آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
انفكاك المعلول عن علته التامة،وصدوره عن علته الناقصة،فان علية القوي كما عرفت تامة فلا حالة منتظرة فيه أصلاً،إذ الضعيف لمكان ضعفه لا يمكن أن يزاحمه،وعلية الضعيف ناقصة لوجود المانع المزاحم له،إذن يستند عدم الضدّ الذي يقتضيه السبب الضعيف إلى وجود السبب القوي،فانّه مانع عن تأثير الضعيف ومزاحم له،وإلّا فالمقتضي له موجود.وقد سبق أنّ عدم المعلول إنّما يستند إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضي وبقية الشرائط.
ولنأخذ لذلك مثالين:
الأوّل: ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في محل واحد،كارادة الضدّين من شخص واحد وكانت إرادته بالاضافة إلى أحدهما أقوى من إرادته بالاضافة إلى الآخر،كما لو كان هناك غريقان وقد تعلقت إرادته بانقاذ كل واحد منهما في نفسه،ولكن إرادته بالاضافة إلى إنقاذ أحدهما أقوى من إرادته بالاضافة إلى إنقاذ الآخر،من جهة أنّ أحدهما عالم والآخر جاهل،أو كان أحدهما صديقه والآخر أجنبياً عنه،وغير ذلك من الخصوصيات والعناوين الموجبة لكثرة الشفقة والمحبة بالاضافة إلى إنقاذ أحدهما دون الآخر،ففي مثل ذلك لا محالة يكون المؤثر هو الارادة القويّة دون الارادة الضعيفة،فانّها لمكان ضعفها تزاحمها الارادة القوية،وتمنعها عن تأثيرها في مقتضاها،وتلك لمكان قوتها لا تزاحم بها.إذن عدم تحقق مقتضي الارادة الضعيفة غير مستند إلى وجود الضدّ الآخر،ولا إلى عدم مقتضيه،فان مقتضيه وهو الارادة الضعيفة موجود على الفرض،بل هو مستند إلى وجود المانع والمزاحم له،وهو الارادة القوية.
الثاني: ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في محلّين وموضوعين، كما إذا كان كل منهما متعلقاً لارادة شخص،ولكن كانت إرادة أحدهما أقوى
من إرادة الآخر،كما إذا أراد أحد الشخصين مثلاً حركة جسم إلى جانب وأراد الآخر حركة ذلك الجسم إلى جانب آخر وهكذا،ففي مثل ذلك أيضاً يكون المؤثر هو الارادة الغالبة دون الارادة المغلوبة،فعدم أثرها أيضاً غير مستند إلى وجود أثر تلك الارادة،بل هو مستند إلى مزاحمتها بها،لمكان ضعفها وعدم مزاحمة تلك بها لمكان قوتها.
فالنتيجة إذن:لايمكن فرض وجود صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضدّ الآخر،لا إلى وجود سببه،أو عدم مقتضي نفسه.
أقول: هذا الوجه في غاية المتانة والاستقامة،ولا مناص من الالتزام به ولا سيّما بذلك الشكل الذي بيّناه.
و ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وجهاً ثالثاً لاستحالة مقدمية عدم الضدّ للضدّ الآخر،وإليك نصّه:
وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلّاعدم اجتماعهما في التحقق،وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله، بل بينهما كمال الملاءمة،كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة،من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر كما لا يخفى،فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر،كذلك في المتضادين 1.
أقول: توضيح ما أفاده (قدس سره):أنّ المنافرة والمعاندة بين الضدين كما تقتضي استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في زمن واحد،كذلك تقتضي استحالة اجتماعهما في مرتبة واحدة،فإذا استحال اجتماعهما في مرتبة واحدة كان
عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً وإلّا فلا بدّ أن يكون وجوده فيها كذلك، لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة،مثلاً البياض والسواد متضادان،وقضية مضادة أحدهما مع الآخر ومعاندتهما استحالة اجتماعهما في الوجود في موضوع وفي آن واحد أو رتبة واحدة،فكما أنّ استحالة اجتماعهما في زمان واحد تستلزم ضرورة عدم أحدهما في ذلك الزمان،كذلك استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة تستلزم ضرورة عدم واحد منهما في تلك الرتبة،لاستحالة ارتفاع النقيضين عن المرتبة أيضاً،بأن لا يكون وجوده في تلك المرتبة ولا عدمه.
ومن ذلك يعلم أنّ مراده (قدس سره) من أ نّه لا منافاة بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر،بل بينهما كمال الملاءمة،ما ذكرناه من أنّ المضادة بين شيئين لا تقتضي إلّااستحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في آن واحد أو رتبة واحدة،وإذا استحال تحققهما في مرتبة فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة واجباً،مثلاً عدم البياض في مرتبة وجود السواد وكذلك عدم السواد في مرتبة وجود البياض ضروري،كيف ولو لم يكن عدم البياض في تلك المرتبة يلزم أحد محذورين:إمّا ارتفاع النقيضين عن تلك المرتبة لو لم يكن وجود البياض أيضاً في تلك المرتبة،أو اجتماع الضدّين فيها إذا كان البياض موجوداً فيها،وليس غرضه من ذلك نفي المقدمية والتوقف بمجرّد كمال الملاءمة بينهما ليرد عليه ما أورده شيخنا المحقق (قدس سره) 1من أنّ كمال الملاءمة بينهما لا يدل عليه،فان بين العلة والمعلول كمال الملاءمة ومع ذلك لا يكونان متحدين في الرتبة.
كما أنّ غرضه (قدس سره) من قوله:فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر،كذلك في المتضادين،هو ما
ذكرناه،وليس غرضه من ذلك الاستدلال على نفي التوقف والمقدمية بقياس المساواة،بدعوى أنّ عدم أحد الضدّين في مرتبة وجوده،لأنّهما نقيضان والنقيضان في رتبة واحدة،وبما أنّ وجود أحد الضدّين في مرتبة وجود الآخر لأنّ ذلك مقتضى التضاد بينهما،كان عدم أحد الضدّين في مرتبة وجود الآخر.
وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ التقدم والتأخر والتقارن بين شيئين تارة تلاحظ بالاضافة إلى الزمان،ومعنى ذلك أنّ الملاك في تقدّم شيء على شيء آخر أو تأخره عنه أو تقارنه معه هو نفس الزمان لا غيره،وتارة اخرى تلاحظ بالاضافة إلى الرتبة مع تقارنهما بحسب الزمان،وحينئذ فالملاك فيه شيء آخر غير الزمان.
أمّا إذا كان التقدم والتأخر بين شيئين أو التقارن بينهما بالزمان،فكل ما هو متحد مع المتقدم في الزمان متقدم على المتأخر بعين الملاك الموجود في المتقدم، وهو كونه في الزمان المتقدم،وكل ما هو متحد مع المتأخر في الزمان متأخر عن المتقدم بعين الملاك الموجود في المتأخر،وهو كونه في الزمان المتأخر.وكل ما هو متحد مع المقارن في الزمان مقارن لتحقق ملاك التقارن فيه،وهذا من الواضحات فلا يحتاج إلى مؤونة بيان.
وأمّا إذا كان التقدم والتأخر بينهما بلحاظ الرتبة دون الزمان فالأمر ليس كذلك،فانّ ما هو متحد مع المتقدم في الرتبة لا يلزم أن يكون متقدماً على المتأخر،وكذا ما هو متحد مع المتأخر فيها أو المقارن لا يلزم أن يكون متأخراً أو مقارناً،مثلاً العلة متقدمة على المعلول رتبة،وما هو متحد معها في الرتبة – وهو العدم البديل لها-لا يكون متقدماً عليه،والمعلول متأخر عن العلة رتبة وما هو متحد معه-وهو عدمه البديل له-لا يكون متأخراً عنها.
والوجه في ذلك هو:أنّ التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع لا يكون جزافاً،بل
لا بدّ أن يكون ناشئاً من ملاكٍ مقتضٍ له،فكل ما كان فيه الملاك الموجب لتقدمه أو تأخره فهو،وإلّا فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر أصلاً،فهذا الملاك تارة يختص بوجود الشيء فلا يمكن الالتزام بالتقدم أو التأخر في عدمه،وتارة اخرى يختص بعدمه،فلا يعقل الالتزام به في وجوده،فانّه تابع لوجود الملاك، ففي كل مورد لا يوجد فيه الملاك لا يمكن فيه التقدم أو التأخر،بل لا بدّ فيه من الالتزام بالاتحاد والمعية في الرتبة،فان ملاك المعية انتفاء ملاك التقدم والتأخر، لا أ نّها ناشئة من ملاك وجودي.
وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ تقدّم العلة على المعلول بملاك ترشح وجود المعلول من وجود العلة،كما أنّ تقدّم الشرط على المشروط بملاك توقف وجوده على وجوده،وتقدّم عدم المانع على الممنوع بملاك توقف وجوده عليه، وأمّا عدم العلة فلا يكون متقدماً على وجود المعلول،لعدم ملاك التقدم فيه، كما أنّ عدم المعلول لا يكون متأخراً عن وجود العلة مع أ نّه في مرتبة وجود المعلول،لعدم تحقق ملاك التأخر فيه،وكذا لا يكون عدم الشرط متقدماً على المشروط،ولا عدم المشروط متأخراً عن وجود الشرط،لاختصاص ملاك التقدم والتأخر بوجود الشرط ووجود المشروط دون وجود أحدهما وعدم الآخر.
وعلى الجملة: فما كان مع المتقدم في الرتبة كالعلة والشرط ليس له تقدّم على المعلول والمشروط،إذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيرها،والتقدم بالشرطية شأن الشرط دون غيره،فانّ التقدم بالعلية أو الشرطية أو نحوها الثابت لشيء لا يسري إلى نقيضه المتحد معه في الرتبة،ولذا قلنا إنّه لا تقدّم لعدم العلة على المعلول ولا للعلة على عدم المعلول،مع أ نّه لا شبهة في تقدّم العلة على المعلول،والسر فيه ما عرفت من أنّ التقدم والتأخر الرتبيين تابعان
للملاك،فكل ما لا يكون فيه الملاك لا يعقل فيه التقدم والتأخر أصلاً،بل لا مناص فيه من الحكم بالمعية والاتحاد في الرتبة.
ومن ذلك يظهر الحال في الضدّين،إذ يمكن أن يكون عدم أحدهما متقدماً على وجود الآخر بملاك موجب له،ولا يكون ما هو متحد معه في الرتبة متقدماً عليه،فمجرد اتحاد الضدّين والنقيضين في الرتبة لا يأبى أن يكون عدم الضد متقدماً على الضدّ الآخر،مع عدم تقدّم ما هو في مرتبته عليه، لاختصاص ملاك التقدم بعدم كل منهما بالاضافة إلى وجود الآخر،دون عدم كل منهما بالاضافة إلى وجوده،ودون وجود كل منهما بالاضافة إلى وجود الآخر.ولأجل ذلك كان ما هو متحد مع العلة في الرتبة-وهو عدمها-متحداً مع المعلول في الرتبة،وكان ما هو متحد مع المعلول في الرتبة-وهو عدمه – متحداً مع العلة في الرتبة،مع أنّ العلة متقدمة على المعلول رتبة.
ثمّ إنّ ما ذكره في النقيضين-من أن قضية المنافاة بينهما لا تقتضي تقدّم [ ارتفاع ] أحدهما في ثبوت الآخر-لا بدّ من فرضه في طرف واحد منهما،وهو طرف الوجود دون كلا الطرفين،وذلك لأنّ وجود الشيء يغاير عدم نقيضه – أعني به عدم العدم-مفهوماً،وأمّا عدم الشيء فهو بنفسه نقيض الشيء،ولا يغايره بوجه كي يقال إنّ ارتفاع الوجود يلائم نقيضه من دون أن يكون بينهما تأخر وتقدّم.مثلاً وجود الانسان يغاير عدم نقيضه-عدم الانسان-مفهوماً، فان مفهوم عدم العدم غير مفهوم الوجود،وإن كان في الخارج عينه.فإذن يمكن أن يقال:إنّ الشيء كالانسان متحد في الرتبة مع عدم نقيضه،وأمّا عدم الانسان فلا يغاير عدم نقيضه-وجود الانسان-حتّى مفهوماً،فانّ نقيضه هو الانسان،وعدم نقيضه هو عدم الانسان.إذن فلا معنى لأن يقال:إنّ عدم الانسان متحد في الرتبة مع عدم الانسان.
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت:أنّ التمسك بقياس المساواة إنّما يصح في التقدم الزماني،فانّ ما هو مع المتقدم بالزمان متقدم لا محالة،دون ما إذا كان التقدم في الرتبة.
وقد عرفت أنّ غرض المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ليس التمسك بقياس المساواة لاثبات نفي المقدمية والتقدم لعدم أحد الضدّين للضدّ الآخر، ليرد عليه ما بيّناه،بل غرضه ما ذكرناه سابقاً.هذا غاية توجيه لما أفاده (قدس سره) في المقام.
وقد ظهر من ضوء بياننا هذا أمران:
الأوّل:بطلان ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التمسك لاثبات كون عدم أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر،بقياس المساواة.وقد تقدّم 1بيانه مع جوابه مفصلاً فلا حاجة إلى الاعادة.
الثاني:بطلان ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أنّ المعية في الرتبة كالتقدم أو التأخر الرتبي لا بدّ أن تكون ناشئة من ملاك وجودي،فلا يكفي فيها انتفاء ملاك التقدم أو التأخر،والوجه في ذلك:ما عرفت من أنّ التقدم أو التأخر لا بدّ أن يكون ناشئاً من ملاك وجودي موجب له،وأمّا المعية في الرتبة فلا.
والسر في ذلك:أنّ كل شيء إذا قيس على غيره ولم يكن بينهما ملاك التقدم والتأخر فهو في رتبته لا محالة،إذ لا نعني بالمعية في الرتبة إلّاعدم تحقق موجب التقدم والتأخر بينهما،ضرورة أ نّها لا تحتاج إلى ملاك آخر غير عدم وجود ملاك التقدم والتأخر،فكل ما لم يكن متقدماً على شيء ولا متأخراً عنه في
الرتبة،كان متحداً معه في الرتبة لا محالة.
وبعد بيان هذا نقول: إنّه يمكن المناقشة فيما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أيضاً والوجه في ذلك:هو أنّ ما أفاده (قدس سره) مبتنٍ على أصلٍ فاسد،وهو أنّ استحالة اجتماع الضدّين أو النقيضين إنّما تكون مع وحدة الرتبة،وأمّا مع تعددها فلا استحالة أبداً،أو فقل:إنّه كما يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الزمان،كذلك يعتبر فيه وحدة الرتبة،ومع اختلافها فلا تناقض ولا تضاد.
ولكن هذا الأصل بمكان من الفساد،وذلك لأنّ التضاد من صفات الوجود الخارجي،فالمضادة والمعاندة بين السواد والبياض أو بين الحركة والسكون مثلاً إنّما هي في ظرف الخارج،بداهة أ نّه مع قطع النظر عن وجودهما في الخارج لا مضادة ولا معاندة بينهما أبداً.
وعلى الجملة: فالمضادة والمماثلة والمناقضة جميعاً من الصفات التي تعرض الموجودات الخارجية،لا الرتب العقلية،ضرورة أنّ الوجود والعدم إنّما يستحيل اجتماعهما في الخارج،وكذا السواد والبياض،والحركة والسكون،وكل ما يكون من هذا القبيل،ولذا لو فرضنا أنّ الضدّين كانا مختلفين في الرتبة عقلاً كان اجتماعهما خارجاً في موضوع واحد محالاً،فالاستحالة تدور مدار اجتماعهما في الوجود الخارجي في آن واحد وفي موضوع فارد،سواء أكانا مختلفين بحسب الرتبة أم كانا متحدين فيها،إذ العبرة إنّما هي بالمقارنة الزمانية،ومن المعلوم أنّ المختلفين بحسب الرتبة قد يقترنان بحسب الزمان كالعلة والمعلول.
وعليه فلا يتم ما في الكفاية من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين تقتضي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة أيضاً،فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً،وإلّا لزم إمّا ارتفاع الضدّين أو
اجتماعهما،وكلاهما محال.
والوجه فيه:ما عرفت من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين إنّما هي بلحاظ وجوديهما في الخارج وإلّا فلا معاندة ولا مضادة بينهما أبداً،فإذن لا مانع من أن يكون عدم أحدهما متقدماً على الآخر بالرتبة،ولا يلزم عليه المحذور المذكور أصلاً،وأمّا عدم تقدّم أحد الضدّين على الآخر فليس من ناحية المضادة بينهما،ليقال إنّ قضيتها اتحادهما في الرتبة،بل من ناحية انتفاء ملاك التقدم والتأخر.
ومن هنا لم يعدّوا من الوحدات المعتبرة في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة، وهذا منهم شاهد على عدم اعتبارها فيه.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1وجهاً رابعاً لاستحالة كون عدم أحد الضدّين مقدمة للضدّ الآخر،بأ نّه مستلزم للدور،فانّ التمانع بينهما لو كان موجباً لتوقف وجود كل منهما على عدم الآخر من باب توقف المعلول على عدم مانعه،لاقتضى ذلك توقف عدم كل منهما على وجود الضدّ الآخر من باب توقف عدم الشيء على وجود مانعه،فيلزم حينئذ توقف وجود كل منهما على عدم الآخر وتوقف عدم كل منهما على وجود الآخر،وهذا محال.
وقد اورد عليه كما في الكفاية:بأنّ توقف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر فعلي،فانّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقق البياض فيه،وأمّا توقف عدم الضد على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي،فلا دور.
والوجه في ذلك:هو أنّ وجود الضد في الخارج لا محالة يكون بوجود علته التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع،ومن الواضح أنّ توقف وجود المعلول
على جميع أجزاء علته ومنها عدم المانع فعلي،لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحققه ووجوده في الخارج،وهذا معنى أنّ توقف وجود الضد على عدم الآخر فعلي، فانّه من توقف وجود المعلول على عدم مانعه في ظرف تحقق المقتضي والشرط.
وأمّا عدم الضد فلا يتوقف على وجود الضدّ الآخر فعلاً،لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط،ليكون توقفه عليه فعلياً،بل يحتمل استحالة تحقق المقتضي له أصلاً، لأجل احتمال أن يكون وقوع أحد الضدّين في الخارج وعدم وقوع الآخر فيه منتهياً إلى تعلّق الارادة الأزلية بالأوّل وعدم تعلقها بالثاني،فانّها علة العلل، وجميع الأسباب الممكنة لا بدّ أن تنتهي إلى سبب واجب وهو الارادة الأزلية، فيكون عدم الضد عندئذ دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي،لا إلى وجود المانع، ليلزم الدور.
وما قيل: من أنّ هذا إنّما يتم فيما إذا كان الضدّان منتهيين إلى إرادة شخص واحد،فان إرادة الضدّين من شخص واحد محال سواء أكانت الارادتان منتهيتين إلى الارادة الأزلية أم لم تنتهيا إليها،فإذا أراد أحدهما فلا محالة يكون عدم الآخر مستنداً إلى عدم الارادة والمقتضي لا إلى وجود المانع.وأمّا إذا كان كل منهما متعلقاً لارادة شخص فلا محالة يكون عدم أحدهما مستنداً إلى وجود المانع،لا إلى عدم ثبوت المقتضي له،لفرض أنّ المقتضي له موجود وهو الارادة، فإن إرادة الضدّين من شخصين ليست بمحال، مدفوع بأنّ عدم الضد هنا أيضاً مستند إلى قصور في المقتضي،لا إلى وجود الضدّ الآخر مع تماميته،فانّ الارادة الضعيفة مع مزاحمتها بالارادة القوية لا تؤثر،لخروج متعلقها عن تحت القدرة،فلا يكون المغلوب منهما في إرادته قادراً على إيجاد متعلقها.
وإن شئت فقلت:إنّ الفعلين المتضادين إمّا أن يلاحظا بالاضافة إلى شخص
واحد أو بالاضافة إلى شخصين،فعلى الأوّل كان عدم ما لم يوجد منهما مستنداً إلى عدم تعلّق الارادة به،فعدمه لعدم مقتضيه لا لوجود المانع،وعلى الثاني يستند عدمه إلى عدم الشرط،أعني به عدم القدرة على الايجاد مع تعلّق الارادة القوية بخلافه.وهذا التقريب ألخص وأمتن،فانّه لا يتوقف على انتهاء أفعال العباد إلى الارادة الأزلية حتّى يرد عليه أنّ أفعال العباد غير منتهية إلى إرادة اللّٰه تعالى أوّلاً،وليست إرادته سبحانه أزلية ثانياً،كما تقدّم الكلام فيه مفصّلاً في بحث الطلب والارادة 1.
وحاصل الاعتراض على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) – من أنّ وجود أحد الضدّين إذا توقف على عدم الآخر لزم الدور،فانّ عدم الآخر أيضاً متوقف على وجود الأوّل توقف عدم الشيء على وجود مانعه – هو أنّ عدم أحد الضدّين لا يستند إلى وجود الآخر أبداً،بل يستند إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط،فالتوقف من طرف الوجود فعلي وأمّا من طرف العدم فلا توقف إلّاعلى فرض محال وهو أن يفرض وجود المقتضي للوجود مع جميع شرائطه،هذا غاية ما يمكن أن يقال في دفع غائلة استلزام الدور.
ولكنّه يرد عليه ما أفاده في الكفاية وحاصله:أنّ المورد إذا سلّم إمكان استناد عدم أحد الضدّين إلى وجود الآخر وإن لم يتحقق ذلك خارجاً،فمحذور الدور يبقى على حاله لا محالة،إذ كيف يمكن أن يكون ما هو من أجزاء العلة لشيء معلولاً له بعينه.وأمّا إذا لم يسلّم ذلك،وذهب إلى استحالة استناد عدم أحد الضدّين إلى وجود الآخر كما هو مقتضى التقريب المتقدم،فمعناه إنكار توقف أحد الضدّين على عدم الآخر،فانّه إذا استحال أن يكون شيء مانعاً
عن ضدّه فكيف يمكن أن يقال إنّ ضده يتوقف على عدمه توقف الشيء على عدم مانعه.
وبعبارة واضحة:أنّ المدعى إنّما هو توقف أحد الضدّين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم مانعه،فإذا فرض أ نّه لا يمكن أن يكون مانعاً فكيف يمكن أن يكون عدمه موقوفاً عليه.
ثمّ إنّ المحقق الخوانساري (قدس سره) 1قد فصّل بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم،وربّما نسب هذا التفصيل إلى شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 2أيضاً بدعوى أنّ وجود الضد إنّما يتوقف على عدم الضدّ الآخر إذا كان موجوداً لا مطلقاً،بمعنى أنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين فوجود الضدّ الآخر في هذا المحل يتوقف على ارتفاع ذلك الضد،وأمّا إذا لم يكن مشغولاً به فلا يتوقف وجوده على عدمه،ونتيجة ذلك هي أنّ عدم الضد الموجود مقدمة لوجود الضدّ الآخر دون عدم الضدّ المعدوم.
بيان ذلك: أنّ المحل إمّا أن يكون خالياً من كل من الضدّين،وإمّا أن يكون مشغولاً بأحدهما دون الآخر.
فعلى الأوّل:فالمحل قابل لكل منهما بما هو مع قطع النظر عن الآخر،وقابلية المحل لذلك فعليّة فلا تتوقف على شيء،فعندئذ إذا وجد المقتضي لأحدهما فلا محالة يكون موجوداً من دون توقفه على عدم وجود الآخر،مثلاً إذا كان الجسم خالياً من كل من السواد والبياض فقابليته لعروض كل منهما عليه عندئذ فعلية،فإذا وجد مقتضي السواد فيه فلا محالة يكون السواد موجوداً،
من دون أن يكون لعدم البياض دخل في وجوده أصلاً.فالنتيجة:أنّ وجود الضد في هذا الفرض لا يتوقف على عدم الضدّ الآخر.
وعلى الثاني:فالمحل المشغول بالضد لا يقبل ضداً آخر في عرضه،بداهة أنّ المحل غير قابل بالذات لعروض كلا الضدّين معاً.نعم،يقبل الضدّ الآخر بدلاً عنه،وعليه فلا محالة يتوقّف وجود الضدّ الآخر على ارتفاع الضدّ الموجود، ضرورة أنّ الجسم الأسود لايقبل البياض كما أنّ الجسم الأبيض لا يقبل السواد، فوجود البياض لا محالة يتوقف على خلوّ الجسم من السواد ليقبل البياض، وكذا وجود السواد يتوقف على خلوّه من البياض،ليكون قابلاً لعروض السواد، وهذا بخلاف الضدّ الموجود فانّه لا يتوقف على شيء عدا ثبوت مقتضيه.
أقول: إنّ مرد هذا التفصيل إلى أنّ الأشياء محتاجة إلى العلة والسبب في حدوثها لا في بقائها،فهي في بقائها مستغنية.
بيان ذلك:أنّ الحادث إذا كان في بقائه غير محتاج إلى المؤثر كان وجود الحادث المستغني عن العلة مانعاً عن حدوث ضدّه،فلا محالة يتوقف حدوث ضدّه على ارتفاعه.وأمّا إذا كان الحادث محتاجاً في بقائه إلى المؤثر،فان لم يكن لضدّه مقتضٍ فعدمه يستند إلى عدم مقتضيه،وإن كان له مقتضٍ ولم يكن شرطه متحققاً فعدمه يستند إلى عدم شرطه،وإن كان شرطه أيضاً موجوداً ومع ذلك كان معدوماً فهو مستند إلى وجود مقتضي البقاء المانع من تأثير مقتضي ضدّه.إذن لا فرق بين الضدّ الموجود وغير الموجود في أنّ وجود الشيء لا يتوقف على عدم ضدّه،بل يتوقف على عدم مقتضي ضدّه إذا كان مقتضي الشيء وشرطه موجوداً في الخارج.
إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدرس هذه النقطة-استغناء البقاء عن المؤثر-مرّة في الأفعال الاختيارية،ومرّة اخرى في الموجودات التكوينية.
أمّا في الأفعال الاختيارية التي هي محلّ الخلاف في المسألة:فهي بديهية البطلان ولو سلّمنا أ نّها صحيحة في الموجودات التكوينية،والوجه في ذلك ما ذكرناه في بحث الطلب والارادة من أنّ الفعل الاختياري مسبوق باعمال القدرة والاختيار،وهو فعل اختياري للنفس،وليس من مقولة الصفات،وواسطة بين الارادة والأفعال الخارجية،فالفعل في كل آن يحتاج إليه،ويستحيل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه.
أو فقل:إنّ الفعل إذا كان تابعاً لاعمال قدرة الفاعل فلا محالة كان الفاعل إذا أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج،وإن لم يعملها فيه استحال تحققه،وكذا إن استمرّ على إعمال القدرة فيه استمرّ وجوده،وإن لم يستمر عليه استحال استمراره،وهذا واضح.
وعلى الجملة: لا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى السبب والعلة-وهو إعمال القدرة-فان سرّ الحاجة وهو إمكانه الوجودي وفقره الذاتي كامن في صميم ذاته ووجوده،مع أنّ البقاء هو الحدوث،غاية الأمر أ نّه حدوث ثانٍ ووجود آخر في مقابل الوجود الأوّل،والحدوث هو الوجود الأوّل غير مسبوق بمثله،وعليه فإذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار كالتكلّم مثلاً،الذي هو مضاد للسكوت،أو الحركة التي هي مضادة للسكون،أو الصلاة التي هي منافية للازالة،فهذا الفعل كما أ نّه في الآن الأوّل بحاجة إلى إعمال القدرة فيه والاختيار،كذلك بحاجة إليه في الآن الثاني والثالث وهكذا،فلا يمكن أن نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.
وعلى هذا الضوء لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم،إذ كما أنّ تحقق كل منهما في الزمان الأوّل كان متوقفاً على وجود مقتضيه-الاختيار وإعمال القدرة-كذلك تحققه في الزمان الثاني كان متوقفاً عليه.وقد أشرنا آنفاً أنّ
نسبة بقاء الضدّ الموجود في الآن الثاني كنسبة حدوث الضدّ المعدوم فيه في الحاجة إلى المقتضي وفاعل ما منه الوجود،فكما أنّ الأوّل لا يتوقف على عدم الثاني فكذلك الثاني لا يتوقف على عدم الأوّل.
أو فقل:إنّ كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان،فيكون في كل آنٍ فعل صادر بالارادة والاختيار،فلو انتفى الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه،ولذلك لا فرق بين الدفع والرفع عقلاً إلّا بالاعتبار وهو أنّ الدفع مانع عن الوجود الأوّل والرفع مانع عن الوجود الثاني، فكلاهما في الحقيقة دفع،ومثال ذلك:ما إذا أراد المكلف فعل الازالة دون الصلاة،فكما أنّ تحقق كل واحدة منهما في الزمن الأوّل كان منوطاً باختياره وإعمال القدرة فيه،فكذلك تحقق كل منهما في الزمن الثاني كان منوطاً باختياره وإعمال القدرة فيه،فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.
فالنتيجة: أنّ احتياج الأفعال الاختيارية إلى الارادة والاختيار من الواضحات الأوّلية،فلا يحتاج إلى مؤونة بيان وإقامة برهان.
وأمّا في الموجودات التكوينية: فالأمر أيضاً كذلك،إذ لا شبهة في حاجة الأشياء إلى علل وأسباب فيستحيل أن توجد بدونها.
وسرّ حاجة تلك الأشياء بصورة عامة إلى العلة وخضوعها لها،هو أنّ الحاجة كامنة في ذوات تلك الأشياء لا في أمرٍ خارج عنها،فانّ كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلق به،سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن، ضرورة أنّ فقره كامن في نفس وجوده،وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلّة،فانّ سرّ الحاجة وهو إمكان الوجود لا ينفك عنه،كيف فإنّ ذاته عين الفقر والامكان،لا أ نّه ذات لها الفقر.
وعلى أساس ذلك فكما أنّ الأشياء في حدوثها في أمسّ الحاجة إلى سبب
وعلّة،فكذلك في بقائها،فلا يمكن أن نتصور وجوداً متحرراً عن تلك الحاجة.
أو فقل:إنّ النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ الايجاد ليست هي حدوثها،لأنّ هذه النظرية تستلزم تحديد حاجة الممكن إلى العلّة من ناحيتين:المبدأ والمنتهى.
أمّا من ناحية المبدأ،فلأ نّها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث وهي الأشياء الحادثة بعد العدم،وأمّا إذا فرض أنّ للممكن وجوداً مستمراً بصورة أزلية لم تكن فيه حاجة إلى المبدأ،وهذا لا يطابق مع الواقع،إذ الممكن يستحيل وجوده من دون علة وسبب،وإلّا انقلب الممكن واجباً وهذا خلف.
وأمّا من ناحية المنتهى،فلأنّ الأشياء على ضوء هذه النظرية تستغني في بقائها عن المؤثر،ومن الواضح أ نّها نظرية خاطئة لا تطابق الواقع،كيف فان حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم وجودها كما عرفت.
تلخّص: أنّ هذه النظرية بما أ نّها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ،وتوجب تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص،فلا يمكن الالتزام بها.
والصحيح: أنّ منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعاً ذاتياً هو إمكانها الوجودي وفقرها الواقعي.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح أ نّه لا فرق بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم،فكما أنّ الضدّ المعدوم يحتاج في حدوثه إلى سبب وعلة،كذلك الضدّ الموجود يحتاج في وجوده في الآن الثاني والثالث وهكذا،إلى سبب وعلة ولا يستغني عنه في لحظة من لحظات وجوده،ونسبة حاجة الضدّ الموجود في بقائه إلى السبب والعلة والضدّ المعدوم في حدوثه إلى ذلك على حد سواء.
أو فقل:إنّ المحل كما أ نّه في نفسه قابل لكل من الضدّين حدوثاً،فان قابليته
لذلك ذاتية،كما أنّ عدم قابليته لقبول كليهما من ذاتياته،فوجود كل منهما وعروضه لذلك المحل منوط بتحقق علته،فعلة أيّ منهما وجدت كان موجوداً لا محالة،كذلك حال المحل في الآن الثاني،فانّه قابل لكل منهما بعين تلك النسبة، فانّ بقاء الضدّ الموجود أو حدوث الضدّ الثاني منوط بوجود علته،فكما أنّ وجود الضدّ المعدوم في هذا الآن منوط بتحقق علته،كذلك بقاء الضدّ الموجود، فنسبة تحقق علة وجود ذلك الضد،وتحقق علة وجود الضدّ الموجود في ذلك الآن على حدّ سواء،وعليه فعلّة وجود أيّ منهما وجدت في تلك الحال كان موجوداً لا محالة،بلا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم.
وقد تبين ممّا مرّ أنّ المعلول يرتبط بالعلة ارتباطاً ذاتياً ويستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر،فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلة،كما لا يمكن أن تبقى العلة والمعلول غير باق،وقد عبّر عن ذلك بالتعاصر بين العلة والمعلول زماناً.
وقد يناقش في ذلك الارتباط:بأ نّه مخالف لظواهر عدة من الموجودات الكونية التي هي باقية بعد انتفاء علتها،فهي تكشف عن عدم صحة قانون التعاصر،وأ نّه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علّته، وذلك كالعمارات التي بناها البنّاؤون وآلاف من العمال،فانّها بعد انتهاء عملية العمارة والبناء تبقى سنين متطاولة.وكالجسور والطرق ووسائل النقل المادية والمكائن والمصانع وما شاكلها ممّا شاده المهندسون والفنّانون في شتى ميادين العلم،فانّها بعد أن انتهت عمليتها بيد هؤلاء الفنّانين والعمّال تبقى إلى أمد بعيد من دون علّة مباشرة لها.وكالجبال والأحجار والأشجار ونحوها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض،فانّها باقية ولم تكن في بقائها بحاجة إلى علة مباشرة لها.
والخلاصة: أنّ المناقش قد عارض قانون التعاصر بظواهر تلك الأمثلة
التي تكشف بظاهرها عن أنّ المعلول لا يحتاج في استمرار وجوده وبقائه إلى علة،بل هو باقٍ مع انتفاء علته.
والجواب عن تلك المناقشة:أ نّها قد نشأت عن عدم فهم معنى العلية فهماً صحيحاً كاملاً،وقد تقدّم بيان ذلك،وقلنا هناك إنّ حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب كامنة في صميم ذاتها ولا يمكن أن تملك حريتها بعد حدوثها.
والوجه في ذلك هو:أنّ علة تلك الأشياء والظواهر حدوثاً غير علتها بقاءً، وبما أنّ المناقش لم ينظر إلى علة تلك الظواهر لا حدوثاً ولا بقاءً نظرة عميقة صحيحة،وقع في هذا الخطأ،لأنّ ما هو معلول المهندسين والبنّائين وآلاف العمال في بناء العمارات والدور وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الاُخرى من المكائن والسيارات وغيرها،إنّما هو نفس عملية صنعها وتصميمها نتيجة عدة من الحركات والجهود التي يقوم بها العمال،ونتيجة تجميع المواد الخام من الحديد والخشب والآجر وغيرها من المواد لتصنيع السيارات وتعمير العمارات وتركيب سائر الآلات،وهذه الحركات هي المعلولة للعمال والصادرة عنهم، ولذا تنقطع تلك الحركات بمجرد إضراب العمّال عن العمل وكف أيديهم عنها.
وأمّا بقاء تلك الظواهر والأشياء على وضعها الخاص،فهو معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية وحيويتها،وقوة الجاذبية العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها،نظير اتصال الحديد بما فيه القوة الكهربائية،فانّها تجذب الحديد بقوة جاذبية طبيعية تجرّه إليها آناً فآناً بحيث لو سلبت منه تلك القوة لا نقطع منه الجذب لا محالة.
ومن ذلك تظهر حال بقية الأمثلة،فان بقاء الجبال على وضعها الخاص وموضعها المخصوص،وكذا الأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها لخصائص طبيعية كامنة في صميم موادها،والقوة الجاذبية العامة التي تفرض على جميع
الأشياء الكونية،وقد صارت عمومية تلك القوة في يومنا هذا من الواضحات، وقد أودعها اللّٰه (سبحانه وتعالى) في صميم هذه الكرة الأرضية للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها ونظامها الخاص،في حين أ نّها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة.
وعلى الجملة: فبقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة واستمرار وجودها في الخارج معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية المحافظة على هذه الظاهرة من ناحية،والقوة الجاذبة من ناحية اخرى.
فبالنتيجة:المحافظ على الموجودات الطبيعية على وضعها الخاص وموضعها المخصوص،هي خصائصها والجاذبية التي تخضع تلك الظواهر لها،ولا تملك حريتها حدوثاً وبقاءً.إذن فلا وجه لتوهم أنّ تلك الظواهر في بقائها واستمرار وجودها مالكة لحريتها ولا تخضع لمبدأ وسبب.
ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان:
الاُولى: بطلان نظرية أنّ سرّ الحاجة إلى العلة هو الحدوث،لأنّ تلك النظرية مبنية على أساس عدم فهم معنى العلية فهماً صحيحاً وتحديد حاجة الأشياء إلى العلة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق مع الواقع.
الثانية: صحّة نظرية أنّ سرّ الحاجة إلى العلة هو إمكان الوجود،فان تلك النظرية قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلية فهماً صحيحاً مطابقاً للواقع، وأنّ حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجودها فلا يمكن أن نتصور وجوداً متحرراً عن ذلك المبدأ.
وقد تلخّص: أنّ الأشياء-بشتّى ألوانها وأشكالها-خاضعة للمبدأ الأوّل خضوعاً ذاتياً،وهذا لا ينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة اللّٰه تعالى
وإعمال قدرته كما فصّلنا الحديث-من هذه الناحية-في بحث الطلب والارادة 1وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية.
ثمّ إنّا لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا صحة نظرية أنّ منشأ الحاجة هو الحدوث في الموجودات التكوينية،وأ نّها تملك حريتها في البقاء ولا تخضع لمبدأ،إلّاأ نّها بديهية البطلان في الأفعال الاختيارية التي هي محل الكلام في المسألة،ضرورة أنّ الفعل الاختياري يستحيل بقاؤه بعد ارتفاع الارادة والاختيار.إذن لا وجه للتفصيل بين الضدّ الموجود والمعدوم.
ويجدر بنا أن نختم الحديث عن مقدمية عدم الضد للضد الآخر وعدم مقدميته،وقد عرفت استحالة مقدميته، هذا بحسب الصغرى.
وأمّا الكبرى: وهي وجوب مقدمة الواجب،فقد تقدّم الكلام فيها،وقلنا هناك إنّه لا دليل على ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته،وما ذكروه من الأدلة على ذلك قد ناقشناها واحداً بعد واحد،بل ذكرنا هناك – مضافاً إلى أنّ الوجدان حاكم بعدم ثبوت الملازمة بينهما-أنّ إيجاب المقدمة شرعاً لغو محض فلا يترتب عليه أثر أصلاً.
قد استدلّ بعضهم على أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه:بأنّ وجود الضد ملازم لترك الضدّ الآخر،والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما واجباً والآخر محرّماً،وعليه فإذا كان أحد الضدّين واجباً فلا محالة يكون ترك الآخر أيضاً واجباً،وإلّا لكان المتلازمان مختلفين في الحكم وهو غير جائز.
أقول: هذا الدليل أيضاً مركب من مقدمتين:
الاُولى:صغرى القياس،وهي ثبوت الملازمة بين وجود شيء وعدم ضدّه.
الثانية:كبراه وهي عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.
أمّا المقدمة الاُولى:فلا إشكال فيها.
وأمّا المقدمة الثانية:فقد ذكروا أنّ المتلازمين لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم،فإذا كانت الازالة مثلاً واجبة فترك الصلاة الذي هو ملازم لفعل الازالة لا محالة يكون واجباً،لأنّه يمتنع أن يكون محرّماً لاستلزامه التكليف بالمحال، ولا فرق في ذلك بين الضدّين اللّذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما، والضدّين اللّذين لهما ثالث كالسواد والبياض والقيام والجلوس ونحوهما،غاية الأمر أ نّه على الفرض الأوّل كان الاستلزام من الطرفين،فكما أنّ وجود كل منهما يستلزم عدم الآخر،كذلك عدم كل منهما يستلزم وجود الآخر.وأمّا على الفرض الثاني فوجود كل واحد منهما يستلزم عدم الآخر دون العكس،إذ يمكن انتفاؤهما معاً،وذلك لأنّ ملاك دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده
هو استلزام وجود ذلك الشيء لعدم ضدّه،وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد.
وأمّا استلزام عدم الشيء لوجود ضدّه فهو وإن كان مختصاً بالضدّين اللذين لا ثالث لهما،إلّاأ نّه أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً.
وعلى ذلك يظهر أ نّه لا وجه لما يراه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من التفرقة بين ما إذا لم يكن للضدين ثالث،وما إذا كان لهما ثالث،فسلّم الدلالة في الفرض الأوّل دون الثاني،فان ملاك الدلالة كما عرفت واحد،إذن فالتفصيل في غير موضعه كما سنتعرض إلى ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.
والجواب عن ذلك: أنّ الذي لايمكن الالتزام به هو كون المتلازمين مختلفين في الحكم،بأن يكون أحدهما متعلقاً للأمر،والآخر متعلقاً للنهي،لاستلزام ذلك التكليف بما لا يطاق،فلا يمكن أن يأمر الشارع باستقبال القبلة مثلاً في بلدنا هذا أو ما يقربه من البلاد في الطول والعرض،وينهى عن استدبار الجدي، لأنّ هذا تكليف بغير المقدور،بل لا يمكن النهي التنزيهي عنه لكونه لغواً،فلا يترتب عليه أيّ أثر بعد فرض وجوب الاستقبال.وأمّا لزوم كونهما محكومين بحكم واحد ومتوافقين فيه فلا موجب له أصلاً،فانّ المحذور المتقدم-وهو لزوم التكليف بما لا يطاق-كما يندفع بالالتزام بكونهما متوافقين في الحكم، كذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من الأحكام.وعليه فلا مقتضي لدفع المحذور بالفرض الأوّل دون الفرض الثاني،فانّ الالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه،ولا دليل في المقام،بل قام الدليل على خلافه، وذلك لأنّ الشارع إذا أمر بأحد المتلازمين فالأمر بالملازم الآخر لغو،فإذا أمر باستقبال القبلة مثلاً،فالأمر باستدبار الجدي،أو كون اليمين على طرف المغرب واليسار على طرف المشرق بلا فائدة،فان تلك الاُمور من ملازمات وجود
المأمور به في الخارج،سواء أكانت متعلقة للأمر أم لم تكن،وما كان كذلك فلا يمكن تعلّق الأمر به.
نعم،لو توقف ترك الحرام خارجاً على الاتيان بفعل ما،للملازمة بين ترك هذا الفعل والوقوع في الحرام وجب الاتيان به عقلاً،وأمّا شرعاً فلا،لعدم الدليل على سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية.ونظير ذلك ما تقدّم في بحث مقدمة الواجب 1من أنّ الاتيان بالمقدمة إذا كان علة تامة للوقوع في الحرام من دون أن يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة واختيار للفاعل، وجب تركها عقلاً لا شرعاً،لعدم الدليل على حرمة تلك المقدمة لا حرمة نفسية ولا حرمة غيرية.
أمّا الحرمة النفسية،فلأنّ المتصف بها إنّما هو المسبب،لأنّه مقدور للمكلف بواسطة القدرة على مقدمته،ومن الظاهر أ نّه لا فرق في المقدور بين كونه بلا واسطة أو معها.ووجوب وجوده وضرورته من قبل الاتيان بمقدمته لا يضر بتعلق التكليف به،لأنّه وجوب بالاختيار فلا ينافي الاختيار.إذن لا وجه لصرف النهي المتعلق بالمعلول إلى علته كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2بدعوى أنّ العلة مقدورة دون المعلول،ضرورة أنّ المقدور بالواسطة مقدور، والمعلول وإن لم يكن مقدوراً ابتداءً،إلّاأ نّه مقدور بواسطة القدرة على علته وهذا يكفي في صحة تعلّق النهي به.
وأمّا الحرمة الغيرية،فقد تقدّم 3أ نّه لا دليل عليها،لأنّ ثبوتها يبتني على ثبوت الملازمة،وقد سبق أنّ الملازمة لم تثبت.
وبتعبير آخر:لا شبهة في أنّ مراد القائل بأنّ المتلازمين لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم،ليس توافقهما في الارادة بمعنى الشوق المؤكد،ولا بمعنى إعمال القدرة،فانّ الارادة بالمعنى الأوّل من الصفات النفسانية،وليست من سنخ الأحكام في شيء،وبالمعنى الثاني وهو إعمال القدرة في شيء يستحيل أن يتعلق بفعل الغير،لأنّه ليس واقعاً تحت اختيار المولى وإرادته،بل مراده من ذلك أنّ اعتبار المولى أحد المتلازمين في ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز يستلزم اعتبار الآخر في ذمته أيضاً.
ولكن من الواضح جداً أ نّه لا ملازمة بين الاعتبارين أصلاً.مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الاعتبار الثاني لغو.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر:أنّ الأمر كذلك في النقيضين،والمتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت،فان اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن نقيضه واعتبار عدمه،كما أنّ اعتبار الملكة في ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن عدمها،فالأمر بالازالة مثلاً كما لا يستلزم النهي عن الصلاة المضادة لها،كذلك لا يستلزم النهي عن نقيضها وهو العدم البديل لها،ضرورة أنّ المتفاهم منه عرفاً ليس إلّاوجوب الازالة في الخارج،لا حرمة تركها،ولذلك قلنا إنّ كل حكم شرعي متعلق بشيء لا ينحل إلى حكمين:
أحدهما متعلق به،والآخر بنقيضه.
أو فقل:إنّ النهي عن أحد النقيضين مع الأمر بالنقيض الآخر لغو فلا يترتب عليه أثر.
وبذلك يظهر فساد ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الالتزام بأنّ الأمر بأحد النقيضين يستلزم النهي عن الآخر باللزوم البيّن بالمعنى الأخص.
والأمر بأحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت مثلاً يستلزم
النهي عن الآخر باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أيضاً،بل الأمر بأحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون يستلزم النهي عن الضدّ الآخر ولكن باللزوم البيّن بالمعنى الأعم.
ووجه الظهور هو:ما قد سبق من أ نّه لا دلالة على الملازمة في شيء من تلك الموارد حتّى باللزوم البيّن بالمعنى الأعم،فضلاً عن البيّن بالمعنى الأخص، وأنّ الأمر لا يدل إلّاعلى اعتبار متعلقه في ذمة المكلف،ولا يدل على النهي عن تركه،بل قد عرفت أنّ النهي عنه لغو.
أضف إلى ذلك:ما ذكرناه سابقاً من أنّ ملاك الدلالة في المقام هو استلزام فعل الضد لترك الضدّ الآخر،وهو أمر مشترك فيه بين الجميع،فلا يختص بالنقيضين ولا بالمتقابلين بتقابل العدم والملكة ولا بالضدين اللذين لا ثالث لهما، بل يعمّ الضدّين اللّذين لهما ثالث أيضاً،لأنّ فعل أحدهما يستلزم ترك الآخر لا محالة.وأمّا استلزام ترك الشيء لفعل ضدّه فهو أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً.
فالنتيجة:أنّ ما هو ملاك الدلالة على تقدير تسليمه يشترك فيه الجميع، ولا يختص بغير الضدّين اللّذين لهما ثالث.فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفرقة لا يرجع إلى معنى محصّل.
وهذه الشبهة ترتكز على ركيزتين:
الاُولى: أنّ ترك الحرام في الخارج يتوقف على فعل من الأفعال الوجودية، لاستحالة خلوّ المكلف من فعلٍ ما،وكونٍ من الأكوان الاختيارية،وعليه فإذا لم يشتغل بغير الحرام وقع في الحرام لا محالة.إذن كان الاشتغال بغير الحرام واجباً مقدمة لترك الحرام.
الثانية: أنّ الفعل الاختياري يحتاج في حدوثه وبقائه إلى المؤثر،فلا يستغني الحادث في بقائه عن المؤثر كما لا يستغني عنه في حدوثه،فالنتيجة على ضوء هاتين الركيزتين هي أنّ ترك الحرام حدوثاً وبقاءً متوقف على إيجاد غيره من الأفعال الاختيارية في الخارج.وبما أنّ إيجاده مقدمة لترك الحرام فيكون واجباً بوجوب مقدّمي،إذن لا يمكن فرض مباح في الخارج.وهذا معنى القول بانتفاء المباح وانحصار الأفعال بالواجب والحرام.
ويرد عليه: أنّ الركيزة الثانية وإن كانت في غاية الصحة والمتانة كما سبق، إلّا أنّ الاُولى منهما واضحة البطلان،والوجه في ذلك:هو أنّ ما ذكره الكعبي في هذه الركيزة إمّا مبتنٍ على مانعية وجود أحد الضدّين عن الضدّ الآخر،بدعوى أنّ فعل الحرام بما أ نّه مضاد لغيره من الأفعال الوجودية،فلا محالة يتوقف تركه على فعل ما من تلك الأفعال من باب توقف عدم الشيء على وجود مانعه.
وإمّا مبتنٍ على دعوى الملازمة بين حرمة شيء ووجوب ضدّه.
ولكن كلا الأمرين واضح الفساد.
أمّا الأمر الأوّل: فقد تقدمت استحالة مانعية وجود أحد الضدّين عن الضدّ الآخر بصورة مفصّلة،فلا يكون عدم الضد مستنداً إلى وجود ضدّه،بل هو إما مستند إلى عدم مقتضيه،أو إلى وجود المقتضي للضدّ الآخر.وعلى هذا فلا يكون ترك الحرام متوقفاً على فعلٍ ما غير الحرام من الأفعال الوجودية، بل يكفي في عدمه عدم إرادته وعدم الداعي إليه،أو إرادة ايجاد فعل آخر.
وكيف كان،فلا يتوقف ترك الحرام على أحد تلك الأفعال.على أنّ الكبرى أيضاً غير ثابتة،وهي وجوب مقدمة الواجب كما سبق.
وأمّا الأمر الثاني: فلما عرفت من أ نّه لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
نعم،ربّما يمكن أن يعلم المكلف بأ نّه لو لم يأت بفعلٍ ما غير الحرام لوقع في الحرام باختياره وإرادته،فحينئذ وإن وجب الاتيان به فراراً عن الوقوع في الحرام،إلّاأنّ وجوبه عقلي لا شرعي كما تقدّم،إذن فما أفاده الكعبي من انحصار الأفعال الاختيارية بالواجب والحرام لا يرجع إلى معنى محصّل.هذا تمام كلامنا في الضدّ الخاص.
ونتيجة جميع ما ذكرناه عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ هذه المسألة من المسائل الاُصولية العقلية وليست من المسائل الفقهية،ولا من المبادئ كما تقدّم.
الثانية: أنّ العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة،وهذه الأجزاء تختلف من ناحية استناد وجود المعلول إليها واستناد عدمه إلى تلك الأجزاء،فان وجوده مستند إلى الجميع في مرتبة واحدة فلا يمكن أن يستند إلى بعضها دون بعضها الآخر،وهذا بخلاف عدمه،فانّه عند عدم المقتضي أو الشرط لا يستند إلى وجود المانع كما عرفت.
الثالثة: أنّ كبرى كون عدم المانع من المقدمات مسلّمة،إلّاأنّ عدم أحد الضدّين ليس مقدمة لوجود الضدّ الآخر،لما تقدّم من استحالة مانعية وجود أحد الضدّين للضدّ الآخر بالوجهين السابقين:الدور والتفتيش عن حال المقتضيات،وعدم إمكان فرض صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضدّ الآخر.
الرابعة: أنّ المانع إنّما يكون متصفاً بالمانعية عند ثبوت المقتضي مع بقية الشرائط،ليزاحم المقتضي في تأثيره.وهذا معنى دخل عدمه في وجود المعلول.
الخامسة: إمكان ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر،وقد عرفت أنّ هذا غير داخل في الكبرى المتسالم عليها،وهي أنّ اقتضاء المحال محال،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث إنّه قد أصرّ على استحالة ثبوت المقتضي لكل منهما،وأنّ ذلك من مصاديق تلك الكبرى، ولكن قد سبق أنّ الأمر ليس كذلك،فانّ تلك الكبرى إنّما تتحقق في أحد موردين:1-اقتضاء شيء واحد بذاته أمرين متنافيين في الوجود.2-فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد الاجتماع والتقارن.والمقام ليس منهما في شيء.
السادسة: أنّ التقدم أو التأخر الرتبي يحتاج إلى ملاك وجودي كامن في صميم ذات الشيء لا في أمر خارج عنه،دون المعية في الرتبة،فانّه يكفي في تحققها عدم تحقق ملاك التقدم أو التأخر،خلافاً لشيخنا المحقق (قدس سره) حيث قال:إنّ المعية في الرتبة أيضاً تحتاج إلى ملاك وجودي.وقد تقدّم فساده فلاحظ.
السابعة: أ نّه لا مقتضي لكون المتلازمين متوافقين في الحكم،بل قد سبق أنّ ذلك لغو فلا يترتب عليه أثر شرعي أصلاً.نعم،الذي لا يمكن هو اختلافهما
في الحكم كما مرّ.
الثامنة: أنّ قياس المساواة إنّما ينتج في المتقدم والمتأخر بالزمان،فانّ ما كان متحداً مع المتقدم أو المتأخر زماناً متقدم أو متأخر لا محالة،لا في المتقدم والمتأخر بالرتبة والطبع،وسرّ ذلك:أنّ ملاك التقدم والتأخر في الأوّلين أمر خارج عن مقتضى ذاتهما،وهو وقوعهما في الزمان المتقدم والمتأخر،ومع قطع النظر عن ذلك فلايقتضي أحدهما بذاته التقدم على شيء آخر ولا الآخر التأخر، فانّ المتقدم والمتأخر بالذات نفس أجزاء الزمان وما يشبهها كالحركة ونحوها، والحوادث الاُخر إنّما تتصف بهما بالعرض لا بالذات.ونتيجة ذلك:هي أنّ كل ما كان واقعاً في الزمان المتقدم واجد لملاك التقدم،وكل ما كان واقعاً في الزمان المتأخر واجد لملاك التأخر،وكل ما كان واقعاً في الزمان المقارن واجد لملاك التقارن من دون اختصاص بحادث دون آخر.وملاك التقدم والتأخر في الأخيرين أمر راجع إلى مقتضى ذاتهما،فكل ما كان في صميم ذاته من الوجود أو العدم اقتضاء التقدم على شيء أو التأخر متقدّم عليه أو متأخر لا محالة، وكل ما لم يكن فيه اقتضاء كذلك فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر ولو كان في رتبة ما فيه الاقتضاء.
التاسعة: بطلان التفصيل بين الضدّ المعدوم والضدّ الموجود،بتوقف وجود الأوّل على ارتفاع الثاني دون العكس.وقد عرفت أنّ منشأ هذا التفصيل توهم استغناء الباقي عن المؤثر.وقد تقدّم الكلام فيه مفصلاً فراجع.
العاشرة: بطلان ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من تسليم الدلالة على الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه في النقيضين،والمتقابلين بتقابل العدم والملكة،بل في الضدّين اللذين لا ثالث لهما.وقد عرفت عدم الدلالة في الجميع.
الحادية عشرة: قد تقدّم أ نّه على تقدير تسليم الملازمة فيما إذا لم يكن للضدّين ثالث،فلا بدّ من تسليمها فيما إذا كان لهما ثالث أيضاً،لأنّ ملاك الدلالة كما مرّ وهو استلزام فعل الشيء لترك ضدّه،أمر يشترك فيه جميع الأضداد، فلا وجه للتفصيل بينهما كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
الثانية عشرة: أنّ ما ذهب إليه الكعبي من القول بانتفاء المباح لا يرجع إلى معنى محصّل كما سبق.
الضدّ العام
وأمّا الكلام في المقام الثاني وهو الضدّ العام،فقد اختلفت كلماتهم في كيفية دلالة الأمر بالشيء على النهي عنه بعد الفراغ عن أصل الدلالة إلى ثلاثة أقوال:
الأوّل: أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام،فالأمر بالصلاة مثلاً عين النهي عن تركها،فقولنا:صلّ،عين قولنا:لا تترك الصلاة.
الثاني: أنّ الأمر بالشيء يدل على النهي عنه بالتضمن،بدعوى أ نّه مركب من طلب الفعل والمنع من الترك،فالمنع من الترك مأخوذ في مفهوم الأمر، فيكون دالاً عليه بالتضمن.
الثالث: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عنه بالدلالة الالتزامية باللزوم البيّن بالمعنى الأخص،أو البيّن بالمعنى الأعم.
أمّا القول الأوّل: فان اريد من العينية في مقام الاثبات والدلالة-أعني بها أنّ الأمر بشيء والنهي عن تركه يدلّان على معنى واحد،وإنّما الاختلاف بينهما في التعبير فقط-فهذا ممّا لا إشكال فيه،إذ من الواضح أ نّه لا مانع من إبراز معنى واحد بعبارات متعددة وألفاظ مختلفة،فيبرزه تارةً بلفظ واُخرى بلفظ آخر وهكذا،مثلاً يمكن إبراز كون الصلاة على ذمة المكلف مرّة بكلمة صلّ، ومرّة اخرى بكلمة:لاتترك الصلاة،بأن يكون المقصود من كلتا الكلمتين إبراز وجوبها وثبوتها في ذمة المكلف،لا أنّ المقصود من الكلمة الاُولى إبراز وجوب فعلها ومن الكلمة الثانية إبراز حرمة تركها لئلّا تكون إحدى الكلمتين عين الاُخرى في الدلالة والكشف.
وهذا هو المقصود من الروايات الناهية عن ترك الصلاة.وليس المراد من النهي فيها النهي الحقيقي الناشئ من مفسدة إلزامية في متعلقه،ولذلك لم يتوهم أحد حرمة ترك الصلاة وأنّ تاركها يستحق عقابين،عقاباً لتركه الواجب، وعقاباً لارتكابه الحرام.
وهذا التعبير-أعني به التعبير عن طلب شيء بالنهي عن تركه-أمر متعارف في الروايات في باب الواجبات والمستحبات وفي كلمات الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) فترى أ نّهم يعبّرون عن الاحتياط الواجب بقولهم:لا يترك الاحتياط.
وعليه فمعنى أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه،هو أ نّهما متحدان في جهة الدلالة والحكاية عن المعنى،في مقابل ما إذا كانا متغايرين في تلك الجهة.
وعلى ضوء ذلك صحّ أن يقال:إنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام بحسب المعنى والدلالة عليه. فان اريد من العينية العينية بهذا المعنى،فهي صحيحة ولا بأس بها،ولكنّ الظاهر أنّ العينية بذلك المعنى ليست مراداً للقائل بها كما لا يخفى.
وإن اريد بها العينية في مقام الثبوت والواقع-أعني بها كون الأمر بشيء عين النهي عن تركه في ذلك المقام وبالعكس-فيرد عليه أ نّه إن اريد من النهي عن الترك،طلب تركه المنطبق على الفعل،إذ قد يراد من النهي عن الشيء طلب تركه كما هو الحال في تروك الاحرام والصوم،حيث يراد من النهي عن الأكل والشرب ومجامعة النساء والارتماس في الماء ولمس المرأة ولبس المخيط للرجال والتكحل والنظر إلى المرآة والمجادلة،وغيرها ممّا يعتبر عدمه في صحة الاحرام،طلب ترك هذه الاُمور،فانّ هذا النهي لم ينشأ عن مبغوضية تلك الاُمور وقيام مفسدة إلزامية بها،بل نشأ عن محبوبية تركها وقيام مصلحة إلزامية به،وعليه لم يكن مثل هذا النهي نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ملزمة
في متعلقه،بل هو في الواقع أمر ولكن ابرز بصورة النهي في الخارج.
إن اريد ذلك،فلا معنى له أصلاً،وذلك لأنّ ترك الترك وإن كان مغايراً للفعل مفهوماً،إلّاأ نّه عينه مصداقاً وخارجاً،لأنّه عنوان انتزاعي له،وليس له ما بازاء في الخارج ما عداه.
أو فقل:إنّ في عالم التحقق والوجود أحد شيئين لا ثالث لهما،أحدهما الوجود،والثاني العدم البديل له.وأمّا عدم العدم فهو لا يتجاوز حدّ الفرض والتقدير،وليس له واقع في قبالهما وإلّا لأمكن أن يكون في الواقع أعدام غير متناهية،فانّ لكل شي عدماً،ولعدمه عدم،وهكذا إلى أن يذهب إلى ما لا نهاية له.نعم،إنّه عنوان انتزاعي منطبق على الوجود،وعليه فالقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه في قوة القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء،وهو قول لا معنى له أصلاً.
فالنتيجة:أ نّه لا يمكن أن يراد من النهي عن الترك طلب تركه،لاستلزام ذلك النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي نفسه،وهذا النزاع لا محصّل له أبداً.
وإن اريد بالنهي عن الترك النهي الحقيقي الناشئ عن مبغوضية متعلقه، وقيام مفسدة ملزمة به،فالنهي بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولاً في نفسه،إلّا أ نّه لا يمكن أن يراد فيما نحن فيه،وذلك لاستحالة أن يكون بغض الترك متحداً مع حبّ الفعل أو جزئه،وذلك لاستحالة اتحاد الصفتين المتضادتين في الخارج.
وبعبارة واضحة:أ نّه لا شبهة في أنّ الأمر الحقيقي يباين النهي الحقيقي تبايناً ذاتياً،فلا اشتراك بينهما لا في ناحية المبدأ ولا في ناحية الاعتبار ولا في ناحية المنتهى.أمّا من ناحية المبدأ،فلأنّ الأمر تابع للمصلحة الإلزامية في متعلقه، والنهي تابع للمفسدة الإلزامية فيه.وأمّا من ناحية الاعتبار،فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ حقيقة الأمر ليست إلّااعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه
في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو نحوها.وحقيقة النهي ليست إلّااعتبار المولى حرمة الفعل عليه وجعله محروماً عنه،وإبرازه في الخارج بمبرز من صيغة النهي أو ما شاكلها،ومن الواضح أنّ أحد الاعتبارين أجنبي عن الاعتبار الآخر بالكلية.وأمّا من ناحية المنتهى،فلأنّ الأمر يمتثل باتيان متعلقه والنهي يمتثل بترك متعلقه.
وعلى هذا الضوء فكيف يمكن القول بأنّ الأمر عين النهي،فهل هو عينه في ناحية المبدأ أو في ناحية المنتهى أو في ناحية الاعتبار،كل ذلك غير معقول.
فالنتيجة إذن هي أنّ القول بالعينية قول لا محصّل له.ومن ذلك يظهر بطلان:
القول الثاني أيضاً،وهو القول بأنّ النهي جزء من الأمر،فانّ القول بالجزئية أيضاً غير معقول،ضرورة أ نّه كما لا يمكن أن يكون النهي متحداً مع الأمر في المراحل المتقدمة،كذلك لا يمكن أن يكون جزأه في تلك المراحل.وما قيل في تعريف الوجوب من أ نّه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك لا يخلو عن ضرب مسامحة،ولعلّ الغرض منه الاشارة إلى مفهوم الوجوب في مقام تقريبه إلى الأذهان،لا أ نّه تعريف له على التحقيق،وإلّا فمن الواضح جداً أنّ المنع من الترك لم يؤخذ في حقيقة الوجوب بأيّ معنى من المعاني الذي فرضناه،سواء أكان إرادة نفسانية،أم كان حكماً عقلياً،أو مجعولاً شرعياً.
فانّه على الأوّل من الأعراض وهي من البسائط الخارجية،وعلى الثاني فهو من الاُمور الانتزاعية العقلية،بمعنى أنّ العقل يحكم باللزوم عند اعتبار المولى فعلاً ما على ذمة المكلف مع عدم نصبه قرينة على الترخيص في تركه.ومن الظاهر أ نّه أشدّ بساطة من الأعراض فلا يعقل له جنس ولا فصل.وعلى الثالث فهو من المجعولات الشرعية،ومن الواضح أ نّها في غاية البساطة ولا يعقل لها جنس وفصل،نعم المنع من الترك لازم للوجوب لا أ نّه جزؤه.
وعلى تقدير كون الوجوب مركباً فلا يعقل أن يكون مركباً من المنع من الترك،لما عرفت من أنّ بغض الترك كما لا يمكن أن يكون عين حبّ الفعل، كذلك لا يمكن أن يكون جزأه.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ النزاع في عينية الأمر بشيء للنهي عن ضدّه أو جزئيته له،لا يرجع إلى النزاع في معنى معقول.
وأمّا القول الثالث: وهو القول بأنّ الأمر بشيء يستلزم النهي عن ضدّه العام،فقد ذهب إليه جماعة،ولكنهم اختلفوا في أنّ الاقتضاء هل هو على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص،بأن يكون نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع من الترك،من دون حاجة إلى أمر زائد،أو أ نّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم على قولين.
فقد قرب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1القول الأوّل،وقال:إنّه لا يبعد أن تكون دلالته على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص،وعلى تقدير التنزل عن ذلك فالدلالة الالتزامية بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم ممّا لا إشكال فيه ولا كلام.
والتحقيق: هو عدم الاقتضاء،والوجه في ذلك:هو أنّ دعوى استلزام الأمر بشيء النهي عن تركه باللزوم البيّن بالمعنى الأخص واضحة الفساد، ضرورة أنّ الآمر ربّما يأمر بشيء ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلاً ليكون كارهاً له،فلو كانت الدلالة على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص لم يتصور غفلة الآمر عن الترك وعدم التفاته إليه في مورد من الموارد،ومن هنا قد اعترف هو (قدس سره) أيضاً ببداهة إمكان غفلة الآمر بشيء عن ترك تركه
فضلاً عن أن يتعلق به طلبه،وهذا منه يناقض ما أفاده من نفي البعد عن اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.
وأمّا دعوى الدلالة الالتزامية باللزوم البيّن بالمعنى الأعم،فهي أيضاً لايمكن تصديقها،وذلك لعدم الدليل عليها لا من العقل ولا من الشرع.
أمّا من ناحية العقل: فلأ نّه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شيء واعتباره حرمة تركه،فانّ كلاً من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبار مستقل،والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكان من الامكان،وكذا لا يحكم العقل بالملازمة بين إرادة شيء وكراهة نقيضه،إذ قد يريد الانسان شيئاً غافلاً عن تركه وغير ملتفت إليه،فكيف يكون كارهاً له.
وإن شئت فقل:إنّ القائل باستلزام وجوب شيء لحرمة تركه،إمّا أن يدعي الحرمة النفسية،أو يدعي الحرمة الغيرية.وكلتا الدعويين فاسدة:
أمّا الدعوى الأولى:فلأنّ الحرمة النفسية إنّما تنشأ من مفسدة إلزامية في متعلقها،ومن الواضح أ نّه لا مفسدة في ترك الواجب،فتركه ترك ما فيه المصلحة لا فعل ما فيه المفسدة.فلو سلّمنا وجود المفسدة في ترك الواجب أحياناً فلا كلية لذلك بالبداهة.إذن لا مجال لدعوى الملازمة بين وجوب شيء وحرمة تركه،بل الوجدان حاكم بعدم ثبوتها.
وأمّا الدعوى الثانية:فلعدم ملاك الحرمة الغيرية فيه أوّلاً،لانتفاء المقدمية، وكونها لغواً ثانياً،لعدم ترتب أثر عليها من العقاب أو نحوه.وعليه فلا موضوع لدعوى الملازمة أصلاً.
وأمّا من ناحية الشرع: فلأنّ ما دلّ على وجوب شيء لا يدل على حرمة تركه،بداهة أنّ الحكم الواحد وهو الوجوب في المقام لا ينحل إلى حكمين أحدهما يتعلق بالفعل والآخر بالترك،ليكون تاركه مستحقاً لعقابين من جهة
تركه الواجب وارتكابه الحرام،ومن هنا قلنا إنّه لا مفسدة في ترك الواجب ليكون تركه محرّماً،كما أ نّه لا مصلحة في ترك الحرام ليكون واجباً.
وعلى الجملة:فمن الواضح جداً أنّ الأمر بشيء لا يدل إلّاعلى اعتباره في ذمة المكلف بلا دلالة له على اعتبار حرمة تركه،فالأمر بالصلاة مثلاً لا يدل إلّا على اعتبار فعلها في ذمة المكلف،دون حرمة تركها وهكذا.وأمّا إطلاق المبغوض على ترك الواجب فهو بضرب من العناية والمسامحة،كما أنّ إطلاق المحبوب على ترك الحرام كذلك.
وقد تحصّل من ذلك بشكل واضح:أ نّه لا ملازمة بين اعتبار شيء في ذمة المكلف واعتبار حرمة نقيضه،لا عقلاً ولا شرعاً.
ونتيجة مجموع ما ذكرناه نقطتان:الاُولى:أنّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام لا بنحو العينية أو الجزئية ولا بنحو اللزوم.
الثانية:أنّ القولين الأوّلين لا يرجعان إلى معنى معقول،دون القول الأخير.
هذا تمام كلامنا في الضدّ العام.
قد اشتهر بين الأصحاب أنّ الثمرة تظهر فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة مثلاً وواجب مضيق كالازالة،أو بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر،فعلى القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه يقع الواجب الموسع أو غير الأهم صحيحاً،إذ لا مقتضي لفساده أصلاً،فانّ المقتضي له إنّما هو تعلّق النهي به ولا نهي على الفرض،إذن يبقى الواجب على حاله من المحبوبية والملاك.وأمّا على القول بالاقتضاء فيقع فاسداً إذا كان عبادة،بضم كبرى المسألة الآتية وهي:أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.
وقد اورد على هذه الثمرة بايرادين متقابلين:
أحدهما: ما عن الشيخ البهائي (قدس سره) 1من بطلان العبادة مطلقاً حتّى على القول بعدم الاقتضاء،وذلك لما يراه (قدس سره) من اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلاً،وعلى هذا فلا محالة تفسد عند المزاحمة بالواجب الأهم أو المضيق،سواء فيه القول بالاقتضاء وعدمه،ضرورة أنّ الأمر بشيء لو لم يقتض النهي عن ضدّه فلا شبهة في أ نّه يقتضي عدم الأمر به،لاستحالة تعلّق الأمر بالضدّين معاً،فإذا كانت العبادة المضادة غير مأمور بها فعلاً فلا محالة تقع فاسدة،لفرض أنّ صحة العبادة مشروطة بكونها مأموراً بها،وبما أ نّه لا أمر في المقام على الفرض،فلا صحة لها لانتفائها بانتفاء شرطها.
ثانيهما: ما عن جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من صحة العبادة مطلقاً حتّى على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه،والوجه في ذلك:هو أنّ صحتها على القول بعدم الاقتضاء واضحة،لعدم المقتضي للفساد أصلاً،بناءً على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر،بل المعتبر فيها هو إضافتها إلى المولى بنحو من أنحاء الاضافة.وأمّا على القول بالاقتضاء فالعبادة كالصلاة مثلاً وإن كانت منهياً عنها،إلّاأنّ هذا النهي بما أ نّه نهي غيري نشأ عن مقدمية تركها أو عن ملازمته لفعل المأمور به في الخارج ولم ينشأ عن مفسدة في متعلقه،فلا يكون موجباً للفساد،ومن هنا قالوا:إنّ مخالفة الأمر والنهي المقدميين لا توجب بعداً،وسر ذلك ما سبق من أنّ النهي الغيري المقدمي لا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه وكونه مبغوضاً للمولى لئلّا يمكن التقرب به،فانّ المبّعد لا يمكن التقرب به.
وعلى ضوء ذلك فالعبادة باقية على ما كانت عليه من المصلحة والمحبوبية الذاتية الصالحة للتقرب بها،والنهي المتعلق بها-بما أ نّه غيري-لا يمنع عن التقرب بها.
وعلى الجملة:فبناءً على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر وكفاية قصد الملاك،فصحتها عندئذ تدور مدار تحقق الملاك بلا فرق بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه،وبما أ نّها واجدة للملاك على كلا القولين فهي تقع صحيحة،إذن فلا ثمرة.
أقول: أمّا الايراد الأوّل فيردّه:ما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي مفصّلاً، وسنتعرض لذلك فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى أيضاً،من أنّ المعتبر في صحة العبادة
هو قصد القربة بأيّ وجه تحقق لا خصوص قصد الأمر،لعدم دليل خاص يدل عليه.إذن لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين وجود الأمر وعدمه إذا كان الفعل واجداً للملاك وقصد التقرب به.
وامّا الايراد الثاني:فيظهر حاله ممّا سنبيّنه إن شاء اللّٰه تعالى.
فنقول: تحقيق الحال في الثمرة المزبورة يستدعي الكلام في مقامين:
الأوّل:فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة مثلاً وواجب مضيق كالازالة.
الثاني:فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيّقين أحدهما أهم من الآخر، كما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة في آخر الوقت والازالة بحيث لو اشتغل بالازالة فاتته الصلاة.
أمّا الكلام في المقام الأوّل:فقد اختار المحقق الثاني (قدس سره) 1وتبعه جماعة من المحققين تحقق الثمرة فيه،فعلى القول بالاقتضاء تقع العبادة فاسدة وعلى القول بعدمه تقع صحيحة.
بيان ذلك:أ نّا قد ذكرنا في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد 2أنّ الصحيح هو تعلقها بالطبائع الملغاة عنها جميع الخصوصيات والتشخصات دون الأفراد،وعلى هذا فالمأمور به هو الطبيعة المطلقة،ومقتضى إطلاق الأمر بها ترخيص المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه من الأفراد العرضية والطولية،ولكن هذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن التطبيق،وأمّا إذا كان مانع عنه كما إذا كان بعض أفرادها منهياً عنه، فلا محالة يقيد إطلاق الأمر المتعلق بالطبيعة بغير هذا الفرد المنهي عنه،لاستحالة انطباق الواجب على الحرام.
ويترتب على ذلك:أ نّه بناءً على القول باقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه،كان الفرد المزاحم من الواجب المطلق منهياً عنه فيقيد به إطلاق الأمر به،كما هو الحال في بقية موارد النهي عن العبادات،لاستحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب،ونتيجة ذلك التقييد هي وقوعه فاسداً بناءً على عدم كفاية اشتماله على الملاك في الصحة.
أو فقل:إنّ الأمر بالشيء لو كان مقتضياً للنهي عن ضدّه،كان الفرد المزاحم منهياً عنه لا محالة،وعليه فلا يجوز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه،وبضميمة المسألة الآتية وهي أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد،يقع فاسداً.
وأمّا بناءً على القول بعدم الاقتضاء،فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيق هو عدم الأمر بالفرد المزاحم،لاستحالة الأمر بالضدّين معاً،وهذا لا يقتضي فساده.
والوجه في ذلك:ما عرفت من أنّ متعلق الوجوب صرف وجود الطبيعة وخصوصية الأفراد جميعاً خارجة عن حيّز الأمر،والمفروض أنّ القدرة على صرف الوجود منها تحصل بالقدرة على بعض وجوداتها وأفرادها وإن لم يكن بعضها الآخر مقدوراً.ومن الواضح أنّ التكليف غير مشروط بالقدرة على جميع أفرادها العرضية والطولية،ضرورة أ نّه ليست طبيعة تكون مقدورة كذلك، وعليه فعدم القدرة على فرد خاص من الطبيعة المأمور بها وهو الفرد المزاحم بالأهم لا ينافي تعلّق الأمر بها،فانّ المطلوب هو صرف وجودها وهو يتحقق بايجاد فرد منها في الخارج،فالقدرة على إيجاد فرد واحد منها كافٍ في تعلّق الأمر بها.
وعلى هذا الضوء يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة المأمور بها لانطباق تلك الطبيعة عليه كانطباقها على بقية الأفراد،ضرورة أ نّه لا فرق بينه وبين غيره من الأفراد من هذه الجهة أصلاً.
وبتعبير آخر:أ نّه لا موجب لتقييد إطلاق المأمور به على هذا القول بغير الفرد المزاحم للواجب المضيق،فانّ الموجب لذلك إنّما هو تعلّق النهي به، وحيث لا نهي على الفرض فلا موجب له أصلاً،وعندئذ فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيق هو عدم الأمر به،ومن الواضح أ نّه غير مانع من
انطباق الطبيعة المأمور بها عليه،إذ الأفراد جميعاً في عدم تعلّق الأمر بها وعدم اتصافها بالواجب على نسبة واحدة،ولا فرق في ذلك بين الفرد المزاحم للواجب المضيق وغيره،فان متعلق الأمر الطبيعة الجامعة بين الأفراد بلا دخل شيء من الخصوصيات والتشخصات فيه،ولذا لا يسري الوجوب منها إلى تلك الأفراد،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ ضابط الامتثال انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي صحة الاتيان بالفرد المزاحم لاشتراكه مع بقية الأفراد في كلتا الناحيتين.
نعم،يمتاز عنها في ناحية ثالثة:وهي أنّ الفرد المزاحم غير مقدور شرعاً وهو في حكم غير المقدور عقلاً،إلّاأ نّها لا تمنع عن الصحة وحصول الامتثال به،لأنّ الصحة تدور مدار الناحيتين الاُوليين،وهذه الناحية أجنبية عما هو ملاك الصحة،ضرورة أنّ المكلف لو عصى الأمر بالواجب المضيق وأتى بهذا الفرد المزاحم لوقع صحيحاً،لانطباق المأمور به عليه.
وإن شئت فقل:إنّ ما كان مزاحماً للواجب المضيق وإن كان غير مقدور شرعاً،إلّاأ نّه ليس بمأمور به،وما كان مأموراً به ومقدوراً للمكلف-وهو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى-غير مزاحم له.وعلى ذلك الأساس صحّ الاتيان بالفرد المزاحم،فانّ الانطباق قهري والإجزاء عقلي.
ونتيجة ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) هي أنّ الفرد المزاحم بناءً على القول بالاقتضاء،حيث إنّه كان منهياً عنه،فلا ينطبق عليه المأمور به،وعليه فلا إجزاء لدورانه مدار الانطباق.وبناءً على القول بعدم الاقتضاء حيث إنّه ليس بمنهي عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزئاً.
وقد أورد على هذا التفصيل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بأنّ ذلك إنّما يتم بناءً على أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز،إذ على هذا الأصل يمكن أن يقال إنّ العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه،فإذا كان المكلف قادراً على الواجب ولو بالقدرة على فرد واحد منه لا يكون التكليف به قبيحاً،وبما أنّ الواجب الموسع في مفروض الكلام مقدور من جهة القدرة على غير المزاحم للواجب المضيق من الأفراد،فلا يكون التكليف به قبيحاً.
وعليه فعلى القول بالاقتضاء بما أنّ الفرد المزاحم منهي عنه،لا ينطبق عليه المأمور به فلا يكون مجزئاً.وعلى القول بعدم الاقتضاء حيث إنّه ليس بمنهي عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزئاً.إذن ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل متين.
وأمّا إذا كان منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك كما هو الصحيح،لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز،فلا يتم ما ذكره،ولا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بقصد الأمر أصلاً.فها هنا دعويان:
الاُولى:أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل.
الثانية:أنّ التفصيل المزبور لا يتم على هذا الأصل.
و من الواضح أنّ هذا المعنى بنفسه يستلزم كون متعلقه مقدوراً،لاستحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً أو شرعاً،فإذا كان التكليف بنفسه مقتضياً
لاعتبار القدرة في متعلقه فلا تصل النوبة إلى حكم العقل بذلك،ضرورة أنّ الاستناد إلى أمر ذاتي في مرتبة سابقة على الاستناد إلى أمر عرضي.وإن شئت فقل:إنّ الغرض من البعث انبعاث المكلف نحو الفعل،ومن الواضح امتناع الانبعاث نحو الممتنع،وحصول الداعي له إلى إيجاده،فإذا امتنع الانبعاث والداعوية امتنع جعل التكليف لا محالة.
،و ذلك لأنّ التكليف إذا كان بنفسه مقتضياً لاعتبار القدرة في متعلقه فلا محالة ينحصر متعلقه بخصوص الأفراد المقدورة،فتخرج الأفراد غير المقدورة عن متعلقه.
وعلى الجملة:فنتيجة اقتضاء نفس التكليف ذلك-أي اعتبار القدرة-هي أنّ متعلقه حصة خاصة من الطبيعة وهي الحصة المقدورة.وأمّا الحصة غير المقدورة فخارجة عن متعلقه وإن كانت من حصة نفس الطبيعة،إلّاأنّها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ومتعلقة للتكليف.وعلى ذلك فالفرد المزاحم بما أ نّه غير مقدور شرعاً-وهو في حكم غير المقدور عقلاً-خارج عن حيّز الأمر ولا يكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها،فان انطباق الطبيعة المأمور بها عليه يتوقف على عدم تقييدها بالقدرة،وحيث إنّها كانت مقيدة بها-على الفرض-امتنع انطباقها على ذلك الفرد ليحصل به الامتثال.
أو فقل:إنّ الطبيعة إذا كانت مقيدة بالقدرة لا تنطبق على الفرد الفاقد لها،بداهة عدم إمكان انطباق الحصة المقدورة على أفراد الحصة غير المقدورة،فان كل طبيعة تنطبق على أفرادها،ولا تنطبق على أفراد غيرها.
وعلى هذا الضوء فلو بنينا على اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلاً، ليكون الاتيان بها بداعي ذلك الأمر،وعدم كفاية قصد الملاك،فلا مناص من الالتزام بفساد الفرد المزاحم على كلا القولين.أمّا على القول بالاقتضاء،فلأ نّه
متعلق للنهي.وأمّا على القول بعدم الاقتضاء،فلتقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة المانع من انطباقها عليه.
وقد تحصّل من مجموع ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) نقطتان:
الاُولى:عدم تمامية ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه.
الثانية:أ نّه لا بدّ من الالتزام بتفصيل آخر،وهو أنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف إن كان حكم العقل من باب قبح تكليف العاجز،فما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) صحيح،ولا مناص من الالتزام به،وإن كان اقتضاء نفس التكليف ذلك،وأنّ البعث بذاته يقتضي أن يكون متعلقه مقدوراً سواء أكان للعقل حكم في هذا الباب أم لم يكن،فلا يتم ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) إذ لا ثمرة عندئذ،فانّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق محكوم بالفساد مطلقاً حتّى على القول بعدم الاقتضاء كما عرفت.
هذا كلّه بناءً على القول باشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلاً،وعدم كفاية قصد الملاك.
وأمّا إذا بنينا على كفاية الاشتمال على الملاك في الصحة،فلا بدّ من الالتزام بصحة الفرد المزاحم على كلا القولين،لأنّه تامّ الملاك حتّى بناءً على القول بكونه منهياً عنه،وذلك لأنّ النهي المانع عن صحة العبادة والتقرب بها إنّما هو النهي النفسي،فانّه يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه موجبة لاضمحلال ما فيه من المصلحة الصالحة للتقرب بفعل يكون مشتملاً عليها،دون النهي الغيري، فانّه لا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه،ليكشف عن عدم تمامية ملاك الأمر.
أو فقل:إنّ النهي النفسي بما أنّه ينشأ من مفسدة في متعلقه فيكون مانعاً عن
التقرب به لا محالة،والنهي الغيري بما أ نّه لم ينشأ من مفسدة في متعلقه بل ينشأ من أمر آخر،فلا محالة لا يكون مانعاً عن التقرب،لأنّ متعلقه باقٍ على ما كان عليه من الملاك الصالح للتقرب به،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي 1أنّ قصد الملاك كافٍ في صحة العبادة،وأنّ صحتها لا تتوقف على قصد الأمر بخصوصه،لعدم دليل يدل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة،وهو إضافته إلى المولى بنحو من أنحاء الاضافة،وأمّا تطبيق ذلك على قصد الأمر أو غيره من الدواعي القربية فانّما هو بحكم العقل،ومن الواضح أ نّه لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين قصد الأمر وقصد الملاك،فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي صحة الفرد المزاحم مطلقاً حتّى على القول بالاقتضاء.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القولين كما لا يتم على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر كما عرفت، كذلك لا يتم على القول بكفاية قصد الملاك،فانّ الصغرى-وهي كون الفرد المزاحم تامّ الملاك-ثابتة،والكبرى-وهي كفاية قصد الملاك-محرزة،فالنتيجة من ضمّ الصغرى إلى الكبرى هي:صحة الفرد المزاحم حتّى بناءً على كونه منهياً عنه.
الاُولى: فساد ما اختاره المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القولين مطلقاً،أي سواء القول فيه باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر،وعدم كفاية قصد الملاك،أو القول بعدم اشتراط صحتها بذلك،وكفاية قصد الملاك كما مرّ.
الثانية: أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز،ضرورة أنّ الاستناد إلى أمر ذاتي سابق على الاستناد إلى أمر عرضي.
الثالثة: أنّ الفرد المزاحم هنا تامّ الملاك،وأنّ قصد الملاك كافٍ في صحة العبادة.
الرابعة: أنّ المانع من صحة العبادة والتقرب بها إنّما هو النهي النفسي لا النهي الغيري،لأنّ النهي الغيري لا ينشأ من مفسدة في متعلقه ليكون كاشفاً عن عدم تمامية ملاك الأمر.
أنّ ما أفاده (قدس سره) من التفصيل بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة شرطاً للتكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز،والقول بأنّ منشأ اعتباره اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار،فيسلّم ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) على الأوّل دون الثاني،لا يرجع إلى معنى محصّل،بناءً على ما اختاره (قدس سره) من استحالة الواجب المعلق،وتعلّق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه.
بيان ذلك:أنّ الأمر في الواجب الموسّع وإن تعلّق بالطبيعة وبصرف الوجود منها،إلّاأ نّه أيضاً مشروط بالقدرة عليها،ومن الواضح أنّ القدرة عليها لايمكن إلّا بأن يكون بعض وجوداتها وأفرادها-ولو كان واحداً منها-مقدوراً للمكلف،وأمّا لو كان جميع أفرادها ووجوداتها غير مقدورة له،ولو كان ذلك في زمان واحد،دون بقية الأزمنة،فلا يمكن تعلّق التكليف بنفس الطبيعة، وبصرف وجودها في ذلك الزمان الذي فرضنا أنّ الطبيعة غير مقدورة فيه بجميع أفرادها،إلّاعلى القول بصحة الواجب المعلق،وحيث إنّ الواجب
الموسّع في ظرف مزاحمته مع الواجب المضيق غير مقدور بجميع أفراده،فلا يعقل تعلّق الطلب به عندئذ،ليكون انطباقه على الفرد المزاحم في الخارج قهرياً وإجزاؤه عن المأمور به عقلياً،إلّابناءً على صحة تعلّق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه،ولا يفرق في ذلك بين أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف حكم العقل بقبح تكليف العاجز،وأن يكون منشؤه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار.
وبتعبير ثان:أ نّه بناءً على اشتراط صحة العبادة بوجود الأمر فعلاً، والاغماض عما سنتعرض له من صحة تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب، فانّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّما يتم بناءً على إمكان تعلّق الوجوب بأمر متأخر على نحو الواجب المعلّق،إذ على ذلك لا مانع من تعلّق الأمر بالعبادة الموسّعة في حال مزاحمتها بالواجب المضيّق،على نحو يكون الوجوب فعلياً والواجب أمراً استقبالياً،لاستحالة تعلّق الأمر بها على نحو يكون الواجب أيضاً حالياً،لأنّها في تلك الحال غير مقدورة للمكلف بجميع أفرادها.
وأمّا بناءً على وجهة نظره (قدس سره) من استحالة الواجب المعلّق،وعدم إمكان تعلّق الطلب بأمر استقبالي مقدور في ظرفه،فلا مناص من القول بفساد الفرد المزاحم مطلقاً،حتّى على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو الحكم العقلي المزبور،وذلك لعدم إمكان طلب صرف وجود الطبيعة المأمور بها،المزاحمة بالواجب المضيق عندئذ،ليكون انطباقه على ما أتى به المكلف في الخارج قهرياً، والإجزاء عقلياً.
فالنتيجة: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في صحة التكليف هو حكم العقل،والقول بأنّ منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار،فعلى الفرض الأوّل تظهر الثمرة في المسألة،
دون الفرض الثاني،غير تام على مسلكه (قدس سره).
وأمّا على مسلك من يرى صحة الواجب المعلّق فلا بأس به.نعم،إذاكان للواجب أفراد عرضية،وكان بعض أفراده مزاحماً بواجب مضيّق دون جميعها، لتمّ ما أفاده (قدس سره) إذ حينئذ يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها،بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل بقبح خطاب العاجز،كما إذا وقعت المزاحمة بين بعض الأفراد العرضية للصلاة مثلاً،وإنقاذ الغريق كما في مواضع التخيير بين القصر والاتمام،فانّه قد يفرض أنّ الصلاة تماماً مزاحمة مع الانقاذ،لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال دون الصلاة قصراً فيما إذا تمكن المكلف من الجمع بينها وبين الانقاذ.
ففي هذا الفرض وإن كان اللّازم على المكلف الاتيان بالصلاة قصراً،لئلّا يفوت منه الواجب المضيق،ولا يجوز له اختيار فرد آخر منها في مقام الامتثال – وهو الصلاة تماماً-لأنّ اختياره يوجب تفويت الواجب الأهم،ولكن إذا عصى الواجب الأهم واختار ذلك الفرد فلا مناص من الالتزام بصحته،لانطباق الطبيعة المأمور بها-وهي طبيعي الصلاة الجامع بين القصر والتمام-عليه، لفرض كون تلك الطبيعة مقدورة بالقدرة على فرد منها،فإذا كانت مقدورة فلا مانع من تعلّق الأمر بها بناءً على أنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل.إذن صحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة.
نعم،بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار،لم يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم،لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليه،إذ على هذا القول كما عرفت يكون المأمور به حصة خاصة من الطبيعة، وهي الحصة المقدورة،ومن الواضح أ نّها لا تنطبق على الفرد المزاحم.
وقد تلخّص: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل وإن تمّ على هذا الفرض،إلّاأنّ ذلك الفرض خارج عن مورد كلام المحقق الثاني (قدس سره) الذي كان محلاً للكلام في المقام،وهو ما إذا كان الواجب ذا أفراد طولية،وكان بعضها مزاحماً بواجب مضيق.
ثمّ لو تنزلنا عن ذلك،وسلّمنا أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من القائلين بالواجب المعلّق،ويرى جواز تعلّق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه،إلّا أ نّه مع ذلك لا يتم ما أفاده،بيان ذلك:أنّ المطلق المتعلق للطلب لا يخلو من أن يكون شمولياً وأن يكون بدلياً،والمطلق الشمولي وإن كان خارجاً عن محلّ الكلام في المقام-حيث إنّ محل الكلام في المطلق البدلي-إلّاأ نّا نتعرض له لشيء من التوضيح للمقام فنقول:
إنّ المطلق إذا كان شمولياً فلا محالة ينحلّ الحكم المتعلق به بانحلال أفراده، فيثبت لكل واحد منها حكم مستقل مغاير للحكم الثابت لفرد آخر،وهذا واضح.وعليه فإذا كان بعض أفراده مزاحماً بواجب مضيّق،فلا محالة يسقط حكمه من جهة المزاحمة،لكونه غير مقدور للمكلف شرعاً،وما كان كذلك يستحيل تعلّق الطلب به،ولا يفرق في ذلك بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل،والقول بأنّ منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك،فانّ الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً،إذن لا يمكن الحكم بصحة ذلك الفرد المزاحم مع قطع النظر عما سيجيء من صحة تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب.
وأمّا إذا كان بدلياً كما هو محلّ الكلام في المقام،فبناءً على ما هو الصحيح من أنّ الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد،فمتعلق الأمر هو صرف وجود الطبيعة الجامع بين الحدّين،أو فقل:الجامع بين الأفراد العرضية والطولية بلا دخل شيء من الخصوصيات والتشخصات الخارجية فيه.
ومن هنا قد ذكرنا غير مرّة أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها في متعلق الحكم واقعاً،لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه.ومن الواضح جداً أنّ وجوب شيء كذلك لا ينافي وجوب شيء آخر في عرضه، ضرورة أ نّه لا منافاة بين وجوب الصلاة مثلاً في مجموع وقتها-وهو ما بين الزوال والمغرب-وبين وجوب الإزالة أو إنقاذ الغريق أو نحو ذلك في ذلك الوقت،إذ المفروض أنّ المطلوب إنّما هو صرف وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة لا في جميعها،ومن المعلوم أ نّه يكفي في كونه مقدوراً للمكلف القدرة على فرد واحد منها،وإذا كان مقدوراً صحّ تعلّق الطلب به،سواء أكان هناك واجب آخر في تلك الأزمنة أم لم يكن،فان وجوب واجب آخر إنّما ينافي وجوب الصلاة إذا كان وجوبها في جميع تلك الأزمنة لا في مجموعها،والمفروض أ نّها ليست بواجبة في كل من تلك الأزمنة،لينافي وجوبها وجوب واجب آخر،بل هي واجبة في المجموع،وعليه فلا ينافيه وجوب شيء آخر في زمان خاص.
نعم،وجوب واجب آخر ينافي ترخيص انطباق صرف وجود الطبيعة على الفرد في ذلك الزمان،ولا يفرق في ذلك بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في فعلية التكليف هو حكم العقل،أو اقتضاء نفس التكليف ذلك،إذ على كلا القولين لو عصى المكلف الأمر بالواجب المضيّق وأتى بالفرد المزاحم به صحّ لانطباق المأمور به عليه.
والسر في ذلك:أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي أزيد من أن يكون متعلقه مقدوراً ولو بالقدرة على فرد منه لئلّا يكون البعث نحوه لغواً وممتنعاً،لأنّ الغرض منه جعل الداعي له ليحرّك عضلاته نحو الفعل بالارادة والاختيار، ومن الواضح أنّ جعل الداعي إلى إيجاد الطبيعة المقدورة ولو بالقدرة على فرد
منها بمكان من الوضوح.
وبتعبير آخر:أنّ الشارع لم يأخذ القدرة في متعلق أمره على الفرض،بل هو مطلق من هذه الجهة،غاية ما في الباب أنّ التكليف المتعلق به يقتضي أن يكون مقدوراً من جهة أنّ الغرض منه جعل الداعي إلى إيجاده،وجعل الداعي نحو الممتنع عقلاً أو شرعاً ممتنع.ومن الواضح أنّ ذلك لا يقتضي أزيد من إمكان حصول الداعي للمكلف،وهو يحصل من التكليف المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على فرد منها،لتمكنه من إيجادها في الخارج،ولا يكون ذلك التكليف لغواً وممتنعاً عندئذٍ،فإذا فرض أنّ الصلاة مثلاً مقدورة في مجموع وقتها وإن لم تكن مقدورة في جميعها،فلا يكون البعث نحوها وطلب صرف وجودها في مجموع هذا الوقت لغواً.
وعليه فلا مقتضي للالتزام بأنّ متعلقه حصة خاصة من الطبيعة وهي الحصة المقدورة،فانّ المقتضي له ليس إلّاتوهم أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه جعل الداعي،فجعل الداعي نحو الممتنع غير معقول،ولكنّه غفلة عن الفارق بين جعل الداعي نحو الممتنع،وجعل الداعي نحو الجامع بين الممتنع والممكن، والذي لايمكن جعل الداعي نحوه هو الأوّل دون الثاني،فانّ جعل الداعي نحوه من الوضوح بمكان.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان:أ نّه يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة،من دون فرق بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل،أو اقتضاء نفس التكليف ذلك.
ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً،وسلّمنا الفرق بين القولين،فمع هذا لا يتم ما أفاده بناءً على ما اختاره (قدس سره) من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة،فكلّما لم يكن المورد قابلاً للتقييد لم يكن قابلاً للاطلاق،
فإذا كان التقييد مستحيلاً في موردٍ كان الاطلاق أيضاً مستحيلاً فيه،لأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر.
وفيما نحن فيه بما أنّ تقييد الطبيعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم مستحيل، فاطلاقها بالاضافة إليه أيضاً مستحيل حتّى على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل،وبالنتيجة لا يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم لعدم إطلاق للمأمور به،ليكون الاتيان به بداعي أمره حتّى على القول بصحة الواجب المعلّق.
نعم،بناءً على ما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي 1من أنّ التقابل بينهما ليس من تقابل العدم والملكة،بل من تقابل التضاد،ولذلك قلنا إنّ استحالة تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضرورياً،يصحّ الاتيان به بداعي الأمر بالطبيعة بناءً على جواز تعلّق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه،كما هو المفروض،وقد ذكرنا هناك أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة،لا يمكن تصديقه بوجه.وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية هناك فلا نعيد في المقام.
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت:أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل بين اعتبار القدرة عقلاً واعتبارها باقتضاء نفس التكليف في المقام لا يرجع إلى معنىً صحيح.
فالصحيح هو ما ذهب إليه المحقق الثاني (قدس سره) من تحقق الثمرة بين القولين في المسألة،وهي صحة العبادة بناءً على القول بعدم الاقتضاء،وفسادها
بناءً على القول بالاقتضاء،مع قطع النظر عما سيجيء إن شاء اللّٰه تعالى من صحة تعلّق الأمر بالضدّين بناءً على القول بالترتب.
ولكنّ الذي يرد هنا هو أنّ مقامنا هذا-أي التزاحم بين الاتيان بواجب موسّع وواجب مضيّق-غير داخل في كبرى مسألة التزاحم بين الحكمين أصلاً،والوجه في ذلك:هو أنّ التنافي بين الحكمين إمّا أن يكون في مقام الجعل والانشاء فلا يمكن جعل كليهما معاً،وإمّا أن يكون في مقام الامتثال والفعلية، مع كمال الملاءمة بينهما بحسب مقام الجعل ولا ثالث لهما.
ومنشأ الأوّل:إمّا العلم الاجمالي بكذب أحدهما في الواقع مع عدم التنافي بينهما ذاتاً،أو ثبوت التنافي بينهما بالذات والحقيقة على وجه التناقض أو التضاد،ولذا قالوا:التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب مقام الاثبات والدلالة على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.
ومنشأ الثاني:عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية، فانّ صرف قدرته على امتثال أحدهما عجز عن الثاني،فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة،ولذا قالوا:التزاحم تنافي الحكمين بحسب مقام الفعلية والامتثال مع عدم المنافاة بينهما بحسب مقام الجعل والانشاء.
وأمّا إذا لم يكن بين حكمين تنافٍ لا بحسب مقام الجعل،ولا بحسب مقام الفعلية والامتثال،لم يكونا داخلين لا في باب التعارض ولا في باب التزاحم، لانتفاء ملاك كلا البابين فيهما،ومقامنا من هذا القبيل،ضرورة أ نّه لا تنافي بين واجب موسّع وواجب مضيّق أبداً،لا في مقام الجعل كما هو واضح،ولا في مقام الامتثال،لتمكن المكلف من امتثال كلا الواجبين معاً من دون أيّة منافاة ومزاحمة في البين،فيقدر على إتيان الصلاة والازالة معاً،أو الصلاة وإنقاذ الغريق من دون مزاحمة بينهما أصلاً.
و سر ذلك:أنّ ما هو مزاحم للواجب المضيق أو الأهم ليس بمأمور به،و ما هو مأمور به وهو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى ليس بمزاحم له،وهذا ظاهر.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من أ نّه لا تزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق لا ينافي ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من الثمرة بين القولين في المسألة،فان دخول المقام تحت كبرى التزاحم،وعدم دخوله تحت تلك الكبرى،أجنبيان عن ظهور تلك الثمرة تماماً كما لا يخفى.
فهي مبنية على ما هو المشهور من أنّ المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنّما هو الطلب والبعث نحو الفعل الارادي،والطلب والبعث التشريعيّان عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بارادته واختياره،وجعل الداعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده،ومن الضروري أنّ جعل الداعي إنّما يمكن في خصوص الفعل الاختياري.إذن نفس التكليف مقتضٍ لاعتبار القدرة في متعلقه بلا حاجة إلى حكم العقل في ذلك.
أقول: قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر،وكذا في بحث الإنشاء والإخبار:أنّ ما هو المشهور من أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ لا أساس له أصلاً،والوجه في ذلك:ما ذكرناه هناك وملخّصه:أنّ المراد بايجاد المعنى باللفظ ليس الايجاد التكويني بالضرورة،فانّ اللّفظ غير واقع في سلسلة علل الموجودات التكوينية، بداهة أ نّها توجد بأسبابها وعللها الخاصة،واللفظ ليس من جملتها،وكذا ليس المراد منه الايجاد الاعتباري،فانّ الاعتبار خفيف المؤونة فيوجد في نفس المعتبر بمجرد اعتباره،سواء أكان هناك لفظ تكلم به المعتبر أم لم يكن،فلا يتوقف وجوده الاعتباري على اللّفظ أبداً،إذن لا يرجع الانشاء بهذا المعنى إلى محصّل.
فالتحقيق: هو ما ذكرناه سابقاً من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى كون الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما،من صيغة الأمر أو ما شاكلها،ولا نتصور للتكليف معنى غير ذلك،كما أ نّا لا نتصور للإنشاء معنىً ما عدا إبراز ذلك الأمر الاعتباري.
وعلى الجملة:فإذا حلّلنا الأمر بالصلاة مثلاً أو غيرها،نرى أ نّه ليس في الواقع إلّااعتبار الشارع كون الصلاة على ذمة المكلف،وإبراز ذلك بمبرز في الخارج،ككلمة صلّ أو نحوها،ولا نتصور شيئاً آخر غير هذين الأمرين:
1-اعتبار الفعل على ذمة المكلف.2-إبراز ذلك بمبرز في الخارج نسميه بالطلب تارةً وبالبعث اخرى وبالوجوب ثالثة.
ومن هنا قلنا إنّ الصيغة لا تدل على الوجوب وإنّما هي تدل على إبراز الأمر الاعتباري القائم بالنفس،ولكنّ العقل ينتزع منه الوجوب ولزوم الامتثال بمقتضى قانون العبودية والمولوية،ما لم تنصب قرينة على الترخيص في الترك، فالوجوب إنّما هو بحكم العقل ومن لوازم إبراز شيء على ذمة المكلف إذا لم تكن قرينة على الترخيص،وأمّا الطلب فقد ذكرنا أ نّه عبارة عن التصدي لتحصيل شيء في الخارج،فلا يقال طالب الضالة إلّالمن تصدى لتحصيلها في الخارج.
وعلى ضوء ذلك:فصيغة الأمر أو ما شاكلها من أحد مصاديق هذا الطلب، لا أ نّه مدلول لها،فانّ الآمر يتصدى بها لتحصيل مطلوبه في الخارج،فهي من أظهر مصاديق الطلب.
وعلى هدى ذلك البيان قد ظهر:أ نّه لا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصة المقدورة،فان اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف وذمته لايقتضي ذلك بوجه، ضرورة أ نّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور على عهدته
أصلاً،وإبراز المولى ذلك الأمر الاعتباري النفساني بمبرز في الخارج أيضاً لا يقتضي ذلك،بداهة أ نّه ليس إلّامجرد إبراز وإظهار اعتبار كون المادة على ذمة المكلف،وهو أجنبي تماماً عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.
فالنتيجة:أ نّه لا مقتضي من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أبداً،وأمّا العقل فقد ذكرنا أ نّه لا يقتضي اعتبار القدرة إلّافي ظرف الامتثال، وعليه فإذا لم يكن المكلف قادراً حين جعل التكليف وصار قادراً في ظرف الامتثال صحّ التكليف ولم يكن قبيحاً عنده،فان ملاك حكم العقل-باعتبار القدرة في ظرف الامتثال وفي موضوع حكمه وهو لزوم إطاعة المولى وامتثال أمره ونهيه بمقتضى قانون العبودية والمولوية-إنّما هو قبح توجيه التكليف إلى العاجز عنه في مرحلة الامتثال،فالعبرة إنّما هي بالقدرة في تلك المرحلة،سواء أكان قبلها قادراً أم لم يكن،فوجود القدرة قبل تلك المرحلة وعدمه على نسبة واحدة بالقياس إلى حكم العقل،وهذا ظاهر.
ونتيجة مجموع ما ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ القدرة ليست شرطاً للتكليف ومأخوذة في متعلقه لا باقتضاء نفسه ولا بحكم العقل.
الثاني: أ نّها شرط لحكم العقل بلزوم الامتثال والاطاعة ومأخوذة في موضوع حكمه،إذن فلا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصة الاختيارية أصلاً.
قد يتوهم: أنّ تعلّق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره وإن لم يكن مستحيلاً،ولكنّه لغو محض،إذ المكلف لا ينبعث إلّانحو المقدور ولا يتمكن إلّا من إيجاده،إذن ما هي فائدة تعلقه بالجامع.
ويردّه: ما ذكرناه هناك من أنّ فائدته سقوط التكليف عن المكلف بتحقق
فرد منه في الخارج بغير اختياره وإرادته،لانطباق الجامع عليه وحصول الغرض القائم بمطلق وجوده به،ولا يفرق بينه وبين الفرد الصادر منه باختياره وإرادته في حصول الغرض وسقوط التكليف،لأنّ مناط ذلك انطباق الطبيعي المأمور به على الفرد الخارجي،وهو مشترك فيه بين الفرد الصادر منه بالاختيار والصادر منه بغيره.
وقد تبيّن لحدّ الآن أ نّه لا مانع من تعلّق التكليف بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها أصلاً.
أضف إلى ذلك:ما تقدّم آنفاً من أ نّا لو سلّمنا أنّ منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار،لم يكن مقتضٍ لاختصاص المتعلق بخصوص الحصة الاختيارية كما سبق ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا النقطة الثالثة: وهي أنّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق تامّ الملاك مطلقاً حتّى على القول بالاقتضاء،وأنّ قصد الملاك يكفي في وقوع الشيء عبادة، فهي تتوقف على إثبات هاتين المقدمتين:إحداهما:كبرى القياس،والاُخرى:
صغراه.
أمّا المقدمة الاُولى: وهي كبرى القياس،فلا إشكال فيها،وذلك لما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي 1من أنّ المعتبر في صحة العبادة هو قصد القربة بأيّ وجه تحقق،سواء أتحقق في ضمن قصد الأمر،أو قصد الملاك،أو غير ذلك من الدواعي القربية.ولا دليل على اعتبار قصد الأمر خاصة،بل قام الدليل على خلافه،كما فصلنا الحديث من هذه الناحية هناك.
وأمّا المقدمة الثانية: وهي صغرى القياس فقد استدلّ عليها بوجوه:
الأوّل: ما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من دعوى القطع بأنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك،ولا قصور فيه أصلاً،وقال في بيان ذلك ما ملخّصه:أنّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق أو الأهم وإن كان خارجاً عن الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها،إلّاأ نّه لما كان وافياً بغرضها-كالباقي من أفرادها-كان عقلاً مثله في الاتيان به بداعي الأمر بالطبيعة في مقام الامتثال، بلا تفاوت في نظر العقل بينه وبين بقية الأفراد من هذه الجهة أصلاً.نعم،إنّه يفترق عن البقية في أ نّه خارج عن الطبيعة المأمور بها بما هي كذلك،والبقية داخلة فيها.وهذا ليس لقصور فيه ليكون خروجه عنها من باب التخصيص وعدم الملاك،بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما يعمّه عقلاً.وعلى كل حال فالعقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين غيره من الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة أصلاً وأ نّه كالبقية تامّ الملاك،ولا قصور فيه أبداً.
وغير خفي: أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام الواقعية،وجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها،مع قطع النظر عن ثبوت تلك الأحكام.نعم،في لحظة ثبوتها نستكشف اشتمال متعلقاتها على الملاك بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين.وأمّا إذا سقطت تلك الأحكام فلايمكننا إحراز أنّ متعلقاتها باقية على ما كانت عليه من الاشتمال على الملاك،إذ كما نحتمل أن يكون سقوطها من جهة المانع مع ثبوت المقتضي لها،نحتمل أن يكون من جهة انتفاء المقتضي وعدم ثبوته،فلا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر.
وعلى الجملة: فالعلم بوجود مصلحة في فعل أو مفسدة تابع لتعلق الأمر أو النهي به،فمع قطع النظر عنه لا يمكن العلم بأنّ فيه مصلحة أو مفسدة.ومن هنا
قلنا:إنّ الملازمة بين إدراك العقل مصلحة ملزمة غير مزاحمة في فعل أو مفسدة كذلك،وحكم الشارع بوجوبه أو حرمته،وإن كانت تامة بحسب الكبرى بناءً على وجهة مذهب العدلية كما هو الصحيح،إلّاأنّ الصغرى لها غير متحققة في الخارج،لعدم وجود طريق للعقل إلى إدراك الملاكات الواقعية،فضلاً عن أ نّها غير مزاحمة،وعليه فإذا سقط الأمر أو النهي عنه فلا يمكن الجزم ببقاء الملاك فيه،وأنّ سقوط الأمر أو النهي من جهة وجود المانع لا لأجل انتفاء المقتضي، بل كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون سقوطه من جهة انتفاء المقتضي.
وسرّ ذلك هو أنّ العلم بالملاك معلول للعلم بوجود الأمر،فهو يتبعه في السعة والضيق،إذ لا يمكن أن تكون دائرة المعلول أوسع من دائرة علته.
وعلى ذلك الأساس فلا يمكن إحراز أنّ الفرد المزاحم مشتمل على الملاك، فانّ الطريق إلى إحرازه هو انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها عليه، فإذا لم تنطبق الطبيعة عليه كما هو المفروض لم يمكن إحراز وجود الملاك فيه ليكون عدم الانطباق مستنداً إلى عدم إمكان تعلّق الأمر بها على نحو تعمّه لا لقصور فيه،إذ من الواضح جدّاً أ نّه كما يحتمل أن يكون عدم الانطباق من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضي له،يحتمل أن يكون من جهة عدم المقتضي وانتفائه،لاحتمال اختصاص الملاك والمقتضي بالأفراد غير المزاحمة للواجب المضيّق أو الأهم،ولا دليل على ترجيح الاحتمال الأوّل على الثاني.
إذن لا دليل على أنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك ولا قصور من ناحيته أصلاً.
وإن شئت فقل: إنّ اشتمال الفرد المزاحم على الملاك ليس أمراً وجدانياً وبديهياً لئلّا يخفى على أحد ولا يكون قابلاً للشك والترديد.وعليه فدعوى القطع باشتماله على الملاك بدعوى حكم العقل بعدم الفرق بينه وبين غيره من الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها في غير محلها،ضرورة أنّ العقل
حاكم بالفرق وأنّ الفرد المزاحم ليس كغيره من الأفراد الباقية تحت الطبيعة المأمور بها.
وعلى الجملة:حكم العقل بأنّ فعلاً ما مشتمل على الملاك منوط بأحد أمرين لا ثالث لهما،الأوّل:ما إذا كان الشيء بنفسه متعلقاً للأمر،فان تعلّق الأمر به يكشف عن وجود ملاك فيه لا محالة.الثاني:ما إذا كان مصداقاً للمأمور به بما هو مأمور به،فانّه يكشف عن أ نّه وافٍ بغرض المأمور به وواجد لملاكه،وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا ملاك لحكمه أصلاً.والفرد المزاحم في المقام كذلك – على الفرض-فانّه ليس متعلقاً للأمر ولا مصداقاً للمأمور به بما هو مأمور به.
إذن فلا يحكم العقل بأنّ فيه ملاكاً وأ نّه وافٍ بغرض المأمور به كبقية الأفراد، بل هو حاكم بضرورة التفاوت بينهما في مقام الامتثال والاطاعة كما هو واضح.
الثاني: ما عن جماعة من المتأخرين منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ سقوط اللفظ عن الحجية بالاضافة إلى مدلوله المطابقي لا يستلزم سقوطه عنها بالاضافة إلى مدلوله الالتزامي،إذ الضرورة تتقدر بقدرها،وهي تقتضي سقوط الدلالة المطابقية فحسب.إذن فلا موجب لرفع اليد عن الدلالة الالتزامية.
وبعبارة واضحة:أنّ الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية في مقام الثبوت والاثبات،إلّاأ نّها ليست تابعة لها في الحجية،والوجه في ذلك:
هو أنّ ظهور اللّفظ في معناه المطابقي غير ظهوره في معناه الالتزامي،وكل واحد من الظهورين حجة في نفسه بمقتضى أدلة الحجية،ولا يجوز رفع اليد عن حجية كل واحد منهما بلا موجب ومقتضٍ،وعليه فإذا سقط ظهور اللفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه،فلا وجه لرفع اليد عن ظهوره في معناه الالتزامي،لعدم المانع منه أصلاً.
ونظير ذلك ما ذكرناه من أ نّه إذا ورد عام مجموعي كقولنا:أكرم عشرة من العلماء،ثمّ ورد دليل خاص كقولنا:لا تكرم أربعة منهم،فلا شبهة في تخصيص الدليل الأوّل بالثاني بالاضافة إلى هؤلاء الأربعة،ورفع اليد عن ظهوره بالاضافة إلى وجوب إكرام المجموع،ولكنّه مع ذلك لا ترفع اليد عن وجوب إكرام الباقي،مع أنّ الدلالة التضمنية كالدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في مقام الثبوت والاثبات.
والسر فيه:أنّ ظهور اللفظ في معناه المطابقي كما يغاير ظهوره في معناه الالتزامي،كذلك يغاير ظهوره في معناه التضمني،وكل واحد من هذه الظواهر قد ثبت اعتبارها بمقتضى أدلة الحجية،وعندئذ فإذا سقط ظهور اللّفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة وجود مانع يختص به،لا يلزم منه سقوط ظهوره عن الحجية بالاضافة إلى مدلوله الالتزامي أو التضمني،لعدم مانع بالقياس إليه،إذن كان رفع اليد عنه عند سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بلا موجب،وهو غير جائز.
وعلى الجملة: بعد ما فرضنا أنّ كلاً من تلك الظواهر حجة في نفسه،فرفع اليد عن كل واحد منها منوط بقيام حجة أقوى على خلافه،ولذلك كان الساقط في المثال المزبور خصوص الدلالة المطابقية من جهة قيام حجة أقوى على خلافها،دون الدلالة التضمنية.
وبعد ذلك نقول:بما أنّ الأمر في المقام قد تعلّق بفعل غير مقيد بحصة خاصة – وهي الحصة المقدورة-فهو كما يدل على وجوبه مطلقاً كذلك يدل على كونه ذا ملاك كذلك،بناءً على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين،غاية الأمر أنّ دلالته على وجوبه دلالة بالمطابقة،وعلى كونه ذا ملاك دلالة بالالتزام،وهذه الدلالة بناءً على مسلك العدلية لازمة لدلالة كل
دليل دلّ على وجوب شيء أو حرمته أو كراهة شيء أو استحبابه،وعليه فإذا تعلّق الأمر بفعل غير مقيد بالقدرة في مقام الاثبات كشف ذلك عن وجوبه بالدلالة المطابقية،وعن كونه ذا ملاك بالدلالة الالتزامية،فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لحكم العقل باعتبار القدرة في فعلية التكليف،لم تسقط الدلالة الالتزامية عن الحجية.
أو فقل:إنّ اللّازم وإن كان تابعاً للملزوم في مقام الثبوت والاثبات،إلّاأ نّه ليس تابعاً له في مقام الحجية،والوجه فيه:هو أنّ الإخبار عن الملزوم ينحل إلى إخبارين،أحدهما:إخبار عن الملزوم،والآخر:إخبار عن اللّازم،ودليل الاعتبار يدل على اعتبار كليهما معاً،وعندئذ إذا سقط الإخبار عن الملزوم عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه فلا وجه لرفع اليد عن الإخبار عن اللّازم،لعدم المانع له أصلاً.وفيما نحن فيه وإن كان كشف الأمر عن وجود ملاك في فعل تابعاً لكشفه عن وجوبه في مقام الاثبات والدلالة،إلّاأ نّه ليس تابعاً له في مقام الحجية،فان حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف،أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار إنّما يصلح للتقييد بالقياس إلى الدلالة المطابقية فيوجب رفع اليد عنها دون الدلالة الالتزامية،ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقها أصلاً،إذ المفروض أنّ كل واحد من الظهورين حجة في نفسه، فرفع اليد عن أحدهما لمانع لا يوجب رفع اليد عن الآخر،فانّ رفع اليد عنه بلا مقتضٍ وسبب.
ونتيجة ذلك عدة امور:
الأوّل:أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً لا بقاءً.
الثاني:أنّ الملاك قائم بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها،ولازم ذلك صحة الفرد المزاحم،فانّ الصغرى-وهي كونه تامّ الملاك-محرزة،والكبرى
– وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشيء عبادة-ثابتة،فالنتيجة من ضم إحداهما إلى الاُخرى هي ذلك.
الثالث:اختصاص الوجوب بخصوص الحصة المقدورة من جهة حكم العقل باعتبار القدرة في متعلقه،أو من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك.
الرابع:أنّ الملاك تابع للارادة الانشائية المتعلقة بفعل،دون الارادة الجدية، فانّها قد تخالف الاُولى كما في المقام،فانّ الارادة الانشائية تعلقت بالجامع، والارادة الجدية تعلقت بحصة خاصة منه،وهي الحصة المقدورة.
والجواب عن ذلك نقضاً وحلاً، أمّا نقضاً فبعدّة من الموارد:
الأوّل: ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب مثلاً،ثمّ علمنا من الخارج بكذب البينة،أو عدم ملاقاة الثوب للبول،ولكن احتملنا نجاسته من جهة اخرى،كملاقاته للدم مثلاً أو نحوه،فحينئذ هل يمكن الحكم بنجاسة الثوب من جهة البينة المذكورة،بدعوى أنّ الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول إخبار عن نجاسته بالدلالة الالتزامية،لأنّ نجاسته لازمة لملاقاته للبول،وبعد سقوط البينة عن الحجية بالاضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة مانع،لا موجب لسقوطها بالاضافة إلى الدلالة الالتزامية،لعدم المانع عنها أصلاً،ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتّى من يدعي بأنّ سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها،وهذا واضح جداً.
الثاني: ما إذا كانت الدار مثلاً تحت يد زيد،وادعاها عمرو وبكر،وأخبرت بينة على أ نّها لعمرو،واُخرى على أ نّها لبكر فتساقطت البينتان من جهة المعارضة بالاضافة إلى مدلولهما المطابقي،فلم يمكن الأخذ بهما ولا باحداهما، فهل يمكن عندئذ الأخذ بالبينتين في مدلولهما الالتزامي،وهو عدم كون الدار لزيد،بدعوى أنّ التعارض بينهما إنّما كان في مدلولهما المطابقي لا في مدلولهما
الالتزامي،وبعد سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي لم يكن موجب لرفع اليد عنهما في مدلولهما الالتزامي،وهو أنّ الدار ليست لزيد،فلا بدّ أن يعامل معها معاملة مجهول المالك،ولا نظن أن يلتزم به متفقه فضلاً عن الفقيه.
الثالث: ما إذا شهد واحد على أنّ الدار في المثال المزبور لعمرو،وشهد آخر على أ نّها لبكر،والمفروض أنّ شهادة كل واحد منهما ليست بحجة في مدلولها المطابقي،مع قطع النظر عن معارضة إحداهما مع الاُخرى،لتوقف حجية شهادة الواحد على ضمّ اليمين،ففي مثل هذا الفرض هل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي،وهو عدم كون هذه الدار لزيد،لكونهما متوافقين فيه،فلا حاجة إلى ضمّ اليمين في الحكم بأنّ الدار ليست لزيد،كلّا.
الرابع: ما إذا قامت البينة على أنّ الدار التي في يد عمرو لزيد،ولكنّ زيداً قد أقرّ بأ نّها ليست له،فلا محالة تسقط البينة من جهة الاقرار،فانّه مقدّم عليها،وبعد سقوط البينة عن الحجية بالاضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة قيام الاقرار على خلافها،فهل يمكن الأخذ بها بالاضافة إلى الدلالة الالتزامية، والحكم بعدم كون الدار لعمرو،كلّا.
وقد تلخص من ذلك: أ نّه لا يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية في شيء من تلك الموارد وما شاكلها بعد سقوط الدلالة المطابقية فيها.
وأمّا حلاً: فلأنّ الدلالة الالتزامية ترتكز على ركيزتين من ضم إحداهما إلى الاُخرى يتشكل القياس على نحو الشكل الأوّل:الاُولى:ثبوت الملزوم.
الثانية:ثبوت الملازمة بينه وبين شيء.ومن ضمّ الصغرى إلى الكبرى تحصل النتيجة،وهي ثبوت اللّازم.وأمّا إذا لم تثبت الصغرى أو الكبرى أو كلتاهما، فلا يمكن إثبات اللّازم،وفي المقام بما أنّ المدلول الالتزامي لازم للمدلول المطابقي، فثبوته يتوقف على ثبوت الملازمة وثبوت المدلول المطابقي،فإذا لم يثبت
المدلول المطابقي أو ثبت ولكن لم تثبت الملازمة،فلا يثبت المدلول الالتزامي لا محالة،ولا يفرق في ذلك بين حدوثه وبقائه أصلاً.
وبعبارة اخرى:أنّ ظهور الكلام في مدلوله الالتزامي وإن كان مغايراً لظهوره في مدلوله المطابقي،إلّاأنّ ظهوره في ثبوت المدلول الالتزامي ليس على نحو الاطلاق،بل هو ظاهر في ثبوت حصة خاصة منه،وهي الحصة الملازمة للمدلول المطابقي،مثلاً الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول وإن كان إخباراً عن نجاسته أيضاً،إلّاأ نّه ليس إخباراً عن نجاسته على الاطلاق بأيّ سبب كان، بل إخبار عن حصة خاصة من النجاسة،وهي الحصة الملازمة لملاقاة البول، بمعنى أ نّه إخبار عن نجاسته المسببة عن ملاقاته للبول في مقابل نجاسته المسببة لملاقاته للدم أو نحوه،فإذا قيل إنّ هذا الثوب نجس،يراد به أ نّه نجس بالنجاسة البولية،وعندئذ إذا ظهر كذب البينة في إخبارها بملاقاة الثوب للبول،فلا محالة يعلم بكذبها في إخبارها بنجاسة الثوب المسببة عن ملاقاته للبول.وأمّا نجاسته بسبب آخر وإن كانت محتملة،إلّاأ نّها نجاسة اخرى أجنبية عن مفاد البينة تماماً.وعليه فكيف يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية.
ومن ذلك يظهر: حال بقية الأمثلة وسائر الموارد،ومنها ما نحن فيه،فان ما دلّ على وجوب فعل غير مقيد بالقدرة وإن كان دالّاً على كونه ذا ملاك ملزم كذلك،إلّاأنّ دلالته على كونه ذا ملاك ليست على نحو الاطلاق،حتّى مع قطع النظر عن دلالته على وجوبه،بل هي بتبع دلالته على وجوب ذلك، فيكون دالّاً على حصة خاصة من الملاك،وهي الحصة الملازمة لذلك الوجوب في مقام الاثبات والكشف،ولا يدل على قيام الملاك فيه على الاطلاق،وعليه فإذا سقطت دلالته على الوجوب من جهة مانع فلا تبقى دلالته على الملاك المسببة عن دلالته على الوجوب،إذن لا علم لنا بوجود الملاك فيه،فانّ العلم
بالملاك كان بتبع العلم بالوجوب،وإذا سقط الوجوب فقد سقط العلم بالوجوب لا محالة،فانّه مسبب عنه،ولا يعقل بقاء المسبب بلا سبب وعلة.ولا يفرق في ذلك بين سقوط الوجوب رأساً وبين سقوط إطلاقه.
وسرّه:ما عرفت من أنّ الإخبار عن وجوب شيء إخبار عن وجود حصة خاصة من الملاك فيه،وهي الحصة الملازمة لوجوبه،لا عن مطلق وجوده فيه.ولا يمكن أن يكون الإخبار عنه بصورة أوسع من الإخبار عن الوجوب، فانّه خلاف المفروض،إذ المفروض أ نّه لازم له في مقام الاثبات،فيدور العلم به سعة وضيقاً مدار سعة العلم بالوجوب وضيقه،وعلى ذلك فإذا قيّد الوجوب بحصة خاصة من الفعل وهي الحصة المقدورة مثلاً،فلا يكشف عن الملاك إلّا في خصوص تلك الحصة،دون الأعم منها ومن غيرها،هذا واضح جداً.
لعلّ القائل بأنّ سقوط الدلالة المطابقية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية تخيل أنّ ثبوت المدلول الالتزامي بعد ثبوت المدلول المطابقي يكون على نحو السعة والاطلاق،ولازم ذلك هو أ نّه لا يسقط بسقوط المدلول المطابقي،إلّاأنّ ذلك غفلة منه،فانّ المفروض أنّ من أخبر بثبوت المدلول المطابقي فقد أخبر بثبوت حصة خاصة منه وهي الحصة الملازمة له،لا بثبوته على الاطلاق.
هذا مضافاً إلى أنّ هذا الكلام،أي عدم سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط الدلالة المطابقية في المقام،مبتنٍ على أن يكون إحراز الملاك في فعل تابعاً للارادة الانشائية المتعلقة به،دون الارادة الجدية،وفساد هذا بمكان من الوضوح، ضرورة أنّ ثبوت الملاك على مذهب العدلية إنّما هو في متعلق الارادة الجدية، فسعة الملاك في مقام الاثبات تدور مدار سعة الارادة الجدية ولا أثر للارادة الاستعمالية في ذلك أصلاً.
وعلى الجملة:فالوجوب إنّما يكشف عن الملاك كشف المعلول عن علته
بمقدار ما تعلّق به واقعاً،والمفروض أنّ ما تعلّق به الوجوب هنا هو خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها.
كما أ نّه لا وجه لقياس الدلالة الالتزامية بالدلالة التضمنية،لما ذكرناه في بحث العام والخاص من أنّ الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية،ولذا قلنا بعدم الفرق في جواز التمسك بالعام بين كونه استغراقياً أو مجموعياً،فلو قال المولى:أكرم هذه العشرة،وكان الوجوب وجوباً واحداً،ثمّ علمنا من الخارج بخروج واحد من هذه العشرة،وشككنا في خروج غيره فنرجع إلى العموم ونحكم بعدم الخروج.
والوجه في ذلك:أنّ الدلالة على وجوب إكرام هذا المجموع تنحل في الواقع إلى دلالات ضمنية باعتبار كل جزء منه،فإذا سقط بعض تلك الدلالات الضمنية فلا موجب لسقوط البقية.أو فقل:إنّ الحكم في العموم المجموعي وإن كان واحداً،إلّاأنّ ذلك الحكم الواحد إنّما انقطع بالاضافة إلى جزء واحد، وخروج سائر الأجزاء يحتاج إلى دليل،وهذا بخلاف الدلالة الالتزامية فانّ المدلول الالتزامي بما أ نّه لازم للمدلول المطابقي فلا يعقل بقاؤه بعد سقوطه كما عرفت.
وأمّا بناء العقلاء وإن جرى في باب الظهورات على أنّ التعبد بالملزوم يقتضي التعبد باللّازم،ولو مع عدم التفات المتكلم إلى الملازمة بينهما،وعدم قصده الحكاية عنه،إلّاأ نّه من الواضح أنّ هذا البناء-أي البناء على ثبوت اللّازم – إنّما هو في ظرف ثبوت الملزوم،وأمّا إذا سقط الملزوم من جهة مانع فلا بناء للعقلاء على ثبوت اللّازم،بداهة أنّ بناءهم على التعبد بثبوته متفرع على التعبد بثبوت الملزوم،لا على نحو الاطلاق والسعة.
وإن شئت فقل:إنّه لا ريب في عدم سقوط بعض الدلالات الضمنية عن
الحجية بسقوط بعضها الآخر عنها،مثلاً إذا أخبرت بينة على أنّ زيداً مديون من عمرو عشرة دراهم،ولكن عمراً قد اعترف بأ نّه ليس مديوناً بالعشرة، بل هو مديون بخمسة،فلا إشكال في حجية البينة بالاضافة إلى الخمسة.أو قامت بينة على نجاسة الإناءين،ولكن علمنا من الخارج بطهارة أحدهما من جهة إصابة المطر أو نحوه،فأيضاً لا إشكال في حجيتها بالاضافة إلى نجاسة الاناء الآخر.
وسر ذلك هو أ نّه لا ملازمة ولا تبعية بين المداليل الضمنية بعضها بالاضافة إلى بعضها الآخر،ضرورة أنّ أحدها ليس معلولاً للآخر ولا علة له ولا هما معلولان لعلة ثالثة في الواقع.وعلى هذا الضوء لا محالة لا تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ أدلة الحجية ليست قاصرة عن إثبات حجية البينة أو ما شاكلها بالاضافة إلى الباقي.فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هو أنّ سقوط بعض الدلالات الضمنية عن الحجية لا يوجب سقوط بعضها الآخر، لعدم الملازمة والتبعية بينها كما مرّ.نعم،الملازمة بينها في مقام الابراز،فانّ الجميع كما عرفت يبرز بمبرز واحد.
وهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين الدلالة التضمنية والدلالة الالتزامية.
أو فقل:إنّ الدلالة الالتزامية في نقطة مقابلة للدلالة التضمنية من ناحية مقام الثبوت والحجية.أمّا من ناحية مقام الثبوت،فلأنّ المدلول الالتزامي لا يخلو في الواقع من أن يكون لازماً للمدلول المطابقي أو ملازماً له أو ملزوماً له، ولأجل ذلك تستلزم إرادة أحدهما إرادة الآخر تبعاً.وأمّا من ناحية الحجية، فلما سبق من أنّ أدلة الحجية إنّما تدل على حجية الدلالة الالتزامية تبعاً لدلالتها على حجية الدلالة المطابقية.
الثالث: ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك حتّى على القول بكونه منهياً عنه،والوجه في ذلك:هو أنّ النهي المانع عن التقرب بالعبادة هو الذي ينشأ من مفسدة في متعلقه وهو النهي النفسي.
وأمّا النهي الغيري فبما أ نّه لا ينشأ من مفسدة في متعلقه لا يكشف عن عدم وجود الملاك في متعلقه،فبضم هذا إلى كبرى كفاية قصد الملاك في صحة العبادة كما تقدمت تستنتج صحة الفرد المزاحم.
ثمّ أورد (قدس سره) على نفسه بأنّ الحكم بصحة الفرد المزاحم من جهة الملاك لا يجتمع مع القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو اقتضاء نفس التكليف ذلك كما هو الصحيح،إذ على هذا يكون اعتبار القدرة فيه شرعياً ودخيلاً في ملاك الحكم فيرتفع الملاك بارتفاع القدرة لا محالة.
نعم،تمّ ذلك بناءً على أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز،إذ حينئذ يمكن أن يقال إنّ اطلاق متعلقه شرعاً كاشف عن كونه ذا ملاك مطلقاً حتّى في حال عدم القدرة عليه.
توضيح ذلك: أنّ القدرة مرّة تؤخذ في متعلق التكليف لفظاً واُخرى تؤخذ باقتضاء نفس التكليف ذلك،فعلى الأوّل لا فرق بين أن تكون دلالة اللفظ على اعتبار القدرة فيه بالمطابقة كما في آية الحج فانّها تدل على اعتبار القدرة فيه مطابقة،أو بالالتزام كما في آية الوضوء فانّها تدل على تقييد وجوب الوضوء بالتمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً التزاماً من جهة أخذ عدم وجدان الماء في موضوع وجوب التيمم مطابقة،والتفصيل قاطع للشركة لا محالة،فانّه على كلا التقديرين كان تقييد الواجب بالقدرة مستفاداً من الدليل اللفظي،ونتيجة
ذلك:أنّ القدرة دخيلة في ملاك الحكم واقعاً،ضرورة أ نّه لا معنى لأخذ قيد في متعلق الحكم في مقام الاثبات إذا لم يكن له دخل فيه في مقام الثبوت.
وعلى ذلك يبتني أ نّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك،أو بالالتزام بالترتب في موارد الأمر بالتيمم،لعدم الملاك للوضوء أو الغسل في تلك الموارد ليمكن الحكم بصحته من جهة الملاك أو من جهة الالتزام بالترتب،وثبوت الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم،فإذا كان هذا هو الحال فيما إذا كانت القدرة مأخوذة في لسان الدليل بإحدى الدلالتين،كان الأمر كذلك فيما إذا كان اعتبار القدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك،إذ من الواضح جداً أ نّه حينئذ يتعين المأمور به في الحصة المقدورة بمقتضى دلالة نفس الدليل،فالقدرة تكون دخيلة في ملاك الحكم فينتفي بانتفائها.
ثمّ قال (قدس سره):ولو سلّمنا فيما نحن فيه عدم القطع بالتقييد شرعاً الكاشف عن دخل القدرة في الملاك،إلّاأ نّا نحتمل ذلك بالبداهة،ولا دافع لذلك الاحتمال من جهة أ نّها لو كانت دخيلة فيه واقعاً لجاز للمتكلم أن يكتفي في بيانه بنفس إيقاع الطلب على ما كان فيه الملاك،فيكون المقام داخلاً في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،ومعه لا ينعقد له ظهور في سعة الملاك.
ثمّ قال (قدس سره):ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا عدم صلاحيته لكونه قرينة على التقييد،إلّاأنّ إطلاق المتعلق إنّما يكشف عن عدم دخل قيد في الملاك إذا لزم نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الاثبات مع دخل القيد فيه في مقام الثبوت،وأمّا إذا لم يلزم منه نقض الغرض فلا يكون الاطلاق في مقام الاثبات كاشفاً عن عدم دخل القيد فيه ثبوتاً،وعليه فبما أنّ ما يحتمل دخله في الملاك هو القدرة،ولا يتمكن المكلف من إيجاد غير المقدور في الخارج ليترتب عليه نقض الغرض على تقدير دخل القدرة في الملاك واقعاً،لا يمكن التمسك
بالاطلاق لدفع الاحتمال المزبور.ومن الواضح أنّ ذلك الاحتمال مانع عن الحكم بصحة الفرد المزاحم والتقرب به.
وأجاب (قدس سره) عن ذلك بما ملخّصه:أنّ القدرة إذا كانت مأخوذة في متعلق التكليف لفظاً-كما في آيتي الحج والوضوء-فالأمر كما ذكر ولا مناص عنه.وأمّا إذا لم تكن مأخوذة فيه لفظاً وكان متعلق التكليف غير مقيد بالقدرة في مرتبة سابقة على تعلّق التكليف به،بل كان اعتبار القدرة فيه في مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه عليه،سواء أكان منشؤه حكم العقل بقبح تكليف العاجز،أو كان اقتضاء نفس التكليف ذلك،فلا مانع من التمسك باطلاق المتعلق لاثبات كونه واجداً للملاك،فانّ التقييد الناشئ من قبل حكم العقل أو من قبل اقتضاء نفس التكليف بما أ نّه في مرتبة متأخرة وهي مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه،فلا يعقل أن يكون تقييداً في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض التكليف عليه التي هي عبارة اخرى عن مرتبة وجدانه للملاك، لاستحالة أخذ ما هو متأخر رتبة فيما هو متقدم كذلك.
ومن هنا قلنا إنّ كل ما يتأتى من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلقه،وعليه فحيث إنّ المتعلق في مرتبة سابقة على تعلّق الطلب به مطلق،فاطلاقه في تلك المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك،وأ نّه قائم بمطلق وجوده وإلّا لكان على المولى تقييده بها في تلك المرتبة،فمن الاطلاق في مقام الاثبات يكشف الاطلاق في مقام الثبوت.
ومن ذلك يظهر أنّ اقتضاء التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه يستحيل أن يكون بياناً ومقيداً لاطلاقه في مرتبة سابقة عليه،إذن فلا يدخل المقام تحت كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة ليدعى الاجمال.
وأمّا الاشكال الأخير:وهو انّ التمسك بالاطلاق لا يمكن لدفع احتمال دخل
القدرة في الملاك،لعدم لزوم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها فيه واقعاً فيردّه:
أوّلاً: أنّ هذا لو تمّ فانّما يتم إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينية في الملاك،فان صدور غير المقدور حيث إنّه مستحيل فلا يلزم نقض الغرض من عدم البيان،وأمّا إذا كان الشك في اعتبار القدرة ولو كانت شرعية في متعلق الحكم كما هو المفروض،فيلزم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها في الملاك واقعاً،فانّ المكلف قادر تكويناً على أن يأتي بفرد الواجب الموسع عند مزاحمته للواجب المضيق،فمن عدم التقييد في مقام الاثبات يستكشف عدمه في مقام الثبوت،إذن لا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات أنّ الفرد المزاحم واجد للملاك.
وثانياً: أنّ نقض الغرض ليس من إحدى مقدمات التمسك بالاطلاق،فان من مقدماته أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ماله دخل في مراده،ومع هذا الفرض إذا لم ينصب قرينة على التقييد في مقام الاثبات يستكشف منه الاطلاق في مقام الثبوت لا محالة،وإلّا لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان،ولا يفرق في ذلك بين أن يلزم من عدم البيان نقض الغرض أم لا،فلا يكون نقض الغرض من إحدى مقدمات الحكمة.
ونلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة خطوط:
الأوّل: أنّ متعلق التكليف إذا كان مقيداً بالقدرة لفظاً فالتقييد يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعاً،ضرورة أ نّه لا معنى لأخذ قيد في متعلق التكليف إثباتاً إذا لم يكن دخيلاً في ملاكه ثبوتاً.
الثاني: أ نّه على هذا لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب في موارد الأمر بالتيمم،لعدم الملاك له في تلك الموارد.
الثالث: أنّ التقييد الناشئ من قبل حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو باقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار،حيث إنّه كان في مرتبة متأخرة عن وجدان المتعلق للملاك،فلا يوجب تقييد المتعلق في مرتبة وجدانه الملاك،إذن من عدم تقييد المتعلق في تلك المرتبة إثباتاً يستكشف منه إطلاقه ثبوتاً،وعدم دخل القدرة في الملاك واقعاً.
الرابع: أنّ المتكلم لا يمكن أن يعتمد في تقييد متعلق حكمه بالقدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك،أو حكم العقل باعتبارها فيه،فلا يكون المقام داخلاً في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على الخلاف.
الخامس: أنّ لزوم نقض الغرض من عدم البيان ليس من إحدى المقدمات التي يتوقف التمسك بالاطلاق عليها.
ولنأخذ بدرس هذه الخطوط:
أمّا الخط الأوّل: فهو في غاية الصحة والمتانة.
وأمّا الخط الثاني: فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره) بالاضافة إلى الملاك،إذ أ نّه ينتفي بانتفاء القدرة على الفرض فلا يمكن تصحيح العبادة عندئذ بوجدانها الملاك،إلّاأنّ الأمر ليس كما أفاده بالاضافة إلى الترتب،إذ لا مانع من الالتزام به في أمثال المقام،وسنتعرض فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى أ نّه لا فرق في صحة الترتب بين كون القدرة مأخوذة في متعلق التكليف شرعاً وكونها معتبرة فيه عقلاً،إذ كما يجري الترتب على الثاني كذلك يجري على الأوّل،فلو كانت وظيفة المكلف التيمم في موردٍ كما في موارد ضيق الوقت أو نحوه،ولكن خالف أمر التيمم وعصاه فتوضأ أو اغتسل،فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب،وسيأتي الكلام في ذلك بصورة مفصّلة.
وأمّا الخط الثالث: فان كان غرضه (قدس سره) من إطلاق المتعلق استكشاف مراد المتكلم من ظاهر كلامه،فلا شبهة في أ نّه يتوقف على أن يكون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة.ومن الواضح أنّ المتكلم ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه،بل هو في مقام بيان ما تعلّق به حكمه فحسب،بل الغالب في الموالي العرفية غفلتهم عن ذلك فضلاً عن كونهم في مقام البيان بالقياس إلى تلك الجهة،إذن لا يمكن التمسك بالاطلاق لاثبات كون الفرد المزاحم تامّ الملاك،لعدم تمامية مقدمات الحكمة.
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ المولى في مقام البيان من هذه الجهة-أي ما يقوم به ملاك حكمه-فأيضاً لا يمكن التمسك باطلاق كلامه،وذلك لأنّ في الكلام إذا كان ما يصلح لكونه قرينة فلا ينعقد له ظهور،وفي المقام بما أنّ حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار صالح للقرينيّة فلا ينعقد للكلام ظهور في الاطلاق،لاحتمال أنّ المتكلم قد اعتمد في التقييد بذلك.
وعلى الجملة: فيحتمل أن يكون الملاك في الواقع قائماً بخصوص الحصة المقدورة لا بالجامع بينها وبين غيرها،وعدم تقييد المتكلم متعلق حكمه بها في مقام الاثبات،لاحتمال أ نّه قد اعتمد في بيان ذلك على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو على الحكم العقلي المزبور.
وما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ اقتضاء الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه أو حكم العقل بذلك،يستحيل أن يكون بياناً ومقيداً لاطلاق متعلقه في مرتبة سابقة عليه،إذن لا معنى لدعوى الاجمال وأنّ المقام داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على التقييد.
لا يمكن تصديقه بوجه،والوجه في ذلك:هو أنّ انقسام الفعل إلى مقدور
وغيره انقسام أوّلي فلا يتوقف على وجود الأمر وتحققه في الخارج،وعلى هذا فلا يخلو الأمر من أن يكون متعلق التكليف خصوص الحصة المقدورة أو الجامع بينها وبين غير المقدورة،إذ الاهمال غير معقول في الواقع،وعليه فإذا فرضنا أنّ الثابت على ذمة المكلف خصوص الحصة المقدورة،فابراز ذلك في الخارج كما يمكن أن يكون بأخذ القدرة في متعلق التكليف لفظاً أو بقيام قرينة من الخارج على ذلك،يمكن أن يكون إبرازه باقتضاء نفس التكليف ذلك أو الحكم العقلي المزبور،بداهة أ نّا لا نرى أيّ مانع من إبرازه بأحدهما،ولا يلزم منه المحذور الذي توهم في المقام،فانّه لا شأن لاقتضاء نفس التكليف أو حكم العقل عندئذ إلّامجرد إبراز واظهار ما اعتبره المولى على ذمة المكلف،ومن الواضح جداً أ نّه لا محذور في أن يكون الابراز بمبرز متأخر عن المبرز-بالفتح – بل إنّ الأمر كذلك دائماً.
وبتعبير آخر: أ نّه بناءً على وجهة نظره (قدس سره) من أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار،لا مانع من أن يعتمد المتكلم في مقام بيان تقييد المأمور به بالقدرة على ذلك،بأن يجعل هذا بياناً لما اعتبره في ذمة المكلف وهو الحصة المقدورة وكاشفاً عنه،فإذا كان اقتضاء نفس التكليف أو حكم العقل صالحاً لأن يكون قرينة على التقييد يدخل المقام حينئذ في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة،فلا ينعقد له ظهور في الاطلاق.
على أنّ الكاشف عن الملاك في فعل،إنّما هو تعلّق إرادة المولى به واقعاً وجدّاً والمفروض في المقام أنّ الارادة الجدية متعلقة بالمقيد لا بالمطلق،إذن كيف يمكن القول باشتمال المطلق على الملاك كما تقدّم.
وأمّا بناءً على وجهة نظرنا من أنّ القدرة لم تعتبر في متعلق التكليف لا من
جهة حكم العقل ولا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك،فانّك قد عرفت أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي ذلك أصلاً،وأمّا العقل فهو لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة في موضوع حكمه وهو لزوم الامتثال ووجوبه،لا في موضوع حكم الشرع ومتعلقه،فلا مقتضي لاعتبار القدرة في متعلق الطلب أصلاً.
وعلى هذا الضوء فالصحيح هو الجواب الأوّل من أنّ المتكلم غالباً بل دائماً ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه حتّى يمكن التمسك بالاطلاق فيما إذا شكّ في فرد أ نّه واجد للملاك أم لا،ومع قطع النظر عن ذلك وفرض أنّ المتكلم في مقام البيان حتّى من هذه الجهة،فلا مانع من التمسك بالاطلاق،إذ قد عرفت أ نّه لا حكم للعقل ولا اقتضاء للتكليف لاعتبار القدرة في متعلقه ليكونا صالحين للبيان ومانعين عن ظهور اللفظ في الاطلاق.
وعلى كلّ حال فما أفاده (قدس سره) لا يرجع إلى معنى محصّل على وجهة مذهبه.
وأمّا إذا كان غرضه (قدس سره) من التمسك بالاطلاق كشف الملاك من باب كشف المعلول عن علته،سواء أكان المولى في مقام البيان من هذه الجهة أم لا،كما هو صريح كلامه (قدس سره) حيث قال:إنّ هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام البيان وعدمه 1،فيردّه:ما ذكرناه عند الجواب عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ تعلّق الحكم بشيء وإن كان كاشفاً عن وجود الملاك فيه،بناءً على مذهب العدلية من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد الواقعيتين،إلّاأنّ ذلك في ظرف تحققه ووجوده، وأمّا إذا سقط ذلك الحكم فلا يمكن استكشاف الملاك فيه على تفصيل تقدّم هناك فلا حاجة إلى الاعادة.
ونزيدك هنا إلى ذلك:أنّ متعلق الحكم على مسلكه (قدس سره) خصوص الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها،وعليه فلا يعقل أن يكون الحكم كاشفاً عن وجود الملاك في الأعم منها،بداهة أنّ المعلول إنّما يكشف عن وجود علته بمقدار سعته دون الزائد،مثلاً الحرارة الناشئة من النار إنّما تكشف عنها خاصة،لا عن مطلق سببها،وقد تقدّم أنّ الكاشف عن وجود ملاك في فعل هو كونه متعلقاً لارادة المولى واقعاً وجدّاً،ولا اثر لتعلق الارادة الانشائية به أصلاً.إذن ما أفاده (قدس سره) من أنّ هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام البيان،لا يرجع إلى معنىً صحيح،فان كشف الحكم عن الملاك بمقدار ما تعلّق به دون الزائد،وهذا واضح.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه:أ نّه لا يتم شيء من هذه الوجوه،وعليه فلا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بالملاك.
وأمّا الخط الرابع: فقد ظهر فساده ممّا ذكرناه،فانّه على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) صالح لأن يكون قرينة على التقييد،وعليه فيكون مانعاً عن التمسك بالاطلاق كما عرفت.نعم،على مسلكنا لا يكون مانعاً عنه،فلو كان المولى في مقام البيان من تلك الناحية فلا مانع من التمسك باطلاق كلامه لاثبات أنّ الفرد المشكوك فيه واجد للملاك.
وأمّا الخط الخامس: فالأمر كما أفاده (قدس سره) فان لزوم نقض الغرض لا دخل له في مقدمات الحكمة،فانّها تتألف من ثلاث مقدمات لا رابع لها.
إحداها:أن يرد الحكم على المقسم والجامع،لا على حصة خاصة منه.
وثانيتها:أن يكون المتكلم في مقام البيان.وثالثتها:أن لا ينصب المتكلم قرينة على التقييد.فإذا تمّت هذه المقدمات جاز التمسك بالاطلاق،ولا يتوقف على شيء آخر زائداً عليها،فانّه لو كان مراد المتكلم في الواقع هو المقيد ومع ذلك
لم ينصب قرينة عليه مع فرض كونه في مقام البيان،لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان،إذن لزوم نقض الغرض من عدم البيان أو عدم لزومه ممّا لا دخل له في التمسك بالاطلاق وعدم التمسك به أصلاً.هذا تمام الكلام في النقطة الثالثة.
وأمّا النقطة الرابعة: وهي أنّ النهي الغيري لايكون مانعاً عن صحة العبادة، فهي في غاية الصحة والمتانة،والوجه في ذلك:هو أنّ المانع عن التقرب بالعبادة وصحتها إنّما هو النهي النفسي،باعتبار أ نّه ينشأ عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه،ومن الواضح أنّ المبغوض لا يكون مقرّباً،وأمّا النهي الغيري فبما أ نّه ينشأ عن أمر خارج عن ذات متعلقه،وهو كون تركه في المقام مقدمة لواجب مضيق أو ملازماً له في الخارج،فلا يكون مانعاً عن صحة العبادة والتقرب بها،لأنّ متعلقه باقٍ على ما كان عليه من المحبوبية ولم تعرض عليه أيّة حزازة ومنقصة من قبل النهي المتعلق به.
فعلى ضوء ذلك لا مانع من صحة الاتيان بالفرد المزاحم والتقرب به بداعي الأمر المتعلق بالواجب الموسّع،فانّ الواجب هو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى وهو غير مزاحم بواجب آخر،وما هو مزاحم به غير واجب.
إذن يصحّ الاتيان به بداعي أمره كما هو الحال على القول بعدم الاقتضاء.
ونتيجة ذلك:هي عدم ظهور الثمرة بين القولين في هذا المقام،أي فيما إذا كان التزاحم بين الاتيان بالواجب الموسّع ووجوب الواجب المضيّق.
ثمّ إنّا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ النهي الغيري كالنهي النفسي مانع عن صحة العبادة والتقرب بها،فمع هذا يمكن تصحيحها بما سيجيء من إمكان الأمر بالضدّين على نحو الترتب.
ونتائج الأبحاث المتقدمة لحدّ الآن عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ ما ذكره شيخنا البهائي (قدس سره) من اشتراط صحة العبادة
بتحقق الأمر بها فعلاً،لا يمكن المساعدة عليه بوجه كما عرفت.
الثانية: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل في منشأ اعتبار القدرة بين حكم العقل بذلك من باب قبح تكليف العاجز،وبين اقتضاء نفس التكليف ذلك،فقد عرفت أ نّه لا يمكن تصديقه بوجه.
الثالثة: أ نّه بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك،فقد عرفت أ نّه لا يقتضي أزيد من كون متعلقه مقدوراً في الجملة في مقابل ما لا يكون مقدوراً أصلاً.
الرابعة: قد سبق أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه،ولا العقل يحكم بذلك،وإنّما يحكم باعتبار القدرة في مقام الامتثال فحسب.
الخامسة: بطلان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من دعوى القطع باشتمال الفرد المزاحم على الملاك.
السادسة: بطلان ما هو المشهور من أنّ الدلالة الالتزامية لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية،فلا تسقط بسقوطها.
السابعة: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التقييد الناشئ من قبل اقتضاء نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه،أو حكم العقل بذلك، بما أ نّه يكون في مرتبة لاحقة وهي مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه عليه،فلا يعقل أن يكون مقيداً لاطلاق المتعلق في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضائه للتكليف،فاسد صغرىً وكبرىً.أمّا الصغرى:فلأنّ التقييد غير ثابت،لما سبق من أنّ التكليف لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه،والعقل لا يحكم إلّا باعتبارها في مقام الامتثال والاطاعة دون مقام التكليف.وأمّا الكبرى:فقد تقدّم أ نّه لا مانع من اعتماد المتكلم في تقييد المتعلق على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو حكم العقل به.
الثامنة: أنّ الحاكم لا يكون في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه،وإنّما يكون في مقام بيان ما تعلّق به حكمه.
التاسعة: أنّ تعلّق الارادة الانشائية بشيء لا يكشف عن وجود الملاك فيه، وإنّما الكاشف عنه تعلّق الارادة الجدية به.
العاشرة: أنّ الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية كما سبق.
الحادية عشرة: أنّ النهي الغيري لا يكون مانعاً عن صحة العبادة والتقرب بها.
الثانية عشرة: أنّ الثمرة لا تتحقق بين القولين في مزاحمة الواجب الموسع بالواجب المضيق.هذا تمام كلامنا في المقام الأوّل.
وأمّا الكلام في المقام الثاني:وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيّقين أحدهما أهم من الآخر،فلا يمكن تصحيح الواجب المهم بالأمر،لاستحالة تعلّق الأمر به فعلاً مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض،فانّه من التكليف بالمحال وهو محال.
وبذلك يمتاز هذا المقام عن المقام الأوّل،حيث إنّ في المقام الأوّل كان الأمر المتعلق بالواجب الموسّع والمضيّق كلاهما فعلياً،ولم يكن تنافٍ بين الأمرين أصلاً،وإنّما التنافي كان بين الاتيان بفردٍ من الواجب الموسع والواجب المضيق، ومن هنا قلنا إنّه يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة الجامعة بين الأفراد العرضية والطولية حتّى على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر المتعلق بها فعلاً.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ النقطة الرئيسية للفرق بين المقامين هي ما ذكرناه من أنّ تعلّق الأمر فعلاً بكلا الواجبين في المقام الأوّل كان ممكناً،ولكنّه لا يمكن في هذا المقام.
وعلى ضوء تلك النقطة لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بالأمر الفعلي.
ومن هنا لايتأتى في هذا المقام ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القولين،فانّه مبتنٍ على إمكان تعلّق الأمر فعلاً بالضدّ العبادي على القول بعدم الاقتضاء،وقد عرفت عدم إمكان تعلقه في هذا المقام مطلقاً.
وعلى الجملة:فالمقام الثاني يمتاز عن المقام الأوّل في نقطة،ويشترك معها في نقطة اخرى.أمّا نقطة الامتياز فقد عرفت.وأمّا نقطة الاشتراك فهي أ نّهما يشتركان في تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بوجهين آخرين:هما القول باشتمالها على الملاك،والقول بصحة الأمر بالضدّين على نحو الترتب.
أمّا الوجه الأوّل فقد تقدّم الكلام فيه في المقام الأوّل مفصّلاً،وقلنا إنّه لا يمكن إحراز أنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك،وما ذكروه من الوجوه لاثبات اشتماله على الملاك قد عرفت فساد جميعها بصورة مفصّلة فلا حاجة إلى الاعادة مرّة اخرى.
وأمّا الوجه الثاني الذي يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالواجب الأهم به وهو الالتزام بجواز الأمر بالضدّين على نحو الترتب،فتفصيله على الوجه التالي:
قبل بيان المسألة نذكر اموراً:
الأوّل: أنّ البحث عن هذه المسألة إنّما تترتب عليه ثمرة لو لم يمكن تصحيح العبادة المضادة للواجب الأهم بالوجهين المتقدمين:1-الملاك.2-الأمر،وإلّا فلا تترتب على البحث عنها أيّة ثمرة.وقد ظهر ممّا تقدّم أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك،لا في المقام الأوّل،وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين الاتيان بالواجب الموسع ووجوب المضيق،ولا في المقام الثاني،وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين،لأنّ الكبرى وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشيء عبادةً وإن كانت ثابتة،إلّاأنّ الصغرى وهي اشتمال تلك العبادة على الملاك غير محرزة.
وأمّا تصحيحها بالأمر المتعلق بالطبيعة وإن كان ممكناً في المقام الأوّل كما سبق،بل قد عرفت أ نّه غير داخل في كبرى باب التزاحم أصلاً،إلّاأ نّه غير ممكن في المقام الثاني،وذلك لما عرفت من امتناع تعلّق الأمر بها فعلاً مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض،إذن للبحث عن مسألة الترتب في المقام الثاني وإمكان تعلّق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم ثمرة مهمة جداً.
الثاني: أنّ الواجبين المتزاحمين يتصوران على صور:
الاُولى:أنّ الواجبين الممتنع اجتماعهما في زمان واحد قد يكونان موسعين كالصلاة اليومية وصلاة الآيات في سعة وقتهما،أو الصلاة الأدائية مع القضاء على القول بالمواسعة،ونحو ذلك.
الثانية:أن يكون أحدهما موسعاً والآخر مضيقاً،وذلك كصلاة الظهر مثلاً وإزالة النجاسة عن المسجد،أو ما شاكل ذلك.
الثالثة:أن يكون كلاهما مضيقين،وذلك كالازالة والصلاة في آخر وقتها، بحيث لو اشتغل بالازالة لفاتته الصلاة.
أمّا الصورة الاُولى: فلا شبهة في أ نّها غير داخلة في كبرى باب التزاحم، لتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون أيّة منافاة ومزاحمة، ويكون الأمر في كل واحد منهما فعلياً بلا تنافٍ،ومن هنا لم يقع إشكال في ذلك من أحد فيما نعلم.
وأمّا الصورة الثانية: فقد ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1إلى أ نّها داخلة في مسألة التزاحم.
وغير خفي أنّ هذا منه (قدس سره) مبني على ما حققه في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة،فكل مورد لا يكون قابلاً للتقييد لا يكون قابلاً للاطلاق،فإذا كان التقييد مستحيلاً في موردٍ كان الاطلاق أيضاً مستحيلاً فيه،لأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر،وبما أنّ فيما نحن فيه تقييد إطلاق الواجب الموسّع بخصوص الفرد المزاحم مستحيل،فاطلاقه بالاضافة إليه أيضاً مستحيل.
ويترتب على ذلك وقوع المزاحمة بين إطلاق الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضيّق،فلا يمكن الجمع بينهما،إذ على تقدير فعلية خطاب الواجب المضيّق يستحيل إطلاق الواجب الموسّع بالاضافة إلى الفرد المزاحم،إذن لا بدّ إمّا أن ترفع اليد عن إطلاق الموسّع والتحفظ على فعلية خطاب المضيّق،وإمّا
أن ترفع اليد عن خطاب المضيّق والتحفظ على إطلاق الموسّع.
فالنتيجة: أنّ هذا القسم داخل في محلّ النزاع كالقسم الثالث،غاية الأمر أنّ التزاحم في القسم الثالث بين نفس الخطابين والتكليفين،وفي هذا القسم بين إطلاق أحدهما وخطاب الآخر.وعلى هذا فان أثبتنا الأمر بالضدّين على نحو الترتب،نحكم بصحة الفرد المزاحم،وإلّا فلا.نعم،بناءً على ما ذكره (قدس سره) 1من اشتماله على الملاك صحّ الاتيان به من هذه الناحية أيضاً،من غير حاجة إلى الالتزام بصحة الترتب.
وأمّا بناءً على ما حققناه في ذلك البحث 2-من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة،بل هو من تقابل التضاد،ومن هنا قلنا إنّ استحالة تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضرورياً-فتلك الصورة خارجة عن محلّ النزاع وغير داخلة في كبرى باب التزاحم.
والوجه في ذلك:ما ذكرناه غير مرّة من أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها في متعلق الحكم واقعاً،لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه،وعليه فمعنى إطلاق الواجب الموسّع هو أنّ الواجب صرف وجوده الجامع بين المبدأ والمنتهى،وعدم دخل شيء من خصوصيات وتشخصات أفراده فيه،فالفرد غير المزاحم كالفرد المزاحم في عدم دخله في متعلق الوجوب وملاكه أصلاً،فهما من هذه الجهة على نسبة واحدة.
أو فقل:إنّ متعلق الحكم في الواقع إمّا مطلق بمعنى عدم دخل شيء من
الخصوصيات فيه واقعاً من الخصوصيات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة،أو مقيّد بإحداها،فلا ثالث،لاستحالة الاهمال في الواقعيات،فالملتفت إلى هذه الخصوصيات والانقسامات إمّا أن يلاحظه مطلقاً بالاضافة إليها أو مقيّداً بها، لأنّ الاهمال في الواقع غير معقول،فلا يعقل أن يكون في الواقع لا مطلقاً ولا مقيداً.وعلى هذا فمعنى إطلاق الواجب المزبور هو عدم دخل شيء من تلك الخصوصيات فيه،بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج عارياً عن جميع الخصوصيات والمشخصات المزبورة لكان مجزئاً،لأنّه أتى بالمأمور به في الخارج،وهذا معنى الاطلاق كما ذكرناه في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع.ونتيجة ذلك هي أنّ الواجب الموسّع مطلق بالاضافة إلى الفرد المزاحم،كما هو مطلق بالاضافة إلى غيره من الأفراد.
وعلى ذلك الأساس،فلا تنافي بين إطلاق الموسّع وفعلية خطاب المضيق.
ومن هنا ذكرنا سابقاً أ نّه لا منافاة بين وجوب الصلاة مثلاً في مجموع وقتها – وهو ما بين الزوال والمغرب-وبين وجوب واجب آخر كانقاذ الغريق أو إزالة النجاسة عن المسجد في بعض ذلك الوقت،إذ المفروض أنّ الوجوب تعلّق بصرف وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة،لا في كل زمان من تلك الأزمنة لينافي وجوب واجب آخر في بعضها.فبالنتيجة:أ نّه لا مضادة ولا ممانعة بين إطلاق الموسّع ووجوب المضيّق أصلاً،ولذلك صحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بصرف وجود الواجب،فلا حاجة عندئذ إلى القول بالترتب أصلاً،فإذن لا وجه لدخول هذا القسم في محلّ الكلام والنزاع.وقد تقدّم الحديث من هذه الناحية بصورة أوضح من ذلك فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين:أحدهما أهم من الآخر،فهي القدر المتيقن من مورد النزاع والكلام بين الأصحاب كما
هو ظاهر.
الثالث: أنّ مسألة الترتب من المسائل العقلية،فانّ البحث فيها عن الامكان والاستحالة بمعنى أنّ الأمر بالضدّين على نحو الترتب هل هو ممكن أم لا،ومن الواضح جداً أنّ الحاكم بالاستحالة والامكان هو العقل لا غيره،ولا دخل للفظ في ذلك أبداً.
فلا يحتاج وقوعه إلى دليل آخر،والوجه في ذلك:هو أنّ تعلّق الأمر بالمتزاحمين فعلاً على وجه الاطلاق غير معقول،لأنّه تكليف بما لا يطاق وهو محال،ضرورة استحالة الأمر بازالة النجاسة عن المسجد والصلاة معاً في آخر الوقت،بحيث لا يقدر المكلف إلّاعلى إتيان إحداهما.ولكن هذا المحذور،أي لزوم التكليف بالمحال كما يندفع برفع اليد عن أصل الأمر بالواجب المهم،سواء أتى بالأهم أم لا،كذلك يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر به،إذن يدور الأمر بين أن ترفع اليد عن أصل الأمر بالمهم على تقدير امتثال الأمر بالأهم،وعلى تقدير عصيانه،وأن ترفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله،يعني على تقدير الامتثال لا على تقدير العصيان،ومن الواضح جدّاً أنّ المحذور في كل مورد إذا كان قابلاً للدفع برفع اليد عن إطلاق الأمر فلا موجب لرفع اليد عن أصله،فانّه بلا مقتض وهو غير جائز.وفي المقام بما أنّ المحذور المزبور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم،فلا مقتضي لرفع اليد عن أصله أصلاً،إذ الضرورة تتقدر بقدرها وهي لا تقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاقه.وعليه فالالتزام بسقوط الأمر عنه رأساً بلا مقتضٍ وسبب وهو غير ممكن.
وبتعبير ثان:أنّ المكلف لا يخلو من أن يكون عاصياً للأمر بالأهم أو مطيعاً له ولا ثالث،وسقوط الأمر بالمهم على الفرض الثاني وهو فرض إطاعة الأمر
بالأهم واضح،وإلّا لزم المحذور المتقدم.وأمّا سقوطه على الفرض الأوّل وهو فرض عصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه فهو بلا سبب يقتضيه،فان محذور لزوم التكليف بما لا يطاق يندفع بالالتزام بالسقوط على فرض الاطاعة والامتثال،فلا وجه للالتزام بسقوطه على الاطلاق.
وعلى الجملة:أنّ وقوع الترتب بعد الالتزام بامكانه لا يحتاج إلى دليل،فإذا بنينا على إمكانه فهو كافٍ في وقوعه،فمحط البحث في المسألة إنّما هو عن جهة إمكان الترتب واستحالته.
الخامس: ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ الترتب لا يجري فيما إذا كان أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة عقلاً،والتكليف الآخر مشروطاً بالقدرة شرعاً،وقال في وجه ذلك:أنّ التكليف المتعلق بالمهم المترتب على عصيان التكليف بالأهم يتوقف على كون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاك.والطريق إلى إحراز اشتماله على الملاك والكاشف عنه إنّما هو إطلاق المتعلق،فإذا فرضنا أنّ المتعلق مقيد بالقدرة شرعاً،سواء أكان التقييد مستفاداً من قرينة متصلة أو منفصلة أو كان مأخوذاً في لسان الدليل لفظاً،لم يبق للتكليف بالمهم محل ومجال أصلاً.ورتّب (قدس سره) على ذلك أ نّه لا يمكن تصحيح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم لا بالملاك ولا بالترتب،وذلك لأنّ الأمر بالوضوء في الآية المباركة مقيد بالقدرة من استعمال الماء شرعاً،وهذا التقييد قد استفيد من تقييد وجوب التيمم فيها بعدم وجدان الماء،فانّ التفصيل في الآية المباركة وتقييد وجوب التيمم بعدم الوجدان يقطع الشركة ويدل على أنّ وجوب الوضوء أو الغسل مقيّد بوجدان الماء.
ثمّ إنّ المراد من الوجدان من جهة القرينة الداخلية والخارجية التمكن من
استعمال الماء عقلاً وشرعاً.
أمّا القرينة الداخلية:فهي ذكر المريض في الآية المباركة،ومن المعلوم أنّ المرض ليس من الأسباب التي تقتضي عدم وجود الماء وفقدانه وليس حاله كحال السفر،فانّ السفر ولا سيّما إذا كان في البوادي ولا سيّما في الأزمنة السابقة من أسباب عدم الماء غالباً،وهذا بخلاف المرض فانّ الغالب أنّ الماء يوجد عند المريض ولكنّه لا يتمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً.
وأمّا القرينة الخارجية:فهي عدّة من الروايات الدالة على جواز التيمم في موارد الخوف من استعمال الماء أو من تحصيله 1.والمفروض في تلك الموارد وجود الماء خارجاً وتمكن المكلف من استعماله عقلاً.إذن المراد من وجدان الماء وجوده الخاص وهو الذي يقدر المكلف على صرفه في الوضوء أو الغسل عقلاً وشرعاً.
فالنتيجة على ضوء ذلك:هي أنّ تقييد وجوب التيمم بعدم التمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً يقتضي التزاماً تقييد وجوب الوضوء أو الغسل بالتمكن من استعماله كذلك،ولأجل ذلك التزم (قدس سره) بأ نّه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء في مواضع الأمر بالتيمم،كما إذا كان عند المكلف ماء ولكنّه لا يكفي للوضوء ولرفع عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معاً،ففي مثل ذلك يجب عليه التيمم وصرف الماء في رفع عطش نفسه،أو من هو مشرف على الهلاك.أو إذا دار أمره بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في تطهير الثوب أو البدن،بأن لا يكون عنده ثوب طاهر،فيدور الأمر بين أن يصلي في الثوب أو البدن الطاهر مع الطهارة الترابية،وأن يصلي في
الثوب أو البدن المتنجس مع الطهارة المائية وغير ذلك.ففي هذه الفروع وما شاكلها لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب.
أمّا بالملاك فواضح،ضرورة أ نّه لا ملاك لوجوب الوضوء أو الغسل في شيء من هذه الموارد،لفرض أنّ القدرة مأخوذة في متعلقه شرعاً ودخيلة في ملاكه واقعاً ومع انتفاء القدرة ينتفي الملاك لا محالة.
وأمّا بالترتب،فلأنّ الوضوء إذا لم يكن فيه ملاك عند مزاحمته مع الواجب المشروط بالقدرة عقلاً،فعصيان ذلك الواجب لا يحدث فيه مصلحة وملاكاً، وعلى هذا فيمتنع تعلّق الأمر به،لاستحالة تعلّق الأمر بشيء بلا ملاكٍ ولو كان على نحو الترتب،بداهة أ نّه لا فرق في استحالة تعلّق الأمر بشيء بلا ملاك بين أن يكون ابتداءً وأن يكون على نحو الترتب.
ثمّ قال (قدس سره):ومن هنا أنّ شيخنا العلّامة الأنصاري والسيِّد العلّامة الميرزا الكبير الشيرازي (قدس سرهما) لم يفتيا بصحة الوضوء في تلك الموارد مع أنّ الأوّل منهما يرى كفاية الملاك في صحة العبادة،والثاني يرى صحة الترتب.
نعم،قد افتى السيد العلّامة الطباطبائي (قدس سره) في العروة بصحة هذا الوضوء في مفروض الكلام،ولكن هذا غفلة منه (قدس سره) عن حقيقة الحال.
أقول: للنظر فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع،والوجه في ذلك:هو أ نّه لا بدّ من التفصيل بين المثالين المذكورين،فما كان من قبيل المثال الأوّل فلا مانع من الالتزام بالترتب فيه،وما كان من قبيل المثال الثاني فلا.وذلك لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بل من ناحية اخرى ستظهر لك إن شاء اللّٰه.
أمّا المثال الأوّل وما شاكله:فلأنّ المانع منه ليس إلّاتوهم أ نّه لا ملاك للوضوء أو الغسل في هذه الموارد،وعليه فلا يمكن تعلّق الأمر به ولو على نحو الترتب،لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك.ولكنّه يندفع بأنّ القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم، إذ لا يمكن إحرازه فيه إلّابتعلق الأمر به،فلو توقف تعلّق الأمر به على إحرازه لدار.ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً، وأن يكون مشروطاً بها شرعاً،وذلك لما تقدّم من أ نّه لا يمكن إحراز الملاك إلّا من ناحية الأمر،فلو تمّ هذا التوهم لكان مقتضاه عدم جريان الترتب مطلقاً حتّى في الواجب المشروط بالقدرة عقلاً.
إذن الصحيح: هو عدم الفرق في صحة الترتب وإمكانه بين أن يكون الواجب مشروطاً بالقدرة عقلاً أو مشروطاً بها شرعاً،والوجه في ذلك:هو أنّ مبدأ إمكان الترتب نقطة واحدة،وهي أنّ تعلّق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم لا يقتضي طلب الجمع بين الضدّين ليكون محالاً،بل يقتضي الجمع بين الطلبين في زمان واحد،ولا مانع منه أصلاً إذا كان المطلوب في أحدهما مطلقاً وفي الآخر مقيداً بعدم الاتيان به ومترتباً عليه على نحو لو تمكن المكلف من الجمع بينهما في الخارج وايجادهما معاً فيه لم يقعا على صفة المطلوبية،ولذا لو أتى بهما بقصد الأمر والمطلوبية لكان ذلك تشريعاً ومحرّماً، وسيجيء الكلام من هذه الجهة إن شاء اللّٰه تعالى بصورة مفصّلة.
وعلى ضوء ذلك:لا يفرق بين ما إذا كانت القدرة مأخوذة في المهم عقلاً وما إذا كانت مأخوذة فيه شرعاً،فان ملاك صحة الترتب-وهو عدم التنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم إذا كانا طوليين-مشترك فيه بين التقديرين،فإذا لم يكن الأمر بالأهم مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً ولا شرعاً إذا كان في طوله،
فلا مانع من الالتزام بتعلق الأمر به على نحو الترتب،ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية.
وعليه يترتب أنّ المكلف إذا لم يصرف الماء في واجب أهم وعصى أمره،فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء أو الغسل لتحقق موضوعه في الخارج،وهو كونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً.أمّا عقلاً فهو واضح.وأمّا شرعاً فلأنّ الأمر بالأهم على تقدير عصيانه لا يكون مانعاً.
أو فقل:إنّ مقتضى إطلاق الآية المباركة أو نحوها أنّ الوضوء أو الغسل واجب،سواء أكان هناك واجب آخر أم لا،غاية الأمر أ نّه إذا كان هناك واجب آخر يزاحمه يسقط إطلاق وجوبه لا أصله،إذ أنّ منشأ التزاحم هو إطلاقه،فالساقط هو دون أصل وجوبه الذي هو مشروط بعدم الاتيان بالأهم ومترتب عليه،لعدم التنافي بينه وبين وجوب الأهم كما عرفت،وعليه فلا موجب لسقوطه أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة مأخوذة في الواجب المهم شرعاً تبتني على الالتزام بأمرين:
الأوّل: دعوى أنّ الترتب يتوقف على أن يكون المهم واجداً للملاك مطلقاً،حتّى في حال المزاحمة،أعني بها حال وجود الأمر بالأهم،ومن المعلوم أنّ هذا إنّما يحرز فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في المهم عقلية،وأمّا إذا كانت شرعية فبانتفاء القدرة-كما في موارد الأمر بالأهم-ينتفي ملاك الأمر بالمهم لا محالة،ومعه لا يجري الترتب.
الثاني: دعوى أنّ الأمر بالأهم مانع عن الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً حتّى في حال عصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه.
ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين:
أمّا الدعوى الاُولى:فلما سبق من أنّ الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في المهم،فإنّك قد عرفت أ نّه لا يمكن إحرازه فيه مع سقوط الأمر حتّى فيما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية فضلاً عمّا إذا كانت شرعية،فبالنتيجة أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين ما كانت القدرة معتبرة فيه عقلاً وما كانت معتبرة شرعاً،فلو كان الترتب متوقفاً على إحراز الملاك في المهم لم يمكن الالتزام به على كلا التقديرين.
وأمّا الدعوى الثانية:فقد عرفت أ نّه لا تنافي بين الأمرين أصلاً،إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعدم الاتيان بالأهم وعصيان أمره،بل بينهما كمال الملاءمة،فلو كان بين الأمرين تنافٍ في هذا الفرض،أعني فرض الترتب،فلا يمكن الالتزام به مطلقاً حتّى فيما إذا كان اعتبار القدرة فيه عقلياً.
فقد تبين من مجموع ما ذكرناه:أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه،هذا تمام كلامنا في المثال الأوّل وما شاكله.
وأمّا المثال الثاني وما يشبهه:وهو ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في الوضوء أو الغسل وصرفه في تطهير الثوب أو البدن،كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجساً ولم يكن عنده من الماء بمقدار يكفي لكلا الأمرين من رفع الحدث والخبث معاً،فلا يجري فيه الترتب،ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التزاحم لا يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلاً،وبما أنّ وجوب الوضوء في المقام مشروط بالقدرة شرعاً ووجوب إزالة الخبث عن البدن أو الثوب مشروط بها عقلاً، فلا تزاحم بينهما،لعدم ملاك للوضوء في أمثال هذه الموارد،وذلك لما تقدّم من أنّ ما أفاده (قدس سره) غير تام،بل من جهة أنّ هذا وغيره من الأمثلة غير داخل في كبرى التزاحم،ولا يجري عليه شيء من أحكامه،وسنتعرض له فيما
بعد إن شاء اللّٰه تعالى بشكل واضح.
وملخّصه:أنّ التزاحم إنّما يجري بين واجبين نفسيين كالصلاة والازالة مثلاً أو ما شاكلهما،وأمّا بين أجزاء واجب واحد فلا يعقل فيه التزاحم،لأنّ الجميع واجب بوجوب واحد،وذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك الأجزاء لا محالة،فإذا تعذر أحد جزأيه يسقط الوجوب عن الكل بمقتضى القاعدة الأوّلية.إذن ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل،وقد دلّ الدليل في باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الاتيان بالباقي،وعندئذ يعلم إجمالاً بجعل أحد هذين الجزأين أو الشرطين في الواقع.إذن يقع التعارض بين دليلي الجزأين أو الشرطين،إذ لم يعلم أنّ أ يّهما مجعول في الواقع،فلا مجال لتوهم جريان أحكام التزاحم حينئذ أصلاً.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما نسب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إلى السيد العلّامة الطباطبائي (قدس سره) في العروة من أ نّه قد حكم بصحة الوضوء في هذا الفرع،لا واقع له،فانّ السيد قد حكم ببطلان الوضوء في هذا الفرع حيث قال:والأولى أن يرفع الخبث أوّلاً ثمّ يتيمم ليتحقق كونه فاقداً للماء حال التيمم وإذا توضأ أو اغتسل والحال هذا بطل لأنّه مأمور بالتيمم،ولا أمر بالوضوء أو الغسل 1.
وقد تلخّص:أ نّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل من ناحية الأمر الضمني في المثال،لعدم جريان قاعدة الترتب بالاضافة إليه.ولا من ناحية الملاك لعدم إمكان احرازه.
نعم،يمكن تصحيحه بوجه آخر:وهو أنّ الوضوء أو الغسل بما أ نّه عبادة في
نفسه ومتعلق لأمر نفسي استحبابي،سواء أكان مقدمة لواجب كالصلاة أو نحوها أم لم يكن،ولذلك قلنا إنّه يعتبر في صحته قصد القربة،وعلى ذلك فلا مانع من الالتزام بتعلق أمره الاستحبابي النفسي به من جهة الترتب،وسيجيء فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى أ نّه لا فرق في جريان الترتب على القول بامكانه بين الأمر الوجوبي والأمر الاستحبابي،فكما أنّ الترتب يجري في مزاحمة واجب مع واجب أهم،فكذلك يجري في مزاحمة مستحب مع واجب،غاية الأمر أنّ إطلاق الأمر الاستحبابي قد سقط حين المزاحمة،ولكن لا مانع من الالتزام بثبوت أصله على تقدير عدم الاتيان بالواجب ومخالفة أمره،إذ لا تنافي بين الأمرين حينئذ،فرفع اليد عن أصل الأمر الاستحبابي بلا موجب.
ونتيجة ذلك: هي أنّ ملاك صحة الترتب وإمكانه-وهو عدم التنافي بين الأمرين وأنّ الساقط هو إطلاق الخطاب دون أصله-مشترك فيه بين الأمر الوجوبي والاستحبابي،ومن هنا ذكرنا في حاشية العروة أنّ الأقوى صحة الوضوء أو الغسل في هذا الفرع وما يشبهه.
وبعد بيان ذلك نقول:إنّ مسألة الترتب ليست من المسائل المعنونة في كلمات الأصحاب إلى زمان الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) وهو أوّل من تعرّض لهذه المسألة 1،ولكنّ المسألة في زماننا هذا قد أصبحت معركة للآراء بين المحققين من الأصحاب،فمنهم من ذهب إلى صحة تلك المسألة وإمكانها، كالسيد الكبير العلّامة الميرزا الشيرازي (قدس سره) 2وأكثر تلامذته.ومنهم من ذهب إلى استحالتها كشيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 3والمحقق
صاحب الكفاية (قدس سرهما) 1فالمتحصّل من ذلك هو أنّ المسألة ذات قولين:
أحدهما:امكان الترتب وتعلّق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم.
وثانيهما:استحالة ذلك وعدم إمكان تعلّق الأمر به على هذا التقدير.
والصحيح هو القول الأوّل.
إنّ كل من رجع إلى وجدانه وشهد صفحة نفسه مع الاغماض عن أيّة شبهة ترد عليها،لا يرى مانعاً من تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب،فلو كان هذا محالاً كاجتماع الضدّين أو النقيضين وما شاكلهما لم يصدّق الوجدان ولا العقل إمكانه.
لا إشكال في وقوع ترتب أحد الحكمين على عصيان الحكم الآخر في موارد الخطابات العرفية،وفي جملة من المسائل الفقهية،ومن الواضح جداً أنّ وقوع شيء أكبر برهان على إمكانه وأدلّ دليل عليه،وليس شيء أدل من ذلك، ضرورة أنّ المحال لايقع في الخارج،فلو كان هذا محالاً استحال وقوعه خارجاً، فمن وقوعه يكشف إمكانه وعدم استحالته بالضرورة.
أمّا في موارد الخطابات العرفية:فهو في غاية الكثرة،منها:ما هو المتعارف في الخارج من أنّ الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة،وعلى تقدير عصيانه يأمره بالجلوس في الدار مثلاً والكتابة فيها،أو بشيء آخر.فالأمر بالجلوس مترتب على عصيان الأمر بالذهاب.وكذلك المولى يأمر عبده بشيء وعلى تقدير عصيانه وعدم إتيانه به يأمره بأحد أضداده،وهكذا.
وعلى الجملة:فالأمر بالضدّين على نحو الترتب من الموالي العرفية بالاضافة
إلى عبيدهم،ومن الآباء بالاضافة إلى أبنائهم ممّا لا شبهة في وقوعه خارجاً، بل وقوع ذلك في أنظارهم من الواضحات الأوّلية،فلا يحتاج إلى إقامة برهان ومؤونة استدلال.
وأمّا في المسائل الفقهية:ففروع كثيرة لا يمكن للفقيه إنكار شيء منها،نذكر جملة منها في المقام:
الأوّل: ما إذا وجبت الاقامة على المسافر في بلد مخصوص،وعلى هذا فان قصد الاقامة في ذلك البلد وجب عليه الصوم لا محالة،إذا كان قصد الاقامة قبل الزوال ولم يأت بمفطر قبله،وأمّا إذا خالف ذلك وترك قصد الاقامة فيه فلا إشكال في وجوب الافطار وحرمة الصوم عليه.وهذا هو عين الترتب الذي نحن بصدد إثباته،إذ لا نعني به إلّاأن يكون هناك خطابان فعليان متعلقان بالضدّين على نحو الترتب،بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه، وفيما نحن فيه كذلك،فان وجوب الافطار وحرمة الصوم مترتب على عصيان الأمر بقصد الاقامة الذي هو مضاد له-أي الافطار-ولا يمكن لأحد أن يلتزم في هذا الفرض بعدم جواز الافطار ووجوب الصوم عليه،فانّه في المعنى إنكار لضروري من الضروريات الفقهية.
الثاني: ترتب وجوب تقصير الصلاة على عصيان الأمر بقصد الاقامة وتركه في الخارج،ولا يفرق في ترتب وجوبه عليه بين أن يكون ترك قصد الاقامة قبل الزوال أو بعده،وبذلك تمتاز الصلاة عن الصوم كما عرفت.
الثالث: ما إذا حرمت الاقامة على المسافر في مكان مخصوص،فعندئذ كما أ نّه مكلف بترك الاقامة في هذا المكان وهدم موضوع وجوب الصوم،كذلك هو مكلف بالصوم على تقدير قصد الاقامة وعصيان الخطاب التحريمي، فالخطاب التحريمي المتعلق بقصد الاقامة خطاب مطلق وغير مشروط بشيء،