادر على الحركة، فربط المولى بجسمه تياراً كهربائياً ليبعث في عضلاته قوّةً ونشاطاً نحو العمل، وليصبح بذلك قادراً على تحريكها،وأخذ المولى رأس التيار الكهربائي بيده، وهو الساعي لايصال القوّة في كل آنٍ إلى جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آنٍ عن السلك الكهربائي انقطعت القوّة عن جسمه وأصبح عاجزاً.
وعلى هذا فلو أوصل المولى تلك القوّة إلى جسمه وذهب باختياره وقتل شخصاً والمولى يعلم بما فعله،ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما،أمّا إلى العبد فحيث إنّه صار متمكناً من إيجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولى القوّة إليه وأوجد القدرة في عضلاته وهو قد فعل باختياره وإعمال قدرته،وأمّا إلى المولى فحيث إنّه كان معطي القوّة والقدرة له حتّى حال الفعل والاشتغال بالقتل،
مع أ نّه متمكن من قطع القوّة عنه في كل آنٍ شاء وأراد،وهذا هو واقع نظريّة الأمر بين الأمرين وحقيقتها.
وبعد ذلك نقول: إنّ الأشاعرة تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الأوّل،حيث إنّها لم تصدر عنهم باختيارهم وإرادتهم بل هي جميعاً بارادة اللّٰه تعالى التي لا تتخلف عنها،وهم قد أصبحوا مضطرِّين إليها ومجبورين في حركاتهم وسكناتهم كالميت في يد الغسال،ومن هنا قلنا إنّ في ذلك القضاء الحاسم على عدالته سبحانه وتعالى،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد تقدّم 1نقد هذه النظريّة بشكل موسّع وجداناً وبرهاناً.وقد أثبتنا أنّ تلك النظريّة لا تتعدى عن مجرد الافتراض بدون أن يكون لها واقع موضوعي.
والمعتزلة تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الثاني،وأ نّهم مستقلون في حركاتهم وسكناتهم،وإنّما يفتقرون إلى إفاضة الحياة والقدرة من اللّٰه تعالى حدوثاً فحسب، ولا يفتقرون إلى علّة جديدة بقاءً،بل العلّة الاُولى كافية في بقاء القدرة والاختيار لهم إلى نهاية المطاف.ومن هنا قلنا إنّ هذه النظريّة قد أسرفت في تحديد سلطنة الباري (سبحانه وتعالى)،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد سبق أنّ تلك النظريّة تقوم على أساس نظريّة الحدوث وهي النظريّة القائلة بأنّ سرّ حاجة الأشياء إلى أسبابها هو حدوثها،ولكن قد أثبتنا آنفاً خطأ تلك النظريّة بشكل واضح،وأنّ سرّ حاجة الأشياء إلى أسبابها هو إمكانها الوجودي لا حدوثها، ولا فرق فيه بين الحدوث والبقاء.
والإمامية تدّعي أنّ أفعال العباد من قبيل الثالث،وقد عرفت أنّ النظريّة
الوسطى هي تلك النظريّة-الأمر بين الأمرين-ونريد الآن درس هذه النظريّة بصورة أعمق منطقياً وموضوعياً.قد تقدّم أنّ سر حاجة الأشياء إلى العلّة بصورة عامّة-الكامن في جوهر ذاتها وصميم وجودها-هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي في قبال واجب الوجود والغني بالذات،ومعنى إمكانها الوجودي بالتحليل العلمي أ نّها عين الربط والتعلق،لا ذات لها الربط والتعلق،وإلّا لكانت في ذاتها غنية وغير مفتقرة إلى المبدأ،وفي ذلك انقلاب الممكن إلى الواجب وهو مستحيل،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا فرق في ذلك بين وجودها في أوّل سلسلتها وحلقاتها التصاعدية،وبين وجودها في نهاية تلك السلسلة،لاشتراكهما في هذه النقطة وهي الامكان والفقر الذاتي،وإلّا لزم كون الممكن واجباً في نهاية المطاف.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ الأشياء الخارجية بكافّة أشكالها أشياء تعلّقية وارتباطية،وأ نّها عين التعلق والارتباط،وهو مقوّم لكيانها ووجودها،فلا يعقل استغناؤها عن المبدأ،ضرورة استحالة استغنائها عن شيء ترتبط به وتتعلق.
ومن نفس هذا البيان يظهر لنا أنّ الموجود الخارجي إذا لم يكن في ذاته تعلقياً وارتباطياً لا يشمله مبدأ العلّية،بداهة أ نّه لا واقع للمعلول وراء ارتباطه بالعلّة ذاتاً،فما لم يكن مرتبطاً بشيء كذلك لا يعقل أن يكون ذلك الشيء مبدأً له وعلّةً،ومن هنا لا يكون كل مرتبط بشيء معلولاً له.
فبالنتيجة: أنّ الموجود الخارجي لا يخلو إمّا أن يكون ممكن الوجود وهو عين التعلق والارتباط،أو يكون واجب الوجود وهو الغني بالذات،ولا ثالث لهما.وعلى أساس ذلك أنّ تلك الأشياء كما تفتقر في حدوثها إلى إفاضة المبدأ،
كذلك تفتقر في بقائها الذي هو الحدوث في الشوط الثاني،ولا بدّ في بقائها واستمرارها من استمرار إفاضة الوجود من المبدأ عليها،فلو انقطعت الافاضة عليها في آنٍ،ماتت تلك الأشياء فيه حتماً وانعدمت،بداهة استحالة بقاء ما هو عين التعلق والارتباط بدون ما يتعلق به ويرتبط.
ونظيرها وجود النور داخل الزجاج بواسطة القوّة والطاقة الكهربائية التي تصل إليه بالأسلاك والتيارات من مركز توليدها،ولا يمكن استغناء وجود النور بقاءً عن وجود هذه الطاقة،فاستمرار وجوده فيه باستمرار وصول تلك الطاقة إليه آناً بعد آن،ولو انعدمت تلك الطاقة عنه في آنٍ انعدم النور فيه فوراً.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة الدقيقة:وهي أنّ الوجود الممكن بشتّى ألوانه وأشكاله وجود تعلقي وارتباطي،فالتعلق والارتباط مقوّم لوجوده وكيانه،وعلى أساس تلك النتيجة فالانسان يفتقر كل آنٍ في حفظ كيانه ووجوده وقدرته إلى الافاضة من المبدأ عليه،ولو انقطعت إفاضة الوجود منه مات كما لو انقطعت إفاضة القدرة عنه عجز.
وقد يناقش في هذه النتيجة:بأ نّها مخالفة لظواهر الأشياء الكونية،فانّها باقية بعد انتفاء علّتها،ولو كان وجود المعلول وجوداً تعلّقياً ارتباطياً لم يعقل بقاؤه بعد انتفاء علّته.
والجواب عن هذه المناقشة:قد تقدّم بصورة مفصّلة 1عند نقد نظريّة المعتزلة،وأثبتنا هناك أنّ المناقش بما أ نّه لم يصل ألى تحليل مبدأ العلّية لتلك الظواهر حدوثاً وبقاءً وقع في هذا الخطأ والاشتباه فلاحظ.
لا بأس أن نشير في ختام هذا الشوط إلى نقطتين:
الاُولى: أنّ مردّ حديثنا عن أنّ الأشياء الخارجية بكافّة أنواعها أشياء تعلّقية وارتباطية تتعلق بالمبدأ الأعلى وترتبط به،ليس إلى نفي العلّية بين تلك الأشياء،بل مردّه إلى أنّ تلك الأشياء بعللها ومعاليلها تتصاعد إلى سبب أعمق وتنتهي إلى مبدأ أعلى ما وراء حدودها،والسبب في ذلك:أنّ تلك الأشياء بكافّة سلسلتها التصاعدية وحلقاتها الطولية والعرضية خاضعة لمبدأ العلّية، ولا يمكن افتراض شيء بينها متحرر عن هذا المبدأ،ليكون هو السبب الأوّل لها،فإذن لا بدّ من انتهاء السلسلة جميعاً في نهاية المطاف إلى علّة غنية بذاتها، لتقطع السلسلة بها وتضع لها بداية أزلية.
مثلاً بقاء ظواهر الأشياء استند إلى بقاء عللها،وهي الخاصية الموجودة في موادها من ناحية،والقوّة الجاذبية التي تفرض المحافظة عليها من ناحية اخرى، وترتبط تلك الظواهر بهما ارتباطاً ذاتياً،فلا يعقل بقاؤها على وضعها بدونهما، ثمّ ننقل الكلام إلى عللها وهي تواجه نفس مسألة الافتقار إلى مبدأ العلّية وهكذا إلى أن تصل الحلقات إلى السبب الأعلى الغني بالذات المتحرر من مبدأ العلّية.
الثانية: أنّ ارتباط المعلول بالعلّة الطبيعية يفترق عن ارتباط المعلول بالعلّة الفاعلية في نقطةٍ،ويشترك معه في نقطةٍ اخرى.
أمّا نقطة الافتراق: فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة وينبثق من صميم كيانها ووجودها،ومن هنا قلنا إنّ تأثير العلّة في المعلول يقوم على ضوء قانون التناسب.وأمّا المعلول في الفواعل الارادية فلا يرتبط بذات الفاعل والعلّة ولا ينبثق من صميم وجودها،ومن هنا لا يقوم تأثيره فيه على أساس مسألة التناسب.نعم،يرتبط المعلول فيها بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته ارتباطاً ذاتياً،يعنى يستحيل انفكاكه عنها حدوثاً وبقاءً،ومتى تحققت
المشيئة تحقق الفعل،ومتى انعدمت انعدم.وعلى ذلك فمردّ ارتباط الأشياء الكونية بالمبدأ الأزلي وتعلّقها به ذاتاً إلى ارتباط تلك الأشياء بمشيئته وإعمال قدرته،وأ نّها خاضعة لها خضوعاً ذاتياً وتتعلق بها حدوثاً وبقاءً،فمتى تحققت المشيئة الإلهٰية بايجاد شيء وجد،ومتى انعدمت انعدم،فلا يعقل بقاؤه مع انعدامها،ولا تتعلق بالذات الأزلية،ولا تنبثق من صميم كيانها ووجودها،كما عليه الفلاسفة.
ومن هنا قد استطعنا أن نضع الحجر الأساسي للفرق بين نظريّتنا ونظريّة الفلاسفة،فبناءً على نظريّتنا ارتباط تلك الأشياء بكافّة حلقاتها بمشيئته تعالى وإعمال سلطنته وقدرته،وبناءً على نظريّة الفلاسفة ارتباطها في واقع كيانها بذاته الأزلية وتنبثق من صميم وجودها،وقد تقدّم عرض هذه الناحية ونقدها في ضمن البحوث السابقة بشكل موسع.
وأمّا نقطة الاشتراك: فهي أنّ المعلول كما لا واقع له ما وراء ارتباطه بالعلّة وتعلّقه بها تعلّقاً في جوهر ذاته وكيان وجوده،لما مضى من أنّ مطلق الارتباط القائم بين شيئين لا يشكّل علاقة العلّية بينهما،فكذلك الفعل لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته وتعلّقه بها تعلّقاً في واقع ذاته وكيانه،ويدور وجوده مدارها حدوثاً وبقاءً،فمتى شاء إيجاده وجد،ومتى لم يشأ لم يوجد.
فالنتيجة: أنّ المعلول الطبيعي والفعل الاختياري يشتركان في أنّ وجودهما عين الارتباط والتعلق،لكن الأوّل تعلق بذات العلّة،والثاني بمشيئة الفاعل لا بذاته،رغم أنّ صدور الأوّل يقوم على أساس قانون التناسب ومبدأ الحتم والوجوب،وصدور الثاني يقوم على أساس الاختيار،وقد تقدّم 1درس هذه
النواحي بصورة موسّعة في ضمن البحوث السالفة.
قد انتهينا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة:وهي أنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين:
إحداهما:نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته.
وثانيتهما:نسبته إلى اللّٰه تعالى باعتبار أ نّه معطي الحياة والقدرة له في كل آن وبصورة مستمرة حتّى في آن اشتغاله بالعمل،وتلك النتيجة هي المطابقة للواقع الموضوعي والمنطق العقلي ولا مناص عنها،ومردّها إلى أنّ مشيئة العبد تتفرع على مشيئة اللّٰه (سبحانه وتعالى) وإعمال سلطنته،وقد أشار إلى هذه الناحية في عدّة من الآيات الكريمة.
منها قوله تعالى:
«وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ»
1
حيث قد أثبت (عزّ وجلّ) أ نّه لا مشيئة للعباد إلّابمشيئة اللّٰه تعالى،ومدلول ذلك كما مضى في ضمن البحوث السابقة 2أنّ مشيئة اللّٰه تعالى لم تتعلق بأفعال العباد وإنّما تتعلق بمبادئها كالحياة والقدرة وما شاكلهما،وبطبيعة الحال أنّ المشيئة للعبد إنّما تتصور في فرض وجود تلك المبادئ بمشيئة اللّٰه سبحانه،وأمّا في فرض عدمها بعدم مشيئة الباري (عزّ وجلّ) فلا تتصور،لأنّها لا يمكن أن توجد بدون وجود ما تتفرّع عليه،فالآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى.
ومنها قوله تعالى:
«وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ»
1
حيث قد عرفت أنّ العبد لا يكون فاعلاً لفعل إلّاأن يشاء اللّٰه تعالى حياته وقدرته ونحوهما ممّا يتوقف عليه فعله خارجاً،وبدون ذلك لا يعقل كونه فاعلاً له،وعليه فمن الطبيعي أنّ فعله في الغد يتوقف على تعلّق مشيئة اللّٰه تعالى بحياته وقدرته فيه،وإلّا استحال صدوره منه،فالآية تشير إلى هذا المعنى.
ويحتمل أن يكون المراد من الآية معنى آخر،وهو أ نّكم لا تقولون لشيء سنفعل كذا وكذا غداً إلّاأن يشأ اللّٰه خلافه،فتكون جملة «إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ» مقولة القول،ويعبّر عن هذا المعنى في لغة الفرس«اگر خدا بگذارد»ومرجع هذا المعنى إلى استقلال العبد وتفويضه في فعله إذا لم يشأ اللّٰه خلافه،ولذا منعت الآية المباركة عن ذلك بقوله «وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ» إلخ،ولعل هذا المعنى أظهر من المعنى الأوّل كما لا يخفى.
ومنها قوله تعالى:
«قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اللّٰهُ»
2
حيث قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية الكريمة لا تدل على الجبر،بل تدل على واقع الأمر بين الأمرين،بتقريب أنّ المشيئة الإلهٰية لو لم تتعلق بافاضة الحياة للانسان والقدرة له فلا يملك الانسان لنفسه نفعاً ولا ضراً،ولا يقدر على شيء،بداهة أ نّه لا حياة له عندئذ ولا قدرة كي يكون مالكاً وقادراً،فملكه النفع أو الضر لنفسه يتوقف على تعلّق مشيئته تعالى بحياته وقدرته آناً فآناً،ويدور مداره حدوثاً وبقاءً،وبدونه فلا ملك له أصلاً ولا سلطان.
ومنها قوله تعالى:
«يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ»
3
حيث قد أسندت
الآية الكريمة الضلالة والهداية إلى اللّٰه (سبحانه وتعالى) مع أ نّهما من أفعال العباد،وسرّه ما ذكرناه من أنّ أفعال العباد وإن لم تقع تحت مشيئة الباري (عزّ وجلّ) مباشرةً،إلّاأنّ مبادئ تلك الأفعال بيد مشيئته تعالى وتحت إرادته، وقد تقدّم 1أنّ هذه الجهة كافية لصحّة إسناد هذه الأفعال إليه تعالى حقيقةً من دون عناية ومجاز.
فالنتيجة: أنّ هذه الآيات وأمثالها تطابق نظريّة الأمر بين الأمرين ولا تخالفها.وتوهم أنّ أمثال تلك الآيات تدل على نظريّة الجبر خاطئ جداً،فان هذا التوهم قد نشأ من عدم فهم معنى نظريّة الأمر بين الأمرين فهماً صحيحاً كاملاً ومطابقاً للواقع الموضوعي،وأمّا بناءً على ما فسّرنا به هذه النظريّة فلا يبقى مجال لمثل هذا التخيل والتوهم أبداً.
ثمّ إنّه لا بأس بالاشارة في نهاية المطاف إلى نقطتين:
الاُولى: أنّ الفخر الرازي قد أورد شبهةً على ضوء الهيئة القديمة وحاصلها:
هو أنّ اللّٰه تعالى خلق الكائنات على ترتيب خاص وحلقات تصاعدية مخصوصة، وهي أ نّه تعالى خلق الكرة الأرضية وجعلها نقطة الدائرة ومركزاً لها،ثمّ كرة الماء،ثمّ كرة الهواء،ثمّ كرة النار،ثمّ الفلك الأوّل،وهكذا إلى أنّ ينتهي إلى الفلك التاسع وهو فلك الأفلاك المسمّى بالفلك الأطلس،وأمّا ما وراءه فلا خلأ ولا ملأ ولا يعلمه إلّااللّٰه (سبحانه وتعالى) ثمّ إنّه تعالى جعل لكل من تلك الكرات والأفلاك حركة خاصّة من القسرية والطبيعية،فجعل حركة الشمس مثلاً من المشرق إلى المغرب،ولم يجعلها من الشمال إلى الجنوب أو من المغرب
إلى المشرق،وهكذا.
وبعد ذلك قال:إنّ للسائل أن يسأل عن أنّ اللّٰه تعالى لم لم يجعل العالم على شكل آخر وترتيب ثانٍ بأن يجعل حركة الشمس مثلاً من المغرب إلى المشرق، وهكذا،وبأيّ مرجح جعل العالم على الشكل الحالي دون غيره،فيلزم الترجيح من دون المرجح وهو محال.
وحكى صدر المتألهين هذه الشبهة عنه في مشاعره 1وأجاب عنها بعدّة وجوه.
ونقل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2أنّ صدر المتألهين قد تعرّض لهذه الشبهة في شرح اصول الكافي،ولكن لم يأت بالجواب عنها إلّاباللعن والشتم واعترف بأ نّه أتى بشبهة لا جواب لها.
وغير خفي أنّ إيراد الفخر هذه الشبهة على ضوء الهيئة القديمة لا من جهة ابتناء الشبهة عليها،بل من ناحية أنّ أفكارهم عن العالم في ذلك العصر وتصوّرهم عنه كانت قائمة على أساس تلك الهيئة،وإلّا فالشبهة غير مختصة بها،بل تجيء على ضوء الأفكار الجديدة عن العالم في العصر الحاضر أيضاً، حيث إنّ للسائل أن يسأل عن أنّ اللّٰه تعالى لماذا جعل حركة الأرض حول الشمس دون العكس،وهكذا.
ولنأخذ بالنقد في هذه الشبهة على ضوء كلتا النظريتين،يعني:نظريتنا ونظريّة الفلاسفة.
أمّا على نظريّتنا، فلأ نّها ساقطة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً،والسبب في ذلك:هو أنّ الفعل الاختياري إنّما يفتقر في وجوده إلى إعمال قدرة الفاعل
واختياره،فمتى أعمل قدرته نحو إيجاده وجد وإلّا فلا،سواء أكان هناك مرجّح خارجي يقتضي وجوده أم لم يكن،وهذا بخلاف المعلول فانّ صدوره عن العلّة إنّما هو في إطار قانون التناسب،ويستحيل صدوره في خارج هذا الإطار،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا في بحث الوضع 1أنّ الترجيح بلا مرجّح لم يكن قبيحاً فضلاً عن كونه مستحيلاً،وذلك كما إذا تعلّق الغرض بصرف وجود الطبيعي في الخارج وافترضنا أنّ أفراده كانت متساوية الأقدام بالاضافة إليه، فعندئذ اختيار أيّ فرد منها دون آخر لم يكن قبيحاً فضلاً عن كونه محالاً.
نعم،اختيار فعل من دون تعلّق غرض به لا بشخصه ولا بنوعه لغو وقبيح،لا أ نّه محال.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ المشيئة الإلهٰية حيث تعلّقت بخلق العالم وإيجاده،فاختياره تعالى هذا الشكل الخاص له والترتيب المخصوص المشتمل على الأنظمة الخاصّة المعيّنة من بين الأشكال المتعددة المفترض تساويها لا يكون قبيحاً فضلاً عن كونه محالاً.
على أنّ الترجيح بلا مرجّح لو كان قبيحاً لقلنا بطبيعة الحال بوجود المرجّح في اختياره،وإلّا استحال صدوره من الحكيم تعالى،بداهة أ نّه ليس بامكاننا نفي وجود المرجّح فيه ودعوى تساويه مع بقية الأفراد والأشكال،وكيف كان فالشبهة واهية جداً.
وأمّا على نظريّة الفلاسفة، فالأمر أيضاً كذلك،والوجه فيه:أنّ صدور
المعلول عن العلّة وإن كان يحتاج إلى وجود مرجّح،إلّاأنّ المرجّح عبارة عن وجود التناسب بينهما،وبدونه يستحيل صدوره منها.وعلى هذا الأساس لا محالة يكون وجود العالم بهذا الشكل والترتيب الخاص معلولاً لعلّة مناسبة له وإلّا استحال وجوده كذلك.
وبكلمة اخرى:قد تقدّم 1أنّ تأثير العلّة في المعلول على ضوء قانون التناسب بينهما،وعليه فالتناسب الموجود بين العالم وعلّته لا يخلو من أن يكون موجوداً بين وجوده بهذا الشكل ووجود علّته أو يكون موجوداً بين وجوده بشكل آخر ووجود علّته،ولا ثالث لهما،فعلى الأوّل يجب وجوده بالشكل الحالي ويستحيل وجوده بشكل آخر،وعلى الثاني عكس ذلك،وحيث إنّ العالم قد وجد بهذا الشكل فنستكشف عن وجود المرجّح فيه لا في غيره.
الثانية: قد عرفت أنّ للفعل الصادر من العبد إسنادين حقيقيين:
أحدهما:إلى فاعله مباشرة.
وثانيهما:إلى معطي مقدّماته ومبادئه التي يتوقف الفعل عليها،وهو اللّٰه (سبحانه وتعالى).
ولكن قد يكون إسناده إلى اللّٰه تعالى أولى في نظر العرف من إسناده إلى العبد،وقد يكون بالعكس،ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال:وهو أنّ من هيّأ جميع مقدّمات سفر شخص إلى زيارة بيت اللّٰه الحرام مثلاً من الزاد والراحلة ونحوهما وسعى له في إنجاز تمام مهماته وقد أنجزها حتّى أحضر له سيّارةً خاصّة أو طائرة فلم يبق إلّاأن يركب فيها ويذهب بها إلى الحج،فعندئذ إذا ركب فيها
وذهب وأدى تمام المناسك،فالعرف يرى أولوية إسناد هذا العمل إلى من هيّأ له المقدمات دون فاعله.وأمّا لو استغلّ هذا الشخص الطائرة وذهب بها إلى مكان لا يرضى اللّٰه ورسوله به وعمل ما عمل هناك،فالفعل في نظر العرف مستند إلى فاعله مباشرةً دون من هيّأ المقدّمات له.
وكذلك الحال في أفعال العباد،فان كافّة مبادئها من الحياة والقدرة ونحوهما تحت مشيئته تعالى وإرادته كما عرفت سابقاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:
أنّ اللّٰه تعالى قد بيّن طريق الحق والباطل،والهداية والضلال،والسعادة والشقاوة، وما يترتب عليهما من دخول الجنّة والنار بارسال الرسل وإنزال الكتب.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ اللّٰه تعالى يعطي تلك المبادئ والمقدّمات لهم ليصرفوها في سبل الخير وطرق الهداية والسعادة ويرتكبوا بها الأفعال الحسنة،لا في سبل الشر وطرق الضلالة والشقاوة،وعندئذ بطبيعة الحال الأفعال الصادرة منهم إن كانت حسنة ومصداقاً لسبل الخير وطرق الهداية لكان استنادها في نظر العرف إلى اللّٰه تعالى أولى من استنادها إليهم،وإن كانت قبيحةً ومصداقاً لسبل الشرّ وطرق الضلالة،لكان استنادها إليهم أولى من استنادها إليه (سبحانه وتعالى) وإن كان لا فرق بينهما في نظر العقل.
وعلى هذا نحمل ما ورد في بعض الروايات بهذا المضمون«إنِّي أولى بحسناتك من نفسك وأنت أولى بسيِّئاتك منّي» 1فانّ النظر فيه إلى ما ذكرناه من التفاوت في نظر العرف دون النظر الدقي العقلي.وهذا لا ينافي ما حققناه من صحّة استناد العمل إلى اللّٰه تعالى وإلى فاعله المباشر حقيقةً.
لا إشكال في صحّة عقاب العبد وحسنه على مخالفة المولى على ضوء نظريّتي الإمامية والمعتزلة،حيث إنّ العقاب على ضوئهما عقاب على أمر اختياري،ولا يكون عقاباً على أمر خارج عن الاختيار ليكون قبيحاً،ومن الطبيعي أنّ العقل يستقل بحسن العقاب على أمر اختياري.وقد تقدّم أنّ العبد مختار في فعله في ضمن البحوث السالفة بشكل موسّع.
وأمّا على نظريّة الأشاعرة فيشكل عقاب العبيد على أفعالهم وكذلك على نظريّة الفلاسفة،ضرورة أنّ العقاب على ضوء كلتا النظريتين عقاب على الأمر الخارج عن الاختيار،ومن الطبيعي أنّ العقل قد استقلّ بقبح العقاب على ما هو الخارج عن الاختيار،بل عندئذ لا فائدة لبعث الرسل وإنزال الكتب أصلاً، حيث إنّ الكل بقضاء اللّٰه وقدره،فما تعلّق قضاء اللّٰه بوجوده وجب وما تعلّق قضاء اللّٰه بعدمه امتنع،فإذن ما فائدة الأمر والنهي.ومن هنا قد تصدّوا للجواب عن ذلك بوجوه.
الأوّل: ما عن صدر المتألهين وإليك نصّه:أمّا الأمر والنهي فوقوعهما أيضاً من القضاء والقدر،وأمّا الثواب والعقاب فهما من لوازم الأفعال الواقعة بالقضاء، فانّ الأغذية الرديئة كما أ نّها أسباب للأمراض الجسمانية،كذلك العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة أسباب للأمراض النفسانية،وكذلك في جانب الثواب 1.
وهذا الجواب غير مفيد،والسبب في ذلك:
أوّلاً:أنّ الثواب والعقاب ليسا من لوازم أفعال العباد التي لا تنفك عنها،بل هما فعلان اختياريان للمولى،وإلّا فلا معنى للشفاعة والغفران اللذين قد ثبتا بنص من الكتاب والسنّة.
وثانياً:أنّ أفعال العباد إذا كانت واقعة بقضاء اللّٰه تعالى فبطبيعة الحال هي خارجة عن اختيارهم،ومن هنا قد صرّح بأنّ ما تعلّق به قضاء اللّٰه وجب ولا يعقل تخلّفه عنه.وعلى هذا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي.
وبكلمة اخرى:بهذا الجواب وإن كان تدفع مسألة قبح العقاب على أمر خارج عن الاختيار،حيث إنّ تلك المسألة تقوم على أساس أنّ العقاب فعل اختياري للمولى،فعندئذ لا محالة يكون قبيحاً.وأمّا لو كان من لوازم الأفعال القبيحة والعقائد الفاسدة فلا يعقل قبحه،إلّاأ نّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب.
الثاني: ما عن أبي الحسن البصري 1رئيس الأشاعرة والمجبّرة من أنّ الثواب والعقاب ليسا على فعل العبد الصادر منه في الخارج،ليقال إنّه خارج عن اختياره ولا يستحق العقاب عليه،بل إنّما هما على اكتساب العبد وكسبه بمقتضى الآية الكريمة «الْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ لاٰ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّٰهَ سَرِيعُ الْحِسٰابِ» 2.
وهذا الجواب لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،وذلك لأنّه إن أراد بالكسب
والاكتساب كون العبد محلاً للفعل كالجسم الذي يكون محلاً للسواد مثلاً تارةً وللبياض اخرى،فيردّه:أ نّه لا يعالج مشكلة العقاب على أمر غير اختياري، ضرورة أنّ كونه محلاً له ككون الجسم محلاً للسواد أو البياض أمر خارج عن اختياره فلا يعقل عقابه عليه.
هذا،مضافاً إلى اختلاف الفعل في الخارج فلا يكون على نسبة واحدة، حيث قد يكون قيامه بالفاعل قيام صدور وإيجاد،وقد يكون قيامه به قيام الحال بالمحل،وهذا الجواب لو تمّ فانّما يتم في خصوص ما كان قيام الفعل به قيام الحال بالمحل لا مطلقاً.
وإن أراد بهما الفعل الصادر من العبد باختياره وإعمال قدرته،فهو يناقض التزامه بالجبر وأنّ العبد لا اختيار له.
وإن أراد بهما شيئاً آخر يغاير الفعل الخارجي،فهو مضافاً إلى أ نّه خلاف الوجدان،ضرورة أ نّه ليس هنا شيء آخر يصدر من العبد خارجاً ما عدا فعله،ننقل الكلام فيه ونقول:إنّه لا يخلو من أن يكون صدوره منه باختياره أو لا يكون باختياره.
وعلى الأوّل فلا موجب للتفرقة بينه وبين الفعل والالتزام بأ نّه اختياري دونه،وذلك لأنّ مقتضى الأدلة المتقدمة أ نّه لا اختيار للعبد وهو بمنزلة الآلة فكل ما يصدر منه في الخارج يصدر في الحقيقة بارادة اللّٰه تعالى ومشيئته، سواء أسمي فعلاً أم كسباً،وعليه فكما أنّ الالتزام بكون الفعل اختيارياً يناقض مذهبه،فكذلك الحال في الكسب فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
وعلى الثاني فما هو المصحح للعقاب إذا كان الكسب كالفعل يصدر بغير اختيار للعبد.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أ نّه لا وجه للاستشهاد على ذلك بالآية الكريمة،
لوضوح أنّ المراد من الكسب فيها هو العمل الخارجي لا شيء آخر في مقابله.
ومن هنا قد رتّب سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الجزاء والعقاب على العمل.
الثالث: ما عن الباقلاني 1من أنّ الثواب والعقاب إنّما هما على عنوان الاطاعة والمعصية،بدعوى أنّ الفعل الخارجي وإن كان يصدر من العبد بغير اختياره،إلّاأنّ جعله معنوناً بعنوان الاطاعة والمعصية بيده واختياره،فإذن العقاب عليها ليس عقاباً على أمر غير اختياري.
وغير خفيّ أنّ الاطاعة والمعصية لا تخلوان من أن تكونا عنوانين انتزاعيين من مطابقة الفعل المأتي به في الخارج للمأمور به ومخالفته له،أو تكونا أمرين متأصلين في الخارج.
وعلى الأوّل فلا مناص من الالتزام بعدم كونهما اختياريين،بداهة أ نّهما تابعان لمنشأ انتزاعهما،وحيث فرض عدم اختياريته فبطبيعة الحال يكونان خارجين عن الاختيار،فإذن عاد المحذور.
وعلى الثاني فيرد عليه أوّلاً:أ نّه خلاف الوجدان والضرورة،بداهة أ نّا لا نعقل شيئاً آخر في الخارج في مقابل الفعل الصادر من العبد المنتزع منه تارةً عنوان الاطاعة واُخرى عنوان المعصية.وثانياً:أ نّا ننقل الكلام إليهما ونقول أ نّهما لايخلوان من أن يصدرا عن العبد بالاختيار أو يصدرا قهراً وبغير اختيار، فعلى الأوّل يلزمهم أن يعترفوا بعدم الجبر واختيارية الأفعال،ضرورة عدم الفرق بين فعل وآخر في ذلك،فلو أمكن صدور فعل عنه بالاختيار لأمكن صدور غيره أيضاً كذلك،فانّ الملاك فيه واحد.وعلى الثاني يعود المحذور.
الرابع: أنّ الأشاعرة 1قد أنكرت التحسين والتقبيح العقليين وقالوا:إنّ القبيح ما قبّحه الشارع،والحسن ما حسّنه الشارع،ومع قطع النظر عن حكمه بذلك لا يدرك العقل حسن الأشياء ولا قبحها في نفسه،وقد أقاموا على هذا الأساس دعويين:
الاُولى: لا يتصور صدور الظلم من اللّٰه (سبحانه وتعالى) والسبب في ذلك:
أنّ الظلم عبارة عن التصرّف في ملك الغير بدون إذنه،والمفروض أنّ العالم بعرضه العريض من العلوي والسفلي والدنيوي والاُخروي ملك للّٰهسبحانه وتحت سلطانه وتصرّفه،ولا سلطان لغيره فيه ولا شريك له في ملكه،ومن الطبيعي أنّ أيّ تصرّف صدر منه تعالى كان في ملكه فلا يكون مصداقاً للظلم، وعلى هذا فلا محذور لعقابه تعالى العبيد على أفعاله غير الاختيارية،بل ولا ظلم لو عاقب اللّٰه (سبحانه وتعالى) نبياً من أنبيائه وأدخله النار وأثاب شقياً من الأشقياء وأدخله الجنّة،حيث إنّ له أن يتصرف في ملكه ما شاء،ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون عمّا يفعلون.
فالنتيجة:أنّ انتفاء الظلم في أفعاله تعالى بانتفاء موضوعه،وعلى هذا المعنى نحمل الآيات النافية للظلم عن ساحته (تعالى وتقدّس) كقوله «وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» 2ونحوه،يعني أنّ سلب الظلم عنه لأجل عدم موضوعه واستحالة تحققه،لا لأجل قبحه.
ومن ضوء هذا البيان يظهر وجه عدم اتصاف أفعال العباد بالظلم،حيث إنّها أفعال للّٰهتعالى حقيقة وتصدر منه واقعاً،ولا شأن للعباد بالاضافة إليها في
مقابل شأنه تعالى،ولا إرادة لهم في مقابل إرادته.
الثانية: أنّ اللّٰه (سبحانه وتعالى) هو الحاكم على الاطلاق،فلا يتصور حاكم فوقه،وعليه فلا يعقل أن يكون محكوماً بحكم عبيده،ولا معنى لعدم تجويز الظلم عليه بحكم العقل،فانّ مردّه إلى تعيين الوظيفة له تعالى وهو غير معقول.
ولنأخذ بالنقد على كلتا الدعويين:
أمّا الدعوى الاُولى: فهي ساقطة جداً،والسبب في ذلك:أنّ قضيّتي قبح الظلم وحسن العدل من القضايا الأوّلية التي يدركهما العقل البشري في ذاته، ولا يتوقف إدراكه لهما على وجود شرع وشريعة،وتكونان من القضايا التي هي قياساتها معها،ولن يتمكن أحد ولا يتمكن من إنكارهما،لا في أفعال الباري (عزّ وجلّ) ولا في أفعال عباده.
وأمّا ما ذكره الأشاعرة في وجه عدم اتصاف أفعاله تعالى بالظلم فهو خاطئ، وذلك لأنّ حقيقة الظلم هي الاعوجاج في الطريق والخروج منه يمنةً ويسرةً، وعدم الاستقامة في العمل،وهو المعبّر عنه بجعل الشيء في غير موضعه،كما أنّ حقيقة العدل عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع وعدم الخروج منها يمنةً تارةً ويسرةً اخرى،وهو المعبّر عنه بوضع كل شيء في موضعه، وبطبيعة الحال أنّ صدق الظلم بهذا التفسير لا يتوقف على كون التصرف تصرفاً في ملك الغير وسلطانه.ومن هنا لو قصّر أحد في حفظ نفسه يقال إنّه ظلم نفسه،مع أنّ نفسه غير مملوكة لغيره،كما أ نّه لو وضع ماله في غير موضعه عدّ ذلك ظلماً منه.وعلى ضوء هذا التفسير لو أثاب المولى عبده العاصي وعاقب عبده المطيع عدّ ذلك منه ظلماً ووضعاً لهما في غير محلّهما،وإن كان التصرف تصرفاً في ملكه وسلطانه.
وعلى الجملة: كما أنّ العقل يدرك أنّ مؤاخذة المولى عبده على العمل
الصادر منه قهراً وبغير اختيار ظلم منه ووضع في غير موضعه،وإن كان الملك ملك نفسه والتصرف تصرفاً في سلطانه،كذلك يدرك أنّ مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم.
فالنتيجة:أنّ الظلم لا ينحصر بالتصرف في ملك غيره.نعم،عنوان الغصب لا يتحقق في فعله تعالى،حيث إنّه عبارة عن التصرف في ملك الغير من دون إذنه ورضاه،وقد عرفت أنّ العالم وما فيه ملك له تعالى.
ونزيد على هذا:أنّ إنكار التحسين والتقبيح العقليين يستلزم سدّ باب إثبات النبوّة وهدم أساس الشرائع والأديان،والوجه في ذلك:هو أنّ إثبات النبوّة يرتكز على إدراك العقل قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب في دعوى النبوة، وإذا افترضنا أنّ العقل لا يدرك قبح ذلك وأ نّه لا مانع في نظره من أنّ اللّٰه (سبحانه وتعالى) يعطي المعجزة بيد الكاذب،فإذن ما هو الدليل القاطع على كونه نبياً وما هو الدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته.ومن الطبيعي أ نّه لا دافع له ولا مبرّر إلّاإدراك العقل قبح ذلك.
ومن ذلك يظهر أنّ الأشاعرة لا يتمكنون ولن يتمكنوا من إثبات مسألة النبوة على ضوء مذهبهم.
هذا،مضافاً إلى أنّ عقاب المطيع لو كان جائزاً ولم يكن قبيحاً من اللّٰه سبحانه لزم كون إرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً،فانّهما لدعوة الناس إلى الاطاعة والثواب وتبعيدهم عن المعصية والعقاب،وإذا افترضنا أنّ كلاً من المطيع والعاصي يحتمل العقاب على فعله كما يحتمل الثواب عليه،فلا داعي له إلى الاطاعة،لجواز أن يثيب (سبحانه وتعالى) العاصي ويعاقب المطيع.
ودعوى أنّ عادة اللّٰه تعالى قد جرت على إظهار المعجزة بيد الصادق دون الكاذب،خاطئة جداً.
أمّا أوّلاً: فلأ نّه لا طريق لنا إلى إثبات هذه الدعوى إلّامن طريق إدراك العقل،وذلك لأنّها ليست من الاُمور المحسوسة القابلة للادراك بإحدى القوى الظاهرة،ولكن إذا عزلنا العقل عن حكمه وأ نّه لا يدرك الحسن والقبح فما هو المبرّر لها والحاكم بها وكيف يمكن تصديقها والعلم بثبوتها له تعالى.
وأمّا ثانياً: فلأنّ إثبات هذه العادة له تعالى تتوقف على تصديق نبوّة الأنبياء السابقين الذين أظهروا المعجزة وجاؤوا بها،وأمّا من أنكر نبوّتهم أو أظهر الشك فيها فكيف يمكن حصول العلم له بثبوت هذه العادة.
وبكلمة اخرى:العادة إنّما تحصل بالتكرار وتعاقب الوجود،وعليه فننقل الكلام إلى أوّل نبي يدّعي النبوّة ويظهر المعجزة،فكيف يمكن تصديقه في دعواها، وما هو الطريق لذلك والدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته بعد عدم إدراك العقل قبح إظهار المعجزة بيد الكاذب من ناحية،وعدم ثبوت العادة المفروضة من ناحية اخرى.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا طريق إلى إثبات نبوّة مَن يدّعيها إلّاإدراك العقل قبح إظهاره تعالى المعجزة بيد الكاذب،ولولاه لا نسدّ باب إثبات النبوة.
وأمّا ثالثاً: فلأ نّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ عادة اللّٰه تعالى قد جرت على ذلك،ولكن ما هو المانع من تغيير هذه العادة وما هو الدافع لهذا الاحتمال، ومن الطبيعي أ نّه لا دافع له إلّاإدراك العقل قبح ذلك،وإذا افترضنا أنّ العقل لا يدرك قبحه ولا مانع عنده من هذا التغيير،فإذن ما هو الدافع له ؟
ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان دعوى جريان عادته تعالى على مؤاخذة العاصي وإثابة المطيع أيضاً،بعين ما قدّمناه فلا نعيد.
وتوهم أنّ إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي مستندة إلى وعده تعالى ووعيده
في كتابه الكريم من الحسنات والسيِّئات،والدخول في الجنّة والنار،والحور والقصور،والويل والعذاب وما شاكل ذلك من ألوان الثواب والعقاب خاطئ جداً والسبب في ذلك:أ نّه لا يمكن الوثوق بوعده تعالى ووعيده بعد الالتزام بعدم إدراك العقل قبح الكذب وخلف الوعد عليه سبحانه.
فالنتيجة:أنّ في عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح وتجويز ارتكاب الظلم على اللّٰه تعالى القضاء الحاسم على أساس كافّة الشرائع والأديان.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأ نّها نشأت من الخلط بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظري،وذلك لأنّ اللّٰه تعالى لا يعقل أن يكون محكوماً بحكم العقل العملي،وهو حكم العقلاء باستحقاقه تعالى المدح تارةً والذم اخرى على الفعل الصادر منه في الخارج،بداهة أ نّه لايتصور أن يحكم عليه سبحانه عبيده.
وأمّا العقل النظري،فهو كما يدرك وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته التي هي من لوازم علمه وقدرته،كذلك يدرك قبح ارتكابه سبحانه الظلم واستحالة صدوره منه،كيف حيث إنّه منافٍ لحكمته،ومن الطبيعي أنّ ما ينافي لها يستحيل صدوره من الحكيم تعالى،والسبب في ذلك:أنّ صدور الظلم من شخص معلول لأحد امور:الجهل،التشفي،العجز،الخوف،وجميع ذلك مستحيل في حقّه تعالى.
وكيف كان،فادراك العقل استحالة صدور الظلم منه سبحانه وقبحه من القضايا الأوّلية التي هي قياساتها معها.ومن هنا لولا إدراك العقل قبح الظلم لاختلت كافّة الأنظمة البشرية المادية والمعنوية.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أفعال اللّٰه تعالى لا تتصف بالقبح،وأنّ كل ما يصدر منه سبحانه حسن،إلّاأ نّه لاينبغي الشك في أنّ العقلاء يعاقبون عبيدهم على مخالفتهم ويثيبون على إطاعتهم،كما أ نّهم يمدحون الفاعل على فعل
ويذمونه على فعل آخر،وهكذا،ولو كانت الأفعال الصادرة منهم غير اختيارية كما هو مختار الأشاعرة ومذهب الفلاسفة،فلا معنى لاستحقاقهم المدح والثواب عليها تارةً،والذم والعقاب اخرى.ومن هنا لايستحقّون ذلك على الفعل الصادر منهم بغير اختيار،وأ نّهم يفرّقون بين الأفعال الاختيارية وغيرها،فلو كانت الأفعال بشتّى أنواعها وأشكالها غير اختيارية،فما هو سبب هذه التفرقة وحكمهم باستحقاق المدح أو الذم في بعضها دون بعضها الآخر.ومن الطبيعي أنّ كل ذلك يكشف بصورة قاطعة عن بطلان نظريّة الجبر وصحّة نظريّة الاختيار.
الخامس: ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصّه:العقاب إنّما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللّازمة لخصوص ذاتهما،فانّ السعيد سعيد في بطن امّه،والشقي شقي في بطن امّه،والناس معادن كمعان الذهب والفضّة كما في الخبر،والذاتي لا يعلل،فانقطع السؤال أ نّه لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً،فانّ السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك،وإنّما أوجدهما اللّٰه تعالى،قلم إينجا رسيد سر بشكست 1.
وملخّص كلامه (قدس سره) هو أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتّى يلزم المحذور المتقدم،بل هو من لوازم الأعمال السيِّئة التي لا تنفك عنها،فان نسبة العقاب إلى العمل كنسبة الثمر إلى البذر،ومن الطبيعي أنّ البذر إذا كان صحيحاً كان نتاجه صحيحاً،وإذا كان فاسداً كان نتاجه فاسداً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ تلك الأعمال تنتهي بالأخرة إلى الشقاوة التي هي
ذاتية للانسان والذاتي لا يعلل.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا إشكال لا من جانب العقاب حيث إنّه من لوازم الأعمال وآثارها،ولا من جانب تلك الأعمال حيث إنّها تنتهي في نهاية المطاف إلى الذات.
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظريّة:
أوّلاً: أ نّها مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنّة،حيث إنّ لازمها عدم إمكان العفو بالشفاعة ونحوها،مع أ نّهما قد نصتا على ذلك وأنّ العقاب بيده تعالى وله أن يعاقب وله أن يعفو،فهو فعل اختياري له سبحانه.وعلى الجملة:
فلا ينبغي الشك في بطلان هذه النظريّة على ضوء الكتاب والسنّة.
وثانياً: أ نّها لاتحل مشكلة العقاب على أمر غير اختياري فتبقى تلك المشكلة على حالها،بل هي تؤكّدها كما هو واضح.نعم،لو كان مراده (قدس سره) من تبعية العقاب للكفر والعصيان التبعية على نحو الاقتضاء،فلا إشكال فيها من الناحية الاُولى ولاتكون مخالفة للكتاب والسنّة،فيبقى الاشكال فيها من الناحية الثانية وهي أنّ الأعمال إذا كانت غير اختيارية فكيف يعقل العقاب عليها [1]
السادس: أنّ شيخنا المحقق (قدس سره) قد أجاب عن هذه المسألة بجوابين:
الأوّل: أنّ العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي،بل هما من تبعات الأفعال ولوازم الأعمال،ونتائج الملكات الرذيلة،وآثار الملكات الفاضلة،ومثل تلك العقوبة على النفس لخطيئتها كالمرض العارض على البدن لنهمه،والمرض الروحاني كالمرض الجسماني،والأدوية العقلائية كالأدوية الجسمانية،ولا استحالة في استلزام الملكات النفسانية الرذيلة للآلام الجسمانية والروحانية في تلك النشأة-أي النشأة الاُخروية-كما أ نّها تستلزم في هذه النشأة الدنيوية،ضرورة أنّ تصور المنافرات كما يوجب الآلام النفسانية كذلك يوجب الآلام الجسمانية.
فإذن لا مانع من حدوث منافرات روحانية وجسمانية بواسطة الملكات الخبيثة النفسانية،فالنتيجة أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي حتّى يقال:
كيف يمكن صدور العقاب من الحكيم المختار على ما لايكون بالأخرة بالاختيار.
وفي الآيات والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك،فقد تكرر في القرآن الكريم «إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وقال (عليه السلام):«إنّما هي أعمالكم ترد إليكم».
الثاني: أنّ المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دلّ على ذلك ظاهر الكتاب والسنّة،وتصحيحهما بعد صحّة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في غاية السهولة،إذ كما أنّ المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة أمره،كذلك المولى الحقيقي،لوضوح أنّ الفعل لو كان بمجرد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري وغير مصحح للمؤاخذة،لم تصح مؤاخذة المولى العرفي أيضاً،وإذا كان في حدّ ذاته قابلاً للمؤاخذة عليه،فكون المؤاخذة ممّن انتهت إليه سلسلة الارادة والاختيار لا يوجب انقلاب الفعل عمّا هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممّن خولف أمره ونهيه.
وقد أجاب عن ذلك بجواب آخر:وهو أنّ الحكم باستحقاق العقاب ليس من أجل حكم العقلاء به حتّى يرد علينا إشكال إنتهاء الفعل إلى ما لا بالاختيار،بل نقول بأنّ الفعل الناشئ عن هذا المقدار من الاختيار مادة لصورة اخروية،والتعبير بالاستحقاق بملاحظة أنّ المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لافاضة الصورة من واهب الصور.
ومنه تعرف أنّ نسبة التعذيب والادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أنّ إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطّلع على الأفئدة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب،فلاينافي القول باللزوم،مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة من معاقب خارجي 1.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من الأجوبة.
أمّا الأوّل: فيرد عليه ما أوردناه على الجواب الأوّل حرفاً بحرف فلا نعيد.
وأمّا الاستشهاد على ذلك بالآيات والروايات فغريب جداً،لما سبق من أنّ الآيات والروايات قد نصّتا على خلاف ذلك،وأمّا قوله تعالى: «إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 1فلا يكون مشعراً بذلك فضلاً عن الدلالة،ضرورة أنّ مدلوله جزاء الناس بسبب الأعمال الصادرة منهم في الخارج،وأمّا كونه من آثارها ولوازمها التي لا تتخلف عنها فلا يدل عليه بوجه أصلاً.
وأمّا قوله (عليه السلام):«إنّما هي أعمالكم ترد إليكم» 2فظاهر في تجسم الأعمال،ولا يدل على أنّ العقاب ليس من معاقب خارجي،بداهة أ نّه لا تنافي بين الالتزام بتجسم الأعمال في الآخرة وكونه بيد اللّٰه تعالى وتحت اختياره.
وأمّا الثاني،فيرد عليه ما تقدّم في ضمن البحوث السابقة 3من أنّ مجرد كون الفعل مسبوقاً بالارادة لا يصحح مناط اختياريته رغم أنّ الارادة بكافة مبادئها غير اختيارية من ناحية،وكونها علّة تامّةً من ناحية اخرى ومنتهية [ إلى ] الارادة الأزلية من ناحية ثالثة،بداهة أنّ الفعل والحال هذه كيف يعقل كونه اختيارياً.وعلى هذا الضوء فلا يمكن القول باستحقاق العقاب عليه، لاستقلال العقل بقبح العقاب على الفعل الخارج عن الاختيار.فإذن هذا الجواب
لا يجدي في دفع المحذور المزبور.
وأمّا الثالث،فهو مبتنٍ على تجسم الأعمال،وهو وإن كان غير بعيد نظراً إلى ما يظهر من بعض الآيات 1والروايات 2إلّاأنّ مردّه ليس إلى أنّ تلك الأعمال مادّة لصورة اخروية المفاضة من واهب الصور على شكل اللزوم بحيث يستحيل تخلّفها عنها،بداهة أنّ التجسم بهذا المعنى مخالف صريح للكتاب والسنّة،حيث إنّهما قد نصّا على أنّ العقاب بيده تعالى،وله أن يعاقب وله أن يعفو.
وعلى الجملة: فالمجيب بهذا الجواب وإن كان يدفع مسألة قبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار،حيث إنّ العقاب على أساس ذلك صورة اخروية للأعمال الخارجية اللازمة لها الخارجة عن اختيار المعاقب الخارجي فلا يتصف بالقبح،إلّاأ نّه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وإنزال الكتب.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في نهاية المطاف:أنّ الالتزام باستحقاق العقاب من معاقب خارجي وحسنه لا يمكن إلّاعلى ضوء نظريتي الإمامية والمعتزلة.وأمّا على ضوء نظريّتي الأشاعرة والفلاسفة فلا يمكن حلّ هذه المشكلة إلّابوجه غير ملائم لأساس الأديان والشرائع.
وهي فعله سبحانه وتعالى،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الشوق المؤكد لا يعقل أن يكون إرادةً له تعالى.ومن ناحية ثالثة:أنّ إرادته سبحانه ليست من الصفات العليا الذاتية.ومن ناحية رابعة:أنّ الكتاب والسنّة تنصّان على أنّ إرادته تعالى فعله.
ومن ناحية خامسة:أ نّه لا وجه لحمل الكتاب والسنّة على بيان الارادة الفعلية دون الذاتية كما عن الفلاسفة وجماعة من الاُصوليين،وذلك أوّلاً:لعدم الدليل على كون إرادته تعالى ذاتية،بل قد تقدّم عدم تعقل معنىً صحيح لذلك.
وثانياً:أنّ في نفس الروايات ما يدل على نفي الارادة الذاتية.
كما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)،وبالرضا والابتهاج من ناحية اخرى كما عن شيخنا المحقق (قدس سره) تفسير خاطئ لا واقع موضوعي له.
،وإلى مشيئة فعلية وهي الوجود الاطلاقي المنبسط كما عن الفلاسفة وشيخنا المحقق (قدس سره) قد تقدّم نقده بشكل موسّع،وقلنا هناك إنّ هذا التقسيم يقوم على أساس أن تكون نسبة الأشياء إلى ذاته الأزلية نسبة المعلول إلى العلّة التامّة من كافّة الجهات والنواحي،لا نسبة الفعل إلى الفاعل المختار.وقد سبق نقد هذا الأساس بصورة موضوعية،وأقمنا البرهان على أ نّه لا واقع له في أفعاله تعالى.
وقد تقدّمت المناقشة في تمام تلك الوجوه وبينّا عدم دلالة شيء منها على ذلك.
فيكون فعل العبد مخلوقاً له تعالى إبداعاً وإحداثاً-قد تقدّم نقده بشكل موسّع،وقلنا هناك إنّه لا يرجع إلى معنىً صحيح،لا في المعاليل الطبيعية،ولا في الأفعال الاختيارية.
هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّها إذا بلغت
حدّها التام تكون علّةً تامّةً لها،وتبعهم على ذلك جماعة من الاُصوليين.وقد تقدّمت المناقشة في ذلك بصورة مفصّلة،وأقمنا البرهان مضافاً إلى الوجدان على أنّ الارادة لاتعقل أن تكون علّةً تامّةً للفعل،هذا من جانب.ومن جانب آخر:
قد أثبتنا أنّ الأفعال الاختيارية بكافّة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة.
و ذلك لما بينّاه هناك من أنّ تلك القاعدة تقوم على أساس مسألة التناسب التي هي الحجر الأساسي لمبدأ تأثير العلّة الطبيعية في معلولها،ولا مجال لها في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية،وقد ذكرنا الفرق الأساسي بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية في ضمن البحوث السالفة.
وأمّا الاختيار فهو غير مسبوق باختيار آخر،بل يصدر عن النفس بالذات، أي بلا واسطة.
وقد تعرّضنا لتلك المناقشات واحدةً بعد اخرى،مع نقدها بصورة موسّعة.
و إنّما الواقع تحت إرادته سبحانه مبادئ تلك الأفعال.
بداهة أنّ حقيقة العلم انكشاف الأشياء على ما هي عليه ولا يكون من مبادئ وقوعها.ومن هنا ذكرنا أنّ ما أفاده صدر المتألهين من أنّ علمه سبحانه سبب لوجوب وقوعها في الخارج وإلّا لكان علمه جهلاً وهو
محال،خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.
وأ نّها بكافّة أنواعها تصدر منها على ضوء مبدأ التناسب خاطئ جداً ولا واقع له،ومن هنا قد ناقشنا فيه بعدّة مناقشات.
– باستغناء البقاء-أي بقاء الممكن عن الحاجة-إلى المؤثر بدعوى أنّ سرّ حاجة الممكن وفقره إلى العلّة إنّما هو حدوثه،وبعده فلا يحتاج إليها،وقد تقدّم نقد هذه النقطة بشكل موسّع في الأفعال الاختيارية،والمعاليل الطبيعية معاً،وقد أثبتنا أنّ سرّ حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلّة إنّما هو إمكانه لا حدوثه.
التي قد اختارت الطائفة الإمامية تلك النظريّة بعد رفضها نظريّتي الأشاعرة والمعتزلة فيها.وقد دلّت على صحّة تلك النظريّة الروايات الكثيرة التي تبلغ حدّ التواتر من ناحية،وعلى بطلان نظريّتي الأشاعرة والمعتزلة من ناحية اخرى.هذا مضافاً إلى البراهين العقلية التي تقدّمت.
إحداهما إلى فاعلها بالمباشرة.وثانيتهما إلى اللّٰه تعالى باعتبار أ نّه سبحانه معطي مقدّماتها ومبادئها آناً بعد آن بحيث لو انقطع الاعطاء في آنٍ انتفت المقدّمات.
و يشترك معه في نقطة اخرى.أمّا نقطة الامتياز فهي أنّ المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلّة،والمعلول في الفواعل الارادية يرتبط بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته،وأمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ المعلول كما لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بذات العلّة ويستحيل تخلّفه عنها،كذلك
الفعل لا واقع له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل واختياره ويستحيل تخلّفه عنها.
وتصدّق تلك النظريّة،ولا تدل على نظريّة الجبر،ولا على التفويض.
وشكل ثانٍ قد تقدّم نقده بشكل موسّع على ضوء كلتا النظريتين،يعني نظريّة الفلاسفة ونظريّة الاختيار.
الإمامية والمعتزلة، وإنّما الاشكال في صحّة استحقاقهم له على ضوء نظريّة الأشاعرة [ والفلاسفة ] وقد تقدّم الاشكال في ذلك على ضوء استقلال العقل بقبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار.
العشرون: قد اجيب عن ذلك الاشكال بعدّة أجوبة.وقد ناقشنا في جميع تلك الأجوبة،وقلنا إنّ شيئاً منها لا يعالج المشكلة،فلا يمكن حلّ هذه المشكلة بصورة صحيحة وبشكل واقعي موضوعي إلّاعلى ضوء نظريّة الإمامية.
وأمّا المقام الثاني: هيئة افعل وما شاكلها من الهيئات فالكلام فيه يقع من جهات:
الاُولى: قد ذكر لصيغة الأمر عدّة معان:الطلب،التهديد،الانذار،الاحتقار، الاهانة،الترجي،وغير ذلك.
ولكن ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ هذه المعاني ليست من معاني الصيغة،وأ نّها لم تستعمل فيها وإنّما استعملت في إنشاء الطلب فحسب.وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه:
ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها،بل لم تستعمل إلّافي إنشاء الطلب،إلّاأنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي يكون اخرى أحد هذه الاُمور،وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك،لا بداعي آخر منها،فيكون إنشاء الطلب بها بعثاً حقيقةً وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستعملةً في التهديد وغيره.
ثمّ ذكر بقوله:ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في صيغة الأمر جارٍ في سائر الصيغ الانشائية،فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني والترجي والاستفهام بصيغها تارةً هو ثبوت هذه الصفات حقيقة،يكون الداعي غيرها اخرى،فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى،لاستحالة مثل هذه المعاني في حقّه (تبارك وتعالى) ممّا لازمه العجز أو الجهل وأ نّه لا وجه له،فانّ المستحيل إنّما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي الذي يكون بمجرّد
قصد حصوله بالصيغة،كما عرفت،ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضاً،لا لاظهار ثبوتها حقيقةً،بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبّة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك.ومنه ظهر أنّ ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً 1.
ملخّص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ صيغة الأمر موضوعة لمعنى واحد وهو الطلب الانشائي وتستعمل فيه دائماً،نعم يختلف الداعي إلى إنشائه،فقد يكون هو الطلب الحقيقي،وقد يكون التهديد،وقد يكون الاحتقار،وقد يكون أمراً آخر،فبالأخرة يكون المورد من اشتباه الداعي بالمعنى ثمّ قال:إنّ الأمر في سائر الصيغ الانشائية أيضاً كذلك.
ولنأخذ بالمناقشة عليه: وهي أنّ ما أفاده (قدس سره) يرتكز على نظريّة المشهور في مسألة الانشاء وهي إيجاد المعنى باللفظ في مقابل الاخبار،إذ على ضوء هذه النظريّة يمكن دعوى أنّ صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إيجاد الطلب وتستعمل فيه دائماً،ولكن الداعي إلى إيجاده يختلف باختلاف الموارد وخصوصيات المقامات.ولكن قد ذكرنا في مبحث الانشاء 2أنّ هذه النظريّة ساقطة فلا واقع موضوعي لها،وقلنا إنّ اللفظ لا يعقل أن يكون موجداً للمعنى لا حقيقةً ولا اعتباراً.ومن ذلك فسّرنا حقيقة الانشاء هناك بتفسير آخر وحاصله:هو أنّ الانشاء عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك.
وعلى ضوء هذا التفسير لا مانع من الالتزام بتعدّد المعنى لصيغة الأمر،بيان
ذلك:أنّ الصيغة على هذا موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،ومن الطبيعي أنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد ويتعدّد بتعدّد المعاني، ففي كل مورد تستعمل الصيغة في معنى يختلف عن استعمالها في معنى آخر في المورد الثاني ويغايره وهكذا،فانّ المتكلم تارةً يقصد بها إبراز ما في نفسه من اعتبار المادة على ذمّة المخاطب.واُخرى إبراز ما في نفسه من التهديد.وثالثة إبراز ما في نفسه من السخرية أو التعجيز أو ما شاكل ذلك،فالصيغة على الأوّل مصداق للطلب والبعث الاعتباريين وعلى الثاني مصداق للتهديد كذلك،وعلى الثالث مصداق للسخرية،وهكذا،ومن الواضح أ نّها في كل مورد من تلك الموارد تبرز معنى يباين لما تبرز في المورد الثاني ويغايره.
ثمّ بعد أن كانت الصيغة تستعمل في معانٍ متعددة كما عرفت،فهل هي موضوعة بازائها على نحو الاشتراك اللفظي،أو موضوعة لواحد منها ويكون استعمالها في غيره مجازاً ؟ وجهان،الظاهر هو الثاني،وذلك لأنّ المتبادر من الصيغة عند إطلاقها هو إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلف في الخارج،وأمّا إرادة إبراز التهديد منها أو السخرية أو الاستهزاء أو نحو ذلك فتحتاج إلى نصب قرينة وبدونها لا دلالة لها على ذلك،ومن الطبيعي أنّ ذلك علامة كونها موضوعةً بازاء المعنى الأوّل،دون غيره من المعاني.
الجهة الثانية: لا ينبغي الشك في أنّ الأوامر الصادرة من الموالي ومنها أوامر الكتاب والسنّة على نحوين:أحدهما ما يراد منها اللزوم والحتم على نحو يمنع العبد عن مخالفتها.وثانيهما ما يراد منها البعث المقرون بالترخيص على نحو يجوز مخالفتها وعدم مانع عنها،ويسمى الأوّل بالوجوب،والثاني بالندب.وعلى هذا فان قامت قرينة حالية أو كلامية على تعيين أحدهما لزم اتباعها،وإن لم تقم قرينة على ذلك فهل الصيغة بنفسها ظاهرة في المعنى الأوّل بحيث تحتاج
إرادة المعنى الثاني منها إلى قرينة تدل عليها،أو ظاهرة في المعنى الثاني وتحتاج إرادة المعنى الأوّل إلى قرينة،أو في الجامع بينهما وتحتاج إرادة كل منهما إلى قرينة،أو فيهما على نحو الاشتراك اللفظي ؟ وجوه وأقوال:
قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1القول الأوّل بدعوى أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ومجاز في غيره،واستدلّ على ذلك بأنّ المتبادر منها عرفاً عند إطلاقها وتجردها عن القرينة المقالية والحالية هي الوجوب، ومن الطبيعي أنّ التبادر المستند إلى نفس اللفظ علامة الحقيقة،فلو كانت حقيقة في الندب أو مشتركة لفظية أو معنوية لم يتبادر الوجوب منها.
ثمّ أيّد ذلك بقيام السيرة العقلائية على ذم الموالي عبيدهم عند مخالفتهم لامتثال أوامرهم،وعدم صحّة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب،مع الاعتراف بعدم دلالتها عليه بحال أو مقال.
ثمّ أورد على نفسه بكثرة استعمال الصيغة في الندب،وهي مانعة عن ظهورها في الوجوب وتبادره منها،لوضوح أ نّها لو لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا شبهة في أ نّها مانعة عن انفهام الوجوب منها،فإذن لا يمكن حملها عليه عند إطلاقها مجرّدةً عن القرينة.
وأجاب عن ذلك أوّلاً:بأنّ استعمالها في الندب لا يزيد على استعمالها في الوجوب،لتكون كثرة الاستعمال فيه مانعة عن ظهورها في الوجوب.
وثانياً:أنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي مع القرينة لا تمنع عن حمله على المعنى الحقيقي عند إطلاقه مجرّداً عنها،وما نحن فيه كذلك،فانّ كثرة استعمال الصيغة في الندب مع القرينة لا تمنع عن حملها على الوجوب إذا كانت
خاليةً عنها.
ثمّ استشهد على ذلك بكثرة استعمال العام في الخاص حتّى قيل ما من عام إلّا وقد خصّ،ومع هذه الكثرة لا ينثلم ظهور العام في العموم إذا ورد في الكتاب والسنّة ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخاص.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما ذكره من أنّ المتبادر من الصيغة عرفاً الوجوب،فيمكن نقده بأ نّه إنّما يكون علامةً للحقيقة إذا كان مستنداً إلى حاق اللفظ ونفسه،ضرورة أنّ مجرد انفهام المعنى من اللفظ لا يكون علامةً لكونه حقيقة فيه،وفيما نحن فيه المتبادر لدى العرف من الصيغة وإن كان هو الوجوب إلّاأ نّا لا نعلم استناده إلى حاق اللفظ،لاحتمال أن يكون ذلك من جهة الاطلاق ومقدّمات الحكمة كما اختاره بعض الأعاظم 1،ويحتمل أن يكون ذلك من جهة حكم العقل كما اخترناه، ومن الطبيعي أنّ التبادر مع هذا الاحتمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.
ومن هنا يظهر الكلام فيما ذكره من التأييد بقيام السيرة العقلائية على الذم عند المخالفة،فانّه وإن كان مسلّماً إلّاأ نّه لا يدل على كون الوجوب مدلولاً وضعياً للصيغة ومتبادراً منها عرفاً،بل لعلّه لحكم العقل بذلك،أو للاطلاق ومقدّمات الحكمة.
وعلى الجملة:فقيام السيرة إنّما يدل على كون الوجوب مستفاداً منها، وأمّا كون ذلك بالوضع أو بالاطلاق،أو من ناحية حكم العقل فلا يدل على شيء منها.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ استعمال الصيغة في الندب أكثر من
استعمالها في الوجوب فهو غير بعيد.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ كثرة الاستعمال في المعنى المجازي إذا كانت مع القرينة لا تمنع عن الحمل على الحقيقة إذا تجرد الكلام عنها،وإن كان متيناً جداً بحسب الكبرى،إلّاأنّ استشهاده (قدس سره) على تلك الكبرى بالعام والخاص في غير محلّه،وذلك لأنّ كثرة الاستعمال في المقام إذا افترضنا أ نّها مانعة عن الحمل على الحقيقة إلّاأ نّها لا تمنع في العام والخاص،وذلك لأنّ لصيغ العموم أوضاعاً متعددة حسب تعدد تلك الصيغ،وعليه فلا بدّ من ملاحظة كثرة الاستعمال في كل صيغة على حدة وبنفسها.ومن الطبيعي أنّ كثرة الاستعمال في الخاص في إحدى هذه الصيغ لاتمنع عن حمل الصيغة الاُخرى على العموم.مثلاً كثرة استعمال لفظة الكل في الخاص لا تمنع عن ظهور الجمع المحلى باللام في العموم،وهكذا.
وبكلمة اخرى: أنّ كثرة استعمال العام في الخاص تمتاز عن كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب بنقطة:وهي أنّ القضيّة الاُولى تنحل بانحلال صيغ العموم وأدواته،فيكون لكل صيغة منها وضع مستقل غير مربوط بوضع صيغة اخرى منها.ولذلك لا بدّ من ملاحظة الكثرة في كل واحدة منها بنفسها مع قطع النظر عن الاُخرى،وهي تمنع عن الحمل على الحقيقة فيها دون غيرها.وهذا بخلاف صيغة الأمر حيث إنّ لها وضعاً واحداً فبطبيعة الحال كثرة استعمالها في الندب تمنع عن حملها على الوجوب بناءً على الفرضية المتقدمة.
هذا،مضافاً إلى أنّ ذلك ينافي ما التزمه (قدس سره) في مبحث العموم والخصوص من أنّ التخصيص لا يوجب التجوّز في العام واستعماله في الخاص، بل هو دائماً استعمل في معناه العام سواء أورد عليه التخصيص أم لا،على
تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى 1.
وذهب إلى القول الثاني بعض الأعاظم (قدس سره) 2وأفاد:أنّ الصيغة وإن لم تدل على الوجوب بالوضع،ولكنّها تدل عليه بالاطلاق ومقدّمات الحكمة، بيان ذلك:أنّ الارادة المتعلقة بفعل الغير تختلف شدّةً وضعفاً حسب اختلاف المصالح والأغراض الداعية إلى ذلك،فمرّةً تكون الارادة شديدةً وأكيدةً بحيث لايريد المولى تخلّف إرادته عن المراد،ولايريد تخلّف العبد عن الاطاعة والامتثال.
واُخرى تكون ضعيفةً على نحو لا يمنع المولى العبد من التخلّف،ولا يكون العبد ملزماً بالفعل،بل له أن يشاء الفعل،وله أن يشاء الترك.
فعلى الأوّل يطلب المولى الفعل على سبيل الحتم والالزام،ويعبّر عنه بالوجوب، فيكون الوجوب في واقعه الموضوعي طابعاً مثالياً للارادة الشديدة الأكيدة ومرآةً لها،فهي روح الوجوب وواقعه الموضوعي.
وعلى الثاني يطلب ذلك طلباً ضعيفاً على سبيل الندب وعدم الحتم،ويعبّر عنه بالاستحباب،فيكون الاستحباب مثالاً موضوعياً لتلك المرتبة من الارادة، وهي روحه وواقعه الموضوعي.
وهذا الاختلاف في الارادة أمر وجداني،حيث إنّنا نرى بالوجدان أنّ إرادة العطشان مثلاً باتيان الماء البارد أشد وآكد من إرادته باتيان الفاكهة مثلاً بعد الغذاء،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ شدّة الارادة ليست بأمر زائد على الارادة،بل هي عين تلك المرتبة في الخارج ونفسها،فما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز، نظير السواد والبياض الشديدين حيث إنّ ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز.
ومن ناحية ثالثة:أنّ صفة الضعف في الارادة حدّ عدمي،وعليه فبطبيعة الحال تكون تلك الصفة أمراً زائداً عليها،وتحتاج في بيانها إلى مؤونة زائدة في مقام الاثبات.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أنّ المولى إذا أمر بشيء وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على إرادة الجامع بين الارادة الشديدة والضعيفة، فقضيّة الاطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة المرتبة الضيعفة هي حمل الأمر على بيان المرتبة الشديدة،حيث قد عرفت أنّ بيانها لا يحتاج إلى مؤونة زائدة دون بيان المرتبة الضعيفة،وبذلك نثبت إرادة الوجوب الذي هو طابع مثالي لتلك المرتبة من الارادة.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل:أنّ الوجوب ليس بمدلول وضعي للصيغة،وإنّما هو مستفاد من الاطلاق ومقدّمات الحكمة.
الثاني:أنّ مدلولها الوضعي إنّما هو الطلب الجامع فلا تدل بالدلالة الوضعية إلّا عليه.
ولنأخذ بالمناقشة عليه من وجوه:
الأوّل: أنّ ما أفاده (قدس سره) من اختلاف الارادة باختلاف الأوامر وجوباً وندباً لا يتم في الأوامر الشرعية،وإنّما يتم في الأوامر العرفية.
فلنا دعويان:الاُولى:عدم تمامية ما أفاده (قدس سره) في الأوامر الشرعية.
الثانية:تماميته في الأوامر العرفية.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ الارادة التكوينية التي هي عبارة عن الشوق النفساني المحرّك للانسان نحو المراد إنّما يعقل تعلّقها بفعل الغير إذا كانت فيه مصلحة عائدة إلى ذات المريد أو إلى إحدى قواه،ولا يعقل تعلّقها بما لا تعود مصلحته إليه،بداهة أنّ الشوق النفساني إلى شيء بنفسه لا يعقل إلّاعن فائدة عائدة إلى الفاعل،وذلك غير متحقق في الأحكام الشرعية،فانّ مصالح متعلقاتها تعود إلى المكلفين دون الشارع.نظير أوامر الطبيب حيث إنّ مصالح متعلقاتها تعود إلى المرضى دونه.
ومن الطبيعي أنّ اختلاف أوامره إلزاماً وندباً لا ينشأ عن اختلاف إرادته شدّةً وضعفاً،لما عرفت من عدم تعلّقها بما يعود نفعه إلى غيره دونه،إلّاأن يكون ملائماً لإحدى قواه،فعندئذ يكون منشأً لحدوث الشوق في نفسه،ولكنّه خلاف الفرض.
وأضف إلى ذلك:أنّ الارادة بمعنى الشوق النفساني لا تعقل في ذاته (سبحانه وتعالى) والارادة بمعنى المشيئة لا تعقل أن تتعلق بفعل الغير وإن افترض أنّ نفعه يعود إليه.
وبكلمة اخرى:أنّ ملاك شدّة الارادة وضعفها تزايد المصلحة في الفعل وعدم تزايدها،وحيث إنّ تلك المصلحة بشتّى مراتبها من القويّة والضعيفة تعود إلى العباد دون المولى لاستغنائه عنها تمام الاستغناء،فلا يعقل أن تكون منشأً لحدوث الارادة في نفس المولى فضلاً عن أن يكون اختلافها منشأً لاختلافها شدّةً وضعفاً.
على أنّ اختلاف تلك المصلحة العائدة إلى العباد لا يعقل أن يكون سبباً لاختلاف إرادة المولى كذلك،نظير إرادة الطبيب حيث إنّها لا تعقل أن تختلف
شدّةً وضعفاً باختلاف المصلحة التي تعود إلى المريض فتأمل.وعلى هذا الضوء فلا يكون إطلاق الصيغة بمعونة مقدّمات الحكمة قرينة على إرادة الوجوب.
وأمّا الدعوى الثانية: فحيث إنّ مصالح متعلقات الأوامر العرفية تعود إلى المولى دون العبيد،فبطبيعة الحال تكون سبباً لحدوث الارادة في نفسه،وبما أنّ تلك المصالح تختلف شدّةً وضعفاً،فلا محالة تكون منشأً لاختلاف إرادته كذلك.
فالنتيجة:أنّ ما أفاده هذا القائل لو تمّ فانّما يتم في الأوامر العرفية دون الأوامر الشرعية.
الثاني: لو تنّزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مردّ اختلاف الوجوب والندب إلى اختلاف الارادة شدّة وضعفاً،إلّاأنّ دعوى كون الارادة الشديدة لا تزيد على الارادة بشيء،فهي إرادة صرفة،دون الارادة الضعيفة فانّها لمكان ضعفها زائدة على الارادة وهي صفة ضعفها،فانّها حدّ عدمي،خاطئة جداً،وذلك لأنّ الارادة بشتّى ألوانها وأشكالها محدودة بحد،من دون فرق في ذلك بين الارادة الشديدة والضعيفة،كيف فانّهما مرتبتان متضادتان من الارادة،وعليه فبطبيعة الحال يكون لكل منهما حد خاص.
وإن شئت فقل:إنّ الارادة التي هي واقع الوجوب،روحه من الاُمور الممكنة، ومن البديهي أنّ كل ممكن محدود بحد خاص،غاية الأمر يزيد الوجوب على الندب بشدّة الارادة.
وعلى هذا الضوء فكما لايمكن التمسك باطلاق الصيغة لاثبات الندب،فكذلك لايمكن التمسك باطلاقها لاثبات الوجوب،بل لابدّ من التوقف،لفرض احتياج كل منهما إلى بيان زائد.
الثالث: لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ الارادة الشديدة غير محدودة بحد بخلاف الارادة الضعيفة،إلّاأ نّه مع ذلك لا يمكن التمسك باطلاق الصيغة
والحمل على الوجوب،والسبب في ذلك:أنّ بساطة الارادة الشديدة وتركب الارادة الضعيفة إنّما هما بالنظر الدقي العقلي،وليستا من المتفاهم العرفي،ومن الطبيعي أنّ الاطلاق إنّما يعيّن ما هو المتفاهم عرفاً دون غيره،وحيث إنّ بساطة تلك المرتبة وعدم وجود حد لها،وتركب هذه المرتبة ووجود حد لها،أمران خارجان عن الفهم العرفي،فلا يمكن حمل الاطلاق على بيان المرتبة الاُولى دون الثانية.ونظير ذلك ما إذا أطلق المتكلم كلمة الوجود ولم يبيّن ما يدل على إرادة سائر الموجودات،فهل يمكن حمل إطلاق كلامه على إرادة واجب الوجود، نظراً إلى عدم تحديده بحد،وتحديد غيره من الموجودات به ؟ كلّا،والسرّ فيه ما عرفت من أنّ المعنى المذكور خارج عن المتفاهم العرفي.
والتحقيق في المقام أن يقال:إنّ تفسير صيغة الأمر مرّةً بالطلب ومرّةً اخرى بالبعث والتحريك ومرّةً ثالثةً بالارادة،لايرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل، ضرورة أنّ هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير واللفظ،وليس لها واقع موضوعي أصلاً،والسبب في ذلك:ما حققناه في بحث الانشاء من أ نّه عبارة عن اعتبار الأمر النفساني وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا في بحث الوضع 1أنّ حقيقته عبارة عن تعهد الواضع والتزامه النفساني بأ نّه متى ما أراد معنىً خاصاً يبرزه بلفظ مخصوص.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي ضرورة وضع صيغة الأمر أو ما شاكلها للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،لا للطلب
والتصدي،ولا للبعث والتحريك،ولا للارادة.
نعم،إنّ صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك،لا أ نّهما معناها،كما أ نّها مصداق للطلب والتصدي،وأمّا الارادة فلا يعقل أن تكون معناها،وذلك لاستحالة تعلّق الارادة بمعنى الاختيار وإعمال القدرة بفعل الغير،وكذا الارادة بمعنى الشوق النفساني المحرّك للانسان نحو المراد فيما لا تعود مصلحته إليه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا في محلّه 1أ نّه لا معنى للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية،ولا نعقل لها معنىً محصّلاً ما عدا الأمر الصادر من المولى.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أ نّه لا معنى لتفسير الأمر بالارادة،ومن جميع ذلك يظهر أنّ تفسير النهي بالكراهة أيضاً خاطئ.
وبكلمة اخرى:أ نّنا إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً،فلا نعقل فيه ما عدا شيئين:
الأوّل:اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة أو غيرها.
الثاني:إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني لا للبعث والتحريك،ولا للطلب.
نعم،قد عرفت أنّ الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصدٍ إلى الفعل، حيث إنّ البعث والطلب قد يكونان خارجيين،وقد يكونان اعتباريين،فصيغة
الأمر أو ما شابهها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي،ضرورة أ نّها تصدٍّ في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه،لا تكويناً وخارجاً،كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه: أمران:الأوّل أنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني،وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف،ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.الثاني أ نّها مصداق للطلب والبعث لا أ نّهما معناها.
ومن ذلك يظهر:أنّ الصيغة كما لا تدل على الطلب والبعث،كذلك لا تدل على الحتم والوجوب.نعم،يحكم العقل بالوجوب بمقتضى قانون العبودية والمولوية فيما إذا لم ينصب قرينةً على الترخيص.أو فقل:إنّ الصيغة كما عرفت موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري في الخارج،ولا تدل على ما عدا ذلك،إلّاأنّ العقل يحكم بأنّ وظيفة العبودية والمولوية تقتضي لزوم المبادرة والقيام على العبد نحو امتثال ما أمره به المولى واعتبره على ذمّته،وعدم الأمن من العقوبة لدى المخالفة إلّاإذا أقام المولى قرينةً على الترخيص وجواز الترك، وعندئذ لا مانع من تركه،حيث إنّه مع وجود هذه القرينة مأمون من العقاب، وينتزع العقل من ذلك الندب،كما ينتزع في الصورة الاُولى الوجوب.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ الحاكم بالوجوب إنّما هو العقل دون الصيغة،لا وضعاً ولا اطلاقاً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا فرق بينه وبين الندب في مقام الاثبات إلّافي الترخيص في الترك وعدمه.نعم،فرق بينهما في مقام الثبوت والواقع على أساس نظريّة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.
ومن ناحية ثالثة:أ نّه لا بأس بتفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار
دلالته على ثبوت الفعل على ذمّة المكلف،بل هو معناه لغةً وعرفاً،غاية الأمر الثبوت مرّةً تكويني خارجي،ومرّةً اخرى ثبوت تشريعي،فصيغة الأمر أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على الثبوت التشريعي وإبرازه.
الجهة الثالثة: وهي الجمل الفعلية التي استعملت في مقام الانشاء دون الاخبار ككلمة«أعاد»و«يعيد»أو ما شاكلها،فهل لها دلالة على الوجوب أم لا ؟
وليعلم أنّ استعمال الجمل المضارعية في مقام الانشاء كثير في الروايات، وأمّا استعمال الجمل الماضوية في مقام الانشاء فلم نجد إلّافيما إذا وقعت جزاءً لشرط كقوله (عليه السلام):من تكلم في صلاته أعاد 1،ونحوه.
وكيف كان،فإذا استعملت الجمل الفعلية في مقام الانشاء فهل تدل على الوجوب أم لا ؟ وجهان:
ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى الأوّل،وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه:الظاهر الأوّل-الوجوب-بل تكون أظهر من الصيغة.
ولكنّه لا يخفى أ نّه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام-أي الطلب – مستعملة في غير معناها،بل تكون مستعملة فيه،إلّاأ نّه ليس بداعي الاعلام بل بداعي البعث بنحو آكد،حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاراً بأ نّه لا يرضى إلّابوقوعه،فيكون آكد في البعث من الصيغة كما هو الحال في الصيغ الانشائية على ما عرفت من أ نّها أبداً تستعمل في معانيها الايقاعية، لكن بداوعٍ اخر،كما مرّ.
لا يقال:كيف ويلزم الكذب كثيراً،لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في
الخارج،تعالى اللّٰه وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً.
فانّه يقال:إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الاخبار والاعلام لا لداعي البعث،كيف وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات،فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذباً إذا قيل كنايةً عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً،وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد،فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ،فانّه مقال بمقتضى الحال.
هذا،مع أ نّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب،فان تلك النكتة إن لم تكن موجبةً لظهورها فيه فلا أقل من كونها موجبةً لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده،فانّ شدّة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصّة على غيره فافهم 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ دلالة الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه،نظراً إلى أ نّها تدل على وقوع المطلوب في الخارج في مقام الطلب،ومن الطبيعي أنّ مردّ ذلك إلى اظهار الآمر بأ نّه لا يرضى بتركه وعدم وقوعه أبداً،وبطبيعة الحال أنّ هذه النكتة تناسب مع إطار الوجوب والحتم وهي تؤكّده،وحيث إنّ تلك النكتة منتفية في الصيغة فلأجل ذلك تكون دلالتها على الوجوب أقوى من دلالتها عليه.
وإن شئت قلت:إنّ الجمل الفعلية في هذا المقام قد استعملت في معناها، لا أ نّها لم تستعمل فيه،ولكن الداعي على هذا الاستعمال لم يكن هو الاخبار
والاعلام،بل هو البعث والطلب.نظير سائر الصيغ الانشائية حيث قد يكون الداعي على استعمالها في معانيها الايقاعية أمراً آخر.
الثانية: أ نّها لا تتصف بالكذب عند عدم وقوع المطلوب في الخارج،وذلك لأنّ اتصافها به إنّما يلزم فيما إذا كان استعمالها في معناها بداعي الاخبار والحكاية، وأمّا إذا كان بداعي الانشاء والطلب فلا يعقل اتصافها به،ضرورة أ نّه لا واقع للانشاء كي يعقل اتصافها به.
الثالثة: أنّ الجملة الفعلية لو لم تكن ظاهرةً في الوجوب فلا إشكال في تعيّنه من بين سائر المحتملات بواسطة مقدّمات الحكمة،والسبب في ذلك:هو أنّ النكتة المتقدمة حيث كانت شديدة المناسبة مع الوجوب فهي قرينة على إرادته وتعيينه عند عدم قيام البيان على خلافه،وهذا بخلاف غير الوجوب،فانّ إرادته من الاطلاق تحتاج إلى مؤونة زائدة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي خاطئة على ضوء كلتا النظريتين في باب الانشاء يعني نظريّتنا ونظريّة المشهور.
أمّا على ضوء نظريّتنا فواضح،والسبب في ذلك ما حققناه في بابه 1من أنّ حقيقة الانشاء وواقعه الموضوعي بحسب التحليل العلمي عبارة عن اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكل ذلك،فالجملة الانشائية موضوعة للدلالة على ذلك فحسب،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّا قد حققنا هناك أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة
على قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.
ومن ناحية ثالثة:أنّ المستعمل فيه والموضوع له في الجمل المزبورة إذا استعملت في مقام الانشاء يباين المستعمل فيه والموضوع له في تلك الجمل إذا استعملت في مقام الاخبار،فانّ المستعمل فيه على الأوّل هو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،وعلى الثاني قصد الحكاية والاخبار عن الواقع.
فالنتيجة على ضوئها هي عدم الفرق في الدلالة على الوجوب بين تلك الجمل وبين صيغة الأمر،لفرض أنّ كلتيهما قد استعملتا في معنى واحد وهو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:انتفاء النكتة المتقدمة،فانّها تقوم على أساس استعمال الجمل الفعلية في معناها الخبري ولكن بداعي الطلب والبعث.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا فرق بين الجمل الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء وبين صيغة الأمر أصلاً،فكما أنّ الصيغة لا تدل على الوجوب ولا على الطلب ولا على البعث والتحريك ولا على الارادة،وإنّما هي تدل على إبراز اعتبار شيء على ذمّة المكلّف،فكذلك الجمل الفعلية،وكما أنّ الوجوب مستفاد من الصيغة بحكم العقل بمقتضى قانون العبودية والرقية،كذلك الحال في الجمل الفعلية حرفاً بحرف.
فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ دلالتها على الوجوب آكد من دلالة الصيغة عليه لا واقع موضوعي له.
وأمّا على نظريّة المشهور،فالأمر أيضاً كذلك،والوجه فيه واضح،وهو أنّ ما تستعمل فيه تلك الجمل في مقام الانشاء غير ما تستعمل فيه في مقام الاخبار، فلا يكون المستعمل فيه في كلا الموردين واحداً،ضرورة أ نّها على الأوّل قد استعملت في الطلب وتدل عليه،وعلى الثاني في ثبوت النسبة في الواقع أو
نفيها،ومن الطبيعي أ نّنا لا نعني بالمستعمل فيه والمدلول إلّاما يفهم من اللفظ عرفاً ويدل عليه في مقام الاثبات.
وعلى الجملة:فلا ينبغي الشك في أنّ المتفاهم العرفي من الجملة الفعلية التي تستعمل في مقام الانشاء غير ما هو المتفاهم العرفي منها إذا استعملت في مقام الاخبار،مثلاً المستفاد عرفاً من مثل قوله (عليه السلام) يعيد الصلاة،أو يتوضأ،أو يغتسل للجمعة والجنابة أو ما شاكل ذلك،على الأوّل ليس إلّا الطلب والوجوب،كما أنّ المستفاد منها على الثاني ليس إلّاثبوت النسبة في الواقع أو نفيها.فإذن كيف يمكن القول بأ نّها تستعمل في كلا المقامين في معنى واحد،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ هذه الجمل على ضوء هذه النظريّة لا تدل على الوجوب أصلاً فضلاً عن كون دلالتها عليه آكد من دلالة الصيغة.
والسبب في ذلك:هو أ نّها حيث لم تستعمل في معناها الحقيقي بداعي الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها،فقد أصبحت جميع الدواعي محتملة في نفسها،فكما يحتمل استعمالها في الوجوب والحتم والطلب والبعث،فكذلك يحتمل استعمالها في التهديد أو السخرية أو ما شاكل ذلك.ومن الطبيعي أنّ إرادة كل ذلك تفتقر إلى قرينة معيّنة،ومع انتفائها يتعيّن التوقف والحكم باجمالها.ومن هنا أنكر جماعة منهم صاحب المستند (قدس سره) 1في عدّة مواضع من كلامه دلالة الجملة الخبرية على الوجوب.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ نظريّة المشهور تشترك مع نظريّتنا في نقطة وتفترق في نقطة واحدة.
أمّا نقطة الاشتراك،وهي أنّ هذه الجمل على أساس كلتا النظريتين تستعمل في مقام الانشاء في معنى هو غير المعنى الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
وأمّا نقطة الافتراق،وهي أنّ تلك الجمل تدل على الوجوب بحكم العقل على أساس نظريتنا ولا تدل عليه على أساس نظريّة المشهور.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من النكتة فهو إنّما يتم على أساس أن تكون الجملة مستعملة في معناها لكن بداعي الطلب والبعث،لا بداعي الاخبار والحكاية،وحيث قد عرفت أ نّها لم تستعمل فيه بل استعملت في معنى آخر وهو الوجوب أو البعث والطلب،فلا موضوع لها عندئذ أصلاً.
هذا،مضافاً إلى أ نّه لا يتم على ضوء الأساس المذكور أيضاً،وذلك لأنّ النكتة المذكورة لو كانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية على إرادة الوجوب وتعيينه، لكانت مقتضية لحمل الجمل الخبرية الاسمية كزيد قائم،والجمل الماضوية في غير الجملة الشرطية على الوجوب أيضاً إذا كانتا مستعملتين في مقام الانشاء، مع أنّ استعمالهما في ذلك المقام لعلّه من الأغلاط الفاحشة،ولذا لم نجد أحداً ادّعى ذلك لا في اللغة العربية،ولا في غيرها.
وبكلمة اخرى:أنّ المصحّح لاستعمال الجمل الخبرية الفعلية في معناها بداعي الطلب والبعث إن كان تلك النكتة،فالمفروض أ نّها مشتركة بين كافّة الجمل الخبرية من الاسمية والفعلية،فلا خصوصية من هذه الناحية للجمل الفعلية،فإذن ما هو النكتة لعدم جواز استعمالها في مقام الانشاء دونها.
وإن كان من جهة أنّ هذا الاستعمال استعمال في معناها الموضوع له والمستعمل فيه،غاية الأمر الداعي له قد يكون الاعلام والاخبار،وقد يكون الطلب
والبعث،فلا تحتاج صحّة مثل هذا الاستعمال إلى مصحح خارجي،فإن كانت النكتة هذا لجرى ذلك في بقية الجملات الخبرية أيضاً حرفاً بحرف مع أ نّك قد عرفت عدم صحّة استعمالها في مقام الطلب والانشاء.
ومن ذلك يعلم أنّ المصحح للاستعمال المزبور خصوصية اخرى غير تلك النكتة،وهي موجودة في خصوص الجمل الفعلية من المضارع والماضي إذا وقع جزاء في الجملة الشرطية،ولم تكن موجودة في غيرها،ولذا صحّ استعمالها في مقام الطلب دون غيرها حتّى مجازاً فضلاً عن أن يكون الاستعمال حقيقياً.
فالنتيجة عدّة امور:
الأوّل:أنّ النكتة المذكورة لم تكن مصححة لاستعمال الجمل الفعلية في مقام الانشاء والطلب.
الثاني:أ نّها في مقام الطلب والبعث لم تستعمل في معناها الموضوع له على رغم اختلاف الداعي كما عرفت.
الثالث:أنّ المصحح له خصوصية اخرى ونكتة ثانية،دون ما ذكره من النكتة.
وأمّا النقطة الثانية: فهي في غاية الصحّة والمتانة،ضرورة أنّ الجملة الفعلية إذا استعملت في مقام الانشاء لم يعقل اتصافها بالكذب من دون فرق في ذلك بين نظريتنا ونظريته (قدس سره).
وأمّا النقطة الثالثة: فقد تبيّن خطؤها في ضمن البحوث السالفة بوضوح فلا حاجة إلى الاعادة.
ثمّ إنّ الثمرة تظهر بين النظريتين في مثل قوله (عليه السلام):اغتسل للجمعة والجنابة،مع العلم بعدم وجوب غسل الجمعة،وذلك أمّا بناءً على نظريتنا من
أنّ الدال على الوجوب العقل دون الصيغة فالأمر ظاهر،فانّ الصيغة إنّما تدل على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،ولا تدل على ما عدا ذلك، وهو معنى حقيقي لها،غاية الأمر حيث قام دليل من الخارج على جواز ترك غسل الجمعة والترخيص فيه،فالعقل لا يلزم العبد باتيانه وامتثاله خاصّة، ولكنّه يلزمه بالاضافة إلى امتثال غسل الجنابة بمقتضى قانون العبودية والمولوية حيث لم تقم قرينة على جواز تركه،ومن الطبيعي أنّ كلّ ما لم تقم قرينة على جواز تركه فالعقل يستقل بلزوم إتيانه قضاءً لرسم العبودية،وأداءً لحقّ المولوية.
وأمّا بناءً على نظريّة المشهور فالصيغة في أمثال المقام لم تستعمل في معناها الحقيقي وهو الوجوب يقيناً،لفرض أنّ غسل الجمعة غير واجب،وعليه فلا مناص من الالتزام بأن يكون المستعمل فيه مطلق الطلب الجامع بين الوجوب والندب،فتحتاج إرادة كل منهما إلى قرينة معيّنة،ومع عدمها لا بدّ من التوقف.
وعلى الجملة:فالصيغة أو ما شاكلها في أمثال المقام استعملت في معناها الحقيقي على ضوء نظريتنا من دون حاجة إلى عناية زائدة،ولم تستعمل فيه على ضوء نظريّة المشهور.
الجهة الرابعة: يقع الكلام في الواجب التوصلي والتعبدي،وقبل بيانهما نقدّم مقدّمةً،وهي أنّ الواجب التوصلي يطلق على معنيين:
وذلك كغسل الميت وكفنه ودفنه وما شاكل ذلك،حيث إنّها واجبات في الشريعة الاسلامية ولا يعتبر في صحّتها قصد القربة والاتيان بها مضافاً إلى اللّٰه (سبحانه وتعالى) فلو أتى بها بدون ذلك
سقطت عن ذمّته.
نعم،استحقاق الثواب عليها يرتكز على الاتيان بها بقصد القربة وبدونه لايستحق وإن حصل الإجزاء.ولا ينافي ذلك اعتبار امور اخر في صحّتها،مثلاً يعتبر في صحّة غسله أن يكون الغاسل بالغاً،وأن يكون مماثلاً ولو كان غيره بطل إلّافي موارد خاصّة،وأن يكون الماء مباحاً،وأن تكون الأغسال الثلاثة مترتبة وغير ذلك.
وفي مقابله ما يعتبر فيه قصد القربة وهو المعبّر عنه بالواجب التعبدي،فلو أتى به بدون ذلك لم يسقط عنه وكان كمن لم يأت به أصلاً.
سواء أكان بالتبرع أم بالاستنابة،بل ربّما لايعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ،فلو تحقق من دون التفات وبغير اختيار،أو في ضمن فرد محرّم كفى.
وإن شئت قلت:إنّ الواجب التوصلي مرّةً يطلق ويراد به ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلف.ومرّةً اخرى يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار.ومرّةً ثالثة يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ.
ويقابل القسم الأوّل ما تعتبر فيه المباشرة.والقسم الثاني ما يعتبر فيه الالتفات والاختيار.والقسم الثالث ما يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ فلو أتى به في ضمن فرد محرّم لم يسقط.
ثمّ إنّ القسم الأوّل من الواجب التوصلي بالمعنى الثاني قد يجتمع مع الواجب التعبدي بالمعنى الأوّل-وهو ما يعتبر فيه قصد القربة-في عدّة موارد:
منها: الزكاة فانّها رغم كونها واجبةً تعبّديةً يعتبر فيها قصد القربة والامتثال،
تسقط عن ذمّة المكلف بفعل الغير سواء أكان بالاستنابة أم كان بالتبرع إذا كان مع الاذن،وأمّا لو كان بدونه فالسقوط لايخلو عن إشكال،وإن نسب إلى جماعة.
ومنها: الصلوات الواجبة على وليّ الميت،فانّها تسقط عن ذمّته باتيان غيره،كان بالاستنابة أم كان بالتبرّع رغم كونها واجبات تعبّدية.
ومنها: صلاة الميت فانّها تسقط عن ذمّة المكلف بفعل الصبي المميّز نائباً كان أم متبرعاً،كما ذهب إليه جماعة منهم السيِّد (قدس سره) في العروة 1وقرّره على ذلك أصحاب الحواشي.
ومنها: الحج فانّه واجب على المستطيع ولم يسقط بعجزه عن القيام بأعماله إمّا من ناحية ابتلائه بمرض لايُرجى زواله،وإمّا من ناحية كهولته وشيخوخته، ولكن مع ذلك يسقط عنه بقيام غيره به رغم كونه واجباً تعبدياً.ومنها غير ذلك.
فالنتيجة:هي أ نّه لا ملازمة بين كون الواجب تعبدياً وعدم سقوطه بفعل الغير،فان هذه الواجبات بأجمعها واجبات تعبدية فمع ذلك تسقط بفعل الغير.
ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين هذا القسم من الواجب التوصلي وبين الواجب التعبدي بالمعنى الأوّل عموم وخصوص من وجه،حيث ينفرد الأوّل عن الثاني بمثل تطهير الثياب من الخبث وما شاكله،فانّه يسقط عن المكلف بقيام غيره به،ولا يعتبر فيه قصد القربة.وينفرد الثاني عن الأوّل بمثل الصلوات اليومية وصيام شهر رمضان وما شاكلهما،فانّها واجبات تعبدية لا تسقط عن المكلف بقيام غيره بها.ويلتقيان في الموارد المتقدمة.
كما أنّ النسبة بينه وبين الواجب التوصلي بالمعنى الأوّل عموم وخصوص
من وجه،حيث يمتاز الأوّل عن الثاني بمثل وجوب ردّ السلام،فانّه واجب توصلي لا يعتبر فيه قصد القربة،ولكن يعتبر فيه قيد المباشرة من نفس المسلَّم عليه،ولا يسقط بقيام غيره به.
ومن هذا القبيل وجوب تحنيط الميت،حيث قد ذكرنا في بحث الفقه 1أ نّه لا يسقط عن البالغ بقيام الصبي المميز به.
ويمتاز الثاني عن الأوّل بالموارد المتقدمة،حيث إنّها واجبات تعبدية يعتبر فيها قصد القربة،ومع ذلك تسقط بفعل الغير،ويلتقيان في موارد كثيرة كوجوب إزالة النجاسة وما شاكلها،فانّها واجبة توصلية بالمعنى الأوّل والثاني فلا يعتبر فيها قصد القربة،وتسقط بقيام الغير بها كالصبي ونحوه،كما تسقط فيما إذا تحققت بغير التفات واختيار،بل ولو في ضمن فرد محرّم.
وأمّا النسبة بين الواجب التعبدي بالمعنى الأوّل والواجب التعبدي بالمعنى الثاني أيضاً عموم من وجه،حيث يفترق الأوّل عن الثاني بالواجبات التعبدية التي لا يعتبر فيها قيد المباشرة من نفس المكلف كالأمثلة التي تقدّمت،فانّها واجبات تعبدية بالمعنى الأوّل دون المعنى الثاني.ويفترق الثاني عن الأوّل بمثل وجوب ردّ السلام ونحوه،فانّه واجب تعبدي بالمعنى الثاني حيث يعتبر فيه قيد المباشرة دون المعنى الأوّل حيث لا يعتبر فيه قصد القربة،ويلتقيان في كثير من الموارد كالصلوات اليومية ونحوها.
وبعد ذلك نقول: لا كلام ولا إشكال فيما إذا علم كون الواجب توصلياً أو تعبّدياً بالمعنى الأوّل أو الثاني،وإنّما الكلام والاشكال فيما إذا شكّ في كون الواجب توصلياً أو تعبدياً.والكلام فيه تارة يقع في الشك في التوصلي والتعبدي بالمعنى
الثاني.وتارةً اخرى يقع في الشك فيه بالمعنى الأوّل.فهنا مقامان:
أمّا الكلام في المقام الأوّل فيقع في مسائل ثلاث:
الاُولى: ما إذا ورد خطاب من المولى متوجهاً إلى شخص أو جماعة وشككنا في سقوطه بفعل الغير،فقد نسب إلى المشهور أنّ مقتضى الاطلاق سقوطه وكونه واجباً توصلياً،من دون فرق في ذلك بين كون فعل الغير بالتسبيب أو بالتبرع،أو بغير ذلك.وقد أطال شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1الكلام في بيانهما،ولكنّا لا نحتاج إلى نقله،بل هو لا يخلو عن تطويل زائد وبلا أثر حيث نبيّن الآن إن شاء اللّٰه تعالى أنّ مقتضى الاطلاق-لو كان-هو عكس ما نسب إلى المشهور،وأ نّه لايسقط بفعل غيره،بلا فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع، والسبب في ذلك:أنّ التكليف هنا بحسب مقام الثبوت يتصوّر على أحد أشكال:
الأوّل: أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل غيره،فيكون مردّه إلى كون الواجب أحد فعلين على سبيل التخيير.
وفيه: أنّ هذا الوجه غير معقول،وذلك لأنّ فعل الغير خارج عن اختيار المكلف وإرادته،فلا يعقل تعلّق التكليف بالجامع بينه وبين فعل نفسه.
وبكلمة اخرى:أنّ الاطلاق بهذا الشكل في مقام الثبوت والواقع غير معقول،لفرض أ نّه يبتني على أساس إمكان تعلّق التكليف بفعل الغير وهو مستحيل،فإذن بطبيعة الحال يختص التكليف بفعل المكلف نفسه فلا يعقل إطلاقه.
أو فقل:إنّ الاهمال في الواقع غير معقول،فيدور الأمر بين الاطلاق وهو تعلّق التكليف بالجامع،والتقييد وهو تعلّق التكليف بحصّة خاصّة،وحيث إنّ
الأوّل لا يعقل تعين الثاني.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا إمكانه بحسب مقام الثبوت،إلّاأنّ الاطلاق في مقام الاثبات لايعيّنه،وذلك لأنّ أمر التكليف عندئذ يدور بين التعيين والتخيير، ومن الواضح أنّ مقتضى الاطلاق هو التعيين،لأنّ التخيير في المقام الراجع إلى جعل فعل الغير عدلاً لفعل المكلف نفسه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خارجة فلا يمكن إرادته من الاطلاق.
الثاني: أن يكون متعلقه الجامع بين فعل المكلف نفسه وبين استنابته لغيره، ونتيجة ذلك هي التخيير بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لآخر.وهو في نفسه وإن كان أمراً معقولاً ولا بأس بالاطلاق من هذه الناحية وشموله لصورة الاستنابة،إلّاأ نّه خاطئ من جهتين اخريين:
الاُولى:أنّ لازم ذلك الاطلاق كون الاستنابة في نفسها مسقطة للتكليف، وهو خلاف المفروض،بداهة أنّ المسقط له إنّما هو الاتيان الخارجي فلا يعقل أن تكون الاستنابة مسقطةً وإلّا لكفى مجرد إجازة الغير في ذلك وهو كما ترى، وعليه فلا يمكن كونها عدلاً وطرفاً للتكليف حتّى يعقل تعلّقه بالجامع بينها وبين غيرها.
الثانية:لو تنزّلنا عن ذلك وأغمضنا النظر عن هذا،إلّاأنّ الأمر هنا يدور بين التعيين والتخيير،وقد عرفت أنّ قضيّة الاطلاق في مقام الاثبات إذا كان المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينةً هي التعيين دون التخيير،حيث إنّ بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة كالعطف بكلمة (أو) والاطلاق غير وافٍ له،ونتيجة ذلك عدم سقوطه عن ذمّة المكلف بقيام غيره به.
الثالث: أن يقال إنّ أمر التكليف في المقام يدور بين كونه مشروطاً بعدم قيام غير المكلف به وبين كونه مطلقاً،أي سواء قام غيره به أم لم يقم فهو
لا يسقط عنه.
ويمتاز هذا الوجه عن الوجهين الأوّلين بنقطة واحدة،وهي أنّ في الوجهين الأوّلين يدور أمر الواجب بين كونه تعيينياً أو تخييرياً،ولا صلة لهما بالوجوب.
وفي هذا الوجه يدور أمر الوجوب بين كونه مطلقاً أو مشروطاً ولا صلة له بالواجب.
ثمّ إنّ هذا الوجه وإن كان بحسب الواقع أمراً معقولاً ومحتملاً ولا محذور فيه أصلاً،إلّاأنّ الاطلاق في مقام الاثبات يقتضي عدم الاشتراط وأ نّه لا يسقط عن ذمّة المكلف بقيام غيره به،ومن الطبيعي أنّ الاطلاق في هذا المقام يكشف عن الاطلاق في ذاك المقام بقانون التبعية.ومن هنا ذكرنا في بحث الفقه في مسألة تحنيط الميت 1أنّ مقتضى إطلاق خطابه المتوجه إلى البالغين هو عدم سقوطه بفعل غيرهم وإن كانوا مميزين.وقد تحصّل من ذلك:أنّ مقتضى إطلاق كل خطاب متوجه إلى شخص خاص أو صنف هو عدم سقوطه عنه بقيام غيره به،فالسقوط يحتاج إلى دليل.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه تظهر أنّ ما هو المعقول والمحتمل بحسب الواقع من الوجوه المذكورة هو الوجه الأخير،أعني الشك في الاطلاق والاشتراط، دون الوجه الأوّل والثاني كما عرفت.وعندئذ فلا مناص من إرجاع الشك في أمثال المسألة إلى ذلك بعد افتراض عدم معقولية الوجه الأوّل والثاني.
وعلى هذا فلو شككنا في سقوط الواجب عن وليّ الميت مثلاً بفعل غيره تبرّعاً أو استنابةً،فبطبيعة الحال يرجع الشك في هذا إلى الشك في الاطلاق والاشتراط،وسيأتي في ضمن البحوث الآتية بشكل موسّع أنّ مقتضى إطلاق
الخطاب عدم الاشتراط كما أشرنا إليه آنفاً أيضاً.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي في المسألة عدم التوصلية،هذا إذا كان في البين إطلاق.
وأمّا إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضي الاشتغال،وذلك لأنّ المقام على ما عرفت داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين الاطلاق والاشتراط،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا في محلّه 1أنّ فعلية التكليف إنّما هي بفعلية شرائطه،فما لم يحرز المكلف فعلية تلك الشرائط لم يحرز كون التكليف فعلياً عليه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ الشك في إطلاق التكليف واشتراطه قد يكون مع عدم إحراز فعلية التكليف،وذلك كما إذا لم يكن ما يحتمل شرطيته متحققاً من الأوّل،ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يرجع الشك فيه إلى الشك في أصل توجه التكليف،كما إذا احتمل اختصاص وجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً بالرجل دون المرأة أو بالحرّ دون العبد،فلا محالة يتردد العبد ويشك في أصل توجه التكليف إليه،وكذلك المرأة وهو مورد لأصالة البراءة.
وقد يكون مع إحراز فعلية التكليف،وذلك كما إذا كان ما يحتمل شرطيته متحققاً من الابتداء ثمّ ارتفع وزال،ولأجله شكّ المكلف في بقاء التكليف الفعلي وارتفاعه،ومن الواضح أ نّه مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة،ولا يختص هذا بموردٍ دون مورد آخر،بل يعمّ كافّة الموارد التي شكّ فيها ببقاء التكليف بعد اليقين بثبوته واشتغال ذمّة المكلف به.
ومقامنا من هذا القبيل،فانّ الولي مثلاً يعلم باشتغال ذمّته بتكليف الميت
ابتداءً،ولكنّه شاك في سقوطه عن ذمّته بفعل غيره،وقد عرفت أنّ المرجع في ذلك هو الاشتغال وعدم السقوط.
وبكلمة اخرى:أنّ التكليف إذا توجّه إلى شخص وصار فعلياً في حقّه، فسقوطه عنه يحتاج إلى العلم بما يكون مسقطاً له،فكلّما شكّ في كون شيء مسقطاً له،سواء أكان ذلك فعل الغير أو شيئاً آخر،فمقتضى القاعدة عدم السقوط وبقاؤه في ذمّته.
ومن هذا القبيل ما إذا سلّم شخص على أحد فردّ السلام شخص ثالث، فبطبيعة الحال يشكّ المسلَّم عليه في بقاء التكليف عليه وهو وجوب ردّ السلام بعد أن علم باشتغال ذمّته به،ومنشأ هذا الشك هو الشك في اشتراط هذا التكليف بعدم قيام الغير به وعدم اشتراطه،فعلى الأوّل يسقط بفعله دون الثاني،ومن الطبيعي أنّ مردّ هذا الشك إلى الشك في السقوط وهو مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة،والسرّ في ذلك:ما ذكرناه في مبحث البراءة والاشتغال من أنّ أدلّة البراءة لا تشمل أمثال المقام،فتختص بما إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف.وأمّا إذا كان أصل ثبوته معلوماً والشك إنّما كان في سقوطه كما فيما نحن فيه فهو خارج عن موردها.
ومن هنا ذكرنا 1أنّ المكلف لو شكّ في سقوط التكليف عن ذمّته من جهة الشك في القدرة واحتمال العجز عن القيام به بعد فرض وصوله إليه وتنجّزه،كما إذا شكّ في وجوب أداء الدين عليه بعد اشتغال ذمّته به من جهة عدم إحراز تمكنه مع فرض مطالبة الدائن،فالمرجع في مثل ذلك بطبيعة الحال هو أصالة الاشتغال ووجوب الفحص عليه عن قدرته وتمكنه،ولا يمكنه التمسك بأصالة
البراءة،هذا بناءً على نظريتنا من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
وأمّا بناءً على جريانه فيها فلا تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال،بل المرجع هو استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه في أمثال المقام،وإن كانت النتيجة تلك النتيجة فلا فرق بينهما بحسبها.نعم،بناءً على جريان الاستصحاب فعدم جريان البراءة في المقام أوضح كما لا يخفى.
الثانية: ما إذا شكّ في سقوط واجب عن ذمّة المكلف فيما لو صدر منه بغير اختيار وإرادة،فهل مقتضى الاطلاق عدم السقوط إذا كان أو لا ؟ وجهان:ربّما قيل بالوجه الأوّل بدعوى أنّ الفعل عند الاطلاق ينصرف إلى حصّة خاصّة وهي الحصّة المقدورة،فالسقوط بغيرها يحتاج إلى دليل،وإلّا فالاطلاق يقتضي عدمه.ولكن هذه الدعوى خاطئة ولا واقع موضوعي لها،والسبب في ذلك:
أنّ منشأ هذا الانصراف لا يخلو من أن يكون موادّ الأفعال أو هيئاتها.
أمّا الموادّ فقد ذكرنا في بحث المشتق بشكل موسّع 1أ نّها موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن كافّة الخصوصيات،وهي مشتركة بين الحصص الاختيارية وغيرها،مثلاً مادّة ضرب وهي (ض ر ب) موضوعة لطبيعي الحدث الصادق على ما يصدر بالاختيار وبغيره من دون عناية،وهكذا.نعم،وضع بعض المواد لخصوص الحصّة الاختيارية،وذلك كالتعظيم والتجليل والسخرية والهتك وما شاكل ذلك.
وأمّا الهيئات فأيضاً كذلك،يعني أ نّها موضوعة لمعنى جامع بين المواد بشتّى أشكالها وأنواعها،أي سواء أكانت تلك المواد من قبيل الصفات كمادة علم وكرم وابيضّ واسودّ واحمرّ،وما شاكل ذلك،أو من قبيل الأفعال،وهي قد