آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
المسمّى بالاستصحاب الاستقبالي،فيختص بما إذا كان المتيقن سابقاً والمشكوك لاحقاً.
الثاني: أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان المستصحب بنفسه أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي،وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك لم يجر الاستصحاب، والمقام كذلك،فانّ الأثر-وهو استقلال العقل بوجوب التعلم-إنّما هو مترتب على مجرّد احتمال الابتلاء من جهة دفع الضرر المحتمل،لا على واقعه حتّى يدفعه باستصحاب عدمه.
وإن شئت قلت:إنّ الأثر في كل مورد إذا كان مترتباً على نفس الشك والاحتمال دون الواقع،فمتى شكّ فيه فالموضوع محرز بالوجدان،ومعه لا معنى لورود التعبد بالواقع أصلاً،لأنّه لغو صرف،وما نحن فيه كذلك،فانّ الأثر فيه كما عرفت مترتب على نفس احتمال الابتلاء،والمفروض أ نّه محرز بالوجدان، فلا بدّ من ترتيب أثره عليه،وأمّا الابتلاء الواقعي فبما أ نّه لا أثر له فلا يجري استصحاب عدمه.
ولنأخذ بالنقد عليهما:
أمّا على الأوّل: فلأ نّه لا قصور في دليل الاستصحاب عن شمول هذا القسم،وذلك لأنّ مفاد أدلة الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين بالشك،ولا فرق في ذلك بين كون المتيقن بهذا اليقين سابقاً والمشكوك فيه لاحقاً كما هو الغالب أو بالعكس 1كما فيما نحن فيه.فالنتيجة:أنّ مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب عدم الفرق في جريانه بين الاُمور المتقدمة والمتأخرة،فكما يجري في الاُولى كذلك في الثانية،فما عن صاحب الجواهر (قدس سره) 2من الفرق
بينهما في غير محلّه.
وأمّا على الثاني: فلأ نّا قد ذكرنا في أوّل بحث البراءة،وكذا في مبحث الاستصحاب ضمن التعرض لقاعدة الفراغ أنّ الحكم العقلي وإن كان غير قابل للتخصيص إلّاأ نّه قابل للتخصّص والخروج الموضوعي،فان لزوم دفع الضرر المحتمل وقبح العقاب بلا بيان من القواعد التي قد استقلّ بها العقل،ومع ذلك يتسبب المولى إلى رفعهما برفع موضوعهما بجعل الترخيص في مورد الاُولى، والبيان في مورد الثانية،وليس هذا من التخصيص في شيء،بل رفعهما برفع موضوعهما وجداناً،فان موضوع الاُولى احتمال العقاب على فعل شيء أو ترك آخر،ومن الطبيعي أنّ هذا الاحتمال يرتفع وجداناً بجعل الشارع الترخيص في موردها.
وموضوع الثانية عدم البيان،ومن المعلوم أ نّه يرتفع كذلك بجعل الشارع البيان في موردها،مثلاً العقل يستقل بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ في موارد الشك في حصول الامتثال بعد العلم بالتكليف،ومع ذلك قد جعل الشارع قاعدة الفراغ في تلك الموارد،وهي رافعة وجداناً لموضوع ذلك الحكم العقلي، حيث إنّ موضوعه هو احتمال العقاب من ناحية احتمال أنّ العمل المأتي به خارجاً لم يكن مطابقاً للمأمور به،ومن المعلوم أ نّه لا احتمال له معها،وإن فرضنا أنّ العمل مخالف للواقع.
وما نحن فيه من هذا القبيل،فان احتمال الابتلاء الذي هو موضوع للأثر، وإن كان محرزاً بالوجدان،إلّاأنّ استصحاب عدم الابتلاء واقعاً إذا جرى كان رافعاً للابتلاء الواقعي تعبّداً،وبه يرتفع الموضوع-وهو احتمال الابتلاء – فيكون المكلف ببركة الاستصحاب عالماً بعدمه،وهذا ليس من التخصيص في
الحكم العقلي بشيء بل ارتفاعه بارتفاع موضوعه.
وإن شئت قلت:إنّ موضوع حكم العقل هنا هو احتمال العقاب على مخالفة الواقع،ومن الطبيعي أ نّه لا احتمال للعقاب بعد فرض التعبد الاستصحابي.
فالنتيجة:أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام خاطئ جداً.
الصحيح في المقام أن يقال:إنّ المانع عن جريان الاستصحاب هنا أحد أمرين:
الأوّل: العلم الاجمالي بالابتلاء بقسم من الأحكام الشرعية في ظرفها، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الاجمالي مانع عن جريان الاُصول النافية في أطرافه،حيث إنّ جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية، وجريانها في البعض دون الآخر مستلزم للترجيح من دون مرجّح،فلا محالة تسقط فيستقلّ العقل بوجوب التعلم والفحص.
الثاني: أنّ ما دلّ على وجوب التعلم والمعرفة من الآيات والروايات كقوله تعالى «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ» 2وقوله (عليه السلام)«هلّا تعلّمت» 3وما شاكل ذلك،وارد في مورد هذا الاستصحاب،حيث إنّ في غالب الموارد لايقطع الانسان بل ولا يطمئن بالابتلاء،فلو جرى الاستصحاب في هذه الموارد لم يبق تحت هذه العمومات والمطلقات إلّاموارد نادرة،وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به،فانّه تقييد المطلق بالفرد النادر،ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الاستصحاب في وجه تقديم قاعدة الفراغ عليه 4.
ثمّ إنّ الظاهر اختصاص وجوب التعلم بالموارد التي يقع ابتلاء المكلف بها عادة،وأمّا الموارد التي يقل الابتلاء بها كبعض مسائل الشكوك والخلل وما شاكله ممّا يكون الابتلاء به نادراً جداً فلا يجب التعلم فيها لا بحكم العقل ولا بحكم الشرع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ تعلم الأحكام الشرعية واجب مطلقاً،أي من دون فرق بين ما إذا علم المكلف الابتلاء بها أو اطمأنّ، وبين ما إذا احتمل ذلك عادة.نعم،فيما لا يحتمل الابتلاء كذلك لا يجب.
الاُولى: أنّ ما ذكرناه من وجوب التعلم قبل الوقت فيما إذا كان تركه موجباً إما لتفويت الملاك الملزم في ظرفه أو لفقد إحراز امتثال التكليف ولو إجمالاً، مختص بالبالغين،وأمّا الصبيان فلا يجب عليهم التعلم وإن علموا بفوات الواجب في وقته أو إحرازه،والسبب في ذلك هو أنّ البالغ إذا ترك التعلم وفات الواجب منه في زمنه لم يستحقّ العقاب على فوت الواجب،لفرض عدم قدرته عليه،وإنّما استحقّ العقاب على تفويت الملاك الملزم فيه من ناحية تفويت مقدمته اختياراً،وقد تقدّم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،ومن الطبيعي أنّ هذا المعنى لا يتأتى في حقّ الصبي،وذلك لأنّ الشارع قد رفع القلم عنه،ومقتضاه هو أنّ تركه التعلم قبل البلوغ كلا ترك،فلا يترتب عليه أيّ أثر،وبعد البلوغ لا يقدر على الواجب،فإذن لا يفوت منه شيء لا الواجب الفعلي ولا الملاك الملزم حتّى يستحقّ العقاب.
وعلى الجملة: فالصبي لا يكون مشمولاً لقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار،وذلك لأنّ اختيار الصبي كلا اختيار بمقتضى رفع القلم عنه، وعليه فلا يكون للواجب في ظرفه ملاك ملزم بالاضافة إليه.نعم،يؤدب
الصبي على ارتكاب بعض المعاصي ويمرّن على الصلاة والصيام لسبع أو تسع وهو أمر آخر،فلا صلة له بما نحن فيه.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من لزوم التعلم على الصبي بدعوى أنّ التمسك بحديث رفع القلم لرفع وجوب التعلم غير ممكن،وذلك لأنّ وجوبه عقلي،وحديث الرفع لا يرفع الوجوب العقلي.
خاطئ جداً،والوجه في ذلك:هو أنّ حكم العقل في المقام وإن كان يعمّ الصبي وغيره،إلّاأ نّه معلّق على عدم ورود التعبد من الشارع على خلافه، ومعه لا محالة يرتفع بارتفاع موضوعه،والمفروض أنّ التعبد الشرعي قد ورد على خلافه في خصوص الصبي-وهو حديث رفع القلم-فان مفاده أنّ فعل الصبي كلا فعل،فلا يترتب عليه أيّ أثر من استحقاق عقاب أو نحوه،وعلى هذا فلا يعقل استحقاق الصبي العقاب على تفويت الملاك بعد البلوغ استناداً إلى تركه التعلم قبله.
وإن شئت قلت:إنّ مقتضى حديث رفع القلم أو ما شاكله هو أنّ ملاك الواجب في ظرفه غير تام في حقه من ناحية التعلم والمعرفة لكي يكون تركه موجباً لتفويته واستحقاق العقاب عليه،كما هو الحال أيضاً بالاضافة إلى سائر مقدمات الواجب.
الثانية: أنّ وجوب التعلم لا يخلو من أن يكون نفسياً أو غيرياً أو إرشادياً أو طريقياً،فلا خامس في البين،أمّا النفسي فهو وإن كان محتملاً وقد اختاره المحقق الأردبيلي (قدس سره) 2إلّاأ نّه خلاف ظواهر الآيات والروايات الدالة
على ذلك كما عرفت.وأمّا الوجوب الغيري فهو مبتن على أن يكون التعلم مقدمة لوجود الواجب خارجاً وترك الحرام كذلك كبقية المقدمات الوجودية، ولكنّه ليس كذلك،ضرورة أنّ الاتيان بذات الواجب وترك نفس الحرام لا يتوقفان عليه.نعم،يتوقف الاتيان بالواجب إذا كان مركباً على تعلم أجزائه وشرائطه،وذلك كالصلاة وما شاكلها،إلّاأنّ وجوبه لا يدور مدار القول بوجوب المقدمة،بل هو ثابت بالآيات والروايات.
وأمّا الوجوب الارشادي بأن يكون ما دلّ عليه من الكتاب والسنّة إرشاداً إلى ما استقلّ به العقل من وجوب تعلم الأحكام،نظير ما ذكرناه في الآيات الناهية عن العمل بغير العلم،من أنّ مفادها إرشاد إلى ما استقلّ به العقل،وهو عدم جواز العمل بالظن،فيرد عليه:أ نّه لو كان وجوبه ارشادياً لم يكن مانع من جريان البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية قبل الفحص،وذلك لأنّ المقتضي له-وهو إطلاق أدلتها-موجود على الفرض،وعمدة المانع عنه إنّما هي وجود تلك الأدلة،والمفروض أ نّها على هذا التفسير حالها حال حكم العقل فغير صالحة للمانعية،فان موضوعها يرتفع عند جريانها كحكم العقل، ومثلها كيف يصلح أن يكون مانعاً.
وعلى الجملة:فعلى ضوء هذا التفسير كما أنّ البراءة الشرعية تجري في الشبهات الموضوعية قبل الفحص كذلك تجري في الشبهات الحكمية قبله فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً،فان عمدة الدليل على تقييد إطلاق أدلتها في الشبهات الحكمية بما بعد الفحص إنّما هو تلك الأدلة،وإذا افترضنا أنّ مدلولها حكم إرشادي فهي لا تصلح لذلك.نعم،لا تجرى البراءة العقلية،لعدم إحراز موضوعها قبل الفحص.
فالنتيجة: أ نّه يتعين الاحتمال الأخير-وهو كون وجوب التعلم وجوباً
طريقياً-ويترتب عليه تنجيز الواقع عند الاصابة،لأنّه أثر الوجوب الطريقي كما هو شأن وجوب الاحتياط ووجوب العمل بالأمارات وما شاكل ذلك، وعليه فتكون هذه الأدلة مانعة عن جريان البراءة فيها قبل الفحص وتوجب تقييد إطلاق أدلتها بما بعده.
الثالثة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1نقل عن بعض الرسائل العملية لشيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 2أ نّه حكم فيه بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلي به عامة المكلفين،وقد تعجب (قدس سره) من ذلك ونسب الاشتباه إلى من جمع فتاواه في الرسالة،وعلّله بأحد امور:
الأوّل: أنّ هذا مبني على كون وجوب التعلم وجوباً نفسياً كما اختاره المحقق الأردبيلي (قدس سره) 3وعليه فلا محالة يكون تاركه فاسقاً.وفيه:أ نّه خلاف مبناه (قدس سره) حيث إنّه لم يلتزم بالوجوب النفسي.
الثاني: أ نّه مبني على حرمة التجري،وعليه فبطبيعة الحال يكون فاعله فاسقاً ويستحقّ العقاب،وفيه:أ نّه أيضاً خلاف ما بنى (قدس سره) عليه من عدم حرمة التجري وأنّ قبحه فاعلي لا فعلي،ومعه لا موجب لكون فاعله فاسقاً ومستحقاً للعقاب.
الثالث: أن يكون مستند ذلك الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها من المسائل،بدعوى أنّ العادة قد جرت على ابتلاء المكلفين بها لا محالة دون غيرها،فلأجل ذلك يجب تعلمها ومعرفتها على كل أحد،ومن الطبيعي أنّ
مخالفة الواجب توجب الفسق.وفيه:أ نّه أبعد هذه الفروض،لما عرفت من أنّ وجوب التعلم وجوب طريقي فلا توجب مخالفته العقاب ما لم تؤد إلى مخالفة الواقع.
والصحيح أن يقال: إنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ تارك التعلم محكوم بالفسق يقوم على أساس أنّ التجري كاشف عن عدم وجود العدالة فيه،حيث إنّها على مسلكه (قدس سره) عبارة عن وجود ملكة نفسانية تبعث صاحبها على ملازمة التقوى،يعني الاتيان بالواجبات وترك المحرمات،ومن الطبيعي أ نّها لا تجتمع مع التجري-وهو الاتيان بما يعتقد كونه مبغوضاً وترك ما يعتقد كونه واجباً-وهذا لا ينافي عدم استحقاقه العقاب،فان ملاك الاستحقاق عنده ارتكاب المبغوض الواقعي أو ترك الواجب كذلك وهو غير موجود في التجري.
فالنتيجة:أنّ المتجري فاسق وإن لم يستحقّ العقاب فلا ملازمة بين الأمرين.
فما جاء به شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) في غاية المتانة والصحة.
الرابعة: أنّ المقدمة التي يبحث عن وجوبها في المسألة لا يفرق فيها بين أن تكون مقدمة لواجب مشروط أو مطلق،والسبب في ذلك:هو أ نّه بناءً على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته لا يفرق الحال بين المطلق والمشروط،غاية الأمر إذا كان الواجب مشروطاً فوجوب مقدمته كذلك،فانّه في الاطلاق والاشتراط تابع لوجوب ذيها،بداهة أنّ التفكيك بينهما في الاطلاق والاشتراط ينافي ما افترضناه من الملازمة بين وجوبيهما.
ومن هنا يظهر أ نّه لا وجه لما أفاده صاحب المعالم (قدس سره) 1من تخصيص محلّ النزاع بمقدمات الواجب المطلق،وكذا غيره،ولعلّ مرادهم من
الواجب المطلق هو الواجب بالوجوب الفعلي.
وممّا يدلنا على ذلك:أ نّه لم يكن في الشريعة المقدسة واجب مطلق من جميع الجهات،بل الواجبات بشتى أنواعها وأشكالها واجبات مشروطة ولا أقل بالشرائط العامّة،غاية الأمر بعضها مشروط بالاضافة إلى شيء ومطلق بالاضافة إلى آخر،وبعضها الآخر بالعكس،مثلاً وجوب الحج مشروط بالاضافة إلى الاستطاعة ومطلق بالاضافة إلى الزوال،ووجوب الصلاة مثلاً مطلق بالاضافة إلى الاستطاعة،ومشروط بالاضافة إلى الزوال،ووجوب الزكاة مشروط بالاضافة إلى بلوغ المال حدّ النصاب،ومطلق بالاضافة إلى غيره من الجهات وهكذا.
فالنتيجة:أنّ عدم وجود واجب مطلق في الشريعة المقدسة دليل على أنّ مرادهم من الواجب المطلق الواجب الفعلي.
الخامسة: أنّ المقدمات الوجوبية التي اخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار كالاستطاعة ونحوها خارجة عن محلّ النزاع،ضرورة أ نّه لا وجوب قبل وجودها،وبعده يكون وجوبها تحصيل الحاصل.نعم،يمكن وجوبها بسبب آخر كالنذر واليمين وما شاكلهما مع قطع النظر عن وجوب ذيها.
السادسة: أ نّه لا إشكال في أنّ إطلاق لفظ الواجب على الواجب المطلق حقيقة،وكذا إطلاقه على الواجب المشروط بلحاظ حصول شرطه،وإنّما الكلام والاشكال في إطلاقه على الواجب المشروط لا بهذا اللحاظ،فهل هو حقيقة أو مجاز،فبناءً على نظرية شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة حقيقة،وأمّا بناءً على نظرية المشهور من رجوعه إلى الهيئة فمجاز بعلاقة الأول أو المشارفة،لفرض عدم تحقق
الوجوب،وقد ذكرنا في بحث المشتق أنّ إطلاقه على من لم يتلبس بالمبدأ فعلاً مجاز بالاتفاق 1.
ثمّ إن استعمال الصيغة أو نحوها ممّا دلّ على الوجوب ككلمة على في مثل قوله تعالى «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 2وما شاكلها في المطلق والمشروط على نحو الحقيقة،وذلك لأنّ كلا من الاطلاق والاشتراط خارج عن معناها الموضوع له،حيث إنّه الطبيعي المهمل فيعرض عليه الاطلاق مرّة،والاشتراط مرّة اخرى،والأوّل مستفاد من قرينة الحكمة،والثاني مستفاد من ذكر المتكلم القيد في الكلام،وقد يستفاد من ناحية الانصراف،وتفصيل الكلام في ذلك في مبحث المطلق والمقيد إن شاء اللّٰه تعالى.
نتائج البحوث المتقدمة عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ المبحوث عنه في مسألة مقدمة الواجب إنّما هو عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته عقلاً.
الثانية: أنّ المسألة من المسائل الاُصولية العقلية.
الثالثة: أنّ المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص،وهي أجزاء الواجب،خارجة عن محل البحث ولا مقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري أصلاً.
الرابعة: أنّ المراد من الشرط في محلّ الكلام سواء أكان شرطاً للحكم أو شرطاً للمأمور به أجنبي عن الشرط بمعنى ما له دخل في فعلية تأثير المقتضي في المقتضى ويكون من أجزاء العلّة التامة،وعلى ضوء هذا قد أجبنا عن الاشكال على إمكان الشرط المتأخر وجوازه على تفصيل تقدّم.
الخامسة: أنّ كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) مبني على الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول،والوجود الذهني إنّما هو من شرائط الجعل دون الحكم المجعول،والكلام إنّما هو في شرائط المجعول.
السادسة: قد تقدّم أنّ الشرط المتأخر بمكان من الامكان،نعم وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل إلّافي موردين:أحدهما:في العقد الفضولي،حيث إنّ شرطية الاجازة بوجودها المتأخر لا يحتاج إلى دليل.وثانيهما:في الواجبات التدريجية،فان شرطية القدرة فيها على نحو الشرط المتأخر لا يحتاج إلى مؤونة خاصة.
السابعة: أنّ ما ذهب إليه شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ولزوم رجوعه إلى المادة قد تقدّم نقده بشكل موسع،وقلنا إنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من أ نّه لا استحالة في ذلك أصلاً،بل مقتضى القواعد العربية وظهور القضية الشرطية هو رجوعه إلى الهيئة دون المادة.
الثامنة: أ نّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي فيما إذا كان كلاهما مستنداً إلى مقدمات الحكمة.نعم،إذا كان أحدهما بالوضع دون الآخر تقدّم ما كان بالوضع على ما كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة،وعليه فلا وجه لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة كما عن الشيخ (قدس سره).
التاسعة: أنّ تقييد كل من مفاد الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة لخصوصية الآخر،فلا يكون في البين قدر متيقن،وعليه فكما أنّ تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة،كذلك لا يوجب بطلان محل الاطلاق فيها،من دون فرق في ذلك بين كون القرينة متصلة أو منفصلة،غاية الأمر إذا كانت القرينة
متصلة فهي مانعة عن انعقاد أصل الظهور في الاطلاق،وإذا كانت منفصلة فمانعة عن اعتباره وحجيته،وأمّا ما ورد في كلمات شيخنا الأنصاري والمحقق صاحب الكفاية وشيخنا الاُستاذ (قدس سرهم) من ترجيح تقييد الهيئة قد تقدّم أ نّه نشأ من عدم تنقيح ما ينبغي أن يكون محلاً للنزاع في المقام.
العاشرة: أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر، فلا وجه لجعله قسماً من الواجب المطلق كما عن الفصول،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق بالمعنى الذي ذكرناه، ولا يرد عليه شيء ممّا اورد عليه.ومن ناحية ثالثة:أنّ الذي دعا صاحب الفصول (قدس سره) إلى الالتزام بالواجب المعلّق هو التفصي به عن الاشكال الوارد في جملة من الموارد على وجوب الاتيان بالمقدمة قبل إيجاب ذيها،ولكن قد تقدّم أنّ دفع الاشكال لا يتوقف على الالتزام به،بل يمكن دفعه بشكل آخر قد سبق تفصيله بصورة موسّعة في ضمن البحوث السالفة.
الحادية عشرة: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ وجوب التعلم [ ليس ] بملاك وجوب سائر المقدمات،بل هو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل،قد تقدّم أ نّه لا يتم على إطلاقه،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ مقتضى إطلاق أدلة وجوب التعلم هو أنّ ملاك الواجب تام في ظرفه من قبله فلو ترك المكلف التعلم وأدى ذلك إلى ترك الواجب في وقته استحقّ العقاب ولو كان غافلاً حينه،ومن هنا قلنا بوجوبه مطلقاً من دون فرق بين الواجبات المطلقة والمشروطة.
الثانية عشرة: أنّ وجوب التعلم مختص بالبالغين فلا يجب على الصبيان قبل بلوغهم،لعدم إحراز تمامية الملاك في حقّهم،بل مقتضى حديث رفع القلم
عدمه،وما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من عدم إمكان التمسك به قد تقدّم فساده.
الثالثة عشرة: أنّ وجوب التعلم وجوب طريقي يترتب عليه تنجيز الواقع والعقاب على تركه على تقدير المصادفة،وليس وجوبه نفسياً كما عن المحقق الأردبيلي (قدس سره) ولا غيرياً ولا ارشادياً على تفصيل تقدّم.
الرابعة عشرة: أنّ ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أنّ تارك التعلم فاسق متين جداً،ولا وجه لتعجب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من ذلك أصلاً.
قد عرّف الواجب النفسي:بأ نّه ما وجب لا لأجل التوصل به إلى واجب آخر،والواجب الغيري:بأ نّه ما وجب لأجل التوصل به إلى واجب آخر.
وقد اورد على تعريف الواجب النفسي:بأنّ لازم ذلك صيرورة جلّ الواجبات لولا كلّها غيرية،بداهة أ نّها إنّما تجب لأجل مصالح وفوائد تترتب عليها اللّازمة تحصيلها بحيث لولاها لم تكن واجبة.وعلى الجملة:فعلى ضوء هذا التعريف لا يكون واجب نفسي ما عدا معرفة الباري (عزّ وجلّ) حيث إنّها غاية الغايات فلا غاية فوقها،وأمّا غيرها من الواجبات بشتى ألوانها وأشكالها واجبات لأجل التوصل إلى غايات مترتبة عليها،بناءً على المسلك الصحيح وهو مسلك العدلية.
واُجيب عنه كما حكى في الكفاية 1:بأنّ تلك الغايات المترتبة عليها خارجة عن الاختيار فلا تتعلق القدرة بها،وعليه فلا يعقل وجوبها وتعلق الخطاب بها.وأورد عليه صاحب الكفاية (قدس سره) بأ نّها وإن كانت في حد أنفسها وبلا واسطة خارجة عن إطار القدرة،إلّاأ نّها مع الواسطة مقدورة لدخول أسبابها تحت القدرة،ومن الطبيعي أنّ القدرة على السبب قدرة على المسبب، وإلّا لم يصح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير
ذلك من المسببات مورداً لحكم من الأحكام التكليفية الشرعية كما هو واضح.
هذا وقد أجاب (قدس سره) 1عن الاشكال المزبور بوجه آخر وإليك نصّه:
فالأولى أن يقال:إنّ الأثر المترتب عليه وإن كان لازماً،إلّاأن ذا الأثر لمّا كان معنوناً بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله بل وبذم تاركه،صار متعلّقاً للايجاب بما هو كذلك،ولا ينافيه كونه مقدّمةً لأمر مطلوب واقعاً،بخلاف الواجب الغيري لتمحض وجوبه في أ نّه لكونه مقدمة لواجب نفسي،وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه إلّاأ نّه لا دخل له في إيجابه الغيري،ولعلّه مراد من فسّرهما بما امر به لنفسه،وما امر به لأجل غيره،فلا يتوجه عليه بأنّ جلّ الواجبات لولا الكل يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية، فانّ المطلوب النفسي قلّما يوجد في الأوامر،فان جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها.
وملخص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ ملاك الواجب النفسي ما كان وجوبه لأجل حسنه في حد ذاته،سواء أكان مع ذلك مقدمة لواجب آخر أم لم يكن،وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل حسن غيره،سواء أكان في نفسه أيضاً حسناً كالطهارات الثلاث أم لم يكن.
ويرد عليه أوّلاً: ما أورده المحقق النائيني (قدس سره) 2من أنّ حسن الأفعال الواجبة المقتضي لايجابها،إن كان ناشئاً من مقدميتها لما يترتب عليها من المصالح والفوائد اللّازمة فالاشكال باق على حاله،وإن كان ثابتاً في حد ذاتها مع قطع النظر عمّا يترتب عليها،فلازم ذلك أن لايكون شيء من الواجبات
النفسية متمحضاً في الوجوب النفسي،وذلك لاشتمالها على ملاكين:النفسي – وهو حسنها ذاتاً-والغيري-وهو كونها مقدمة لواجب آخر-نظير صلاة الظهر حيث إنّها واجبة لنفسها ومقدمة لواجب آخر وهو صلاة العصر،وصلاة المغرب فانّها مع كونها واجبة لنفسها مقدمة لصلاة العشاء أيضاً،وأفعال الحج فانّ المتقدم منها واجب لنفسه ومقدمة للمتأخر.فالنتيجة:أ نّه لا وقع لهذا التقسيم أصلاً على ضوء ما أفاده (قدس سره).
وثانياً: أنّ دعوى الحسن الذاتي في جميع الواجبات النفسية دعوى جزافية ولا واقع موضوعي لها أصلاً،والسبب في ذلك:هو أنّ جلّ الواجبات النفسية لم تكن حسنة بذاتها وفي نفسها كالصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل ذلك، فان ترك الأكل والشرب مثلاً في نهار شهر رمضان ليس في نفسه حسناً، بداهة أ نّه لا فرق بينه فيه وبين الأكل والشرب في غيره ذاتاً مع قطع النظر عن الأمر،وكذا الحال في مناسك الحج.نعم،الأمر المتعلق بها يكشف عن وجود مصلحة ملزمة فيها إلّاأ نّها أجنبية عن حسنها الذاتي.نعم،بعض الواجبات حسن ذاتاً كالسجود والركوع وما شاكلهما مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، وأمّا الحسن العقلي فهو أجنبي عن حسن الفعل ذاتاً،حيث إنّه من باب حسن الاطاعة فيعرض عليه بعد الأمر به باعتبار أنّ إتيانه يكون إطاعة للمولى.
ومنع شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1عن تعلق الأمر بمثل هذه الغايات والمسببات،بيان ذلك:أ نّه (قدس سره) قسّم الغايات إلى أصناف ثلاثة:
الأوّل: ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط أمر اختياري أو غير اختياري بينه وبين ذلك الفعل،وذلك كالزوجية المترتبة على العقد،والطهارة
المترتبة على الغسل،والقتل المترتب على ضرب أو نحوه،وما شاكل ذلك،فإذا كانت الغاية من هذا القبيل فلا مانع من تعلق التكليف بها،لأنّها مقدورة بواسطة القدرة على سببها.
الثاني: ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر اختياري خاصة،وذلك كالصعود على السطح وطبخ اللحم وما شاكلهما،حيث إنّ وجود كل منها في الخارج يتوقف على عدّة من المقدمات الاختيارية.وفي هذا الصنف أيضاً لا مانع من تعلق التكليف بنفس الغاية والغرض،بملاك أنّ الواسطة مقدورة.
الثالث: ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر خارج عن اختيار الانسان،فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعدّ إلى المعد له،لا نسبة السبب إلى المسبب والعلة إلى المعلول،وذلك كحصول الثمر من الزرع،فانّه يتوقف زائداً على زرع الحب في الأرض وجعل الأرض صالحة لذلك وسقيها على مقدمات اخرى خارجة عن اختيار الانسان،فالمقدمات الاختيارية مقدمات إعدادية فحسب،ومثل ذلك شرب الدواء للمريض،فانّ تحسّن حاله يتوقف على مقدمة اخرى خارجة عن اختياره،وفي هذا الصنف لا يمكن تعلق التكليف بالغاية القصوى والغرض الأقصى لخروجها عن الاختيار.
وما نحن فيه من هذا القبيل،فانّ نسبة الأفعال الواجبة بالاضافة إلى ما يترتب عليها من المصالح والفوائد نسبة المعدّ إلى المعدّ له،حيث تتوسط بينهما امور خارجة عن اختيار المكلف،وعليه فلا يمكن تعلق التكليف بتلك المصالح والغايات،لفرض خروجها عن إطار القدرة.
ولنأخذ بالنقد عليه وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) بالاضافة إلى الغرض الأقصى والغاية القصوى وإن كان صحيحاً ولا مناص عنه،لوضوح أنّ الأفعال الواجبة بالنسبة إليها من قبيل العلل المعدّة إلى المعدّ لها،لفرض أ نّها خارجة
عن اختيار المكلف وقدرته،مثلاً النهي عن الفحشاء الذي هو الغاية القصوى من الصلاة فلا يترتب عليها ترتب المعلول على العلة التامة،بل ترتبه عليها متوقف على مقدمة اخرى خارجة عن اختيار المكلف وإطار قدرته،إلّاأ نّه لا يتم بالاضافة إلى الغرض القريب وهو حيثية الاعداد للوصول إلى الغرض الأقصى،حيث إنّه لا يتخلف عنها،فيكون ترتبه عليها من ترتب المعلول على العلة التامة والمسبب على السبب،وبما أنّ السبب مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف بالمسبب،فيكون المقام نظير الأمر بزرع الحب في الأرض،فانّ الغرض الأقصى منه-وهو حصول النتاج-وإن كان خارجاً عن اختيار المكلف،إلّاأنّ الغرض المترتب على الزرع من غير تخلف-وهو إعداد المحل للانتاج-مقدور له بالقدرة على سببه لا محالة،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:بما أنّ هذا الغرض المترتب على تلك الأفعال ترتب المسبب على السبب لزومي على الفرض،فبطبيعة الحال يتعين تعلق التكليف به،لكونه مقدوراً من جهة القدرة على سببه،وعلى ذلك يبقى إشكال دخول الواجبات النفسية في تعريف الواجب الغيري بحاله.
فالصحيح في المقام أن يقال:أمّا بناءً على نظرية صاحب المعالم (قدس سره) 1من أنّ الأمر بالمسبب عين الأمر بالسبب،فيكون جميع الأفعال واجباً بالوجوب النفسي،فليس هنا واجب آخر ليكون وجوبها لأجل ذلك الواجب،لفرض أنّ الأمر بالغاية عين الأمر بتلك الأفعال،إلّاأنّ هذه النظرية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً.
وأمّا بناءً على نظرية المشهور كما هو الحق،وهي أنّ حال السبب حال بقية
المقدمات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،فلأنّ المصالح والغايات المترتبة على الواجبات ليست قابلة لتعلق التكليف بها،فانّ تعلق التكليف بشيء يرتكز على أمرين:الأوّل:أن يكون مقدوراً للمكلف.الثاني:أن يكون أمراً عرفياً وقابلاً لأن يقع في حيّز التكليف بحسب أنظار العرف،وتلك المصالح والأغراض وإن كانت مقدورة له للقدرة على أسبابها،إلّاأ نّها ليست ممّا يفهمه العرف العام،لأنّها من الاُمور المجهولة عندهم وخارجة عن أذهان عامّة الناس، فلا يحسن توجيه التكليف إليها،ضرورة أنّ العرف لا يرى حسناً في توجه التكليف بالانتهاء عن الفحشاء أو باعداد النفس للانتهاء عن كل أمر فاحش.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي:أ نّه لا مناص من الالتزام بتعلق الوجوب النفسي بنفس الأفعال دون الغايات المترتبة عليها،فإذن يصدق عليها أ نّها واجبة لا لأجل واجب آخر،وعليه فلا إشكال.نعم،تلك الغايات داعية للمولى على إنشاء وجوب تلك الأفعال واعتبارها على ذمة المكلف.
ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ هنا قسماً آخر من الواجب لا يكون نفسياً ولا غيرياً، وذلك كالمقدمات المفوّتة مثل غسل الجنب ليلاً لصوم غد،وركوب الدابة ونحوه للاتيان بالحج في وقته،بناءً على استحالة الواجب التعليقي.أمّا أ نّه ليس بواجب غيري،فلأنّ الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان وجوبه معلولاً لوجوب واجب نفسي ومترشحاً منه،فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه،وأمّا أ نّه ليس بواجب نفسي فلأنّ الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب، والمفروض أنّ ترك هذا الواجب لايستوجب العقاب عليه،وإنّما يستحق المكلف على ترك ذي المقدمة.
وأمّا بناءً على ما هو الصحيح-من أنّ وجوب المقدمة إنّما نشأ من ملاك الواجب النفسي لا من وجوبه نفسه-فانّه واجب غيري،وذلك لأنّ ما هو
المشهور من أنّ وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ومترشح منه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،بداهة أنّ وجوبها على القول به كوجوب ذيها فعل اختياري للمولى وصادر منه بالارادة والاختيار،فلا معنى لكونه معلولاً ومترشحاً منه،فانّه واجب غيري،فانّ المولى الملتفت إذا توجه إلى شيء ورأى فيه مصلحة ملزمة فبطبيعة الحال اشتاق إليه،فعندئذ لو كانت له مقدمة بحيث لا يمكن الاتيان به في ظرفه بدون الاتيان بها،فلا محالة اشتاق إليها بتبع اشتياقه إلى ذيها،فهذا الشوق الناشئ من وجود الملاك الملزم الكامن في ذيها هو المنشأ لوجوبها الغيري.هذا كلّه فيما إذا علم أ نّه واجب نفسي أو غيري.
وأمّا إذا شكّ في ذلك فهل الأصل اللفظي أو العملي يقتضي أحدهما خاصة ؟ والبحث فيه يقع في مقامين:الأوّل:في الأصل اللفظي.الثاني:في الأصل العملي.
أمّا المقام الأوّل: فمقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب النفسي،وهذا بناءً على نظرية المشهور واضح،وذلك لأنّ تقييد وجوب شيء بما إذا وجب غيره يحتاج إلى مؤونة زائدة،فلو كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد كان مقتضى إطلاق كلامه هو الحكم بكون الوجوب نفسياً،يعني أ نّه واجب سواء أكان هناك واجب آخر أم لا.وأمّا بناءً على نظرية الشيخ (قدس سره) 1من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ولزوم رجوعه إلى المادة،فيمكن تقريب التمسك بالاطلاق بوجهين:
الأوّل: فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من الجملة الاسمية كقوله (عليه السلام) «غسل الجمعة فريضة من فرائض اللّٰه» 2وما شاكل ذلك،وفي مثله لا مانع من التمسك باطلاق هذه الجملة لاثبات كون الوجوب نفسياً،إذ لو كان غيرياً لكان على المولى نصب قرينة على ذلك،وحيث إنّه لم ينصب مع كونه في مقام البيان فالاطلاق يقتضي عدمه.
الثاني: التمسك باطلاق دليل الواجب كدليل الصلاة أو نحوها لدفع ما
يحتمل أن يكون قيداً له،بيان ذلك:أنّ المولى إذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد الواجب بقيد،ففي مثله إذا شكّ في تقييده بشيء كما إذا شكّ في تقييد الصلاة مثلاً بالوضوء،فلا مانع من التمسك باطلاق قوله:صل لاثبات عدم تقييدها به،ولازم ذلك هو عدم كون الوضوء واجباً غيرياً.وقد ذكرنا في محلّه أنّ الاُصول اللفظية تثبت لوازمها.فالنتيجة:أ نّه على ضوء كلتا النظريتين لا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات كون الواجب نفسياً.نعم،تفترق نظرية المشهور عن نظرية الشيخ (قدس سره) في كيفية التمسك به كما عرفت.ومن هنا لم ينسب إلى الشيخ (قدس سره) انكار الواجب الغيري على ما نعلم.
وأمّا المقام الثاني: وهو التمسك بالاُصول العملية عند عدم وجود الاُصول اللفظية،فالكلام فيه يقع من وجوه:
الأوّل: ما إذا علم المكلف بوجوب شيء إجمالاً في الشريعة المقدسة وتردد بين كونه واجباً نفسياً أو غيرياً،وهو يعلم بأ نّه لو كان واجباً غيرياً ومقدمة لواجب آخر لم يكن ذلك الواجب فعلياً،وذلك كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها وترددت بين كون وجوبه نفسياً أو غيرياً،وهي تعلم بأ نّه لو كان واجباً غيرياً ومقدّمة للصلاة لم تكن الصلاة واجبة عليها فعلاً،وفي مثل هذا الفرض لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عقلاً ونقلاً،بيان ذلك:هو أنّ المكلف لا يعلم بوجوب فعلي على كل تقدير،فانّه على تقدير وجوبه نفسياً وإن كان فعلياً إلّاأ نّه على تقدير وجوبه الغيري فلا يكون بفعلي،لعدم فعلية وجوب ذيه،ومعه لا محالة يشك في الوجوب الفعلي،ومن الطبيعي أنّ المرجع في مثله هو البراءة الشرعية والعقلية،وهذا هو مراد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من الرجوع إلى البراءة فيه لا الوجه الثاني الآتي كما نسب إليه
شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1.
الثاني: ما إذا علم المكلف بوجوب شيء فعلاً وتردد بين أن يكون نفسياً أو غيرياً،وهو يعلم أ نّه لو كان غيرياً ومقدمة لواجب آخر فوجوب ذلك الواجب فعلي يتوقف حصوله على تحقق ذلك الشيء في الخارج،ومثاله هو ما إذا علم المكلف مثلاً بتحقق النذر منه،ولكن تردد متعلقه بين الوضوء والصلاة، فان كان الأوّل فالوضوء واجب نفساً،وإن كان الثاني فانّه واجب غيراً،ففي مثل ذلك يعلم المكلف بوجوب الوضوء على كل تقدير،ولا يمكن له الرجوع إلى البراءة عن وجوبه،لفرض علمه التفصيلي به،ولا أثر لشكه في النفسي والغيري أصلاً.
وإنّما الكلام في جواز الرجوع إلى البراءة عن وجوب الصلاة وعدم جوازه، الصحيح هو الأوّل،والسبب في ذلك:هو أنّ المكلف وإن علم إجمالاً بوجوب نفسي مردد بين تعلقه بالصلاة أو الوضوء،إلّاأنّ العلم الاجمالي إنّما يكون مؤثراً فيما إذا تعارضت الاُصول في أطرافه،وأمّا إذا لم تتعارض فيها فلا أثر له، وبما أنّ أصالة البراءة في المقام لا تجري بالاضافة إلى وجوب الوضوء،لفرض العلم التفصيلي به،واستحقاق العقاب على تركه على كلا التقديرين-أي سواء أكان وجوبه نفسياً أم كان غيرياً-فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الصلاة،للشك فيه وعدم قيام حجة عليه،ومعه لا محالة يكون العقاب على تركها عقاباً بلا بيان وحجّة.
وبكلمة واضحة:أنّ الانحلال الحقيقي في المقام وإن كان غير موجود،إلّاأنّ الانحلال الحكمي موجود كما هو الحال في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،
ولكنّ الانحلال الحكمي في مسألتنا هذه لا بملاك الانحلال الحكمي هناك،بيان ذلك:أمّا في تلك المسألة فقد ذكرنا فيها أنّ العلم الاجمالي قد تعلق بالماهية المرددة بين لا بشرط وبشرط لا،وهذا العلم الاجمالي غير قابل للانحلال حقيقة من هذه الناحية،حيث إنّ تعلّقه بالماهية المزبورة مقوّم له،فكيف يعقل أن يكون موجباً لانحلاله،ولكن حيث إنّ الأصل لا يجري في أحد طرفي هذا العلم-وهو الاطلاق-فلا مانع من جريانه في طرفه الآخر-وهو التقييد – ومعه لا أثر لهذا العلم الاجمالي،وهذا هو معنى انحلاله هناك حكماً،ومردّ هذا الانحلال إلى التفكيك بين أجزاء الواجب الواحد في مرحلة التنجيز بعد عدم إمكان التفكيك بينها في مرحلتي السقوط والثبوت أصلاً.
وأمّا في مسألتنا هذه: فبما أنّ المكلف يعلم بوجوب الوضوء تفصيلاً وإن لم يعلم أ نّه لنفسه أو لغيره،فلا يمكن له الرجوع إلى البراءة عنه،لعلمه باستحقاق العقاب على تركه على كلا التقديرين.وأمّا وجوب الصلاة فبما أ نّه لا يعلم به فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه:الشرعية والعقلية،لعدم قيام بيان عليه، ومعه لا محالة يكون العقاب على تركها عقاباً من دون بيان،ولا تعارض أصالة البراءة عنه أصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسياً،حيث إنّه مشكوك فيه،وذلك لما عرفت من عدم جريانها في طرف الوضوء من ناحية العلم بوجوبه على كل تقدير واستحقاق العقاب على تركه كذلك،فإذن لا مانع من جريانها في طرف الصلاة بناءً على ما حققناه من أنّ تنجيز العلم الاجمالي يرتكز على تعارض الاُصول في أطرافه ومع عدمه فلا أثر له،وبما أنّ في المقام لا تعارض بين الأصلين فلا يكون منجّزاً.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ العلم الاجمالي بوجوب نفسي مردد بين تعلقه بالوضوء أو الصلاة وإن لم ينحل حقيقة،إلّاأ نّه ينحل حكماً من ناحية عدم
جريان الأصل في أحد طرفيه،هذا من جانب.ومن جانب آخر:أنّ ملاك عدم جريانه فيه هو كونه معلوم الوجوب على كل تقدير،وبهذه النقطة يمتاز ما نحن فيه عن مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،حيث إنّ هناك عدم جريان الأصل في أحد طرفي العلم الاجمالي من ناحية عدم الأثر لا من ناحية كون التكليف به معلوماً.
ونتيجة ذلك:هي التفكيك في حكم واحد في مرحلة التنجيز،كوجوب الصلاة في المقام حيث إنّه منجّز من ناحية وجوب الوضوء،لما عرفت من استحقاق العقاب على تركها المستند إلى ترك الوضوء،وغير منجّز من ناحية اخرى لما مرّ من وجود المؤمّن من غير تلك الناحية.
الثالث: ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين في الخارج وشكّ في أنّ وجود أحدهما مقيد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الاطلاق والاشتراط من بقية الجهات،أي أ نّهما متساويان إطلاقاً وتقييداً كوجوب الوضوء والصلاة مثلاً،ففي مثل ذلك قد أفاد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ الشك حيث إنّه متمحض في تقييد ما علم كونه واجباً نفسياً كالصلاة بالواجب الآخر-وهو الوضوء-في مفروض المثال،فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن ذلك التقييد،وذلك لفرض أنّ وجوب الصلاة معلوم،وكذا وجوب الوضوء والشك إنّما هو في خصوص تقييد الصلاة بالوضوء،ومن الطبيعي أنّ مقتضى أصالة البراءة عدمه.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) غير تام،وذلك لأنّ أصالة البراءة عن التقييد المذكور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسي،
وذلك لأنّ القدر المعلوم لنا تفصيلاً إنّما هو أصل تعلق الوجوب بالوضوء بوجوب جامع بين النفسي والغيري،وأمّا خصوصية كونه نفسياً أو غيرياً فهي مشكوكة، وبما أنّ العلم الاجمالي بإحدى الخصوصيتين موجود فهو مانع عن جريان أصالة البراءة عن كلتيهما،فإذن لا محالة يكون المرجع هو قاعدة الاحتياط.
وإن شئت قلت:إنّ وجوب الوضوء غيرياً-أي كونه قيداً للصلاة-وإن كان مشكوكاً فيه في نفسه ولا مانع من جريان الأصل فيه في ذاته،إلّاأنّ وجوبه نفسياً أيضاً كذلك،وعليه فلا مانع من جريان الأصل فيه أيضاً في ذاته،وبما أ نّه لا يمكن جريان كلا الأصلين معاً،لاستلزامه المخالفة القطعية العملية،فبطبيعة الحال المرجع هو قاعدة الاحتياط،وهو الاتيان بالوضوء أوّلاً ثمّ الاتيان بالصلاة،ومردّ هذا بحسب النتيجة إلى أنّ وجوب الوضوء غيري لا نفسي.
الرابع: ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين وشكّ في تقييد أحدهما بالآخر مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث الاطلاق والاشتراط،وذلك كما إذا علم باشتراط الصلاة بالوقت،وشكّ في اشتراط الوضوء به من ناحية الشك في أنّ وجوبه نفسي أو غيري،فعلى الأوّل لا يكون مشروطاً به،وعلى الثاني فمشروط،لتبعية الوجوب الغيري للنفسي في الاطلاق والاشتراط.ففي هذه الصورة الشك يكون من عدّة جهات.
وقد أفاد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بجريان البراءة من جميع تلك الجهات:الاُولى:الشك في تقييد الصلاة بالوضوء وهو مجرى للبرءاة،فالنتيجة هي صحّة الصلاة بدون الوضوء.الثانية:الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت الذي هو شرط لوجوب الصلاة،وهو أيضاً مرجع للبراءة،فالنتيجة من هذه
الجهة نتيجة الغيرية من ناحية عدم ثبوت وجوب الوضوء قبل الوقت في مفروض المثال.الثالثة:الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالاضافة إلى مَن أتى به قبله،ومرجع هذا الشك إلى أنّ وجوب الوضوء بعد الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم يؤت به قبله،وبما أنّ وجوبه مشكوك فيه بالاضافة إلى مَن أتى به قبله،فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه.
فالنتيجة هي: أنّ المكلف مخيّر بين الاتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده قبل الصلاة وبعدها.
ولنأخذ بالنظر في هذه الجهات بيان ذلك:أنّ وجوب الوضوء في مفروض المثال المردد بين النفسي والغيري إذا كان نفسياً،فلا يخلو من أن يكون مقيداً بايقاعه قبل الوقت أو يكون مطلقاً.وأمّا وجوبه الغيري فهو مقيد بما بعد الوقت على كل تقدير.
وعلى الأوّل: فلا يمكن جريان البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء،لمعارضته بجريانها عن وجوبه النفسي قبل الوقت،وذلك للعلم الاجمالي بأ نّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري،وجريان البراءة عن كليهما مستلزم للمخالفة القطعية العملية،وقد ذكرنا في محلّه 1أ نّه لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي وسقوط الاُصول عن أطرافه بين أن تكون أطرافه من الدفعيات أو التدريجيات،وعلى ذلك فلا بدّ من الاحتياط والاتيان بالوضوء قبل الوقت،فان بقي إلى ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده،ولا يجب عليه الاتيان به ثانياً،وإلّا وجب عليه ذلك بمقتضى حكم العقل بالاحتياط.فالنتيجة هي نتيجة الحكم بالوجوب النفسي والغيري معاً من باب الاحتياط.
وعلى الثاني: فلا معنى لاجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت، وذلك لعدم احتمال تقيده به،وقد ذكرنا غير مرّة أنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضيق عن المكلف لا رفع السعة والاطلاق.وأمّا بعد الوقت فيحكم العقل بوجوب الوضوء،وذلك للعلم الاجمالي بوجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً،ولا يمكن إجراء البراءة عنهما معاً،ومعه يؤثر العلم الاجمالي فيجب الاحتياط.
نعم،لو شككنا في وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيرياً، أمكن رفعه بأصالة البراءة،وذلك لأنّ تقييد الوضوء بوقوعه بما بعد الوقت على تقدير كون وجوبه غيرياً بما أ نّه مجهول،فلا مانع من إجراء البراءة عنه، وذلك لأنّ وجوبه إن كان نفسياً فهو غير مقيد بذلك كما هو واضح،وإن كان غيرياً فالمقدار المعلوم إنّما هو تقيد الصلاة به،وأمّا تقيدها به بخصوصية أن يؤتى به بعد الوقت فهو مجهول فيدفع بالبراءة.
وقد تحصل من ذلك: أنّ ما أفاده (قدس سره) من الرجوع إلى أصالة البراءة في الجهات المزبورة لا يتم إلّافي الجهة الأخيرة خاصّة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي:أنّ المرجع في جميع الصور المتقدمة هو قاعدة الاحتياط دون قاعدة البراءة،إلّافي خصوص الصورة الاُولى.
لا إشكال في أنّ ترك الواجب النفسي يوجب استحقاق العقاب والذم، حيث إنّه تمرد وطغيان على المولى وخروج عن رسم العبودية والرقّية.كما أ نّه لا إشكال في أنّ ترك الواجب الغيري لا يوجب استحقاق العقاب عليه.نعم، إنّ تركه حيث يستلزم ترك الواجب النفسي فالعقاب عليه لا على ترك الواجب الغيري.كما أ نّه لا إشكال في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي.
وإنّما الاشكال والكلام في موردين:الأوّل:في وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي هل هو بالاستحقاق أو بالتفضل.الثاني:في ترتب الثواب على الواجب الغيري.
أمّا المورد الأوّل: ففيه خلاف،فذهب معظم الفقهاء والمتكلمين 1إلى أ نّه بالاستحقاق.وذهب جماعة منهم المفيد (قدس سره) 2إلى أ نّه بالتفضل بدعوى أنّ العبد ليس أجيراً في عمله للمولى ليستحقّ الثواب عليه،وإنّما جرى ومشى على طبق وظيفته ومقتضى عبوديته ورقيته،ولكنّ اللّٰه (سبحانه وتعالى) هو الذي يتفضل عليه باعطاء الثواب والأجر.
والصحيح في المقام أن يقال:إن أراد القائلون بالاستحقاق أنّ العبد بعد قيامه بامتثال الواجب وإظهار العبودية والرقية يستحق على المولى الثواب
كاستحقاق الأجير للاُجرة على المستأجر بحيث لو لم يقم المولى باعطاء الثواب له لكان ذلك ظلماً منه فهو مقطوع البطلان،بداهة أنّ إطاعة العبد لأوامر مولاه ونواهيه جرى منه على وفق وظيفته ورسم عبوديته ورقّيته ولازمة بحكم العقل المستقل،ولا صلة لذلك بباب الاجارة أبداً،كيف فانّ مصالح أفعاله ومفاسدها تعودان إليه لا إلى المولى.ومن ذلك يظهر حال التوبة،فانّ ما ورد من أنّ التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له 1ليس معنى هذا أنّ التائب يستحقّ الغفران على المولى كاستحقاق الأجير للاُجرة باتيان العمل المستأجر عليه، لوضوح أنّ التوبة مقتضى وظيفة العبودية،ومن هنا يستقلّ العقل بها،حيث إنّ حقيقتها رجوع العبد إلى اللّٰه تعالى وخروجه عن التمرد والعصيان ودخوله في الاطاعة والاحسان.
وإن أرادوا بذلك أنّ العبد بقيامه بامتثال أوامر المولى ونواهيه يصير أهلاً لذلك،فلو تفضّل المولى باعطاء الثواب له كان في محلّه ومورده فهو متين جداً ولا مناص عنه،والظاهر بل المقطوع به أ نّهم أرادوا بالاستحقاق هذا المعنى.
وعلى هذا الضوء فقد أصبح النزاع المزبور لفظياً كما لا يخفى.
وأمّا المورد الثاني: وهو ترتب الثواب على الواجب الغيري،فلا ريب في عدم استحقاقه الثواب على امتثاله بمعناه الأوّل،وإن قلنا به فرضاً في الواجب النفسي،وهذا واضح.وأمّا الاستحقاق بمعناه الثاني فالظاهر أ نّه لا شبهة فيه إذا أتى به بقصد الامتثال والتوصل،والسبب في ذلك هو أنّ الملاك فيه كون العبد بصدد الاطاعة والانقياد والعمل بوظيفة العبودية والرقّية ليصبح أهلاً لذلك،ومن المعلوم أ نّه باتيانه المقدمة بداعي التوصل والامتثال قد أصبح أهلاً
له،بل الأمر كذلك ولو لم نقل بوجوبها،ضرورة أنّ الاتيان بها بهذا الداعي مصداق لاظهار العبودية والاخلاص والانقياد والاطاعة.نعم،لو جاء بها بدون قصد التوصل والامتثال فقد فاته الثواب،حيث إنّه لم يصر بذلك أهلاً له ليكون في محلّه ولم يستحق شيئاً،كما أ نّه لو أتى بالواجب النفسي التوصلي بدون ذلك لم يترتب الثواب عليه وإن سقط الأمر.
وعلى ضوء ذلك هل يستحقّ العبد على الاتيان بالمقدمة وذيها ثوابين أو ثواباً واحداً ؟ وجهان بل قولان.
فذهب صاحب الكفاية 1وشيخنا الاُستاذ 2(قدس سرهما) إلى الثاني بدعوى أنّ الأمر الغيري بما هو أمر غيري لا واقع موضوعي له إلّاكونه واقعاً في طريق التوصل إلى الواجب النفسي،فلا إطاعة له إلّامع قصد الأمر النفسي، وحينئذ فالآتي بالواجب الغيري إن قصد به التوصل إلى الواجب النفسي فهو شارع في امتثال الأمر النفسي فيثاب على اطاعته،وإلّا فلا.
ولكنّ الصحيح هو القول الأوّل،وذلك لما عرفت من أنّ ملاك ترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري هو أ نّه بنفسه مصداق للانقياد والتعظيم وإظهار لمقام العبودية،مع قطع النظر عن إتيانه بالواجب النفسي،ولذا لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل ثمّ لم يتمكن من الاتيان بذيها لمانع من الموانع،استحقّ الثواب عليها بلا إشكال،وهذا دليل على أنّ الاتيان بها بنفسه منشأ للثواب وموجب له.
ثمّ إنّه قد يشكل في الطهارات الثلاث من وجهين:
الأوّل: أ نّه لا شبهة في استحقاق الآتي بها الثواب مع أنّ الأمر المتعلق بها غيري ولا يترتب على امتثاله ثواب،كما أ نّه لا عقاب على تركه.والجواب عنه قد ظهر ممّا تقدّم.
الثاني: أ نّه لا ريب في عبادية الطهارات الثلاث ولزوم الاتيان بها بقصد التقرب وإلّا لم تقع صحيحة،ومن هنا لا تكون حالها حال بقية المقدمات في كون مطلق وجودها في الخارج مقدمة،وإنّما الاشكال والكلام في منشأ عباديتها، ولا يمكن أن يكون منشؤها الأوامر الغيرية المتعلقة بها،ضرورة أنّ تلك الأوامر أوامر توصلية لا تقتضي عبادية متعلقاتها،أضف إلى ذلك:أنّ الأمر الغيري إنّما يتعلق بما يتوقف عليه الواجب،والمفروض أنّ الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة كذلك،وعليه فالأمر الغيري المتعلق بها بطبيعة الحال يتعلق بعنوان أ نّها عبادة،ومعه كيف يعقل أن يكون منشأ لعباديتها.
وأجاب عن هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بأنّ منشأ عباديتها إنّما هو الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بذواتها،فإذن لا إشكال من هذه الناحية.
ولكن أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بوجوه:
الأوّل: أنّ ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) لو تمّ فانّما يتم في خصوص الوضوء والغسل حيث ثبت استحبابهما شرعاً،وأمّا التيمم فلا دليل على استحبابه في نفسه.فإذن يبقى الاشكال بالاضافة إليه بحاله.
وفيه: أ نّه يمكن استفادة استحباب التيمم من قوله (عليه السلام)«التراب أحد الطهورين» 2بضميمة ما دلّ من الاطلاقات على استحباب الطهور في نفسه.فالنتيجة:أنّ التيمم بما أ نّه طهور فهو مستحب بمقتضى تلك الاطلاقات.
الثاني: أنّ الطهارات الثلاث بما أ نّها مقدمة متّصفة بالوجوب الغيري فعلاً، ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلق بها بحاله،لوجود المضادة بينهما،فلا بدّ عندئذ من الالتزام باندكاكه في ضمن الوجوب،فإذن كيف يمكن أن يكون منشأ لعباديتها.
وفيه: أنّ حال هذا المورد حال غيره من موارد الاستحباب التي عرض عليها الوجوب من ناحية نذر أو شبهه،فكما أنّ في تلك الموارد يندكّ الأمر الاستحبابي في ضمن الأمر الوجوبي فيتحصل من ذلك أمر واحد وجوبي مؤكد [ فكذلك المقام ] ويكون ذلك الأمر الواحد أمراً عبادياً،لأنّ كلاً منهما يكتسب من الآخر صفة بعد عدم إمكان بقاء كل منهما بحدّه الخاص.على أ نّه يكفي في عباديتها محبوبيتها في أنفسها وإن لم يبق أمرها الاستحبابي باطاره الخاص.أضف إلى ذلك:أ نّه لا اندكاك ولا تبدل في البين على ضوء نظريتنا من أ نّه لا فرق بين الوجوب والاستحباب إلّافي جواز الترك وعدم جوازه،
وعليه فعند عروض الوجوب يتبدل الجواز بعدمه.
وإن شئت قلت:إنّ الأمر الغيري إن تعلق بها بداعي أمرها الاستحبابي، كان متعلق أحدهما غير ما تعلق به الآخر،وإن تعلق بذواتها،فعندئذ وإن كان متعلقهما واحداً إلّاأ نّك عرفت أ نّه لا تنافي بينهما ولا يوجب زوال الاستحباب بالمرة.
الثالث: أنّ الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بها كثيراً ما يكون مغفولاً عنه ولا سيّما للعامي،بل ربّما يكون الشخص معتقداً عدمه باجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك،ومع هذا يكون الاتيان بها بداعي التوصل بأمرها الغيري صحيحاً، فلو كان منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة.
وقد أجاب في الكفاية 1عن هذا الاشكال:بأنّ الأمر الغيري لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدمة،والمفروض في المقام أنّ ما هو المقدمة عبارة عن الطهارات الثلاث المأمور بها بالأمر النفسي،فيكون قصد امتثال هذا الأمر النفسي حاصلاً ضمناً عند قصد امتثال الأمر الغيري وإن لم يلتفت المكلف إلى هذا الأمر تفصيلاً فضلاً عن قصده.
وفيه: أنّ ما أفاده (قدس سره) من الجواب غير تام،والسبب في ذلك هو أنّ قصد الأمر النفسي لو كان مقوّماً للمقدمية لم يعقل تحققها مع الغفلة عنه رأساً،مع أ نّه لا شبهة في تحقق الطهارات الثلاث مع القطع بعدم الأمر النفسي لها.على أنّ لازم ذلك هو الحكم بصحة صلاة الظهر إذا أتى المكلف بها بقصد أمرها الغيري ومقدمةً لصلاة العصر مع الغفلة عن وجوبها في نفسه،وهو ضروري الفساد.
فالنتيجة:أ نّه لا يمكن التفصي عن هذا الاشكال بناءً على حصر عبادية الطهارات الثلاث بأوامرها النفسية،بل إنّ لازم ذلك هو بطلان صلاة من يعتقد بعدم استحباب الوضوء في نفسه،فإنّه إذا كان معتقداً بعدم استحبابه امتنع قصد امتثاله ولو ضمناً وارتكازاً،وبدونه يقع الوضوء باطلاً فتبطل الصلاة، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أجاب عن أصل الاشكال،وحاصل ما أفاده (قدس سره) هو أ نّه لا وجه لحصر منشأ عبادية الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الاشكال على كل منهما،بل هناك منشأ ثالث وهو الموجب لعباديتها،بيان ذلك:أنّ الأمر النفسي المتعلق بالصلاة مثلاً كما ينحل إلى أجزائها فيتعلق بكل جزء منها أمر نفسي ضمني وهو الموجب لعباديته فلا يسقط إلّابقصد التقرب به،فكذلك ينحل إلى شرائطها وقيودها، فيتعلق بكل شرط منها أمر نفسي ضمني وهو الموجب لعباديته.فالنتيجة أنّ الموجب للعبادية في الأجزاء والشرائط واحد.
ثمّ أورد على نفسه: بأنّ لازم ذلك هو القول بعبادية الشرائط مطلقاً من دون فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها،لفرض أنّ الأمر النفسي تعلق بالجميع على نحو واحد،فإذن ما هو الفارق بينها وبين غيرها من الشرائط.وأجاب عن ذلك:بأنّ الفارق بينهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث-وهو رفع الحدث-لايحصل إلّاإذا أتى المكلف بها بقصد القربة دون غيرها من الشرائط، ولا مانع من اختلاف الشرائط في هذه الناحية،بل لا مانع من اختلاف الأجزاء كذلك في مرحلة الثبوت وإن لم يتفق ذلك في مرحلة الاثبات.
ولنأخذ بالنقد عليه وهو ما ذكرناه في أوّل بحث مقدمة الواجب،وحاصله:
هو أنّ الأمر النفسي المتعلق بالصلاة مثلاً إنّما تعلق بأجزائها وتقيدها بشرائطها، وأمّا نفس الشرائط والقيود فهي خارجة عن متعلق الأمر وإلّا لم يبق فرق بين الجزء والشرط أصلاً.وعلى الجملة:فلا شبهة في أنّ الشرائط خارجة عن متعلق الأمر،ولذا قد يكون الشرط غير اختياري.على أ نّها لو كانت داخلة في متعلقه فكيف تتصف بالوجوب الغيري،وقد تقدّم أ نّه لا مقتضي لاتصاف المقدمات الداخلية بالوجوب الغيري،فما أفاده (قدس سره) من التحقيق خاطئ جدّاً ولا واقع موضوعي له أصلاً.
والصحيح في المقام أن يقال:إنّ منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو:
أحدهما: قصد امتثال الأمر النفسي المتعلق بها مع غفلة المكلف عن كونها مقدمة لواجب أو مع بنائه على عدم الاتيان به،كاغتسال الجنب مثلاً مع غفلته عن إتيان الصلاة بعده أو مع قصده عدم الاتيان بها،وهذا يتوقف على وجود الأمر النفسي،وقد عرفت أ نّه موجود.
وثانيهما: قصد التوصل بها إلى الواجب،فانّه أيضاً موجب لوقوع المقدمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعاً،لما عرفت في بحث التعبدي والتوصلي من أ نّه يكفي في تحقق قصد القربة إتيان الفعل مضافاً به إلى المولى وإن لم يكن أمر في البين.وعليه فالآتي بالطهارات الثلاث بقصد التوصّل بها إلى الصلاة أو نحوها، فقد أوجد المقدمة في الخارج وإن لم يكن ملتفتاً إلى الأمر النفسي المتعلق بها وقاصداً لامتثاله،كما أنّ الآتي بها بقصد أمرها النفسي موجد للمقدمة وإن لم يكن ملتفتاً إلى المقدمية.وقد تحصل من ذلك:أنّ لزوم الاتيان بالطهارات الثلاث عبادة لم ينشأ من ناحية أمرها الغيري،بل من ناحية كون المقدمة
عبادة،سواء فيه القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها.
وبكلمة اخرى: أنّ مقدمية الطهارات الثلاث تنحل إلى ذوات الأفعال وقصد التقرب بها،فإذا جاء المكلف بالأفعال في الخارج ولم يقصد بها التقرب إلى المولى فلم يوجد المقدمة خارجاً،فلا تصح عندئذ العبادة المشروطة بها، وأمّا إذا قصد بها التقرب-سواء أكان من ناحية قصد الأمر النفسي المتعلق بها،أو من ناحية قصد التوصل بها إلى الواجب-فالمقدمة قد وجدت في الخارج،ومعه تصحّ العبادة المشروطة بها،ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه.فالنتيجة:أنّ الأمر الغيري لا يعقل أن يكون منشأ لعباديتها.
وقد ظهر ممّا ذكرناه أمران:
الأوّل: أ نّه لا إشكال في صحة الاتيان بالوضوء والغسل بداعي أمرهما النفسي ومحبوبيتهما كذلك،أو بداعي التوصل إلى الواجب النفسي قبل الوقت، لما عرفت من أنّ إتيانهما كذلك لا يتوقف على عروض الوجوب الغيري عليهما، كما أ نّه لا إشكال في الاكتفاء بهما بعد دخول الوقت،لفرض أنّ المقدمة-وهي الوضوء والغسل العباديان-قد تحققت.وكذا لا إشكال في صحة التيمم بداعي أمره النفسي قبل دخول الوقت والاكتفاء به بعده إذا بقي موضوعه وهو عدم وجدان الماء،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا شبهة في صحة الاتيان بها-أي الطهارات الثلاث-بقصد التوصل إلى الواجب بعد الوقت،وإنّما الكلام في صحة الاتيان بها بعده بقصد أمرها الاستحبابي،لما قد يتوهم من اتصافها بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت،ولازمه اندكاك الأمر الاستحبابي النفسي في ضمن الأمر الوجوبي الغيري وعدم بقائه حتّى يكون داعياً للاتيان بها.
وأجاب عن ذلك السيِّد الطباطبائي (قدس سره) في عروته 1بأ نّه لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي في شيء واحد من جهتين بناءً على ما اختاره (قدس سره) من جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهتين،وبما أنّ في المقام الجهة متعددة،فان جهة الوجوب الغيري وهي المقدمية غير جهة الاستحباب النفسي-وهي ذوات الأفعال-وعليه فلا مانع من اجتماعهما،ولا يوجب ذلك اندكاك الاستحباب في الوجوب.
وغير خفي أن تعدد الجهة إنّما يجدى في جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كانت الجهة تقييدية،وأمّا إذا كانت تعليلية كما في المقام فلا أثر لتعددها أصلاً.
والصحيح في الجواب:هو ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة من أنّ عروض الوجوب الغيري على ما كان مستحباً في نفسه بناءً على نظريتنا لا يوجب اندكاك الاستحباب وتبدله بالوجوب،بل هو باق على محبوبيته وملاكه الكامنين في الفعل،وإنّما يرفع حدّه-وهو الترخيص في الترك-وعليه فإذا أتى المكلف بها بداعي المحبوبية فقد تحققت العبادة.
الثاني: أنّ المكلف إذا جاء بالطهارات الثلاث بداعي التوصل إلى الواجب النفسي وكان غافلاً عن محبوبيتها النفسية ثمّ بدا له في الاتيان بذلك الواجب، فهل تقع الطهارات عندئذ عبادة ؟ فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ذلك لا يكون مانعاً عن وقوعها عبادة،أمّا بناءً على وجوب المقدمة مطلقاً فواضح،وأمّا بناءً على عدم وجوبها كذلك كما هو المختار أو بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة، فهي وإن لم تتصف بالوجوب الغيري إلّاأ نّك عرفت أنّ وقوعها عبادة لا يتوقف على وجوبها الغيري حيث يكفي في ذلك الاتيان بها بداعي التوصل
أو بداعي الأمر الاستحبابي النفسي،والمفروض في المقام هو أنّ المكلف قد أتى بها بداعي التوصل.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي:أنّ منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو:
1-قصد امتثال الأمر الاستحبابي النفسي.
2-قصد التوصل بها إلى الواجب النفسي،ولا صلة للأمر الغيري بعباديتها أصلاً.
لا شبهة في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط بناءً على ثبوت الملازمة بينهما،فلو كان وجوب ذيها مطلقاً لكان وجوب مقدمته أيضاً كذلك.وإن كان مشروطاً كان وجوبها كذلك،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه بناءً على الملازمة المزبورة هل الواجب مطلق المقدمة،أو خصوص حصة خاصة منها ؟ وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية فيها على أقوال:
أحدها: ما عن صاحب المعالم (قدس سره) 1من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والارادة على إتيان ذيها.
وثانيها: ما نسب إلى شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 2من أنّ الواجب هو المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب،والفرق بين هذا القول والقول الأوّل في نقطة واحدة،وهي أنّ القصد على القول الأوّل قيد للوجوب، وعلى هذا القول قيد للواجب.
وثالثها: ما عن صاحب الفصول (قدس سره) 3من أنّ الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها.وبعد ذلك نتكلم حول تلك الأقوال.
وبيان ما فيها من النقد والاشكال:
أمّا القول الأوّل: فهو خاطئ جداً ولا يرجع إلى معنى محصّل أصلاً،وذلك لأنّ لازم هذا القول أحد محذورين:إمّا التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها،وهو خلف بناءً على الملازمة كما هو المفروض،وإمّا لزوم كون وجوب ذي المقدمة تابعاً لارادة المكلف ودائراً مدار اختياره وعزمه،وهو محال، بداهة أنّ لازم ذلك عدم الوجوب عند عدم الارادة.
وأمّا القول الثاني: فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بما حاصله:هو أنّ ملاك وجوب المقدمة بناءً على حكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب ذيها هو توقف الواجب النفسي عليها وتمكن المكلف من الاتيان بها على إتيان ذيها،ومن المعلوم أنّ هذا الملاك مشترك فيه بين المقدمات بشتّى أشكالها،بلا اختصاص له بحصة خاصة منها دون حصة اخرى،ومن هنا لو جاء المكلف بالمقدمة بدون قصد التوصل بها لكان مجزئاً إذا لم تكن عبادة، وهذا دليل قطعي على عدم أخذ قصد التوصل قيداً لها،وإلّا لم يكن الاتيان بها مجرداً عنه كافياً.
وإن شئت قلت:إنّ ملاك وجوب المقدمة لو كان قائماً في حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بقصد التوصل فبطبيعة الحال لم يحصل الغرض منها بدون ذلك،مع أ نّه لا شبهة في حصوله بدونه إذا لم تكن المقدمة عبادة.فالنتيجة:أ نّه لا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص تلك الحصة.نعم،قصد التوصل إنّما يعتبر في حصول الامتثال وترتب الثواب لا في حصول أصل الغرض.
وقد يوجّه مراد الشيخ (قدس سره) بما ملخّصه:أنّ الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدمة لا ذات الفعل فحسب،وعليه فلا بدّ في الاتيان بها من لحاظ هذا العنوان وقصده وإلّا لم يأت بالواجب،وبما أنّ قصد التوصل إلى الواجب
عين عنوان المقدمية،فبطبيعة الحال لزم قصده.نعم،إنّ الاتيان بالأفعال الخارجية وحدها مجردة عن قصد التوصل وإن كان مسقطاً للغرض المطلوب،إلّاأ نّه لا يكون إتياناً للواجب ومصداقاً له،حيث قد عرفت أنّ الواجب هو ما كان معنوناً بعنوان المقدمة وهو عين قصد التوصل،وأمّا سقوط الواجب بغيره فهو يتفق كثيراً ما في الواجبات التوصلية.
وأورد على هذا التوجيه المحقق صاحب الكفاية وشيخنا الاُستاذ 1(قدس سرهما) بأنّ عنوان المقدمة من الجهات التعليلية لوجوب المقدمة لا من الجهات التقييدية له،بداهة أنّ الواجب إنّما هو ذات المقدمة التي هي مقدمة بالحمل الشائع،وأمّا عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها كالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأحكام.نعم،لو تمّ التوجيه المزبور لكان لما أفاده (قدس سره) وجه،بل لا مناص عنه،نظير ما إذا افترضنا أنّ الشارع أوجب القيام مثلاً بعنوان التعظيم،فلا محالة إذا أتى به بدون قصد هذا العنوان لم يأت بما هو مصداق للقيام الواجب.
وقد تصدى شيخنا المحقق (قدس سره) 2إلى توجيه مراد الشيخ (قدس سره) ببيان أمرين:
الأوّل: أنّ الجهات التقييدية إنّما تمتاز عن الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية،فإنّ العناوين المأخوذة في متعلقاتها كعنوان الصلاة والصوم ونحوهما من الجهات التقييدية،ومن هنا يعتبر الاتيان بها بقصد العناوين المزبورة،وإلّا لم يؤت بما هو مصداق للواجب،وأمّا الملاكات الكامنة في متعلقاتها فهي
جهات تعليلية.فالنتيجة أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية غير الجهات التقييدية.وأمّا في الأحكام العقلية فالجهات التعليلية فيها راجعة إلى الجهات التقييدية،وأنّ الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها،ولا يفرق في ذلك بين الأحكام النظرية والأحكام العملية.
أمّا الاُولى:فلأنّ حكم العقل باستحالة شيء بسبب استلزامه الدور أو التسلسل حكم باستحالة الدور أو التسلسل بالذات،وحكمه باستحالة اجتماع الأمر والنهي مثلاً من ناحية استلزامه اجتماع الضدين حكم باستحالة اجتماع الضدين كذلك وهكذا،فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم العقل.
وأمّا الثانية:فلأنّ حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب مثلاً حكم بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب،كما أنّ حكمه بقبح الضرب للايذاء حكم في الواقع بقبح الايذاء وهكذا،فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة التقييدية والموضوع للحكم.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي:أ نّه لا فرق بين الجهات التعليلية والجهات التقييدية في الأحكام العقلية أصلاً.وعلى هذا الضوء فبما أنّ مطلوبية المقدمة ليست لذاتها،بل لحيثية مقدميتها والتوصل بها،فالمطلوب الجدّي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي إنّما هو نفس التوصل،لما عرفت من أنّ الجهة التعليلية في الحكم العقلي ترجع إلى الجهة التقييدية.
الثاني: أنّ متعلقات التكاليف سواء أكانت تعبدية أم كانت توصلية لا تقع على صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب إلّاإذا اتي به عن قصد وعمد حتّى في التوصليات،والسبب في ذلك أنّ التكليف تعبدياً كان أو توصلياً لا يتعلق إلّابالفعل الاختياري،فالغسل الصادر بلا اختيار وإن كان
مطابقاً لذات الواجب ومحصّلاً لغرضه،إلّاأ نّه لا يقع مصداقاً للواجب بما هو واجب،بل يستحيل أن يتعلق الوجوب بمثله فكيف يكون مصداقاً له،وعلى ذلك فالواجب بحكم العقل بما أ نّه عنوان المقدمة لا ذاتها،فمن الطبيعي أنّ المكلف إذا أتى بها بداعي المقدمية والتوصل فقد تحقق ما هو مصداق للواجب خارجاً بما هو واجب،وإن لم يأت بها كذلك لم يتحقق ما هو مصداق للواجب كذلك وإن تحقق ما هو محصّل لغرضه.فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين:أنّ الواجب هو المقدمة بعنوان التوصل لا ذاتها،فإذن تمّ ما أفاده شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره).
ولنأخذ بالنقد على كلا الأمرين:
أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ترجع إلى الجهات التقييدية،وإن كان في نهاية الصحة والمتانة، إلّا أ نّه أجنبي عن محلّ الكلام في المقام،وذلك لما تقدّم في أوّل البحث من أنّ وجوب المقدمة عقلاً بمعنى اللّا بدية خارج عن مورد النزاع وغير قابل للانكار،وإنّما النزاع في وجوبها شرعاً الكاشف عنه العقل،وكم فرق بين الحكم الشرعي الذي كشف عنه العقل والحكم العقلي،وقد عرفت أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية لا ترجع إلى الجهات التقييدية،فما أفاده (قدس سره) لا ينطبق على محلّ النزاع.
وأمّا الأمر الثاني: فلأنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم فيما إذا كانت القدرة مأخوذة شرعاً في المأمور به وواردة في لسان الخطاب به،وذلك كآية الحج بناءً على تفسير الاستطاعة بالقدرة كما قيل،وآية التيمم بناءً على أن يكون المراد من الوجدان فيها القدرة على الاستعمال شرعاً،لا عدم الوجود بقرينة ذكر المريض فيها،والسبب في هذا هو أ نّه لا يمكن كشف الملاك في أمثال هذه
الموارد إلّافي خصوص الحصة المقدورة،وأمّا الحصة الخارجة عن القدرة فلا طريق لنا إلى إحراز الملاك فيها أصلاً.
فالنتيجة: أنّ في كل مورد كانت القدرة مأخوذة فيه شرعاً فالواجب فيه بطبيعة الحال هو خصوص الحصة المقدورة دون غيرها،ودون الجامع بينها وبين غيرها.وأمّا إذا كانت معتبرة فيه عقلاً فلا يتم،والوجه في ذلك هو:أنّ المكلف مرّة يكون عاجزاً عن إتيان تمام افراد الواجب في الخارج وظرف الامتثال،فعندئذ بطبيعة الحال يسقط عنه التكليف ولا يعقل بقاؤه،ومرّة اخرى يكون عاجزاً عن امتثال بعض أفراده دون بعضها الآخر كالصلاة مثلاً حيث إنّ المكلف يتمكن من امتثالها في ضمن بعض أفرادها العرضية والطولية ولا يتمكن من امتثالها في ضمن بعضها الآخر كذلك،ففي مثل ذلك لا موجب لتخصيص التكليف بخصوص الحصة المقدورة،بل لا مانع من تعلقه بالجامع بينها وبين الحصة غير المقدورة،وقد تقدّم أنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور،ضرورة أ نّه يكفي في القدرة عليه القدرة على امتثال فرد منه.وعلى هذا فبما أنّ اعتبار القدرة في إيجاب المقدمة إنّما هو بحكم العقل،فلا محالة لا يختص وجوبها بخصوص ما يصدر من المكلف عن إرادة واختيار،بل يعمّه وغيره،فإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع كان الاتيان به لا بقصد التوصل مصداقاً له،وعليه فلا موجب لتخصيصه بخصوص الحصة المقدورة،فما أفاده (قدس سره) من المقدمتين غير تام أصلاً كما هو ظاهر.
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1ادّعى أ نّه يظهر من تقريرات بحث شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) أنّ مراده من اعتبار قصد التوصل إنّما هو اعتباره في مقام الامتثال دون أخذه قيداً في المقدمة،وعليه فمن جاء
بالمقدمة بقصد التوصل فقد امتثل الواجب وإلّا فلا.
وفيه: أنّ هذه الدعوى لو تمّت لكان لما أفاده وجه صحيح،ضرورة أنّ الثواب لا يترتب على الاتيان بالمقدمة مطلقاً،وإنّما يترتب فيما إذا جاء المكلف بها بقصد التوصل والامتثال.
وذكر (قدس سره) مرّة ثانية أنّ مراد الشيخ (قدس سره) من اعتبار قصد التوصل إنّما هو اعتباره في مقام المزاحمة،كما إذا كانت المقدمة محرمة،ونقل (قدس سره) أنّ شيخه العلّامة السيِّد محمّد الاصفهاني (قدس سره) كان جازماً بأنّ مراد الشيخ من اعتبار قصد التوصل هو ذلك،ولكن كان شيخنا الاُستاذ (قدس سره) متردداً بأنّ هذا كان استنباطاً منه أو أ نّه حكاه عن استاذه السيِّد الشيرازي (قدس سره).
وكيف كان،فحاصل هذا الوجه هو أ نّه لو توقف واجب نفسي كانقاذ الغريق مثلاً على مقدمة محرّمة بنفسها كالتصرف في مال الغير أو نحوه،فبطبيعة الحال تقع المزاحمة بين الوجوب الغيري والحرمة النفسية،وعليه فان جاء المكلف بالمقدمة قاصداً بها التوصل إلى الواجب النفسي ارتفعت الحرمة عنها،وذلك لأنّ إنقاذ النفس المحترمة من الهلاك أهم من التصرف في مال الغير،فلا محالة يوجب سقوط الحرمة عنه،وأمّا إن جاء بها لا بقصد التوصل،بل بقصد التنزه أو ما شاكله،فلا موجب لسقوط الحرمة عنه أبداً.
وغير خفي أنّ المزاحمة في الحقيقة إنّما هي بين الحرمة النفسية الثابتة للمقدمة وبين الوجوب النفسي الثابت لذيها وإن لم نقل بوجوب المقدمة أصلاً، فالتزاحم في المثال المزبور إنّما هو بين وجوب إنقاذ الغريق وحرمة التصرف في الأرض المغصوبة،سواء أكانت المقدمة واجبة أم لا.وبكلمة اخرى:أنّ التزاحم المذكور لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة،فانّه سواء أقلنا
بوجوبها مطلقاً أو خصوص الموصلة منها أو ما يقصد به التوصل إلى الواجب أم لم نقل به أصلاً على الاختلاف في المسألة،فالتزاحم بينهما موجود،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الواجب في المقام بما أ نّه أهم من الحرام فبطبيعة الحال ترتفع حرمته،فالسلوك في الأرض المغصوبة عندئذ إذا وقع في طريق الانقاذ لا يكون محرّماً،بداهة أ نّه لا يعقل بقاؤه على حرمته مع توقف الواجب الأهم عليه،ولا فرق في ارتفاع الحرمة عنه،أي عن خصوص هذه الحصة من السلوك،بين أن يكون الآتي به قاصداً التوصل به إلى الواجب المذكور أم لا، غاية الأمر إذا لم يكن قاصداً به التوصل كان متجريّاً،وأمّا إذا لم يقع السلوك في طريق الانقاذ فتبقى حرمته على حالها،ضرورة أ نّه لا موجب ولا مقتضي لارتفاعها أصلاً،فانّ المقتضي لذلك إنّما هو توقف الواجب الأهم عليه، والمفروض أ نّه ليس هذه الحصة من السلوك ممّا يتوقف عليه الواجب المزبور كي ترتفع حرمته.نعم،لو قصد المكلف به التوصل إلى الواجب ولكنّه لمانع لم يترتب عليه في الخارج كان عندئذ معذوراً فلا يستحقّ العقاب عليه.
نعم،بناءً على القول بوجوبها تقع المعارضة بينه وبين حرمتها،وذلك لما عرفت من أنّ عنوان المقدمة عنوان تعليلي فلا يكون موضوعاً لحكم،وعليه فبطبيعة الحال يرد الوجوب والحرمة على موضوع واحد ويتعلقان بشيء فارد.
وعلى هذا الضوء،فان قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة سقطت الحرمة عنها فحسب،فإذن نتيجة القول بالتعارض والتزاحم واحدة،وهي سقوط الحرمة عن خصوص السلوك الواقع في سلسلة علّة الانقاذ لا مطلقاً،وإن قلنا بوجوب المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب،فالساقط إنّما هو الحرمة عنها فحسب،سواء أكانت موصلة أم لم تكن،وإن قلنا بوجوب المقدمة مطلقاً
فالساقط إنّما هو الحرمة عنها كذلك.
وعلى ضوء ذلك تظهر الثمرة بين هذين القولين وبين القول بعدم الوجوب أصلاً كما هو الصحيح،فانّه على هذا القول أي القول بعدم الوجوب،فالساقط إنّما هو حرمة خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها،وعلى القول الأوّل فالساقط إنّما هو حرمة خصوص المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب، وعلى القول الثاني فالساقط إنّما هو حرمة مطلق المقدمة وهذه ثمرة مهمة.
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1ذكر أنّ المقرر رتّب على اعتبار قصد التوصل فروعاً يبعد كونها من العلّامة الأنصاري (قدس سره).
منها: عدم صحة صلاة من كانت وظيفته الصلاة إلى الجهات الأربع إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى جميعها،حيث إنّ الاتيان بها إلى تلك الجهات من باب المقدمة وقد اعتبر فيها قصد التوصل،فالاتيان بصلاة إلى جهة منها بدونه لا محالة تقع فاسدة وإن كانت مطابقة للواقع،لفرض عدم إتيانه بما هو مقدمة وواجب عليه،إذن لا مناص من الاعادة.ومن هذا القبيل كل مورد كان الاحتياط فيه مستلزماً للتكرار كالصلاة في ثوبين مشتبهين أو نحو ذلك إذا أتى بصلاة واحدة من دون قصده الاتيان بالجميع.
وفيه: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الاستبعاد في محلّه، والسبب في ذلك واضح وهو أنّ وجوب الصلاة إلى الجهات الأربع أو ما شاكل ذلك إنّما هو من باب المقدمة العلمية،وقد تقدّم أنّ وجوبها لا يقوم على أساس القول بوجوب المقدمة وعدمه،فانّ الحاكم بوجوبها إنّما هو العقل بملاك دفع الضرر المحتمل،وأمّا محلّ النزاع في اعتبار قصد التوصل وعدم اعتباره فانّما هو
في المقدمة الوجودية،ولا صلة لإحدى المقدمتين بالاُخرى أصلاً،كيف فانّ ما كان من الصلوات إلى الجهات الأربع مطابقاً للواقع كان هو نفس الواجب لا أ نّه مقدمة له،وما لم يكن مطابقاً له فهو أجنبي عنه،فلا يكون هنا شيء مقدمة لوجود الواجب أصلاً.
نعم،ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) في أواخر رسالة بحث البراءة 1ما ملخصه:هل الاطاعة الاحتمالية في طول الاطاعة العلمية ولو إجمالاً أو في عرضها ؟ فان قلنا بالأوّل كان ما جاء به من الامتثال الاحتمالي فاسداً وإن كان مطابقاً للواقع،وذلك لاستقلال العقل الحاكم في هذا الباب بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي ولو كان إجمالياً، وإن قلنا بالثاني كان ما جاء به صحيحاً،لفرض تحقق الواجب في الخارج وقد قصد التقرب به احتمالاً وهو يكفي في العبادة.
وهذا الذي ذكره (قدس سره) هناك أيضاً أجنبي عن القول باعتبار قصد التوصل في المقدمة وعدم اعتباره،فان كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي وعدم كفايته معه يقومان على أساس آخر لا صلة له بما يقوم به هذان القولان،فيمكن القول بالكفاية هناك على كلا القولين هنا،ويمكن القول بعدم الكفاية هناك كذلك على تفصيل في محلّه.فالنتيجة أ نّه لا صلة لأحد البابين بالآخر أصلاً كما هو واضح.
ومنها: عدم جواز الاتيان بالغايات المشروطة بالطهارة إذا لم يكن المتوضئ قاصداً به تلك الغايات بل أتى به لغاية اخرى،فلو توضأ لغاية خاصة كقراءة القرآن مثلاً لم يجز له الدخول في الصلاة بذلك الوضوء وهكذا.ثمّ إنّه (قدس سره) أشكل على ذلك:بأنّ هذا لا يتم في الوضوء،حيث إنّه حقيقة واحدة
وماهية فاردة فإذا جاء به لأيّة غاية مشروعة لترتبت عليه الطهارة،ومعه يصحّ الاتيان بكل ما هو مشروط بها،فإذن لا تكون لاعتبار قصد التوصل إلى غاية خاصة ثمرة في الوضوء.نعم،يتم ذلك في باب الأغسال،حيث إنّها حقائق متباينة وماهيات متعددة وإن اشتركت في اسم واحد،وعليه فلو اغتسل لغاية خاصة فلا يجوز له الدخول إلى غاية اخرى.فثمرة اعتبار قصد التوصل تظهر هنا.
وأورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بأنّ ما أفاده بالاضافة إلى الوضوء وإن كان متيناً جداً فلا مناص عنه،إلّاأنّ ما أفاده بالاضافة إلى الأغسال من الغرائب،فانّ الاختلاف في أنّ الأغسال حقيقة واحدة أو حقائق متعددة إنّما هو باعتبار اختلاف أسبابها كالجنابة والحيض والنفاس ونحو ذلك،لا باعتبار غاياتها المترتبة عليها،ضرورة أ نّه لم يحتمل أحد فضلاً عن القول بأنّ الأغسال حقائق متعددة باعتبار تعدد غاياتها،فهي من ناحية الغايات لا فرق بينها وبين الوضوء أصلاً.فالنتيجة:أنّ ما استبعده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في محلّه.
وأمّا القول الثالث: وهو قول صاحب الفصول (قدس سره) 1من أنّ الواجب هو حصة خاصة من المقدمة وهي الحصة الموصلة،أي الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها دون غيرها من الحصص،فقد نوقش فيه بعدّة مناقشات:
الاُولى: ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2من أنّ تخصيص الوجوب بخصوص هذه الحصة يستلزم أحد محذورين:إمّا الدور أو التسلسل،وكلاهما محال.
أمّا الأوّل: فلأنّ مردّ هذا القول إلى كون الواجب النفسي مقدمة للمقدمة، لفرض أنّ ترتب وجوده عليها قد اعتبر قيداً لها،وعلى هذا يلزم كون وجوب الواجب النفسي ناشئاً من وجوب المقدمة وهو يستلزم الدور،فان وجوب المقدمة على الفرض إنّما نشأ من وجوب ذي المقدمة،فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار. وأمّا الثاني: فلأنّ الواجب لو كان خصوص المقدمة الموصلة فبطبيعة الحال كانت ذات المقدمة من مقدمات تحققها في الخارج،نظراً إلى أنّ ذاتها مقوّمة لها ومقدّمة لوجودها،فعندئذ إن كان الواجب هو ذات المقدمة على الاطلاق لزم خلاف ما التزم به (قدس سره) من اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة،وإن كان هو الذات المقيدة بالايصال إليها ننقل الكلام إلى
ذات هذا المقيد بالايصال وهكذا فيذهب إلى ما لا نهاية له.فالنتيجة:أ نّه لا يمكن القول بأنّ الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره):
أمّا الدور فيرد عليه:أنّ الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة غير ناشٍ من وجوب المقدمة كي يتوقف اتصافه به على وجوبها.نعم،الواجب النفسي على هذا بما أ نّه مقدمة للواجب الغيري بما هو كذلك،فبطبيعة الحال يعرض عليه الوجوب الغيري على نحو الترتب الطبعي،بمعنى أنّ الواجب أوّلاً هو ذو المقدمة بوجوب نفسي،ثمّ مقدمته بوجوب غيري،ثمّ أيضاً ذو المقدمة لكن بوجوب غيري،وعليه فلا يلزم الدور من اختصاص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة،وإنّما يلزم اجتماع الوجوب النفسي والغيري في شيء واحد – وهو ذو المقدمة-وهذا ممّا لا محذور فيه أصلاً،حيث إنّ مردّه إلى اندكاك أحدهما في الآخر وصيرورتهما حكماً واحداً آكد.
وأمّا التسلسل فيرد عليه:أنّ ذات المقيد وإن كانت مقوّمة له،إلّاأنّ نسبته إليه ليست نسبة المقدمة إلى ذيها لننقل الكلام إليه ونقول إنّها واجبة مطلقاً أو مقيدة بالايصال،وحيث إنّ الأوّل خلاف الفرض فالثاني يستلزم الذهاب إلى ما لا نهاية له،بل نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب،إذ على هذا القول المقدمة تكون مركبة من جزأين:أحدهما:ذات المقيد.والآخر:تقيدها بقيد وهو وجود الواجب في الخارج،كما هو الحال في كل واجب مقيد بقيد سواء أكان وجوبه نفسياً أم كان غيرياً،وعلى هذا فلا يبقى موضوع للقول بأنّ ذات المقيد هل هي واجبة مطلقاً أو مقيدة بالايصال،هذا كلّه على تقدير تسليم كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري.
والتحقيق في المقام أن يقال:إنّ الالتزام بوجوب المقدمة الموصلة لا
يستدعي اعتبار الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري أصلاً،والسبب في ذلك:
هو أنّ الغرض من التقييد بالايصال إنّما هو الاشارة إلى أنّ الواجب إنّما هو حصة خاصة من المقدمة،وهي الحصة الواقعة في سلسلة العلة التامة لوجود الواجب النفسي،دون مطلق المقدمة.وبكلمة اخرى:أنّ المقدمات الواقعة في الخارج على نحوين:أحدهما:ما كان وجوده في الخارج ملازماً لوجود الواجب فيه،وهو ما يقع في سلسلة علة وجوده.وثانيهما:ما كان وجوده مفارقاً لوجوده فيه-وهو ما لا يقع في سلسلتها-فالقائل بوجوب المقدمة الموصلة إنّما يدعي وجوب خصوص القسم الأوّل منهما دون القسم الثاني، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري،فإذن لا موضوع لاشكال الدور أو التسلسل أصلاً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ قضية الارتكاز والوجدان تقتضي وجوب خصوص هذا القسم الملازم لوجود الواجب في الخارج،بداهة أنّ من اشتاق إلى شراء اللحم مثلاً فلا محالة يحصل له الشوق إلى صرف مال واقع في سلسلة مبادئ وجوده لا مطلقاً،ولذا لو فرض أنّ عبده صرف المال في جهة اخرى لا في طريق امتثال أمره بشراء اللحم لم يعدّ ممتثلاً للأمر الغيري،بل يعاقبه على صرف المال في تلك الجهة،إلّاإذا كان معتقداً بأنّ صرفه في هذا الطريق يؤدي إلى امتثال الواجب في الخارج ولكنّه في الواقع غير مؤدٍ إليه.فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه على القول بوجوب المقدمة لا مناص من الالتزام بهذا القول.
الثانية: ما عن المحقق صاحب الكفاية 1وشيخنا الاُستاذ 2(قدس سرهما)
وملخصه هو:أنّ ملاك الوجوب الغيري لو كان قائماً بخصوص ما يترتب عليه الواجب النفسي خارجاً،فلا بدّ من القول باختصاص الوجوب بخصوص السبب دون غيره كما عن صاحب المعالم (قدس سره) وهذا ممّا لم يلتزم به صاحب الفصول (قدس سره)،وإن كان ملاكه مطلق التوقف والمقدمية فهو مشترك فيه بين تمام أقسام المقدمات،وعندئذ فلا موجب للتخصيص بخصوصها.
وغير خفي أنّ ملاك الوجوب الغيري قائم بخصوص ما يكون توأماً وملازماً لوجود الواجب في الخارج من ناحية وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل، لا بمطلق المقدمة وإن لم تقع في سلسلتها،ولا بخصوص الأسباب التوليدية، فالطهارة من الحدث أو الخبث مثلاً إن وقعت في سلسلة مبادئ وجود الصلاة في الخارج فهي واجبة وإلّا فلا،مع أ نّها ليست من الأسباب التوليدية بالاضافة إلى الصلاة.
(قدس سره) 1من أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة إنّما هو تمكن المكلف من الاتيان بذيها،نظراً إلى أ نّه لايتمكّن من الاتيان به ابتداءً بدون الاتيان بها،ومن المعلوم ترتب هذا الغرض على مطلق المقدمة دون خصوص الموصلة منها.
والجواب عنه: أنّ هذا ليس الغرض من إيجاب المقدمة،ضرورة أنّ التمكن من الاتيان بذيها ليس من آثار الاتيان بها،بل هو من آثار التمكن من الاتيان بالمقدمة،لوضوح أ نّه يكفي في التمكن من الاتيان بالواجب النفسي وامتثاله التمكن من الاتيان بمقدمته،فانّ المقدور بالواسطة مقدور.أضف إلى ذلك:أنّ القدرة على الواجب لو كانت متوقفة على الاتيان بالمقدمة لجاز للمكلف تفويت الواجب بترك مقدمته،بداهة أنّ القدرة ليست بواجبة التحصيل.فالنتيجة:أنّ
ما أفاده (قدس سره) لا يمكن أن يكون غرضاً لايجابها،بل الغرض منه ليس إلّا إيصالها إلى الواجب،حيث إنّ الاشتياق إلى شيء لا ينفك عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علة وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها.
(قدس سره) 1أيضاً وحاصله هو:
أنّ المكلف إذا جاء بالمقدمة مع عدم الاتيان بذيها-وهو الواجب النفسي-فلا يخلو الحال من أن يلتزم بسقوط الأمر الغيري عنها أو بعدم السقوط،ولا مجال للثاني،لأنّه موجب للتكرار،وعلى الأوّل فامّا أن يكون السقوط للعصيان أو لفقد الموضوع أو لموافقة الخطاب،والأوّل غير حاصل،لفرض الاتيان بالمقدمة،وكذا الثاني فيتعين الثالث،وهذا هو المطلوب،إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة لم يسقط الأمر الغيري،فالسقوط كاشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدمة ولو لم توصل إلى ذيها.
والجواب عنه أوّلاً: بالنقض بأجزاء الواجب المركب كالصلاة مثلاً،فانّ المكلف إذا جاء بأوّل جزء منها ولم يأت ببقية الأجزاء فبطبيعة الحال يسأل عنه أ نّه هل يلتزم بسقوط الأمر الضمني المتعلق به أو لا يلتزم به،والثاني لا يمكن لاستدعائه التكرار،وعلى الأوّل فالسقوط لا يخلو من أن يكون بالعصيان أو بانتفاء الموضوع أو بالامتثال،ولا يمكن الالتزام بشيء منهما، فإذن ما هو جوابه عن ذلك فهو جوابنا عن المسألة.
وثانياً: بالحل،وملخّصه:هو ما عرفت من أنّ الواجب على هذا القول هو حصة خاصة من المقدمة وهي التي يكون وجودها توأماً وملازماً لوجود ذي المقدمة في الخارج،وواقعاً في سلسلة العلة التامة لوجوده،فإذا كانت منفكة
عن ذلك ووقعت مجردة عن بقية أجزاء العلة التامة،فبما أنّ الغرض الداعي إلى إيجابها لم يترتب عليها عندئذ فلا محالة لا تقع في الخارج على صفة الوجوب، وعليه فبطبيعة الحال يستند سقوط الأمر الغيري إلى العصيان أو نحوه لا إلى الاتيان بالمقدمة،لفرض أ نّه لم يأت بما هو الواجب منها.
فالنتيجة: أنّ وجود الواجب النفسي في الخارج كاشف عن تحقق المقدمة فيه،وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها كالشرط المتأخر.ومن ذلك يظهر الحال في أجزاء الواجب النفسي،فانّ كل واحد منها إنّما يقع على صفة الوجوب إذا وقع في الخارج منضماً إلى بقية أجزائه،وأمّا إذا وقع منفكاً عنها فلا يقع على هذه الصفة،لفرض أ نّه ليس بجزء من الواجب.
استدلّ صاحب الفصول (قدس سره) 1على إثبات نظريته باُمور:
الأوّل: أنّ الحاكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته إنّما هو العقل،ومن الطبيعي أ نّه لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شيء وطلب مقدماته التي في سلسلة علة وجود ذلك الشيء في الخارج،بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود الواجب،وأمّا ما لا يقع في سلسلة علته ويكون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً.
وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بأنّ العقل لا يفرّق في الحكم بالملازمة بين الموصلة وغيرها،نظراً إلى أنّ ملاك حكمه بالملازمة إنّما هو حصول التمكن للمكلف من الاتيان بالواجب من قبل الاتيان بها وهو مشترك فيه على الفرض بين تمام أنواع المقدمة.وجوابه قد ظهر ممّا تقدّم حيث بيّنا أنّ التمكن المزبور لا يصلح أن يكون ملاكاً للوجوب الغيري وداعياً له، لفرض أ نّه حاصل قبل الاتيان بالمقدمة.
الثاني: أنّ العقل لا يأبى عن تصريح الآمر بعدم إرادة غير المقدمة الموصلة، ومن الطبيعي أنّ عدم إباء العقل عن ذلك وتجويزه دليل قطعي على وجوب خصوص المقدمة الموصلة دون مطلق المقدمة،مثلاً يجوز للمولى أن يقول لعبده اريد الحج واُريد المسير الذي يوصل إلى بيت اللّٰه الحرام،ولا اريد المسير الذي لا يوصل،ولا يسوغ له أن يقول اريد الحج ولا اريد جميع مقدماته الموصلة وغيرها،كما لا يسوغ له التصريح بعدم إرادة خصوص الموصلة،ومن الواضح أنّ ذلك كلّه آية اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.
وناقش في ذلك صاحب الكفاية (قدس سره) 2بأ نّه ليس للمولى الحكيم غير المجازف التصريح بذلك بعد ما عرفت من أنّ الغرض مشترك بين الجميع – وهو التمكن-وجوابه يظهر ممّا تقدّم،وأنّ ما ذكره من الغرض لا يصلح أن يكون غرضاً،وعليه فلا بأس بهذا التصريح،بل الوجدان أصدق شاهد على جواز ذلك.
الثالث: أنّ الغرض من إيجاب المقدمة إنّما هو إيصالها إلى الواجب ووقوعها في سلسلة علة وجوده،وإلّا فلا داعي للمولى في إيجاب المقدمة،فإذن بطبيعة الحال يكون الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة،والوجدان شاهد صدق على ذلك،فانّ من أراد شيئاً أراد مقدماته التي توصل إليه،وأمّا ما لا يوصل إليه فهو غير مراد له،مثلاً من أراد الطبيب فبطبيعة الحال أراد مقدماته التي توصل إليه دون ما لا يوصل،وهكذا.
وقد ناقش فيه صاحب الكفاية (قدس سره) بما يرجع إلى وجهين أحدهما:
إلى منع الصغرى.وثانيهما:إلى منع الكبرى،أمّا الأوّل:فملخصه هو:أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة إنّما هو التمكن من الاتيان بالواجب النفسي لا ترتبه عليه خارجاً،وهذا الغرض موجود في الموصلة وغيرها،فلا موجب لتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة.وجوابه قد تبين ممّا سبق فلا نعيد.
وأمّا الثاني فحاصله هو:أنّ صريح الوجدان قاض بأنّ المقدمة التي اريد لأجل غاية من الغايات وتجرّدت عنها تقع على صفة الوجوب،وعلى هذا وإن سلّمنا أنّ الغاية لوجوب المقدمة إنّما هي ترتب وجود ذيها عليها،إلّاأ نّه لا يكون قيداً للواجب بحيث لو تجرد عنه لم يقع على صفة الوجوب.وجوابه واضح، وهو أنّ الشيء إذا وجب لغاية من الغايات فكيف يعقل تحقق الوجوب بدون تحقق تلك الغاية،فإذا افترضنا أنّ الغاية من إيجاب المقدمة إنّما هي إيصالها إلى الواجب النفسي وترتبه عليها،فعندئذ لو تجردت عنها ولم يترتب الواجب عليها فكيف تقع على صفة الوجوب،ومن هنا قلنا إنّ وجود الواجب في الخارج كاشف عن تحقق مقدمته الواجبة وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها،ونظير ذلك ما تقدّم من أنّ المكلف إذا أتى بجزء من الواجب وتجرد عن بقية أجزائه لم يقع على صفة الوجوب.
وعلى الجملة: فالغرض بما أ نّه قائم بخصوص المقدمة الموصلة دون غيرها ودون الجامع بينهما،فلا مقتضي لايجاب غيرها ولو بايجاب الجامع.فالنتيجة أنّ ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره) متين جداً ولا مناص عنه لو قلنا بوجوب المقدمة.
قد يستدل على إيجاب خصوص المقدمة الموصلة بوجه آخر وحاصله:هو أ نّه يجوز للمولى أن ينهى عن المقدمات التي لا توصل إلى الواجب،ولا يستنكر ذلك العقل،مع أ نّه يستحيل أن ينهى عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة منها،ومن الطبيعي أنّ هذه التفرقة آية عدم وجوب مطلق المقدمة،ووجوب خصوص الموصلة،مثلاً لو أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق فليس له المنع عن مطلق مقدمته أو عن خصوص الموصلة منها،ولكن له أن يمنع عن المقدمة التي لا توصل إليه،وهذا الاستدلال منسوب 1إلى السيِّد الطباطبائي صاحب العروة (قدس سره).
وأجاب صاحب الكفاية (قدس سره) 2عن ذلك بوجهين:
الأوّل: أنّ هذا الدليل خارج عن مورد الكلام في المسألة،فان محل الكلام إنّما هو في المقدمات المباحة في أنفسها،وأمّا إذا كان بعضها محرّماً،فعدم اتصاف المحرّم بالوجوب الغيري إنّما هو لوجود مانع،لا لأجل عدم المقتضي له،وعلى هذا فنهي المولى عن المقدمات غير الموصلة لايدل على أ نّه لا مقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري،إذ من المحتمل أن يكون عدم اتصافها في هذه الحالة لأجل
وجود المانع وهو نهي المولى،لا لعدم ثبوت المقتضي له.
وهذا الجواب متين جداً،حيث إنّ المقدمة إذا كانت محرّمة فعدم اتصافها بالوجوب الغيري لا يكشف عن عدم ثبوت المقتضي له.
الثاني: أ نّه لا يصح منع المولى عن المقدمة غير الموصلة،بل إنّه غير معقول، والسبب في ذلك هو أ نّه مستلزم إما لطلب الحاصل أو جواز تفويت الواجب مع الاختيار،وكلاهما محال،بيان ذلك:
أمّا الأوّل: فلأنّ وجوب ذي المقدمة مشروط بالقدرة عليه،وهي تتوقف على جواز مقدمته شرعاً،وهو يتوقف على الاتيان بالواجب،لفرض أنّ المقدمة غير الموصلة محرمة،ونتيجة ذلك هي أنّ وجوب ذي المقدمة يتوقف على الاتيان به.
وأمّا الثاني: فلما عرفت من أنّ جواز المقدمة مشروط بالاتيان بذيها وإلّا لكانت المقدمة محرّمة،ومع حرمتها لا يكون الواجب مقدوراً،ولازم ذلك جواز ترك الواجب اختياراً وبلا عصيان ومخالفة،لفرض أنّ تحصيل القدرة غير لازم.وعلى الجملة:أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط بالقدرة عليه،وهي تتوقف على التمكّن من المقدمة عقلاً وشرعاً،وبما أنّ التمكن منها شرعاً في المقام منوط باتيان الواجب النفسي،فمع عدمه لا يكون متمكناً منها،ومع عدم التمكن لا بأس بترك الواجب اختياراً وعمداً.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) مبني على الخلط بين كون الايصال قيداً لجواز المقدمة ووجوب ذيها وبين كونه قيداً للواجب،فلو كان الايصال من قبيل الأوّل لتمّ ما أفاده (قدس سره) إلّاأنّ الأمر ليس كذلك،فانّه قيد للواجب،وعلى هذا فلا يكون جواز المقدمة مشروطاً بالايصال الخارجي
ووجود الواجب النفسي،بل الجواز تعلّق بالمقدمة الموصلة،والمفروض تمكن المكلف منها،ومع هذا بطبيعة الحال لا يجوز له ترك الواجب فلو ترك استحقّ العقاب عليه،لفرض قدرته عليه فعلاً من ناحية قدرته على مقدمته الموصلة كذلك.فالنتيجة:أنّ ما أفاده (قدس سره) خاطئ جداً.
ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام كلام هو:أ نّه (قدس سره) حيث رأى أنّ الوجدان لا يساعد على وجوب المقدمة مطلقاً-سواء أكانت موصلة أم لم تكن-من ناحية،ورأى أ نّه لا يمكن الالتزام بوجوب خصوص الموصلة للمحاذير المتقدمة من ناحية اخرى،فقد اختار نظرية ثانية تبعاً لنظرية المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) 2وإن كان مخالفاً له في بعض النقاط،وملخص ما أفاده (قدس سره) في المقام هو:أنّ الواجب وإن كان هو خصوص المقدمة في حال الايصال،لمساعدة الوجدان على ذلك بناءً على ثبوت الملازمة،إلّاأ نّه مع ذلك لم يؤخذ الايصال قيداً لاتصاف المقدمة بالوجوب،لا بنحو يكون قيداً للواجب ولا للوجوب.أمّا الأوّل:فلما عرفت من استلزامه الدور أو التسلسل.وأمّا الثاني:فلاستلزامه التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط،لأنّ معنى ذلك هو أنّ وجوب المقدمة مقيد بالايصال دون وجوب ذيها،وهو مستحيل على ضوء القول بالملازمة بينهما،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ امتناع تقييد الواجب أو وجوبه بالايصال إلى الواجب النفسي،لا يستلزم أن يكون الواجب والوجوب مطلقين من هذه
الجهة كما ذهب إليه العلّامة الأنصاري (قدس سره)،وذلك لما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ثبوتاً وإثباتاً،فاستحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق وبالعكس،وقد طبّق (قدس سره) هذه الكبرى في عدّة موارد:
منها: أنّ تقييد الأحكام الشرعية بخصوص العالمين بها مستحيل فاطلاقها كذلك،وبما أنّ الاهمال في الواقع غير معقول،فيثبت الاطلاق بمتمم الجعل، ويعبّر عن ذلك بنتيجة الاطلاق. ومنها: أنّ تقييد متعلق الأمر الأوّل بقصد القربة مستحيل فاطلاقه كذلك،وبما أنّ إهمال الواقع الأوّل من الحاكم الملتفت غير معقول فيثبت التقييد بمتمم الجعل،ويسمى ذلك بنتيجة التقييد. ومنها: ما نحن فيه،حيث إنّ تقييد الواجب الغيري أو وجوبه بقيد الايصال مستحيل، فاطلاقه كذلك،وعليه فلا بدّ من الالتزام بشق ثالث وهو الالتزام بوجوب المقدمة في حال الايصال.
ومن ناحية ثالثة:أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد خالف المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) في نقطة وهي:أنّ المقدمة إذا كانت محرّمة كسلوك الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق مثلاً،فقد ادّعى صاحب الحاشية (قدس سره) أنّ المقدمة المزبورة إنّما تتصف بالوجوب من ناحية إيصالها إلى الغريق،وتتصف بالحرمة على تقدير عدم الايصال إليه وعصيان الأمر الوارد عليها،وهو وجوب السلوك من حيث الانقاذ،فالنتيجة هي تعلّق خطابين بموضوع واحد على نحو الترتب.
ولكن أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بأنّ اتصاف المقدمة المذكورة بالحرمة من ناحية عصيان الأمر بالواجب النفسي لا الأمر المتوجه إليها،فانّ
المزاحمة إنّما هي بين حرمتها ووجوب ذيها فلا يعقل الترتب بين خطابين متعلقين بموضوع واحد،ومن هنا اعتبر (قدس سره) الترتب بين خطابين متعلقين كل منهما بموضوع،وتمام الكلام في محلّه.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) من عدّة جهات:
الاُولى: ما تقدّم من أنّ الالتزام بوجوب خصوص المقدمة لا يستلزم كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري ليلزم محذور الدور أو التسلسل.
الثانية: أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق،فقد ذكرنا بصورة موسعة في بحث التعبدي والتوصلي أنّ هذه الكبرى خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً،وذكرنا هناك أنّ استحالة التقييد بقيد في مقام الثبوت تستلزم إمّا ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه.
وعلى ضوء هذا الأساس فحيث إنّ فيما نحن فيه تقييد الواجب الغيري بالايصال مستحيل وكذلك تقييده بعدم الايصال،فالاطلاق عندئذ ضروري، وعليه فالنتيجة ثبوت ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من وجوب المقدمة مطلقاً.
الثالثة: أنّ الترتب كما ذكرناه في محلّه 1وإن كان أمراً معقولاً بل ولا مناص من الالتزام به،إلّاأ نّه في المقام غير معقول،والسبب في ذلك هو أنّ حرمة المقدمة إذا كانت مشروطة بعصيان الأمر بذي المقدمة فبطبيعة الحال يكون وجوبها مشروطاً بعدم عصيانه وإطاعته،لاستحالة كون شيء واحد في زمان واحد واجباً وحراماً معاً.
وإن شئت قلت:إنّه لا يعقل أن يكون وجوبها مطلقاً وثابتاً على كل تقدير مع كونها محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة،كيف فانّه من اجتماع الوجوب والحرمة الفعليين في شيء في زمن واحد،فإذا كان وجوب المقدمة مشروطاً بعدم عصيان وجوب الواجب النفسي فعندئذ لا بدّ من النظر إلى أنّ وجوب الواجب النفسي أيضاً مشروط بعدم عصيانه وإطاعته أم لا،فعلى الأوّل يلزم طلب الحاصل،لأنّ مردّ ذلك إلى أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط باتيانه وإطاعته وهو مستحيل،وعلى الثاني يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث الاطلاق والاشتراط وهو غير ممكن على القول بالملازمة بينهما كما هو المفروض.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ ما أفاده لا يمكن المساعدة عليه بوجه، فالصحيح على القول بوجوب المقدمة هو ما ذهب إليه صاحب الفصول (قدس سره) ولا يرد عليه شيء ممّا اورد كما عرفت.
ذكر الأصحاب لها عدّة ثمرات:
على القول بوجوب المقدمة الموصلة،وفسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة.
ولا يخفى أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة لمسألة اصولية،كما ذكرنا في محلّه من أنّ ثمرة المسألة الاُصولية ما يترتب عليها بلا ضم مقدمة اخرى اصولية،وهذه الثمرة تتوقف على ضم مقدمتين اخريين الاُولى:أن يكون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر.الثانية:أن يكون النهي الغيري كالنهي النفسي في الدلالة على الفساد،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ المقدمتين المذكورتين غير تامتين كما حققنا ذلك في مبحث الضد بشكل موسّع فلانعيد.ومن ناحية ثالثة:أ نّه على تقدير تسليم هاتين المقدمتين وتسليم وجوب المقدمة هل تظهر الثمرة المزبورة بين القولين ؟ ففيه وجهان،الصحيح هو الظهور،بيان ذلك:هو أنّ ترك الصلاة إذا كان مقدمة لواجب أهم كازالة النجاسة عن المسجد مثلاً،فلا محالة كان ذلك الترك واجباً، فإذا صار الترك واجباً بطبيعة الحال كان الفعل منهياً عنه،بناءً على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام،والنهي في العبادة يوجب الفساد،هذا بناءً على القول بوجوب مطلق المقدمة.
وأمّا بناءً على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة فالصلاة في المثال
المزبور لا تقع فاسدة،وذلك لأنّ الواجب على ضوء هذا القول إنّما هو الترك الخاص وهو الترك الموصل لا مطلق الترك،ومن الطبيعي أنّ نقيضه-وهو ترك هذا الترك الخاص-ليس عين الصلاة في الخارج،بل هو مقارن لها لتحققه في ضمن الصلاة مرّة،وفي ضمن الترك غير الموصل مرّة اخرى،ومن المعلوم أنّ الحرمة الثابتة لشيء لا تسري إلى ملازمه فضلاً عن مقارنه اتفاقاً،وعلى هذا فلا تكون الصلاة منهياً عنها لتقع فاسدة.
وأورد على ذلك شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) على ما في تقريراته 1من أنّ هذه الثمرة ليست بتامة،والسبب في ذلك:هو أنّ الفعل على كلا القولين ليس نقيضاً للترك،لأنّ نقيض كل شيء رفعه ونقيض الترك رفع الترك وهو غير الفعل،غاية الأمر على القول بوجوب مطلق المقدمة ينحصر مصداق النقيض في الفعل فحسب،وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة فله فردان في الخارج:أحدهما:الفعل،والآخر:الترك غير الموصل،حيث إنّ نقيض الأخص أعم،ومن الواضح أنّ حرمة النقيض كما تسري إلى فعل الصلاة على الأوّل،كذلك تسري إليه على الثاني،لفرض أنّ الفعل على كلا القولين ليس عين النقيض،بل هو فرده وثبوت الحرمة له من باب السراية، وبديهي أ نّه لا فرق في السراية بين انحصار فرده في الفعل وعدم انحصاره فيه أبداً.فإذن تقع الصلاة على كلا القولين فاسدة فلا تظهر الثمرة بينهما.
والجواب عنه أوّلاً: أنّ الفعل لا يعقل أن يكون مصداقاً للترك،لاستحالة كون الوجود مصداقاً للعدم لتباينهما ذاتاً واستحالة صدق أحدهما على الآخر، كيف فانّ العدم لا تحقق له خارجاً لينطبق على الوجود.وعلى الجملة:فلا يعقل أن يكون العدم جامعاً بين الوجود والعدم المحض،وعلى هذا فلا يكون
فعل الصلاة مصداقاً للنقيض،بل هو مقارن له،وقد تقدّم أنّ حرمة شيء لا تسري إلى مقارنه.
وثانياً: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وقد بيّناه مع زيادة توضيح في مبحث الضد،وملخصه:هو أنّ الفعل بنفسه نقيض للترك المطلق ورافع له،بداهة أنّ نقيض الوجود هو العدم البديل له،ونقيض العدم هو الوجود كذلك،وهذا هو المراد من جملة أنّ نقيض كل شيء رفعه،وليس المراد منها أنّ نقيض الترك عدم الترك،ونقيض عدم الترك عدم عدم الترك وهكذا إلى ما لا نهاية له،فانّه وإن عبّر به إلّاأ نّه باعتبار انطباقه على الوجود خارجاً وكونه مرآة له لا أ نّه بنفسه نقيض،وإلّا لزم أن لا يكون الوجود نقيضاً للعدم وهو كما ترى،ولأجل ذلك،أي كون الوجود نقيضاً للعدم حقيقة وبالعكس، قد ثبت أنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان.
وعلى ضوء هذا الأساس،فعلى القول بوجوب المقدمة مطلقاً،حيث إنّ ترك الصلاة في المثال المتقدم واجب فنقيضه-وهو وجود الصلاة-بطبيعة الحال يكون منهياً عنه،وعليه فلا محالة تقع فاسدة.وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة بما أنّ الواجب هو الترك الموصل فحسب فلا يكون فعل الصلاة نقيضاً له،بل هو مقارن له،وقد تقدّم أنّ الحكم الثابت لشيء لا يسري إلى ملازمه فضلاً عن مقارنه.فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ هذه الثمرة تامة وإن لم تكن ثمرة للمسألة الاُصولية على تقدير تسليم وجوب المقدمة من ناحية،وتسليم المقدمتين المذكورتين من ناحية اخرى.
(قدس سره) 1من أن نتيجة
البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته هي وجوب المقدمة شرعاً بناءً على الثبوت بعد ضم هذه الكبرى إلى صغرياتها.
وفيه: أنّ هذه النتيجة وإن ترتبت على هذه المسألة بناءً على ثبوت الملازمة بينهما،إلّاأ نّها لا تصلح أن تكون ثمرة فقهية للمسألة الاُصولية،وذلك لعدم ترتب أثر عملي عليها أصلاً بعد حكم العقل بلابدّية الاتيان بالمقدمة.ومن هنا سنقول إنّ حكم الشارع بوجوب المقدمة لغو محض.
و أمّا على القول بعدم وجوبها فلا يمكن.
وفيه: أ نّه قد تقدّم 1أنّ عبادية المقدمة لا تتوقف على وجوبها،فان منشأها كما عرفت أحد أمرين:إمّا الاتيان بها بقصد التوصل إلى الواجب النفسي وامتثال أمره.وإما الاتيان بها بداعي أمرها النفسي المتعلق بها كما في الطهارات الثلاث،فالوجوب الغيري لا يكون منشأ لعباديتها أصلاً.
و عدم حصول البِرّ به على القول بعدم وجوبها.
وغير خفي أمّا أوّلاً: أنّ مثل هذه الثمرة لا يوجب كون البحث عن وجوب المقدمة بحثاً اصولياً،وذلك لأنّ المسألة الاُصولية هي ما تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الإلهٰي بعد ضم صغراها إليها بلا توسط مسألة اصولية اخرى كالقواعد التي يستنبط منها مثل وجوب الوفاء بالنذر أو نحوه،وما نحن فيه ليس من هذا القبيل،فانّ المترتب على مسألتنا هذه إنّما هو انطباق الحكم الشرعي الكلي المعلوم المستنبط من دليله على الاتيان بالمقدمة،ومن الواضح
أنّ المسألة لا تكون بذلك اصولية.
وأمّا ثانياً: فلأ نّها لو تمّت فانّما تتم على القول بوجوب مطلق المقدمة،وأمّا بناءً على القول بوجوب خصوص الموصلة فلا تظهر إلّاإذا أتى بذي المقدمة أيضاً،وإلّا لم يأت بالواجب،وعندئذ فلا تظهر الثمرة كما لا يخفى.
وأمّا ثالثاً: فلأنّ الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر،فان قصد من لفظ الواجب خصوص الواجب النفسي لم يكف الاتيان بالمقدمة في الوفاء به ولو قلنا بوجوبها،وإن قصد منه مطلق ما يلزم الاتيان به ولو عقلاً،كفى الاتيان بها وإن قلنا بعدم وجوبها.نعم،لو كان قصده الاتيان بالواجب الشرعي من دون نظر إلى كونه نفسياً أو غيرياً ولو من ناحية عدم الالتفات إلى ذلك،ولم يكن في البين ما يوجب الانصراف إلى الأوّل،كفى الاتيان بالمقدمة على القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها.
الثمرة الخامسة: هي أ نّه على القول بوجوب المقدمة لا يجوز أخذ الاُجرة عليها،لأنّه من أخذ الاُجرة على الواجبات،وعلى القول بعدم وجوبها يجوز ذلك.
وفيه أوّلاً: أ نّنا قد حققنا في محلّه 1أنّ الوجوب بما هو وجوب لا يكون مانعاً من أخذ الاُجرة على الواجب،سواء أكان وجوبه عينياً أم كان كفائياً، توصلياً كان أم عبادياً،إلّاإذا قام دليل على لزوم الاتيان به مجاناً كتغسيل الميت ودفنه ونحو ذلك،فعندئذ لا يجوز أخذ الاُجرة عليه،وبما أ نّه لا دليل على لزوم الاتيان بالمقدمة مجّاناً فلا مانع من أخذ الاُجرة عليه وإن قلنا بوجوبها.
وثانياً: لو تنزّلنا عن ذلك فلا بدّ من التفصيل بين المقدمات العبادية
كالطهارات الثلاث وبين غيرها من المقدمات،فانّه لو كان هناك مانع من أخذ الاُجرة عليها إنّما هو عباديتها،سواء أكانت واجبة أم لم تكن،فلا دخل لوجوبها بما هو وجوب في ذلك أبداً،بل ربّما يكون الشيء غير واجب فمع ذلك لا يجوز أخذ الاُجرة عليه كالأذان مثلاً.فالنتيجة:أ نّه لا ملازمة بين وجوب شيء وعدم جواز أخذ الاُجرة عليه أصلاً،بل النسبة بينهما عموم من وجه.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ جواز أخذ الاُجرة على المقدمة وعدم جوازه يدوران مدار جواز أخذها على ذي المقدمة وعدم جوازه،خاطئ جداً،ضرورة أنّ المقدمة ليست تابعة لذيها من هذه الناحية،ولا دليل على هذه التبعية،وإنّما كانت تبعيتها في الوجوب فحسب،وبعد القول بوجوبها فهي واجبة مستقلة،فجواز أخذ الاُجرة عليها أو عدم جوازه يحتاج إلى دليل،ولا صلة له بالجواز أو عدمه على الواجب النفسي أصلاً.على أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة للمسألة الاُصولية.
الثمرة السادسة: حصول الفسق بترك الواجب النفسي مع مقدماته الكثيرة على القول بوجوبها،وعدم حصوله على القول بعدمه.
وفيه: مضافاً إلى أ نّه لابدّ من فرض الكلام فيما إذا كان ترك الواجب النفسي من الصغائر دون الكبائر،وإلّا لكان تركه بنفسه موجباً لحصول الفسق من دون حاجة [ إلى ] ترك مقدماته،أنّ هذه الثمرة تبتني على أمرين،الأوّل:
التفصيل بين المعاصي الكبيرة والصغيرة،والالتزام بحصول الفسق في الاُولى، وعدم حصوله في الثانية إلّافي فرض الاصرار عليها.الثاني:أن يكون الاصرار عبارة عن ارتكاب معاص عديدة ولو في زمن واحد ودفعة واحدة.
ولكنّ للمناقشة في كلا الأمرين مجالاً واسعاً.
أمّا الأوّل: فلما ذكرناه في محلّه من أ نّه لا أساس لهذا التفصيل أصلاً،وأ نّه لا فرق بين المعصية الكبيرة والصغيرة من هذه الناحية،فكما أنّ الاُولى توجب الفسق والخروج عن جادة الشرع يميناً وشمالاً،فكذلك الثانية.وبكلمة اخرى:
قد ذكرنا غير مرّة أنّ الفسق عبارة عن خروج الشخص عن جادة الشرع يميناً وشمالاً،ويقابله العدل فانّه عبارة عن الاستقامة في الجادة وعدم الخروج عنها كذلك،ومن البديهي أنّ المعصية الصغيرة كالكبيرة توجب الفسق والخروج عن الجادة،فإذن لاتترتب هذه الثمرة على القول بوجوب المقدمة أصلاً كما هو ظاهر.
وأمّا الثاني: فلأنّ الاصرار على المعصية عبارة عرفاً عن ارتكابها مرّة بعد اخرى،وأمّا ارتكاب معاصي عديدة مرّة واحدة فلا يصدق عليه الاصرار يقيناً، بداهة أنّ من نظر إلى جماعة من النِّساء الأجنبيات دفعة واحدة وإن كان يرتكب معاصي عديدة إلّاأ نّه لا يصدق على ذلك الاصرار،وعليه فلا ثمرة.
ولو تنزلنا عن جميع ذلك فأيضاً لا مجال لها،لما قد عرفت من أ نّه لا معصية في ترك المقدمة بما هو مقدمة وإن قلنا بوجوبها حتّى يحصل الاصرار على المعصية،ضرورة أنّ المدار في حصول المعصية وهتك المولى إنّما هو بمخالفة الأمر النفسي،فلا أثر لمخالفة الأمر الغيري بما هو أمر غيري أصلاً.أضف إلى ما ذكرناه:أنّ هذه الثمرة على تقدير تسليمها لا تصلح أن تكون ثمرة للمسألة الاُصولية.
الثمرة السابعة: أنّ المقدمة إذا كانت محرّمة فعلى القول بوجوبها يلزم اجتماع الأمر والنهي دون القول بعدم الوجوب.
وقد أورد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1على هذه الثمرة باُمور
ثلاثة:
الأوّل: أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي إنّما هي ترتكز على ما إذا كان هناك عنوان تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي وقد اجتمعا في مورد واحد اتفاقاً، وأمّا إذا كان هناك عنوان واحد تعلّق به كل من الأمر والنهي فهو خارج عن هذه المسألة وداخل في مسألة النهي عن العبادات والمعاملات،وما نحن فيه من قبيل الثاني،فان عنوان المقدمة عنوان تعليلي خارج عن متعلق الأمر،وعليه فبطبيعة الحال تعلّق كل من الأمر والنهي بشيء واحد،وهو ما كان مقدمة بالحمل الشائع.
ويردّه: أنّ عنوان المقدمة وإن كان عنواناً تعليلياً وخارجاً عن متعلق الأمر، إلّا أنّ المأمور به هو الطبيعي الجامع بين هذا الفرد المحرّم وغيره،وعليه فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي،فان متعلق الأمر هو طبيعي الوضوء أو الغسل مثلاً،أو طبيعي تطهير البدن أو اللباس،ومتعلق النهي حصة خاصة من هذا الطبيعي بعنوان الغصب أو نحوه،وبما أنّ متعلق الأمر والنهي ينطبقان على هذه الحصة فهي مجمع لهما وتكون من موارد الاجتماع.
الثاني: أ نّه لا يلزم في المقام اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد،وذلك لأنّ المقدمة لا تخلو من أن تكون منحصرة أو غير منحصرة،فعلى الأوّل،فان كان ملاك الوجوب أقوى من ملاك الحرمة فلا حرمة في البين،وإن كان العكس فبالعكس،وعلى الثاني فلا محالة يختص الوجوب بغير المحرّم من المقدمة،لوضوح أنّ العقل لا يحكم بالملازمة إلّابين وجوب شيء ووجوب خصوص مقدماته المباحة.فالنتيجة:أنّ المقدمة لا يكون مجمعاً للوجوب والحرمة.
ويردّه: أنّ الأمر وإن كان كذلك في صورة انحصار المقدمة بالمحرّمة،إلّاأ نّه
لايتم في صورة غير الانحصار،والسبب فيه هو أ نّه لا موجب لتخصيص الوجوب في هذه الصورة بخصوص المقدمة المباحة بعد ما كانت المقدمة المحرمة مثلها في الواجدية للملاك-وهو توقف الواجب عليها ووفائها بالغرض-ومجرد كون المقدمة محرّمة من ناحية انطباق عنوان المحرّم عليها لا يخرجها عن واجديتها للملاك،إذ كما أنّ اجتماع الواجب النفسي مع عنوان محرّم لا ينافي وقوعه على صفة المطلوبية بناءً على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر،كذلك اجتماع الواجب الغيري كالمسير إلى الحج مثلاً مع عنوان محرّم كالغصب لا ينافي وقوعه على صفة المطلوبية، ومن الواضح أ نّه لا فرق من هذه الناحية بين الواجب النفسي والغيري.
الثالث: أنّ الغرض من المقدمة إنّما هو التوصل بها إلى الواجب النفسي، فان كانت توصلية أمكن التوصل بها إلى الواجب النفسي،وإن كانت محرّمة سواء فيه القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه،ضرورة أ نّه لا أثر له في ذلك أبداً،وإن كانت تعبدية كالطهارات الثلاث،فعندئذ إن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي صحت العبادة في مورد الاجتماع،سواء أقلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل، وإن قلنا بامتناع الاجتماع وتقديم جانب النهي على جانب الأمر فلا مناص من الحكم بفسادها،من دون فرق أيضاً بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها،فإذن لا ثمرة للقول بالوجوب من هذه الناحية.
ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) 1في مبحث مقدمة الواجب اموراً أربعة:
الأوّل:أنّ مسألة مقدمة الواجب من المسائل الاُصولية العقلية.
الثاني:تقسيم المقدمة إلى الشرعية والعقلية والعادية من ناحية،وإلى الداخلية والخارجية والمتقدمة والمتأخرة والمقارنة من ناحية اخرى.
الثالث:تقسيم الواجب إلى المشروط والمطلق تارة،وإلى المنجّز والمعلّق تارة اخرى.
الرابع:بيان الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته،والتعرض لما هو الواجب من المقدمة،وبعد الانتهاء عن هذه الاُمور الأربعة ذكر انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي.وكان المناسب عليه أن يدرج هذا التقسيم في الأمر الثالث، لأ نّه من شؤون تقسيم الواجب،ولعل هذا كان غفلة منه (قدس سره) في مقام التأليف أو كان الاشتباه من الناسخ،وكيف كان فالتعرض لهذا التقسيم هنا إنّما هو تبعاً للمحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإلّا فهو عديم الفائدة والأثر.
فنقول: إنّ الأصالة والتبعية تلاحظان مرّة بالاضافة إلى مقام الثبوت، ومرّة اخرى بالاضافة إلى مقام الاثبات.
أمّا على الأوّل:فالمراد بالأصلي:هو ما كان متعلقاً للارادة والطلب تفصيلاً ومورداً لالتفات المولى كذلك،والمراد بالتبعي هو ما كان متعلقاً لهما تبعاً
وارتكازاً ومورداً للالتفات كذلك.ومن هنا يظهر أنّ هذا التقسيم لا يجري في الواجب النفسي،بداهة أ نّه لا يتصف إلّابالأصالة،فلا يعقل أن تكون الارادة المتعلقة به إرادة تبعية وارتكازية،فالتقسيم خاص بالواجب الغيري.
وأمّا على الثاني:فالمراد بالأصلي هو ما كان مقصوداً بالافهام من الخطاب بحيث تكون دلالة الكلام عليه بالمطابقة،وبالتبعي هو ما لم يكن كذلك،بل كانت دلالة الكلام عليه بالتبعية والالتزام،ولكن على هذا فالواجب لا ينحصر بهذين القسمين،بل هنا قسم ثالث:وهو ما لم يكن الواجب مقصوداً بالافهام من الخطاب أصلاً لا أصالة ولا تبعاً،كما إذا كان الواجب مدلولاً لدليل لبي من إجماع أو نحوه،هذا إذا علم بالأصالة والتبعية.
وأمّا إذا شكّ في واجب أ نّه أصلي أو تبعي،فحيث لا أثر لذلك فلا أصل في المقام حتّى يعيّن أحدهما لا لفظاً ولا عملاً.نعم،لو كان لهما أثر عملي فمقتضى الأصل هو كون الواجب تبعياً إذا كان عبارة عما لم تتعلق به الارادة المستقلة، وأمّا إذا كان عبارة عما تعلقت به الارادة التبعية فلا يكون موافقاً للأصل.
والبحث فيه يقع في مقامين:الأوّل:في مقتضى الأصل العملي.الثاني:في مقتضى الأصل اللفظي.
أمّا المقام الأوّل: فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أ نّه لا أصل في المسألة الاُصولية يعيّن الملازمة عند الشك في ثبوتها أو عدمها،والسبب فيه ما ذكرناه من أنّ هذه الملازمات وإن لم تكن من سنخ الموجودات الخارجية من الأعراض والجواهر،إلّاأ نّها امور واقعية أزلية كاستحالة اجتماع النقيضين والضدين والدور والتسلسل وما شاكل ذلك،حيث إنّها لم تكن محدودة بحد خاص،بل هي امور أزلية ولها واقع موضوعي.
وعلى هذا الضوء فان كانت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ثابتة فهي من الأزل،وإن لم تكن ثابتة فكذلك،ومن الطبيعي أنّ ذلك لن يدع مجالاً للأصل في المقام.وأمّا في المسألة الفرعية فقد أفاد (قدس سره) أ نّه لا مانع من الرجوع إلى اصالة عدم وجوب المقدمة بتقريب أ نّها قبل إيجاب الشارع الصلاة مثلاً لم تكن واجبة لفرض عدم وجوب ذيها،وبعد إيجابها شكّ في وجوبها،ومعه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم الوجوب أو أصالة البراءة عنه.
ولنأخذ بالنظر إلى ما أفاده (قدس سره).أمّا ما أفاده بالاضافة إلى المسألة الاُصولية من أ نّه لا أصل فيها،فمتين جداً ولا مناص عنه كما عرفت.
وأمّا ما أفاده بالاضافة إلى المسألة الفرعية من وجود الأصل فيها فانّه قابل
للمؤاخذة،وذلك لأنّ الأصل فيها لايخلو من أن يكون البراءة أو الاستصحاب.
والاُولى:لا تجري بكلا قسميها:أمّا العقلية،فلأ نّها واردة لنفي المؤاخذة والعقاب،والمفروض أ نّه لا عقاب على ترك المقدمة وإن قلنا بوجوبها،والعقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي.وأمّا الشرعية،فبما أ نّها وردت مورد الامتنان فيختص موردها بما إذا كانت فيه كلفة على المكلف ليكون في رفعها بها امتناناً، والمفروض أ نّه لا كلفة في وجوب المقدمة حيث لا عقاب على تركها.على أنّ العقل يستقل بلزوم الاتيان بها لتوقف الواجب عليها،سواء أقلنا بوجوبها أم لم نقل،فإذن أيّ أثر ومنّة في رفع الوجوب عنها بعد لا بدّية الاتيان بها على كل تقدير.
والثاني-وهو الاستصحاب-فأيضاً لايجري،لأنّ موضوعه وإن كان تاماً، إلّا أ نّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الاتيان بها.وعلى الجملة:فلا يترتب أيّ أثر على استصحاب عدم وجوبها بعد لا بدّية الاتيان بها على كل تقدير، ومعه لا معنى لجريانه.
نعم،لا مانع من الرجوع إلى الأصل من ناحية اخرى،وهي ما ذكرناه سابقاً من الثمرة فيما إذا كانت المقدمة محرّمة وقد توقف عليها واجب أهم،فعندئذ لا بدّ من ملاحظة دليل حرمة المقدمة،فان كان لدليلها إطلاق أو عموم،لزم التمسك به في غير مقدار الضرورة-وهو خصوص المقدمة الموصلة-وإن شئت قلت:
إنّ القدر المتيقن هو رفع اليد عن تحريم خصوص تلك المقدمة،وأمّا غيرها، فان كان إطلاق في البين فلا مناص من التمسك به لاثبات حرمتها،لعدم ضرورة تقتضي رفع اليد عنها،وإن لم يكن إطلاق فالمرجع هو أصل البراءة عن حرمة المقدمة غير الموصلة للشك فيها وعدم دليل عليها.فالنتيجة هي سقوط الحرمة عن المقدمة مطلقاً،سواء أكانت موصلة أم لم تكن،أمّا عن
الاُولى فمن ناحية المزاحمة،وأمّا عن الثانية فمن ناحية أصالة البراءة.
هذا على القول بوجوب مطلق المقدمة،وأمّا على القول بوجوب خصوص الموصلة،أو خصوص ما قصد به التوصل،فالساقط إنّما هو الحرمة عنه فحسب دون غيره كما سبق.
وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ على وجوب المقدمة بأدلة ثلاثة:
الأوّل: ما عن الأشاعرة 1وملخصه:أنّ المولى إذا أوجب شيئاً فلا بدّ له من إيجاب جميع مقدمات ذلك الشيء،وإلّا-أي وإن لم يوجب تلك المقدمات – فجاز تركها،وهذا يستلزم أحد محذورين:إمّا أن يبقى وجوب ذي المقدمة بحاله،وهو محال لأنّه تكليف بما لا يطاق،أو لا يبقى وجوبه بحاله بل يصير مشروطاً بحصول مقدمته،فيلزم عندئذ انقلاب الواجب المطلق إلى المشروط.
وغير خفي أنّ عدم إيجاب الشارع المقدمة مع إيجاب ذيها لا يستلزم أحد هذين المحذورين أبداً،والسبب في ذلك:ما تقدّم من أ نّه يكفي في القدرة على ذي المقدمة القدرة على مقدمته فلا تتوقف على الاتيان بها خارجاً ولا على وجوبها شرعاً،بداهة أ نّه لا صلة لوجوب المقدمة بالقدرة على ذيها،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الشارع وإن لم يوجب المقدمة إلّاأنّ العقل يستقل بلا بدّية الاتيان بها بحيث لو لم يأت بها وأدّى ذلك إلى ترك ذي المقدمة لكان عاصياً بنظر العقل واستحقّ العقاب على مخالفته،لفرض أ نّه خالف تكليف المولى باختياره،فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا يلزم من بقاء وجوب ذي المقدمة بحاله تكليف بما لا يطاق،لما عرفت من أ نّه مقدور في هذا
الحال،وعليه فلا موجب للانقلاب أصلاً.والحاصل:أنّ ترخيص المولى بترك المقدمة معناه أ نّه لا يعاقب عليه،لا أ نّه لا يعاقب على ترك ذيها بعد تمكن المكلف من الاتيان بمقدماته.
الثاني: ما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أنّ الأوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات تدلنا على إيجاب المقدمة حين إرادة ذيها مثل قوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ» 2وقوله (عليه السلام)«اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» 3وما شاكل ذلك، ومن الواضح أ نّه لا بدّ من أن يكون لهذه الأوامر ملاك،وهو لا يخلو من أن يكون غير ملاك الواجب النفسي أو يكون هو المقدمية،فعلى الأوّل يلزم أن تكون تلك الأوامر أوامر نفسية وهو خلاف الفرض،فإذن يتعين الثاني،هذا من ناحية ومن ناحية اخرى:أ نّه لا خصوصية لهذه الموارد التي وردت فيها تلك الأوامر،فإذن بطبيعة الحال يتعدى منها إلى غيرها ونقول بوجوب المقدمة مطلقاً.
ولنأخذ بالنقد عليه:وهو أنّ الأوامر المزبورة مفادها إرشاد إلى شرطية شيء دون الوجوب المولوي الغيري،ويدلنا على ذلك أمران:الأوّل:أنّ المتفاهم العرفي من أمثال تلك الأوامر هو الارشاد دون المولوية.الثاني:ورود مثل هذه الأوامر في أجزاء العبادات كالصلاة ونحوها والمعاملات،ومن الطبيعي أنّ مفادها هو الارشاد إلى الجزئية لا الوجوب المولوي الغيري،كيف حيث قد تقدّم أنّ الجزء لا يقبل الوجوب الغيري.
الثالث: ما جاء به المحقق صاحب الكفاية 1وشيخنا الاُستاذ 2(قدس سرهما) من أنّ الوجدان أصدق شاهد على ذلك،فانّ من اشتاق إلى شيء وأراده فبطبيعة الحال إذا رجع إلى وجدانه والتفت إلى ما يتوقف عليه ذلك الشيء اشتاق إليه كاشتياقه إلى نفس الواجب،ولا فرق من هذه الجهة بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية وإن كانتا مختلفتين من حيث المتعلق.
والجواب عنه: أ نّه إن اريد من الارادة الشوق المؤكد الذي هو من الصفات النفسانية الخارجة عن اختيار الانسان وقدرته غالباً،ففيه:مضافاً إلى أنّ اشتياق النفس إلى شيء البالغ حدّ الارادة إنّما يستلزم الاشتياق إلى خصوص مقدماته الموصلة لو التفت إليها لا مطلقاً،أنّ الارادة بهذا المعنى ليست من مقولة الحكم في شيء،ضرورة أنّ الحكم فعل اختياري للشارع وصادر منه باختياره وارادته.
وإن اريد منها الاختيار وإعمال القدرة نحو الفعل،فهي بهذا المعنى وإن كانت من مقولة الأفعال،إلّاأنّ الارادة التشريعية بهذا المعنى باطلة،وذلك لما تقدّم بشكل موسّع من استحالة تعلّق الارادة بهذا المعنى أي إعمال القدرة بفعل الغير.
وإن اريد منها الملازمة بين اعتبار شيء على ذمة المكلف وبين اعتبار مقدماته على ذمته،فالوجدان أصدق شاهد على عدمها،بداهة أنّ المولى قد لا يكون ملتفتاً إلى توقفه على مقدماته كي يعتبرها على ذمته.على أ نّه لا مقتضي لذلك بعد استقلال العقل بلا بدّية الاتيان بها،حيث إنّه مع هذا لغو صرف.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه:أنّ الصحيح في المقام أن يقال:إنّه لا دليل
على وجوب المقدمة وجوباً مولوياً شرعياً،كيف حيث إنّ العقل بعد أن رأى توقف الواجب على مقدمته ورأى أنّ المكلف لا يستطيع على امتثال الواجب النفسي إلّابعد الاتيان بها،فبطبيعة الحال يحكم العقل بلزوم الاتيان بالمقدمة توصّلاً إلى الاتيان بالواجب،ومع هذا لو أمر الشارع بها فلا محالة يكون إرشاداً إلى حكم العقل بذلك،لاستحالة كونه مولوياً.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي عدم وجوب المقدمة بوجوب شرعي مولوي لا على نحو الاطلاق ولا خصوص حصة خاصة منها.
ثمّ إنّنا لو بنينا على وجوب المقدمة شرعاً من ناحية ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته،فهل تختص هذه الملازمة بخصوص ما إذا كان ذو المقدمة واجباً أم يعمّ المستحب أيضاً ؟ الظاهر هو الثاني بعين ما ذكرناه من الملاك لوجوبها في الواجب،وقد تقدّم بشكل موسّع.
ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ مقدمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: هو ما لا يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته،فلو أتى بالمقدمة فذو المقدمة يقع في الخارج قهراً عليه بحيث لا يتمكن من تركه نظير العلّة التامّة ومعلولها،كما إذا علم المكلف بأ نّه لو دخل في المكان الفلاني لاضطرّ إلى ارتكاب الحرام قهراً على نحو لا يقدر على التخلّف عنه،وفي هذا القسم حكم (قدس سره) بحرمة المقدمة حرمة نفسية لا غيرية،حيث إنّ النهي الوارد على ذي المقدمة وارد عليها حقيقة،فانّها هي المقدورة للمكلف دونه.
الثاني: هو ما يتوسّط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته،إلّاأنّ المكلف يقصد باتيان المقدمة التوصل إلى الحرام،حيث إنّه بعد إتيانها يقدر على ارتكابه،وفي هذا القسم أيضاً حكم (قدس سره) بالحرمة،ولكنّه تردّد بين الحرمة النفسية والغيرية من ناحية تردّده بين أنّ حرمتها تبتني على حرمة التجري أو على السراية من ذي المقدمة.
الثالث: هو ما يتوسّط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته،إلّاأنّ إتيان المكلف بها ليس بداعي التوصل إلى الحرام،فانّه بعد الاتيان بها وإن تمكن من ارتكابه ولكن لديه صارف عنه،وفي هذا القسم حكم (قدس سره)
بعدم الحرمة،إذ لا موجب لها،فانّ الموجب لاتصاف المقدمة بالحرمة أحد أمرين:الأوّل:أن يكون إتيانها علة تامة للوقوع في الحرام.الثاني:أن يكون الاتيان بها بقصد التوصل.وكلا الأمرين مفقود في المقام.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الأقسام، أمّا القسم الأوّل: فتحريم المقدمة يتبع القول بوجوب مقدمة الواجب لوحدة الملاك بينهما-وهو توقف امتثال التكليف عليها-غاية الأمر ففي مقدمة الواجب يتوقف امتثال الواجب على الاتيان بها، وفي مقدمة الحرام يتوقف ترك الحرام على تركها،وحيث إنّا لا نقول بوجوب المقدمة فلا نقول بتحريمها.وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ النهي في هذا القسم حقيقة تعلّق بالمقدمة دون ذيها،نظراً إلى أ نّها مقدورة دونه فهو مناقض لما أفاده (قدس سره) في غير مورد من أنّ المقدور بالواسطة مقدور،فالمعلول وإن لم يكن مقدوراً ابتداءً إلّاأ نّه مقدور بواسطة القدرة على علته،ومن الطبيعي أنّ هذا المقدار يكفي في تعلّق النهي به حقيقة،وعليه فلا مقتضي لحرمة المقدمة.
وأمّا القسم الثاني: فلأ نّه لا موجب لاتصاف المقدمة بالحرمة الغيرية وإن قلنا بوجوب مقدمة الواجب،وذلك لعدم توقف الاجتناب عن الحرام على ترك المقدمة،لفرض أنّ المكلف بعد الاتيان بها قادر على ترك الحرام،وهذا بخلاف مقدمة الواجب،فانّ المكلف لا يقدر على الواجب عند ترك مقدمته.
وأمّا الحرمة النفسية فهي على تقديرها ترتكز على حرمة التجري،ولكن قد حققنا في محلّه 1أنّ التجري لا يكون حراماً وإن استحقّ المتجري العقاب عليه،وقد ذكرنا هناك أ نّه لا ملازمة بين استحقاق المتجري العقاب وحرمة التجري شرعاً.نعم،يظهر من بعض الروايات أنّ هذه الحرمة من ناحية نيّة الحرام،وقد تعرّضنا لهذه الروايات وما دلّ على خلافها بشكل موسّع في مبحث
التجري،فلاحظ.
وأمّا القسم الثالث: فالأمر كما أفاده (قدس سره) حيث إنّه لا موجب لاتصاف المقدمة بالحرمة أصلاً،لعدم الملاك له،فان ملاكه إنّما هو توقف الامتثال عليها،والمفروض أنّ ترك الحرام لا يتوقف على تركها.فالنتيجة:أنّ مقدمة الحرام ليست بمحرّمة إلّافي صورة واحدة-الصورة الاُولى-بناءً على وجوب مقدمة الواجب شرعاً،وبما أ نّه لم يثبت فلا حرمة أصلاً.
ومن هنا يظهر حال مقدمة المكروه من دون حاجة إلى بيان.
هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء 1.وقد تمّ بعون اللّٰه تعالى وتوفيقه.
يقع الكلام في هذه المسألة من جهات:
الاُولى: قد تقدّم منّا في بحث مقدمة الواجب أنّ البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته لا يختص بما إذا كان الوجوب مدلولاً لفظياً، فان ملاك البحث يعم مطلق الوجوب،سواء أكان مستفاداً من اللفظ أو الاجماع أو العقل،ولذلك قلنا إنّها من المسائل الاُصولية العقلية،لا من مباحث الألفاظ 1.
وهكذا الشأن في مسألتنا هذه،فان جهة البحث فيها في الحقيقة ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه.
ومن الواضح أنّ البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كان الوجوب مدلولاً لدليل لفظي،بل يعمّ الجميع،ضرورة أنّ ما هو المهم في المقام هو البحث عن ثبوت تلك الملازمة وعدمه،ولا يفرق فيه بين أن يكون الوجوب مستفاداً من اللفظ أو من غيره،وإن كان عنوان البحث في المسألة-قديماً وحديثاً-يوهم اختصاص محلّ النزاع بما إذا كان الوجوب مدلولاً لفظياً،إلّا أنّ ذلك من جهة الغلبة،وأنّ الوجوب في الغالب يستفاد من دليل لفظي،لا من جهة اختصاص محلّ النزاع بذلك،كما هو واضح.
ولأجل ذلك تكون المسألة من المسائل الاُصولية العقلية لا من مباحث الألفاظ، لعدم صلتها بتلك المباحث أصلاً،كما أ نّه لا صلة لغيرها من المسائل العقلية بها.
الثانية: هل هذه المسألة من المسائل الاُصولية أو الفقهية أو المبادئ الأحكامية؟ قالوا في ذلك وجوهاً:
1- إنّها من المسائل الفقهية،بدعوى أنّ البحث فيها عن ثبوت الحرمة لضدّ الواجب،وعدم ثبوت الحرمة له،وهذا بحث فقهي لا اصولي.
ويدفعه: ما ذكرناه في أوّل بحث الاُصول من أنّ هذا التوهم قد ابتنى على كون البحث بحثاً عن حرمة الضد ابتداءً،لتكون المسألة فقهية،إلّاأنّ الأمر ليس كذلك،فانّ البحث فيها عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه،وعدم ثبوتها،ومن الواضح أنّ البحث عن هذه الناحية ليس بحثاً فقهياً له صلة بأحوال فعل المكلف وعوارضه بلا واسطة.
2- إنّها من المبادئ الأحكامية.
ويدفعه أيضاً:ما ذكرناه في بحث مقدمة الواجب 1من أنّ المبادئ لا تخلو من التصورية والتصديقية ولا ثالث لهما،والمبادئ التصورية هي لحاظ ذات الموضوع أو المحمول وذاتياتهما،ومن الواضح أنّ البحث عن مسألة الضد لايرجع إلى ذلك.والمبادئ التصديقية هي المقدمة التي يتوقف عليها تشكيل القياس، ومنها المسائل الاُصولية،فانّها مبادئ تصديقية بالاضافة إلى المسائل الفقهية، لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها تلك المسائل والأحكام،ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.
3- وهو الصحيح،أ نّها من المسائل الاُصولية العقلية.
أمّا كونها من المسائل الاُصولية:فلما قدّمناه في أوّل بحث الاُصول 2من
أنّ المسائل الاُصولية ترتكز على ركيزتين:
الاُولى:أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة من باب الاستنباط والتوسيط،لا من باب التطبيق،أي تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها كتطبيق الطبيعي على أفراده،والكلي على مصاديقه.
الثانية:أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى،فكل مسألة إذا ارتكزت على هاتين الركيزتين فهي من المسائل الاُصولية،وإلّا فلا.
وعلى هذا الأساس نميِّز كل مسألة ترد علينا أ نّها اصولية أو فقهية أو غيرها، وحيث إنّ هاتين الركيزتين قد توفرتا في مسألتنا هذه،فهي من المسائل الاُصولية لا محالة،إذ أ نّها واقعة في طريق استفادة الحكم الشرعي من باب الاستنباط والتوسيط بنفسها،بلا توسط كبرى اصولية اخرى.
وتوهم خروج هذه المسألة عن علم الاُصول،لعدم توفر الركيزة الثانية فيها،إذ لايترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه،لتكون المسألة اصولية،وأمّا حرمة الضد فهي وإن ثبتت من ناحية ثبوت تلك الملازمة،إلّاأ نّها حرمة غيرية فلا تصلح لأن تكون ثمرة للمسألة الاُصولية.
مندفع بما ذكرناه في أوّل علم الاُصول 1من أ نّه يكفي لكون المسألة اصولية ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها،وإن لم تترتب على طرفها الآخر،بداهة أنّ ذلك لو لم يكن كافياً في اتصاف المسألة بكونها اصولية،للزم خروج كثير من المسائل الاُصولية عن علم الاُصول،حتّى مسألة حجية خبر الواحد،فانّه
على القول بعدم حجيته لا يترتب عليها أثر شرعي أصلاً،ومسألتنا هذه تكون كذلك،فانّه تترتب عليها نتيجة فقهية على القول بعدم ثبوت الملازمة،وهي صحة الضد العبادي،وأمّا الحكم بفساده على القول الآخر فهو يتوقف على استلزام النهي الغيري،كما يستلزمه النهي النفسي،وسنتعرض إلى ذلك إن شاء اللّٰه تعالى بشكل واضح.
فالنتيجة الكلية هي:أنّ الملاك في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها،في مقابل ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة كمسائل سائر العلوم.
وأمّا كونها عقلية:فلأنّ الحاكم بالملازمة المزبورة إنّما هو العقل،ولا صلة لها بدلالة اللفظ أبداً.
الثالثة: أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره،بل الأعم منه ومن الاقتضاء بنحو الجزئية والعينية،ليعم جميع الأقوال،فان منها قولاً بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضده.ومنها قول بأنّ النهي عن الضد جزء من الأمر بالشيء.ومنها قول بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده كما هو ظاهر لفظ الاقتضاء،فالتعميم لأجل أن لايتوهم اختصاص النزاع بالقول الأخير.
الرابعة: أنّ المراد بالضد في محل البحث مطلق ما يعاند الشيء وينافيه،سواء أكان أمراً وجودياً كالأضداد الخاصة،أو الجامع بينها،وقد يعبّر عن هذا الجامع بالضد العام أيضاً،أم كان أمراً عدمياً كالترك الذي هو المسمّى عندهم بالضد العام فإنّ من الأقوال في المسألة قولاً بأنّ الأمر بالشي يقتضي النهي عن ضدّه العام وهو الترك.
وبعد بيان ذلك نقول:إنّ الكلام يقع في مقامين:
الأوّل:في الضدّ الخاص.
والثاني:في الضدّ العام.
أمّا الكلام في المقام الأوّل:فقد استدلّ جماعة على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه،سواء أكان المراد به أحد الأضداد الخاصة أو الجامع بينها بوجهين:
و مقدمة الواجب واجبة، فإذا كان الترك واجباً فالفعل لا محالة يكون محرّماً،وهذا معنى النهي عنه.
أقول: هذا الدليل مركب من مقدمتين:إحداهما صغرى القياس.والثانية كبراه،فلا بدّ من درس كل واحدة منهما.
أمّا المقدمة الاُولى فبيانها:أنّ العلّة التامّة مركّبة من أجزاء ثلاثة:
1-المقتضي وهو الذي بذاته يقتضي التأثير في مقتضاه.2-الشرط وهو الذي يصحح فاعلية المقتضي.3-عدم المانع وهو الذي له دخل في فعلية تأثير المقتضي.ومن الواضح أنّ العلة التامة لا تتحقق بدون شيء من هذه المواد الثلاث،فبانتفاء واحدة منها تنتفي العلة التامة لا محالة.
ونتيجة ذلك:هي أنّ عدم المانع من المقدمات التي لها دخل في وجود المعلول،ويستحيل تحققه بدون انتفائه.ويترتب على ذلك أنّ ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الضدّ الآخر،لأنّ كلاً منهما مانع عن الآخر،وإلّا لم يكن بينهما تمانع وتضاد،فإذا كان كل منهما مانعاً عن الآخر فلا محالة يكون عدمه مقدمة له،إذ كون عدم المانع من المقدمات ممّا لا يحتاج إلى مؤونة بيان،وإقامة برهان.
وأمّا المقدمة الثانية: فهي أنّ مقدمة الواجب واجبة،وقد تقدّم الكلام فيها.
فالنتيجة من ضمّ المقدمة الاُولى إلى هذه المقدمة هي:أنّ ترك الضد بما أ نّه مقدمة للضد الواجب-كما هو المفروض في المقام-يكون واجباً،وإذا كان تركه واجباً ففعله حرام لا محالة،مثلاً ترك الصلاة بما أ نّه مقدمة للازالة الواجبة فيكون واجباً،وإذا كان واجباً ففعلها الذي هو ضدّ الازالة يكون حراماً،وهذا معنى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد.
ولكن كلتا المقدمتين قابلة للمناقشة:
أمّا المقدمة الاُولى: فقد أنكرها جماعة من المحققين منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1وقال باستحالة المقدمية،وأفاد في وجهها أمرين:
الأوّل: أنّ المعلول وإن كان مترتباً على تمام أجزاء علته التامة،إلّاأنّ تأثير كل واحد منها فيه يغاير تأثير الآخر فيه،فان تأثير المقتضي فيه بمعنى ترشحه منه،ويكون منه الأثر والوجود،كالنار بالإضافة إلى الاحراق،فانّ الإحراق يترشح من النار،وأنّها فاعل ما منه الوجود والأثر،لا المحاذاة مثلاً أو بقية الشرائط.وأمّا تأثير الشرط فيه بمعنى أ نّه مصحح لفاعلية المقتضي وتأثيره أثره،فانّ النار لا تؤثر في الاحراق بدون المماسة والمحاذاة وما شاكلهما، فتلك الشرائط مصححة لفاعلية النار وتأثيرها فيه،لا أنّ الشرط بنفسه مؤثر فيه.ومن هنا إذا انتفى الشرط لم يؤثر المقتضي.
أو فقل:إنّ الشرط في طرف القابل متمم قابليته،وفي طرف الفاعل مصحح فاعليته،فلا شأن له ما عدا ذلك.وأمّا عدم المانع فدخله باعتبار أنّ وجوده يزاحم المقتضي في تأثيره،كالرطوبة الموجودة في الحطب،فان دخل عدمها في
الاحتراق باعتبار أنّ وجودها مانع عن تأثير النار في الاحراق،وهذا معنى دخل عدم المانع في وجود المعلول،وإلّا فلا يعقل أن يكون العدم بما هو من أجزاء العلة التامة،بداهة استحالة أن يكون العدم دخيلاً في الوجود ومؤثراً فيه.
ومن ذلك البيان يظهر طولية أجزاء العلة التامة،فانّ مانعية المانع متأخرة رتبة عن وجود المقتضي،وعن وجود جميع الشرائط،كما أنّ شرطية الشرط متأخرة رتبة عن وجود المقتضي،فان دخل الشرط في المعلول إنّما هو في مرتبة وجود مقتضيه،ليكون مصححاً لفاعليته،لما عرفت آنفاً من أنّ الشرط في نفسه لا يكون مؤثراً فيه.ودخل عدم المانع إنّما يكون في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط،ليكون وجوده مزاحماً له في تأثيره ويمنعه عن ذلك.
وعلى ضوء ذلك قد اتضح استحالة اتصاف المانع بالمانعية إلّافي ظرف وجود المقتضي مع سائر الشرائط،كما أ نّه يستحيل اتصاف الشرط بالشرطية إلّا فيما إذا كان المقتضي موجوداً،مثلاً الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق لا تتصف بالمانعية إلّافي ظرف وجود النار ومماستها مع ذلك الجسم،ليكون عدم الاحتراق مستنداً إلى وجود المانع،وأمّا إذا لم تكن النار موجودة،أو كانت ولم تكن مماسة مع ذلك الجسم فلا يمكن أن يستند عدم الاحتراق إلى وجود المانع.
ولنأخذ مثالاً لتوضيح ذلك:إذا فرضنا أنّ النار موجودة والجسم القابل للاحتراق مماس لها،ومع ذلك لم يحترق،إذن نفتش عن سبب ذلك وما هو، وبعد الفحص يتبيّن لنا أنّ سببه الرطوبة الموجودة في ذلك الجسم وهي التي توجب عدم قابليته للاحتراق وتأثير النار فيه،فيكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع.وكذا إذا فرض أنّ اليد الضاربة قويّة والسيف حاد،ومع ذلك لا أثر للقطع في الخارج،فلا محالة عدم قبول الجسم للانقطاع والتأثر بالسيف من
جهة المانع وهو صلابة ذلك الجسم،لوجود المقتضي المقارن مع شرطه.
وأمّا إذا فرض أنّ النار موجودة،ولكن الجسم القابل للاحتراق لم يكن مماساً لها،أو أنّ اليد الضاربة كانت قوية ولكن السيف لم يكن حاداً،فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم الشرط،لا إلى وجود المانع،فالمانع في هذه اللحظة يستحيل أن يتصف بالمانعية فعلاً،فان أثره المنع عن فعلية تأثير المقتضي،ولا أثر له في ظرف عدم تحقق الشرط.
وكذلك إذا لم تكن النار موجودة،أو كانت اليد الضاربة ضعيفة جداً أو مشلولة،فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم مقتضيه،لا إلى عدم المماسة أو الرطوبة،أو إلى عدم حدّة السيف،أو صلابة الجسم كل ذلك لم يكن.
وهذا من الواضحات خصوصاً عند المراجعة إلى الوجدان،فانّ الانسان إذا لم يشته أكل طعام فعدم تحققه يستند إلى عدم المقتضي،وإذا اشتهاه ولكن لم يجد الطعام فعدم الأكل يستند إلى عدم الشرط،وإذا كانت الشروط متوفرة ولكنّه منع عن الأكل مانع،فعدمه يستند إلى وجود المانع وهكذا.
وبعد بيان ذلك نقول: إنّه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدّين مانعاً عن وجود الضدّ الآخر،لما سبق من أنّ المانع إنّما يتصف بالمانعية في لحظة تحقق المقتضي مع بقية الشرائط.
ومن الواضح البيّن أنّ عند وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضي للضدّ الآخر،ليكون عدمه مستنداً إلى وجود ضدّه،لا إلى عدم مقتضيه،والوجه في ذلك:هو أنّ المضادة والمنافرة بين الضدّين والمعلولين تستلزم المضادة والمنافرة بين مقتضييهما،فكما يستحيل اجتماع الضدّين في الخارج،فكذلك يستحيل اجتماع مقتضييهما فيه،لأنّ اقتضاء المحال محال.
أو فقل:إنّ عدم الضد إنّما يستند إلى وجود الضدّ الآخر في فرض ثبوت المقتضي له،وهذا غير معقول،كيف فان لازم ذلك هو أن يمكن وجوده في عرض وجود ذلك الضد،والمفروض أ نّه محال،فالمقتضي له أيضاً محال،بداهة أنّ استحالة اقتضاء المحال من الواضحات الأوّلية،وإلّا فما فرض أ نّه محال لم يكن محالاً،وهذا خلف.
ولنأخذ مثالاً لذلك:إنّ وجود السواد مثلاً في موضوع لو كان مانعاً عن تحقق البياض فيه فلا بدّ أن يكون ذلك في ظرف ثبوت المقتضي له،ليكون عدمه-البياض-مستنداً إلى وجود المانع،وهو وجود السواد،لا إلى عدم مقتضيه.وثبوت المقتضي له محال وإلّا لكان وجوده-البياض-في عرض وجود الضدّ الآخر-السواد-ممكناً،وحيث إنّه محال فيستحيل ثبوت المقتضي له،لأنّ اقتضاء المحال محال.
وعليه فإذا كان المقتضي لأحدهما موجوداً فلا محالة يكون المقتضي للآخر معدوماً،إذن يكون عدمه دائماً مستنداً إلى عدم مقتضيه،لا إلى وجود المانع.
هذا بالاضافة إلى إرادة شخص واحد في غاية الوضوح،بداهة استحالة تحقق إرادة كل من الضدين في آن واحد من شخص واحد،فلا يمكن تحقق إرادة كل من الصلاة والإزالة في نفس المكلف،فان أراد الإزالة لم يمكن تحقق إرادة الصلاة،وإن أراد الصلاة لم يمكن تحقق إرادة الازالة،فترك كل واحدة منهما عند الاشتغال بالاُخرى مستند إلى عدم المقتضي له،لا إلى وجود المانع مع ثبوت المقتضي.
وأمّا بالإضافة إلى إرادة شخصين للضدين فالأمر أيضاً كذلك،لأنّ إحدى الارادتين لا محالة تكون مغلوبة للارادة الاُخرى،لاستحالة تأثير كلتيهما معاً، وعندئذ تسقط الإرادة المغلوبة عن صفة الاقتضاء،لاستحالة اقتضاء المحال
وغير المقدور،لفرض أنّ متعلقها خارج عن القدرة فلا تكون متصفة بهذه الصفة،فيكون وجودها وعدمها سيّان.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ المانع بالمعنى الذي ذكرناه-وهو ما يتوقف على عدمه وجود المعلول في الخارج-ما كان مزاحماً للمقتضي في تأثيره أثره، ومانعاً عنه عند وجدانه الشرائط،وهذا المعنى مفقود في الضدّين كما مرّ.
فالنتيجة إذن: أ نّه لا وجه لدعوى توقف أحد الضدّين على عدم الآخر،إلّا تخيل أنّ المنافاة والمعاندة بينهما تقتضي التوقف المزبور،ولكنّه خيال فاسد، ضرورة أنّ ذلك لو تمّ لكان تحقق كل من النقيضين متوقفاً على عدم الآخر أيضاً،لوجود الملاك فيه،وهو المعاندة والمنافاة.مع أنّ بطلان ذلك من الواضحات فلا يحتاج إلى مؤونة بيان وإقامة برهان.
ونلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى:أنّ مانعية المانع في مرتبة متأخرة عن مرتبة وجود المقتضي ووجود الشرط،فيكون استناد عدم المعلول إلى وجود المانع في ظرف ثبوت المقتضي مع بقية الشرائط،وإلّا فالمانع لا يكون مانعاً كما سبق.
الثانية:أنّ وجود كل من الضدّين بما أ نّه يستحيل في عرض الآخر ويمتنع تحققه في الخارج،فثبوت المقتضي له في عرض ثبوت المقتضي للآخر أيضاً محال،لأنّ اقتضاء المحال محال كما عرفت.
الثالثة:أنّ المعاندة والمنافاة بين الضدّين لو كانت مقتضية للتوقف المذكور لكانت مقتضية له بالإضافة إلى النقيضين أيضاً،وبطلانه غني عن البيان.
ولنأخذ الآن بدرس هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة على البيان المتقدم.
وأمّا النقطة الثانية: فللمناقشة فيها مجال واسع،وذلك لأنّه لا مانع من ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في نفسه،مع قطع النظر عن الآخر،ولا استحالة فيه أصلاً.
والوجه في ذلك هو:أنّ كلاً من المقتضيين إنّما يقتضي أثره في نفسه مع عدم ملاحظة الآخر،فمقتضي البياض مثلاً إنّما يقتضيه في نفسه سواء أكان هناك مقتضٍ للسواد أم لم يكن،كما أنّ مقتضي السواد إنّما يقتضيه كذلك،وإمكان هذا واضح،ولا نرى فيه استحالة،فانّ المستحيل إنّما هو ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد التقارن والاجتماع لا في نفسه،أو اقتضاء شيء واحد بذاته لأمرين متنافيين في الوجود،وهذا مصداق قولنا اقتضاء المحال محال،لا فيما إذا كان هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي في نفسه شيئاً مخصوصاً وأثراً خاصاً مع قطع النظر عن ملاحظة الآخر.
والبرهان على ذلك:أ نّه لولا ما ذكرناه من إمكان ثبوت المقتضي لكل منهما في نفسه،لم يمكن استناد عدم المعلول إلى وجود مانعه أصلاً،لأنّ أثر المانع كالرطوبة مثلاً لا يخلو من أن يكون مضاداً للمعلول-وهو الاحراق-وأن لا يكون مضاداً له،فعلى الفرض الأوّل يستحيل ثبوت المقتضي للمعلول والممنوع،ليكون عدمه مستنداً إلى وجود مانعه،لفرض وجود ضدّه وهو أثر المانع،وقد سبق أنّ عند وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضي للآخر، فيكون عدمه من جهة عدم المقتضي،لا من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضي له.وعلى الفرض الثاني فلا مقتضي لكونه مانعاً منه،بداهة أنّ مانعية المانع من جهة مضادة أثره للممنوع،فإذا فرض عدم مضادته له فلا موجب لكونه مانعاً أصلاً.
وقد تبيّن لحدّ الآن أ نّه لا مانع من أن يكون أحد الضدّين مانعاً عن الآخر
ليستند عدمه إليه،لا إلى عدم مقتضيه،لفرض إمكان ثبوته في نفسه،بحيث لولا وجود الضدّ الآخر لكان يؤثّر أثره،ولكن وجوده يزاحمه في تأثيره ويمنعه عن ذلك،مثلاً إذا فرض وجود مقتضٍ لحركة شيء إلى طرف المشرق ووجد مقتضٍ لحركته إلى طرف المغرب،فكل من المقتضيين إنّما يقتضي الحركة في نفسه إلى كل من الجانبين،مع عدم ملاحظة الآخر،فعندئذ كان تأثير كل واحد منهما في الحركة إلى الجانب الخاص متوقفاً على عدم المانع منه،فإذا وجدت إحدى الحركتين دون الاُخرى فلا محالة يكون عدم هذه مستنداً إلى وجود الحركة الاُولى،لا إلى عدم مقتضيها،فانّ المقتضي لها موجود على الفرض،ولولا المانع لكان يؤثر أثره،ولكنّ المانع-وجود تلك الحركة – يزاحمه في تأثيره.
وعلى الجملة: فلا ريب في إمكان ثبوت المقتضيين في حد ذاتهما،حتّى إذا كانا في موضوع واحد أو محل واحد،كارادتين من شخص واحد،أو سببين في موضوع واحد،فضلاً عمّا إذا كانا في موضوعين أو محلّين،كارادتين من شخصين، أو سببين في موضوعين،إذ لا مانع من أن يكون في شخص واحد مقتضٍ للقيام من جهة،ومقتضٍ للجلوس من جهة اخرى،وكلا المقتضيين موجود في حد ذاتهما مع الغض عن الآخر،فعندئذ إذا وجد أحد الفعلين دون الآخر فعدم هذا لا محالة يكون مستنداً إلى وجود ذاك،لا إلى عدم مقتضيه،لفرض أنّ المقتضي له موجود،وهو يؤثر أثره لولا مزاحمة المانع له.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أن أحد الضدّين إذا كان موجوداً يستحيل ثبوت المقتضي للآخر لا يتم،ومنشأ ذلك غفلته (قدس سره) عن نقطة واحدة هي تخيل أنّ المقام من موارد الكبرى المتسالم عليها،وهي أنّ اقتضاء المحال محال،مع أنّ الأمر ليس كذلك،
فانّ المقام أجنبي عنه،فان اقتضاء المحال إنّما يتحقق في أحد موردين:
الأوّل:ما إذا كان هناك شيء واحد يقتضي بذاته أمرين متنافيين في الوجود.
الثاني:ما إذا فرض هناك ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد الاجتماع والتقارن،ومن الواضح أ نّه لا صلة لكلا الموردين بالمقام،وهو ما إذا كان هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي شيئاً مخصوصاً،وأثراً خاصاً في نفسه، بلا ربط له بالآخر،وهذا هو مراد القائلين بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه،فانّهم بعد ما تسالموا على الكبرى-وهي وجوب مقدمة الواجب-قد نقحوا الصغرى-وهي كون عدم أحد الضدّين مقدمة للضدّ الآخر-بالشكل الذي بيّناه،ثمّ أخذوا النتيجة بضمّ الصغرى إلى الكبرى وهي حرمة الضد.
وأمّا النقطة الثالثة: فيرد عليها أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين لو سلّم اقتضاؤها للتوقف المزبور،فلا يسلم اقتضاؤها له بين النقيضين،إذ لا يعقل التوقف بين النقيض وعدم نقيضه،بداهة أنّ عدم الوجود عين العدم البديل له فكيف يعقل توقف ذلك العدم على عدم الوجود،لأنّه من توقف الشيء على نفسه وهو محال،مثلاً عدم الانسان عين العدم البديل له فلا يكاد يمكن توقف العدم البديل له على عدمه،بداهة أنّ توقف شيء على شيء يقتضي المغايرة والاثنينية بينهما في الوجود،فضلاً عن المغايرة في المفهوم.ومن الظاهر أ نّه لا مغايرة بين عدم الانسان مثلاً والعدم البديل له لا خارجاً ولا مفهوماً.
نعم،المغايرة المفهومية بين عدم العدم والوجود ثابتة،لكنّه لا تغاير بينهما في الخارج،مثلاً الانسان مغاير مفهوماً مع عدم نقيضه وهو العدم البديل له،ولكنهما متحدان عيناً وخارجاً،فان عدم عدم الانسان عين الانسان في الخارج،إذن لا معنى لتوقف تحقق أحد النقيضين على عدم الآخر.
وهذا بخلاف الضدّين،فانّه لمكان المغايرة بينهما مفهوماً وخارجاً لا يكون
توقف أحدهما على عدم الآخر من توقف الشيء على نفسه.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين لو اقتضت توقف أحدهما على عدم الآخر لثبت ذلك في النقيضين أيضاً،لا يرجع إلى معنى محصّل أصلاً.
الوجه الثاني: أنّ عدم أحد الضدّين لو فرض ثبوت المقتضي له أيضاً يستند إلى وجود مقتضي الآخر،لا إلى وجود نفسه،بيان ذلك:أنّ الصور المتصورة في المقام ثلاثة لا رابع لها.
الاُولى:أن يكون المقتضي لكل من الضدّين موجوداً.
الثانية:أن لا يكون المقتضي لشيء منهما موجوداً،عكس الاُولى.
الثالثة:أن يكون المقتضي لأحدهما موجوداً دون المقتضي للآخر.
أمّا الصورتان الأخيرتان فالأمر فيهما واضح،فان عدم ما لا مقتضي له مستند إلى عدم مقتضيه،لا إلى وجود الضدّ الآخر.
وإنّما الكلام في الصورة الاُولى فنقول:إنّ المقتضيين الموجودين في عرض واحد لا يخلوان من أن يكونا متساويين في القوة،وأن يكون أحدهما أقوى من الآخر.
أمّا على الأوّل: فلا يوجد شيء من الضدّين،لاستحالة تأثير كل منهما أثره معاً،وتأثير أحدهما المعيّن فيه دون الآخر ترجيح من دون مرجح،أو خلف إن فرض له مرجح.ومن ذلك يعلم أنّ المانع من وجود الضد مع فرض ثبوت مقتضيه إنّما هو وجود المقتضي للضدّ الآخر،لا نفس وجود الضد.وفي هذا الفرض بما أنّ كلاً من المقتضيين يزاحم الآخر في تأثيره ويمنعه عن ذلك، فان تأثير كل منهما منوط بعدم المانع عنه،ووجود مقتضي الضدّ الآخر مانع،
فلا محالة يكون عدم كل من الضدّين مستنداً إلى وجود المقتضي للآخر لا إلى نفسه.
وأمّا على الثاني: فيؤثر القوي في مقتضاه،ويكون مانعاً عن تأثير المقتضي الضعيف،والضعيف لا يمكن أن يكون مانعاً من القوي.
بيان ذلك:أنّ القوي لمكان قوته يزاحم الضعيف ويمنعه من التأثير في مقتضاه، فنفس وجوده موجب لفقد شرط من شرائطه وهو عدم المزاحم،فانّه شرط تأثيره ومصحح فاعليته،فيكون عدم القوي شرطاً لتأثير الضعيف،ووجوده مانعاً منه.
وعلى هدى ذلك يعلم أنّ عدم تمامية علية الضعيف مستند إلى تمامية علية القوي ووجوده،وبما أنّ الضعيف لا يمكن أن يزاحم القوي في تأثيره يكون تامّ الاقتضاء والفاعلية،فهو بصفته كذلك يزاحم الضعيف ويمنعه عن تأثيره في معلوله،فعدم مزاحمة الضعيف بالتالي منته إلى ضعف في نفسه بالاضافة إلى المقتضي الآخر،إذ لو كان قوياً مثله لزاحمه في تأثيره لا محالة،فعدم قابليته لأن يزاحم الآخر وقابلية الآخر لأن يزاحمه لأجل عدم قوته بالإضافة إليه، وإن كان قوياً في نفسه وتامّ الفاعلية والاقتضاء مع قطع النظر عن مزاحمة الآخر له،ولذا لو لم يكن القوي في البين لأثّر الضعيف في مقتضاه،ففي هذا الفرض يستند عدم الضد إلى وجود المقتضي القوي للضدّ الآخر،لا إلى نفس وجوده،ولا إلى عدم مقتضي نفسه،فانّه موجود على الفرض،ولكنّ المانع منعه عن تأثيره وهو وجود المقتضي القوي.
وعلى الجملة:ففيما إذا كان المقتضيان متفاوتين بالقوة والضعف،فيستحيل أن يؤثر الضعيف في مقتضاه،لأنّ تأثير كل مقتضٍ مشروط بعدم المانع المزاحم له،والقوي لمكان قوته مزاحم له ومع ذلك لو أثّر الضعيف دون القوي للزم