آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
عنوان کتاب : محاضرات فی أصول الفقه
نام ناشر : موسسه احیاء آثار الامام الخویی
جلد : 2
تعداد صفحات: 526
الحمد للّٰهربّ العالمين،والصّلاة والسّلام علىٰ محمّد وآله الطيبين الطاهرين، واللّعنة الدائمة علىٰ أعدائهم أجمعين.
إذا علم بوجوب شيء وتردّد أمره بين الوجوب النفسي والغيري،أو بين التعييني والتخييري،أو بين العيني والكفائي فما هو مقتضى الأصل والقاعدة في ذلك ؟ فهنا مسائل ثلاث:
أمّا المسألة الاُولى: وهي ما إذا دار أمر الوجوب بين النفسي والغيري فالكلام فيها يقع في موردين:الأوّل:في الأصل اللّفظي.والثاني:في الأصل العملي.
أمّا المورد الأوّل: فلا ينبغي الشك في أنّ مقتضى الأصل اللفظي كعموم أو إطلاق هو النفسي،وذلك لأنّ بيان وجوب الغيري يحتاج إلى مؤونة زائدة باعتبار أ نّه قيد للواجب النفسي،ومن الواضح أنّ الاطلاق لا يفي لبيان كونه قيداً له.وعلى الجملة:فالتقييد يحتاج إلى مؤونة زائدة،مثلاً لو كان لقوله تعالى «وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ» 1إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصلاة بالطهارة أو نحوها، فالتقييد يحتاج إلى دليل ومؤونة زائدة،والاطلاق ينفيه،ولازم ذلك هو أنّ وجوب الطهارة المشكوك نفسي لا غيري.وكذا إذا أخذنا باطلاق الأمر بالطهارة، فان مقتضاه وجوبها مطلقاً،أي سواء أكانت الصلاة واجبة أم لا،فتقييد وجوبها بوجوب الصلاة يحتاج إلى دليل.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه يمكن إثبات نفسية الوجوب بطريقين:
الأوّل:الأخذ باطلاق دليل الواجب النفسي كالصلاة مثلاً،ودفع كل ما يحتمل أن يكون قيداً له كالطهارة أو استقبال القبلة أو نحو ذلك،ولازم هذا هو أنّ الواجب المحتمل دخله فيه كالطهارة مثلاً نفسي،وهذا اللّازم حجّة في باب الاُصول اللفظية.
الثاني:الأخذ باطلاق دليل الواجب المشكوك في كونه نفسياً أو غيرياً، وذلك لأنّ وجوبه لو كان غيرياً فهو مشروط بطبيعة الحال بوجوب واجب آخر نفسي،وإن كان نفسياً فهو مطلق وغير مقيّد به،وعليه فإذا شكّ في أ نّه نفسي أو غيري فمقتضى إطلاق دليله وعدم تقييده بما إذا وجب شيء آخر هو الحكم بكونه نفسياً،والفرق بين الاطلاقين هو أنّ الأوّل تمسك باطلاق المادة، والثاني تمسك باطلاق الهيئة،فاذا تمّ كلا الاطلاقين أو أحدهما كفى لاثبات كون الواجب نفسياً.
إن شاء اللّٰه تعالى بشكل موسع فلا حاجة إلى البحث عنه في المقام.
وأمّا المسألة الثانية: وهي ما إذا دار الأمر بين كون الواجب تعيينياً أو تخييرياً،فأيضاً يقع الكلام فيها في مقامين:الأوّل:في مقتضى الأصل اللفظي.
الثاني:في مقتضى الأصل العملي.
أمّا المقام الأوّل: فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الواجب التخييري فنقول:إنّ الأقوال فيه ثلاثة:
الأوّل: أنّ الواجب ما اختاره المكلف في مقام الامتثال،ففي موارد التخيير بين القصر والتمام مثلاً لو اختار المكلف القصر فهو الواجب عليه ولو عكس فبالعكس.
الثاني: أن يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجباً تعيينياً ومتعلقاً للارادة، ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر،فيكون مردّ هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الاتيان بالآخر.
الثالث: ما اخترناه من أنّ الواجب هو أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه، وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية،غاية الأمر أنّ متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة والجامع الحقيقي،وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني،وقد ذكرنا في محله أ نّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً،بل تتعلق به الصفات الحقيقية كالعلم والارادة وما شاكلهما،وذكرنا أ نّه لا واقع للمعلوم
بالاجمال في موارد العلم الاجمالي ما عدا عنوان أحدهما أو أحدها حتّى في علم اللّٰه تعالى،فاذا تعلقت به الصفات الحقيقية فما ظنّك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض.وقد تقدّم منّا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية امور اعتبارية وليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار الشارع،ومن المعلوم أنّ الأمر الاعتباري كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي، فلا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال على ذمة المكلف،ونتيجة ذلك هي أنّ بقاءه مشروط بعدم تحقق شيء منهما أو منها في الخارج.
وبعد ذلك نقول: إنّ مقتضى إطلاق الأمر المتعلق بشيء هو التعيين لا التخيير على جميع الأقوال في المسألة،أمّا على القول الأوّل فواضح،لفرض أنّ وجوب كل منهما مشروط باختيار المكلف،ومن الطبيعي أنّ مقتضى الاطلاق عدمه، فالاشتراط يحتاج إلى دليل زائد.وأمّا على القول الثاني فالأمر أيضاً كذلك، لفرض أنّ وجوب كلٍ مشروط بعدم الاتيان بالآخر،ومقتضى الاطلاق عدمه وبه يثبت الوجوب التعييني.
وأمّا على القول الثالث كما هو المختار فلأنّ مرجع الشك في التعيين والتخيير فيه إلى الشك في متعلق التكليف من حيث السعة والضيق،يعني أنّ متعلقه هو الجامع أو خصوص ما تعلق به الأمر،كما إذا ورد الأمر مثلاً باطعام ستِّين مسكيناً وشككنا في أنّ وجوبه تعييني أو تخييري،يعني أنّ الواجب هو خصوص الاطعام أو الجامع بينه وبين صيام شهرين متتابعين،ففي مثل ذلك لا مانع من الأخذ باطلاقه لاثبات كون الواجب تعيينياً لا تخييرياً،لأنّ بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة وهي ذكر العدل بالعطف بكلمة (أو) وحيث لم يكن فيكشف عن عدمه في الواقع،ضرورة أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت.
أو فقل:إنّ الواجب لو كان تخييرياً فبقاء وجوبه مقيد بعدم الاتيان بفرد ما من أفراده في الخارج،ومن المعلوم أنّ مقتضى الاطلاق عدم هذا التقييد وأنّ الواجب هو الفعل الخاص.ويمكن أن يقرر هذا بوجه آخر:وهو أنّ الأمر المتعلق بشيء خاص كالاطعام مثلاً فالظاهر هو أنّ للعنوان المذكور المتعلق به الأمر دخلاً في الحكم،فلو كان الواجب هو الجامع بينه وبين غيره ولم يكن للعنوان المزبور أيّ دخل فيه فعليه البيان،وحيث لم يقم بيان عليه فمقتضى الاطلاق هو وجوبه الخاص،دون الجامع بينه وبين غيره،وهذا هو معنى أنّ الاطلاق يقتضي التعيين.
1
إن شاء اللّٰه تعالى فلا حاجة إليه هنا.
وأمّا المسألة الثالثة: وهي ما إذا دار الأمر بين الواجب الكفائي والعيني، فيقع الكلام فيها أيضاً تارة في مقتضى الأصل اللفظي،وتارة اخرى في مقتضى الأصل العملي.
أمّا الكلام في المورد الأوّل: فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الوجوب الكفائي فنقول:إنّ ما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه:
الأوّل: أن يقال:إنّ التكليف متوجه إلى واحد معيّن عند اللّٰه ولكنه يسقط عنه بفعل غيره،لفرض أنّ الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.
الثاني: أن يقال:إنّ التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع،بدعوى أ نّه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الاُمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي كالصلاة مثلاً إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً،كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي.
الثالث: أن يقال:إنّ التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان،غاية الأمر أنّ وجوبه على كلٍ مشروط بترك الآخر.
الرابع: أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه،المعبّر عنه
بصرف الوجود،وهذا الوجه هو الصحيح.
بيان ذلك ملخّصاً:هو أن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة، واُخرى بمطلق وجودها،كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين واُخرى بصدوره عن صرف وجودهم.فعلى الأوّل،الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر.وعلى الثاني،فالواجب كفائي بمعنى أ نّه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد منهم ويسقط بفعل بعض عن الباقي، وهذا واقع في العرف والشرع.
أمّا في العرف:فكما إذا أمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بفعل في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدوره من شخص خاص منهم،ولذا أيّ واحد منهم قام به وأوجده في الخارج حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة.
وأمّا في الشرع:فأيضاً كذلك،كما في أمره بدفن الميت أو كفنه أو نحو ذلك، حيث إنّ غرضه لم يتعلق بصدوره عن خصوص واحد منهم،بل المطلوب وجوده في الخارج من أيّ واحد منهم كان،وذلك لأنّ نسبة ذلك الغرض الوحداني إلى كل واحد من أفراد المكلفين على السوية،فعندئذٍ تخصيص واحد معيّن منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح،وتخصيص المجموع منهم على نحو العموم المجموعي بتحصيل ذلك الغرض،مع أ نّه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة كما برهن في محله،وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتض وسبب بعد افتراض أنّ الغرض واحد يحصل بفعل بعض منهم،فاذن يتعيّن وجوبه على واحد منهم على نحو صرف الوجود.
وبعد ذلك نقول: إنّ مقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب العيني على جميع هذه الوجوه والاحتمالات.
أمّا على الوجه الأوّل:فواضح،لأنّ سقوط التكليف عن شخص بفعل غيره يحتاج إلى دليل،وإلّا فمقتضى إطلاقه عدم سقوطه به.أو فقل:إنّ مردّ هذا إلى اشتراط التكليف بعدم قيام غيره بامتثاله وهو خلاف الاطلاق.
وأمّا على الوجه الثاني:فمضافاً إلى أ نّه في نفسه غير معقول فأيضاً الأمر كذلك،لأنّ مقتضى إطلاق الدليل هو أنّ كل واحد من أفراد المكلف موضوع للتكليف.وجعل الموضوع له مجموع أفراده على نحو العموم المجموعي بحيث يكون كل فرد من أفراده جزءه لاتمامه خلاف الاطلاق،وعند احتماله يدفع به.
وأمّا على الوجه الثالث:فالأمر ظاهر،ضرورة أنّ قضيّة الاطلاق عدم الاشتراط،فالاشتراط يحتاج إلى دليل خاص.
وأمّا على الوجه الرابع:فأيضاً الأمر كذلك،حيث إنّ حاله بعينه هو حال الوجه الثالث في الوجوب التخييري فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،غاية الأمر أنّ الأوّل متعلق بالمأمور به والثاني بالمكلفين.وعلى الجملة ففيما إذا ورد الأمر متوجهاً إلى شخص خاص أو صنف مخصوص وشككنا في أ نّه كفائي أو عيني،يعني أنّ موضوعه هو الجامع بينه وبين غيره أو خصوص هذا الفرد أو ذاك الصنف،فلا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات كونه عينياً.
ويمكن أن يقرّب هذا بوجه آخر:وهو أنّ ظاهر الأمر المتوجه إلى شخص خاص أو صنف مخصوص هو أنّ لخصوص عنوانه دخلاً في الموضوع،ومتى لم تكن قرينة على عدم دخله وأنّ الموضوع هو طبيعي المكلف فاطلاق الدليل يقتضي دخله،ولازم ذلك هو كون الوجوب عينياً لا كفائياً.
فيقع في مبحث
البراءة والاشتغال وسيجيء 1إن شاء اللّٰه تعالى أنّ مقتضى الأصل هناك البراءة دون الاشتغال.إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي في المسائل الثلاث هو كون الواجب نفسياً تعيينياً عينياً.
إذا وقع الأمر عقيب الحظر أو توهمه فهل يدل على الوجوب كما نسب إلى كثير من العامّة 1،أو على الاباحة كما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، أو هو تابع لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علة النهي لا مطلقاً ؟ وجوه بل أقوال.
والتحقيق هو أ نّه لا يدل على شيء من ذلك،من دون فرق بين نظريتنا في مفاد الصيغة وما شاكلها ونظرية المشهور في ذلك.أمّا على ضوء نظريتنا فلأنّ العقل إنّما يحكم بلزوم قيام المكلف بما أمر به المولى بمقتضى قانون المولوية والعبودية إذا لم تقم قرينة على الترخيص وجواز الترك،وحيث يحتمل أن يكون وقوع الصيغة أو ما شاكلها عقيب الحظر أو توهمه قرينة على الترخيص فلا ظهور لها في الوجوب بحكم العقل.
وإن شئت قلت:إنّها حيث كانت محفوفة بما يصلح للقرينية فلا ينعقد لها ظهور فيه.إذن فحمل الصيغة أو ما شاكلها في هذا الحال على الوجوب يقوم على أساس أمرين:
أحدهما:أن تكون الصيغة موضوعة للوجوب.
وثانيهما:أن تكون أصالة الحقيقة حجة من باب التعبد كما نسب إلى السيِّد
(قدس سره) 1وحيث إنّه لا واقع موضوعي لكلا الأمرين على ضوء نظريتنا فلا مقتضي لحملها على الوجوب أصلاً،ومن هنا يظهر أ نّه لا مقتضي لحملها عليه على ضوء نظرية المشهور أيضاً،فانّ الصيغة أو ما شابهها على ضوء هذه النظرية وإن كانت موضوعة للوجوب إلّاأ نّه لا دليل على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد،وإنّما هي حجة من باب الظهور ولا ظهور في المقام،لما عرفت من احتفافها بما يصلح للقرينية،ومن ذلك يظهر أ نّه لا وجه لدعوى حملها على الاباحة أو تبعيتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي،وذلك لأنّ هذه الدعوى تقوم على أساس أن يكون وقوعها عقيب الحظر أو توهمه قرينة عامّة على إرادة أحدهما بحيث تحتاج إرادة غيرهما إلى قرينة خاصة،إلّاأنّ الأمر ليس كذلك،لاختلاف موارد استعمالها فلا ظهور لها في شيء من المعاني المزبورة.
فالنتيجة:أ نّها مجملة،فارادة كل واحد من تلك المعاني تحتاج إلى قرينة.
لا إشكال في انحلال الأحكام التحريمية بانحلال موضوعاتها كما تنحل بانحلال المكلفين خارجاً،ضرورة أنّ المستفاد عرفاً من مثل قضية لا تشرب الخمر أو ما شاكلها انحلال الحرمة بانحلال وجود الخمر في الخارج،وأ نّه متى ما وجد فيه خمر كان محكوماً بالحرمة،كما هو الحال في كافة القضايا الحقيقية.
وأمّا التكاليف الوجوبية فأيضاً لا إشكال في انحلالها بانحلال المكلفين وتعددها بتعددهم،بداهة أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1أو ما شاكله،هو تعدد وجوب الحج بتعدد أفراد المستطيع خارجاً.وأمّا انحلالها بانحلال موضوعاتها فيختلف ذلك باختلاف الموارد فتنحل في بعض الموارد دون بعضها الآخر.
ومن الأوّل: قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» 2وقوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» 3وما شاكلهما،حيث إنّ المتفاهم العرفي منهما هو الانحلال وتعدد وجوب الصلاة ووجوب الصوم عند تعدد الدلوك والرؤية.
ومن الثاني: قوله تعالى «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» إلخ،حيث إنّ المستفاد
منه عرفاً عدم انحلال وجوب الحج بتعدّد الاستطاعة خارجاً في كل سنة، بل المستفاد منه أنّ تحقق الاستطاعة لدى المكلف يقتضي وجوب الحج عليه فلو امتثل مرّة واحدة كفى ولا يلزمه التكرار بعد ذلك وإن تجددت استطاعته مرّة ثانية.
وبعد ذلك نقول:إنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها لا تدل على التكرار ولا على المرّة في كلا الموردين،واستفادة الانحلال وعدمه إنّما هي بسبب قرائن خارجية وخصوصيات المورد لا من جهة دلالة الصيغة عليه وضعاً.
وبكلمة اخرى:أنّ المرّة والتكرار في الأفراد الطولية والوحدة والتعدد في الأفراد العرضية جميعاً خارج عن إطار مدلول الصيغة مادة وهيئة،والوجه في هذا واضح،وهو أنّ الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تدل عليه بمادتها أو بهيئتها ولا ثالث لهما،والمفروض أ نّها لا تدل بشيء منهما على ذلك.
أمّا من ناحية المادة:فلفرض أ نّها موضوعة للدلالة على الطبيعة المهملة المعراة عنها كافة الخصوصيات،منها المرّة والتكرار والوحدة والتعدد فلا تدل على شيء منها.
وأمّا من ناحية الهيئة:فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أ نّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،فلا تدل على خصوصية زائدة على ذلك،كالانحلال وعدمه أصلاً.
فالنتيجة: أن هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعي، فعندئذٍ إن قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيات المذكورة فهو،وإلّا فالمرجع ما هو مقتضى الأصل اللفظي أو العملي.
أمّا الأصل اللفظي، كأصالة الاطلاق أو العموم إذا كان،فلا مانع من التمسك به لاثبات الاكتفاء بالمرة الواحدة في الأفراد الطولية،وهذا لا من ناحية أخذها في معنى هيئة الأمر أو مادته،لما عرفت من عدم دلالة الصيغة عليه بوجه،بل من ناحية أن متعلق الأمر هو صرف الطبيعة،وهو وإن كان كما يصدق بالمرة الواحدة يصدق بالتكرار،إلّاأنّ الاكتفاء به في ضمن المرّة الواحدة من جهة صدق الطبيعة عليها خارجاً الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر،وعندئذ فلا يبقى مقتض للتكرار أصلاً،كما أ نّه لا مانع من التمسك به لاثبات الاكتفاء بوجود واحد في الأفراد العرضية،وهذا لا من ناحية أخذ الوحدة في معنى الأمر، لما عرفت من عدم أخذها فيه،بل من ناحية صدق الطبيعة عليه خارجاً الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر فلا يبقى مقتض للتعدد.
وأمّا الأصل العملي في المقام،فهو أصالة البراءة عن اعتبار الأمر الزائد.
وعلى الجملة:أنّ ما هو ثابت على ذمة المكلف ولا شك فيه أصلاً هو اعتبار طبيعي الفعل،وأمّا الزائد عليه وهو تقييده بالتكرار أو بعدمه في الأفراد الطولية أو تقييده بالتعدد أو بعدمه في الأفراد العرضية فحيث لا دليل على اعتباره، فمقتضى الأصل هو البراءة عنه،فإذا جرت أصالة البراءة عن ذلك في كلا الموردين ثبت الاطلاق ظاهراً،ومعه يكتفى بطبيعة الحال بالمرة الواحدة،لصدق الطبيعة عليها الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر،كما إذا أمر المولى عبده باعطاء درهم للفقير فأعطاه درهماً واحداً يحصل به الامتثال،لصدق الطبيعي عليه وعدم الدليل على اعتبار أمر زائد،هذا لا إشكال فيه.
وإنّما الاشكال والنزاع في إتيان المأمور به ثانياً بعد إتيانه أوّلاً،ويُسمّى ذلك بالامتثال بعد الامتثال،فهل يمكن ذلك أم لا ؟ فيه وجوه،ثالثها:التفصيل بين بقاء الغرض الأقصى وعدمه،وقد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) هذا التفصيل وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه:
والتحقيق أنّ قضية الاطلاق إنّما هو جواز الاتيان بها مرّة في ضمن فرد أو أفراد،فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد، لا جواز الاتيان بها مرّة أو مرّات،فانّه مع الاتيان بها مرّة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّده،فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالاً واحداً،لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الأمر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً.
وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض،كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلاً،فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقاً،كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء 1.
والصحيح هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال،وذلك لأنّ مقتضى تعلق الأمر بالطبيعة بدون تقييدها بشيء كالتكرار أو نحوه حصول الامتثال بايجادها في ضمن فردٍ ما في الخارج،لفرض انطباقها عليه قهراً،ولا نعني بالامتثال إلّا انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج،ومعه لا محالة يحصل الغرض ويسقط الأمر،فلا يبقى مجال للامتثال مرّة ثانية،لفرض سقوط الأمر بالامتثال الأوّل وحصول الغرض به،فالاتيان بها بداعيه ثانياً خلف.ومن هنا سنذكر إن شاء اللّٰه تعالى في مبحث الإجزاء أنّ الاتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر،فعدم الاجزاء غير معقول،بل لو لم يكن الامتثال الأوّل مسقطاً للأمر وموجباً لحصول الغرض لم يكن الامتثال الثاني أيضاً كذلك،لفرض أ نّه مثله فلا تفاوت بينهما،على أ نّه لا معنى لجواز الامتثال ثانياً بعد فرض بقاء الأمر والغرض.
وإن شئت قلت:إنّ لأمر واحد ليس إلّاامتثالاً واحداً،فعندئذ إن سقط الأمر بالامتثال الأوّل لم يعقل امتثاله ثانياً وإلّا وجب ذلك،ضرورة أنّ حدوث الغرض كما يوجب حدوث الأمر،كذلك بقاؤه يوجب بقاءه،فجواز الامتثال بعد الامتثال عندئذ لا يرجع إلى معنى معقول.نعم،إذا أتى المكلف بما لا ينطبق عليه المأمور به خارجاً وجب عليه الاتيان به مرّة ثانية،إلّاأ نّه ليس امتثالاً بعد الامتثال،لفرض أنّ الأوّل ليس امتثالاً له.
ومن ضوء هذا البيان يظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية (قدس سره) وهي الخلط بين الغرض المترتب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل شيء آخر فيه،وبين غرض الآمر كرفع العطش مثلاً،حيث إنّ حصوله يتوقف على فعل نفسه وهو الشرب زائداً على الاتيان بالمأمور به،ومن الطبيعي
أنّ المكلف لا يكون مأموراً بايجاده وامتثاله،لخروجه عن قدرته واختياره، فالواجب على المكلف ليس إلّاتمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدمات له، فانّه تحت اختياره وقدرته وهو يحصل بصرف الامتثال الأوّل.وكيف كان، فان حصل الغرض من الامتثال الأوّل وسقط الأمر لم يعقل الامتثال الثاني إلّا تشريعاً،وإن لم يحصل وجب ذلك ثانياً،وعلى كلا التقديرين فلا معنى لجوازه أصلاً.
نعم،قد يتوهم جواز ذلك في موردين:
أحدهما:في صلاة الآيات،حيث قد ورد فيها أنّ من صلّى صلاة الآيات فله أن يعيد صلاته مرّة ثانية ما دامت الآية باقية 1،وهذا يدل على جواز الامتثال مرّة ثانية بعد الامتثال الأوّل.
وثانيهما:في الصلاة اليومية،حيث قد ورد فيها أنّ من صلّى فرادى واُقيمت الجماعة فله أن يعيد صلاته مرّة اخرى فيها 2،وهذا أيضاً يدل على جواز الامتثال بعد الامتثال.
ولكن هذا التوهم خاطئ في كلا الموردين ولا واقع له.
أمّا في المورد الأوّل: فهو لا يدل على أزيد من استحباب الاعادة مرّة ثانية بداعي الأمر الاستحبابي،بداهة أنّ الأمر الوجوبي قد سقط بالامتثال الأوّل فلا تعقل الاعادة بداعيه.
وبكلمة اخرى:أنّ صلاة الآيات متعلقة لأمرين:أحدهما أمر وجوبي والآخر أمر استحبابي،غاية الأمر أنّ الأوّل تعلق بصرف طبيعة الصلاة والثاني
تعلق بها بعنوان الاعادة،ويستفاد الأمر الثاني من الروايات الواردة في المقام، وعليه فالاعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأوّل،لتكون من الامتثال بعد الامتثال،كيف فلو كانت بداعي الأمر الأوّل لكانت بطبيعة الحال واجبة،وعندئذ فلا معنى لجوازها.
فالنتيجة:أ نّه لا إشعار في الروايات على ذلك فما ظنك بالدلالة.
وأمّا في المورد الثاني: فأيضاً كذلك،ضرورة أ نّه لايستفاد منها إلّااستحباب الاعادة جماعة،فإذن تكون الاعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأوّل،وإلّا لكانت واجبة وهذا خلف.نعم،هنا روايتان صحيحتان ففي إحداهما أمر الإمام بجعل الصلاة المعادة فريضة،وفي الاُخرى يجعلها فريضة إن شاء.ولكن لا بدّ من رفع اليد عن ظهورهما أوّلاً بقرينة عدم إمكان الامتثال ثانياً بعد الامتثال،وحملهما على جعلها قضاءً عما فات منه من الصلاة الواجبة ثانياً،أو على معنى آخر،وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الإجزاء 1إن شاء اللّٰه تعالى.
يقع الكلام فيهما تارة في مقام الثبوت واُخرى في مقام الاثبات.
الصنف الأوّل: ما لا يكون مقيداً بالتقديم ولا بالتأخير من ناحية الزمان، بل هو مطلق من كلتا الناحيتين،ومن هنا يكون المكلف مخيراً في امتثاله بين الزمن الأوّل والزمن الثاني وهكذا،ويسمى هذا الصنف من الواجب بالواجب الموسّع،وذلك كالصلاة وما شاكلها.نعم،إذا لم يطمئن باتيانه في الزمن الثاني وجب عليه الاتيان في الزمن الأوّل،ولكن هذا أمر آخر أجنبي عمّا نحن بصدده.
الصنف الثاني: ما يكون مقيداً بالتأخير فلو قدّمه في أوّل أزمنة الامكان لم يصح،ويسمى هذا الصنف بالواجب المضيّق كالصوم وما شابهه.
الصنف الثالث: ما يكون مقيداً بالتقديم وهذا على قسمين:الأوّل:أن يكون ذلك بنحو وحدة المطلوب.الثاني:أن يكون بنحو تعدد المطلوب.
أمّا الأوّل:فمردّه إلى وجوب الاتيان به في أوّل أزمنة الامكان فوراً من ناحية،وإلى سقوط الأمر عنه في الزمن الثاني من ناحية اخرى،وعليه فلو عصى المكلف ولم يأت به في الزمن الأوّل سقط الأمر عنه ولا أمر في الزمن الثاني،وقد مثّل لذلك برد السلام حيث إنّه واجب على المسلّم عليه في أوّل أزمنة الامكان،ولكن لو عصى ولم يأت به سقط الأمر عنه في الزمن الثاني.
وأمّا الثاني:فهو أيضاً على شكلين:أحدهما:أن يكون المطلوب هو إتيانه
في أوّل أزمنة الامكان وإلّا ففي الزمن الثاني وهكذا فوراً ففوراً،فالتأخير فيه كما لا يوجب سقوط أصل الواجب كذلك لا يوجب سقوط فوريته.قيل ومن هذا القبيل قضاء الفوائت يعني يجب على المكلف الاتيان بها فوراً ففوراً.
وثانيهما:أن يكون المطلوب من الواجب إتيانه في أوّل أزمنة الامكان فوراً إلّا أنّ المكلف إذا عصى وأخّر عنه سقطت فوريته دون أصل الطبيعة،فعندئذ لا يجب عليه الاتيان بها فوراً ففوراً،بل له أن يمتثل الطبيعة في أيّ وقت وزمن شاء وأراد.وعلى الجملة:فالمكلف إذا لم يأت به في أوّل الوقت وعصى،جاز له التأخير إلى آخر أزمنة الامكان.ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة فانّها واجبة على المكلف في أوّل أزمنة الامكان فوراً،ولكنه لو تركها فيه وعصى جاز له التأخير إلى ما دام العمر موسّعاً.
-فالصيغة لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلاً عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده،والسبب في ذلك:أنّ الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال إمّا أن تكون من ناحية المادة أو من ناحية الهيئة،ومن الواضح أ نّها لا تدل عليه من كلتا الناحيتين.
أمّا من ناحية المادة،فواضح،لما تقدّم في ضمن البحوث السابقة من أنّ المادة موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات والعوارض فلا تدل إلّاعلى إرادتها،فكل من الفور والتراخي وما شاكلهما خارج عن مدلولها.
وأمّا من ناحية الهيئة،فأيضاً كذلك،لما عرفت بشكل موسّع من أ نّها وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني على ذمة المكلف في الخارج فلا تدل على شيء من الخصوصيات المزبورة بل ولا إشعار فيها فما ظنّك بالدلالة،فثبوت كل واحدة من تلك الخصوصيات يحتاج إلى دليل خارجي، فان قام فهو،وإلّا فاللازم هو الاتيان بالطبيعي المأمور به مخيراً عقلاً بين الفور
والتراخي.وعلى هذا فلو شككنا في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي أو نحو ذلك،فمقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق إذا كان،هو عدم اعتبارها وأنّ الواجب هو الطبيعي المطلق،ولازم ذلك جواز التراخي،وقد عرفت أ نّه لا فرق في حجية الاُصول اللفظية بين المثبت منها وغيره.
هذا إذا كان في البين أصل لفظي.وأمّا إذا لم يكن كما إذا كان الدليل مجملاً أو إجماعاً،فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة،للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي،وحيث لا دليل عليه فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها،وبذلك يثبت الاطلاق في مقام الظاهر.
فالنتيجة: أنّ الصيغة أو ما شاكلها لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلاً عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده،بل هي تدل على ثبوت الطبيعي الجامع على ذمة المكلف،ولازم ذلك هو حكم العقل بالتخيير بين أفراده العرضية والطولية.نعم،لو احتمل أنّ تأخيره موجب لفواته وجب عليه الاتيان به فوراً بحكم العقل.
قد يقال كما قيل:إنّ الصيغة وإن لم تدل على الفور وضعاً إلّاأ نّها تدل عليه من جهة قرينة عامة خارجية وهو قوله تعالى: «وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» 1وقوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرٰاتِ» 2ببيان أنّ اللّٰه (عزّ وجلّ) أمر عباده بالاستباق نحو الخير،والمسارعة نحو المغفرة،ومن مصاديقهما فعل المأمور به،فاذن يجب على المكلف الاستباق والمسارعة نحوه في أوّل أزمنة الامكان وإلّا ففي الزمن الثاني وهكذا،لفرض أ نّهما يقتضيان الفورية إلى
الاتيان بما يصدق عليه الخير والغفران في كل وقت وزمن،وعليه فلو عصى المكلف وأخّر عن أوّل أزمنة الامكان وجب عليه ذلك في الزمن الثاني أو الثالث وهكذا فوراً ففوراً،إذ من الواضح عدم سقوط وجوب المسارعة والاستباق بالعصيان في الزمن الأوّل،لفرض بقاء الموضوع والملاك،ونتيجة ذلك هي لزوم الاتيان بكافة الواجبات الشرعية فوراً ففوراً على نحو تعدد المطلوب.
ولنأخذ بالنقد عليه من عدّة وجوه:
الأوّل: أنّ الآيتين الكريمتين أجنبيتان عن محل الكلام رأساً ولا صلة لهما بما نحن بصدده.
أمّا آية الاستباق،فلأنّ كلمة «فَاسْتَبِقُوا» فيها من الاستباق بمعنى المسابقة لغة،وعلى هذا فظاهر الآية المباركة هو وجوب المسابقة على العباد نحو الخيرات،يعني أنّ الواجب على كل واحد منهم أن يسابق الآخر فيها.وان شئت قلت:إنّ مدلول الآية الكريمة هو ما إذا كان العمل خيراً للجميع،وأمكن قيام كل واحد منهم به،ففي مثل ذلك أمر (سبحانه وتعالى) عباده بالمسابقة نحوه، ومن الواضح أ نّه لا صلة لهذا المعنى بما نحن فيه أصلاً،وذلك لأنّ الكلام فيه إنّما هو في وجوب المبادرة على المكلف نحو امتثال الأمر المتوجه إليه خاصة على نحو الاستقلال مع قطع النظر عن الأمر المتوجه إلى غيره،وهذا بخلاف ما في الآية،فان وجوب الاستباق فيها إنّما هو بالاضافة إلى الآخر لا بالاضافة إلى الفعل،فاذن لا تدل الآية على وجوب الاستباق والمبادرة إلى الفعل أصلاً، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى،
وأمّا آية المسارعة،فالظاهر من المغفرة فيها هو نفس الغفران الإلهٰي،فالآية
عندئذ تدل على وجوب المسارعة نحوه بالتوبة والندامة التي هي واجبة بحكم العقل،وليس المراد منها الأفعال الخارجية من الواجبات والمستحبات،فاذن الآية ترشد إلى ما استقل به العقل وهو وجوب التوبة وأجنبية عما نحن بصدده.
الثاني: على تقدير التنزّل عن ذلك،وتسليم أنّ الآيتين ليستا أجنبيتين عن محل الكلام،إلّاأنّ دلالتهما على ما نحن بصدده تقوم على أساس أن يكون الأمر فيهما مولوياً.وأمّا إذا كان إرشادياً كما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي،فلا دلالة لهما عليه أصلاً،وذلك لأنّ مفادهما على هذا الضوء هو الارشاد إلى ما استقل به العقل من حسن المسارعة والاستباق نحو الاتيان بالمأمور به وتفريغ الذمة منه،وتابع له في الالزام وعدمه فلا موضوعية له، ومن الواضح أنّ حكم العقل بذلك يختلف في اللزوم وعدمه باختلاف موارده.
الثالث: على تقدير التنزل عن ذلك أيضاً،وتسليم أنّ الأمر فيهما مولوي، إلّا أ نّه لا بدّ من حمله على الاستحباب،ولو حمل على ظاهره وهو الوجوب لزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن،والسبب في ذلك:هو أنّ المستحبات بشتّى أنواعها وأشكالها مصداق للخير وسبب للمغفرة،فلو حملنا الأمر فيهما على الوجوب لزم خروجها بأجمعها عن إطلاقهما،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:
أنّ الواجبات على أصناف عديدة:أحدها:واجبات موسعة كالصلاة وما شاكلها،والمفروض عدم وجوب الاستباق والمسارعة نحوها.وثانيها:واجبات مضيّقة كصوم شهر رمضان ونحوه،والمفروض عدم وجوب الاتيان بها إلّافي وقت خاص لا في أوّل وقت الامكان.وثالثها:واجبات فورية على نحو تعدّد المطلوب،فعلى ما ذكرنا من الحمل لزم خروج الصنفين الأوّلين من الواجبات أيضاً عن إطلاقهما فيختص الاطلاق بخصوص الصنف الثالث،ومن الطبيعي أنّ هذا من أظهر مصاديق تخصيص الأكثر.
فالنتيجة: أ نّه لا دليل على الفور لا من الداخل ولا من الخارج بحيث يحتاج عدم إرادته إلى دليل خاص،وكذلك لا دليل على التراخي،وعندئذ ففي كل مورد ثبت بدليل خاص الفور أو التراخي فهو،وإلّا فمقتضى الأصل عدمه.
نتائج البحوث إلى هنا عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،ولا تدل وضعاً إلّاعلى ذلك.وأمّا دلالتها على ابراز التهديد أو التخيير أو نحو ذلك فتحتاج إلى قرينة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الصيغة تستعمل دائماً في معنى واحد والاختلاف إنّما هو في الداعي قد تقدّم نقده بشكل موسّع.
الثانية: أنّ الوجوب مستفاد من الصيغة أو ما شاكلها بحكم العقل بمقتضى قانون العبودية والمولوية لا بالدلالة الوضعية ولا بالاطلاق ومقدمات الحكمة هذا من جانب،ومن جانب آخر أنّ تفسير صيغة الأمر مرّة بالطلب ومرّة اخرى بالبعث والتحريك ومرّة ثالثة بالارادة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل.
الثالثة: ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ دلالة الجمل الفعلية في مقام الانشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه.ولكن قد تقدّم نقده بصورة موسّعة في ضمن البحوث السابقة،وقلنا هناك إنّه لا فرق بمقتضى قانون العبودية والمولوية بين الجمل الفعلية وصيغة الأمر في الدلالة على الوجوب، وما ذكره (قدس سره) من النكتة لأقوائية دلالتها قد سبق منّا عدم صلاحيتها لذلك.
الرابعة: أنّ الواجب التوصلي يطلق على معنيين:أحدهما:ما لا يعتبر قصد
القربة فيه.وثانيهما:ما لا تعتبر المباشرة فيه من المكلف نفسه،بل يسقط عن ذمته بفعل غيره،بل ربّما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار،بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ.
الخامسة: إذا شككنا في كون الواجب توصلياً بالمعنى الثاني وعدمه،فان كان الشك في اعتبار قيد المباشرة في سقوطه وعدم اعتباره فمقتضى الاطلاق اعتباره وعدم سقوطه بفعل غيره.وأمّا إذا لم يكن إطلاق فمقتضى الأصل العملي هو الاشتغال دون البراءة.وأمّا إذا كان الشك في اعتبار الاختيار والالتفات في سقوطه وعدم اعتباره أو في اعتبار إتيانه في ضمن فرد سائغ فمقتضى الاطلاق عدم الاعتبار،فالاعتبار يحتاج إلى دليل.هذا إذا كان في البين إطلاق،وأمّا إذا لم يكن فمقتضى الأصل العملي هو البراءة.
السادسة: ما إذا شككنا في اعتبار قصد القربة في واجب وعدم اعتباره، فهل هنا إطلاق يمكن التمسك به لاثبات عدم اعتباره أم لا ؟
المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أ نّه لا إطلاق في المقام،وقد تقدّم منّا أنّ هذه الدعوى ترتكز على ركيزتين:الاُولى:استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم امكانه.الثانية:أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق.
وذكروا في وجه الأوّل وجوهاً،وقد ناقشنا في تمام تلك الوجوه واحداً بعد واحد،وأثبتنا عدم دلالة شيء منها على الاستحالة،كما ناقشنا فيما ذكر في وجه الثاني وبيّنا خطأه وأ نّه لا واقع موضوعي له.
السابعة: أ نّنا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أخذ قصد الأمر في متعلقه لا يمكن بالأمر الأوّل،إلّاأ نّه لا مانع من أخذه فيه بالأمر الثاني،كما اختاره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1،كما أ نّه لا مانع من أخذ ما يلازمه ولا ينفك
عنه،وعلى تقدير تسليم استحالة ذلك أيضاً فلا مانع من بيان اعتباره ودخله في الغرض بجملة خبرية،ومن هنا قلنا إنّه لا مانع عند الشك في ذلك من التمسك بالاطلاق إن كان،وإلّا فبأصالة البراءة.
الثامنة: أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت من تقابل الضدّين وفي مرحلة الاثبات من تقابل العدم والملكة.
التاسعة: أ نّه لا مانع من أخذ بقية الدواعي القربية في متعلق الأمر،ولا يلزم منه شيء من المحاذير التي توهم لزومها على تقدير أخذ قصد الأمر فيه، ولكن منع شيخنا الاُستاذ (قدس سره) عن أخذها بملاك آخر قد تقدّم خطؤه بشكل موسع،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد اعترف بأن أخذها في المتعلق وإن كان ممكناً إلّاأ نّه ادّعى القطع بعدم وقوعه في الخارج.ولكن قد ذكرنا هناك خطأه وأ نّه لا يلزم من عدم أخذها خاصة عدم أخذ الجامع بينها وبين قصد الأمر فلاحظ.
العاشرة: قيل:إنّ مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في تعبّدية واجب وتوصليته هو كونه واجباً تعبدياً،واستدلّ على ذلك بعدّة وجوه،ولكن قد تقدّم منّا المناقشة في تمام تلك الوجوه وأ نّها لا تدل على ذلك،فالصحيح هو ما ذكرنا من أنّ مقتضى الأصل اللفظي عند الشك هو التوصلية.
الحادية عشرة: أنّ مقتضى الأصل العملي عند الشك يختلف باختلاف الآراء،فعلى رأي صاحب الكفاية (قدس سره) الاشتغال وعلى رأينا البراءة شرعاً وعقلاً على تفصيل تقدّم.
الثانية عشرة: أنّ مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً،فان إرادة كل من الوجوب الغيري والتخييري والكفائي تحتاج إلى قرينة
زائدة فالاطلاق لا يكفي لبيانها.
الثالثة عشرة: أنّ الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهّمه لا يدل في نفسه لا على الوجوب ولا على الاباحة ولا على حكم ما قبل النهي،فإرادة كل ذلك منه تحتاج إلى قرينة.
الرابعة عشرة: أنّ صيغة الأمر لا تدل على المرّة ولا على التكرار في الأفراد الطولية،كما لا تدل على الوجود الواحد أو المتعدد في الأفراد العرضية لا مادة ولا هيئة،واستفادة كل ذلك تحتاج إلى قرينة خارجية.
الخامسة عشرة: أنّ الصيغة لم توضع للدلالة على الفور ولا على التراخي، بل هي موضوعة للدلالة على اعتبار المادة في ذمة المكلف،فاستفادة كل من الفور والتراخي تحتاج إلى دليل خارجي،ولا دليل في المقام.وأمّا آيتا المسابقة والمسارعة فلا تدلّان على الفور أصلاً كما تقدّم.
إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أم لا ؟
قبل الخوض في المقصود ينبغي لنا تقديم امور:
الأوّل: أنّ هذه المسألة من المسائل العقلية كمسألة مقدمة الواجب ومسألة الضد وما شاكلهما،والسبب في ذلك هو أنّ الإجزاء الذي هو الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنّما هو معلول للاتيان بالمأمور به خارجاً وامتثاله،ولا صلة له بعالم اللفظ أصلاً.
وبكلمة اخرى:أنّ الضابط لامتياز مسألة عقلية عن مسألة لفظية إنّما هو بالحاكم بتلك المسألة،فان كان عقلاً فالمسألة عقلية،وإن كان لفظاً فالمسألة لفظية،وحيث إنّ الحاكم في هذه المسألة هو العقل فبطبيعة الحال تكون عقلية، وستأتي الاشارة إلى هذه الناحية في ضمن البحوث الآتية إن شاء اللّٰه تعالى.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما هذا لفظه:الظاهر أنّ المراد من «وجهه»في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً،مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة،لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً،فانّه عليه يكون«على وجهه»قيداً توضيحياً وهو بعيد.
مع أ نّه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناءً على المختار كما تقدّم من أنّ قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلاً لا من قيود المأمور به شرعاً.ولا الوجه
المعتبر عند بعض الأصحاب،فانّه مع عدم اعتباره عند المعظم وعدم اعتباره عند من اعتبره إلّافي خصوص العبادات لا مطلق الواجبات،لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار،فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى 1.
وغير خفي أن ما أفاده إنّما يقوم على أساس نظريته (قدس سره) من استحالة أخذ قصد القربة قيداً في المأمور به شرعاً وانّما هو قيد فيه عقلاً،إذ على هذا بطبيعة الحال يكون قيد«على وجهه»احترازياً.وأمّا بناءً على نظريتنا من امكان أخذه ابتداء في المأمور به أو على نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من امكان أخذه بمتمم الجعل ولو بالأمر الثاني فلا محالة يكون القيد توضيحياً لا تأسيسياً حيث لايفيد وجوده على هذا أزيد من الاتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه،ولا يلزم من عدمه خروج التعبديات عن محل النزاع.ودعوى أنّ ذكره إنّما هو لادخال قصد الوجه خاطئة جدّاً،أمّا أوّلاً:فلأ نّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه.وأمّا ثانياً:فلاختصاصه بالعبادات في صورة الامكان فلا معنى لجعله في العنوان العام الشامل للتعبديات والتوصليات ولصورتي الامكان وعدمه.هذا مضافاً إلى أ نّه لا وجه لتخصيصه بالذكر من بين سائر الأجزاء والشرائط حيث إنّه على تقدير اعتباره أحد تلك الأجزاء أو الشرائط.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما هذا لفظه:الظاهر أنّ المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة،ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة.إن قلت:هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى
أمره،وأمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الإجزاء أو بنحو آخر لا يفيده.قلت:نعم،لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم،غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما،هل أ نّه على نحو يستقل العقل بأنّ الاتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه،وعدم دلالته،ويكون النزاع فيه صغروياً أيضاً،بخلافه في الإجزاء بالاضافة إلى أمره فانّه لا يكون إلّاكبروياً لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض فافهم 1.
ما أفاده (قدس سره) متين جدّاً،والسبب في ذلك واضح،وهو أنّ غرض المولى متعلق باتيان المأمور به بكافّة أجزائه وشرائطه،فاذا أتى المكلف بالمأمور به كذلك،حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر،ضرورة أ نّه لا يعقل بقاؤه مع حصوله،كيف حيث إنّ أمده بحصوله،فاذا حصل انتهى الأمر بانتهاء أمده وإلّا لزم الخلف أو عدم إمكان الامتثال أبداً،وهذا هو المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة لا العلة في الاُمور التكوينية الخارجية كما هو واضح،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ عمدة النزاع في المسألة إنّما هي في الصغرى،يعني في دلالة أدلّة الأمر الاضطراري أو الظاهري على ذلك وعدم دلالتها.ولكن بعد إثبات الصغرى فالمراد من الاقتضاء فيهما هذا المعنى،فإذن لا فرق بين اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الإجزاء عن أمره وبين اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري الإجزاء عنه،فهما بمعنى واحد وهو ما عرفت.
الظاهر أ نّه لم يثبت له معنى اصطلاحي خاص في مقابل معناه اللغوي،ليكون هذا المعنى الاصطلاحي هو المراد منه في المقام،بل المراد منه هو معناه اللغوي وهو الكفاية،غاية الأمر أنّ متعلقها يختلف باختلاف الموارد،فقد يكون متعلقها القضاء،وقد يكون الاعادة، فاجزاء المأتي به عن المأمور به هو كفايته عما امر به إعادة وقضاءً،أو قضاءً فقط،فيما إذا دلّ الدليل على وجوب الاعادة دونه،وذلك كمن صلّى في الثوب المتنجس نسياناً حيث إنّه على المشهور إذا تذكر في الوقت وجبت الاعادة عليه،وإذا تذكر في خارج الوقت لم يجب القضاء،وإن كان الأقوى عندنا وجوبه.أو المسافر الذي يتم في السفر نسياناً أو جاهلاً بالموضوع،حيث إنّه إذا تذكر أو ارتفع جهله في الوقت وجبت الاعادة عليه،وإن تذكر أو ارتفع في خارج الوقت لم يجب القضاء،وهكذا.فاجزاء المأتي به عن المأمور به في أمثال الموارد هو كفايته عما امر به قضاءً لا إعادة.
بدعوى أنّ القول بالإجزاء موافق للقول بالمرة،والقول بعدم الإجزاء موافق للقول بالتكرار،فإذن لا وجه لعقدهما مسألتين مستقلتين بل ينبغي عقدهما مسألة واحدة.كما أ نّه قد يتوهم عدم الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء،باعتبار أنّ القائل بالتبعية يلتزم ببقاء الأمر في خارج الوقت عند عدم امتثاله في الوقت وهو متحد في النتيجة مع القائل بعدم الإجزاء،وعليه فلا فرق بين مسألتنا هذه وتلك المسألة.
ولكن كلا التوهمين خاطئ جدّاً.
أمّا الأوّل: فلأنّ القول بالإجزاء وإن كان موافقاً في النتيجة مع القول بالمرة، كما أنّ القول بعدم الإجزاء موافق في النتيجة مع القول بالتكرار،إلّاأنّ مجرد
ذلك لا يوجب اتحاد المسألتين،وذلك لما تقدّم في ضمن البحوث السابقة 1من أنّ الضابط لامتياز مسألة عن مسألة اخرى إنّما هو بالجهة المبحوث عنها في المسألة،وحيث إنّ الجهة المبحوث عنها في مسألتنا هذه غير الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة،فلا مناص من تعددهما،وذلك لأنّ الجهة المبحوث عنها في مسألة المرّة والتكرار إنّما هي تعيين حدود المأمور به شرعاً من حيث السعة والضيق وأ نّه الطبيعة المقيدة بالمرة أو التكرار،وفي هذه المسألة إنّما هي إجزاء الاتيان بالمأمور به عن الواقع عقلاً وعدم إجزائه بعد الفراغ عن تعيين حدوده شرعاً.
وإن شئت قلت:إنّ البحث في المسألة الاُولى بحث عن دلالة الصيغة أو ما شاكلها على المرّة أو التكرار ولذا تكون من المباحث اللفظية،والبحث في هذه المسألة بحث عن وجود ملازمة عقلية بين الاتيان بالمأمور به خارجاً وبين إجزائه،ومن هنا قلنا إنّها من المسائل العقلية.
وصفوة القول:أنّ الاشتراك في النتيجة لو كان موجباً لوحدة المسألتين أو المسائل لكان اللّازم أن يجعل المسائل الاُصولية بشتّى أشكالها وألوانها مسألة واحدة،لاشتراك الجميع في نتيجة واحدة وهي القدرة على الاستنباط وهذا كما ترى.
وأمّا التوهم الثاني: فلأنّ مسألتنا هذه تختلف عن مسألة تبعية القضاء للأداء موضوعاً وجهة،أمّا الأوّل:فلأنّ الموضوع في هذه المسألة هو الاتيان بالمأمور به وأ نّه يجزي عن الواقع أم لا ؟ والموضوع في تلك المسألة هو عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت،ومن الطبيعي أ نّه لا جامع بين الوجود والعدم،
وعليه فلا ربط بين المسألتين في الموضوع أصلاً.وأمّا الثاني:فلأنّ الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنّما هي وجود الملازمة بين الاتيان بالمأمور به وإجزائه عن الواقع عقلاً وعدم وجودها،والجهة المبحوث عنها في تلك المسألة إنّما هي دلالة الأمر من جهة الاطلاق على تعدد المطلوب وعدم دلالته عليه، فإذن لا ارتباط بينهما لا في الموضوع ولا في الجهة المبحوث عنها.
وبعد ذلك نقول: إنّ الكلام يقع في مسائل ثلاث:
الاُولى:أنّ إتيان المأمور به بكل أمر يقتضي الإجزاء عن أمره عقلاً،سواء أكان ذلك الأمر أمراً واقعياً أو اضطرارياً أو ظاهرياً ؟
الثانية:أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يوجب الإجزاء عن الأمر الواقعي أم لا ؟
الثالثة:أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يوجب الإجزاء عنه إعادةً وقضاءً،أو قضاءً فحسب أم لا ؟
أمّا الكلام في المسألة الاُولى:فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أنّ إجزاء الاتيان بكل مأمور به عن أمره عقلي سواء كان أمراً واقعياً أو اضطرارياً أو ظاهرياً،ضرورة أنّ العقل يستقل بعدم بقاء موضوع للتعبد ثانياً.
أقول: الأمر كما أفاده (قدس سره) ومن هنا لا نزاع فيه وإن نسب الخلاف إلى بعض،ولكنّه على تقدير صحّته لا يعتد به أصلاً،والوجه في ذلك:هو أنّ المكلف إذا جاء بالمأمور به وأتى به خارجاً واجداً لجميع الأجزاء والشرائط حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر،وإلّا لزم الخلف أو عدم إمكان الامتثال أبداً،أو بقاء الأمر بلا ملاك ومقتض،والجميع محال.أمّا الأوّل:فلأنّ لازم بقاء الأمر تعدد المطلوب لا وحدته وهو خلف.وأمّا الثاني:فلأنّ الامتثال الثاني كالامتثال الأوّل،فإذا لم يكن الأوّل موجباً لسقوط الأمر فالثاني مثله، وهكذا.وأمّا الثالث:فلأنّ الغرض إذا تحقق في الخارج ووجد كيف يعقل بقاء الأمر،ضرورة استحالة بقائه بلا مقتض وسبب.
فالنتيجة:أنّ إجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره ضروري من دون فرق في ذلك بين المأمور به الواقعي والظاهري والاضطراري أصلاً.
وعلى ضوء ما بيّناه قد ظهر أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير معقول.
ولكن قد يتوهم جواز الامتثال بعد حصول الامتثال في موردين:
أحدهما: جواز إعادة من صلّى فرادى جماعة،وقد دلّت على ذلك عدّة روايات منها:صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام)«أ نّه قال:
في الرجل يصلي الصلاة وحده ثمّ يجد جماعة،قال:يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء» 1ومنها:صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث«قال:
لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة،بل ينبغي له أن ينويها،وإن كان قد صلّى فانّ له صلاة اخرى» 2إلى غيرهما من الروايات الواردة في هذا الباب،فهذه الروايات تدل على جواز الامتثال ثانياً بعد حصول الامتثال الأوّل وهو الاتيان بالصلاة فرادى،وهذا من الامتثال بعد الامتثال الذي قد قلنا باستحالته.
وثانيهما: جواز إعادة من صلّى صلاة الآيات ثانياً،وقد دلّت على ذلك صحيحة معاوية بن عمار قال:«قال أبو عبداللّٰه (عليه السلام) صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد» 3وغيرها من الروايات الواردة في المقام، فانّها ظاهرة في وجوب إعادتها ثانياً فضلاً عن أصل مشروعيتها،وهذا معنى الامتثال بعد الامتثال.
أقول: أمّا الجواب عن المورد الأوّل:فالنصوص الواردة فيه على طائفتين:
إحداهما: ما وردت في إعادة الصلاة مع المخالفين،منها:صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام)«أ نّه قال:ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلي معهم صلاة تقيّة وهو متوضئ إلّاكتب اللّٰه له بها خمساً وعشرين
درجة فارغبوا في ذلك» 1.ومنها:صحيحة عبداللّٰه بن سنان عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام)«قال:ما من عبد يصلي في الوقت ويفرغ ثمّ يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلّاكتب اللّٰه له خمساً وعشرين درجة» 2وغيرهما من الروايات الواردة في هذا المورد.وهذه الطائفة لاتدل على مشروعية الامتثال بعد الامتثال أصلاً،والسبب في ذلك:أ نّها وردت في مقام التقية فتكون الاعادة لأجلها، ولولا التقية لم يكن لنا دليل على جوازها ومشروعيتها.وعلى الجملة:فالروايات الدالّة على جواز الاعادة تقية لا تدل على جواز الامتثال بعد الامتثال،فهذه الطائفة أجنبية عن محل الكلام ولا صلة لها بما نحن بصدده.
وثانيتهما: ما دلّت على إعادة الصلاة جماعة،منها:الصحيحتان المتقدمتان 3ولكنّهما أيضاً لا تدلّان على مشروعية الامتثال ثانياً،بداهة أنّ الامتثال الأوّل – وهو الاتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه-مسقط لأمره،ويكون علّة له وإلّا فلا يعقل سقوطه،بل مفاد تلك الروايات استحباب الاعادة جماعة بداعي الأمر الاستحبابي-لا بداعي الأمر الأوّل-المستفاد من نفس تلك الروايات،أو بداعي الأمر الوجوبي قضاءً لا أداءً وعليه تدل صحيحة هشام ابن سالم«يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء» 4وصحيحة حفص بن البختري «يصلي معهم ويجعلها الفريضة» 5بقرينة قوله (عليه السلام) في صحيحة إسحاق
ابن عمار«صلّ واجعلها لما فات» 1.
وبتعبير آخر:أنّ المستفاد من تلك الطائفة من الروايات هو أنّ إعادة الصلاة جماعة بعد الاتيان بها فرادى أمر مستحب،فيكون الاتيان بها بقصد ذلك الأمر الاستحبابي.نعم،من كان في ذمته قضاء فله أن يجعلها لما فات.فالنتيجة أ نّها أجنبية عن الدلالة على جواز الامتثال بعد الامتثال بالكلّية،فضلاً عن الدلالة على أنّ سقوط الأمر الأوّل مراعى بعدم تعقب الامتثال الآخر جماعة.وأمّا ما ورد من الرواية من أنّ اللّٰه تعالى يختار أحبّهما إليه 2فيردّه ضعف السند فلا يمكن الاعتماد عليه.وعلى تقدير تسليم سنده فهو لا يدل على جواز تبديل الامتثال بالامتثال الآخر وكون سقوط الأمر مراعىً بعدم تعقب الأفضل، وذلك لأنّ معناه واللّٰه العالم هو أنّ اللّٰه تعالى يعطي ثواب الجماعة فانّها عنده تعالى أحب من الصلاة فرادى،وهذا تفضل منه تعالى،ولا سيّما إذا قلنا بأنّ أصل الثواب من باب التفضل لا من باب الاستحقاق.وكيف ما كان،فهذه الرواية ساقطة كغيرها من الروايات،فلا وجه لاطالة الكلام فيها كما عن شيخنا المحقق (قدس سره) 3.مع أنّ ما أفاده (قدس سره) في تفسير هذه الرواية خارج عن الفهم العرفي وراجع إلى الدقّة الفلسفية كما لا يخفى.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما احتمله شيخ الطائفة (قدس سره) في التهذيب وإليك نصّه:والمعنى في هذا الحديث قوله (عليه السلام)«يصلّي
معهم ويجعلها الفريضة إن شاء»أنّ من يصلّي ولم يفرغ من صلاته ووجد جماعة فليجعلها نافلة ثمّ يصلّي في جماعة،وليس ذلك لمن فرغ من صلاته بنيّة الفرض، لأنّ من صلّى الفرض بنيّة الفرض فلا يمكن أن يجعلها غير فرض 1وأيّده الوحيد (قدس سره) 2بقوله بأ نّه ظاهر صيغة المضارع.
وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) خلاف ظاهر الحديث،بل خلاف صريحه فانّه نص من جهة العطف بكلمة«ثمّ»[ في ] أنّ وجدانه الجماعة بعد الفراغ عن الصلاة فرادى لا في أثنائها.وبذلك ظهر أ نّه لا وجه لتأييد الوحيد (قدس سره) بأ نّه ظاهر صيغة المضارع،فانّها وإن كانت ظاهرة في الفعلية إلّاأنّ العطف بكلمة«ثمّ»يدل على أنّ وجدانه الجماعة كان متأخراً زماناً عن إتيانه بالصلاة فرادى.
وأمّا الجواب عن المورد الثاني:فالصحيح هو أنّه لابدّ من رفع اليد عن ظهور تلك الروايات في وجوب الاعادة وحملها على الاستحباب،وذلك لاستقلال العقل بسقوط الأمر بالامتثال الأوّل فلا يعقل أن تكون الاعادة بداعي ذلك الأمر كما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة أيضاً.
فالنتيجة قد تحقّقت لحدّ الآن في عدّة خطوط:
الأوّل: أنّ مسألة الإجزاء مسألة اصولية عقلية وليست من المسائل اللفظية.
الثاني: أنّ الاتيان بكل مأمور به مسقط لأمره،وهذا ليس من محل الكلام في شيء،وإنّما الكلام في سقوط الأمر الواقعي باتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري.
الثالث: أنّ الروايات الدالّة على جواز الاعادة على اختلافها لا تدل على الامتثال بعد الامتثال.
وأمّا الكلام في المسألة الثانية:وهي أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل هو مجزٍ عن الواقع أم لا،فيقع في مقامين:الأوّل:فيما إذا ارتفع العذر في الوقت.الثاني:فيما إذا ارتفع في خارج الوقت.
أمّا الكلام في المقام الأوّل: فليعلم أنّ محل النزاع في الإجزاء وعدمه في هذا المقام إنّما هو فيما إذا كان المأتي به في أوّل الوقت مأموراً به بالأمر الواقعي الاضطراري،وذلك كما إذا كان الموضوع للأمر الاضطراري وجود العذر وإن كان غير المستوعب لتمام الوقت،ففي مثله يقع الكلام في أنّ الاتيان به هل هو مجز عن الواقع أو أ نّه غير مجز.وأمّا إذا كان الموضوع له العذر المستوعب لتمام الوقت فلا مجال للنزاع هنا أصلاً،وذلك لعدم الأمر حينئذٍ واقعاً ليقال إنّ امتثاله مجزٍ عن الواقع أم لا،وذلك كما لو اعتقد المكلف استيعاب العذر في تمام الوقت فصلّى في أوّل الوقت ثمّ انكشف الخلاف وظهر أنّ العذر لم يكن مستوعباً،ففي مثل ذلك لا أمر واقعاً ولا ظاهراً ليقال إنّ امتثاله مجزٍ عن الواقع أو لا.وأمّا إذا قامت الحجة على الاستيعاب وصلّى في أوّل الوقت ثمّ انكشف الخلاف فهو داخل في المسألة الثالثة وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع وعدم إجزائه عنه وخارج عن مسألتنا هذه.
وإن شئت فقل:إنّ محل البحث في هذه المسألة هو ما إذا كان الموضوع للأمر الواقعي الاضطراري وجود العذر في زمان الاتيان بالواجب،لا العذر المستوعب لجميع الوقت،وإلّا فلا يجوز البدار حقيقة،فان جوازه حينئذ
مستند إلى أحد أمرين:إمّا إلى القطع باستيعاب العذر،أو إلى قيام أمارة كالبينة أو نحوها على الاستيعاب،ومع انكشاف الخلاف في هاتين الصورتين ينكشف أ نّه لا أمر اضطراري واقعاً ليقع البحث في إجزائه عن الواقع وعدمه، نعم في الصورة الثانية الأمر الظاهري موجود ومن هنا قلنا بدخول هذه الصورة في المسألة الآتية،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ محل الكلام في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الواقع وعدمه فيما إذا كان الأمر الاضطراري ناشئاً عن مصلحة الواقع،وأمّا إذا كان ناشئاً عن مصلحة اخرى أجنبية عن مصلحة الواقع فهو خارج عن محل الكلام،وذلك كالأمر في موارد التقية حيث إنّه نشأ من المصلحة الكامنة في نفس الاتقاء وهو حفظ النفس أو العرض أو المال، ومن الطبيعي أنّ تلك المصلحة أجنبية عن مصلحة الواقع،وعليه فلا مقتضي للإجزاء فيها من هذه الناحية،نعم قد قلنا بالإجزاء في تلك الموارد من ناحية اخرى وهي وجود دليل خاص على ذلك كما ذكرناه في محلّه.
وبعد ذلك نقول: قد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما هذا لفظه:تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء،وبيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء وعدمه، واُخرى في تعيين ما وقع عليه.فاعلم أ نّه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة وكافياً فيما هو المهم والغرض.ويمكن أن لا يكون وافياً به كذلك،بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن،وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب.ولا يخفى أ نّه إن كان وافياً به يجزي،فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك لا قضاءً ولا إعادةً،وكذا لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه،ولا
يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلّالمصلحة كانت فيه،لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدارٍ من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهم فافهم.
لا يقال:عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار،لامكان استيفاء الغرض بالقضاء.فانّه يقال:هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت.وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاُولى فيدور مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً،أو بشرط الانتظار،أو مع اليأس عن طروء الاختيار ذا مصلحة ووافياً بالغرض.وإن لم يكن وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت،فان كان الباقي ممّا يجب تداركه فلا يجزي، بل لا بدّ من إيجاب الاعادة أو القضاء وإلّا فيجزي.ولا مانع عن البدار في الصورتين،غاية الأمر يتخير في الصورة الاُولى بين البدار والاتيان بعملين:
العمل الاضطراري في هذا الحال،والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار،أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار.وفي الصورة الثانية يجزي البدار،ويستحب الاعادة بعد طروء الاختيار.هذا كلّه فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء 1.
ملخص ما أفاده (قدس سره) بحسب مقام الثبوت أربع صور:
الاُولى:أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري الواقعي مشتملاً على تمام مصلحة الواقع.
الثانية:أن يكون مشتملاً على بعضها مع عدم إمكان استيفاء الباقي.
الثالثة:هذه الصورة مع إمكان تدارك الباقي ولكنه ليس بحد يلزم استيفاؤه.
الرابعة:أن يكون الباقي واجب الاستيفاء والتدارك.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الصور:
أمّا الصورة الاُولى: فلا إشكال في الإجزاء عن الواقع وجواز البدار حقيقة وواقعاً،لعدم الفرق حينئذ بين الفرد الاضطراري والفرد الاختياري في الوفاء بالملاك والغرض أصلاً.
وأمّا الصورة الثانية: فالصحيح فيها هو القول بالإجزاء،وذلك لعدم إمكان تدارك الباقي من مصلحة الواقع.نعم،لا يجوز البدار حينئذ،ولكن لا بدّ من فرض ذلك فيما إذا كان الملاك في المأمور به بالأمر الاضطراري،وأمّا إذا كان في أمر آخر فهو خارج عن مفروض الكلام،كما أنّ جواز البدار واقعاً أو عدم جوازه كذلك إنّما هو بالاضافة إلى وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الواقع أو عدم وفائه.وأمّا افتراض جوازه بملاك آخر أجنبي عن ملاك الواقع فهو فرض لا صلة له بمحل الكلام.ومن ذلك يظهر أنّ ما فرضه (قدس سره) من وجود مصلحة في نفس البدار ولأجل تلك المصلحة جاز،في غير محلّه.
وأمّا الصورة الثالثة: فأيضاً لا مناص من القول بالإجزاء فيها،وذلك لعدم كون الباقي من الملاك ملزماً ليجب تداركه.هذا كلّه ممّا لا كلام ولا إشكال فيه،وإنّما الكلام والاشكال في:
الصورة الرابعة: فقد ذكر (قدس سره) أنّ المكلف مخيّر فيها بين البدار في أوّل الوقت والاتيان بعملين:العمل الاضطراري في هذا الحال يعني حال الاضطرار،والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار،وبين الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) من التخيير في هذه الصورة غير معقول،وذلك لأنّه من التخيير بين الأقل والأكثر الاستقلاليين،وقد حققنا في
محلّه 1أنّ التخيير بينهما مستحيل إلّاإذا رجع إلى التخيير بين المتباينين وتفصيل ذلك هو أنّ مردّ جواز البدار واقعاً إلى أنّ الفرد المضطر إليه مأمور به بالأمر الاضطراري الواقعي حقيقة وواف بتمام مصلحة الواقع،وإلّا فلا يجوز البدار كذلك قطعاً.ومردّ التخيير المزبور إلى عدم كون الفرد المضطر إليه مأموراً به كذلك وعدم كونه وافياً بتمام المصلحة،وذلك لأنّ الشارع إذا لم يكتف بالعمل الناقص في أوّل الوقت وأوجب على المكلف الاتيان بالعمل التام الاختياري بعد رفع الاضطرار والعذر،سواء أكان المكلف آتياً بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت أم لم يأت به،فبطبيعة الحال لا معنى لايجابه العمل الاضطراري الناقص وإلزام المكلف باتيانه ولو على نحو التخيير، فانّه بلا ملاك يقتضيه.
وبكلمة اخرى:أنّ الصورة الاُولى والثانية والثالثة في كلامه (قدس سره) وإن كانت من الصور المعقولة بحسب مقام الثبوت،إلّاأنّ الصورة الأخيرة وهي الصورة الرابعة غير معقولة،إذ بعد فرض أنّ الشارع لم يرفع اليد عن الواقع وأوجب على المكلف الاتيان به على كل من تقديري الاتيان بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت وعدم الاتيان به،فعندئذٍ بطبيعة الحال لا معنى لايجابه الفرد الناقص،حيث إنّه لا يترتّب على وجوبه أثر،بل لازم ذلك وجوبه على تقدير المبادرة وعدمه على تقدير عدمها.وأيضاً لازم ذلك كونه مصداقاً للواجب على تقدير الاتيان به،وعدم كونه كذلك على تقدير عدم الاتيان به،والسر في كل ذلك ما ذكرناه من أنّ التخيير المذكور غير معقول.
فالنتيجة على ضوء ما بيّناه:أنّ الواجب هو الطبيعي الجامع بين المبدأ
والمنتهى،والمفروض في المسألة هو تمكن المكلف من الاتيان بالطبيعي المزبور في وقته،من جهة تمكّنه على إيجاد بعض أفراده في الخارج،ومعه لا مقتضي لإيجاب الشارع الفرد الناقص الذي لا يفي بملاك الواقع.
وإن شئت قلت:إنّ المكلف إذا كان قادراً على الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية مثلاً في الوقت لم تصل النوبة إلى الصلاة مع الطهارة الترابية،لفرض أنّ الأمر الاضطراري في طول الأمر الاختياري،ومع تمكن المكلف من امتثال الأمر الاختياري لا موضوع للأمر الاضطراري،ولازم ذلك عدم جواز البدار هنا واقعاً،كما أنّ جوازه كذلك ملازم للإجزاء في الوقت وخارجه.فما أفاده (قدس سره) من الجمع بين جواز البدار واقعاً وعدم الإجزاء عن الواقع جمع بين المتناقضين ثبوتاً وهو مستحيل،فإذن لا تصل النوبة إلى البحث عنه في مقام الإثبات.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا إمكان الجمع بينهما في مرحلة الثبوت،يقع الكلام فيه عندئذ في مرحلة الاثبات والدلالة،يعني هل لأدلّة الأمر الاضطراري إطلاق يتمسّك به في المقام أم لا ؟ ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أنّ لها إطلاقاً وإليك نص ما أفاده:
وأمّا ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: «فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» وقوله (عليه السلام)«التراب أحد الطهورين» و«يكفيك عشر سنين»هو الإجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء،ولا بدّ في إيجاب الاتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص.وبالجملة فالمتّبع هو الاطلاق لو كان،وإلّا فالأصل،وهو يقتضي البراءة من إيجاب الاعادة،لكونه شكاً في أصل التكليف.وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى.نعم،لو دلّ دليله
على أنّ سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجباً عليه لتحقق سببه وإن أتى بالفرض،لكنّه مجرد الفرض 1.
نتيجة ما أفاده (قدس سره) هي جواز البدار مع تمكن المكلف من الاتيان بالفعل الاختياري التام وعدم وجوب الاعادة عليه بعد ارتفاع العذر في أثناء الوقت،وذلك من جهة إطلاق الدليل،ومع عدمه أصالة البراءة عن وجوبها.
وقد اختار هذا القول في خصوص الطهارة الترابية جماعة منهم السيِّد الطباطبائي (قدس سره) في العروة 2.
والصحيح في المقام أن يقال:إنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعية التيمم بالقياس إلى من يتمكن من الاتيان بالعمل الاختياري في الوقت،بداهة أنّ وجوب التيمم وظيفة المضطر ولا يكون مثله مضطراً،لفرض تمكنه من الصلاة مع الطهارة المائية في الوقت،ومجرد عدم تمكنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت.
وقد ذكرنا في بحث الفقه 3أنّ موضوع وجوب التيمم هو عدم التمكن من استعمال الماء عقلاً أو شرعاً في مجموع الوقت بمقتضى الآية الكريمة وما شاكلها،فلو افترضنا عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت وارتفاعه في الأثناء لم يكن المكلف مأموراً بالتيمم،لعدم تحقق موضوعه.
وبكلمة اخرى:أنّ الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة مثلاً على نحو صرف الوجود كما هو الحال في جميع التكاليف الايجابية،وعليه فطروء
الاضطرار على فرد من ذلك الطبيعي لا يوجب ارتفاع الحكم منه،وذلك لأنّ ما طرأ عليه الاضطرار-وهو الفرد-لا حكم له على الفرض،وما هو متعلق الحكم-وهو الطبيعي الجامع-لم يطرأ عليه الاضطرار كما هو المفروض،فإذن لا مقتضي لوجوب التيمم أصلاً.فالنتيجة:أنّ حال الأفراد الطولية كحال الأفراد العرضية من هذه الناحية،فكما أنّ طروء الاضطرار إلى بعض الأفراد العرضية لا يوجب سقوط التكليف عن الطبيعي الجامع بينها،فكذلك طروؤه على بعض الأفراد الطولية،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة:أ نّه لا إطلاق لأدلّة الأمر الاضطراري في محل الكلام،ومن ضوء هذا البيان يظهر أ نّه لا يجوز التمسّك بأصالة البراءة أيضاً،وذلك لأنّ رفع الاضطرار في أثناء الوقت كما هو المفروض في المقام كاشف عن عدم تعلّق الأمر واقعاً بالفعل الاضطراري،ليكون الاتيان به مجزئاً عن الواقع،بل من الأوّل كان متعلقاً بالفعل الاختياري التام،والمفروض عدم امتثاله،فإذن لا نشك في وجوب الاتيان به لنتمسك بأصالة البراءة عنه.
وعلى الجملة:فما أتى به المكلف في الخارج من الفعل الاضطراري لا أمر به على الفرض،وما كان متعلقاً للأمر لم يأت به،فإذن كيف يشك في وجوب الاعادة.ومن ذلك تبيّن أ نّه لا يجوز البدار هنا واقعاً،بداهة أنّ جوازه كذلك ملازم للإجزاء،ومن الطبيعي أنّ الإجزاء لا يمكن إلّافي فرض وجود الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً.
نعم،قد ثبت جواز البدار في بعض الموارد بدليل خاص مع فرض تمكن المكلف من الفعل الاختياري التام في الوقت.
منها: موارد التقية حيث يجوز البدار فيها واقعاً وإن علم المكلف بارتفاعها في أثناء الوقت وتمكنه من العمل بلا تقيّة،فيجوز له الوضوء تقيّة مع تمكنه منه
بدونها في آخر الوقت أو في مكان آخر،وهكذا.ومن هنا لا تجب الاعادة بعد ارتفاع العذر.
ومنها: ما إذا تيمم المكلف في آخر الوقت وصلّى به صلاتي الظهرين ثمّ دخل وقت المغرب وهو باق على تلك الطهارة،جاز له أن يصلي به صلاتي المغرب والعشاء واقعاً،وهكذا.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ في كل مورد ثبت جواز البدار واقعاً بدليل خاص نلتزم فيه بالإجزاء،وفي كل مورد لم يثبت جوازه بدليل كذلك فلا نقول به من جهة الأدلّة العامّة.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أ نّه لا وجه للقول بالإجزاء في هذه المسألة أصلاً.
ولكن مع ذلك ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1إلى الإجزاء فيها، بدعوى أنّ المكلف لا يخلو من أن يكون متمكناً من الطهارة المائية في تمام الوقت أو لا يكون كذلك،أو يكون متمكناً منها في بعضه دون بعضه الآخر فعلى الشقّين الأوّلين لا إشكال في التخيير العقلي بين الأفراد الطولية والعرضية.
وعلى الأخير،فبما أنّ ملاك التخيير هو تساوي الأفراد في الغرض فلا يحكم العقل فيه بالتخيير بين الاتيان بالفرد الناقص والاتيان بالفرد التام يقيناً،ولكن إذا ثبت جواز البدار مع اليأس فيما إذا فرض ارتفاع العذر في الأثناء بعد الاتيان به والامتثال،فلا يخلو من أن يكون جوازه حكماً ظاهرياً طريقياً أو حكماً واقعياً.
وعلى الأوّل:فيبتني القول بالإجزاء على القول به في المسألة الآتية وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع بعد انكشاف الخلاف في الوقت ولا يكون له مساس بمسألتنا هذه.
وعلى الثاني:فلا مناص من الالتزام بالإجزاء،وذلك لقيام الضرورة والاجماع القطعي على عدم وجوب ست صلوات على المكلف في يوم واحد،وهو يكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الفعل الناقص في حال الاضطرار-ولو مع فرض عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت-واجد لتمام الملاك،فيكون في هذا الحال في عرض الأفراد الواجدة واقعاً.وعلى هذا فلا مناص من القول بالإجزاء،ضرورة أنّ الاعادة بعد استيفاء الملاك بتمامه من الامتثال بعد الامتثال.
وفيه أوّلاً: ما عرفت من عدم الدليل على جواز البدار في مفروض المسألة إلّا في بعض الموارد.
وثانياً: على تقدير تسليم ثبوته،لا مناص من القول بالإجزاء،لما عرفت من الملازمة بين جواز البدار واقعاً والإجزاء.
وثالثاً: على تقدير تسليم عدم الملازمة بينهما وأنّ الإجزاء يحتاج إلى دليل، إلّا أنّ ما أفاده من الدليل على الإجزاء-وهو قيام الاجماع والضرورة-خاص بخصوص الصلاة ولا يعم غيرها من الواجبات،ولا دليل آخر على الإجزاء فيها،حيث قد عرفت أ نّه لا إطلاق لدليل الأمر بالفعل الاضطراري في أمثال الموارد التي يرتفع العذر في أثناء الوقت ليتمسك باطلاقه.
وأمّا الأصل العملي،فالظاهر أ نّه لا مانع من التمسك بأصالة البراءة عن وجوب الاعادة في المقام،والسبب في ذلك:هو أنّ جواز البدار في مفروض الكلام وإن لم يكن كاشفاً عن أنّ العمل الناقص واجد لتمام ملاك الواقع كشفاً
قطعياً،إلّاأنّ احتماله موجود،ومن الطبيعي أنّ مع هذا الاحتمال لا يمكن إحراز تعلق الأمر بالعمل الاختياري التام من الأوّل،وذلك لأنّ العمل الاضطراري الناقص إن كان واجداً لتمام ملاكه فلا مقتضي للأمر به،وإلّا فلا موجب لسقوطه،وحيث إنّنا لا ندري بوفائه بملاكه وعدم وفائه به،فبطبيعة الحال لا نحرز وجوبه وتعلق الأمر به،ومن المعلوم أنّ مثل هذا مورد لأصالة البراءة.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ نتيجة أصالة البراءة هي الإجزاء وعدم وجوب الاعادة.
وأمّا المقام الثاني: وهو ما إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت،فهل يجزي الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن القضاء في خارج الوقت أم لا ؟
فقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1الإجزاء بدعوى أنّ عدم الإجزاء في هذه الصورة غير معقول،والوجه في ذلك:أنّ القيد المتعذر على المكلف في تمام الوقت لا يخلو من أن يكون له دخل في ملاك الواجب مطلقاً حتّى حين التعذر وعدم تمكن المكلف من إتيانه كالطهور مثلاً،وإمّا أن لا يكون له دخل كذلك،بل يختص دخله في ملاكه بحالة التمكن منه دون التعذر كالطهارة المائية مثلاً،فعلى الأوّل لا يمكن الأمر بفاقده في الوقت لعدم الملاك له،وعلى الثاني فالأمر بالفاقد له باق لفرض اشتماله على المصلحة التامة وعدم دخل القيد المتعذر فيها حال التعذر.
وعلى الجملة:فبناءً على دخل القيد مطلقاً في ملاك الواجب ومصلحته فلا يمكن الأمر بالأداء في الوقت،لا بالاضافة إلى المأمور به من جهة انتفاء القدرة
على امتثاله،ولا بالاضافة إلى الباقي من جهة عدم اشتماله على الملاك والمصلحة التامة،إذن لا بدّ من الأمر بالقضاء في خارج الوقت،وبناءً على عدم دخل القيد مطلقاً في ملاكه فبطبيعة الحال يتعين الأمر بالفاقد في الوقت،لاشتماله على الفرض على تمام الملاك والمصلحة،وعدم دخل القيد المزبور فيه في هذا الحال.
وعليه فلا أمر بالقضاء لعدم ملاك له،فالجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضاء في خارج الوقت جمع بين المتناقضين،ضرورة أنّ الأمر بالقضاء تابع لصدق فوت الفريضة وإلّا فلا مقتضي له أصلاً،ومن الطبيعي أنّ صدق فوت الفريضة يستلزم عدم الأمر بالفاقد في الوقت ودخل القيد مطلقاً في الملاك حتّى حال التعذر،كما أنّ الأمر بالفاقد في الوقت يستلزم عدم دخل القيد المذكور في الملاك مطلقاً وهو يستلزم عدم وجوب القضاء في خارج الوقت، لفرض عدم صدق فوت الفريضة،إذن لا يمكن الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري في الوقت مجز عن المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي في خارج الوقت،ولا يمكن القول بعدم الإجزاء عنه،لما عرفت من أ نّه لا يمكن الجمع بين الأمر باتيان الفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت،وأنّ الجمع بينهما جمع بين المتناقضين،وعليه فلا مناص من القول بالإجزاء هنا.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) قابل للنقد والمؤاخذة بحسب مقام الثبوت،وإن كان تاماً بحسب مقام الاثبات.فلنا دعويان:الاُولى:عدم تمامية ما أفاده (قدس سره) بحسب مرحلة الثبوت.الثانية:تمامية ما أفاده (قدس سره) بحسب مرحلة الاثبات.
أمّا الدعوى الاُولى: فلإمكان أن يقول قائل بأنّ الصلاة مع الطهارة المائية مثلاً مشتملة على مصلحتين ملزمتين،أو على مصلحة واحدة ذات مرتبتين شديدة وضعيفة،ومع تعذر القيد وهو الطهارة المائية في المثال يكون الفاقد – وهو الصلاة مع الطهارة الترابية-مشتملاً على إحدى المصلحتين الملزمتين أو على المصلحة الضعيفة،وحيث إنّها ملزمة في نفسها فلذلك توجب الأمر بالفاقد في الوقت لاستيفائها،ولئلّا تفوت عن المكلف،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ المصلحة الثانية أو المرتبة الشديدة حيث إنّها كانت أيضاً ملزمة وقابلة للاستيفاء والتدارك،والمفروض أ نّه لا يمكن تداركها في الوقت،فلا مناص من إيجاب القضاء في خارج الوقت لاستيفائها وتداركها.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت والقضاء في خارج الوقت ليس جمعاً بين المتناقضين.فما أفاده (قدس سره) من أنّ الجمع بينهما جمع بين المتناقضين خاطئ جدّاً ولا واقع موضوعي له أصلاً.
نعم،لو كانت للصلاة مع الطهارة المائية مثلاً مصلحة واحدة شخصية ليست ذات مراتب تمّ ما أفاده (قدس سره) من عدم إمكان الجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضاء في خارج الوقت،وذلك لما عرفت من أنّ القيد المتعذر إذا كان دخيلاً في ملاك الواجب مطلقاً حتّى حال التعذّر فلا موجب للأمر بالفاقد في الوقت،وإلّا فلا مقتضي للأمر بالقضاء في خارج الوقت،ولكن حيث أمكن اشتمال الواجب في حال الاختيار والتمكن على مصلحة واحدة ذات مراتب،أو على مصلحتين ملزمتين في مقام الثبوت فلا يتم ما أفاده (قدس سره).
وأمّا الدعوى الثانية: فلأ نّه لا مانع من التمسك باطلاق أدلة الأمر
الاضطراري لاثبات عدم وجوب القضاء في خارج الوقت،وذلك لأنّ المولى إذا كان في مقام بيان تمام الوظيفة الفعلية للمكلف بهذه الأدلة،ومع ذلك سكت عن بيان وجوب القضاء عليه في خارج الوقت،فبطبيعة الحال كان مقتضى إطلاقها المقامي عدم وجوبه وإلّا كان عليه البيان.
وعلى الجملة:فلا قصور في أدلة الأوامر الاضطرارية كقوله تعالى «فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً» إلخ 1،وقوله (عليه السلام)«التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» 2وما شاكلهما غير قاصرة عن إثبات وجوب الفعل الناقص على المكلف في الوقت،وعدم وجوب القضاء عليه في خارج الوقت.هذا إذا كان لها إطلاق،وأمّا مع عدمه فالمرجع هو الأصل العملي،وهو في المقام أصالة البراءة عن وجوب القضاء،للشك فيه وعدم الدليل عليه.
وإن شئت قلت:إنّ وجوب القضاء حيث كان بأمر جديد،سواء أكان موضوعه فوت الفريضة أم كان فوت الواقع بملاكه،فلا علم لنا به في المقام.
أمّا على الأوّل فواضح،لفرض عدم فوات الفريضة من المكلف في الوقت.وأمّا على الثاني فلاحتمال أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري مشتملاً على تمام ملاك الواقع فلا يفوت منه الواقع بملاكه،ومن الواضح أنّ وجوب القضاء مع الشك فيه وعدم قيام دليل عليه مورد لأصالة البراءة،ولا خصوصية له من هذه الناحية،فنتيجة هذه المسألة هي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدم وجوب قضائه في خارج الوقت.
ثمّ إنّ الاضطرار قد يكون بغير اختيار المكلف،وقد يكون باختياره،أمّا
الأوّل فقد تقدّم حكمه بشكل موسع فلا نعيد.وأمّا الثاني وهو ما إذا كان الاضطرار باختياره،كما إذا كان عنده ماء يكفي لوضوئه أو غسله فأراقه فأصبح فاقداً للماء،أو كان عنده ثوب طاهر فنجّسه وبذلك اضطر إلى الصلاة في ثوب نجس،أو كان متمكناً من الصلاة قائماً فأعجز نفسه عن القيام وهكذا، فهل تشمل إطلاقات الأوامر الاضطرارية لهذه الموارد أم لا ؟ وجهان والظاهر هو الثاني.
والسبب في ذلك:هو أنّ تلك الاطلاقات بمقتضى الظهور العرفي وارتكازهم منصرفة عن الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته،لوضوح أنّ مثل قوله تعالى: «فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً» إلخ 1ظاهر بمقتضى المتفاهم العرفي فيما إذا كان عدم وجدان الماء والاضطرار إلى التيمم بطبعه وبغير اختيار المكلف،ومنصرفة عما إذا كان باختياره.وكذا قوله (عليه السلام)«إذا قوي فليقم» 2وما شاكل ذلك.وعلى الجملة:فلا شبهة في أنّ الظاهر من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي هو اختصاصها بخصوص الاضطرار الطارئ على المكلف بغير اختياره،فلا تشمل ما كان طارئاً بسوء اختياره.
وعلى هذا الضوء لا يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره وإرادته،فلو كان عنده ماء مثلاً لم يجز إهراقه وتفويته إذا علم بعدم وجدان الماء في مجموع الوقت،ولو فعل ذلك استحقّ العقوبة على ترك الواجب الاختياري التام أو على تفويت الملاك الملزم في محله،ومن الواضح أنّ العقل لا يفرّق في الحكم باستحقاق العقاب بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه إذا
كان كذلك،فكما يحكم بقبح الأوّل واستحقاق العقوبة عليه،فكذلك في الثاني هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد اتضح مما ذكرناه أ نّه لا أمر في موارد الاضطرار الاختياري لنبحث عن أنّ امتثاله مجزٍ عن الواقع أم لا ؟ هذا حسب ما تقتضيه القاعدة.
ولكن في باب الصلاة خاصة قد علمنا من الخارج عدم سقوطها من المكلف بحال،فلو عجّز نفسه باختياره عن الصلاة قائماً أو مع الطهارة المائية أو في ثوب طاهر،وجبت الصلاة عليه قاعداً أو مع الطهارة الترابية أو في ثوب متنجس،وإن استحقّ العقاب على ترك ما هو وظيفة المختار،لأنّ الاضطرار إذا كان بسوء الاختيار لم يمنع من العقاب.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر الأوّل عن المركب بسقوط جزئه أو قيده،وإثبات الأمر للفاقد يحتاج إلى دليل،والأدلة الاضطرارية تختص بصورة الاضطرار غير الاختياري،ولا تشمل الاضطرار الاختياري،وعندئذ ففي كل مورد من موارد الاضطرار الاختياري قام دليل خاص على وجوب الاتيان بالفاقد كما في باب الصلاة فهو،وإلّا فلا يجب.هذا كلّه في غير موارد التقية.
وأمّا فيها فالظاهر عدم الفرق بين صورتي الاختيار وغيره،وذلك لاطلاق أدلة التقية،ومقتضاه جواز الاتيان بالعمل تقية مع التمكن من الاتيان بدونها، ومن هنا أفتى المشهور بأنّ من تمكن من الصلاة في موضع خال عن التقية لا يجب عليه ذلك،بل يجوز له الاتيان بها مع العامة تقية،وكذلك الحال في الوضوء.
فالنتيجة:أنّ في موارد التقية يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره عن
الاتيان بالعمل بدونها،كما يجوز له البدار إليها،ولا تجب الاعادة إذا ارتفعت في الأثناء ولا القضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت.ولكن قد أشرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ موارد التقية خارجة عن محل الكلام في المقام.
إلى هنا قد انتهينا إلى عدّة نتائج:
الاُولى:أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري لا يجزي عن الواقع إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت.
الثانية:أنّ الاتيان به مجزٍ عنه إذا كان العذر مستوعباً لتمام الوقت.
الثالثة:أنّ إطلاقات الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته إلّافي موارد التقية.
الرابعة:ثبوت الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً وبين الإجزاء عن الواقع،أو فقل:ثبوت الملازمة بين جواز البدار واقعاً والإجزاء، هذا بحسب نظريتنا من وجود الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً وبين الإجزاء عن الواقع في مقام الثبوت،ومعه لا حاجة في الرجوع إلى أدلة اخرى لاثبات ذلك ولا تصل النوبة إلى البحث عن وجود هذه الأدلة في مقام الاثبات.
ولكن لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بمقالة صاحب الكفاية (قدس سره) فعندئذ بطبيعة الحال نحتاج في إثبات ذلك إلى التماس دليل اجتهادي أو أصل عملي.
وأمّا الدليل الاجتهادي فصوره أربع:
الاُولى:أن يكون كل من دليل الأمر الاضطراري ودليل اعتبار الجزئية أو الشرطية مطلقاً.
الثانية:أن يكون لدليل اعتبار الجزئية أو الشرطية إطلاق دون دليل الأمر الاضطراري.
الثالثة:بعكس ذلك،بأن يكون لدليل الأمر الاضطراري إطلاق دون دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية.
الرابعة:أن لا يكون لشيء من الدليلين إطلاق.
أمّا الصورة الاُولى: فلا ينبغي الشك في أنّ إطلاق دليل الأمر الاضطراري يتقدم على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية،وذلك لحكومته عليه، ومن الطبيعي أنّ إطلاق دليل الحاكم يتقدم على إطلاق دليل المحكوم كما هو الحال في تقديم جميع الأدلة المتكفلة لاثبات الأحكام بالعناوين الثانوية كأدلة لا ضرر ولا حرج وما شاكلهما على الأدلة المتكفلة لاثباتها بالعناوين الأوّلية.
وعلى ضوء ذلك فقضية إطلاق الأمر الاضطراري من ناحية وتقديمه على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية اخرى هي الإجزاء وعدم وجوب الاعادة حتّى فيما إذا ارتفع الاضطرار في الوقت فضلاً عن خارج الوقت، والسبب في ذلك:هو أنّ الاطلاق كاشف عن أنّ الفعل الاضطراري تمام الوظيفة وأ نّه وافٍ بملاك الواقع وإلّا لكان عليه البيان،ولازمه بطبيعة الحال عدم إعادة العمل حتّى في الوقت فما ظنّك بخارج الوقت.
وأمّا الصورة الثانية: فمقتضى إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية هو عدم سقوطهما في حال الاضطرار،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا إطلاق لدليل الأمر الاضطراري على الفرض.فالنتيجة بطبيعة الحال هي عدم الإجزاء ووجوب الاعادة إذا عادت القدرة للمكلف.
وأمّا الصورة الثالثة: فهي بعكس الصورة الثانية تماماً،يعني أنّ مقتضى
إطلاق دليل الأمر الاضطراري من ناحية وعدم إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية اخرى،هو الإجزاء لا محالة وعدم وجوب الاعادة عند إعادة القدرة.
وأمّا الصورة الرابعة: فحيث إنّه لا إطلاق لكل من الدليلين فالمرجع فيها هو الاُصول العملية،وقد اختلفت كلمات الأعلام فيها فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1إلى أنّ الأصل هنا يقتضي البراءة عن وجوب الاعادة بتقريب أنّ الفعل الاضطراري حيث كان متعلقاً للأمر واقعاً ولذا جاز البدار إليه،والمفروض أنّ المكلف أتى به،فعندئذ إذا ارتفع العذر في الوقت وعادت القدرة فبطبيعة الحال شكّ في أصل وجوب الاعادة وهو مرجع لأصالة البراءة، كما إذا شكّ في وجوب القضاء.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على جواز البدار واقعاً في مثل المقام،فعندئذ لا مناص من القول بالإجزاء،لما تقدّم من الملازمة بينه وبين وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري بتمام ملاك الواقع وإجزائه عنه،وعليه فلو شكّ في وجوب الاعادة بعد ارتفاع العذر فطبعاً يكون شكّاً في أصل التكليف، ومقتضى الأصل عدمه،إلّاأ نّك قد عرفت في ضمن البحوث السابقة أ نّه لا دليل على جواز البدار واقعاً فيما إذا لم يكن العذر مستوعباً لمجموع الوقت كما هو المفروض في المقام،وعليه فلا مناص من القول بعدم الإجزاء ووجوب الاعادة بعد ارتفاع العذر.
وذهب بعض الأعاظم (قدس سره) 2إلى أنّ مقتضى الأصل هنا الاشتغال
دون البراءة،وقد قرّب ذلك بوجهين:
الأوّل: أنّ الشك في وجوب الاعادة فيما إذا ارتفع العذر في الوقت نشأ من الشك في القدرة على استيفاء المصلحة الباقية من العمل الاختياري،وهذا وإن كان شكاً في أصل التكليف،ومقتضى الأصل فيه البراءة،إلّاأ نّه لما كان ناشئاً من الشك في القدرة فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال،لما تقرر في محلّه 1من أنّ الشك في التكليف إذا كان ناشئاً عن الشك في القدرة على الامتثال فهو مورد لحكم العقل بالاشتغال دون البراءة كما لا يخفى.
الثاني: أنّ المقام داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ببيان أ نّا نعلم إجمالاً بأنّ الجامع بين الفعل الاضطراري والاختياري مشتمل على مقدار من المصلحة،ولكنّا نشك في أنّ المقدار الباقي من المصلحة الملزمة أيضاً قائم بالجامع لتكون نتيجته التخيير بين الاتيان بالفعل الاضطراري والاتيان بالفعل الاختياري،ولازم ذلك هو إجزاء الاتيان بالفعل الاضطراري عن الواقع،لأنّ المكلف مع الاتيان به قد امتثل الواجب في ضمن أحد فرديه – وهو الاضطراري-أو أ نّه قائم بخصوص الفرد الاختياري،لتكون نتيجته التعيين،ولازمه عدم إجزائه عنه،لفرض أ نّه غير وافٍ بتمام مصلحته،فلا بدّ عندئذ من الاتيان به ثانياً،وحيث إنّنا لا نحرز هذا ولا ذاك بالخصوص، فبطبيعة الحال نشك في أنّ التكليف في المقام هل تعلق بالجامع أو بخصوص الفرد الاختياري،وهذا معنى دوران الأمر بين التعيين والتخيير،والمرجع فيه التعيين بقاعدة الاشتغال.
ولنأخذ بالنقد على كلا الوجهين:
أمّا الوجه الأوّل:فلما حققناه في محلّه 1من أ نّه لا فرق في الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشك في التكليف بين أن يكون منشؤه الشك في القدرة أو الشك من جهة اخرى كعدم النص أو إجماله أو تعارض النصين أو نحو ذلك، ضرورة عدم الفرق بينهما،ولا موجب لتقييد أصالة البراءة بغير المورد الأوّل، فانّه بلا دليل ومقتض،وتمام الكلام في محله.
وأمّا الوجه الثاني:فلأنّ ما أفاده (قدس سره) من دوران الأمر في المقام بين التعيين والتخيير وإن كان صحيحاً،إلّاأنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ المرجع فيه قاعدة الاشتغال خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له،والسبب في ذلك:هو أ نّنا قد حققنا في موطنه 2أنّ المرجع في كافة موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة البراءة دون قاعدة الاشتغال إلّافي موردين:
الأوّل: فيما إذا دار الأمر بينهما في الحجية،كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء، والآخر على حرمته وفرضنا العلم الخارجي بحجية أحدهما في هذا الحال، فعندئذ إن كان الدليلان متساويين فالحجية تخييرية،وإن كان أحدهما محتمل الرجحان بالاضافة إلى الآخر فهو الحجة دونه،وذلك لأنّه إمّا بخصوصه حجة أو هو أحد فردي الحجية،وهذا بخلاف الآخر،فان احتمال أ نّه بخصوصه حجة دون ذاك غير محتمل.فإذن لا محالة تكون حجيته مشكوكة،وقد ذكرنا في محلّه أنّ الشك في الحجية في مرحلة الانشاء مساوق للقطع بعدمها في مرحلة الفعلية فلا أثر له.وهذا معنى حكم العقل بالتعيين في مثل هذا المورد.
الثاني: فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم والامتثال، بيان ذلك:أنّ الحكمين في هذه الموارد إن كانا متساويين فالمكلف مخيّر بين امتثال هذا وذاك،وإن كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر،ففي مثله تعيّن امتثاله بحكم العقل دون ذاك،وذلك بقانون أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية،وحيث إنّ المكلف في مفروض الكلام يعلم باشتغال ذمته بالتكليف فلا بدّ له من الخروج عن عهدته وتحصيل الأمن من العقوبة عليه،ومن الطبيعي أ نّه لا يحصل له الأمن منها إلّابامتثال ما هو محتمل الأهمية دون غيره،بداهة أنّ وظيفته في الواقع لا تخلو من أن تكون هي التخيير بينهما،أو التعيين والاتيان بخصوص هذا،وعلى كلا التقديرين حيث إنّ امتثاله مؤمّن دون امتثال غيره تعيّن بحكم العقل.
وأمّا في غير هذين الموردين فالمرجع هو أصالة البراءة،وذلك لأنّ تعلق التكليف بالجامع معلوم وتعلقه بالخصوصية الزائدة مشكوك فيه،ومقتضى الأصل البراءة عنه،وهذا كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وبعد ذلك نقول:إنّ دوران الأمر في المقام وإن كان بين التعيين والتخيير،إلّا أ نّه حيث كان في مقام الجعل لا في مقام الفعلية والامتثال،فبطبيعة الحال يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،لفرض أنّ تعلق الأمر بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري معلوم،وتعلقه بخصوص الفعل الاختياري مشكوك فيه للشك في أنّ فيه ملاكاً ملزماً يخصه،فمقتضى الأصل فيه البراءة.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الأصل يقتضي البراءة عن وجوب الاتيان بالفعل الاختياري.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة،وهي أنّ تعلق الأمر الاضطراري بالفعل الناقص وجواز البدار إليه واقعاً مع فرض تمكن المكلف من الاتيان بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت يحتاج إلى دليل،وقد قام الدليل على ذلك في خصوص موارد التقية وأنّ البدار فيها جائز كما أشرنا إليه سابقاً.
وأمّا فيما عدا موارد التقية،فقد أشرنا 1إلى أنّ جماعة منهم السيِّد (قدس سره) في العروة 2قد اختاروا أنّ مقتضى إطلاق دليل وجوب التيمم هو جواز البدار إليه،مع احتمال ارتفاع العذر في الوقت وتمكن المكلف من الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية فيه.ومن هنا قال (قدس سره) في المسألة الثالثة من أحكام التيمم:الأقوى جواز التيمم في سعة الوقت وإن احتمل ارتفاع العذر في آخره أو ظنّ به-إلى أن قال-فتجوز المبادرة مع العلم بالبقاء ويجب التأخير مع العلم بالارتفاع،هذا.
وحري بنا أن نقول: إنّ ما ذكروه في مسألة التقية في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به.وأمّا ما ذكروه في مسألة التيمم فلا يمكن المساعدة عليه بوجه،والسبب في ذلك ما تقدّم من أ نّه لا إطلاق لأدلة وجوب التيمم من الآية والروايات بالاضافة إلى الموارد التي لا يستوعب العذر فيها مجموع الوقت،لفرض تمكن المكلف معه من الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية،ومن الطبيعي أنّ النوبة لا تصل عندئذ إلى الصلاة مع الطهارة الترابية.
وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل أوسع،كما
قد بيّنا في مبحث الفقه 1بصورة موسّعة أنّ مدّعاهم من جواز البدار خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له،وما يظهر من بعض الروايات جوازه قد تكلمنا فيه هناك فلاحظ.
وأمّا الأدلة العامة،فلا تدل على مشروعية العمل الناقص مع تمكن المكلف من الاتيان بالعمل التام في الوقت.
أمّا حديث رفع الاضطرار والاكراه،فقد ذكرنا في محلّه 2أنّ مفاده نفي الحكم لا إثباته،يعني أنّ الوجوب المتعلق بالمركب عند اضطرار المكلف إلى ترك جزء أو شرط منه يرتفع بمقتضى هذا الحديث،وأمّا الأجزاء الباقية التي تمكن المكلف منها فالحديث لا يدل على وجوبها،مثلاً إذا اضطرّ إلى ترك الطهارة المائية ارتفع عنه الوجوب المتعلق بالصلاة معها،وأمّا وجوب الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية فهو يحتاج إلى دليل خاص،وحديث الاضطرار لا يدل على ذلك،وكذلك الحال في حديث النسيان وما شاكله.
وأضف إلى ذلك:أنّ حديث الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك إنّما يكون رافعاً للتكليف إذا تعلق بترك الواجب في مجموع الوقت،وأمّا إذا تعلق بتركه في بعض الوقت لا في مجموعه فلا أثر له ولا يكون رافعاً للتكليف،فانّ ما تعلق به الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك لا يكون مأموراً به وما هو مأمور به – وهو الطبيعي الجامع بين الأفراد الطولية والعرضية-لم يتعلق به،فلا وجه لسقوط وجوبه،ومن هنا يظهر حال مثل قوله (عليه السلام)«ما من شيء حرّمه اللّٰه تعالى إلّاوقد أحله عند الضرورة» 3وذلك لوضوح أ نّه لا يدل إلّا
على جواز ارتكاب ما تعلقت الضرورة به وأجنبي عن المقام بالكلّية.
وأمّا قاعدة الميسور أو ما شاكلها،فمضافاً إلى ما حققناه في محلّه 1من أ نّه لا أصل لهذه القاعدة،وأ نّها قاصرة سنداً ودلالة،فهي أجنبية عن المورد ولا صلة لها به أصلاً،وذلك لعدم تحقق موضوعها،حيث إنّ المكلف على الفرض متمكن من الاتيان بالواجب في ضمن فرد كامل في أثناء الوقت بعد ارتفاع العذر،ومن المعلوم أ نّه مانع عن صدق عنوان المعسور عليه لتصل النوبة إلى ميسوره.
وعلى الجملة:فالواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة مع الطهارة المائية مثلاً في مجموع الوقت المحدد له،ومن الطبيعي أنّ تمكنه من الاتيان به في ضمن فرد كامل يوجب عدم صدق المعسور في حقه،لتكون الفرد الاضطراري-وهو الصلاة مع الطهارة الترابية-ميسوره.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي عدم قيام دليل على تعلق الأمر الاضطراري بالعمل الناقص مع تمكن المكلف من الاتيان بالعمل التام في أثناء الوقت،نعم قد قام دليل خاص على ذلك في خصوص موارد التقية.
[ إجزاء المأمور به الظاهري]
وأمّا الكلام في المسألة الثالثة-وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني أو تعبّدي-فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيها على أقوال:
الأوّل:الإجزاء مطلقاً.
الثاني:عدمه مطلقاً.
الثالث:التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني وما إذا انكشف بعلم تعبدي،فيجزي على الثاني دون الأوّل.
الرابع:التفصيل بين القول بالسببية والقول بالطريقية،فعلى الأوّل لا مناص من الإجزاء دون الثاني.
الخامس:التفصيل بين أقسام السببية بالالتزام بالإجزاء في بعضها وبعدمه في بعضها الآخر.
السادس:التفصيل بين الأمارات والاُصول بالالتزام بعدم الإجزاء في موارد الأمارات والإجزاء في موارد الاُصول.وقد اختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره).
ولكن ينبغي لنا عطف الكلام في هذا التفصيل قبل أن نحرر محل النزاع وبيان ما هو الحق في المسألة من الأقوال فنقول:قد أفاد (قدس سره) في وجه ذلك ما إليك لفظه:
والتحقيق:أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق
متعلقه،وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوي ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية،يجزي،فان دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط ومبيّناً لدائرة الشرط وأ نّه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية،فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه،بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل،وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أ نّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات فلا يجزي،فان دليل حجيته حيث كان بلسان أ نّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أ نّه لم يكن كذلك بل كان لشرطه فاقداً 1.
أحدهما:
حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك والجهل بالواقع حقيقة من دون نظر إلى الواقع أصلاً.وثانيهما:حكم ظاهري مجعول أيضاً في ظرف الشك في الواقع والجهل به،إلّاأ نّه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه.والأوّل مفاد الاُصول العملية كقاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب،والثاني مفاد الأمارات.
أمّا الأوّل: فلأنّ المجعول في موارد تلك الاُصول هو الحكم الظاهري في ظرف الشك والجهل بالواقع بما هو جهل،ومن الطبيعي أنّ ذلك إنّما يكون من دون لحاظ نظرها إلى الواقع أصلاً،ولذا اخذ الشك في موضوعه في لسانها، ومن هنا لا يتصف بالصدق تارة وبالكذب تارة اخرى،ضرورة أنّ الحكم الظاهري المجعول في مواردها كالطهارة أو الحلية موجود حقيقة قبل انكشاف الخلاف،وبعد الانكشاف يرتفع من حينه لا من الأوّل،كارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه،حتّى الاستصحاب بناءً على نظريته (قدس سره) وفي مثله لا يعقل
الاتصاف بالصدق مرّة وبالكذب اخرى.نعم،قد يكون الحكم مطابقاً للحكم الواقعي وقد يكون مخالفاً له،ولكن هذا أمر آخر أجنبي عن اتصافه بهما بالكلية كما هو واضح.
فالنتيجة على أساس ذلك هي حكومة تلك الاُصول على الأدلة الواقعية في مرحلة الظاهر وتوجب توسعة دائرتها،حيث إنّ ما دلّ على شرطية الطهارة أو الحلية للصلاة مثلاً ظاهر في الطهارة أو الحلية الواقعية،ولكنها جعلت الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية،فمقتضى هذه الحكومة هو أنّ الطهارة الظاهرية كالطهارة الواقعية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، فكما أنّ المكلف إذا كان واجداً للطهارة الواقعية واجد للشرط حقيقة،فكذلك إذا كان واجداً للطهارة الظاهرية،فلو صلّى معها ثمّ انكشف الخلاف لم ينكشف أنّ العمل فاقد للشرط،بل هو واجد له حقيقة والشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه.
وبكلمة اخرى:أنّ الطهارة الظاهرية الثابتة بقاعدة الطهارة أو استصحابها، وكذا الحلية الظاهرية الثابتة بقاعدتها أو استصحابها،لا واقع موضوعي لها، ما عدا الثبوت في ظرف الشك لكي تطابق الواقع مرّة وتخالفه مرّة اخرى،ومن المعلوم أنّ ما لا واقع له لا يعقل اتصافه بالصدق والكذب،فان معنى الصدق هو مطابقة الشيء لواقعه الموضوعي،ومعنى الكذب عدم مطابقته له،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّها تحكم على الأدلة الواقعية وتجعل الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية.
فالنتيجة على ضوء ذلك:هي أنّ الشرط إذا كان الأعم فلا يعقل فيه انكشاف الخلاف وفقدان العمل له بعد ما كان واجداً له في ظرفه،غاية الأمر يرتفع بارتفاع موضوعه وهو الشك،فهي أحكام ثابتة واقعاً في مرحلة الظاهر ما دام الشك والجهل بالواقع،فلو صلّى المكلف مع ثوب طاهر ظاهراً أو في
مكان مباح كذلك ثمّ بان عدمها واقعاً لم ينكشف أنّ الصلاة فاقدة للشرط في ظرفها،لفرض أنّ الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية،والمفروض أ نّها واجدة لها في ظرفها حقيقة،فلا يعقل انكشاف الخلاف بالاضافة إليها.
نعم،هي فاقدة للطهارة أو الحلية الواقعية،ولكن قد عرفت أنّ الشرط ليس خصوصها،ومن هنا يظهر أنّ التعبير بانكشاف الخلاف في أمثال هذه الموارد إنّما هو بلحاظ الطهارة أو الحلية الواقعية.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ عدم الإجزاء في موارد هذه الاُصول غير معقول فلا مناص من القول بالإجزاء.
وأمّا الثاني -وهو مفاد الأمارات-فلأنّ المجعول في مواردها إنّما هو حجيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه من دون جعل شيء آخر فيها في مقابل الواقع،بيان ذلك:أمّا بناءً على كون المجعول فيها هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي فواضح،وذلك لأنّ الأمارة على ضوء هذه النظرية إن كانت مطابقة للواقع أثبتت الواقع فحسب،وإن كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤد إلى حكم شرعي أصلاً:لا واقعي ولا ظاهري،أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني فلفرض عدم جعل حكم ظاهري في قبال الحكم الواقعي في موردها، وإنّما المجعول كما عرفت هو الطريقية والكاشفية فحسب،فإذن حالها حال القطع المخالف للواقع.وأمّا بناءً على نظريته (قدس سره) من أنّ المجعول فيها إنّما هو المنجزية والمعذرية،فأيضاً الأمر كذلك،لأنها على تقدير المطابقة تثبت الواقع إثباتاً تنجزياً فحسب،وعلى تقدير المخالفة فلا حكم في موردها،لا واقعاً ولا ظاهراً،أمّا الأوّل فواضح،وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ المجعول في مواردها إنّما هو المنجزية والمعذرية دون شيء آخر.
وعلى الجملة: فحال الأمارات حال القطع من هذه الناحية فلا فرق بينهما
أصلاً،فكما أ نّه لا حكم في موارد القطع المخالف للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً، فكذلك لا حكم في موارد الأمارات المخالفة له.ومن هنا تتصف الأمارات بالصدق مرّة وبالكذب مرّة اخرى.
فالنتيجة في نهاية المطاف هي أنّ في مقام الثبوت وإن كان لا فرق بين الأمارات والاُصول،حيث إنّ كلتيهما وظائف مجعولة للجاهل بالواقع دون العالم به،إلّاأ نّهما تفترقان في مرحلة الاثبات في نقطة واحدة،وهي أنّ الشك قد اخذ في موضوع الاُصول في لسان أدلتها،ومن هنا يكون الحكم المجعول في مواردها في قبال الواقع من دون نظره إليه.وهذا بخلاف الأمارات،فانّ الشك لم يؤخذ في موضوعها في لسان أدلتها،وأنّ لسانها كما عرفت لسان إثبات الواقع والنظر إليه.وعلى ضوء ذلك لا مناص من القول بعدم الإجزاء في موارد الأمارات عند كشف الخلاف،لما عرفت من عدم الحكم في موارد مخالفتها للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً،ومعه كيف يتصور الإجزاء فيها،ومن هنا اتفقت كلماتهم على عدم الإجزاء في موارد القطع بالخلاف.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) خاطئ نقضاً وحلاً.
أمّا الأوّل: فلأنّ الالتزام بما أفاده (قدس سره) ممّا لا يمكن في غير باب الصلاة من أبواب الواجبات كالعبادات والمعاملات،ومن هنا لو توضأ بماء قد حكم بطهارته من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثمّ انكشف نجاسته لم يلتزم أحد من الفقهاء والمجتهدين حتّى هو (قدس سره) بالإجزاء فيه وعدم وجوب إعادته،وكذا لو غسل ثوبه أو بدنه في هذا الماء ثمّ انكشف نجاسته لم يحكم أحد بطهارته،وهكذا،مع أنّ لازم ما أفاده (قدس سره) هو الحكم بصحة الوضوء في المثال الأوّل،وبطهارة الثوب أو البدن في المثال الثاني، لفرض أنّ الشرط أعم من الطهارة الظاهرية والواقعية،والمفروض وجود
الطهارة الظاهرية هنا،ومن الطبيعي أنّ العمل إذا كان واجداً للشرط في ظرفه حكم بصحته،ولا يتصور فيه كشف الخلاف كما عرفت،وارتفاعه إنّما هو بارتفاع موضوعه.ومن هذا القبيل ما إذا افترضنا أنّ زيداً كان يملك داراً مثلاً ثمّ حصل لنا الشك في بقاء ملكيته فأخذنا باستصحاب بقائها ثمّ اشتريناها منه وبعد ذلك انكشف الخلاف وبان أنّ زيداً لم يكن مالكاً لها،فمقتضى ما أفاده (قدس سره) هو الحكم بصحة هذا الشراء،لفرض أنّ الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعي وأفاد التوسعة في الشرط وجعله أعم من الملكية الواقعية والظاهرية،مع أ نّه لن يلتزم ولا يلتزم بذلك أحد حتّى هو (قدس سره) فالنتيجة:أنّ ما أفاده (قدس سره) منقوض في غير باب الصلاة من أبواب العبادات والمعاملات.
وأمّا الثاني: -وهو جوابه حلاً-فلأنّ قاعدتي الطهارة والحلية وإن كانتا تفيدان جعل الحكم الظاهري في مورد الشك بالواقع والجهل به من دون نظر إليه،إلّاأنّ ذلك مع المحافظة على الواقع بدون أن يوجب جعله في موردهما انقلابه وتبديله أصلاً،والسبب في ذلك ما حققناه في مورده 1من أ نّه لا تنافي ولا تضاد بين الأحكام في أنفسها،ضرورة أنّ المضادة إنّما تكون بين الأمور التكوينية الموجودة في الخارج،وأمّا الاُمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر فلا تعقل المضادة والمنافاة بينها أصلاً،وبما أنّ الأحكام الشرعية امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها في الخارج ما عدا اعتبار الشارع إيّاها في عالم الاعتبار،فلا تعقل المنافاة والمضادة بينها في أنفسها أصلاً،بداهة أ نّه لا تنافي بين اعتبار الوجوب في نفسه لفعل واعتبار الحرمة كذلك له،وإنّما المضادّة والمنافاة بينها من إحدى ناحيتين:الاُولى:بحسب المبدأ يعني المصلحة
والمفسدة،بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام لهما.الثانية:بحسب المنتهى يعني مرحلة الامتثال،حيث لايقدر المكلف على امتثال الوجوب والحرمة المجعولين لفعل واحد في زمن واحد،كما أ نّه لا يمكن اجتماعهما فيه بحسب المبدأ، فانّ المصلحة الملزمة مضادة للمفسدة كذلك فلا يعقل اجتماعهما في فعل واحد.
وعلى ضوء ذلك قد قلنا إنّه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلاً لا في نفسه ولا من ناحية المبدأ،ولا من ناحية المنتهى،أمّا الأوّل:فلما عرفت من عدم التنافي بين الأحكام في أنفسها.وأمّا الثاني:فلأنّ الحكم الظاهري لم ينشأ عن المصلحة في متعلقه،وإنّما نشأ عن المصلحة في نفسه.وأمّا الثالث:فلأنّ الحكم الظاهري إنّما هو وظيفة من لم يصل إليه الحكم الواقعي لا بعلم وجداني ولا بعلم تعبدي،وأمّا من وصل إليه الحكم الواقعي فلا موضوع عندئذ للحكم الظاهري في مادته،فلا يجتمعان في مرحلة الامتثال لكي تقع المنافاة بينهما في هذه المرحلة.
وعلى الجملة: ففي موارد وجود الحكم الظاهري لا يجب على المكلف امتثال الحكم الواقعي،وفي موارد وجوب امتثاله لا حكم ظاهري في البين.فالنتيجة:
هي أ نّه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلاً،وعليه فالالتزام بوجود الحكم الظاهري في موارد قاعدة الطهارة والحلية لا ينافي الالتزام بثبوت الحكم الواقعي في مواردهما أيضاً،بل لا مناص من الالتزام بذلك بعد بطلان التصويب والانقلاب بكافة أشكاله وألوانه كما حققناه في محلّه 1.
وعلى ضوء هذا الأساس فلو صلّى المكلف مع طهارة البدن أو الثياب ظاهراً بمقتضى قاعدة الطهارة أو استصحابها وكان في الواقع نجساً فصلاته وإن
كانت في الظاهر محكومة بالصحة ويترتب عليها آثارها،إلّاأ نّها باطلة في الواقع،لوقوعها في النجس،وعليه فإذا انكشف الخلاف انكشف أ نّها فاقدة للشرط من الأوّل،وأ نّه لم يأت بالصلاة المأمور بها واقعاً،وأنّ ما أتى به ليس مطابقاً لها،فإذن بطبيعة الحال تجب الاعادة أو القضاء،والاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري إنّما يكون عذراً له في تركها ما دام بقاء الجهل والشك،وأمّا إذا ارتفع وانكشف الحال لم يكن معذوراً في تركها،فالأحكام الظاهرية في الحقيقة أحكام عذرية فحسب،وليست أحكاماً حقيقية في قبال الأحكام الواقعية، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام الجهل وإذا ارتفع ارتفع عذره، وبعده لا يكون معذوراً في ترك الواقع وترتيب آثاره عليه من الأوّل.
وأمّا حديث حكومة تلك القواعد على الأدلة الواقعية كما تقدّم ذكره فلا يجدي،والسبب في ذلك هو أنّ هذه الحكومة حكومة ظاهرية موقّتة بزمن الجهل بالواقع والشك فيه،وليست بحكومة واقعية لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه.ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف،فإذا انكشف فلا بدّ من العمل على طبق الواقع.
وبكلمة اخرى:أنّ الشرط هو الطهارة أو الحلية الواقعية فحسب بمقتضى الأدلة الواقعية،وهذه القواعد والاُصول إنّما تثبت الطهارة أو الحلية في مواردها عند الشك والجهل بها،والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام هذا الشك والجهل،فإذا ارتفع انكشف أنّ العمل فاقد له من الأوّل،وعليه فما أتى به غير مأمور به واقعاً.ومن الطبيعي أنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل خاص،وإلّا فمقتضى القاعدة عدم إجزائه عنه.
أو فقل:إنّ في صورة مطابقة تلك القواعد للواقع فالشرط الواقعي موجود وصحة العمل مستندة إلى وجدانه،ولا اثر عندئذ لوجود الطهارة أو الحلية
الظاهرية،وأمّا في صورة مخالفتها للواقع فأثرها ليس إلّاترتيب آثار الواقع عليها تعبداً في مرحلة الظاهر لا البناء على أ نّها شرط حقيقة،كما أنّ الطهارة أو الحلية الواقعية شرط كذلك،بداهة أنّ لسانها ليس إثبات أنّ الشرط أعم منها،بل لسانها إثبات آثار الشرط ظاهراً في ظرف الشك والجهل،وعند ارتفاعه وانكشاف الخلاف ظهر أنّ الشرط غير موجود.ومن هنا يظهر أنّ هذه الحكومة إنّما هي حكومة في طول الواقع وفي ظرف الشك به بالاضافة إلى ترتيب آثار الشرط الواقعي عليها في مرحلة الظاهر فحسب،وليست بحكومة واقعية بالاضافة إلى توسعة دائرة الشرط وجعله الأعم من الواقع والظاهر حقيقة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة:هي أنّ مقتضى القاعدة عند ارتفاع الجهل وكشف الخلاف عدم الإجزاء،فالإجزاء يحتاج إلى دليل خاص،وقد ثبت ذلك في خصوص باب الصلاة دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا فرق بين هذه القواعد والاُصول وبين الأمارات فانّهما من واد واحد،فما أفاده (قدس سره) من التفصيل بينهما ساقط ولا أصل له كما عرفت،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى: لا إشكال في أنّ الأمارات القائمة على الشبهات الموضوعية كالبينة واليد وما شاكلهما ممّا يجري في تنقيح الموضوع وإثباته خارجة عن محل البحث،والسبب في ذلك:هو أنّ قيام تلك الأمارات على شيء لا يوجب قلب الواقع عما هو عليه،والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعية لا يقولون به في الموضوعات الخارجية،وسيأتي إن شاء اللّٰه تعالى في ضمن البحوث الآتية أنّ الإجزاء في موارد الاُصول والأمارات غير معقول إلّابالالتزام بالتصويب فيها، والتصويب في الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعية غير معقول،بداهة أنّ
البيّنة الشرعية إذا قامت على انّ المائع الفلاني خمر مثلاً،لا توجب انقلاب الواقع عما هو عليه من هذه الناحية،فلو كان في الواقع ماء لم تجعله خمراً وبالعكس،كما إذا قامت على أ نّه ماء وكان في الواقع خمراً لم تجعله ماءً،أو إذا قامت على أنّ المال الذي هو لزيد قد نقل منه بناقل شرعي إلى غيره ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف وبان أ نّه لم ينتقل إلى غيره لم توجب انقلاب الواقع عما هو عليه وتغيّره،يعني قلب ملكية زيد إلى غيره،أو إذا افترضنا أ نّها قامت على أنّ المائع الفلاني ماء فتوضأ به ثمّ انكشف خلافه لم يكن مجزئاً،لما عرفت من أ نّها لا توجب انقلاب الواقع ولا تجعل غير الماء ماء،ليكون الوضوء المذكور مجزئاً عن الواقع.
ومن ناحية ثالثة: قد تسالمنا على خروج موارد انكشف عدم الحكم الظاهري فيها رأساً عن محل الكلام،وذلك كما لو استظهر المجتهد معنى من لفظ وأفتى على طبقه استناداً إلى حجية الظهور،ثمّ بعد ذلك انكشف أ نّه لا ظهور له في هذا المعنى المعيّن أصلاً،بل هو مجرد وهم وخيال فلا واقع موضوعي له، فعندئذ لا ريب في عدم حجية هذا المعنى،لعدم اندراجه تحت أدلة حجية الظهورات.وكذا لو أفتى المجتهد على طبق رواية وقع في سلسلة سنده ابن سنان، بتخيّل أ نّه عبداللّٰه بن سنان الثقة،ثمّ بان أ نّه محمّد بن سنان الضعيف،فانّ الاعتقاد الأوّل باطل،حيث إنّه صرف وهم وخيال ولا واقع له.
فالنتيجة: أنّ كلّما كان الاشتباه في التطبيق بتخيل أنّ اللفظ الفلاني ظاهر في معنى ثمّ بان أ نّه غير ظاهر فيه من الأوّل وكان اعتقاد الظهور مجرد وهم بلا واقعية له،أو اعتقد أنّ الرواية الفلانية رواية ثقة بتخيل أنّ الواقع في سندها زرارة بن أعين مثلاً ثمّ انكشف أ نّها رواية ضعيفة،وأنّ الواقع في سندها ليس هو زرارة بن أعين،بل شخص آخر لم يوثق،أو اعتقد أنّ الرواية الفلانية
مسندة ثمّ بان أ نّها مرسلة وهكذا،فهذه الموارد بكافة أشكالها خارجة عن محل النزاع وقد تسالموا على عدم الإجزاء فيها.
ومن ناحية رابعة: لا إشكال ولا خلاف أيضاً بين الأصحاب في عدم الإجزاء في موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية بالعلم الوجداني بأن يعلم المجتهد مثلاً بمخالفة فتواه السابقة للواقع.
فالنتيجة على ضوء ما قدّمناه في نهاية المطاف هي ما يلي:
إنّ محل النزاع في مسألتنا هذه بين الأعلام والمحققين هو ما إذا انكشف الخلاف في موارد الحجج والأمارات والاُصول العملية في الشبهات الحكمية بقيام حجة معتبرة على الخلاف،وذلك كما إذا أفتى المجتهد بعدم جزئية شيء أو شرطيته مثلاً من جهة أصل عملي كالاستصحاب أو البراءة ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف واطلع على دليل اجتهادي يدل على أ نّه جزء أو شرط،أو أفتى بذلك من جهة أصل لفظي كالعموم أو الاطلاق أو نحو ذلك ثمّ بعده انكشف الخلاف واطلع على وجود مخصص أو مقيد أو قرينة مجاز،ففي هذه الموارد يقع الكلام في أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزي عن المأمور به بالأمر الواقعي إعادة أو قضاءً،أو لا يجزي ؟ فيه وجوه وأقوال.
والصحيح: هو التفصيل بين نظرية الطريقية في باب الأمارات والحجج ونظرية السببية،فعلى ضوء النظرية الاُولى مقتضى القاعدة عدم الإجزاء مطلقاً – يعني في أبواب العبادات والمعاملات وفي موارد الاُصول والأمارات-إلا أن يقوم دليل خاص على الإجزاء في مورد.وعلى ضوء النظرية الثانية مقتضى القاعدة الإجزاء كذلك إلا أن يقوم دليل خاص على عدمه في مورد،فلنا دعويان:الاُولى:أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء بناءً على نظرية الطريقية والكاشفية.الثانية:أنّ مقتضى القاعدة الإجزاء بناءً على نظرية السببية.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ الأمارات على ضوء هذه النظرية تكشف عن عدم إتيان المكلف بالمأمور به الواقعي في هذه الشريعة،وأنّ ما أتى به ليس بمأمور به كذلك،والمفروض أنّ الصحة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج الموجبة لسقوط الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه،كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقته له المترتب عليه وجوب الاعادة والقضاء،ومن الطبيعي أنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل،ولا دليل عليه،وهذا معنى قولنا إنّ مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء.
ولكن قد يقال: إنّ الإجزاء هو المطابق للقاعدة،واستدلّ عليه بأنّ انكشاف الخلاف إذا كان بقيام حجة معتبرة كما هو مفروض الكلام فلا علم بكون الحجة الاُولى باطلة ومخالفة للواقع كما هو الحال فيما إذا كان انكشاف الخلاف بعلم وجداني،بل الحجة السابقة كاللّاحقة من هذه الناحية،فكما يحتمل أن تكون الحجة اللّاحقة مطابقة للواقع،فكذلك يحتمل أن تكون الحجة الاُولى مطابقة له وإن كان الواجب على من قامت عنده الحجة الثانية وعلى مقلديه العمل باجتهاده الثاني المستند إلى هذه الحجة الفعلية،دون اجتهاده السابق المستند إلى الحجة السابقة،والسبب في ذلك هو أنّ حجية السابقة إنّما تسقط في ظرف وصول الحجة اللّاحقة،أمّا في ظرفها فهي باقية على حجيتها،بداهة أ نّه لا يعقل كشف الحجة اللّاحقة عن عدم حجية السابقة في ظرفها،لأنّ الشيء لا ينقلب عما وقع عليه،فإذا كانت السابقة متصفة بالحجية في ظرفها كما هو المفروض فكيف يعقل كشف اللّاحقة عن عدم حجيتها فيه،فالتبدل في الحجية من التبدل في الموضوع لا من كشف الخلاف وعدم الثبوت في الواقع،وعليه فلا وجه لبطلان الأعمال الماضية المستندة إلى الحجة السابقة.
وبكلمة اخرى:أنّ الواقع كما هو مجهول له في ظرف اجتهاده الأوّل كذلك
هو مجهول في ظرف اجتهاده الثاني،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، فقيام الحجة الثانية على خلاف الاُولى لا يعيّن بمؤداها الواقع الحقيقي لكي يستلزم خطأ الاُولى وعدم مطابقتها للواقع،بداهة أ نّه كما يحتمل خطأ الاُولى وعدم مطابقة مؤداها للواقع،كذلك يحتمل خطأ الثانية وعدم مطابقة مؤداها له،فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا في غير مورد أنّ الأثر إنّما يترتب على الحجية الفعلية الواصلة إلى المكلف صغرىً وكبرىً-وهو تنجيز الواقع عند المصادفة والتعذير عند الخطأ وصحة الاسناد والاستناد-وأمّا الحجية المجعولة في مرحلة الانشاء التي لم تصل إلى المكلف صغرىً وكبرىً فلا أثر لها أصلاً، مثلاً إذا علم بحجية البينة في الشريعة المقدسة وعلم بقيامها على نجاسة شيء تترتب عليها آثارها وهي التنجيز والتعذير وصحة الاسناد والاستناد.وأمّا إذا علم بحجيتها ولكن لم يعلم بقيامها على نجاسته في الخارج أو علم بقيامها عليها ولكنّه لم يعلم بحجيتها في الشريعة المقدسة،لم يترتب عليها تنجيز نجاسة ذلك الموضوع الخارجي،بل تبقى مشكوكة،فالمرجع فيها الاُصول العملية من الاستصحاب أو قاعدة الطهارة.وعلى الجملة:فالحجية متقوّمة بالوصول،فان وصلت إلى المكلف صغرىً وكبرىً لم يبق موضوع للأصل العملي،وإن لم تصله ولو بإحدى مقدمتيها فالموضوع للأصل العملي موجود حقيقة وهو الشك في الحكم الواقعي.
ومن ناحية ثالثة:أنّ انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول،والتبدل فيها دائماً يكون من التبدل في الموضوع وارتفاع الحكم بارتفاعه،لا عدم ثبوته من الأوّل كما هو واضح.
وإن شئت قلت:إنّ المقام نظير النسخ في الأحكام الشرعية،فكما أنّ حقيقة
النسخ انتهاء الحكم بانتهاء أمده ومدة عمره وثبوت الحكم حقيقة قبل انتهائه، فكذلك حجية الأمارة الاُولى،فانّها منتهية بانتهاء أمدها ومدة عمرها-وهو الظفر بالحجة الثانية ووصولها-حيث إنّها ثابتة حقيقة قبل ذلك،والسبب في ذلك:هو ما عرفت من أنّ اتصاف الأمارة بالحجية متقوّم بالوصول إلى المكلف بصغراها وكبراها،فمتى وصلت إليه كذلك اتصفت بالحجية،وإلّا لم يعقل اتصافها بها.وعلى هذا فالحجة الثانية ما لم تصل إلى المكلف لا يعقل كونها مانعة عن اتصاف الحجة السابقة بها ولا توجب رفع اليد عنها أصلاً،وذلك لفرض أ نّها قبل وصولها لم تكن حجة لتكون مانعة عن حجيتها ورافعة لها، فإذا وصلت فبطبيعة الحال كانت رافعة لحجيتها من حين الوصول،لفرض أنّ اتصافها بالحجية من هذا الحين فلا يعقل أن تكون رافعة لها قبله،فإذن لا مانع من اتصافها بالحجية في وقتها وقبل الظفر بحجية الحجة الثانية،ولا مزاحم لها في هذه الفترة من الزمن،ولا موجب لرفع اليد عنها في تلك الفترة.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أ نّه لا مناص من الالتزام بصحة الأعمال الماضية المطابقة مع الحجة السابقة،ولا موجب لاعادتها أو قضائها في الوقت أو خارجه،لفرض أ نّها صادرة عن المكلف على طبق الحجة في ظرفها واقعاً،ومعه لا مقتضي لبطلانها أصلاً،ومن البديهي أنّ الشيء لا ينقلب عما وقع عليه.
ولنأخذ بالنقد عليه بيان ذلك:أنّ مقتضى الأمارة الثانية-سواء فيها القول باتصافها بالحجية الفعلية من الأوّل،أو القول باتصافها بها كذلك من حين وصولها والظفر بها-هو عدم الإجزاء.
أمّا على التقدير الأوّل: فواضح،حيث إنّه بعد انكشاف الخلاف ظهر أنّ الأمارة الثانية كانت حجة من الأوّل،والأمارة الاُولى لم تكن حجة كذلك،
وصرف الاعتقاد بحجيتها من دون واقع موضوعي له لا أثر له أصلاً.ونتيجة ذلك بطبيعة الحال بطلان الأعمال الماضية ووجوب إعادتها أو قضائها،حيث إنّها لم تكن مطابقة للحجة في ظرف حدوثها،بل كانت مخالفة لها من ذلك الوقت على الفرض،غاية الأمر أنّ المكلف جاهل بذلك،ومعه كيف يمكن القول بالإجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء.
ولكن هذا التقدير مجرد فرض لا واقع له،وذلك لما عرفت من أنّ حجية الأمارة فعلاً متقومة بالوصول فلا يعقل اتصافها بها كذلك من دون وصولها إلى المكلف صغرىً وكبرىً.وإن شئت قلت:إنّ الحجية وإن كانت كغيرها من الأحكام الشرعية،فكما أنّ لها مرتبتين:مرتبة الانشاء،ومرتبة الفعلية،فكذلك للحجية مرتبتان:مرتبة إنشائها،وهي جعلها على نحو القضية الحقيقية ولا أثر لها في هذه المرتبة،ومرتبة فعليتها،وهي مرتبة ترتب الآثار عليها،ومن الطبيعي أنّ هذه المرتبة تتوقف على وصولها إلى المكلف،حيث إنّ الآثار المرغوبة منها كالتنجيز والتعذير وصحة الاسناد والاستناد لا تترتب عليها إلّابعد فعليتها ووصولها،ضرورة أ نّه لا معنى لحجية شيء فعلاً إلّاترتيب تلك الآثار عليه.
وأمّا على التقدير الثاني: فلأنّ صفة الحجية وإن كانت تحدث للأمارة المتأخرة بعد الظفر بها ووصولها،ولا معنى لاتصافها بها قبل ذلك،ومن هنا قلنا إنّ انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول،والتبدل فيها إنّما هو من التبدل في الموضوع،إلّاأنّ مدلولها أمر سابق،حيث إنّها تحكي عن ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من دون اختصاصه بزمن دون آخر وبعصر دون عصر،وذلك كما إذا افترضنا أنّ المجتهد أفتى بطهارة شيء من جهة قاعدة الطهارة ثمّ وجد ما يدل على نجاسته،كالاستصحاب مثلاً كما إذا علم أنّ حالته السابقة هي النجاسة،فهذا لا يكشف عن عدم حجية القاعدة في ظرفها،وإنّما يوجب
سقوطها من حين قيامه عليها،حيث إنّه لا يكون حجة إلّابعد العلم بها،فانّ موضوعه وهو الشك في البقاء لا يتحقق إلّامن هذا الحين،فكيف يعقل أن يكون رافعاً لحجية القاعدة في وقتها وكاشفاً عنه كذلك.نعم،مفاده أمر سابق ولذا وجب ترتيب الأثر عليه من السابق.
ومثله ما إذا أفتى على طبق عموم بعد الفحص عن مخصصه وعدم الظفر به، فلا يكون الظفر به بعد ذلك كاشفاً عن عدم حجية العام قبله،حيث إنّه لا يكون حجة إلّابعد وصوله لا مطلقاً،نعم مدلوله كان مطلقاً وهو يحكي عن ثبوته في الشريعة المقدسة كذلك.ومن الطبيعي أنّ مقتضى حجية ذلك ثبوت مدلوله من الابتداء،ولازم هذا هو أنّ العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة حيث كان مخالفاً لمدلولها باطل،لعدم كونه مطابقاً لما هو المأمور به في الواقع وهو مدلولها.
وكون الحجتين تشتركان في احتمال مخالفة مدلولهما للواقع لا يضر بذلك،بعد إلغاء هذا الاحتمال بحكم الشارع في الحجة الثانية حسب أدلة اعتبارها،وعدم إلغائها في الاُولى،لفرض سقوطها عن الاعتبار بقاءً.ومن الطبيعي أنّ صرف هذا الاحتمال يكفي في الحكم بوجوب الاعادة أو القضاء،بداهة أ نّه لا مؤمّن معه من العقاب،فانّ الحجة السابقة وإن كانت مؤمّنة في ظرف حدوثها،إلّا أ نّها ليست بمؤمّنة في ظرف بقائها،لفرض سقوطها عن الحجية والاعتبار بقاءً بعد الظفر بالحجة الثانية وتقديمها عليها بأحد أشكال التقديم من الحكومة أو الورود أو التخصيص أو التقييد أو غير ذلك،وعليه فلا مؤمّن من العقاب على ترك الواقع،ولأجل ذلك وجب بحكم العقل العمل على طبق الحجة الثانية وإعادة الأعمال الماضية حتّى يحصل الأمن.
وأمّا القضاء،فلأجل أنّ ما أتى به المكلف على طبق الحجة الاُولى غير
مطابق للواقع بمقتضى الحجة الثانية،وعليه فلا بدّ من الحكم ببطلانه،ومعه حيث يصدق عنوان فوت الفريضة فبطبيعة الحال يجب القضاء بمقتضى ما دلّ على أنّ موضوعه هو فوت الفريضة،فمتى تحقق،تحقق وجوب القضاء.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة:وهي أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء في جميع موارد كشف الخلاف وعدم مطابقة العمل المأتي به للواقع،سواء أكانت من موارد التبدل في الرأي أو من موارد الرجوع إلى مجتهد آخر،بلا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات،والأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، وموارد الاُصول والأمارات،وموارد كشف الخلاف بالعلم الوجداني وكشف الخلاف بالعلم التعبدي،إلّافيما قام دليل خاص على الإجزاء،كما قام في خصوص الصلاة حيث دلّ حديث لا تعاد على عدم وجوب الاعادة في غير الخمسة المذكورة فيها،كما ستجيء الاشارة إلى ذلك من هذه الناحية إن شاء اللّٰه تعالى.
هذا كلّه بناءً على حجية الأمارات على ضوء نظرية الطريقية والكاشفية.
وأمّا بناءً على حجيتها على ضوء نظرية السببية والموضوعية،فينبغي لنا التكلّم فيها في مقامين:
الأوّل:في بيان حقيقة السببية وأقسامها.
الثاني:في بيان ما يترتب على تلك الأقسام.
الأوّل: ما نسب إلى الأشاعرة-وإن كانت النسبة غير ثابتة-من أنّ اللّٰه تعالى لم يجعل حكماً من الأحكام في الشريعة المقدسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شيء،وإنّما يدور جعله مدار تأدية نظرية المجتهد ورأيه،فكلّ ما أدى إليه رأيه من الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك في مورد بسبب قيام أمارة أو أصل جعل الشارع ذلك الحكم فيه،وإذا تبدّل رأيه إلى رأي آخر كان من التبدّل في
الموضوع وانقلاب الحكم بانقلابه،ولا يعقل فيه كشف الخلاف أصلاً،كيف حيث لا واقع ما وراء رأيه.
وبكلمة اخرى:أنّ هذا القول يرتكز على أساس أ نّه لا مقتضي في الواقع من المصالح أو المفاسد قبل قيام الأمارة وتأديتها إلى شيء ليكون منشأ لجعل الحكم فيه،وإنّما تحدث المصلحة أو المفسدة في فعل بسبب قيام أمارة على وجوبه أو على حرمته،ولذا جعل الشارع الحكم على طبق ما أدت إليه.
فالنتيجة:أنّ مردّ القول بهذه السببية إلى خلوّ صفحة الواقع عن الحكم قبل تأدية الأمارة إليه وقيامها عليه،فلا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عنها حكم أصلاً.
الثاني: ما نسب إلى المعتزلة وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لكون الحكم الواقعي بالفعل هو المؤدى،وذلك لأنّ قيام الأمارة يوجب إحداث مصلحة أو مفسدة في متعلقه،وحيث إنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها،فبطبيعة الحال ينحصر الحكم الواقعي الفعلي فيه.وبكلمة اخرى:أنّ المعتزلة قد اعترفت بثبوت الأحكام الواقعية في الشريعة المقدسة المشترك فيها بين العالم والجاهل،ولكن على الرغم من ذلك يقول بانحصار الأحكام الواقعية الفعلية في مؤديات الحجج والأمارات ولا حكم في غيرها إلّاشأناً واقتضاءً.
بيان ذلك:هو أنّ الأمارة القائمة على شيء لا تخلو من أن تكون مطابقة للواقع أو تكون مخالفة له،فعلى الأوّل فهي توجب فعلية الواقع فحسب،وعلى الثاني فحيث إنّها توجب إحداث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع فهي بطبيعة الحال كما توجب اضمحلال مصلحة الواقع وجعلها بلا أثر كذلك توجب جعل الحكم على طبقها.فالنتيجة أ نّها توجب انقلاب الواقع وتغييره وجعل المؤدى على خلافه.
ثمّ إنّ السببية بهذا المعنى تمتاز عن السببية بالمعنى الأوّل في نقطة وتشترك معها في نقطة اخرى.أمّا نقطة الامتياز فهي أنّ الاُولى تقوم على أساس اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها وعدم ثبوت الحكم في حقّ الجاهل، ولذا لا يتصور على ضوئها الخطأ في آراء المجتهدين حيث لا واقع ما عداها.
والثانية تقوم على أساس ثبوت الواقع المشترك بين العالم والجاهل،ولذا تختص سببيّتها لجعل المؤدى في صورة المخالفة فحسب.وأمّا نقطة الاشتراك فهي أ نّهما تشتركان في اختصاص الأحكام الواقعية الفعلية بمؤديات الأمارات فلا حكم واقعي فعلي في غيرها أصلاً.
الثالث: ما نسب إلى بعض الإمامية 1وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لاحداث المصلحة في السلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها،مع بقاء الواقع على ما هو عليه من دون أن يوجب التغيير والانقلاب فيه أصلاً، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة مثلاً،وفرضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر،لم توجب تغيير الواقع وانقلابه وجعل غير الواجب واجباً،بل الواجب الواقعي باق على ما كان عليه رغم أنّ الأمارة قامت على خلافه،كما أنّ صلاة الجمعة بقيت على ما كانت عليه من عدم الوجوب في الواقع،فوجود الأمارة وعدمها بالاضافة إلى الواقع على نسبة واحدة.
نعم،هذه الأمارة سبب لحدوث مصلحة في السلوك على وفقها،وبها يتدارك ما فات من مصلحة الواقع.وعلى الجملة:فكما لا دخل للأمارة في جعل الأحكام،فكذلك لا دخل لها في فعليتها،فالأحكام الواقعية فعلية رغم قيام الأمارات على خلافها فلا تتغير به،والسر في ذلك هو أنّ قيام الأمارة لو كان
موجباً لحدوث المصلحة في المؤدى فبطبيعة الحال أوجب انقلاب الواقع.
وأمّا إذا لم يوجب حدوث مصلحة فيه كما هو المفروض في المقام،فاستحال أن يكون موجباً لانقلاب الواقع.وأمّا إيجابه حدوث مصلحة في السلوك فهو غير مناف لمصلحة الواقع أصلاً،وهذه المصلحة تختلف باختلاف السلوك كما أوضحناه في مبحث الظن 1.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الامتياز بين السببية بهذا المعنى والسببية بالمعنيين الأوّلين كما لا يخفى.
وبعد ذلك نقول: أمّا على ضوء السببية بالمعنى الأوّل،فلا مناص من القول بالإجزاء،حيث لا واقع على الفرض ما عدا مؤدى الأمارة لنبحث عن أنّ الاتيان به مجزٍ عنه أو لا،فلو تبدل رأي المجتهد إلى رأي آخر على خلاف الأوّل كان من تبدل الموضوع لا من انكشاف الخلاف،فالاتيان بما أدى إليه رأيه إتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي لا أ نّه إتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ليقع البحث عن إجزائه عن الأوّل،إلّاأنّ السببية بذلك المعنى غير معقولة في نفسها،بداهة أنّ تصوّرها في نفسه كاف للتصديق ببطلانها بلا حاجة إلى إقامة برهان عليه من لزوم دور أو نحوه،كيف حيث إنّ هذا المعنى من السببية خلاف الضرورة من الشرع ويكذّبه الكتاب والسنّة،إذ لازمه بطلان بعث الرسل وإنزال الكتب.
على أ نّه لو لم يكن حكم مجعول في الواقع قبل قيام الأمارة عليه،فالأمارة تحكي عن أيّ شيء،وأ نّها تؤدي إلى أيّ حكم،وهل يعقل الكشف من دون مكشوف والحكاية من دون محكي،فلو توقف ثبوته على قيام الأمارة عليه
لزم الدور أو الخلف.وأضف إلى ذلك:أنّ اختصاص الأحكام الشرعية بمن قامت عنده الأمارة خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب،وتكذّبه الاطلاقات الأوّلية،حيث إنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الشرعية في الواقع مطلقاً من دون فرق بين العالم والجاهل.
وأمّا على ضوء السببية بالمعنى الثاني، فالأمر أيضاً كذلك،يعني أ نّه لا مناص من القول بالإجزاء،حيث إنّه لا واقع على ضوئها أيضاً في مقابل مؤدى الأمارة ليقع البحث عن أنّ الاتيان به هل هو مجزٍ عنه أم لا،بل الواقع هو مؤدى الأمارة،فالاتيان به إتيان بالواقع،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ السببية بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولاً بحسب مقام الثبوت ولا مانع في نفسه من الالتزام بانقلاب الواقع وتغييره بقيام الأمارة على خلافه،بأن يكون ثبوت الواقع مقيداً بعدم ذلك،نظير تقيد ثبوت الأحكام الواقعية بغير موارد الاضطرار والضرر والحرج وما شاكلها،إلّاأنّ الأدلة لا تساعد على ذلك.أمّا الاطلاقات الأوّلية،فلأنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الواقعية للعالم والجاهل،ولا دليل على تقييدها بعدم قيام الأمارة على الخلاف كما قام الدليل على تقييدها بغير موارد الضرر والحرج وما شاكلهما.فالنتيجة أنّ التقييد يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه.
وأمّا أدلة الاعتبار فلا تخلو من أن تكون هي السيرة العقلائية أو تكون غيرها من الآيات أو الروايات،فعلى كلا التقديرين لاتدل على سببية الأمارات.
أمّا على الأوّل: فواضح،حيث إنّ سيرتهم قد جرت على العمل بها بملاك كونها طريقاً إلى الواقع وكاشفاً عنه،وأ نّهم يعاملون معها معاملة العلم والقطع من جهة كونها منجّزة للواقع على تقدير الاصابة،ومعذّرة على تقدير الخطأ، وهذا هو مردّ الطريقية والكاشفية،بداهة أ نّه ليس عند العقلاء طريق اعتبروه
من باب السببية،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الشارع قد أمضى تلك السيرة على ما هي عليه،فالنتيجة على ضوئهما هي أنّ اعتبار الحجج والأمارات من باب الكاشفية والطريقية لا من باب السببية والموضوعية.
وأمّا على الثاني: فأيضاً كذلك،فانّ الظاهر من الآيات والروايات هو إمضاء ما هو حجة عند العقلاء،فلا تدلّان على حجية شيء تأسيساً،ومن هنا لم نجد في الشريعة المقدسة أن يحكم الشارع باعتبار أمارة تأسيساً.نعم، قد زاد الشارع في بعض الموارد قيداً في اعتبارها ولم يكن ذلك القيد معتبراً عند العقلاء.وقد تحصّل من ذلك:أنّ الحجية التأسيسية لم توجد في الشريعة المقدّسة،ليتوهم أ نّها كانت من باب السببية.على أ نّه لا ملازمة بينها وبين السببية أصلاً.
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت:أنّ السببية بهذا المعنى وإن كانت معقولة في ذاتها ولايترتب عليها المحاذير المترتبة على السببية بالمعنى الأوّل،إلّاأ نّها خلاف الضرورة وإطلاقات الأدلة التي تقتضي عدم اختصاص مداليلها بالعالمين بها.
وما عن شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) من أ نّه قد تواترت الأخبار والآثار على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل 1لعله أراد منها الروايات الدالّة على ثبوت الأحكام مطلقاً،أو أراد أخبار الاحتياط والبراءة أو ما شاكلها مما يدل بالالتزام على الاشتراك،وإلّا فلم ترد رواية واحدة تدل على أنّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين بها والجاهلين.
وأمّا السببية بالمعنى الثالث: فالكلام يقع فيها من جهات ثلاث:
الاُولى: أ نّنا قد حققنا في محلّه 1أ نّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة التي تسمّى بالمصلحة السلوكية لتصحيح اعتبار الأمارات وحجيتها،والسبب في ذلك:هو أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتب عليه مصلحة وإن كان لغواً، فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم،إلّاأ نّه يكفي في ذلك ترتب المصلحة التسهيلية عليه،حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكل حكم شرعي لكل واحد من المكلفين غير ممكن في زمان الحضور فضلاً عن زماننا هذا،ولو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجياً لعامة المكلفين في عصر الحضور فما ظنك في هذا العصر.ومن الواضح أنّ هذا مناف لكون الشريعة الاسلامية شريعة سهلة وسمحة.وعلى هذا الضوء فلا بدّ للشارع من نصب الطرق المؤدية غالباً إلى الأحكام الواقعية وإن كان فيها ما يؤدي على خلاف الواقع أيضاً.
وبكلمة اخرى:أنّ المصلحة التسهيلية بالاضافة إلى عامة المكلفين تقتضي ذلك.نعم،من كان مباشراً للإمام (عليه السلام) كعائلته ومتعلقيه يمكن له تحصيل العلم في كل مسألة بالسؤال منه (عليه السلام) وكيف كان،فمع وجود هذه المصلحة لا مقتضي للالتزام بالمصلحة السلوكية أصلاً.
الثانية: أ نّنا قد أثبتنا في الجهة الاُولى أ نّه لا موجب ولا مقتضي للالتزام بها أصلاً،ولكنا نتكلم في هذه الجهة من ناحية اخرى وهي:أنّ في الالتزام بها محذوراً أو لا ؟ فيه وجهان.
فذهب شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 2وتبعه فيه شيخنا الاُستاذ
(قدس سره) 1إلى أ نّه لا محذور في الالتزام بها أصلاً،ولكن الصحيح هو أ نّه لايمكن الالتزام بها،وذلك لاستلزام القول بها التصويب وتبدل الحكم الواقعي، والسبب فيه هو أ نّنا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع،فالايجاب الواقعي عندئذ تعييناً غير معقول،كما إذا افترضنا أنّ القائم بمصلحة إيقاع صلاة الظهر مثلاً في وقتها أمران:أحدهما:
الاتيان بها في الوقت.الثاني:سلوك الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة في تمام الوقت من دون كشف الخلاف فيه،فعندئذ امتنع للشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر،لقبح الترجيح من دون مرجّح من ناحية،وعدم الموجب له من ناحية اخرى،بعد ما كان كل من الأمرين وافياً بغرض المولى،فعندئذ لا مناص من الالتزام بكون الواجب الواقعي في حق من قامت عنده أمارة معتبرة على وجوب صلاة الجمعة مثلاً هو الجامع بينهما على نحو التخيير:إمّا الاتيان بصلاة الظهر في وقتها،أو سلوك الأمارة المذكورة، ومعه كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل،فانّه بطبيعة الحال يكون تعيينياً في حقّ العالم،وتخييرياً في حقّ الجاهل.وهذا خلاف الضرورة والاجماع وإطلاقات الأدلة التي مقتضاها عدم الفرق بينهما بالاضافة إلى الأحكام الواقعية.
فالنتيجة:أنّ مردّ هذه السببية إلى السببية بالمعنى الثاني في انقلاب الواقع وتبدله فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
الثالثة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2قد ذكر أنّ حال هذه السببية
حال الطريقية في عدم اقتضائها الإجزاء،فكما أنّ الإجزاء على ضوء القول بالطريقية يحتاج إلى دليل وإلّا فمقتضى القاعدة عدمه،فكذلك على ضوء القول بهذه السببية،توضيح ما أفاده (قدس سره) هو أنّ المصلحة القائمة بسلوك الأمارة تختلف باختلاف السلوك-وهو الزمان الذي لم ينكشف الخلاف فيه – فان كان السلوك بمقدار فضيلة الوقت فكانت مصلحته بطبيعة الحال بمقدار يتدارك بها مصلحتها فحسب،لأنّ فوتها مستند إليه دون الزائد،وأمّا مصلحة أصل الوقت فهي باقية فلا بدّ من استيفائها بالاعادة،وإن كان بمقدار تمام الوقت وكان انكشاف الخلاف في خارجه فطبعاً كانت مصلحته بمقدار يتدارك بها مصلحة تمام الوقت الفائتة،وأمّا مصلحة أصل العمل فهي باقية فلا بدّ من استيفائها بالقضاء في خارج الوقت.
ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالاً:وهو ما إذا افترضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر،ولكن الأمارة المعتبرة قامت على وجوب صلاة الجمعة في يومها، والمكلف قد قام بالعمل على طبق هذه الأمارة وأتى بصلاة الجمعة ثمّ انكشف الخلاف،فعندئذ إن كان كشف الخلاف في ابتداء الوقت فالمتدارك هو خصوص مصلحة وقت الفضيلة دون مصلحة نفس العمل في تمام الوقت،لفرض أنّ سلوكها كان بهذا المقدار،فإذن لا محالة تجب الاعادة،وإن كان في خارج الوقت، فالمتدارك هو مصلحة الوقت خاصة دون المصلحة القائمة بذات العمل في الواقع،ومن الطبيعي أ نّها تقتضي الاتيان به في خارج الوقت،وإن لم ينكشف الخلاف إلى ما دام العمر،فالمتدارك هو تمام مصلحة الواقع.وقد تحصّل من ضوء هذا البيان:أنّ الالتزام بالسببية بهذا الاطار لايستلزم التصويب في شيء، بل هي في طرف النقيض معه،حيث إنّ حالها حال الطريقية في النتيجة-وهي عدم اقتضائها للإجزاء-فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) بيان ذلك:هو أ نّا قد حققنا في
مورده 1أنّ القول بأنّ القضاء تابع للأداء لا يمكن إتمامه بدليل،والسبب فيه هو أنّ هذا القول يقوم على أساس أن تكون للصلاة مصلحتان ملزمتان:
إحداهما تقوم بذات الصلاة.والاُخرى تقوم بحصة خاصة منها-وهي الصلاة في الوقت-وعلى هذا فبطبيعة الحال يتعلق بها أمران:أحدهما بطبيعي الصلاة على نحو الاطلاق.والآخر بحصة خاصة منها،ومن المعلوم أنّ سقوط الأمر الثاني بسقوط موضوعه كخروج الوقت لا يستلزم سقوط الأمر الأوّل،لعدم الموجب له،فعندئذ إن ترك المكلف الصلاة في الوقت عصياناً أو نسياناً وجب عليه الاتيان بها في خارج الوقت،فانّ سقوط الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة في الوقت لا يستلزم سقوط الأمر المتعلق بها على نحو الاطلاق،وهذا معنى القول بكون القضاء تابعاً للأداء.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّما يتم على ضوء هذا القول،ولكنه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،والسبب في ذلك:ما ذكرناه في الدورات السابقة،وسنذكره إن شاء اللّٰه تعالى في هذه الدورة أيضاً،من أنّ حال تقييد المأمور به كالصلاة مثلاً بالوقت كحال تقييده بغيره من القيود،فكما أنّ المتفاهم العرفي من تقييده بأمر زماني هو وحدة المطلوب لا تعدده،وأنّ المأمور به هو الطبيعي المقيد بهذا القيد،فكذلك المتفاهم العرفي من تقييده بوقت خاص،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
هذا في التقييد بالمتصل واضح،كقوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» 2حيث لايستفاد منه عرفاً إلّاأمر واحد متعلق بحصة
خاصة من الصلاة-وهي الصلاة في هذا الوقت الخاص-لفرض عدم انعقاد ظهور للمطلق في الاطلاق.
وأمّا إذا كان التقييد بدليل منفصل فقد يتوهم تعدد المطلوب ببيان أ نّه لا يوجب انقلاب ظهور المطلق في الاطلاق إلى التقييد،غاية الأمر أ نّه يدل على أ نّه مطلوب في الوقت أيضاً.فالنتيجة هي تعدد المطلوب،بمعنى أنّ الفعل مطلوب في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة،ومطلوب في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأوّل.
ولكن هذا التوهم خاطئ جداً،وذلك لعدم الفرق في ذلك بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة،فكما أنّ القرينة المتصلة تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان الخاص،فكذلك القرينة المنفصلة،فانّها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد الجدي من الأوّل هو المقيد.نعم، فرق بينهما من ناحية اخرى،وهي أنّ القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الاطلاق،ومعها لا ينعقد له ظهور،والقرينة المنفصلة مانعة عن حجية ظهوره في الاطلاق دون أصله.
ولكن من الواضح أنّ مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في محل الكلام، ضرورة أ نّهما تشتركان في سقوط الاطلاق عن الحجية والكاشفية عن المراد الجدي وعدم إمكان التمسك به،غاية الأمر على الأوّل سقوطه عنها بسقوط موضوعها،وعلى الثاني سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ دليل التقييد بمقتضى الفهم العرفي كاشف عن أنّ مراد المولى من الأوّل كان هو المقيد ولم يكن المطلق مراداً له أصلاً،ولا فرق في ذلك بين كون القيد زماناً أو زمانياً،ولولا ذلك-أي كشف دليل التقييد
بمقتضى الظهور العرفي عما عرفت-لانسدّ باب حمل المطلق على المقيد.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران:
الأوّل: أنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد،فلا أصل للقول بأ نّه تابع للأداء، فلو ترك المكلف الصلاة في الوقت عصياناً أو نسياناً فالأمر بها في خارج الوقت يحتاج إلى دليل.
الثاني: أنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا كان وافياً بمصلحة الصلاة في الوقت كما هو مقتضى القول بالسببية بهذا المعنى،لا مناص من القول بالإجزاء، وبذلك يفترق القول بهذه السببية عن القول بالطريقية،حيث إنّ مقتضى القاعدة على القول بالطريقية هو عدم الإجزاء،ومقتضى القاعدة على القول بها هو الإجزاء.فالصحيح أنّ السببية بهذا المعنى تشترك مع السببية بالمعنى الأوّل والثاني في هذه النتيجة،لا مع الطريقية.فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ حالها حال الطريقية من هذه الناحية خاطئ جداً،ولا يمكن المساعدة عليه بوجه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ الأمارات على القول بالسببية بتمام أشكالها تفيد الإجزاء،وعدم الإجزاء يحتاج إلى دليل،وعلى القول بالطريقية لا تفيد الإجزاء،فالإجزاء يحتاج إلى دليل،من دون فرق في ذلك بين الأمارات والاُصول العملية،ومن دون فرق فيه بين كون كشف الخلاف بالعلم الوجداني والعلم التعبدي.وقد تقدّم جميع ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع.هذا كلّه فيما إذا علم حال الأمارة من ناحية السببية أو الطريقية.
وأمّا إذا شكّ في ذلك ولم يعلم أنّ اعتبارها على نحو السببية حتّى تفيد الإجزء،أو على نحو الطريقية حتّى لا تفيده،فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) التفصيل بين الاعادة والقضاء وإليك نص كلامه:
وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أ نّها على أيّ الوجهين،فأصالة عدم الاتيان بما يسقط
معه التكليف مقتضية للاعادة في الوقت،واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعلياً في الوقت لا يجدي ولا يثبت كون ما أتى به مسقطاً إلّاعلى القول بالأصل المثبت،وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي به.
وهذا بخلاف ما إذا علم أ نّه مأمور به واقعاً وشكّ في أ نّه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الأوّلي،كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناءً على أن تكون الحجية على نحو السببية،فقضية الأصل فيها كما أشرنا إليه عدم وجوب الاعادة للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقيناً،وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف.وأمّا القضاء فلا يجب بناءً على أ نّه فرض جديد وكان الفوت المعلّق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الاتيان إلّاعلى القول بالأصل المثبت،وإلّا فهو واجب كما لايخفى على المتأمِّل،فتأمّل جيدا 1.
وملخّص ما أفاده (قدس سره) ما يلي:أمّا وجوب الاعادة فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت،فلأجل أنّ الذمة قد اشتغلت بتكليف فعلي يقيناً ويشك في أنّ الاتيان بمؤدى الأمارة يفيد الإجزاء عما اشتغلت به الذمة أو لا يفيد،ومنشأ الشك هو الشك في كيفية حجية الأمارة وأ نّها هل تكون على نحو السببية أو على نحو الطريقية،ومع هذا الشك تجرى أصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف الواقعي وهي مقتضية للاعادة،بل يكفي في وجوبها نفس الشك في الفراغ.وأمّا القضاء فبما أ نّه بفرض جديد وقد اخذ في موضوعه عنوان الفوت وهو في المقام غير محرز فلا يجب.
ولنأخذ بالنظر على ما أفاده (قدس سره) أمّا ما أفاده بالنسبة إلى عدم وجوب القضاء فمتين جداً ولا مناص عنه.وأمّا ما أفاده بالاضافة إلى وجوب
الاعادة في الوقت فهو قابل للنقد والمؤاخذة،والسبب في ذلك ما قدمناه في ضمن البحوث السابقة من أنّ مقتضى القاعدة على القول بالسببية بالمعنى الأوّل والثاني هو الإجزاء،بل لا مناص عنه،حيث إنّه لا واقع على ضوء هذين القولين ما عدا مؤدى الأمارة،وكذا الحال على القول بالسببية بالمعنى الثالث.
وعلى القول بالطريقية هو عدم الإجزاء.
وعلى هذا الضوء فإذا شككنا في أنّ حجية الأمارة على نحو السببية والموضوعية أو على نحو الطريقية والكاشفية،فبطبيعة الحال إذا عملنا بها وأتينا بما أدّت إليه ثمّ انكشف لنا بطلانها وعدم مطابقتها للواقع،وإن كنّا نشك في الإجزاء وعدمه،إلّاأنّ المورد ليس من موارد التمسك بقاعدة الاشتغال،بل هو من موارد التمسك بقاعدة البراءة.
والوجه فيه:هو أنّ حجية الأمارة إن كانت من باب السببية والموضوعية لم تكن ذمة المكلف مشغولة بالواقع أصلاً،وإنّما تكون مشغولة بمؤاداها فحسب، حيث إنّه الواقع فعلاً وحقيقة فلا واقع غيره.وإن كانت من باب الطريقية والكاشفية اشتغلت ذمته به،وبما أ نّه لا يدري أنّ حجيتها كانت على الشكل الأوّل أو كانت على الشكل الثاني،فبطبيعة الحال لا يعلم باشتغال ذمته بالواقع ليكون المقام من موارد قاعدة الاشتغال،فإذن لا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الاعادة،حيث إنّه شكّ في التكليف من دون العلم بالاشتغال به.
وبكلمة اخرى:أنّ الشك فيما نحن فيه وإن أوجب حدوث العلم الاجمالي بوجود تكليف مردد بين تعلقه بالفعل الذي جيء به على طبق الأمارة السابقة وبين تعلقه بالواقع الذي لم يؤت به على طبق الأمارة الثانية،إلّاأ نّه لا أثر لهذا العلم الاجمالي،ولا يوجب الاحتياط والاتيان بالواقع على طبق الأمارة
الثانية،وذلك لأنّ هذا العلم حيث قد حدث بعد الاتيان بالعمل على طبق الأمارة الاُولى كما هو المفروض فلا أثر له بالاضافة إلى هذا الطرف،وعليه فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن الطرف الآخر،ومن هنا ذكرنا في محلّه 1أنّ أحد طرفي العلم الاجمالي أو أطرافه إذا كان فاقداً للأثر فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر،كما إذا افترضنا أنّ المكلف علم بوجوب الصوم عليه في يوم الخميس مثلاً من ناحية النذر أو نحوه فأتى به في ذلك اليوم،ثمّ في يوم الجمعة تردّد بين كون الصوم المزبور واجباً عليه في يوم الخميس أو في هذا اليوم،وحيث لا أثر لأحد طرفي هذا العلم الاجمالي،وهو كونه واجباً عليه في يوم الخميس،لفرض أ نّه أتى به،فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبه في هذا اليوم.
وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه،فانّ المكلف إذا أتى بصلاة القصر مثلاً على طبق الأمارة الاُولى،ثمّ انكشف الخلاف في الوقت وعلم بأنّ الواجب في الواقع هو الصلاة تماماً،فعندئذ وإن حدث للمكلف العلم الاجمالي بوجوب صلاة مرددة بين القصر والتمام،فانّ الأمارة إن كانت حجيتها من باب السببية فالواجب هو الصلاة قصراً،وإن كانت من باب الطريقية فالواجب هو الصلاة تماماً،ولكن حيث لا أثر لهذا العلم الاجمالي بالاضافة إلى أحد طرفيه-وهو وجوب الصلاة قصراً-فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الصلاة تماماً.
نعم،لو حدث هذا العلم الاجمالي قبل الاتيان بالقصر لكان المقام من موارد قاعدة الاشتغال ووجوب الاحتياط بالجمع بين الصلاتين،إلّاأنّ هذا الفرض
خارج عن مورد الكلام،كما أنّ فرض وجود علم إجمالي آخر بين وجوب الصلاة تماماً مثلاً وبين وجوب شيء آخر خارج عنه.
إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة:وهي أنّ مقتضى القاعدة عند الشك في اعتبار أمارة أ نّه على نحو السببية أو على نحو الطريقية هو الإجزاء، إعادة وقضاء،فالتفصيل بينهما كما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) خاطئ ولا واقع له أصلاً.
[ ثمّ إنّه ] لا بأس بالاشارة إلى عدّة خطوط:
الأوّل: ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أنّ محل النزاع في الإجزاء وعدمه إنّما هو في الأمارات القائمة على متعلقات الأحكام،كما لو قامت على عدم شرطية شيء مثلاً وكان في الواقع شرطاً،أو قامت على عدم جزئية شيء كالسورة مثلاً وكان في الواقع جزءاً،وهكذا،من دون فرق في ذلك بين القول بحجيتها من باب السببية والقول بحجيتها من باب الطريقية،غاية الأمر أ نّها تفيد الإجزاء على الفرض الأوّل،ولا تفيده على الفرض الثاني.
وأمّا الأمارات القائمة على نفس الأحكام الإلهٰية كما لو فرض قيامها على وجوب صلاة الجمعة مثلاً فهي خارجة عن محل النزاع ولا تفيد الإجزاء مطلقاً ولو على القول بالسببية،والوجه في ذلك:هو أنّ قيامها عليه وإن أوجب حدوث مصلحة ملزمة فيها على ضوء هذا القول،إلّاأنّ تلك المصلحة أجنبية عن مصلحة الواقع ولا صلة لها بها أصلاً،وعليه فبطبيعة الحال لا يكون الاتيان بها مجزئاً عن الواقع بعد فرض بقائه على ما هو عليه من الملاك.نعم،في خصوص هذا المثال قد قام دليل من الخارج على عدم وجوب كلتيهما في يوم
واحد،وأمّا في غير هذا المثال فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب عند قيام الأمارة على وجوب شيء آخر غير ما هو واجب في الواقع،كما إذا افترضنا أنّ الواجب في الواقع هو إكرام زيد العالم مثلاً،ولكن الأمارة قامت على وجوب إعطاء درهم لفقير جاهل،والمفروض أ نّه غير واجب،وحيث إنّها توجب إحداث مصلحة فيه،فلا محالة يصير الاعطاء واجباً واقعاً،ولكن من الواضح أنّ الاتيان به لا يجزي عن الواجب الواقعي ولا يتدارك به مصلحته،بل هو باقٍ على ما هو عليه من الملاك الملزم،وعلى هذا لو انكشف الخلاف وجب الاتيان به لا محالة سواء أكان في الوقت أو خارجه.
ولنأخذ بالمناقشة عليه،بيان ذلك:أ نّنا نتكلم في الأمارات القائمة على نفس الأحكام الشرعية مرّةً على القول بحجيتها من باب الطريقية والكاشفية المحضة،ومرّة اخرى على القول بحجيتها من باب السببية والموضوعية،ونقول:
إنّه لا فرق بين الأمارات القائمة على متعلقات التكاليف والقائمة على نفسها على كلا القولين.أمّا على القول الأوّل:فلما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء،من دون فرق بينهما في هذه النقطة أصلاً.وأمّا على القول الثاني فأيضاً لا فرق بينهما في الدلالة على الإجزاء.أمّا على السببية بالمعنى الأوّل فواضح،حيث لا حكم على ضوئها في الواقع غير ما أدّت إليه الأمارة.وأمّا على السببية بالمعنى الثاني فالحكم في الواقع وإن كان مجعولاً إلّاأنّ الأمارة توجب انقلابه وانحصاره في المؤدى لنظرها إليه.
وبكلمة اخرى:أنّ الأحكام الفعلية الواقعية على ضوء هذه النظرية منحصرة في مؤديات الأمارات فلا حكم واقعي فعلي في غيرها،وعليه فلا مقتضي لوجوب الاعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف.وعلى الجملة:فإذا افترضنا أنّ الأمارة قامت على وجوب صلاة الجمعة مثلاً،أفادت أنّ الواجب الواقعي
الفعلي هو صلاة الجمعة دون صلاة الظهر،لفرض أ نّها ناظرة إلى الواقع وتفيد انحصاره،وفي مثله كيف يمكن دعوى عدم الإجزاء،بداهة أ نّه لا بدّ فيه من الالتزام باشتمال المؤدى على مصلحة ملزمة وافية بمصلحة الواقع ومسانخة لها، إذ لو كان مشتملاً على مصلحة اخرى غير مرتبطة بالواقع لزم الخلف-وهو عدم دلالة الأمارة على انحصار الواقع في مؤداها وعدم نظرها إليه-مع أنّ مثل هذا الكلام يجري في الأمارات القائمة على متعلقات التكاليف أيضاً.
نعم،لو قلنا بعدم نظر الأمارة القائمة على حكم شرعي إلى تعيين الواقع وبعدم دلالتها على انحصاره،بل تدل على ثبوت ما أدت إليه فحسب كما في المثال الذي ذكرناه،لتمّ ما أفاده (قدس سره) إلّاأ نّه مجرد فرض في الأمارات القائمة على الأحكام الواقعية ولا واقع موضوعي له أصلاً.
الثاني: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أنّ محل النزاع في هذه المسألة هو ما إذا كان الفعل متعلقاً للأمر الاضطراري أو الظاهري حقيقة وواقعاً،وأمّا إذا لم يكن متعلقاً للأمر أصلاً لا واقعاً ولا ظاهراً،بل كان مجرد تخيل وتوهم بدون واقع له،كما في موارد الاعتقادات الخاطئة،مثل أن يعتقد الانسان بكون مائع مخصوص ماءً ثمّ انكشف له خلافه وأ نّه لم يكن ماءً، أو قطع بأ نّه متوضئ ثمّ بان خلافه وهكذا،فهو خارج عن محل النزاع.ومن هذا القبيل تبدل رأي المجتهد في غالب الموارد،حيث يظهر له مثلاً ضعف سند الرواية بعد أن قطع بأنّ سندها صحيح،وهكذا.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) متين جداً ولا مناص عنه.
الثالث: أ نّه لا فرق فيما ذكرناه من عدم الإجزاء فيما إذا انكشفت مخالفة
الأمارة للواقع،بين الأحكام الكلية والموضوعات الخارجية،وإن كان القول بعدم الإجزاء في الأحكام الكلية أظهر من القول به في الموضوعات،وذلك لما عرفت من استلزام القول بالإجزاء التصويب،وقد تقدّم 1أ نّه في الأحكام الكلية إمّا محال أو باطل بالضرورة والاجماع.مضافاً إلى أ نّه خلاف إطلاقات الأدلة.
وأمّا الموضوعات الخارجية فالتصويب في نفس تلك الموضوعات من ناحية تعلق العلم بها أو الأمارة غير معقول،ومن ثمة لا قائل به فيها أصلاً،بداهة أنّ تعلق العلم بموضوع خارجي أو قيام الأمارة عليه لا يوجب تغييره وانقلابه عما هو عليه.وأمّا التصويب من جهة الحكم المتعلق بها،فالظاهر أ نّه لا مانع منه في نفسه،ولا دليل على بطلانه،فإن ما دلّ من الاجماع والضرورة على اشتراك العالم والجاهل يختص بالأحكام الكلية،ولا يعمّ الموارد الجزئية.
وعلى هذا الضوء فيمكن دعوى اختصاص الأحكام الشرعية بالعالمين بالموضوعات الخارجية لا مطلقاً،بأن يكون العلم بها مأخوذاً في موضوعها، كما نسب اختصاص الحكم بنجاسة البول بما إذا علم بوليته إلى بعض الأخباريين، ومن هنا يمكن القول بالإجزاء في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات الموضوعية،لامكان القول بالتصويب فيها،ولا يلزم فيه محذور مخالفة الاجماع والضرورة كما يلزم من القول به في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات الحكمية،إلّاأنّ القول بالتصويب فيها باطل من ناحية مخالفته لظواهر الأدلة الدالة على اعتبار الأمارات والطرق المثبتة للأحكام على موضوعاتها الخارجية، حيث إنّ مقتضاها طريقية تلك الأمارات إلى الواقع وكاشفيتها عنه من دون دخل لها فيه أصلاً،كما هو الحال في الأمارات القائمة على الأحكام الكلية،بلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.