آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
وعلى الجملة: فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أنّ الحجية التأسيسية غير موجودة في الشريعة الاسلامية المقدسة،بل الحجج فيها بتمام أشكالها حجج عقلائية،والشارع أمضى تلك الحجج،ومن الطبيعي أنّ أثر إمضائه ليس إلّاترتب تنجيز الواقع عند الاصابة والتعذير عند الخطأ،من دون فرق في ذلك بين أن يكون الدليل على اعتبارها السيرة القطعية من العقلاء أو غيرها كما عرفت،وعليه فلا يمكن الالتزام بالتصويب والسببية فيها.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ حجية الأمارات الشرعية كانت تأسيسية ابتدائية ولم تكن إمضائية،ولكن مع ذلك لا يستلزم القول بها القول بالتصويب، وذلك لأنّ غاية ما يترتب عليه هو جعل الأحكام الظاهرية في مؤدياتها،وقد ذكرنا في محله بشكل موسع أ نّها لا تنافي الأحكام الواقعية أصلاً،ولا توجب انقلابها بوجه،بدون فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ ظاهر إطلاق الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام للموضوعات الخارجية ثبوتها لها في نفسها من دون التقييد بالعلم بها،مثلاً قوله (عليه السلام)«اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» 1يدل على نجاسة البول مطلقاً،أي سواء أكان المكلف عالماً بها أم لم يكن،غاية الأمر أ نّه في حال الجهل بها يكون معذوراً،لا أنّ البول لايكون نجساً في الواقع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين:
الاُولى: أنّ جعل الأحكام للموضوعات المعلومة في الخارج بالوجدان أو بالتعبد وإن كان بمكان من الامكان،كجعل الحرمة للخمر المعلوم مثلاً دون الخمر الواقعي وهكذا،إلّاأ نّه خلاف ظاهر إطلاق أدلتها من ناحية،وخلاف
ظاهر أدلة حجيتها من ناحية اخرى.
الثانية: بطلان توهم أنّ مقتضى أدلة حجيتها هو وجوب العمل على طبق الأمارة في صورتي الاصابة والخطأ،ومن الطبيعي أنّ العمل بها إذا كان واجباً على كلا التقديرين لزمه القول بالتصويب،ولكن القول به في الأحكام الكلية لا يمكن من ناحية الاجماع والضرورة،وحيث لا إجماع ولا ضرورة في الموضوعات الخارجية فلا بأس بالقول به فيها أصلاً.
توضيح البطلان:ما عرفت من أنّ هذا القول يقوم على أساس أن يكون المجعول في باب الأمارات بمقتضى أدلة حجيتها هو نفس المؤدى،وقد تقدّم بشكل موسّع أ نّه لا عين ولا أثر له فيها أصلاً،فإذن لا موجب للقول بالإجزاء في الشبهات الموضوعية،فحالها من هذه الناحية حال الشبهات الحكمية.على أنّ وجوب العمل على طبقها مطلقاً لا يستلزم التصويب كما لا يخفى.
الرابع: أ نّه لا فرق فيما ذكرناه من عدم الإجزاء على ضوء نظرية الطريقية والكاشفية في باب الأمارات بين المجتهد والمقلد،فكما أنّ المجتهد إذا تبدل رأيه واجتهاده برأي آخر واجتهاد ثان وجبت الاعادة عليه في الوقت والقضاء في خارجه،فكذلك المقلد إذا عدل عن مجتهد لأحد موجبات العدول إلى مجتهد آخر وكان مخالفاً له في الفتوى وجبت عليه إعادة الأعمال الماضية.
ودعوى أنّ حجية فتاوى المجتهدين على المقلدين كانت من باب السببية والموضوعية وهي تستلزم الإجزاء على الفرض،خاطئة جداً لوضوح أ نّه لا فرق بينها وبين الأمارات القائمة عند المجتهدين،كيف،فان عمدة الدليل على حجيتها إنّما هي السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم،وقد تقدّم أنّ القول بالسببية يقوم على أساس جعل المؤدى،ومن الطبيعي أ نّه ليس في السيرة العقلائية لجعل المؤدى عين ولا أثر.
الخامس: أنّ ثبوت الحكم الظاهري عند شخص بواسطة قيام الأمارة عليه هل هو نافذ في حق غيره،وذلك كما إذا قامت البينة عند إمام جماعة مثلاً على أنّ المائع الفلاني ماء فتوضأ به أو اغتسل،وقد علم غيره الخلاف وأ نّه ليس بماء،فهل يجوز لذلك الغير الاقتداء به ؟
الظاهر عدم جوازه،بلا فرق فيه بين الشبهات الحكمية والموضوعية،والسبب في ذلك:هو أنّ نفوذ الحكم الظاهري الثابت لشخص في حق غيره الذي يرى خلافه يحتاج إلى دليل،ولا دليل عليه إلّافي بعض الموارد الخاصة كما سنشير إليه.وعلى هذا الضوء فلو رأى شخص مثلاً وجوب الوضوء مع الجبيرة في موارد كسر أحد أعضاء الوضوء أو جرحه وإن كان مكشوفاً،ولكن يرى الآخر وجوب التيمم فيها،أو إذا رأى مشروعية الوضوء أو الغسل في موارد الضرر أو الحرج أو العسر،ولكن يرى الآخر عدم مشروعيته،أو إذا رأى كفاية غسل المتنجس بالبول مرّة واحدة،ويرى غيره اعتبار التعدد فيه وهكذا، ففي جميع هذه الموارد وما شاكلها لا يجوز للثاني الاقتداء بالأوّل،وليس له ترتيب آثار الوضوء الصحيح على وضوئه،وترتيب آثار الطهارة على ثوبه المتنجس بالبول المغسول بالماء مرّة واحدة.
نعم،إذا كان العمل في الواقع صحيحاً بمقتضى حديث لا تعاد،صحّ الاقتداء به،كما إذا افترضنا أنّ شخصاً يرى عدم وجوب السورة مثلاً في الصلاة اجتهاداً أو تقليداً فيصلي بدونها،جاز لمن يرى وجوبها فيها الاقتداء به،لفرض أنّ صلاته في الواقع صحيحة بمقتضى هذا الحديث،ولذا لا تجب الاعادة عليه عند انكشاف الخلاف.
ولكن يستثنى من ذلك مسألتان،إحداهما:مسألة النكاح.والاُخرى:
مسألة الطلاق.أمّا المسألة الاُولى:فقد وجب على كل أحد ترتيب آثار النكاح
الصحيح على نكاح كل قوم وإن كان فاسداً في مذهبه،فلو رأى شخص صحة النكاح بالعقد الفارسي وعقد على امرأة كذلك ويرى الآخر بطلانه واعتبار العربية فيها،لزمه ترتيب آثار الصحة على نكاحه وإن كان فاسداً في نظره، بأن يحكم بأ نّها زوجته وبعدم جواز العقد عليها وغير ذلك من الآثار المترتبة على الزواج الصحيح.ومن هنا وجب ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كل ملّة وإن كانوا كافرين.وبذلك يظهر حال المسألة الثانية حرفاً بحرف.
والدليل على هذا:مضافاً إلى إمكان استفادة ذلك من روايات الباب 1، السيرة القطعية الجارية بين المسلمين من لدن زمن النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) إلى زماننا هذا،حيث إنّ كل طائفة منهم يرتّبون آثار النكاح الصحيح على نكاح طائفة اخرى منهم،وكذا الحال بالاضافة إلى الطلاق،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّهم يعاملون مع الملل الاُخرى أيضاً كذلك،يعني أ نّهم يرتّبون آثار العقد الصحيح على نكاحهم،وآثار الطلاق الصحيح على طلاقهم،فلو عقد كافر على امرأة عاملوا معها معاملة المرأة المزوّجة ورتّبوا عليها تمام آثارها،ولو طلّقها عاملوا معها معاملة المرأة المطلّقة ورتّبوا عليها آثارها من جواز تزويجها بعد انقضاء عدتها ونحو ذلك.
قد يتوهّم: أنّ بابي الطهارة والنجاسة أيضاً من هذا القبيل،أي من قبيل النكاح،بدعوى أ نّنا كثيراً ما نخالط أبناء العامّة وغيرهم الذين لا يعتبرون في زوال عين النجاسة ما نعتبره من الشرائط،بل نخالط من لا يبالي بالنجاسة أصلاً مع سكوت الأئمة (عليهم السلام) عن ذلك،ولم يرد منهم ما يدل على وجوب الاجتناب عن هؤلاء،بل ورد منهم الأمر بمعاملتهم معاملة المتطهر، وهذا دليل على خروج بابي الطهارة والنجاسة عن الحكم المتقدم،ونفوذ الحكم
الظاهري الثابت لشخص في حقّ الآخرين.
ولكن هذا التوهّم خاطئ جداً،والسبب في ذلك:هو أنّ جواز المخالطة مع هؤلاء الأشخاص المذكورين وعدم وجوب الاجتناب عنهم ليس من ناحية نفوذ الحكم الظاهري لأحد في حقّ الآخرين،ضرورة أنّ عدم وجوب الاجتناب عمّن لا يبالي بالنجاسة كالعصاة ونحوهم ليس مبنياً على ذلك،لفرض عدم ثبوت حكم ظاهري في حق مثله،وعليه فلا بدّ أن يكون ذلك مبنياً على أحد امور:
الأوّل:أن يكون ذلك مبتنياً على عدم نجاسة ملاقي المتنجس في غير المائعات كما مال إليه المحقق الهمداني (قدس سره) حيث قال:لو بني على تنجيس المتنجس مطلقاً لزم تنجيس العالم كلّه،حيث إنّ النجاسة تسري دون الطهارة،ولكن مع ذلك قال:إنّ مخالفة المشهور أشكل فلاحظ 1.
الثاني:الاكتفاء بغيبة المسلم في الحكم بالطهارة،حيث إنّ الأصحاب قد عدّوها من المطهرات،وإن كان الاكتفاء بها في الحكم بالطهارة مطلقاً لا يخلو عن إشكال بل منع.ومن هنا ذكرنا في محلّه 2أنّ الحكم بالطهارة بها يبتني على امور:
1-أن يكون المسلم بالغاً أو مميزاً،فلو كان صبياً غير مميز لم تترتّب الطهارة على غيابه.
2-أن يكون المتنجس بدنه أو لباسه ونحو ذلك ممّا هو في حوزته،فلو كان خارجاً عن حوزته لم يحكم بطهارته.
3-أن يحتمل تطهيره،فمع العلم بعدمه لا يحكم بطهارته.
4-أن يكون عالماً بنجاسته،فلو كان جاهلاً بها لم يحكم بطهارته.
5-أن يستعمله فيما هو مشروط بالطهارة،كأن يصلي فيه أو يشرب في إنائه الذي كان متنجساً،وهكذا،ومع انتفاء أحد هذه الاُمور لا يحكم بالطهارة على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه.
الثالث:أ نّنا نعلم بطروء حالتين متعاقبتين عليه،فكما أ نّنا نعلم بنجاسة يده مثلاً في زمان نعلم بطهارتها في زمان آخر،ونشك في المتقدم والمتأخر،ففي مثل ذلك قد ذكرنا في محلّه 1أنّ الاستصحاب لايجري في شيء منهما للمعارضة، فإذن المرجع هو قاعدة الطهارة.وأمّا إذا لم يكن المورد من موارد تعاقب الحالتين،فإن كانت الحالة السابقة هي النجاسة فالمرجع هو استصحابها،وإن كانت الحالة السابقة هي الطهارة فالمرجع هو استصحابها.
فالنتيجة: أنّ عدم وجوب الاجتناب في هذه الموارد يبتني على أحد الاُمور المذكورة،فلا يقوم على أساس أنّ الحكم الظاهري الثابت في حق مسلم موضوع لترتيب الآثار عليه واقعاً في حقّ الآخرين.
السادس: أنّ المحقق النائيني (قدس سره) 2قد ادّعى الاجماع على الإجزاء في العبادات التي جاء المكلف بها على طبق الحجة الشرعية فلا تجب إعادتها في الوقت،ولا قضاؤها في خارج الوقت.وأمّا في الأحكام الوضعية فقد ذكر (قدس سره) أ نّها على قسمين،أحدهما:ما كان الموضوع فيه باقياً إلى حين انكشاف الخلاف.والثاني:غير باق إلى هذا الحين.والأوّل:كما إذا عقد على
امرأة بالعقد الفارسي،أو اشترى داراً مثلاً بالمعاطاة،أو ذبح ذبيحة بغير الحديد، أو ما شاكل ذلك ثمّ انكشف له الخلاف اجتهاداً أو تقليداً مع بقاء هذه الاُمور.
والثاني:كما إذا اشترى طعاماً بالمعاطاة التي يرى صحتها ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على بطلانها اجتهاداً أو تقليداً مع تلف الطعام المنقول إليه،أو عقد على امرأة بالعقد الفارسي ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على بطلانه كذلك مع عدم بقاء المرأة عنده،وبعد ذلك قال (قدس سره) أمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعية فلا إجماع على الإجزاء فيه بل هو المتيقن خروجه عن معقده،ومن هنا لا نظن فقيهاً أن يفتي بالإجزاء في هذا القسم.وأمّا القسم الثاني فيشكل دخوله في معقده ولا نحرز شموله له،وبدونه لا يمكن الافتاء بالإجزاء.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) بيانه:أمّا ما ذكره من دعوى الاجماع على الإجزاء في العبادات ففي غاية الاشكال،والسبب في ذلك:هو أنّ هذه المسألة يعني مسألة الإجزاء ليست من المسائل الاُصولية المعنونة في كتب القدماء،بل هي من المسائل المستحدثة بين المتأخرين،ومع هذا كيف يمكن لنا دعوى الاجماع فيها.وأضف إلى ذلك:أنّ جماعة كثيرة من الاُصوليين ذهبوا إلى عدم الإجزاء فيها.فالنتيجة:أنّ دعوى الاجماع على الإجزاء فيها خاطئة جداً.على أ نّه اجماع منقول وهو غير حجة كما قرر في محلّه 1.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) بالاضافة إلى القسم الأوّل من الأحكام الوضعية فمتين جداً،وإن سلّمنا الاجماع على الإجزاء في العبادات.وأمّا ما ذكره (قدس سره) من التردد في القسم الثاني فلا وجه له،لوضوح أ نّه لا فرق بين القسم الأوّل والثاني من هذه الناحية أصلاً،غاية الأمر إذا لم يبق الموضوع دفع إلى
صاحبه بدله إذا كان له بدل،كما إذا اشترى مالاً بالمعاطاة فتلف المال ثمّ بنى على فسادها اجتهاداً أو تقليداً ضمن بدله.وعلى الجملة:فلا فرق بين القسمين في عدم الإجزاء أصلاً.
إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة:وهي أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء مطلقاً،فالإجزاء يحتاج إلى دليل،وما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الاجماع فهو غير تام كما عرفت.نعم،قد ثبت الإجزاء في خصوص باب الصلاة بدليل خاص وهو حديث لاتعاد فيما إذا كان الفاقد جزءاً أو شرطاً غير ركن،بناءً على ضوء ما حققناه في موطنه 1من عدم اختصاصه بالناسي وشموله للجاهل القاصر أيضاً،وعليه فلو صلّى بدون السورة مثلاً معتقداً عدم وجوبها اجتهاداً أو تقليداً ثمّ اعتقد وجوبها كذلك،لم تجب الاعادة عليه لا في الوقت ولا في خارجه.
وكذا لو صلّى بدون جلسة الاستراحة بانياً على عدم وجوبها في الصلاة ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على وجوبها فيها لم تجب الاعادة عليه،وهكذا.
والحاصل:أنّ الصلاة إذا كانت فاقدة لجزء أو شرط ركني بطلت وتجب إعادتها.
وأمّا إذا كانت فاقدة لجزء أو شرط غير ركني لم تبطل ولم تجب إعادتها لا في الوقت ولا في خارجه بمقتضى حديث لاتعاد.وأمّا تكبيرة الإحرام فهي خارجة عن إطلاق هذا الحديث بمقتضى الروايات الدالة على بطلان الصلاة بفقدانها ولو كان من جهة النسيان،وأمّا عدم ذكرها فيه فلعلّه من ناحية عدم صدق الدخول في الصلاة بدونها.
فالنتيجة: هي أنّ مقتضى القاعدة الثانوية في خصوص باب الصلاة هو
الإجزاء دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات،ومن هنا لو بنى أحد في باب الصوم على عدم بطلانه بالارتماس فارتمس مدة من الزمن ثمّ انكشف له الخلاف وبنى على كونه مبطلاً وجب عليه قضاء تلك المدة.نعم،لا تجب الكفارة عليه لأنّها مترتبة على الافطار عالماً عامداً،ومن هنا قد قلنا بعدم وجوبها حتّى على الجاهل المقصّر 1.
قد استطعنا في نهاية الشوط أن نخرج في هذه المسألة بعدّة نتائج:
الاُولى: أنّ قيد«على وجهه»في عنوان المسألة على ضوء نظريتنا من إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر توضيحي وليس باحترازي،نعم هو كذلك على نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره).
الثانية: أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان النزاع ما يشبه العلة الحقيقية التكوينية والتأثير الخارجي،ومن هنا نسب إلى الاتيان بالمأمور به لا إلى الأمر،كما أنّ المراد من كلمة الإجزاء هاهنا هو معناها اللغوي،أعني الكفاية.
الثالثة: قد تقدّم أنّ مسألتنا هذه تمتاز عن مسألة المرة والتكرار من ناحية، وعن مسألة تبعية القضاء للأداء من ناحية اخرى،فلا صلة لها بشيء من المسألتين.
الرابعة: أنّ صاحب الكفاية (قدس سره) قد ذكر أنّ المأمور به بالأمر الاضطراري لا يخلو بحسب مقام الثبوت عن أربع صور،وقد تكلمنا في تلك الصور بشكل موسّع في ضمن البحوث السابقة وناقشنا في بعضها.
الخامسة: ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ عدم إجزاء الاتيان بالمأموربه بالأمر الاضطراري فيما إذا ارتفع العذر في خارج الوقت غير معقول في مرحلة
الثبوت،وقد تقدّم نقده وأ نّه لا مانع من الالتزام بعدم الإجزاء ثبوتاً.نعم،لا مناص من الالتزام بالإجزاء في مرحلة الاثبات من جهة الاطلاق.
السادسة: لا إشكال في جواز البدار في موارد التقية،وأمّا في غير مواردها فالصحيح هو عدم جواز البدار فيها.
السابعة: أنّ أدلة الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار المستند إلى الاختيار إلّافي موارد التقية،حيث لا فرق فيها بين ما كان الاضطرار بالاختيار أو بغيره.
الثامنة: أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل بين موارد الاُصول وموارد الأمارات،فالتزم بالإجزاء في الاُولى وبعدمه في الثانية، قد تقدّم نقده بشكل موسّع في ضمن البحوث المتقدمة وأ نّه لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
التاسعة: أنّ مقتضى القاعدة على القول بالسببية بجميع أنواعها وأشكالها هو الإجزاء،فعدمه يحتاج إلى دليل.ومقتضى القاعدة على القول بالطريقية هو عدم الإجزاء،فالإجزاء يحتاج إلى دليل،نعم قد قام الدليل بالخصوص على الإجزاء في خصوص باب الصلاة.
العاشرة: أنّ ثبوت الحكم الظاهري في حق شخص لا يكون نافذاً في حق آخر ولا دليل على ذلك إلّافي موردين،أحدهما:مسألة النكاح.وثانيهما:
مسألة الطلاق كما عرفت.هذا آخر ما أوردناه في مبحث الإجزاء.
يقع الكلام فيها عن عدّة جهات:
الاُولى: في بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام،فنقول:لا يشك أحد ولن يشك في أنّ المراد منه ليس هو الوجوب العقلي،يعني لابدية الاتيان بالمقدمة،بداهة أنّ العقل إذا أدرك توقف الواجب على مقدمته ورأى أنّ تركها يؤدي إلى ترك الواجب الذي فيه احتمال العقاب استقلّ بلزوم إتيانها،امتثالاً لأمره تعالى وقياماً بوظيفة العبودية والرقية،وتحصيلاً للأمن من العقوبة، فثبوت الوجوب بهذا المعنى ضروري،فلا مجال للنزاع فيه أبداً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ المبحوث عنه هنا ليس هو الوجوب المجازي بمعنى أنّ الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة حقيقة وواقعاً هل يصح إسناده إلى مقدماته مجازاً أم لا،ضرورة أ نّه لا شبهة في صحة هذا الاسناد المجازي أوّلاً، وعدم شأن الاُصولي البحث عن ذلك ثانياً،وكون البحث عندئذ بحثاً لغوياً ثالثاً.
ومن ناحية ثالثة:أنّ المراد منه ليس هو الوجوب الفعلي التفصيلي،بداهة أ نّه يقتضي التفات الآمر دائماً إلى تمام مقدمات الواجب حتّى يقال إنّه متى أوجب شيئاً أوجب مقدماته فعلاً،مع أنّ الآمر كثيراً ما لا يلتفت إلى نفس المقدمة فضلاً عن إيجابها.
فالصحيح أن يقال:إنّ المراد منه في المقام هو وجوب غيري تبعي،بمعنى أنّ الآمر لو كان ملتفتاً إلى نفس المقدمة لأوجبها كما أوجب ذي المقدمة،ولا
بأس بأن يسمى هذا الوجوب بالوجوب الارتكازي،لارتكازه في ذهن كل آمر وحاكم.وإن شئت قلت:إنّ النزاع في الحقيقة في ثبوت هذه الملازمة،يعني الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدماته،وعدم ثبوتها.
الثانية: أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاُصولية أو الفقهية أو الكلامية أو المبادئ الأحكامية ؟ ففيها وجوه بل أقوال:
قيل: إنّها من المسائل الفقهية،ويظهر ذلك من عبارة جملة من المتقدمين منهم صاحب المعالم (قدس سره) 1حيث قد استدلّ على نفي وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات الثلاث.
ولكن هذا القول خاطئ جداً،فلا واقع موضوعي له أصلاً،وذلك لما حققناه في أوّل بحث الاُصول من أنّ البحث في هذه المسألة ليس عن وجوب المقدمة ابتداءً لتكون المسألة فقهية،بل البحث فيها إنّما هو عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والأمر بمقدمته وعدم ثبوتها،ومن الطبيعي أنّ البحث عن هذه الناحية ليس بحثاً فقهياً ولا صلة له بأحوال فعل المكلف وعوارضه بلا واسطة هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه في هذه المسألة يعمّ الوجوب والاستحباب فلا اختصاص له بالوجوب.وأمّا تخصيص العلماء محل النزاع بالوجوب فلعلّه لأجل أهميته وإلّا فعلى القول بالملازمة لا فرق بينه وبين الاستحباب أصلاً.
وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الأحكام الفقهية مجعولة للعناوين الخاصة كالصلاة والصوم والحج والزكاة وما شاكل ذلك،والمقدمة
حيث إنّها تصدق في الخارج على العناوين المتعددة والحقائق المختلفة وليست عنواناً لفعل واحد،فبطبيعة الحال لم يكن المجعول عليها من الأحكام الفقهية لتكون المسألة فقهية 1.
فخاطئ جداً،والسبب في ذلك:هو أنّ الضابط في المسائل الفقهية هو أ نّها مجعولة للموضوعات والعناوين الخاصة من دون فرق بين كونها منطبقة في الخارج على حقيقة واحدة كالأمثلة المتقدمة،أو على حقائق متعددة كعنوان النذر والعهد واليمين وإطاعة الوالد والزوج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما شابه ذلك،حيث لا شبهة في أنّ الأحكام المجعولة لهذه العناوين من الأحكام الفقهية.
قيل: إنّها من المسائل الكلامية،بدعوى أنّ البحث عنها بحث عقلي فلا صلة لها بعالم اللفظ أصلاً.
وفيه: أنّ مجرد كون البحث عنها عقلياً لايوجب دخولها في المسائل الكلامية، ضرورة أنّ المسائل الكلامية وإن كانت عقلية إلّاأنّ كل مسألة عقلية ليست منها،بل هي صنف خاص منها وهي المسائل التي يبحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد فحسب،ورجوع البحث عنها إلى البحث عن أحوالهما وإن كان بمكان من الامكان،إلّاأ نّه ليس من جهة اختصاص البحث عنها بذلك،بل من ناحية قابلية المسألة في نفسها لذلك،وحيث إنّ انعقادها اصولية ممكن هنا فلا موجب لتوهم كونها منها أصلاً.
قيل: إنّها من المبادئ الأحكامية.
ويدفعه: أنّ المبادئ لا تخلو من التصورية والتصديقية ولا ثالث لهما،
والمبادئ التصورية هي لحاظ ذات الموضوع والمحمول وذاتياتهما في كل علم، ومن البديهي أنّ البحث عن مسألة مقدمة الواجب لا يرجع إلى ذلك.والمبادئ التصديقية هي المقدمات التي يتوقف عليها تشكيل القياس،ومنها المسائل الاُصولية فانّها مبادئ تصديقية بالاضافة إلى المسائل الفقهية،لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها تلك المسائل والأحكام،ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.
نعم،قد يكون الحكم موضوعاً فيبحث عن حالاته وآثاره،إلّاأ نّه في الحقيقة داخل في المبادئ التصديقية وليس شيئاً آخر في مقابلها وهو ظاهر،كما أنّ تصوره بذاته وذاتياته داخل في المبادئ التصورية.على أنّ البحث في هذه المسألة ليس عن حالات الحكم وآثاره،بل هو عن إدراك العقل الملازمة بين حكمين شرعيين:النفسي والغيري،وعدمه.
وعلى هذا الضوء،فإن أراد القائل بالمبادئ الأحكامية أ نّها من المبادئ التصديقية لعلم الفقه،فيرد عليه:أنّ جميع المسائل الاُصولية بشتى أنواعها كذلك،فلا اختصاص لها بتلك المسألة.وإن أراد أ نّها من المبادئ التصديقية لعلم الاُصول،فهو خاطئ جداً،لما سنشير إليه من أنّ هذه المسألة من المسائل الاُصولية التي تقع في طريق الاستنباط بلا توسط مسألة اصولية اخرى.
والصحيح: أ نّها من المسائل الاُصولية العقلية،فلنا دعويان:الاُولى:أ نّها من المسائل الاُصولية.الثانية:أ نّها من المسائل العقلية.
أمّا الدعوى الاُولى: فلما حققناه في أوّل بحث الاُصول 1من أنّ المسائل الاُصولية ترتكز على ركيزتين:1-أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من
الأدلة من باب الاستنباط لا من باب التطبيق.2-أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم مسألة اصولية اخرى،وقد تقدّم الكلام حول هاتين الركيزتين بشكل موسع في أوّل بحث الاُصول،وبما أنّ هاتين الركيزتين قد توفرتا في مسألتنا هذه،فهي من المسائل الاُصولية لا محالة.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ الحاكم بالملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته إنّما هو العقل،ولا صلة لها بدلالة اللفظ أبداً.
ومن ذلك يظهر أنّ ما ظهر من صاحب المعالم (قدس سره) من كون هذه المسألة من المسائل اللفظية حيث قد استدلّ على عدم وجوب المقدمة بانتفاء الدلالات الثلاث في غير محلّه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الاُصوليين قد قسّموا الحكم العقلي إلى قسمين:
أحدهما:حكم عقلي مستقل وهو التحسين والتقبيح العقليان.وثانيهما:حكم عقلي غير مستقل وهو مباحث الاستلزامات العقلية،وإنّما سمي الأوّل بالمستقل والثاني بغير المستقل من ناحية أنّ استنتاج الحكم الشرعي من الأوّل لا يتوقف على مقدمة خارجية،ومن الثاني يتوقف عليها كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث اجتماع الأمر والنهي،ومسألتنا هذه من القسم الثاني.
فقد ذكروا للمقدمة تقسيمات متعددة:
الأوّل: تقسيمها باعتبار دخولها في المأمور به قيداً وتقيداً وعدم دخولها فيه كذلك إلى أصناف ثلاثة:
1-المقدمة الداخلية:وهي أجزاء المأمور به التي هي داخلة في حقيقته تقيداً وقيداً،فانّ الجزء كما هو بنفسه دخيل في حقيقته ومقوّم لواقعه الموضوعي، كذلك تقيده بسائر أجزائه،وهكذا مثلاً القراءة كما أ نّها بنفسها دخيلة في حقيقة الصلاة،كذلك تقيدها بكونها مسبوقة بالتكبيرة وملحوقة بالركوع دخيل فيها.
2-المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم،وقد يطلق عليها المقدمة الداخلية بالمعنى الأعم أيضاً:وهي التي تكون خارجة عن المأمور به قيداً وداخلة فيه تقيداً،وذلك كشرائط المأمور به مثل طهارة البدن للصلاة،وطهارة الثوب، واستقبال القبلة،والطهارة من الحدث،وما شاكل ذلك،فإنّها وإن كانت خارجة عن ذات الصلاة وحقيقتها قيداً،ولكنها داخلة فيها تقيداً،يعني أنّ المأمور به هو حصة خاصة من الصلاة،وهي الصلاة المتقيدة بتلك الشرائط لا مطلقاً، وإن شئت قلت:إنّ ما تعلق به الأمر إنّما هو نفس أجزاء المأمور به مقيدة بعدة شرائط وقيود وجودية أو عدمية،وأمّا نفس الشرائط والقيود فهي خارجة عن متعلقه.
ومن هنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الأمر كما ينبسط على الأجزاء كذلك ينبسط على القيود والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية 1خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أبداً،لما عرفت من أنّ القيود بشتى ألوانها خارجة عن المأمور به والداخل فيه إنّما هو التقيد بها،فلو كانت داخلة فيه لم يكن فرق بينها وبين الأجزاء أصلاً.مع أنّ الفرق بينهما من الواضحات وإلّا فما هو الموجب لتسمية هذا بالقيد وذاك بالجزء.
3-المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص:وهي التي غير دخيلة في الواجب لا قيداً ولا تقيداً،وإنّما يتوقف وجوده في الخارج على وجودها،كتوقف وجود الصلاة خارجاً على وجود مكان ما،وتوقف الكون في كربلاء مثلاً على طي المسافة وهكذا.
وبعد ذلك نقول: لا إشكال في دخول الصنف الثاني من تلك الأصناف في محل النزاع،وكذا الصنف الثالث،وإنّما الاشكال والكلام في دخول الصنف
الأوّل وعدم دخوله،الكلام فيه يقع من جهات:
الاُولى:في صلاحية الأجزاء للاتصاف بالمقدمية وعدمها.
الثانية:على تقدير صلاحيتها للاتصاف بها هل المقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري موجود أم لا ؟
الثالثة:على تقدير ثبوت المقتضي له هل هنا مانع عن اتصافها به أم لا ؟
فقد يطلق المقدمة ويراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيها بأن يكون فيه وجودان،أحدهما:للمقدمة،والآخر:لذي المقدمة،غاية الأمر أنّ وجود الثاني يتوقف على وجود الاُولى.وقد يطلق ويراد بها مطلق ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه.
أمّا المقدمة بالاطلاق الأوّل فلا تصدق على الأجزاء،بداهة أنّ وجود الأجزاء في الخارج ليس مغايراً لوجود الكل،بل وجوده فيه عين وجود أجزائه بالأسر،فانّها إنّما تغايره إذا لوحظت لا بشرط،وأمّا إذا لوحظت بشرط شيء فهي عينه،حيث إنّه هو الأجزاء الملحوظة كذلك،والسر فيه واضح،وهو أنّ التركيب بينها اعتباري فلا وجود له خارجاً ما عدا وجود أجزائه فيه.وإن شئت قلت:إنّ في الخارج وجوداً واحداً وذلك الوجود الواحد كما يضاف إلى الكل فيكون وجوداً له،كذلك يضاف إلى الأجزاء،وليس فيه وجودان أحدهما مقدمة للآخر.
وأمّا المقدمة بالاطلاق الثاني فتشمل الأجزاء أيضاً،لوضوح أنّ وجود الكل يتوقف على وجود أجزائه،وأمّا وجودها فلا يتوقف على وجوده،وذلك كالواحد بالاضافة إلى الاثنين حيث إنّ وجود الاثنين يتوقف على وجود الواحد دون العكس.وعلى الجملة:فبما أنّ وجود الجزء يتقدم على وجود الكل
طبعاً فبطبيعة الحال لا يعقل وجوده بدون وجوده،دون العكس،وهذا معنى كونه مقدمة له.فالنتيجة أ نّه لا إشكال في صدق المقدمة بالاطلاق الثاني على الأجزاء.
فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في هامش الكفاية 1ما حاصله:هو أ نّه لا مقتضي لاتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري أصلاً،والسبب في ذلك:هو أنّ ملاك الوجوب الغيري إنّما هو فيما إذا كان وجود المقدمة غير وجود ذيها في الخارج ليقع البحث عن أنّ إيجاب الشارع ذي المقدمة هل يستلزم إيجابه مقدمته تبعاً أم لا،وأمّا إذا كان وجودها عين وجود ذيها في الخارج كالجزء بالاضافة إلى الكل فلا ملاك لاتصافها به، لوضوح أ نّها واجبة بعين الوجوب المتعلق بالكل وهو الوجوب النفسي ومعه لا مقتضي لاتصافها به،بل هو لغو محض.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) في غاية الصحة والمتانة،بداهة أ نّه لا موضوع لحكم العقل بالملازمة هنا بعد فرض أنّ الأجزاء نفس المركب في الخارج وأحدهما عين الآخر وجوداً ووجوباً،ومعه كيف يعقل وجود الملاك للوجوب الغيري فيها.
فقد ادّعى صاحب الكفاية (قدس سره) 2وجود المانع عن اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري على فرض ثبوت المقتضى له-وهو لزوم اجتماع المثلين-وذلك لأنّ الأجزاء بشرط الاجتماع واجبة بوجوب نفسي،ومع ذلك لو وجبت بوجوب غيري لزم اجتماع حكمين متماثلين في شيء واحد،وهو محال حتّى لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق
والاجتماع،والسبب فيه هو أنّ القول بالجواز هناك يرتكز على كون الجهتين تقييديتين،وأمّا إذا كانتا تعليليتين فلا يمكن القول به،وبما أنّ الجهة فيما نحن فيه تعليلية وهي عنوان المقدمة ولم تكن تقييدية فلا يمكن القول بالاجتماع فيه.
ولنأخذ بالنقد عليه،بيانه: أنّ ما أفاده (قدس سره) من المانع في فرض ثبوت المقتضي لايصلح أن يكون مانعاً،والسبب في ذلك هو أن اجتماع الحكمين المذكورين في شيء واحد لا يؤدي إلى اجتماع المثلين،بل يؤدي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكداً كما هو الحال في كل واجب نفسي يتوقف عليه واجب نفسي آخر،كصلاة الظهر بالاضافة إلى صلاة العصر حيث إنّها واجبة بحد ذاتها نفساً،أي سواء أكان هناك واجب آخر أم لا، وواجبة بالاضافة إلى صلاة العصر غيراً باعتبار توقّفها عليها،فهي ذات ملاكين،فإذن بطبيعة الحال يندك أحدهما في الآخر ويتحصل من مجموعهما وجوب واحد أكيد متعلق بها.
وعلى الجملة:ففي كل مورد اجتمع فيه حكمان متماثلان-سواء أكانا من نوع واحد أم من نوعين،وسواء أكان كلاهما معاً إلزاميين أم كان أحدهما إلزامياً دون الآخر-يندك أحدهما في الآخر،ولا يعقل بقاء كل واحد منهما بحدّه،هذا.
وقد اعترض على ذلك بعض الأعاظم (قدس سره) 1،وحاصله:هو أنّ الاندكاك بين الحكمين المتماثلين إنّما يتصور فيما إذا كانا في رتبة واحدة،وأمّا إذا كان أحدهما في طول الآخر فلم يتصور الاندكاك بينهما،وما نحن فيه من قبيل الثاني،وذلك لأن ملاك الوجوب الغيري في طول ملاك الوجوب النفسي.وإن شئت قلت:إنّ الوجوب الغيري متأخر رتبة عن الوجوب النفسي حيث إنّه
مترشح عنه،وعليه فبطبيعة الحال اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري في رتبة متأخرة عن اتصافها بالوجوب النفسي،ومعه كيف يعقل حصول الاندكاك بينهما.
ولنأخذ بالنقد عليه:وهو أنّ ما أفاده (قدس سره) مبتن على الخلط بين تقدّم حكم على حكم آخر زماناً،وبين تقدمه عليه رتبة مع مقارنته له كذلك، بيانه:أنّ الاندكاك بين الحكمين إنّما لا يتصور فيما إذا كانا مختلفين زماناً،بأن يكون أحدهما في زمانٍ والآخر في زمانٍ آخر بحيث لا يجتمعان في زمان واحد،ففي مثل ذلك لا يعقل الاندكاك والتأكد.
وأمّا إذا كانا مقارنين زماناً ومجتمعين فيه-وإن كانا مختلفين رتبة-فلا مناص من الالتزام بالتأكد والاندكاك،بداهة أ نّه لا أثر لاختلاف الرتب العقلية في الأحكام الشرعية،لعدم ثبوتها لها،وإنّما هي ثابتة للموجودات الزمانية.
ومثال الاندكاك في التكوين والتشريع موجود.
أمّا في الأوّل:فكما إذا افترضنا وجود ملاكين لاتصاف جسم بالبياض مثلاً وكان أحدهما في طول الآخر رتبة،كما إذا فرضنا أنّ اتصاف جسم ببياضٍ سبب لايجاد بياض آخر فيه،فالبياضان عندئذ وإن كانا مختلفين رتبة إلّاأنّ اتحادهما زمناً يوجب اندكاك أحدهما في الآخر،ولا يعقل بقاء كل منهما فيه بحده واستقلاله.
وأمّا في الثاني:كما لو نذر الصلاة في المسجد أو الجماعة أو نحو ذلك،فانّه لا شبهة في أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر يندك في الوجوب أو الاستحباب النفسي الثابت لها،مع أ نّه في رتبة متأخرة عنه،لتأخر ملاكه-وهو رجحان متعلقه-عن ملاك ذلك،والسبب فيه ليس إلّااجتماعهما في شيء واحد وزمن واحد.ومن هنا ذكرنا في محلّه أنّ الأمر النذري في عرض الأمر النفسي زمناً
وإن كان في طوله رتبة بملاك اعتبار الرجحان في متعلقه في مرتبة سابقة عليه.
فالنتيجة: أنّ الملاك المقتضي للاندكاك والتأكد هو تقارن الحكمين زمناً وإن كانا مختلفين رتبة.أضف إلى ذلك:أنّ الوجوب الغيري ليس معلولاً للوجوب النفسي ومترشحاً منه،كما سيأتي تحقيقه في ضمن البحوث الآتية.
وقد ادّعى بعض الأعاظم (قدس سره) 1ظهور الثمرة بين القول باتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين،بدعوى أ نّه على القول الأوّل لا ينحل العلم الاجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل،وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل على كل تقدير،وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي،فلا انحلال في البين.وعلى القول الثاني ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلق بذات الأقل-وهي المركب من تسعة أجزاء مثلاً-والشك البدوي في اعتبار أمر زائد،وعندئذ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزائد.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) خاطئ جداً،والسبب في ذلك هو أن انحلال العلم الاجمالي وعدمه في تلك المسألة يرتكزان على نقطة اخرى وهي جريان أصالة البراءة عن وجوب الزائد وعدم جريانها،ولا صلة لها باتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتصافها به.وإن شئت قلت:إنّ الأمر بالمركب إذا لم يكن أمر بالأجزاء فلا موجب للانحلال،وإن كان الأمر به عين الأمر
بالأجزاء كما هو كذلك تعيّن القول بالانحلال،بناءً على ما حققناه في مورده 1من عدم المانع من جريان أصالة البراءة عن وجوب الزائد،وعلى كلا التقديرين لا فرق بين القول بوجوب الأجزاء غيرياً والقول بعدمه.
نتيجة ما ذكرناه إلى هنا:هي أنّ المقدمة الداخلية خارجة عن مورد البحث، فالذي هو مورد للبحث والنزاع هو المقدمة الخارجية بكلا صنفيها.
الثاني: تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجوب تارة،ومقدمة الوجود اخرى، ومقدمة العلم ثالثة،ومقدمة الصحة رابعة.
أمّا الاُولى: فلا إشكال في خروجها عن محل البحث،وذلك لأنّه لا وجوب قبل وجودها حتّى يجب تحصيلها،وبعد وجودها وجوبها تحصيل للحاصل، وذلك كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج،فانّه لا وجوب له قبل وجودها،وكالسفر الذي هو شرط لوجوب القصر في الصلاة والافطار في الصيام،وفي مقابله الحضر الذي هو شرط لوجوب التمام والصيام،ومن هنا لا شبهة في عدم اتصاف هذه المقدمات والشرائط بالوجوب،لأنّها اخذت مفروضة الوجود في الخارج في مقام الجعل فلا يعقل إيجابها من هذه الناحية.
نعم،قد يجب الاتيان بها من ناحية اخرى،كما إذا نذر تحصيل الاستطاعة أو السفر أو نحو ذلك فحينئذ يجب،ولكن ذلك أجنبي عما هو محل الكلام في المقام.
وأمّا مقدمة العلم: كالصلاة إلى الجهات الأربع في مورد اشتباه القبلة لتحصيل العلم بوقوعها إلى القبلة،أو في غير ذلك من موارد العلم الاجمالي، فهي أيضاً لا شبهة في خروجها عن مورد البحث،وذلك لأنّ الصلاة التي وقعت
إلى القبلة في المثال هي نفس الواجب وليست مقدمة له،وأمّا غيرها فهي مغايرة للواجب ولا تكون مقدمة له،وإنّما هي مقدمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمة والأمن من العقاب.
وأمّا مقدمة الوجود: وهي التي يتوقّف وجود الواجب على وجودها خارجاً بحيث لولاها لما حصل الواجب نفسه،فهي تعود إلى المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص،وهي التي خارجة عن المأمور به قيداً وتقيداً.
وأمّا مقدمة الصحة: وهي التي تتوقف صحة الواجب عليها،فهي تعود إلى المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم،وهي التي خارجة عن المأمور به قيداً وداخلة فيه تقيداً.فالنتيجة:أ نّه لا بأس بهذا التقسيم.
نعم،لا وقع لتقسيمها ثالثاً إلى الشرعية والعقلية والعادية،وذلك لأنّ الاُولى بعينها هي المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم وليست مقدمة اخرى في مقابلها.
والثانية هي المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص.وأمّا الثالثة،فإن اريد منها ما جرت العادة على الاتيان بها من دون توقف الواجب عليها خارجاً فلا شبهة في خروجها عن مورد النزاع،وإن اريد منها ما يستحيل وجود الواجب في الخارج بدونها عادة وإن لم يستحل عقلاً،وذلك كالكون على السطح مثلاً حيث إنّه بلا طيّ المسافة محال عقلي لاستحالة الطفرة،ولكنّه بلا نصب السلّم محال عادي،ضرورة إمكان الطيران ذاتاً.
وبكلمة اخرى:تارة يكون الشيء ممتنعاً ذاتاً كاجتماع النقيضين،ووجود الممكن بلا علة وما شاكل ذلك.واُخرى يكون ممتنعاً وقوعاً وإن كان في ذاته ممكناً،وذلك ككون الانسان على السطح بدون طي المسافة،فانّه ممتنع عقلاً حيث يلزم من فرض وقوعه في الخارج محال-وهو الطفرة-وثالثة لا هذا ولا ذاك،بل هو ممتنع عادة ككونه على السطح بلا نصب السلّم حيث لا يلزم من
فرض وقوع الطيران أو القوة الخارقة للعادة له محال،لعدم استحالتهما.وإنّما يستحيل بلا نصب السلّم بالقياس إلى عادم الجناح وعادم القوّة الخارقة.
فالنتيجة: أنّ المقدمة في الحقيقة هي الجامعة بين الطيران ونصب السلّم، وحيث إنّ الفرد الأوّل غير متحقق انحصر الجامع في الفرد الأخير وهو نصب السلّم،فإذن ترجع المقدمة العادية على ضوء هذا التفسير إلى المقدمة العقلية، فلا معنى لذكرها في قبالها.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة:وهي أنّ الصحيح من هذه التقسيمات للمقدمة هو التقسيم الأوّل والثاني،ولا وقع للتقسيم الثالث.
الشرط المتأخِّر
ينقسم الشرط إلى الشرط المتأخر والمتقدم والمقارن.
وقد اشكل على الشرط المتأخر بأنّ الشرط من أجزاء العلّة التامّة،ومن البديهي أنّ العلة بكافة أجزائها تتقدّم على المعلول رتبة وتعاصره زمناً،فلا يعقل تأخّر جزء من أجزائها عنه،ومعه كيف صار الشرط متأخراً عن المشروط.
وربّما يتوهم أنّ الشرط ليس هو ذات الوجود الخارجي ليستحيل تأخره عن المشروط،بل الشرط إنّما هو وجوده المتأخر بوصف تأخره،فالعلة لم تتأخر عن المعلول،بل المتأخر بوصف تأخره يكون علة تامة.
ويردّه:أ نّه مجرد وهم فلا واقع موضوعي له أصلاً،وذلك لأنّ لازم هذا هو أن يكون الشيء المعدوم بوصف أ نّه معدوم مؤثراً في وجود الشيء،لفرض أنّ الشرط كما عرفت من أجزاء العلة التامة المؤثرة في الوجود،ومع عدمه فالعلة التامة غير موجودة،ومعه كيف يعقل وجود المعلول.وعلى الجملة:فالشيء المتأخر لا يعقل أن يكون مؤثراً في المتقدم لا بوصف كونه متأخراً ولا بوصف كونه معدوماً،إذ على كلا التقديرين يلزم وجود المعلول قبل وجود علته وهو محال.
ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1لم يقتصر في الاشكال على الشرط المتأخر،بل أورده على الشرط المتقدم أيضاً بدعوى أنّ الشرط بما أ نّه
من أجزاء العلة التامة فلا بدّ أن يكون مقارناً مع المشروط زمناً،فكما لا يعقل أن يكون متأخراً عنه كذلك لا يعقل أن يكون متقدماً عليه إذا لم يبق إلى عصر وجوده أي وجود المشروط،ومن هنا قال (قدس سره):إنّه لا وجه لاختصاص الاشكال بخصوص الشرط المتأخر كما اشتهر في الألسنة،بل يعمّ الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين وجود الأثر كالعقد في الوصية والصرف والسلم،بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرمها حين تأثره،مع ضرورة اعتبار مقارنتها له زماناً.
ولنأخذ بالنقد عليه:وهو أنّ ما جاء به المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من تعميم الاشكال إلى الشرط المتقدم خاطئ جداً،فان تقدّم الشرط على المشروط في التكوينيات غير عزيز فما ظنك في التشريعيات،والسبب في ذلك:
هو أنّ مردّ الشرط في طرف الفاعل إلى مصحح فاعليته،كما أن مردّه في طرف القابل إلى متمم قابليته،ومن الطبيعي أ نّه لا مانع من تقدّم مثله على المشروط زماناً.
وبكلمة اخرى:أنّ شأن الشرط إنّما هو إعطاء استعداد التأثير للمقتضي في مقتضاه،وليس شأنه التأثير الفعلي فيه حتّى لا يمكن تقدمه عليه زماناً.ومن البديهي أ نّه لا مانع من تقدّم ما هو معدّ ومقرّب للمعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلة زمناً عليه،ولا تعتبر المقارنة في مثله.نعم،الذي لا يمكن تقدمه على المعلول زماناً هو الجزء الأخير للعلة التامة،وأمّا سائر أجزائها فلا مانع من ذلك أصلاً،ونأخذ لتوضيح ذلك مثالين:
أحدهما: أنّ غليان الماء خارجاً يتوقف على إحراق النار وإيجاد الحرارة فيه على التدريج إلى أن تبلغ درجة خاصة فإذا وصلت إلى هذه الدرجة تحقق الغليان،فالاحراق شرط له وهو متقدم عليه زماناً.
ثانيهما: أنّ القتل يتوقف على فري الأوداج،ثمّ رفض العروق الدم الموجود فيها إلى الخارج،ثمّ توقف القلب عن الحركة وبعده يتحقق القتل،ففري الأوداج مع أ نّه شرط متقدم عليه.فالنتيجة أ نّه لا مانع من تقدّم سائر أجزاء العلة التامة على المعلول زماناً،فان ما لا يمكن تقدمه عليه كذلك هو الجزء الأخير لها.
ومن هنا يظهر أنّ التعاصر إنّما هو بين العلة التامة ومعلولها لا بين كل جزء جزء منها وبينه،فإذا جاز تقدّم الشرط على المشروط في التكوينيات جاز في التشرعيات أيضاً،بداهة أ نّه لا مانع من اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف مشروطاً بشيء متدرج الوجود خارجاً على نحو يكون ثبوته في ذمته معاصراً لجزئه الأخير بحيث يستحيل الانفكاك بينهما زماناً،أو يعتبر الوضع كالملكية والزوجية وما شاكلهما كذلك،يعني مشروطاً بشيء متدرج الوجود كالعقد ونحوه.
وعلى الجملة:فلا مانع من تقدّم الشرط على المشروط،سواء أكان المشروط حكماً أو فعلاً،وسواء أكان الحكم وضعياً أو تكليفياً.وأضف إلى ذلك:أنّ باب الأحكام الشرعية أجنبي عن باب العلة والمعلول بالكلية فلا صلة لأحدهما بالآخر أبداً كما سنشير إليه.
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1قد خصص الاشكال المذكور بشرائط الحكم،وذهب إلى عدم جريانه بالاضافة إلى شرائط المأمور به،وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله:هو أنّ مرد شرطية شيء للمأمور به هو أنّ الشارع جعل متعلق أمره حصة خاصة منه وهي الحصة المتقيدة به لا مطلقاً،مثلاً معنى كون الطهارة شرطاً للصلاة هو أنّ الأمر تعلق بحصة خاصة منها وهي
الحصة المتقيدة بها لا مطلقاً،فيكون القيد كالجزء،فكما أنّ الجزء متعلق للأمر النفسي،فكذلك القيد،فلا فرق بينهما من هذه الناحية،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:كما أ نّه لا مانع من تأخر بعض أجزاء الواجب عن بعضها الآخر ولا محذور فيه أبداً،وأنّ الأمر تعلق بالمجموع من المتقدم والمتأخر ولا يمكن امتثاله إلّابالاتيان بالجميع كما هو الحال في أجزاء الصلاة، كذلك لا مانع من تأخر بعض القيود عن الواجب،فان مرجعه إلى أنّ الواجب هو الحصة المتقيدة به،فحاله حال الجزء الأخير من هذه الناحية،فكما أنّ الواجب لا يحصل في الخارج إلّابحصول الجزء الأخير،فكذلك لا يحصل إلّا بحصول قيده المتأخر.ومن هنا لو قلنا باشتراط صوم النهار بالغسل المتأخر وهو الغسل في الليل فلا يمكن امتثاله بدونه،فانّ الواجب هو حصة خاصة من الصوم وهي الحصة المتقيدة به،ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن حصول المقيد في الخارج بدون حصول قيده.
وإن شئت قلت: إنّ مقامنا هذا ليس مقام التأثير والتأثر،لما عرفت من أنّ مردّ كون شيء شرطاً للمأمور به إلى كونه قيداً له،ومن الواضح أنّ قيد المأمور به قد يكون مقارناً له،وقد يكون متقدماً عليه،وقد يكون متأخراً عنه،فكما لا يمكن حصول المأمور به بدون قيده المقارن أو المتقدم فكذلك لا يمكن حصوله بدون قيده المتأخر،فحال القيد المتأخر كالغسل المزبور مثلاً حال الجزء الأخير من الواجب كالتسليم بالاضافة إلى الصلاة فانّهما مشتركان في نقطة واحدة،وهي توقف امتثال الواجب عليهما.
ويرد عليه أوّلاً: أنّ هذا مناقض لما أفاده (قدس سره) سابقاً 1من الفرق
بين المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص وهي الأجزاء والمقدمات الداخلية بالمعنى الأعم وهي الشرائط حيث قال بخروج الاُولى عن محل النزاع لعدم ملاك الوجوب الغيري فيها،دون الثانية.ووجه المناقضة هو أنّ الشرائط لو كانت متصفة بالوجوب النفسي فهي كالأجزاء فلا مقتضي عندئذ لاتصافها بالوجوب الغيري.
وثانياً: ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السابقة من أنّ الشرائط بأجمعها خارجة عن المأمور به والداخل فيه إنّما هو تقيده بها،فإذن كيف يعقل أن تكون متعلقة للأمر النفسي كالأجزاء،مع أنّ بعضها غير اختياري كالقبلة أو ما شاكلها.وعلى الجملة:فالملاك في صحة التكليف هو كون المقيد بما هو مقيد تحت قدرة المكلف واختياره،وإن كان القيد خارجاً عنه.فالنتيجة:أنّ إشكال تأخر الشرط في شرائط المأمور به لا يندفع بما ذكره (قدس سره).
والذي ينبغي أن يقال في المقام:هو أ نّه لا شأن للشرط هنا إلّاكونه قيداً للطبيعة المأمور بها الموجب لتعنونها بعنوان خاص وتخصصها بحصة مخصوصة التي يقوم بها ملاك الأمر،فالمأمور به هو تلك الحصة من الكلي من دون دخل لذلك القيد في الملاك القائم بها أصلاً،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق فيه بين كون ذلك القيد من الاُمور المتقدمة أو المقارنة وبين كونه من الاُمور المتأخرة،بداهة كما أنّ تقييد الطبيعة المأمور بها بالاُمور المتقدمة كتقييد الصلاة مثلاً بالطهارة – بناءً على ما هو الصحيح من أ نّها عبارة عن الأفعال الخارجية-أو بالاُمور المقارنة كتقييدها باستقبال القبلة وبالستر والقيام وما شابه ذلك،يوجب تخصصها بحصة خاصة بحيث لا يمكن الاتيان بتلك الحصة إلّامع هذه القيود، ومع انتقائها تنتفي،كذا تقييدها بالاُمور المتأخرة يوجب تخصصها كذلك بحيث لو لم يحصل ذلك الأمر المتأخر في موطنه كشف عن عدم تحقق تلك الحصة.
وذلك كالصوم الواجب على المستحاضة بناءً على كونه مشروطاً بشرط متأخر وهو الغسل في الليل اللّاحق،فان معنى كونه مشروطاً به هو أنّ الواجب عليها حصة خاصة من الصوم وهي الحصة المقيدة به بحيث يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً،ومن الواضح أ نّه لا يمكن حصول تلك الحصة في الخارج بدون الاتيان به،فلو صامت المستحاضة في النهار فان أتت بالغسل في الليل كشف ذلك عن حصول تلك الحصة من الصوم الواجبة عليها،وإن لم تأت به كشف عن عدم حصولها وأنّ ما أتت به هو حصة اخرى مباينة للحصة المأمور بها.
وعلى الجملة: فباب الأحكام الشرعية باب الاعتبارات وهو أجنبي عن باب التأثير والتأثر،ولا صلة لأحد البابين بالآخر أبداً،فلا مانع من تقييد الشارع متعلقها بأمر متأخر،كما أ نّه لا مانع من تقييدها بأمر مقارن أو متقدم، لما عرفت من أنّ مردّ تقييده بأمر متأخر هو أ نّه بوجوده المتأخر يكشف عن وجود الواجب في ظرفه،كما أنّ عدم وجوده كذلك يكشف عن عدم تحققه فيه باعتبار أنّ تقيده به كان جزءه.
فالنتيجة:أ نّه لا فرق بين القيد المقارن والمتقدم والمتأخر من هذه الناحية أصلاً،ولا وجه لتوهم استحالة القيد المتأخر إلّامن ناحية إطلاق لفظ الشرط عليه،زاعماً أنّ المراد منه ما كان له دخل في تأثير المقتضي فيكون من أجزاء العلة التامة،فلا يعقل تأخره عن وجود المعلول،ولكن قد تبين مما تقدّم أنّ المراد من الشرط هنا معنى آخر وهو ما يكون تقيده دخيلاً في الواجب دون نفس القيد،وعليه فبطبيعة الحال لا يضر تقدمه عليه وتأخره عنه خارجاً.
ومن ذلك يظهر أنّ المغالطة في المقام إنّما نشأت من الاشتراك اللفظي،حيث قد اخذ الشرط في الصغرى-وهي قوله هذا شرط-بمعنى،وفي الكبرى
– وهي قوله كل شرط مقدّم على المشروط-بمعنى آخر،فلم يتكرر الحد الوسط وبدونه فلا نتيجة.
وأمّا شرائط الحكم: سواء أكان حكماً تكليفياً أم كان وضعياً،فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما إليك نصّه:والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال:إنّ الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو إمّا أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتكليف أو الوضع أو المأمور به.أمّا الأوّل:
فكون أحدهما شرطاً له ليس إلّاأن للحاظه دخلاً في تكليف الآمر كالشرط المقارن بعينه،فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلّاأنّ لتصوره دخلاً في أمره، بحيث لولاه لما كاد يحصل الداعي إلى الأمر،كذلك المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة:حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به،بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره،فيُسمّى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطاً،لأجل دخل لحاظه في حصوله، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك،متقدماً أو متأخراً،فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً،كان فيهما كذلك فلا إشكال.وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً ولو كان مقارناً،فان دخل شيء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلّاما كان بلحاظه يصح انتزاعه،وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده،فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوّره ولحاظه وهو مقارن،فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن،فتأمّل تعرف 1.
ملخص ما أفاده (قدس سره):هو أنّ الشرط في الحقيقة تصور الشيء
ووجوده الذهني دون وجوده الخارجي،وإطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من المسامحة باعتبار أ نّه طرف له،وعلى ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود الشرط خارجاً متأخراً عن المشروط أو متقدماً عليه أو مقارناً له،إذ على جميع هذه التقادير الشرط واقعاً والدخيل فيه حقيقة هو لحاظه ووجوده العلمي،وهو معاصر له زماناً ومتقدم عليه رتبة.
وعلى الجملة:فالحكم بما أ نّه فعل اختياري للحاكم،فلا يتوقف صدوره منه إلّاعلى تصوره بتمام أطرافه من المتقدمة والمقارنة واللّاحقة،وهو الموجب لحدوث الارادة في نفسه نحو إيجاده،كسائر الأفعال الاختيارية،فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور واللحاظ،دون وجودها في عالم الخارج.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم في موردين:أحدهما:في القضايا الشخصية.وثانيهما:في مرحلة الجعل والتشريع،ولا يتم فيما نحن فيه،فلنا دعاوٍ ثلاث:
أمّا الدعوى الاُولى: فلأن فعلية الأحكام المجعولة في القضايا الشخصية مساوقة لجعلها غالباً،فهما في آن واحد،والسبب في ذلك:أنّ الموضوع فيها هو الشخص الخارجي،ومن الطبيعي أ نّه ليس لفعلية الحكم المجعول عليه حالة منتظرة ما عدا جعله،فانّ فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه،فإذا كان موضوعه موجوداً في الخارج كما هو المفروض كان فعلياً لا محالة،فلا تتوقف فعلية الحكم فيها على شيء آخر،ومن المعلوم أنّ ما هو دخيل في ذلك ومؤثر فيه إنّما هو إرادة المولى بمبادئها من التصور واللحاظ،فلا دخل لشيء من الوجودات الخارجية فيه،فأمر المولى باتيان الماء مثلاً لا يتوقف على شيء سوى إرادته واختياره كسائر أفعاله الاختيارية،والمفروض أنّ زمان الجعل
فيه مساوق لزمان فعلية المجعول،فلا تتوقف على شيء آخر ما عداه.
فالنتيجة: أنّ في أمثال هذه الموارد لا يعقل أن يكون الشيء شرطاً لفعلية الحكم ومؤثراً فيها من دون دخله في جعله،بل الأمر بالعكس تماماً،يعني أنّ الشرائط في أمثال تلك الموارد بأجمعها راجعة إلى شرائط الجعل،فليس شيء منها راجعاً إلى شرط المجعول،وقد عرفت أنّ شرائط الجعل عبارة عن علم الآمر وتصوّره الشيء بتمام أطرافه المتقدمة والمقارنة والمتأخرة،سواء أكان علمه مطابقاً للواقع أم لا.إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ تمامية ما أفاده (قدس سره) في تلك الموارد إنّما هي من ناحية أن شرائط الحكم فيها ترجع إلى شرائط الجعل فحسب،فلا معنى لكون شيء شرطاً فيها للحكم.
وأمّا الدعوى الثانية: فقد ظهر حالها من ضوء ما بينّاه في الدعوى الاُولى، وأنّ الجعل كسائر الأفعال الاختيارية فلا يتوقف على شيء ما عدا الاختيار بمبادئه.
وأمّا الدعوى الثالثة: فلأنّ محل الكلام إنّما هو في شرائط الحكم من التكليفي أو الوضعي لا في شرائط الجعل،فلا صلة لما أفاده (قدس سره) بما هو محل الكلام،بيان ذلك:هو أنّ للأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية مرتبتين:
الاُولى:مرتبة الجعل والانشاء،فالحكم في هذه المرتبة لا يتوقف على وجود شيء في الخارج،بل هو موجود بوجود إنشائي فحسب،وله بقاء واستمرار كذلك ما لم ينسخ.
الثانية:مرتبة الفعلية،فالحكم في هذه المرتبة يتوقف على وجود موضوعه بتمام قيوده خارجاً،وذلك لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه،ومحل الكلام في المقام إنّما هو في شرائط المجعول وهو الحكم الفعلي،لا في شرائط
الجعل حيث قد عرفت الكلام فيها،وأنّ الجعل بما أ نّه فعل اختياري للجاعل فلا وعاء لشرائطه إلّاالنفس ولا دخل للوجود الخارجي فيه أصلاً.
وهذا بخلاف شرائط المجعول،فانّها حيث كانت عبارة عن القيود المأخوذة في موضوعه في مقام الجعل فيستحيل تحققه وفعليته بدون تحققها وفعليتها، وذلك كالاستطاعة مثلاً التي أخذت في موضوع وجوب الحج،فانّها ما لم تتحقق في الخارج لا يكون وجوب الحج فعلياً،وكالعقد الذي اخذ في موضوع الملكية أو الزوجية،فانّه ما لم يوجد خارجاً لا تتحقق الملكية أو الزوجية.
وعلى الجملة:ففعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود في مرحلة الجعل،ومن هنا وقع الاشكال فيما إذا كان الشرط متأخراً زماناً عن الحكم.
فالنتيجة لحدّ الآن أمران:الأوّل:أنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود في ظرف التشريع.الثاني:أنّ كلامه (قدس سره) مبني على الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول،وقد مرّ أ نّه لا صلة لاحداهما بالاُخرى أصلاً.
وعلى ضوء هذه النتيجة قد التزم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1باستحالة الشرط المتأخر بدعوى أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية قد اخذ مفروض الوجود بتمام شرائطه وقيوده،ومن الطبيعي أنّ الموضوع ما لم يتحقق في الخارج كذلك يستحيل تحقق الحكم،حيث إنّ نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلّة التامة إلى معلولها،ففرض فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ولو من ناحية عدم وجود قيد من قيوده كفرض وجود المعلول قبل وجود علته،والسر فيه
هو أنّ القضايا الحقيقية بأجمعها ترجع في الحقيقة إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له،ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن وجود التالي قبل وجود المقدّم.
0
والذي ينبغي أن يقال في المقام:هو جواز الشرط المتأخر،ويقع الكلام فيه في مقامين:الأوّل:في مقام الثبوت.والثاني:في مقام الاثبات.
أمّا المقام الأوّل: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية بشتى أنواعها امور اعتبارية،فلا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،ولا صلة لها بالموجودات المتأصلة الخارجية أبداً.وبكلمة اخرى:أنّ الموجودات التكوينية المتأصلة خاضعة لعللها الطبيعية فلا يتعلق بها جعل شرعي أصلاً.
وأمّا الموجودات الاعتبارية التي منها الأحكام الشرعية فهي خاضعة لاعتبار المعتبر،وأمرها بيده وضعاً ورفعاً،ولا تخضع لشيء من الموجودات التكوينية وإلّا لكانت تكوينية.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح أنّ موضوعات الأحكام الشرعية وإن كانت من الاُمور التكوينية،إلّاأ نّه لا تأثير لها فيها أبداً،لا تأثير العلة في المعلول،ولا الشرط في المشروط،ولا السبب في المسبب وإن اطلق عليها الشرط مرّة،والسبب مرّة اخرى،إلّاأنّ ذلك مجرد اصطلاح من الأصحاب على تسمية الموضوعات في الأحكام التكليفية بالشروط،وفي الأحكام الوضعية بالأسباب،مع عدم واقع موضوعي لها،فيقولون إنّ البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلاً،والاستطاعة شرط لوجوب الحج،وبلوغ النصاب شرط لوجوب الزكاة وهكذا،والبيع سبب للملكية،والموت سبب لانتقال المال إلى الوارث، وملاقاة النجس مع الرطوبة المسرية سبب لنجاسة الملاقي وهكذا،وقد قلنا في موطنه إنّه لم يظهر لنا وجه للتفرقة بين تسمية الاُولى بالشروط والثانية
بالأسباب أصلاً،بداهة أنّ كلتيهما موضوع للحكم فلا فرق بين الاستطاعة والبيع من هذه الناحية،فكما أنّ الشارع جعل وجوب الحج معلّقاً على فرض وجود الاستطاعة في الخارج،فكذلك جعل الملكية معلقة على فرض وجود البيع فيه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ فعلية الأحكام وإن كانت دائرة مدار فعلية موضوعاتها بتمام قيودها وشرائطها في الخارج،إلّاأنّ لازم ذلك ليس تقارنهما زماناً، والسبب فيه هو أنّ ذلك تابع لكيفية جعلها واعتبارها،فكما يمكن للشارع جعل حكم على موضوع مقيد بقيد فرض وجوده مقارناً لفعلية الحكم،يمكن له جعل حكم على موضوع مقيد بقيد فرض وجوده متقدماً على فعلية الحكم مرّة ومتأخراً عنها مرّة اخرى،فإن كل ذلك بمكان من الوضوح بعد ما عرفت من أ نّه لا واقع للحكم الشرعي ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،فإذا كان أمره بيده وضعاً ورفعاً سعة وضيقاً،كان له جعله بأيّ شكل ونحو أراد وشاء،فلو كان جعله على الشكل الثالث فبطبيعة الحال تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه،كما أ نّه لو كان على الشكل الثاني تتأخر فعليته عن فعليته وإلّا لزم الخلف.
والسر فيه:أنّ المجعول في القضايا الحقيقية حصة خاصة من الحكم وهي الحصة المقيدة بقيد فرض وجوده في الخارج لا مطلقاً،ومن الطبيعي أنّ هذا القيد يختلف،فمرّة يكون قيداً لها بوجوده المتأخر،مثل أن يأمر المولى باكرام زيد مثلاً فعلاً بشرط مجيء عمرو غداً،فانّ المجعول فيه هو حصة خاصة من الوجوب وهو الحصة المقيدة بمجيء عمرو غداً،فإذا تحقق القيد في ظرفه كشف عن ثبوتها في موطنها وإلّا كشف عن عدم ثبوتها فيه.ومرّة اخرى بوجوده المتقدم كما لو أمر باكرام زيد غداً بشرط مجيء عمرو هذا اليوم.ومرّة ثالثة بوجوده المقارن،وذلك كقوله تعالى «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»
1
.
وبكلمة اخرى:بعد ما كان جعل الأحكام الشرعية بيد الشارع سعة وضيقاً ورفعاً ووضعاً،فكما أنّ له جعل الحكم معلّقاً على أمر مقارن،كذلك له جعل الحكم معلّقاً على أمر متقدم عليه أو متأخر عنه،ومن المعلوم أنّ المولى إذا جعل الحكم معلّقاً بأمر متأخر عن وجوده،فبطبيعة الحال تكون فعليته قبل وجود ذلك الأمر،وإلّا لكانت الفعلية على خلاف الانشاء وهو خلف كما عرفت.
ومثال ذلك في العرفيات:الحمّامات المتعارفة في زماننا هذا،فان صاحب الحمام يرضى في نفسه رضى فعلياً بالاستحمام لكل شخص على شرط أن يدفع بعد الاستحمام وحين الخروج مقدار الاُجرة المقرّرة من قبله،فالرضا من المالك فعلي والشرط متأخر.
ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) 2من أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية بما أ نّه اخذ مفروض الوجود فيستحيل تحقق الحكم وفعليته قبل فعلية موضوعه بقيوده،توضيح الفساد:ما عرفت من أ نّه كما يمكن أخذ الموضوع مفروض الوجود في ظرف مقارن للحكم أو متقدم عليه،كذلك يمكن أخذه مفروض الوجود في ظرف متأخر عنه،وعليه فلا محالة تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ شرائط الحكم عبارة عن قيود الموضوع المأخوذة مفروضة الوجود في الخارج من دون فرق بين كونها مقارنة للحكم أو متقدمة عليه أو متأخرة عنه،وليس لها أيّ دخل وتأثير في نفس الحكم أصلاً.ومن هنا قلنا إنّ إطلاق الشروط والأسباب عليها مجرد اصطلاح بين
الأصحاب كما مرّ.
وأمّا المقام الثاني: وهو مقام الاثبات،فلا شبهة في أنّ الشرط المتأخر على خلاف ظواهر الأدلة التي تتكفل جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية،فانّ الظاهر منها هو كون الشرط المأخوذ في موضوعاتها مقارناً للحكم كقوله تعالى:
«وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»
1
حيث إنّ المتفاهم العرفي منه هو كون الاستطاعة خارجاً مقارناً لوجوب الحج،فارادة كون وجوبه سابقاً على وجودها في الخارج تحتاج إلى مؤونة زائدة.
فالنتيجة:أنّ الالتزام بوقوع الشرط المتأخر في مقام الاثبات يحتاج إلى دليل وبدونه فلا يمكن الالتزام به.نعم،شرطية الاجازة بوجودها المتأخر في العقد الفضولي كالبيع والاجارة والنكاح وما شاكل ذلك،وشرطية القدرة كذلك في الواجبات التدريجية كالصلاة والصوم ونحوهما لا تحتاجان إلى دليل خاص،بل كانتا على طبق القاعدة.
أمّا الاُولى: فلأجل أنّ العقد قبل تحقق الاجازة لم يكن منتسباً إلى المالك حتّى يكون مشمولاً لعمومات الصحة وإطلاقاتها،فانّها تدل على صحة عقد المالك وإمضائه ولا معنى لدلالتها على نفوذه وصحته لغير المالك أصلاً،فإذا تعلقت الاجازة به انتسب إلى المالك من حين وقوعه وحكم بصحته من هذا الحين،والسبب في ذلك هو أنّ الاجازة من الاُمور التعلقية فكما يمكن تعلقها بأمر مقارن لها أو متأخر عنها،فكذلك يمكن تعلقها بأمر متقدم عليها.هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ المالك بما أ نّه أجاز العقد السابق الصادر من الفضولي
فبطبيعة الحال قد أمضى الشارع ذلك العقد بمقتضى تلك العمومات والاطلاقات، ومن ناحية ثالثة:أنّ ظرف الاجازة وإن كان متأخراً إلّاأنّ متعلقها-وهو العقد-أمر سابق.فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي صحة العقد من حينه وحصول الملكية من هذا الحين،وهذا معنى كون الاجازة بوجودها المتأخر شرطاً للملكية السابقة.
وبكلمة اخرى:أنّ اعتبار الشارع وإمضاءه وإن كان من الآن،أي من حين الاجازة،إلّاأنّ الممضى هو العقد السابق والمعتبر هو الملكية المتقدمة أعني الملكية من حين العقد،والمفروض أنّ الاجازة شرط لها.ونظير ذلك ما إذا افترضنا قيام دليل على أنّ القبول المتأخر بزمن مؤثر في صحة العقد من حين الايجاب،فانّه عندئذ لا مناص من الالتزام بحصول الملكية من هذا الحين،وإن كان ظرف اعتبارها بمقتضى أدلة الامضاء من حين القبول،إلّاأنّ ذلك مجرد افتراض فلا واقع موضوعي له،على أ نّه خلاف المرتكز في أذهان العرف والعقلاء،وذلك بخلاف الاجازة اللّاحقة،فان كونها شرطاً متأخراً كان على طبق القاعدة وموافقاً للارتكاز فلا نحتاج إلى دليل.
ومن هنا قد التزمنا في مسألة الفضولي بالكشف الحقيقي بهذا المعنى،وقلنا هناك إنّ هذا لا يحتاج إلى دليل خاص 1،كما أ نّا ذكرنا هناك أ نّه لا تنافي بين اعتبار الشارع ملكية مال لشخص في زمان وبين اعتباره ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه إذا كان زمان الاعتبار متعدداً،فالعبرة في أمثال ذلك إنّما هي بتعدد زماني الاعتبار وإن كان زمان المعتبرين واحداً،لعدم التنافي بينهما ذاتاً، وذلك لما حققناه في موطنه 2من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها:التكليفية
والوضعية،امور اعتبارية فلا تنافي ولا تضاد بينها في أنفسها أصلاً،وإنّما التنافي والتضاد بينها من ناحية اخرى على تفصيل ذكرناه في محلّه.
وأمّا الثانية: وهي شرطية القدرة بوجودها المتأخر في الواجبات التدريجية، فلأنّ فعلية وجوب كل جزء سابق منها مشروطة ببقاء شرائط التكليف من الحياة والقدرة وما شاكلهما إلى زمان الاتيان بالجزء اللّاحق،مثلاً فعلية وجوب التكبيرة في الصلاة مشروطة ببقاء المكلف على شرائط التكليف إلى زمان الاتيان بالتسليمة،لفرض أنّ وجوبها ارتباطي فلا يعقل وجوب جزء بدون وجوب جزء آخر،فلو جنّ في الأثناء أو عجز عن إتمامها كشف ذلك عن عدم وجوبها من الأوّل.وعلى الجملة:ففعلية وجوب الأجزاء السابقة كما تتوقف على وجود تلك الشرائط في ظرفها،كذلك تتوقف على بقائها إلى زمان الأجزاء اللّاحقة،فالالتزام بالشرط المتأخر في أمثال الموارد ممّا لا مناص عنه ولا يحتاج إلى دليل خاص،فيكفي فيه نفس ما دلّ على اشتراط هذه الواجبات بتلك الشرائط.
لحدّ الآن قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين:
الاُولى:أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر في مرحلة الثبوت ولا محذور فيه أبداً.
الثانية:أنّ الالتزام بوقوعه في مرحلة الاثبات يحتاج إلى دليل خاص، وإلّا فمقتضى القاعدة عدمه.نعم،وقوعه في الموردين السابقين كان على طبق القاعدة.
غير خفي أنّ إطلاق المطلق والمشروط على الواجب بمالهما من المعنى اللغوي، فالمطلق عبارة عن المرسل وعدم التقييد بشيء،ومنه طلاق المرأة فانّه بمعنى إرسالها عن قيد الزوجية.والمشروط عبارة عن المقيد بقيد والمشدود به،ومنه وجوب الحج بالاضافة إلى الاستطاعة،فانّه مقيد بها ومربوط،ولا يكون مطلقاً،وليس للاُصوليين اصطلاح خاص فيهما،بل هم يطلقون هذين اللفظين بمالهما من المعنى اللغوي كما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1.
ثمّ إنّه قد يتصف بهما الوجوب فيكون مطلقاً تارة ومشروطاً اخرى،وذلك كوجوب الحج،فانّه مشروط بالاضافة إلى الاستطاعة،ومطلق بالاضافة إلى الزوال مثلاً،وقد يتصف بهما الواجب كذلك،كالصلاة فانّها مقيدة بالطهارة ومطلقة بالاضافة إلى الاحرام مثلاً،وهكذا.ومن هنا يظهر أنّ إطلاقهما على الواجب في المقام مبني على ضرب من المسامحة،وذلك لأنّ الكلام فيه إنّما هو في إطلاق الوجوب واشتراطه لا الواجب.
وبكلمة اخرى:أنّ الكلام في المقام إنّما هو في إطلاق الحكم واشتراطه،سواء أكان الحكم تكليفياً أم وضعياً،وليس الكلام في إطلاق الواجب واشتراطه.
ثمّ إنّ الاطلاق والتقييد أمران إضافيان،فيمكن أن يكون شيء واحد بالاضافة إلى شيء مطلقاً،وبالاضافة إلى آخر مقيداً،وذلك كوجوب الصلاة
مثلاً حيث إنّه مطلق بالاضافة إلى الطهارة ومقيد بالاضافة إلى الزوال،وهكذا، ووجوب الحج فانّه مطلق بالاضافة إلى الزوال ومقيد بالاضافة إلى الاستطاعة، ومن الطبيعي أنّ هذا دليل ظاهر على أنّ الاطلاق والتقييد أمران اضافيان.
بقي الكلام في النزاع المعروف الواقع بين شيخنا الأنصاري (قدس سره) وغيره من الأعلام،وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلة هل ترجع إلى مفاد الهيئة أو إلى نفس المادة ؟ فنسب صاحب التقرير إلى الشيخ (قدس سره) 1رجوعها إلى المادة دون مفاد الهيئة،وإن كان ظاهر القضية الشرطية بحسب المتفاهم العرفي هو رجوعها إلى مفاد الهيئة،ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من مثل قولنا:إن جاءك زيد فأكرمه،هو ترتب وجوب الاكرام على مجيئه وأ نّه قيد له دون الواجب،وكذا المتفاهم من مثل قوله تعالى «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 2ومن هنا اعترف الشيخ (قدس سره) بهذا الظهور وقال:إنّ مقتضى القواعد العربية وإن كان ذلك،إلّاأ نّه ادعى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة من ناحية،وادعى لزوم رجوعه إلى نفس المادة لباً من ناحية اخرى،فهنا نقطتان من البحث،الاُولى:في دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.الثانية:في دعوى لزوم رجوعه إلى المادة لباً.
أمّا النقطة الاُولى: فالبحث فيها يعود إلى دعاوٍ ثلاث:
الاُولى: ما نسب إلى الشيخ (قدس سره) في تقريره كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) 3وحاصله:هو أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي حقيقي،ومن البديهي أنّ الجزئي غير قابل للتقييد،فانّ ما هو قابل له هو المعنى
الكلي حيث يصدق على حصص متعددة،وأمّا المعنى الجزئي فلا يعقل فيه الاطلاق والتقييد.
ولكنّه يندفع أوّلاً: بما حققناه في مبحث المعنى الحرفي 1من أنّ الحروف لم توضع للمعاني الجزئية الحقيقية حتّى لا تكون قابلة للتقييد،وإنّما وضعت للدلالة على تضييق المعاني الاسمية وتخصيصها بخصوصية ما،ومن الواضح أنّ المعنى الاسمي بعد تخصيصه وتضييقه أيضاً قابل للانطباق على حصص وأفراد كثيرة في الخارج،وذلك كما إذا كان أحد طرفي المعنى الحرفي كلياً أو كلاهما، مثل قولنا:سر من البصرة إلى الكوفة،فانّ السير كما كان قبل التضييق كلياً قابلاً للانطباق على كثيرين،كذلك بعده،فعندئذ بطبيعة الحال يصير المعنى الحرفي كلياً بتبعه.
وثانياً: أنّ التقييد على قسمين:الأوّل:التقييد بمعنى التضييق والتخصيص، وفي مقابله الاطلاق بمعنى التوسعة.الثاني:بمعنى التعليق،وفي مقابله الاطلاق بمعنى التنجيز،وعليه فلو سلّمنا أنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي،إلّاأنّ الجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد بالمعنى الأوّل،وأمّا تقييده بالمعنى الثاني فهو بمكان من الوضوح،بداهة أ نّه لا مانع من تعليق الطلب الجزئي المنشأ بالصيغة أو بغيرها على شيء،كما إذا علق وجوب إكرام زيد مثلاً على مجيئه حيث لا محذور فيه أبداً.
الثانية: ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلياً،إلّاأ نّه ملحوظ باللحاظ الآلي فلا يرد عليه الاطلاق والتقييد،
لأ نّهما من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي،وبما أنّ معنى الهيئة معنى حرفي فلا يتصف بالاطلاق حتّى يصلح للتقييد،ولأجل ذلك امتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.
ويرد عليه أوّلاً: ما حققناه في مبحث الحروف بشكل موسّع من أنّ ذلك – أي المعنى الحرفي ملحوظ باللحاظ الآلي،والمعنى الاسمي ملحوظ باللحاظ الاستقلالي-وإن كان كلاماً مشهوراً بين الأصحاب،إلّاأ نّه لا يبتني على أصل صحيح،ومن ذلك ذكرنا هناك أ نّه لا فرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي من هذه الناحية أبداً،بل ربّما يكون مورد الالتفات والتوجه استقلالاً هو خصوص المعنى الحرفي،وذلك كما إذا علمنا بورود زيد مثلاً في بلد ونعلم أ نّه سكن في مكان،ولكن لانعلم المكان بخصوصه،فنسأل عن تلك الخصوصية التي هي معنى الحرف،أو إذا علمنا وجود زيد في الخارج وقيامه،ولكن لا نعلم خصوصية مكانه أو زمانه،فنسأل عن تلك الخصوصية وهكذا،ففي أمثال هذه الأمثلة المعنى الحرفي هو الملحوظ مستقلاً والمورد للتوجه والالتفات كذلك.وقد تقدّم تفصيل ذلك فلاحظ.
وثانياً: على تقدير تسليم أنّ المعنى الحرفي لا بدّ أن يلحظ باللحاظ الآلي، إلّا أ نّه إنّما يمنع عن طروء التقييد عليه حين لحاظه كذلك،وأمّا إذا قيّد المعنى أوّلاً بقيد،ثمّ لوحظ المقيّد آلياً،فلا محذور فيه أبداً،وعليه فلا مانع من ورود اللحاظ الآلي على الطلب المقيد في رتبة سابقة عليه.
الثالثة: -وهي العمدة في المقام-أنّ رجوع القيد إلى مفاد الهيئة بما أ نّه مستلزم لتفكيك الانشاء عن المنشأ والايجاب عن الوجوب الذي هو مساوق لتفكيك الايجاد عن الوجود فهو غير معقول،والسبب في ذلك:هو أ نّه لا ريب في استحالة تفكيك الايجاد عن الوجود في التكوينيّات،حيث إنّهما واحد ذاتاً
وحقيقة،والاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار،فلا يعقل التفكيك بينهما،وكذا الحال في التشريعيات،بداهة أ نّه لا فرق في استحالة التفكيك بين الايجاد والوجود في التشريع والتكوين.وعلى الجملة:فايجاب المولى ووجوبه إنّما يتحققان بنفس إنشائه فلا فرق بينهما إلّابالاعتبار،فبملاحظة فاعله إيجاب، وبملاحظة قابله وجوب،كما هو الحال في الايجاد والوجود التكوينيين.
وعلى هذا الضوء فلا محالة يرجع القيد إلى المادة دون الهيئة،وإلّا لزم تحقق الايجاب دون الوجوب،ولازم ذلك انفكاكه عنه،لفرض عدم إنشاء آخر في البين،ومردّه إلى تخلف الوجود عن الايجاد وهو مستحيل،فالنتيجة تعيّن رجوع القيد إلى المادة بعد استحالة رجوعه إلى الهيئة،لعدم ثالث في البين.
وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بما إليك نصّه:
المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله-الشرط-فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث،وإلّا لتخلف عن إنشائه،وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان،كما يشهد به الوجدان 1.
وفيه: أنّ ما أفاده (قدس سره) مصادرة ظاهرة،وذلك لأنّ الكلام إنّما هو في إمكان هذا النحو من الانشاء،وأ نّه كيف يمكن مع استلزامه تخلف الوجوب عن الايجاب وهو مساوق لتخلف الوجود عن الايجاد.وبكلمة اخرى:أنّ محل الكلام هنا إنّما هو في إمكان كون الايجاد حالياً والوجود استقبالياً وعدم إمكانه، فكيف يمكن أن يستدل على إمكانه بنفس ذلك،وهذا نظير ما تقدّم في الجواب عن الشرط المتأخر من أنّ الشرط بوصف كونه متأخراً شرط،أو بوصف كونه معدوماً كذلك،فلو تقدّم كان خلفاً.
فالصحيح أن يقال: إنّه لا مدفع لهذا الاشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ،ضرورة عدم إمكان تخلف الوجود عن الايجاد.وأمّا بناءً على نظريتنا من أنّ الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل كما حققناه في مبحث الخبر والانشاء بشكل موسّع 1،فيندفع الاشكال المذكور من أصله،والسبب في ذلك:هو أنّ المراد من الايجاب سواء أكان إبراز الأمر الاعتباري النفساني أم كان نفس ذلك الأمر الاعتباري،فعلى كلا التقديرين لا يلزم محذور من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.
أمّا على الأوّل،فلأنّ كلّاً من الابراز والمبرز والبروز فعلي،فليس شيء منها معلّقاً على أمر متأخر،وهذا ظاهر.
وأمّا على الثاني،فلأنّ الاعتبار بما أ نّه من الاُمور النفسانية التعليقية يعني ذات الاضافة كالعلم والشوق وما شاكلهما من الصفات الحقيقية التي تكون كذلك،فلا مانع من تعلّقه بأمر متأخر كما يتعلّق بأمر حالي،نظير العلم فإنّه كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلّق بأمر استقبالي.وعلى الجملة:فكما يمكن تأخر المعلوم عن العلم زمناً كقيام زيد غداً أو سفره أو نحو ذلك،حيث إنّ العلم به حالي والمعلوم أمر استقبالي،فكذلك يمكن تأخر المعتبر عن الاعتبار،بأن يكون الاعتبار حالياً والمعتبر أمراً متأخراً،كاعتبار وجوب الصوم على زيد غداً أو نحو ذلك،فالتفكيك إنّما هو بين الاعتبار والمعتبر ولا محذور فيه أصلاً، ولا يقاس ذلك بالتفكيك بين الايجاد والوجود في التكوينيات أصلاً.
وممّا يشهد لما ذكرناه:صحة الوصية التمليكية،فلو قال الموصي هذه الدار
لزيد بعد وفاتي،فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته،مع أنّ الاعتبار فعلي،ومن البديهي أنّ هذا ليس إلّامن ناحية أنّ الموصي اعتبر فعلاً الملكية للموصى له في ظرف الوفاة.ومن هنا لم يستشكل أحد في صحة تلك الوصية حتّى من القائلين برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.
وتوهّم أنّ الملكية فعلية ولكن المملوك وهو العين الخارجية مقيدة بما بعد الوفاة،خاطئ جداً،فإنّه يقوم على أساس قابلية تقيد الجواهر بالزمان،ومن المعلوم أنّ الجواهر غير قابلة لذلك.نعم،يمكن هذا في الأعراض القائمة بها،كما إذا اعتبر المالك ملكية المنفعة المتأخرة حالاً.وعلى الجملة:فالأعيان الخارجية التي هي من قبيل الجواهر غير قابلة للتقدير بالزمن والتحديد به،فإنّ القابل للتقدير والتحديد به إنّما هو المعنى الحدثي،يعنى الأعراض والاُمور الاعتبارية كالضرب والقيام وما شاكلهما.ومن هنا قلنا إنّ المنفعة قابلة للتقدير بالزمن كمنفعة شهر أو سنة أو نحو ذلك،وعليه فلا مانع من اعتبار ملكية المنفعة المتأخرة من الآن،بأن تكون الملكية فعلية والمملوك أمراً متأخراً،بل هو واقع في باب الاجارة.
وأمّا النقطة الثانية: فقد استند الشيخ (قدس سره) 1في إثباتها بما حاصله:
أنّ الانسان إذا توجه إلى شيء والتفت إليه،فلا يخلو من أن يطلبه أم لا،ولا ثالث في البين.لا كلام على الثاني،وعلى الأوّل فأيضاً لا يخلو من أنّ الفائدة تقوم بطبيعي ذلك الشيء من دون دخل خصوصية من الخصوصيات فيها أو تقوم بحصة خاصة منه،وعلى الأوّل فبطبيعة الحال يطلبه المولى على إطلاقه وسعته،وعلى الثاني يطلبه مقيداً بقيد خاص،لفرض عدم قيام المصلحة إلّا بالحصة الخاصة-وهي الحصة المقيدة بهذا القيد-لا بصرف وجوده على نحو
السعة والاطلاق.وهذا القيد مرّة يكون اختيارياً،ومرّة اخرى غير اختياري، وعلى الأوّل تارةً يكون مورداً للطلب والبعث،وذلك كالطهارة مثلاً بالاضافة إلى الصلاة،وتارة اخرى لا يكون كذلك بل اخذ مفروض الوجود،وذلك كالاستطاعة بالاضافة إلى الحج،فانّ المولى لم يرد الحج مطلقاً من المكلف وإنّما أراد حصة خاصة منه وهي الحج من المكلف المستطيع،وعلى الثاني فهو لا محالة اخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل،لعدم صحة تعلق التكليف به،وذلك كزوال الشمس مثلاً بالاضافة إلى وجوب الصلاة،فانّ المولى لم يطلب الصلاة على نحو الاطلاق،بل طلب حصة خاصة منها-وهي الحصة الواقعة بعد زوال الشمس-وعلى جميع التقادير فالطلب فعلي ومطلق والمطلوب مقيد،من دون فرق بين كونه اختيارياً أو غير اختياري.فالنتيجة:أنّ ما ذكرناه من رجوع القيد بشتى ألوانه إلى المادة أمر وجداني لا ريب ولا مناقشة فيه.
والجواب عنه: أ نّه (قدس سره) إن أراد من الطلب في كلامه الشوق النفساني، فالأمر وإن كان كما أفاده،حيث إنّ تحقق الشوق النفساني المؤكد تابع لتحقق مبادئه من التصور والتصديق ونحوهما في افق النفس،ولا يختلف باختلاف المشتاق إليه في خارج افقها من ناحية الاطلاق والتقييد تارة،ومن ناحية كون القيد اختيارياً وعدم كونه كذلك اخرى،ومن ناحية كون القيد أيضاً مورداً للشوق وعدم كونه كذلك ثالثة،بل ربّما يكون القيد مبغوضاً في نفسه،ولكن المقيد به مورد للطلب والشوق،وذلك كالمرض مثلاً،فانّه رغم كونه مبغوضاً للانسان المريض فمع ذلك يكون شرب الدواء النافع مطلوباً له ومورداً لشوقه.
إن أراد هذا، فالأمر وإن كان كذلك،إلّاأ نّه ليس من مقولة الحكم في شيء، بداهة أ نّه أمر تكويني نفساني حاصل في افق النفس من ملائمتها-النفس – لشيء أو ملائمة إحدى قواها له،فلا صلة بينه وبين الحكم الشرعي أبداً،
كيف،فانّ الحكم الشرعي أمر اعتباري فلا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،وهو أمر تكويني فله واقع موضوعي،وحصوله تابع لمبادئه من إدراك أمر ملائم لإحدى القوى النفسانية.
وإن أراد من الطلب في كلامه (قدس سره) الارادة بمعنى الاختيار،فيرد عليه:أ نّه لايتعلق بفعل الغير حتّى نبحث عن أنّ القيد راجع إليه أو إلى متعلقه، بل قد ذكرنا في مبحث الطلب والارادة أ نّه لا يتعلق بفعل نفسه في ظرف متأخر فضلاً عن فعل الغير،والسبب في ذلك:ما تقدّم بشكل موسّع من أنّ الارادة بهذا المعنى إنّما تعقل في الأفعال المقدورة للانسان التي يستطيع أن يعمل قدرته فيها،ومن المعلوم أنّ ما هو خارج عن إطار قدرته فلا يمكن تعلقها به،وفعل الغير من هذا القبيل،وكذا فعل الانسان نفسه إذا كان متأخراً زمناً،وعليه فلا يمكن الالتزام بتعلق هذه الارادة بفعل الغير في مقام الطلب،أو فقل إنّ الآمر لا يخلو من أن يكون هو اللّٰه تعالى أو غيره،فعلى كلا التقديرين لا يمكن تعلقها به.
أمّا على الأوّل،وإن أمكن للباري (عزّ وجلّ) أن يوجد الفعل عن الغير لعموم قدرته،إلّاأنّ ذلك ينافي اختيار العبد،بداهة أنّ الفعل عندئذ يوجد بارادته تعالى وإعمال قدرته،فلا معنى حينئذ لتوجيه التكليف إليه.
وأمّا على الثاني،فمن جهة أنّ فعل الغير خارج عن قدرة الانسان فلا معنى لاعمال قدرته بالاضافة إليه،ومن هنا ذكرنا أ نّه لا معنى لتقسيم الارادة إلى التكوينية والتشريعية،بداهة أ نّا لا نعقل للارادة التشريعية معنى في مقابل الارادة التكوينية،وقد سبق الاشارة إلى هذه النواحي بشكل مفصّل فلاحظ 1.
وإن أراد بالطلب جعل الحكم واعتباره،أي اعتبار شيء على ذمة المكلف، حيث إنّ حقيقة الطلب كما ذكرناه سابقاً 1هي التصدي نحو حصول الشيء في الخارج،وقد ذكرنا أ نّه على نحوين:أحدهما:التصدي الخارجي.وثانيهما:
التصدي الاعتباري،والاعتبار المذكور المبرز في الخارج مصداق للثاني،نظراً إلى أنّ الشارع تصدى نحو حصول الفعل من الغير باعتباره على ذمته وإبرازه في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها،فإن أراد (قدس سره) به ذلك، فهو وإن كان فعلياً دائماً،سواء أكان المعتبر أيضاً كذلك أو كان أمراً استقبالياً، إلّا أ نّه أجنبي عن محل الكلام رأساً،فان محل الكلام إنّما هو في رجوع القيد إلى المعتبر وعدم رجوعه إليه،لا إلى الاعتبار نفسه،ضرورة أنّ الاعتبار والابراز غير قابلين للتقييد والتعليق أصلاً.
وإن أراد بالطلب ما تعلق به الاعتبار وهو المعتبر المعبّر عنه بالوجوب تارة وبالالزام تارة اخرى،فصريح الوجدان شاهد على أ نّه قابل للتقيد كما أ نّه قابل للاطلاق،وأنّ الحال يختلف فيه باختلاف الموارد من هذه الناحية،بيان ذلك:
أنّ الفعل الذي هو متعلق للوجوب مرّة يكون ذا ملاك ملزم فعلاً،فلا يتوقف اشتماله على الملاك المذكور واتصافه بالحسن على شيء من زمان أو زماني،ففي مثل ذلك بطبيعة الحال الوجوب المتعلق به فعلي فلا حالة منتظرة له أبداً،وإن كان تحقق الفعل في الخارج وإيجاده فيه يتوقف على مقدمات،وذلك كشرب الدواء مثلاً للمريض،فانّه ذو ملاك ملزم بالاضافة إليه فعلاً،وإن كان تحققه في الخارج يتوقف على الاتيان بعدّة مقدمات،وكالصلاة بعد دخول وقتها،فانّها واجدة للملاك الملزم بالفعل،وإن كان الاتيان بها في الخارج يتوقف على عدة امور كتطهير الثوب والبدن والوضوء أو الغسل أو نحو ذلك.
وكذلك الحال فيما إذا كان الملاك فيه تاماً،ولكن وجوده وتحققه في الخارج يتوقف على مقدمات خارجة عن اختيار المكلف،وذلك كالمريض مثلاً حيث إنّ ملاك شرب الدواء في حقّه تام ولا حالة منتظرة له،ولكن تحصيله فعلاً غير ممكن لمانع خارجي من زمان أو زماني،ففي مثل ذلك لا مانع من كون الايجاب حالياً والواجب استقبالياً.ولعل من هذا القبيل وجوب الصوم بعد دخول شهر رمضان بمقتضى الآية الكريمة «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» 1فانّ الظاهر منها هو أنّ وجوب الصوم فعلي بعد دخول الشهر،وهذا لا يمكن إلّابالالتزام بتمامية ملاكه من الليل بحيث لو تمكن المكلف من جرّ اليوم إلى الساعة لكان عليه أن يصوم،وكذا الحال في وجوب الحج بعد حصول الاستطاعة،فانّ الظاهر من قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 2هو أنّ وجوب الحج فعلي بعد فعلية الاستطاعة،وإن كان المكلف غير قادر على الاتيان به إلّابعد مجيء زمانه وهو يوم عرفة،وهذا لا ينافي كون الملاك فيه تاماً من حين تحقق الاستطاعة بحيث لو تمكن المكلف من جرّ يوم عرفة إلى الآن لكان عليه أن يحج.وعلى الجملة:فالقيد في أمثال هذه الموارد يرجع إلى الواجب دون الوجوب،فالوجوب حالي والواجب استقبالي.
فالنتيجة:أنّ الملاك إذا كان تاماً فالوجوب فعلي،سواء أكان الواجب أيضاً كذلك أم كان استقبالياً.
ومرّة اخرى: يكون ذا ملاك في ظرف متأخر لا فعلاً،بمعنى أنّ ملاكه لا يتم إلّابعد مجيء زمان خاص أو تحقق أمر زماني في ظرف متأخر،ففي مثل ذلك لا يعقل أن يكون الوجوب المتعلق به فعلياً،بل لا محالة يكون تقديرياً
أي معلّقاً على فرض تحقق ما له الدخل في الملاك،بداهة أنّ جعل الوجوب فعلاً لما لا يكون واجداً للملاك كذلك لغو محض،فلا يمكن صدوره من المولى الحكيم،إذ مردّه إلى عدم تبعية الحكم للملاك.وعلى الجملة:مضافاً إلى ذلك، الوجدان أصدق شاهد على عدم وجود البعث الفعلي في أمثال هذه الموارد.
ولتوضيح ذلك نأخذ مثالاً:وهو أنّ المولى إذا التفت إلى الماء مثلاً،فقد يكون عطشه فعلاً،وعندئذ فبطبيعة الحال يأمر عبده باحضار الماء،أي يعتبر على ذمته إحضاره كذلك،فيكون المعتبر كالاعتبار فعلياً،وقد يكون عطشه فيما بعد،ففي مثله لا محالة يعتبر على ذمة عبده إحضار الماء في ظرف عطشه لا قبل ذلك،لعدم الملاك له،فالاعتبار فعلي والمعتبر-وهو كون إحضار الماء على ذمة العبد-أمر متأخر،حيث إنّه على تقدير حصول العطش،والمفروض عدم حصوله بعدُ،ومن الطبيعي أنّ في مثل ذلك لو رجع القيد إلى المادة وكان المعتبر كالاعتبار فعلياً لكان لغواً صرفاً وبلا ملاك ومقتضٍ،ومرجعه إلى عدم تبعية الحكم للملاك وهو خلف.
فالنتيجة: أنّ الحكم الشرعي يختلف باختلاف القيود الدخيلة في ملاكه، فقد يكون فعلياً لفعلية ما له الدخل في ملاكه،وقد يكون معلّقاً على حصول ما له الدخل فيه.وأضف إلى ذلك:ظهور القضايا الشرطية في أنفسها في ذلك، أي رجوع القيد إلى الهيئة دون المادة،وذلك لأنّها لو لم تكن نصاً في هذا فلا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي منها هو تعليق مفاد الجملة الجزائية على مفاد الجملة الشرطية،سواء أكانت القضية إخبارية أم كانت إنشائية.
أمّا الاُولى:فمثل قولنا:إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود،فانّها تدل على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس.
وأمّا الثانية:فمثل قولنا:إن جائك زيد فأكرمه،فانّها تدل على تعليق
وجوب الاكرام على مجيء زيد.وحمله على كون الوجوب فعلياً والقيد-وهو المجيء-راجعاً إلى المادة وهي الاكرام خلاف الظاهر جداً،فلا يمكن الالتزام به بدون قرينة،بل يمكن دعوى أنّ ذلك غلط،فان أدوات الشرط لا تدل على تعليق المعنى الافرادي.
وكيف كان،فالصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من رجوع القيد إلى الهيئة دون المادة،فما أفاده شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة خاطئ جداً.هذا بناءً على أن تكون الأحكام الشرعية تابعة للملاكات في أنفسها واضح،حيث إنّ الملاك القائم في نفس الحكم قد يكون فعلياً يدعو إلى جعله واعتباره كذلك،وقد لا يكون فعلياً وإنّما يحدث في ظرف متأخر،فالمولى في مثله لا محالة يعتبره معلّقاً على مجيء وقت اتصافه بالملاك.
وأمّا بناءً على كونها تابعة للملاكات في متعلقاتها فالأمر أيضاً كذلك،لا لما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أ نّه قد يكون المانع موجوداً من الطلب والبعث الفعلي فلا بدّ من التعليق،وذلك لأنّ عدم فعلية الأمر قد يكون من ناحية عدم المقتضي،وذلك كالصلاة قبل دخول الوقت،والحج قبل الاستطاعة،والصوم قبل دخول شهر رمضان وما شاكل ذلك،فان في أمثال هذه الموارد لا مقتضي للأمر،فلو جعل فلا بدّ من جعله معلّقاً على فرض تحقق المقتضي له في ظرفه،وإلّا كان لغواً.نعم،قد يكون المقتضي موجوداً،ولكن لا يمكن الأمر فعلاً من جهة وجود المانع،ففي مثل ذلك لا بأس بجعله معلّقاً على ارتفاعه.فالنتيجة:أنّ في موارد عدم المقتضي لا مانع من جعل الحكم معلّقاً على فرض تحققه في موطنه،كما أ نّه لا مانع من جعله معلّقاً على فرض
ارتفاع المانع عند ثبوته،أي المقتضي.
نعم،لو علم المولى أنّ المكلف لا يتمكن من الامتثال حين اتصاف الفعل بالمصلحة،لكان عليه الأمر من الآن ليتهيأ لامتثاله في ظرفه،وذلك كما إذا افترضنا أنّ المولى يعلم من نفسه أ نّه سيعطش بعد ساعة مثلاً،وعلم أنّ عبده لا يتمكن من إحضار الماء في ذلك الوقت لمانع من الموانع،فانّه يجب عليه أن يأمره باحضاره فعلاً قبل عروض العطش عليه،فيكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً،إلّاأنّ هذه الصورة خارجة عن محل الكلام.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي:أنّ ما تقدّم من الوجوه الأربعة لا يتم شيء منها،فلا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة كما هو مقتضى ظاهر الجملة الشرطية،نعم في خصوص الأحكام الوضعية قد تسالم الأصحاب على بطلان التعليق فيها،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:تختلف نتيجة تلك الوجوه على تقدير تماميتها باختلافها، فان مقتضى الوجه الأوّل والثاني هو استحالة رجوع القيد إلى الحكم الشرعي المستفاد من الهيئة فحسب،باعتبار أ نّه معنى حرفي والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد،إمّا من ناحية أ نّه جزئي أو من ناحية أ نّه ملحوظ بلحاظ آلي،ولا فرق في ذلك بين كونه تكليفياً أو وضعياً،ولا يدلّان على استحالة رجوع القيد إلى الحكم الشرعي المستفاد من المادة أصلاً،كما في مثل قوله:إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة،أو قال أحد:إن متّ فهذا ملك لك،وما شاكل ذلك.
ومقتضى الوجه الثالث هو استحالة رجوع القيد إلى الحكم مطلقاً،سواء أكان مستفاداً من الهيئة أم من المادة،وسواء أكان حكماً تكليفياً أم كان وضعياً، بداهة أنّ انفكاك المنشأ عن الانشاء لو كان محالاً فهو في الجميع على نسبة
واحدة.ومقتضى الوجه الرابع وإن كان هو عدم الفرق بين كون الوجوب مستفاداً من الهيئة أو من المادة،إلّاأ نّه يختص بالحكم التكليفي فلا يعم الحكم الوضعي كما هو واضح.
ثمّ إنّه نسب إلى شيخنا الأنصاري (قدس سره) في تقريراته 1مسألة ما إذا تردد أمر القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة،واستظهاره (قدس سره) رجوعه إلى المادة دون الهيئة.
ولكن غير خفي أنّ هذا الكلام منه (قدس سره) يرتكز على أحد أمرين:
إمّا على التنزل عما أفاده (قدس سره) من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة،إذ مع الاستحالة لا تصل النوبة إلى التردد والاستظهار.وإمّا على كون الوجوب مستفاداً من جملة اسمية،وعلى هذا الفرض،فان علم من الخارج أنّ القيد راجع إلى المادة دون الهيئة وجب تحصيله،لفرض فعلية وجوب المقيد،وإذا علم أ نّه راجع إلى الهيئة دون المادة لم يجب تحصيله،لفرض عدم فعلية وجوبه، بل تتوقف فعليته على حصول القيد.وإن لم يعلم ذلك وتردد أمره بين رجوعه إلى المادة ليكون الوجوب فعلياً،ورجوعه إلى الهيئة حتّى لا يكون فعلياً فهو مورد للنزاع والكلام.وبعد ذلك نقول:الكلام هنا يقع في مقامين:
الأوّل:في مقتضى الاُصول اللفظية.الثاني:في مقتضى الاُصول العملية.
أمّا المقام الأوّل 1: فقد ذكر الشيخ (قدس سره) في مبحث التعادل والترجيح 2أ نّه إذا دار الأمر بين العام الشمولي والاطلاق البدلي قدّم العام الشمولي على الاطلاق البدلي،وأفاد في وجه ذلك:أنّ دلالة العام على العموم تنجيزية فلا تتوقف على أيّة مقدمة خارجية،وهذا بخلاف دلالة المطلق على الاطلاق فانّها تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ومنها عدم البيان على خلافه،ومن الطبيعي أنّ عموم العام يصلح أن يكون بياناً على ذلك،ومعه لا تتم المقدمات.وعلى الجملة:فالمقتضي في طرف العام تام وهو وضعه للدلالة على العموم،وإنّما الكلام في وجود المانع عنه،والمفروض عدمه.وأمّا في طرف المطلق فالمقتضي غير تام،فان تماميته تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة وهي لا تتم هنا،فان من جملتها عدم البيان على خلافه والعام بيان.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) وإن كان متيناً جداً،إلّاا نّه خارج عن محل الكلام،فان محل الكلام إنّما هو فيما إذا كان كل من الاطلاق البدلي والعموم الشمولي مستنداً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة،وفي مثل ذلك إذا دار الأمر بينهما هل هنا مرجّح لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد التعارض والاجتماع؟ فيه وجهان،بل قولان:فذهب الشيخ (قدس سره) إلى الأوّل واستدلّ عليه بوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ مفاد الهيئة إطلاق شمولي،فان معناه ثبوت الوجوب على كل تقدير-أي تقديري حصول القيد وعدم حصوله-ومفاد المادة إطلاق بدلي،فانّ معناه طلب فردٍ ما من الطبيعة التي تعلّق بها الوجوب على سبيل
البدل،وعلى ضوء هذا،فإذا دار الأمر بين تقييد إطلاق الهيئة وتقييد إطلاق المادة تعيّن الثاني،وذلك لأنّ رفع اليد عن الاطلاق البدلي أولى من رفع اليد عن الاطلاق الشمولي.
وغير خفي أنّ هذا الوجه ينحل إلى دعويين:الاُولى:دعوى كبروية وهي تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي.الثانية:دعوى أنّ مسألتنا هذه من صغريات تلك الكبرى الكلية.
وقد ناقش المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في الكبرى بعد تسليم أنّ المقام من صغرياتها بما إليك لفظه:فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شمولياً بخلاف المادة،إلّاأ نّه لايوجب ترجيحه على إطلاقها،لأنّه أيضاً كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة،غاية الأمر أ نّها تارةً تقتضي العموم الشمولي واُخرى البدلي، كما ربّما يقتضي التعيين أحياناً كما لا يخفى.
وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع، لا لكونه شمولياً،بخلاف المطلق فانّه بالحكمة فيكون العام أظهر فيقدّم عليه، فلو فرض أ نّهما في ذلك على العكس،فكان عام بالوضع دلّ على العموم البدلي، ومطلق باطلاقه دلّ على الشمول،لكان العام يقدّم بلا كلام 1.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) من منع الكبرى في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عنه،ضرورة أنّ الملاك في الجمع الدلالي إنّما هو بأقوائية الدلالة والظهور، ومن الطبيعي أنّ ظهور المطلق في الاطلاق الشمولي ليس بأقوى من ظهوره في الاطلاق البدلي،لفرض أنّ ظهور كل منهما مستند إلى تمامية مقدمات الحكمة
وبدونها فلا مقتضي له.نعم،لو كان ظهور أحدهما مستنداً إلى الوضع والآخر إلى مقدمات الحكمة،قدّم ما كان بالوضع على ما كان بالمقدّمات كما عرفت.
وأمّا شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1فقد اختار مقالة شيخنا الأنصاري (قدس سره) من تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي،وخالف بذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) واستدلّ على ذلك باُمور ثلاثة:
الأوّل: أنّ الاطلاق الشمولي عبارة عن انحلال الحكم المعلّق على الطبيعة المأخوذة على نحو مطلق الوجود،فيتعدد الحكم بتعدد أفرادها في الخارج أو أحوالها،ويثبت لكل فرد منها حكم مستقل،وذلك مثل لا تكرم فاسقاً،فانّ الفاسق لوحظ على نحو مطلق الوجود موضوعاً لحرمة الاكرام،فطبعاً تتعدد الحرمة بتعدد وجوده خارجاً،فيثبت لكل فرد منه حرمة مستقلة.والاطلاق البدلي عبارة عن حكم واحد مجعول للطبيعة على نحو صرف الوجود القابل للانطباق على كل فرد من أفرادها على البدل.
وبكلمة اخرى:أنّ الحكم في الاطلاق الشمولي بما أ نّه مجعول على الطبيعة الملحوظة على نحو مطلق الوجود،فبطبيعة الحال ينحل بانحلالها ويتعدد بتعدد أفرادها،وفي الاطلاق البدلي بما أ نّه مجعول على الطبيعة الملحوظة على نحو صرف الوجود،فلا محالة لا ينحل بانحلالها ولا يتعدد بتعدد وجودها،بل هو حكم واحد ثابت لفرد ما منها،ونتيجة ذلك هي تخيير المكلف في تطبيق ذلك على أيّ فرد منها شاء وأراد.
وعلى هذا الأساس فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن الاطلاق البدلي والتحفّظ
على الاطلاق الشمولي وبين العكس،تعيّن الأوّل،والسبب فيه:هو أنّ رفع اليد عن الاطلاق البدلي لا يوجب إلّاتضييق سعة انطباقه على أفراده وتقييدها على بعضها دون بعضها الآخر من دون تصرف في الحكم الشرعي أصلاً،وهذا بخلاف التصرف في الاطلاق الشمولي،فإنّه يوجب رفع اليد عن الحكم في بعض أفراده،ومن المعلوم أ نّه إذا دار الأمر بين التصرف في الحكم ورفع اليد عنه،وبين رفع اليد عن التوسعة مع المحافظة على الحكم تعيّن الثاني.وعلى هذا الضوء لو دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق مثل أكرم عالماً،وإطلاق مثل لا تكرم فاسقاً،تعيّن رفع اليد عن إطلاق الأوّل دون الثاني.
ولنأخذ بالنقد عليه،أمّا أوّلاً: فلأنّ ما ذكره (قدس سره) من الوجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي لا يصلح لذلك،فانّه صرف استحسان عقلي فلا أثر له في أمثال المقام،ولا يكون وجهاً عرفياً للجمع بينهما،فانّ الملاك في الجمع العرفي إنّما هو بأقوائية الدلالة والظهور وهي منتفية في المقام، والسبب فيه:أنّ ظهور كل منهما في الاطلاق بما أ نّه مستند إلى مقدمات الحكمة فلا يكون أقوى من الآخر،وبدون ذلك فلا موجب للتقديم أصلاً.
وإن شئت قلت:إنّه لا شبهة في حجية الاطلاق البدلي في نفسه،ولا يجوز رفع اليد عنه بلا قيام دليل أقوى على خلافه،وحيث إنّ ظهور المطلق في الاطلاق الشمولي ليس بأقوى من ظهوره في البدلي،فلا مقتضي لتقديمه عليه أبداً.
وأمّا ثانياً: فلأنّ الاطلاق البدلي وإن كان مدلوله المطابقي ثبوت حكم واحد لفرد ما من الطبيعة على سبيل البدل،إلّاأنّ مدلوله الالتزامي ثبوت أحكام ترخيصية متعددة بتعدد أفرادها،فاطلاقه من هذه الناحية شمولي،فلا
فرق بينه وبين الاطلاق الشمولي من هذه الجهة،غاية الأمر أنّ شموله بالدلالة المطابقية،وشمول ذاك بالدلالة الالتزامية.
وبكلمة اخرى:قد ذكرنا غير مرّة أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخلها في الحكم،وعليه فإذا لم يقيد الشارع حكمه بفرد خاص من الطبيعة بل جعل على نحو صرف الوجود،فلا محالة يستلزم عقلاً ثبوت الترخيص شرعاً في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء المكلف.ومن هنا ذكرنا أنّ ثبوت حكم وجوبي بالاطلاق وعلى نحو صرف الوجود يستلزم عقلاً ثبوت الترخيص في التطبيق شرعاً بالاضافة إلى تمام الأفراد.وعلى ضوء هذا البيان فرفع اليد عن الاطلاق البدلي أيضاً يستلزم رفع اليد عن الحكم والتصرف فيه،لفرض أنّ إطلاقه إنّما هو بدلي بالاضافة إلى الحكم الوجوبي وأمّا بالاضافة إلى الحكم الترخيصي فهو شمولي كالاطلاق الشمولي فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.فإذن لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر،ومجرد اختلافهما في نوع الدلالة لا يوجب الترجيح كما هو ظاهر.
الثاني: أنّ ثبوت الاطلاق في كل من الشمولي والبدلي وإن توقف على مقدمات الحكمة،إلّاأنّ الاطلاق البدلي يزيد على الاطلاق الشمولي بمقدمة واحدة،وتلك المقدمة هي إحراز تساوي أفراد الطبيعة في الوفاء بغرض المولى من دون تفاوت بينها في ذلك أصلاً،والسبب فيه:أنّ مقدمات الحكمة تختلف زيادة ونقيصة باختلاف الموارد،ففي موارد إثبات الاطلاق الشمولي تكفي مقدمات ثلاث:الاُولى:ثبوت الحكم للطبيعة الجامعة دون حصة خاصة منها.
الثانية:كون المتكلم في مقام البيان.الثالثة:عدم نصب قرينة على الخلاف، فإذا تمت هذه المقدمات تمّ الاطلاق،ومقتضاه ثبوت الحكم لتمام أفرادها على اختلافها ومراتب تفاوتها.
وذلك كالنهي عن شرب الخمر مثلاً،فإنّه بمقتضى إطلاقه يدل على حرمة شرب كل فرد من أفراده الطولية والعرضية على اختلافها وتفاوتها من ناحية الملاك شدّة وضعفاً.وكالنهي عن قتل النفس المحترمة،فان قضية إطلاقه ثبوت الحرمة لقتل كل نفس محترمة مع تفاوتها من حيث الملاك،لوضوح أنّ ملاك حرمة قتل نفس النبي أو الوصي أشدّ بمراتب من ملاك حرمة قتل نفس غيرهما، وهكذا.
وكالنهي عن الكذب،فانّه يدل على حرمة تمام أفراده مع تفاوتها بتفاوت الملاك شدّة وضعفاً،فانّ الكذب على اللّٰه أو رسوله أشد من الكذب على غيرهما.
وكالنهي عن الزنا،فانّ الزنا بالمحارم أشد من الزنا بغيرها،وهكذا،فالنتيجة:
أن مفاد الاطلاق الشمولي ثبوت الحكم لتمام الأفراد بشتى أشكالها وألوانها على نسبة واحدة،ولا أثر لتفاوت الأفراد في الملاك شدّة وضعفاً من هذه الناحية أصلاً.
وهذا بخلاف الاطلاق البدلي،فان ثبوته يتوقف على مقدمة اخرى زائدة على المقدمات المذكورة،وهي إحراز تساوي أفراده من الخارج في الوفاء بالغرض،ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن إحراز ذلك مع وجود العام الشمولي على خلافه،حيث إنّه يكون صالحاً لبيان التعيين في بعض الأفراد وأشدية الملاك فيه،ومعه لا ينعقد الاطلاق البدلي.
والجواب عنه: أنّ إحراز التساوي في الوفاء بالغرض ليس مقدمة رابعة في قبال المقدمات الثلاث المتقدمة لكي يتوقف الاطلاق عليها،ضرورة أ نّه يتحقق بنفس تلك المقدمات من دون حاجة إلى شيء آخر،ومن المعلوم أ نّه إذا تحقق فهو بنفسه كاف لاثبات التساوي في ذلك بلا حاجة إلى دليل آخر.وبكلمة اخرى:إذا كان الحكم ثابتاً على الطبيعة على نحو صرف الوجود من دون
ملاحظة وجود خاص،وكان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الخلاف،فبطبيعة الحال كان إطلاق كلامه قرينة على تساوي أفرادها في الوفاء بالملاك والغرض،إذ لو كان بعض أفرادها أشدّ ملاكاً من غيره ومشتملاً على خصوصية زائدة لكان على المولى البيان،فمن عدم بيانه نستكشف عدم الفرق وعدم التفاوت بينها في ذلك.وممّا يدلّنا على هذا:أنّ المكلف لو شكّ في صلاحية فرد في الوفاء بغرض المولى تمسك بالاطلاق لاثبات ذلك،فإذن الاطلاقان متكافئان ومتعارضان فلا وجه لتقديم الشمولي على البدلي.
الثالث: أنّ حجية الاطلاق البدلي بالاضافة إلى جميع الأفراد تتوقف على أن لا يكون هناك مانع عن انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر،بداهة أ نّه لو كان هناك مانع عن ذلك فلا بدّ من رفع اليد عنه وتقييده بغيره،ومن المعلوم أنّ الاطلاق الشمولي في مورد التصادق والاجتماع صالح لأن يكون مانعاً منه، فلو توقف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الاطلاق البدلي وانطباقه على ذلك لزم الدور،فالنتيجة:أنّ المطلق الشمولي صالح لأن يكون مانعاً عن المطلق البدلي في مورد المعارضة والاجتماع،دون العكس.
والجواب عنه: قد ظهر مما تقدّم وحاصله:هو أنّ ثبوت الاطلاق في كليهما يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة كما عرفت،ولا مزية لأحدهما على الآخر من هذه الناحية أصلاً،هذا من جانب.ومن جانب آخر:أنّ حجية إطلاق المطلق فعلاً والتمسك به كذلك في مورد تتوقف على عدم وجود معارض له، ولا فرق من هذه الناحية بين الاطلاق البدلي والشمولي،بداهة كما أنّ حجية الأوّل في مورد تتوقف على عدم وجود مانع ومعارض له،كذلك حجية الثاني.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم وجود مانع،إن أراد به توقفها على مقدمة زائدة على مقدمات الحكمة فقد عرفت
خطأها.
وإن أراد به توقفها على عدم وجود معارض،فحجية الاطلاق الشمولي أيضاً كذلك،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين:هي أنّ في مورد اجتماع الاطلاقين وتصادقهما كما أنّ الشمولي صالح لأن يكون مانعاً عن البدلي ومقيداً له بغير ذلك المورد،كذلك البدلي صالح لأن يكون مانعاً عن الشمولي ومخصصاً له فلا ترجيح لأحدهما على الآخر أصلاً.
ومن هنا يظهر أنّ هذا الوجه في الحقيقة ليس وجهاً آخر في قبال الوجه الثاني، بل هو تقريب له بعبارة اخرى.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ الكبرى المتقدمة أي تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي غير تامة ولا دليل عليها.
ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا الكبرى المذكورة،وهي تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي،إلّاأنّ المقام ليس من صغرياتها،والسبب في ذلك هو أنّ تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع والتصادق إنّما هو فيما إذا كان التنافي والتكاذب بينهما بالذات بحيث لا يمكن كشفهما معاً عن مراد المولى في مرحلة الاثبات،فعندئذ يمكن أن يقال بتقديمه عليه بأحد الوجوه المتقدمة.
وإن شئت قلت:إنّ التنافي بين الاطلاقين إذا كان بالذات في مقام الاثبات فبطبيعة الحال يكشف عن التنافي بينهما في مقام الثبوت بقانون التبعية،وعليه فلا بدّ من تقديم ما هو الأقوى والأرجح على الآخر،وهذا بخلاف محل الكلام هنا فانّه لا تعارض ولا تكاذب بين الاطلاقين بالذات أصلاً،بداهة أ نّه لا مانع من أن يكون كل من الهيئة والمادة مطلقاً من دون أيّة منافاة بينهما،والمنافاة إنّما جاءت من الخارج وهو العلم الاجمالي برجوع القيد إلى إحداهما،ومن الطبيعي أنّ هذا العلم الاجمالي لا يوجب تقديم ما هو أقوى دلالة وظهوراً على غيره،
كيف حيث إنّ نسبته إلى كل واحدة منهما على حد سواء،فلا توجب أقوائية إطلاق إحداهما ليقدّم على الاُخرى كما هو واضح.
وبكلمة اخرى:أنّ العلم الاجمالي تعلق برجوع القيد إلى إحداهما،ومن البديهي أنّ كون إطلاق الهيئة شمولياً وإطلاق المادة بدلياً لا يوجب ذلك رجوع القيد إلى الثاني دون الأوّل،لأنّ إحدى الحيثيتين تباين الاُخرى،فانّ الجمع العرفي بينهما بتقديم الشمولي على البدلي إنّما هو فيما إذا كانت المعارضة بينهما ذاتاً وحقيقة،وأمّا إذا لم تكن كذلك كما هو المفروض في المقام،فمجرد العلم الاجمالي برجوع القيد من الخارج إلى أحدهما لا يوجب تعين رجوعه إلى البدلي،لعدم الموجب لذلك أصلاً لا عرفاً ولا عقلاً،بل لو افترضنا حصول العلم الاجمالي بعروض التقييد من الخارج لأحد دليلي الحاكم أو المحكوم لم توجب أقوائية دليل الحاكم لارجاع القيد إلى دليل المحكوم،وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي:أ نّه حيث لا تنافي بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة بالذات والحقيقة،بل هو من ناحية العلم الخارجي بعروض التقييد على أحدهما،فلا وجه لتقديم إطلاق الهيئة على المادة وإن فرض أ نّه بالوضع فضلاً عمّا إذا كان بمقدمات الحكمة،وعليه فإذا كان التقييد المزبور بدليل متصل فأوجب العلم الاجمالي الاجمال وعدم انعقاد أصل الظهور لفرض احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،وإذا كان بدليل منفصل فأوجب سقوط الاطلاقين عن الاعتبار.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه:أنّ ما أفاده (قدس سره) خاطئ صغرى وكبرى.
الوجه الثاني الذي أفاده (قدس سره) لاثبات ما يدعيه من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة،فحاصله:أنّ القيد لو عاد إلى الهيئة فهو كما يوجب رفع
اليد عن إطلاقها فكذلك يوجب رفع اليد عن إطلاق المادة،بمعنى أ نّها لا تقع على صفة المطلوبية بدونه،لفرض عدم الوجوب قبل وجوده،ومعه لا تكون مصداقاً للواجب.مثلاً لو افترضنا أنّ وجوب إكرام زيد مقيد بمجيئه يوم الجمعة،فهذا بطبيعة الحال يستلزم تقييد الواجب أيضاً-وهو الاكرام-يعني أ نّه يدل على أنّ المطلوب ليس هو طبيعي الاكرام على الاطلاق،بل هو حصة خاصة منه وهي الحصة الواقعة في يوم الجمعة.
مثلاً الاستطاعة قيد لوجوب الحج،وهي تدل على تقييد الواجب أيضاً، بمعنى أ نّه ليس هو طبيعي الحج على نحو السعة والاطلاق،بل هو حصة منه وهي الواقعة بعدها،وهذا بخلاف ما إذا رجع القيد إلى المادة دون الهيئة،فانّه لا يلزم منه رفع اليد عن الاطلاق في طرف الهيئة أصلاً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا شبهة في أنّ في كل مورد إذا دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق واحد ورفع اليد عن إطلاقين تعيّن رفع اليد عن الأوّل،فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي تعيّن رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.
ولكن ناقش في ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) فيما إذا كان التقييد بمتصل دون ما إذا كان بمنفصل،يعني أ نّه (قدس سره) سلّم ما جاء الشيخ (قدس سره) به في الثاني دون الأوّل،وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه:
وأمّا في الثاني فلأنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل،إلّاأنّ العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء بعض مقدماتها،لايكون على خلاف الأصل أصلاً،إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّاكونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة،ومع انتفاء المقدمات لايكاد ينعقد له هناك ظهور،كان ذاك العمل المشارك مع التقييد
في الأثر وبطلان العمل باطلاق المطلق،مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً.
وكأ نّه توهم أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابت،ورفع اليد عن العمل به تارةً لأجل التقييد،واُخرى بالعمل المبطل للعمل به،وهو فاسد،لأنّه لايكون إطلاق إلّا فيما جرت هناك المقدمات.نعم،إذا كان التقييد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة،كان لهذا التوهم مجال،حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة،فتأمّل 1.
وأمّا شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2فقد وافق شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) في القرينة المتصلة والمنفصلة.
أمّا في المتصلة: فقد ذكر (قدس سره) أنّ الواجب فيها إرجاع القيد إلى نفس المادة لسببين:
الأوّل: أنّ رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة، بما أ نّها منتسبة ومعروضة للنسبة الطلبية متيقن على كل حال،وإنّما الشك في رجوعه إليها بعد الانتساب،وبما أ نّه يحتاج إلى بيان زائد من ذكر نفس القيد، فالشك فيه يدفع بالاطلاق.ومن ذلك يظهر أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح كونه قرينة،بداهة أ نّه إنّما يكون كذلك فيما إذا لم يكن التقييد محتاجاً إلى مؤونة اخرى مدفوعة بالاطلاق،كما في موارد إجمال القيد مفهوماً،وموارد تعقب الجمل المتعددة بالاستثناء ونحو ذلك.وأمّا فيما نحن فيه، فحيث إنّ القدر المتيقن موجود في البين،والمفروض أنّ احتمال رجوع القيد إلى المادة المنتسبة مدفوع بالاطلاق،فلا يمكن للمولى أن يكتفي بما ذكره من القيد، لو كان مراده تقييد المادة المنتسبة دون غيرها.
الثاني: أنّ القيد إذا كان راجعاً إلى المادة بعد الانتساب،فلا بدّ أن يؤخذ مفروض الوجود كما هو شأن كل واجب مشروط بالاضافة إلى شرطه،وبما أنّ أخذ القيد مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار يحتاج إلى عناية زائدة على ذكر ذات القيد،والمفروض عدمها،فبطبيعة الحال احتمال أخذه كذلك يدفع باطلاق القيد،وأ نّه لم يلحظ كذلك،ومن هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل،وهو أنّ احتمال رجوع القيد إلى مفاد الهيئة في الأوّل يدفع باطلاق المادة المنتسبة وفي الثاني باطلاق القيد.
وأمّا في المنفصلة: فلا يخلو الأمر من أن تكون القرينة المزبورة لفظية أو لبّية،أمّا إذا كانت لفظية،فحالها حال المتصلة،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،بل الأمر فيها أوضح،لعدم جريان شبهة احتفاف الكلام بما يمكن أن يكون قرينة فيها،لأنّ المفروض انعقاد الظهور.وأمّا إذا كانت لبّية فيجري فيه الوجهان المذكوران لدفع الشك في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة باطلاق المادة أو إطلاق القيد.وقد تحصّل ممّا ذكرناه:أ نّه إذا شكّ في رجوع القيد إلى الواجب أو الوجوب فالاطلاق يقتضي رجوعه إلى الواجب.
التحقيق في المقام أن يقال:إنّ القيد إذا كان قيداً للهيئة واقعاً،فمردّه إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار،من دون فرق في ذلك بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري،وإذا كان قيداً للمادة واقعاً فمردّه إلى اعتبار تقيد المادة به في مقام الجعل والانشاء،من دون فرق في ذلك أيضاً بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري.غاية الأمر إذا كان غير اختياري فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود،وذلك لما تقدّم من أنّ كون القيد غير اختياري لا يستلزم كون الفعل المقيّد به أيضاً كذلك،ضرورة أنّ القدرة عليه لا تتوقف على القدرة على قيده،فانّ الصلاة المتقيدة إلى القبلة مثلاً مقدورة مع أنّ قيدها
– وهو وجود القبلة-غير مقدور.
فالنتيجة: أنّ تقييد كل من الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة لما اشتمل عليه الآخر من الخصوصية،فانّ تقييد الهيئة مستلزم لأخذ القيد مفروض الوجود،وتقييد المادة مستلزم لكون التقيد به مطلوباً للمولى،وعلى ضوء هذا الأساس فليس في البين قدر متيقن لنأخذ به وندفع الزائد بالاطلاق.
وبكلمة اخرى: قد سبق في ضمن البحوث السالفة أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود عن شيء وعدم ملاحظتها معه لا وجوداً ولا عدماً،وعلى ذلك فمعنى إطلاق الهيئة عدم اقتران مفادها عند اعتباره بوجود قيد ولا بعدمه.وفي مقابله تقييده بقيد،فانّ مرده إلى أنّ المجعول في طرفها هو حصة خاصة من الوجوب-وهي الحصة المقيدة بهذا القيد-ومعنى إطلاق المادة هو أنّ الواجب ذات المادة من دون ملاحظة دخل قيد من القيود في مرتبة موضوعيتها للحكم، وفي مقابله تقييدها بخصوصية ما،فانّ مفاده هو أنّ المولى جعل حصة خاصة منها موضوعاً للحكم ومتعلقاً له-وهي الحصة المقيدة بهذه الخصوصية-.
ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين تقييد المادة وتقييد الهيئة عموم من وجه، فيمكن أن يكون شيء قيداً لمفاد الهيئة دون المادة،وذلك كما إذا افترضنا أنّ القيام مثلاً قيد لوجوب الصلاة دونها،فعندئذ جاز الاتيان بالصلاة جالساً بعد تحقق القيام،بل لا مانع من تصريح المولى بذلك بقوله:إذا قمت فصلّ قاعداً، وكالاستطاعة فانّها قيد لوجوب الحج دون الواجب،ومن هنا لو استطاع شخص ووجب الحج عليه ولكنّه بعد ذلك أزال الاستطاعة باختياره فحج متسكعاً صحّ حجّه وبرئت ذمته،فلو كانت الاستطاعة قيداً لنفس الحج أيضاً لم يصح جزماً لفرض انتفاء قيده،ومن هذا القبيل ما نسب إلى بعض من أنّ السفر قيد للوجوب دون الواجب،فلو كان المكلف مسافراً في أوّل الوقت ثمّ
حضر وجب عليه القصر دون التمام.فالنتيجة أ نّه لا ملازمة بين كون شيء قيداً للوجوب وكونه قيداً للواجب أيضاً.وعلى الجملة:فقد يكون الشيء قيداً للهيئة دون المادة كما عرفت.
وقد يكون قيداً للمادة دون الهيئة،وذلك كاستقبال القبلة وطهارة البدن واللباس وما شاكل ذلك،فانّها بأجمعها تكون قيداً للمادة-وهي الصلاة-دون وجوبها،وقد يكون قيداً لهما معاً،وذلك كالوقت الخاص بالاضافة إلى الصلاة مثلاً،كزوال الشمس وغروبها وطلوع الفجر،فان هذه الأوقات من ناحية كونها شرطاً لصحة الصلاة فهي قيد لها،ومن ناحية أ نّها ما لم تتحقق لا يكون الوجوب فعلياً فهي قيد له.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر:أنّ القيد المردد بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة،إن كان متصلاً فهو مانع عن أصل انعقاد الظهور،لفرض احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،لوضوح أنّ القيد المزبور على أساس ما حققناه صالح لأن يكون قرينة على تقييد كل منهما،ومعه لا ينعقد الظهور لهما جزماً،فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،يقوم على أساس ما ذكره من وجود القدر المتيقن في البين، وهو تقييد المادة والرجوع في الزائد إلى الاطلاق.
ولكن قد تقدّم خطأ ذلك،وعرفتم أنّ رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة،فليس الأوّل متيقناً،فإذن لا مناص من القول بالاجمال ودخول المقام في تلك الكبرى.وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة المنتسبة متيقن،فهو خاطئ جداً، وذلك لأنّ المراد من المادة المنتسبة هي المادة المتصفة بالوجوب،والمراد من تقييدها تقييد اتصافها به،ومن الواضح أنّ هذا عبارة اخرى عن تقييد مفاد
الهيئة فلا يكون في مقابله ولا مغايرة بينهما إلّاباللفظ،وقد سبق أنّ رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة،فلا متيقن في البين.
وإن شئت فقل: إنّ المتيقن إنّما هو رجوع القيد إلى ذات المادة الجامعة بين رجوعه إليها قبل الانتساب ورجوعه إليها بعد الانتساب،وأمّا رجوعه إليها قبل الانتساب فهو كرجوعه إليها بعده مشكوك فيه وليس شيء منهما معلوماً.
فما أفاده (قدس سره) مبني على عدم تحليل معنى تقييد المادة في مقابل تقييد الهيئة وما هو محل النزاع هنا،هذا في التقييد بالمتصل.
وأمّا إذا كان منفصلاً،فظهور كل منهما في الاطلاق وإن انعقد،إلّاأنّ العلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما أوجب سقوط كليهما عن الاعتبار فلا يمكن التمسك بشيء منهما،وذلك لما عرفت من أنّ معنى تقييد المادة مطابقة هو أنّ الواجب حصة خاصة منها في مقابل إطلاقها،ومعنى تقييد الهيئة كذلك هو أنّ الوجوب حصة خاصة منه في مقابل إطلاقها،والمدلول الالتزامي للمعنى الأوّل هو تعلق الوجوب بتقيد المادة به،والمدلول الالتزامي للثاني هو أخذه مفروض الوجود،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الحصتين المفروضتين متباينتان،فتحتاج إرادة كل منهما إلى مؤونة زائدة وعناية أكثر،وليست إحداهما متيقنة بالاضافة إلى الاُخرى،فالنتيجة على ضوئهما هي:أنّ المكلف إذا علم بأنّ المولى أراد بدليل منفصل إحدى الحصّتين المزبورتين دون كلتيهما معاً،فبطبيعة الحال لايمكن التمسّك بالاطلاق،لا لدفع كون الوجوب حصة خاصة،ولا لدفع كون الواجب كذلك،وكذا لا يمكن التمسك به،لا لنفي أخذ القيد مفروض الوجود،ولا لنفي وجوب التقيد به،ضرورة أنّ العلم الاجمالي كما يوجب وقوع التكاذب والتنافي بين الاطلاقين من الناحية الاُولى،كذلك يوجب التكاذب والتنافي بينهما من الناحية الثانية.
وبكلمة اخرى: أنّ التمسك بالاطلاق كما لايمكن لنفي المدلول المطابقي للتقييد، كذلك لا يمكن لنفي مدلوله الالتزامي،وذلك لأنّ كلاً منهما طرف للعلم الاجمالي من دون خصوصية في ذلك لأحدهما،وعليه فبطبيعة الحال يقع التكاذب بين الاطلاقين بالاضافة إلى كل منهما.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي بطلان الدعاوي المتقدمة وعدم واقع موضوعي لشيء منها،وأ نّها جميعاً تقوم على أساس عدم تنقيح ما هو محل النزاع في المقام،بيان ذلك:
أمّا ما ادّعاه شيخنا الأنصاري (قدس سره) من استلزام تقييد الهيئة تقييد المادة،فهو مبتن على أساس تخيل أنّ المراد من تقييد المادة هو عدم وقوعها على صفة المطلوبية إلّابعد تحقق قيد الهيئة،وقد تقدّم أنّ هذا المعنى ليس المراد من تقييدها،بل المراد منه معنى آخر،وقد سبق أ نّه لا ملازمة بينه وبين تقييد الهيئة أصلاً.
وأمّا ما ادّعاه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في خصوص القرينة المنفصلة،فمبني على توهم أنّ تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادة،إلّاأ نّه يوجب بطلان محل الاطلاق فيها،وهو كتقييدها في الأثر.ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه خطأ هذا التوهم،وأنّ تقييد الهيئة كما لا يستلزم تقييد المادة كذلك لا يوجب بطلان محل الاطلاق فيها،وعليه فالعلم الاجمالي بوجود القرينة المنفصلة الدالة على تقييد أحدهما لا محالة يوجب سقوط كلا الاطلاقين عن الاعتبار بعد ما عرفت من عدم مزية لأحدهما على الآخر.
وأمّا ما ادّعاه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فهو مبتن على أساس أنّ تقييد المادة متيقن وتقييد الهيئة يحتاج إلى خصوصية زائدة ومؤونة أكثر.ولكن قد تقدّم فساد ذلك،وأنّ تقييد كل منهما يحتاج إلى خصوصية مباينة لخصوصية
الآخر فليس في البين قدر متيقن،ولا فرق في ذلك بين موارد القرينة المتصلة وموارد القرينة المنفصلة.نعم،فرق بينهما في نقطة اخرى وهي:أنّ القرينة إذا كانت متصلة أوجبت إجمالهما من الأوّل،وإذا كانت منفصلة أوجبت سقوط إطلاقهما عن الاعتبار.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة بالمعنى الذي ذكرناه-وهو كون التقيد تحت الطلب كغيره من الأجزاء-نعم،تقييدها وإن استلزم تقييد المادة بمعنى آخر وهو عدم وقوعها على صفة المطلوبية إلّابعد تحقق قيدها،إلّاأ نّه غير قابل للبحث،حيث إنّه يترتب على تقييد الهيئة قهراً ولا صلة له بمحل البحث أصلاً.
قسّم المحقق صاحب الفصول (قدس سره) 1الواجب إلى واجب مشروط وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد الهيئة،ومطلق وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد المادة،ثمّ قسّم المطلق إلى واجب منجّز،وهو ما كان الواجب فيه كالوجوب حالياً،ومعلّق وهو ما كان الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً يعني مقيداً بزمن متأخر.وإن شئت قلت:إنّ الواجب تارة مقيد بقيد متأخر خارج عن اختيار المكلف من زمان أو زماني،وتارة اخرى غير مقيد بقيد كذلك،وعلى الأوّل فالوجوب حالي والواجب استقبالي،وعلى الثاني فكلاهما حالي،ويمتاز هذا التقسيم عن التقسيم الأوّل في نقطة واحدة وهي أنّ التقسيم الأوّل بلحاظ الوجوب،وهذا التقسيم بلحاظ الواجب،وعليه فتوصيف الواجب بالمطلق والمشروط توصيف بحال الغير.
وقد أنكر هذا التقسيم شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 2وقال بأ نّا لا نعقل للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسماً ثالثاً يكون هو المعلّق.ولكن غير خفي أنّ إنكاره (قدس سره) للواجب المعلق يرجع في الحقيقة إلى إنكاره للواجب المشروط عند المشهور دون الواجب المعلّق عند صاحب الفصول (قدس سره) وذلك لأنّه (قدس سره) حيث يرى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وتعيّن رجوعه إلى المادة،فبطبيعة الحال الواجب المشروط عنده ما
يكون الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً وهو بعينه الواجب المعلّق عند صاحب الفصول (قدس سره) وعليه فالنزاع بينهما لا يتجاوز عن حدود اللّفظ فحسب.
وقد أشكل عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بما إليك قوله:نعم، يمكن أن يقال:إنّه لا واقع لهذا التقسيم،لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط،وخصوصية كونه حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم،وإلّا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ولا اختلاف فيه، فان ما رتّبه عليه من وجوب المقدمة فعلاً كما يأتي إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته لا من استقبالية الواجب 1.
والظاهر أنّ التزام صاحب الفصول (قدس سره) بهذا التقسيم إنّما هو للتفصي عن الاشكال الذي اورد على وجوب الاتيان بالمقدمات قبل مجيء زمان الواجب كمقدمات الحج وما شاكلها،وسيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية وما عليه من النقد إن شاء اللّٰه تعالى.
نعم،الذي يرد عليه:هو أنّ المعلّق ليس قسماً من الواجب المطلق في مقابل المشروط بل هو قسم منه،وذلك لما تقدّم من أنّ وجوب كل واجب لا يخلو من أن يكون مشروطاً بشيء من زمان أو زماني مقارن له أو متأخر عنه أو يكون غير مشروط به كذلك ولا ثالث لهما،لاستحالة ارتفاع النقيضين،وعلى الأوّل فالواجب مشروط،وعلى الثاني مطلق،وعلى هذا فلا بدّ من ملاحظة أن وجوب الحج مثلاً مشروط بيوم عرفة أو مطلق،لا شبهة في أنّ ذات الفعل وهو الحج مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف به وكذا إيقاعه في زمان
خاص-يوم عرفة-وأمّا نفس وجود الزمان فهو غير مقدور له فلا يمكن وقوعه تحت التكليف،وبما أنّ التكليف لم يتعلق بذات الفعل على الاطلاق وإنّما تعلق بايقاعه في زمن خاص،فعلم من ذلك أنّ للزمان دخلا في ملاكه وإلّا فلا مقتضي لأخذه في موضوعه.
وعليه فبطبيعة الحال يكون مشروطاً به،غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر،ومن هنا إذا افترضنا عدم مجيء هذا الزمان الخاص وعدم تحققه في الخارج من جهة قيام الساعة،أو افترضنا أنّ المكلف حين مجيئه خرج عن قابلية التكليف بجنون أو نحوه كشف ذلك عن عدم وجوبه من الأوّل.
فالنتيجة: أنّ هذا قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر لا من الواجب المطلق،فانّ المشروط بالشرط المتأخر على نوعين:قد يكون متعلق الوجوب فيه أمراً حالياً،وقد يكون أمراً استقبالياً كالحج في يوم عرفة، وكلاهما مشروط،فما سمّاه في الفصول بالمعلّق هو بعينه هذا النوع الثاني من المشروط بالشرط المتأخر،وعليه فجعله من المطلق خطأ محض،وقد ذكرنا أ نّه لا بأس بالالتزام به ثبوتاً.نعم،وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل،وقد أشرنا إلى أنّ ظاهر قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ…» إلخ 1وقوله عزّ وجلّ: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ…» 2هو ذلك.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا يرد على هذا التقسيم شيء عدا ما ذكرناه.
وكيف كان،فقد يقال كما قيل باستحالة هذا النوع من الواجب،واستدلّ على ذلك بعدّة وجوه:
الأوّل: ما حكاه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن بعض معاصريه 1وملخّصه:أنّ الارادة لايمكن أن تتعلق بأمر متأخر بلا فرق بين الارادة التكوينية والتشريعية،إذ لا فرق بينهما إلّافي أنّ الاُولى تتعلق بفعل نفس المريد،والثانية تتعلق بفعل غيره،ومن المعلوم أنّ الايجاب والطلب بازاء الارادة المحرّكة للعضلات نحو المراد،فكما أنّ الارادة التكوينية لا تنفك عن المراد زمناً حيث إنّها لا تنفك عن التحريك وهو لا ينفك عن الحركة خارجاً،وإن تأخرت عنه رتبة،فكذلك الارادة التشريعية لا تنفك عن الايجاب زمناً وهو غير منفك عن تحريك العبد في الخارج،ولازم ذلك استحالة تعلق الايجاب بأمر استقبالي، لاستلزامه انفكاك الايجاب عن التحريك وهو مستحيل،وبما أنّ الالتزام بالواجب المعلّق يستلزم ذلك فلا محالة يكون محالاً.
وأجاب صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بما هو لفظه:قلت:فيه أنّ الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلّق بأمر حالي وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل،ضرورة أنّ تحمل المشاق في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة،ليس إلّالأجل تعلق إرادته به وكونه مريداً له قاصداً إيّاه لا يكاد يحمله على التحمل إلّاذلك،ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرّك للعضلات نحو المراد،وتوهم أنّ تحريكها نحو المتأخر ممّا لا يكاد،وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه،في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات،أو ممّا له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة،فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له،والجامع أن يكون نحو المقصود،بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الارادة بيان مرتبة الشوق
الذي يكون هو الإرادة وإن لم يكن هناك فعلاً تحريك،لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقبالياً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة، ضرورة أنّ شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرّك فعلاً نحو أمر حالي أو استقبالي محتاج إلى ذلك.هذا مع أ نّه لا يكاد يتعلق البعث إلّابأمر متأخر عن زمان البعث،ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به،بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة،وعلى تركه من العقوبة،ولا يكاد يكون هذا إلّابعد البعث بزمان،فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان،ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب 1.
وملخّص ما أفاده (قدس سره) أمران:
الأوّل: أنّ الارادة مرتبة خاصة من الشوق الحاصل في افق النفس،وهي المرتبة التي يكون من شأنها انبعاث القوة العاملة في العضلات لتحريكها نحو المراد،غاية الأمر إذا كان أمراً حالياً فهي توجب تحريكها نحوه حالاً،وإذا كان أمراً استقبالياً،فإن كانت له مقدمة خارجية فكذلك،وإن لم تكن له مقدمة خارجية غير مجيء زمانه لم توجب التحريك.مع أ نّه بهذه المرتبة الخاصة موجود في عالم النفس،فأخذ الوصف المزبور في تعريف الارادة إنّما هو للاشارة إلى أ نّها عبارة عن تلك المرتبة الخاصة وإن لم توجب التحريك فعلاً من جهة عدم الموضوع لا من جهة قصور فيها،فإذن لا مانع من تعلق الارادة بأمر متأخر كما تتعلق بأمر حالي،وهذا لعلّه من الواضحات.
الثاني: أ نّه لا شبهة في انفكاك الوجوب عن متعلقه زماناً وتأخره عنه
كذلك،بداهة أنّ الغرض من البعث إنّما هو إحداث الداعي للمكلف نحو الفعل، ومن الواضح أنّ الداعي إلى إيجاده إنّما يحصل بعد تصور الأمر وما يترتب عليه،وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى زمانٍ ما ولو كان في غاية القصر،فإذا جاز الانفكاك بينهما في ذلك جاز في زمن طويل أيضاً،لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والامكان.
وينبغي لنا أن نتعرض لنقده على الشكل التالي:
إن اريد بالارادة الشوق النفساني إلى شيء الحاصل في افق النفس من ملائمتها له أو ملائمة إحدى قواها،وهي التي توجب هيجانها وميلها إليه إلى أن بلغ حدّ العزم والجزم،فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أنّ الشوق النفساني كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي،وهذا لا يحتاج إلى إقامة برهان،بل هو أمر وجداني ضروري يعلمه كل ذي وجدان بمراجعة وجدانه، بل ولا مانع من تعلقه بالأمر الممتنع كالجمع بين الضدين أو النقيضين أو ما شاكل ذلك فضلاً عن الأمر الممكن المتأخر،كاشتياق الانسان إلى دخول الجنّة والتلبس بالملاذ الاُخروية،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا سابقاً بشكل موسّع أنّ الارادة بهذا المعنى مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لا تكون علة تامة لتحريك العضلات نحو الفعل.
وإن اريد بها الاختيار وإعمال القدرة،فقد سبق الكلام في ذلك بصورة موسّعة وأ نّها لا تتعلق بفعل الغير،بلا فرق بين اختياره (عزّ وجلّ) وإعمال قدرته واختيار غيره.نعم،له تعالى إيجاد الفعل عن الغير بايجاد أسبابه،ولكنه أجنبي عن تعلق مشيئته تعالى واختياره به مباشرة،بل قد عرفت أ نّها لا تتعلق بفعل الانسان نفسه إذا كان في زمن متأخر فضلاً عن فعل غيره،ومن هنا لا يمكن تعلقها بالمركب من أجزاء طولية زمناً وتدريجية وجوداً دفعة
واحدة إلّاعلى نحو تدريجية أجزائه،وذلك كالصلاة مثلاً،فانّه لا يمكن إعمال القدرة على القراءة قبل التكبيرة وهكذا،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:قد سبق منّا أيضاً أ نّه لا أصل للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية،سواء أكانت الارادة بمعنى الشوق النفساني أو بمعنى الاختيار وإعمال القدرة.
أمّا على الأوّل:فلأنّ الارادة عبارة عن ذلك الشوق الحاصل في افق النفس، ومن الطبيعي أ نّه لا يختلف باختلاف متعلقه،فقد يكون متعلقه أمراً تكوينياً وقد يكون أمراً تشريعياً وقد يكون فعل الانسان نفسه،وقد يكون فعل غيره، وتسمية الأوّل بالارادة التكوينية،والثاني بالتشريعية لا تتعدّى عن مجرّد الاصطلاح بلا واقع موضوعي لها أصلاً.
وأمّا على الثاني:فواضح،ضرورة أنّ إعمال القدرة لا تختلف باختلاف متعلقها،فان متعلقها سواء أكان من التشريعيات أو التكوينيات فهو واحد حقيقة وذاتاً.فتحصّل:أ نّا لا نعقل للارادة التشريعية معنىً محصلاً في مقابل الارادة التكوينية.
نعم،قد يقال كما قيل:إنّ المراد منها الطلب والبعث،باعتبار أ نّه يدعو المكلف إلى إيجاد الفعل في الخارج.
وفيه:أنّ تسمية ذلك بالارادة التشريعية وإن كان لا بأس بها،إلّاأ نّه لا يمكن ترتب أحكام الارادة التكوينية عليه،بداهة أ نّه أمر اعتباري فلا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،فلا يُقاس هذا بالارادة والاختيار أصلاً،ولا جامع بينهما حتّى يوجب تسرية حكم أحدهما إلى الآخر،فعدم تعلق الارادة بالأمر المتأخر زمناً لا يستلزم عدم تعلقه به أيضاً،وقد تقدّم أنّ ما اعتبره المولى قد يكون متعلقه حالياً،وقد يكون استقبالياً،وقد يكون
كلاهما استقبالياً،وذلك كما إذا اعتبر شخص ملكية منفعة داره مثلاً لآخر بعد شهر،فانّ المعتبر-وهو الملكية-ومتعلقه-وهو المنفعة-كليهما استقبالي، والحالي إنّما هو الاعتبار فحسب،وهذا ربّما يتفق وقوعه في باب الاجارة وفي باب الوصية كالوصية بالملك بعد الموت،ومن الواضح أ نّه لا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية.وقد تحصل من ذلك:أنّ في تسرية أحكام الارادة على الطلب والبعث مغالطة ظاهرة ولا منشأ لها إلّاالاشتراك في الاسم.
فقد انتهينا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة وهي أ نّه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق بالمعنى الذي ذكرناه وهو كون وجوبه مشروطاً بشرط متأخر.
الثاني: ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ القيود الراجعة إلى الحكم المأخوذة في موضوعه بشتى ألوانها تؤخذ مفروضة الوجود في مقام الاعتبار والجعل فلا يجب على المكلف تحصيل شيء منها وإن كان مقدوراً كالاستطاعة،ومن الواضح أنّ فعلية الحكم في مثل ذلك إنّما هي بفعلية تلك القيود،فلا تعقل فعليته قبل فعليتها وتحققها في الخارج،وعلى هذا الأساس بنى على استحالة الشرط المتأخر.ولكن قد تقدّم الكلام في مسألة الشرط المتأخر بصورة مفصلة في بيان ذلك الأساس وما فيه من النقد والاشكال فلا نعيد.
الثالث: ما قيل كما في الكفاية 2من أنّ التكليف مشروط بالقدرة،وعليه فلا بدّ أن يكون المكلف حين توجيه التكليف إليه قادراً،فلو التزمنا بالواجب المعلّق لزم عدم ذلك.وجوابه واضح،وهو أنّ القدرة المعتبرة في صحة التكاليف إنّما هي قدرة المكلف في ظرف العمل وإن لم يكن قادراً في ظرف التكليف.
ثمّ إنّ الذي دعا صاحب الفصول (قدس سره) إلى الالتزام بالواجب المعلّق هو عدّة فوائد تترتب عليه:
منها: دفع الاشكال عن إيجاب مقدمات الحج قبل الموسم،حيث يلزم على المكلف تهيئة لوازم السفر ووسائل النقل وما شاكل ذلك قبل مجيء زمان الواجب وهو يوم عرفة،إذ لو لم نلتزم به لم يمكن الحكم بايجابها قبل موسمه، كيف حيث إنّ وجوب المقدمة معلول لايجاب ذيها،فلا يعقل وجود المعلول قبل وجود علته.وعلى ضوء الالتزام بحالية الوجوب في أمثال هذا المورد يندفع الاشكال رأساً،وذلك لأنّ فعلية وجوب المقدمة تتبع فعلية وجوب الواجب وإن لم يكن نفس الواجب فعلياً.
ومنها: دفع الاشكال عن وجوب الغسل على المكلف كالجنب أو الحائض ليلاً لصوم غد،فانّه لولا الالتزام بحالية الوجوب في مثله كيف يمكن الالتزام بوجوب الغسل في الليل،مع أنّ الصوم لا يجب إلّامن حين طلوع الفجر.
ومنها: دفع الاشكال عن وجوب التعلم قبل دخول وقت الواجب كتعلم أحكام الصلاة ونحوها قبل وقتها،فلولا وجوب تلك الصلوات قبل دخول أوقاتها لم يكن تعلم أحكامها واجباً.
ومنها: دفع الاشكال عن وجوب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحج.
ويمكن أن نأخذ بالمناقشة فيه:وهي أنّ دفع الاشكال المزبور عن تلك الموارد وما شاكلها لا يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي،إذ كما يمكن دفع
الاشكال به يمكن دفعه بالالتزام بوجوبها نفسياً،لكن لا لأجل مصلحة في نفسها، بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها،فيكون وجوبها للغير لا بالغير،إذن تكون هذه المقدمات واجبة مع عدم وجوب ذيها فعلاً.
ومع الاغماض عن ذلك،يمكن دفعه بالالتزام بحكم العقل بلزوم الاتيان بها بملاك إدراك العقل قبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه،حيث إنّه لا يفرق في القبح بين تفويت الملاك الملزم في موطنه ومخالفة التكليف الفعلي،فكما يحكم بقبح الثاني يحكم بقبح الأوّل،وبما أ نّه يدرك أنّ الحج في ظرفه ذو ملاك ملزم،وأ نّه لو لم يأت بمقدماته من الآن لفات منه ذلك الملاك،يستقل بلزوم إتيانها قبل أوانه ولو بشهر أو أكثر أو أقل.
نعم،ظواهر الأدلة في مسألتي الحج والصوم تساعد ما التزم به في الفصول من كون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً،فان قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1ظاهر في فعلية وجوب الحج عند فعلية الاستطاعة،كما أنّ قوله عزّ وجلّ «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» 2ظاهر في فعلية وجوب الصوم عند شهود الشهر،والشهود كناية عن أحد أمرين:إمّا الحضور في مقابل السفر،وإمّا رؤية الهلال،وعلى كلا التقديرين فالآية تدل على تحقق وجوب الصوم عند تحقق الشهود.نعم،ظواهر الأدلة في الصلوات الخمس لا تساعده،فان قوله (عليه السلام)«إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» 3ظاهر في تحقق الوجوب بعد الزوال.
وكيف كان،فقد ذكرنا أنّ الشرط المتأخر وإن كان ممكناً في نفسه ولا مانع من الالتزام به،إلّاأنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل،ففي كل مورد دلّ الدليل عليه فهو،وإلّا فلا نقول به.نعم،لو قلنا باستحالته فلا بدّ من رفع اليد عن ظواهر تلك الأدلة.
وبكلمة اخرى: ينبغي لنا أن نتكلم حول هذه المسألة في مقامين:
الأوّل:على القول بامكان الواجب التعليقي ووقوعه في الخارج.
الثاني:على القول باستحالته أو عدم وقوعه وإن قلنا بامكانه.
أمّا المقام الأوّل: فلا إشكال في لزوم الاتيان بالمقدمات التي لو لم يأت بها لفات الواجب عنه في ظرفه،من دون فرق فيه بين القول بوجوب المقدمة شرعاً والقول بعدم وجوبها كذلك،أمّا على الأوّل فواضح.وأمّا على الثاني فلاستقلال العقل بذلك بعد إدراكه توقف الاتيان بالواجب عليها،حيث إنّ وجوبه فعلي على الفرض،ومن المعلوم أنّ العقل يستقل في مثله بلزوم امتثاله، فلو توقف على مقدمات حكم بلزوم الاتيان بها أيضاً لأجل ذلك.
وعلى الجملة:فعلى ضوء هذا القول لا فرق بين المقدمات التي لا بدّ من الاتيان بها قبل وقت الواجب كمقدمات الحج،والغسل في الليل،وما شاكل ذلك،وبين غيرها من المقدمات العامة فيما إذا علم المكلف بأ نّه لو لم يأت بها قبله عجز عنها في وقته،فإنّه كما يحكم بلزوم الاتيان بالاُولى يحكم بلزوم الاتيان بالثانية،ولا فرق بينهما من هذه الناحية.
وإليه أشار ما في الكفاية 1من أنّ الوجوب لو صار فعلياً لوجب حفظ القدرة على المقدمات في مورد يعلم المكلف أ نّه يعجز عن الاتيان بها في زمن
الواجب.فالنتيجة:هي لزوم الاتيان بتمام مقدمات الواجب المعلّق قبل زمانه، أو التحفظ عليها إذا كانت حاصلة فيما إذا علم المكلف بعدم تمكنه منها في وقته.
نعم،المقدمات التي اعتبرت من قبلها القدرة الخاصة وهي القدرة في ظرف العمل فلا يجب تحصيلها قبل مجيء وقته،بل يجوز تفويتها اختياراً،بل ولا مانع منه في بعض الموارد بعد الوقت،وذلك كاجناب الرجل نفسه اختياراً بمواقعة أهله بعد دخول وقت الصلاة وهو يعلم بعدم تمكنه من الطهارة المائية بعده،فانّه يجوز ذلك حيث إنّ القدرة المعتبرة هنا قدرة خاصة-وهي القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله-وستجيء الاشارة إلى ذلك.وأمّا إجناب نفسه بطريق آخر كالنوم أو نحوه في الوقت مع علمه بعدم التمكن من الطهارة المائية فلا يجوز.
وعلى الجملة:فالواجبات في الشريعة الاسلامية المقدسة تختلف من هذه الناحية-أي من ناحية اعتبار القدرة فيها من قبل مقدماتها-فقد تكون قدرة مطلقة،وقد تكون قدرة خاصة،فعلى الأوّل يجب الاتيان بها ولو قبل دخول وقتها،دون الثاني،هذا بحسب مقام الثبوت،وأمّا بحسب مقام الاثبات فالمتبع في ذلك دلالة الدليل.
وأمّا المقام الثاني: وهو ما إذا افترضنا استحالة الواجب المعلّق أو قلنا بامكانه ولكن فرضنا عدم مساعدة الدليل على وقوعه،وذلك كوجوب تعلم الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ،إذ لو قلنا بعدم وجوبه عليهم-كما هو الصحيح وستجيء الاشارة إليه-فلازمه جواز تفويت الصلاة أوّل بلوغهم مقداراً من الزمن يتمكنون من التعلم فيه،ولا يمكن الالتزام بوجوب التعلم من ناحية سبق وجوب الصلاة أو نحوها على البلوغ،وإن قلنا بامكان الواجب المعلّق،وذلك لفرض عدم التكليف على الصبيان،فالنتيجة أنّ الاشكال في
المقدمات المفوّتة في أمثال هذه الموارد،وأ نّه كيف يمكن الحكم بوجوبها مع عدم وجوب ذيها.وقبل التعرض لدفع الاشكال وبيان الأقوال فيه ينبغي تقديم أمرين:
الأوّل: أنّ ما اشتهر بين الأصحاب من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً في غاية الصحة والمتانة،فلو اضطرّ الانسان نفسه باختياره إلى ارتكاب محرّم كما لو دخل في الأرض المغصوبة أو ألقى نفسه من شاهق أو ما شاكل ذلك،فعندئذ وإن كان التكليف عنه ساقطاً،لكونه لغواً صرفاً بعد فرض خروج الفعل عن اختياره،وأمّا عقابه فلا قبح فيه أصلاً، وذلك لأنّ هذا الاضطرار حيث إنّه منتهٍ إلى الاختيار فلا يحكم العقل بقبحه أبداً.
وناقش في هذه القاعدة طائفتان:فعن أبي هاشم المعتزلي 1أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً،وكان للمولى في المثالين المذكورين أن ينهى عن التصرف في مال الغير بدون إذنه،ويأمر بحفظ نفسه،بدعوى أ نّه لا مانع من التكليف بغير المقدور إذا كان مستنداً إلى سوء اختياره.ويظهر اختيار هذا القول من المحقق القمي (قدس سره) أيضاً 2.وفي مقابل هذا القول ادّعى جماعة منافاته للاختيار عقاباً وخطاباً.أمّا الخطاب فهو واضح،لأنّه لغو صرف.وأمّا العقاب فلأ نّه عقاب على غير مقدور وهو قبيح عقلاً.
ولنأخذ بالنقد على كلا القولين:
أمّا القول الأوّل: فلأنّ الغرض من التكليف هو إحداث الداعي للمكلف
بالاضافة إلى المكلف به،وعليه فإن كان المكلف به مقدوراً لم يكن التكليف به لغواً،حيث إنّه يمكن أن يصير داعياً إليه،وإن لم يكن مقدوراً كان التكليف به لغواً محضاً،لعدم إمكان كونه داعياً،ومن الواضح أ نّه لا فرق في هذه النقطة بين أن يكون مستند عدم القدرة سوء الاختيار أو غيره،بداهة أنّ عدم القدرة المسبب عن سوء الاختيار لايصحح تكليف المولى لغير القادر وإلّا لجاز للمولى أن يأمر عبده بالجمع بين الضدّين معلّقاً على أمر اختياري كالصعود على السطح أو نحو ذلك،وهو باطل قطعاً حتّى عند القائل بهذا القول.
وأمّا القول الثاني: فلأنّ الخطاب وإن كان لغواً كما عرفت إلّاأ نّه لا مانع من العقاب،وذلك لأنّ المكلف حيث كان متمكناً في بداية الأمر أن لا يجعل نفسه مضطراً إلى ارتكاب الحرام ومع ذلك لو جعل نفسه كذلك بسوء اختياره وارتكب الحرام حكم العقل باستحقاقه العقاب لا محالة،لأنّه منته إلى اختياره، ومن الطبيعي أنّ العقل لا يفرّق في استحقاق العقاب على فعل الحرام بين كونه مقدور الترك بلا واسطة أو معها،وإنّما يحكم بقبح استحقاقه على ما لا يكون مقدوراً له أصلاً.فالنتيجة:أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً.
نعم،قد تستعمل هذه القاعدة في مقام نقد نظرية الجبر وعدم الاختيار للعبد، ولكنّه بمعنى آخر،والفرق بين المعنيين هو أنّ المراد من الامتناع هنا الامتناع الوقوعي،والمراد من الامتناع هناك هو الامتناع بالغير وهو اختيار العبد وإرادته.وقد تقدّم الكلام فيها من هذه الناحية بشكل موسع عند ما تعرضنا لنظرية الجبر ونقدها 1.
الثاني: أ نّه لا فرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الالزامي الفعلي وبين تفويت حقيقة التكليف وروحه،وهو الملاك التام الملزم الذي يدعو المولى إلى اعتبار الايجاب تارة،وإلى جعل التحريم تارة اخرى، فإذا أحرز العبد ذلك الملاك في فعل وإن علم بعدم التكليف به استحقّ العقاب على تفويته،من دون فرق في ذلك بين أن يكون المانع من التكليف قصوراً في ناحية المولى نفسه،كما إذا كان غافلاً أو نائماً واتّفق في هذا الحال غرق ولده أو حرقه وكان عبده متمكناً من إنقاذه،فعندئذ لو خالف ولم ينقذه فلا شبهة في استحقاقه العقاب،أو قصوراً في ناحية العبد،كما إذا علم بأنّ الملاك تام في ظرفه وأ نّه لو لم يحفظ قدرته عليه لم يكن قابلاً لتوجيه التكليف إليه،فعندئذ لو خالف وعجز في ظرف التكليف عن امتثاله،فعجزه هذا وإن كان مانعاً عن توجه التكليف إليه،لعدم القدرة،إلّاأ نّه يستحقّ العقاب على تفويت الغرض الملزم فيه حيث كان قادراً على حفظ قدرته واستيفائه.فالنتيجة:أ نّه لا فرق عند العقل في الحكم باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الفعلي وبين تفويت الغرض الملزم فيما لا يمكن جعل التكليف على طبقه.
وبعد ذلك نقول: الكلام هنا يقع في مقامين:الأوّل:في غير التعلم من المقدمات.الثاني:في التعلم.
أمّا المقام الأوّل: فالكلام فيه تارة يقع في مقام الثبوت،واُخرى في مقام الاثبات.أمّا الكلام في مقام الثبوت فيتصور على وجوه:
الأوّل: أن يكون ملاك الواجب تاماً والقدرة المأخوذة فيه من قبل مقدماته هي القدرة العقلية وغير دخيلة في ملاكه،وذلك كحفظ بيضة الاسلام أو حفظ النفس المحترمة أو ما شاكل ذلك،إذا افترضنا أنّ المكلف علم بأ نّه لو تحفظ
على قدرته هذه أو لو أوجد المقدمة الفلانية لتمكن من حفظ بيضة الاسلام أو النفس المحترمة بعد شهر مثلاً،وإلّا لم يقدر عليه،ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يستقل العقل بوجوب التحفظ عليها أو بلزوم الاتيان بها لئلّا يفوته الملاك الملزم فيه في ظرفه،وقد عرفت عدم الفرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة الأمر أو النهي الفعلي وتفويت الملاك الملزم.
وكذا الحال لو كان عدم فعلية التكليف من ناحية عدم دخول الوقت أو عدم حصول الشرط،إذا افترضنا أنّ ملاك الواجب تام في ظرفه،والقدرة فيه شرط عقلي فلا دخل لها بملاكه أصلاً،وذلك كما إذا فرض أنّ ملاك الحج مثلاً تام في وقته وقد أحرزه المكلف ولم يكن التكليف المتعلق به فعلياً،إمّا من ناحية استحالة الواجب التعليقي أو من ناحية عدم مساعدة الدليل عليه،ففي مثله لا محالة يحكم العقل بوجوب الاتيان بتمام مقدماته التي لها دخل في تمكن المكلف من امتثاله في ظرفه وإلّا لفاته الملاك الملزم باختياره،حيث إنّه يعلم بأ نّه لو لم يأت بها لصار عاجزاً عن إتيان الواجب في وقته،وبما أنّ عجزه مستند إلى اختياره فيدخل في كبرى القاعدة الآنفة الذكر:الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً،فعندئذ يستحقّ العقاب على ذلك.
وإن شئت قلت: إنّ ترك المقدمة في أمثال المقام حيث إنّه يؤدي إلى تعجيز المولى عن تكليفه مع ثبوت المقتضي له،فبطبيعة الحال يحكم العقل بعدم جوازه وبقبح ذلك.فالنتيجة:أنّ في كل مورد علم المكلف بتمامية ملاك الواجب في ظرفه وعلم بأ نّه لو ترك مقدمة من مقدماته قبل وقته أو شرطه لعجز عن إتيانه فيه،فلا محالة يحكم العقل بلزوم إتيانها لفاقدها في أوّل أزمنة الامكان، لتحصيل القدرة على الواجب،ووجوب حفظها لواجدها،لا من ناحية أنّ
تركها يؤدي إلى ترك الواجب الفعلي،لفرض أنّ الواجب ليس بفعلي لا قبل الوقت كما هو واضح،ولا بعده لعدم تمكنه وعجزه عن القيام به،بل من ناحية أ نّه يؤدي إلى تفويت الغرض الملزم،وقد عرفت حكم العقل بقبحه واستحقاق العقاب عليه.
ثمّ إنّه هل يمكن استكشاف الحكم الشرعي من هذا الحكم العقلي بوجوب المقدمة بقاعدة الملازمة؟ فيه وجهان:فقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1الوجه الأوّل بدعوى أنّ حكم العقل بذلك دليل على جعل الشارع الايجاب للمقدمة حفظاً للغرض،فيكون ذلك الجعل متمماً للجعل الأوّل.
والصحيح:هو الوجه الثاني،والسبب في ذلك أنّ مثل هذا الحكم العقلي لا يعقل أن يكون كاشفاً عن جعل حكم شرعي مولوي في مورده،بداهة أ نّه لغو صرف،فان حكم العقل باستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة وتفويت الغرض يكفي في لزوم حركة العبد وانبعاثه نحو الاتيان بالمقدمات،كما هو الحال في مطلق موارد حكمه بحسن الاطاعة وقبح المعصية.نعم،الملازمة بين الحكمين في مقام الاثبات إنّما تكون فيما إذا كان العقل مدركاً لملاك الحكم من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة،وأين ذلك من إدراكه استحقاق العقاب كما في المقام،فما أفاده (قدس سره) خاطئ جداً،وعليه فلو ورد حكم من الشارع في أمثال هذا المورد لكان إرشاداً إلى حكم العقل لا محالة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة:وهي أنّ في أمثال هذه الموارد لا إشكال في حكم العقل بوجوب الاتيان بالمقدمة قبل وجوب ذيها،وعلى ضوئها يندفع الاشكال عن كثير من الموارد،منها:وجوب الاتيان بمقدمات الحج قبل وقته.
الثاني: ما إذا كانت القدرة فيه شرطاً شرعياً ودخيلة في ملاكه وهذا يتصوّر على أقسام:
الأوّل:أن يكون الشرط هو القدرة المطلقة على سعتها.
الثاني:أن يكون الشرط هو القدرة الخاصة،وهي القدرة بعد حصول شرط خاص من شرائط الوجوب.
الثالث:أن يكون الشرط هو القدرة في وقت الواجب.
أمّا القسم الأوّل: فحاله حال ما إذا كانت القدرة شرطاً عقلياً حرفاً بحرف، إلّا في نقطة واحدة وهي أنّ القدرة إذا كانت شرطاً عقلياً لم يكن لها دخل في ملاك الواجب فانّه تام في كلتا الحالتين:التمكن وعدمه،وإذا كانت شرطاً شرعياً كان لها دخل في ملاكه،ولا ملاك له في حال عدم التمكن.ولكن هذه النقطة غير فارقة فيما نحن فيه،وذلك لأنّ الشرط إذا كان القدرة المطلقة كما هو المفروض وجب تحصيلها في أوّل أزمنة الامكان وإن كان قبل زمن الوجوب،وحرم عليه تفويتها إذا كانت موجودة،فإنّه مع التمكن من إتيان الواجب في ظرفه ولو باعداد أوّل مقدماته قد تمّ ملاكه فلا يجوز تفويته،وقد عرفت استقلال العقل بقبحه والعقاب عليه بقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً.فالنتيجة:
أ نّه لا فرق بين هذا القسم والقسم السابق فيما هو المهم في المقام أصلاً.
وأمّا القسم الثاني: فلا يجب فيه على المكلف تحصيل القدرة على الواجب من قبل مقدماته قبل تحقق شرطه،بل يجوز له تفويتها إذا كانت حاصلة وذلك كمقدمات الحج مثلاً،فإنّه لا بدّ من أن يفرّق بين حالتي حصول هذا الشرط – وهو الاستطاعة-وعدمه،فعلى الأوّل يستقلّ العقل بوجوب الاتيان بها ليتمكّن من الاتيان بالواجب في ظرفه،لفرض أنّ ملاكه قد تمّ فلا حالة منتظرة
له،وعليه فلو ترك الاتيان بها بسوء اختياره وأدّى ذلك إلى ترك الواجب في وقته استحقّ العقاب،لا من ناحية أ نّه خالف التكليف الفعلي ليقال إنّه غير فعلي،بل من ناحية أ نّه فوّت الملاك الملزم،وقد تقدّم أنّ العقل لا يفرّق بينهما في استحقاق العقاب،فإذن يدخل المقام تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،وعلى الثاني فلا يحكم العقل بوجوب الاتيان بها،بل لا مانع من تفويتها إذا كانت حاصلة،لفرض أنّ ملاك الواجب غير تام،ومعه لا مقتضي للوجوب أصلاً.
وإن شئت قلت: إنّ ترك هذه المقدمات وإن استلزم ترك الواجب في موطنه، إلّا أ نّه لا قبح فيه،وذلك لأنّ القبيح أحد أمرين:إمّا مخالفة التكليف الفعلي والمفروض عدمه،أو تفويت الغرض الملزم،والفرض خلافه،فإذن ما هو الموجب لقبحه.
فالنتيجة:أنّ القدرة المأخوذة في الواجب-وهو الحج-من قبل مقدماته قدرة خاصة،وهي القدرة بعد حصول هذا الشرط-وهو الاستطاعة-اتفاقاً، ولذا لا يجب على المكلف تحصيله،بل يجوز له تفويته بالمنع من تحققه فيما إذا وجد المقتضي له،كما إذا أراد شخص أن يهب مالاً لآخر ليستطيع به فللآخر أن لا يقبل،أو أراد أن يبذل له مبلغاً يكفيه لحجه فالتمس منه أن لا يبذل له ذلك وهكذا،وعلى هذا الضوء فلا إشكال في وجوب الاتيان بمقدمات الحج بعد الاستطاعة وقبل الموسم.
وأمّا القسم الثالث: وهو ما اخذت فيه حصة خاصة من القدرة-وهي القدرة في وقت الواجب-فلا يجب على المكلف تحصيل القدرة عليه من قبل مقدماته قبل دخول وقته،بل يجوز له تفويتها إذا كانت موجودة،وذلك لأنّ الواجب لا يكون ذا ملاك ملزم إلّابعد القدرة عليه في زمنه،وأمّا القدرة عليه
قبله فوجودها وعدمها بالاضافة إليه سيّان،وذلك كالصلاة مع الطهارة المائية حيث إنّ القدرة المعتبرة فيها قدرة خاصة-وهي القدرة عليها بعد دخول وقتها-وأمّا قبله فلا يجب على المكلف تحصيلها،بل ولا حفظها إذا كان واجداً لها،لفرض عدم دخلها في ملاكها قبل الوقت أصلاً،فان تمكن منها بعده وجب عليه تحصيلها وإلّا فلا،بداهة أنّ إيجاد الموضوع وإحداث الملاك في الفعل غير واجب على المكلف،بل يجوز له تفويته بجعل نفسه محدثاً باختياره أو باهراق الماء عنده.
ونظير ذلك السفر بالاضافة إلى وجوب القصر في الصلاة،وقصد الاقامة بالاضافة إلى وجوب التمام والصيام،حيث إنّه لا ملاك لوجوب القصر قبل السفر،ولوجوب التمام قبل قصد الاقامة،ومن الواضح أنّ في مثل ذلك لا يجب عليه إيجاد السفر،ولا قصد الاقامة،إذ بتركهما لا يفوته شيء،لا تكليف ولا ملاك،أمّا الأوّل فواضح،وأمّا الثاني،فلأ نّه لا ملاك لوجوب القصر قبل تحقق السفر ولا لوجوب التمام والصيام قبل قصد الاقامة.
وشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1ذهب إلى الفرق بين تفويت القدرة قبل الوقت بجعل نفسه محدثاً باختياره بجماع أو نحوه مع علمه بعدم تمكنه من الماء بعد الوقت،وتفويتها باهراق الماء،فاختار الجواز في الأوّل وعدمه في الثاني، واستند في هذه التفرقة إلى وجود رواية صحيحة.ولكن قد ذكرنا في التعليقة 2أنّ هذا غفلة منه (قدس سره) حيث لم ترد في هذا الموضوع أيّة رواية فضلاً عن الرواية الصحيحة.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا يجب حفظ القدرة قبل الوقت،ولا تحصيلها، وأمّا بعد الوقت فهو واجب.نعم،وردت رواية معتبرة 1في جواز الجنابة مع الأهل فحسب بعد دخول الوقت مع عدم وجود الماء الكافي عنده للاغتسال، ولكن لا بدّ من الاقتصار على مورد هذه الرواية-وهو الجماع مع الأهل-ولا يمكن التعدي عنه إلى غيره،فلا يجوز إجناب نفسه بسبب آخر من احتلام أو نحوه.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ التفصي عن الاشكال المزبور لا يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي،بل يمكن التفصي عنه على ضوء الالتزام بالقسم الأوّل من الواجب والثاني والثالث.
هذا كلّه فيما إذا علم بدخل القدرة في ملاك الواجب في وقته أو عدم دخلها فيه كذلك.وأمّا إذا شكّ ولم يحرز ذلك فهل يجب الاتيان بمقدماته قبل وقته فيما إذا علم بعدم تمكنه منها فيه ؟
الظاهر عدم وجوبه،وذلك لما حققناه في بحث الترتب على ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى من أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام الواقعية من الخارج، غاية الأمر أ نّنا نستكشف تلك الملاكات من الأمر والنهي المولويين،وعليه فبطبيعة الحال تكون سعة الملاك في مرحلة الاثبات بقدر سعة الأمر دون الزائد،فلو لم يكن أمر في مورد أصلاً أو كان ولكنّه سقط من ناحية عجز المكلف عن الامتثال،لم يكن لنا طريق إلى وجود الملاك فيه،لاحتمال أن يكون سقوط الأمر لأجل انتفاء المقتضي له في هذا الحال،لا لوجود المانع مع ثبوته، وقلنا هناك إنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أ نّه يمكن إحراز
الملاك من التمّسك باطلاق المتعلق عند سقوط الأمر خاطئ جداً،ضرورة أنّ مجرد إطلاق المتعلق لايكون دليلاً على وجود الملاك فيه كذلك على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى.
وبما أنّ فيما نحن فيه لم نحرز أنّ ترك المقدمة قبل الوقت مستلزم لتفويت ملاك الواجب في ظرفه،لاحتمال أنّ القدرة من قبلها دخيلة في ملاكه في وقته، وعليه فلو لم يأت بها قبل الوقت والمفروض عدم تمكنه بعده لم يحرز فوت شيء منه لا الأمر الفعلي ولا الملاك الملزم،أمّا الأوّل فواضح.وأمّا الثاني فلاحتمال دخل القدرة الخاصة فيه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد تقدّم أنّ ملاك حكم العقل بالقبح أمران:أحدهما:
تفويت التكليف الفعلي.وثانيهما:تفويت الملاك الملزم.فالنتيجة على ضوئهما:
هي أ نّه لا ملاك لحكم العقل بالقبح في المقام،لفرض عدم إحرازه الملاك،ومن هذا القبيل ما إذا علم شخص أ نّه إذا نام في الساعة المتأخرة من الليل لفاتته صلاة الصبح،كما إذا لم يبق فرضاً من الصبح إلّاساعة واحدة مثلاً فإنّه يجوز له ذلك،لفرض أنّ الأمر غير موجود قبل الوقت،وأمّا الملاك فغير محرز، لاحتمال دخل القدرة الخاصة فيه.
وأمّا الكلام في مقام الاثبات: فقد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام ما عدا نفس تلك الأحكام،إلّافيما قامت قرينة خارجية على ذلك،وعلى هذا الضوء فان أحرزنا من الخارج اشتمال الواجب على ملاك ملزم في ظرفه،فبطبيعة الحال وجب الاتيان بمقدماته قبل وقته إذا علم بعدم تمكنه منها في ظرفه،وإن لم نحرز ذلك من الخارج،فإن كان وجوبه فعلياً كشف عن أنّ ملاكه تام،وإلّا فلا طريق لنا إليه،ومن هنا قلنا إنّ الأمر إذا سقط في مورد لم يمكن إحراز الملاك فيه،لاحتمال أن يكون سقوطه لأجل عدم
المقتضي له لا لأجل وجود المانع مع ثبوته،وعلى هذا الأساس فلو أنكرنا الوجوب التعليقي وقلنا بعدم إمكان تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب لم يمكن إحراز ملاكه قبل وقته.
وبكلمة اخرى:أنّ التفصي عن الاشكال المتقدم وإن أمكن بحسب مقام الثبوت بأحد الوجوه السالفة،إلّاأنّ إثبات تلك الوجوه جميعاً بدليل مشكل جداً.
ودعوى أنّ الظاهر من قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1هو أنّ ملاك الحج تام في ظرفه بعد حصول الاستطاعة،كما أنّ الظاهر من قوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» 2هو أنّ الصوم تام الملاك بعد دخول الشهر،فهي وإن كانت صحيحة إلّاأ نّه من جهة ظهور الآية في فعلية الوجوب بعد الاستطاعة،وكذا الآية الثانية،ومن المعلوم أ نّه يكشف عن وجود ملاك ملزم فيه في وقته،وأمّا لو رفعنا اليد عن هذا الظهور وقلنا بعدم فعلية وجوبه بعدها فلم يكن لنا طريق إلى أنّ ملاكه تام في ظرفه،فعندئذ كيف يمكن الحكم بوجوب مقدّماته قبل زمانه.فالنتيجة:أنّ الاشكال إنّما هو على ضوء نظرية القائلين باستحالة الواجب التعليقي والشرط المتأخر،وأمّا على ضوء نظريتنا من إمكانه بل وقوعه خارجاً كما في أمثال هذين الموردين فلا إشكال من أصله.
وأمّا المقام الثاني: وهو التعلم،فقد ذكر جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ وجوب التعلم ليس بملاك وجوب بقية المقدمات المعدّة التي يستلزم تركها ترك الواجب بملاكه الملزم،وتفويتها تفويته كذلك،بل وجوبه بملاك آخر وهو لزوم دفع الضرر المحتمل.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يتم على إطلاقه،والسبب في ذلك هو أنّ ترك التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يقع على أنحاء:
الأوّل: أ نّه لا أثر لترك التعلم قبل الوقت،وذلك لتمكّن المكلف من تعلّم الواجب بجميع أجزائه وشرائطه بعد دخول وقته أو حصول شرطه كالحج مثلاً، فان باستطاعة العبد أن يتعلم أحكامه تدريجاً اجتهاداً أو تقليداً من اليوم الذي يجب عليه الإحرام إلى اليوم الذي تنتهي نسكه،ومن الطبيعي أنّ في مثله لايجب عليه التعلم قبل دخول الوقت،لعدم فوت شيء منه بعده.نعم،إذا جاء وقته لم يجز له تركه،حيث إنّ فيه احتمال مخالفة التكليف الفعلي المنجّز وهو مساوق لاحتمال العقاب،إذ لا مؤمّن منه،فانّ البراءة لا تجري قبل الفحص،ومعه لا محالة يستقلّ العقل بوجوبه وعدم جواز تركه.
الثاني: أنّ ترك التعلم قبل الوقت مؤثر في فقد تمييز الواجب عن غيره، يعني أنّ المكلف لا يتمكن معه من الامتثال العلمي التفصيلي بعد الوقت،ولكنّه
متمكن من الامتثال العلمي الاجمالي،وذلك كما إذا تردد أمر الواجب بين المتباينين كالقصر والاتمام أو الظهر والجمعة أو ما شاكل ذلك،فلو ترك المكلف التعلم قبل الوقت لم يتمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده،إمّا من ناحية عدم سعة الوقت لذلك،أو من ناحية فقدان الوسيلة،ولكنّه متمكن من إحراز امتثاله اجمالاً بطريق الاحتياط،وفي هذا القسم هل يجب التعلم ؟ الظاهر عدم وجوبه،وذلك لما حققناه في محلّه 1من أنّ الامتثال الاجمالي في عرض الامتثال التفصيلي وإن استلزم التكرار.
الثالث: أنّ المكلف إذا ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يكون متمكناً من الامتثال العلمي التفصيلي بعد دخوله،كذلك لا يكون متمكناً من الامتثال العلمي الاجمالي.نعم،هو متمكن من الاتيان بذات الواجب يعني الامتثال الاحتمالي،وذلك كما إذا افترضنا أنّ الوقت ضيّق فلا يتمكن المكلف إلّامن الاتيان بفعل واحد،إمّا القصر أو التمام،أو الظهر أو الجمعة،وفي هذا القسم هل يجب التعلم قبل دخول الوقت ؟
الظاهر وجوبه،وذلك لابملاك قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، إذ المفروض عدم امتناع الواجب بترك التعلم،بل بملاك قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حيث إنّ في الاكتفاء بما يحتمل انطباق المأمور به عليه احتمال المخالفة للتكليف الفعلي من دون مؤمّن في البين،فلا محالة يحتمل العقاب،ومعه يستقلّ العقل بوجوب دفعه،وهو لا يمكن إلّابالتعلم قبل الوقت.ومنه يظهر أنّ ملاك حكم العقل هنا ليس احتمال تفويت الملاك الملزم في ظرفه.
هذا كلّه فيما إذا ترك المكلف التعلم قبل الوقت اختياراً ومتعمداً،أي مع
التفاته إلى أ نّه يؤدّي إلى عدم إحراز امتثال الواجب في ظرفه.
وأمّا إذا كان معذوراً في تركه قبله ثمّ بعد دخوله تردد أمره بين شيئين كالقصر والاتمام مثلاً،لم يتنجز الواقع عليه على كل تقدير،إذ المفروض أ نّه لا يتمكن من الجمع بينهما،بل يتنجز على تقدير دون آخر،وسمّينا ذلك في بحث الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الاجمالي بالتوسط في التنجيز 1،ومردّه إلى وجوب الاتيان بأحدهما لتمكن المكلف منه،سواء أكان موافقاً للواقع أم كان مخالفاً له،غاية الأمر أنّ المكلف في صورة المخالفة معذور،وذلك كالصبي في أوّل بلوغه إذا دار أمره بين شيئين كالظهر والجمعة مثلاً ولا يتمكن من الجمع بينهما ولا من التعلم،فعندئذ بطبيعة الحال الواجب عليه هو الاتيان بإحداهما ولا يكون معذوراً في تركها.
الرابع: أنّ ترك التعلم قبل الوقت موجب لترك الواجب في ظرفه،إمّا للغفلة عن التكليف أصلاً،أو لعدم التمكن من امتثاله،والأوّل كثيراً ما يتفق في المعاملات،حيث إنّ المتعاملين من جهة ترك تعلم أحكام المعاملات لا يميّزان الصحيحة منها عن الفاسدة،فإذا أوقعا معاملة فاسدة في الخارج وتحقق النقل والانتقال بنظرهما فبطبيعة الحال يتصرف كل منهما فيما انتقل إليه غافلاً عن أ نّه حرام،والثاني كثيراً ما يتفق في العبادات كالصلاة ونحوها،فانّها حيث كانت مركبة من عدّة امور:التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ونحو ذلك،ومشروطة بعدة شرائط كطهارة البدن واللباس واستقبال القبلة وما شاكلها،ومن الطبيعي أنّ تعلم الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها يحتاج إلى مدّة من الزمن ولا سيّما لمن لم يحسن اللغة العربية،وفي هذا القسم يجب التعلم قبل
الوقت،وذلك لاستقلال العقل بذلك وأ نّه لو لم يتعلم لفاته الغرض الملزم في ظرفه،ومعه يستحقّ العقاب،لما عرفت من قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.هذا كلّه فيما لم يكن الواجب مشروطاً بقدرة خاصة شرعاً من ناحية التعلم والمعرفة.
وأمّا إذا كان مشروطاً بها كذلك لم يجب التعلم قبل دخول الوقت،لأنّه لا وجوب حتّى يجب التعلم مقدمة لاتيان الواجب في ظرفه،ولا له ملاك ملزم كذلك كي يستلزم ترك التعلم تفويته،لفرض أنّ ملاكه إنّما يتم بالقدرة عليه في وقته من قبل التعلم،ولا أثر لها فيه قبل دخوله أصلاً،وعليه فلا وجوب لا قبل دخول الوقت أو حصول الشرط،ولا بعده.
أمّا الأوّل فواضح،وأمّا الثاني فلعدم تمكنه منه،إمّا من ناحية الغفلة أو من ناحية عدم القدرة على التعلم لضيق الوقت أو نحوه،وعلى هذا الضوء فلا يمكن الالتزام بوجوب التعلم في هذه الصورة إلّابناءً على الالتزام بمقالة المحقق الأردبيلي (قدس سره) وهو الوجوب النفسي للتهيؤ إلى الغير 1.
ثمّ إنّ هذا الوجوب بطبيعة الحال يختص بمن كان التكليف متوجهاً إليه لولا عجزه من ناحية عدم التعلّم،وأمّا بالاضافة إلى غيره فلا معنى للوجوب النفسي، وذلك كالرجال بالاضافة إلى تعلم أحكام النِّساء،فانّه لايجب عليهم ذلك نفساً، لعدم ملاكه وهو التهيؤ لامتثال التكليف الواقعي.نعم،يجب كفاية تحصيل هذه الأحكام اجتهاداً،ومن المعلوم أنّ هذا خارج عن محل الكلام،هذا بحسب الكبرى.
وغير خفي أنّ هذه الكبرى وإن كانت ثابتة،إلّاأنّ المقام ليس من
صغرياتها،وذلك لأنّ مقتضى إطلاق الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم والسؤال هو عدم أخذ القدرة الخاصة من قبله في الواجب،وأ نّه ليس للتعلم أيّ دخل في صيرورة الواجب ذا ملاك ملزم،فان إطلاق قوله (عليه السلام) «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له هلّا عملت،فيقول:ما علمت،فيقال له:هلّا تعلّمت» 1يدل على ثبوت الملاك للواجب في ظرفه حتّى بالاضافة إلى العاجز عنه من ناحية تركه التعلم.
فالنتيجة على ضوء ذلك:هي وجوب تعلم الأحكام على المكلف مطلقاً، من دون فرق بين الأحكام المطلقة والمشروطة بالوقت أو بغيره،فلو تركه قبل الوقت أو قبل حصول الشرط وأدّى تركه إلى ترك الواجب في ظرفه استحقّ العقاب عليه،بقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،فالقدرة من قبله قدرة مطلقة،وأمّا القدرة من قبل سائر المقدمات فهي في العموم والخصوص تابعة لأدلتها كما تقدّم.هذا فيما إذا علم المكلف أو اطمأنّ بالابتلاء بها كأحكام الصلاة والصيام والحج ونحوها.
وأمّا فيما إذا احتمل ذلك فهل يجب التعلم ؟ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو وجوبه بعين الملاك المتقدم.
ولكن قد يقال بعدم وجوبه،بدعوى التمسك باستصحاب عدم الابتلاء بالاضافة إلى الزمن المستقبل،حيث إنّ عدم الابتلاء فعلاً متيقن ويشك فيه فيما بعد فيستصحب عدمه على عكس الاستصحاب المتعارف.
واُورد على هذا بايرادين:
الأوّل: أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن شمول هذا النحو من الاستصحاب