آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
محاضرات فی اصول الفقه – جلد ۲
جلد
2
والوجوب المتعلق بالصوم وجوب مشروط بعصيان ذلك الخطاب،وعليه فلو عصى المكلف ذلك الخطاب وقصد الاقامة فيه فلا مناص من الالتزام بوجوب الصوم عليه.ومن الواضح جداً أنّ القول بوجوبه لا يمكن إلّابناءً على صحة الترتب،فلو لم نقل بترتب وجوب الصوم على عصيان الخطاب بترك الاقامة، فلازمه الالتزام بعدم وجوبه عليه،وهو خلاف الضرورة.
الرابع: ترتب وجوب إتمام الصلاة على عصيان حرمة قصد الاقامة، والكلام فيه يظهر ممّا تقدّم.
فالنتيجة:فعلية كلا الحكمين في هذه الفروعات وما شاكلها،غاية الأمر أنّ أحدهما مطلق والآخر مشروط بعصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه،إذن الالتزام بتلك الفروعات بعينه هو التزام بالترتب لا محالة.
نعم،فيما إذا حدث الأمر بشيء بعد سقوط الأمر بضدّه-كما في موارد الأمر بالقضاء-فهو خارج عن محلّ الكلام،فان محل الكلام فيما إذا كان كلا الحكمين فعلياً في زمان واحد،غاية ما في الباب كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً.
وأمّا تعلّق الأمر بشيء بعد سقوط الأمر بضدّه بحيث لا يجتمعان في زمان واحد فلا كلام في صحته وجوازه،والأمر المتعلق بقضاء الصلاة ونحوها بالاضافة إلى الأمر بأدائها من هذا القبيل،فلا يجتمعان في زمان واحد.
أو فقل:إنّ ما هو محل الكلام هو تقارن الأمرين زماناً،وتقدّم أحدهما على الآخر رتبة،ففرض تعلّق الخطاب بالمهم بعد سقوط الخطاب عن الأهم خارج عن مورد النزاع تماماً،فيكون نظير تعلّق الأمر بالطهارة الترابية بعد سقوط الأمر عن الطهارة المائية.
إنّ بيان إمكان الترتب وتعيين مورد البحث يتوقف على التكلم في جهات:
الجهة الاُولى: في بيان امور:
الأوّل: أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً غير قابل للدوام والبقاء،وذلك كانقاذ الغريق مثلاً أو الحريق أو ما يشبهه،ففي مثل ذلك لا يتوقف تعلّق التكليف بالمهم على القول بجواز الترتب وإمكانه،ضرورة أ نّه بعد عصيان المكلف الأمر بالأهم في الآن الأوّل القابل لايجاد الأهم فيه،وسقوط أمره في الآن الثاني بسقوط موضوعه،لا مانع من فعلية الأمر بالمهم على الفرض،إذ المفروض أنّ المانع منه هو فعلية الأمر بالأهم،وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من فعلية الأمر بالمهم أصلاً،فحينئذ يصحّ الاتيان بالمهم ولو بنينا على استحالة الترتب،لما عرفت من أنّ جواز تعلّق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات.
ومن ذلك يعلم أنّ هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام ومورد النزاع،فان ما هو مورد النزاع والكلام-بين الأعلام والمحققين-هو ما لا يمكن إثبات فعلية الأمر بالمهم إلّابناءً على القول بالترتب،ومع قطع النظر عنه يستحيل فعلية أمره والحكم بصحته.
نعم،في الآن الأوّل-وهو الآن القابل لتحقق الأهم فيه خارجاً-لا يمكن تعلّق الأمر بالمهم فعلاً،والحكم بصحته بناءً على القول باستحالة الترتب،وأمّا في الآن الثاني-وهو الآن الساقط فيه الأمر بالأهم-فلا مانع من تعلّق الأمر به ووقوعه صحيحاً.وأمّا بناءً على إمكانه فالالتزام بترتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم إنّما يجدي في خصوص الآن الأوّل،دون بقية الآنات،إذ
لا تتوقف فعليّة أمره فيها على القول بجواز الترتب كما عرفت.نعم،إذا كان الواجب المهم أيضاً آنياً فحينئذ يدخل ذلك في محلّ الكلام،إذ فعلية الأمر بالمهم-عندئذ-والحكم بصحته تتوقف على القول بالترتب.وأمّا على القول بعدمه فلا يمكن إثبات الأمر به،أمّا في الآن الأوّل فلمزاحمته بالأهم،وأمّا في الآن الثاني فلانتفائه بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة من ذلك: أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً-دون الواجب المهم – فحيث إنّ إثبات الأمر بالمهم بمكان من الوضوح مع قطع النظر عن صحة الترتب وعدم صحته،ولا يتوقف إثبات الأمر به على القول بجوازه،فهو خارج عن محلّ الكلام،فانّ ما كان محلاً للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر به مع قطع النظر عنه.
الثاني: أنّ كلاً من الواجب الأهم والمهم إذا كان آنياً-بمعنى أن يكون في الآن الأوّل قابلاً للتحقق والوقوع في الخارج،ولكنّه في الآن الثاني يسقط بسقوط موضوعه-فهو داخل في محلّ الكلام ولا يمكن إثبات الأمر بالمهم فيه إلّا على القول بصحة الترتب.
الثالث: أنّ الواجب الأهم والمهم إذا كان كلاهما تدريجياً كالصلاة والازالة مثلاً،عند ما تقع المزاحمة بينهما فلا إشكال في أ نّه داخل في محلّ الكلام،وعليه فان قلنا بأنّ الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو معصية الأمر بالأهم آناً ما،بمعنى أنّ معصية الأهم في الآن الأوّل كافية لفعلية الأمر بالمهم في جميع أزمنة امتثاله، فلا تتوقف فعليته في الآن الثاني على استمرار معصيته الأمر بالأهم إلى ذلك الآن،بل لو تبدلت معصيته بالاطاعة في الزمن الثاني كان الأمر بالمهم باقياً على فعليته لفرض تحقق شرطه،وهو معصية الأمر بالأهم في الآن الأوّل،فهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدّين لا محالة،ولعلّ هذا هو مورد نظر المنكرين
للترتب،كما يظهر ذلك من بعض موارد الكفاية 1.
لكن ذلك ليس مراد القائلين بالترتب أصلاً،فان محذور طلب الجمع بين الضدّين على هذا الوجه باقٍ بحاله،وذلك لأنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم في الآن الثاني باق على فعليته من جهة فعلية موضوعه،وهو قدرة المكلف على امتثاله،بأن يرفع اليد عن المهم ويمتثل الأمر بالأهم،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الأمر بالمهم أيضاً فعلي في ذلك الآن،وليست فعليته مشروطة بعصيان الأمر بالأهم فيه،لفرض أنّ شرطها-وهو عصيانه في الآن الأوّل-قد تحقق في الخارج،ولم تتوقف فعليته في الآن الثاني والثالث وهكذا على استمرار عصيانه كذلك،فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ كلاً من الأمر بالأهم والأمر بالمهم فعلي في الآن الثاني وفي عرض الآخر.وعليه فيلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين.
وأمّا إذا قلنا بأنّ شرط فعلية الأمر بالمهم عصيان الأمر بالأهم في جميع أزمنة امتثاله،بمعنى أنّ فعليته تدور مدار عصيانه حدوثاً وبقاءً،فلا يكفي عصيانه آناً ما لبقاء أمره إلى الجزء الأخير منه،ففعلية الأمر بالصلاة مثلاً عند مزاحمتها بالازالة مشروطة ببقاء عصيان أمر الإزالة واستمراره إلى آخر أزمنة امتثال الصلاة،وبانتفائه في أيّ وقت كان ينتفي الأمر بالصلاة،ضرورة أنّ بقاء أمر المهم منوط ببقاء موضوعه،والمفروض أنّ موضوعه هو عصيان الأمر بالأهم،ولا بدّ من فرض بقائه إلى آخر أزمنة امتثال المهم في تعلّق الأمر به فعلاً،فإنّ تعلّق الأمر به كذلك في أوّل أزمنة امتثاله منوط ببقاء عصيان الأمر بالأهم إلى الجزء الأخير من المهم،فان هذا نتيجة تقييد إطلاق الأمر بالمهم
بعصيان الأهم،وكون المهم واجباً ارتباطياً،وعلى هذا فليس هنا طلب للجمع بين الضدّين أصلاً كما سيأتي توضيحه.
وهذا بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الشرط المتأخر،وكذا إمكان تعلّق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه على نحو الواجب المعلّق كما حققناهما في محلهما لا إشكال فيه،إذ لا مانع حينئذ من أن يكون العصيان المتأخر شرطاً للوجوب المتقدم،بمعنى أنّ فعلية وجوب المهم في أوّل أزمنة امتثاله تكون مشروطة ببقاء عصيان الأهم إلى آخر زمان الاتيان بالمهم،وبانتفائه يستكشف عدم فعلية وجوب المهم من الأوّل،ومن هنا قلنا إنّه لا مناص من الالتزام بالشرط المتأخر في الواجبات التدريجية كالصلاة ونحوها،فان وجوب أوّل جزء منها مشروط ببقاء القدرة على الجزء الأخير منها في ظرفه،وإلّا فلا يكون من الأوّل واجباً،وهذا ثمرة اشتراط وجوب تلك الواجبات بالقدرة في ظرف الامتثال من ناحية،وارتباطيتها من ناحية اخرى.
وأمّا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من استحالة الشرط المتأخر وكذا الواجب المعلّق،فيشكل الأمر في المقام،ومن هنا قد تفصى عن هذه المشكلة بما أجاب به عن الاشكال في اشتراط القدرة في الواجبات التدريجية وقال:إنّ المقام داخل في تلك الكبرى-أي اشتراط التكليف بالقدرة-ومن إحدى صغرياتها،فان اشتراط التكليف بالمهم بعصيان تكليف الأهم إنّما هو لأجل أ نّه غير مقدور إلّافي هذا الفرض،ولذا لا نحتاج في اشتراط تكليف المهم بعصيان تكليف الأهم إلى دليل خاص،فالدليل عليه هو حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة،فانّه يوجب اشتراط خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم،لكون المهم غير مقدور شرعاً-وهو في حكم غير
المقدور عقلاً-إلّاعند تحقق هذا الشرط.
وحاصل ما أجاب به (قدس سره) أنّ الشرط هو القدرة على الجزء الأوّل من أجزاء الواجب التدريجي المتعقبة بالقدرة على بقية الأجزاء،فشرط وجوب الصلاة مثلاً إنّما هو القدرة على التكبيرة المتعقبة بالقدرة على بقية أجزائها.
ومن الواضح أنّ عنوان التعقب عنوان حاصل بالفعل،وبذلك يدفع محذور الالتزام بالشرط المتأخر،وعليه يكون شرط فعلية وجوب المهم عصيان الأهم في الآن الأوّل متعقباً بعصيانه في بقية الآنات،والمفروض أنّ عصيانه في آن أوّل امتثال المهم المتعقب بعصيانه في بقية أزمنة امتثال المهم موجود بالفعل، فيكون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر،ومن المعلوم أنّ اشتراط المهم بعصيان الأهم ليس إلّامن ناحية عدم قدرة المكلف على امتثاله في غير هذه الصورة-عصيان الأهم-.
ولكن قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط 1أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه بوجه،وذكرنا هناك أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر أصلاً،وأ نّه لا محصّل لجعل عنوان التعقب شرطاً لعدم الدليل عليه.
وقد فصلنا الحديث عن ذلك هناك،فلا حاجة إلى الاعادة.
ومن ذلك يظهر أنّ الواجب المهم بعد حصول شرط وجوبه لا يصير مطلقاً، فانّه يبتني على أن يكون شرطه هو عصيان الأهم في الآن الأوّل فحسب كما عرفت،وأمّا على ما ذكرناه من أنّ شرطه هو عصيانه في جميع أزمنة امتثال المهم فلا وجه لتوهم أ نّه بعد تحقق شرطه يصير مطلقاً أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل:أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً والمهم تدريجياً فهو خارج عن محلّ الكلام والبحث كما مرّ آنفاً.
الثاني:أنّ شرط فعلية الأمر بالمهم عصيان الأهم على نحو الاستمرار والدوام لا عصيانه آناً ما،لما عرفت من أ نّه لا يدفع محذور طلب الجمع بين الضدّين.
الجهة الثانية: أ نّه لا يفرق في القول بامكان الترتب وجوازه،والقول باستحالته وعدم جوازه،بين أن يكون زمان فعلية الخطاب متحداً مع زمان الامتثال والعصيان،وأن يكون سابقاً عليه-بناءً على ما هو الصحيح من إمكان الواجب المعلّق-وإن كان الغالب هو الأوّل،بل قد ذكرنا في محلّه أنّ الثاني وإن كان ممكناً،إلّاأنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل وقيام قرينة عليه،وإلّا فهو خلاف الظهور العرفي،فان مقتضى ظهور الخطاب هو أنّ زمان فعليته متحد مع زمان الواجب-وهو زمان امتثاله وعصيانه-ولكنّ الغرض من ذلك الاشارة إلى أنّ القول بامكان الترتب لا يتوقف على القول بانكار الواجب المعلّق،فان ملاك استحالة الواجب المعلّق وإمكانه أجنبي عمّا هو ملاك استحالة الترتب وإمكانه،فكما يجري على القول باستحالة الواجب المعلّق،فكذلك يجري على القول بامكانه.
وتوضيح ذلك: أ نّه لا إشكال في تقدّم زمان الاعتبار والجعل على زمان المعتبر والمجعول غالباً،لما ذكرناه غير مرّة من أنّ جعل الأحكام جميعاً على نحو القضايا الحقيقية،فلا يتوقف على وجود موضوعها في الخارج،فيصحّ الجعل والاعتبار،سواء أكان موضوعها موجوداً في الخارج أم لم يكن.وأمّا زمان المعتبر-وهو زمان فعلية تلك الأحكام بفعلية موضوعاتها في الخارج-فبناءً على استحالة الواجب المعلّق فهو دائماً متحد مع زمان الواجب الذي هو ظرف تحقق الامتثال والعصيان،وعلى هذا فزمان فعلية التكليف بالمهم وزمان امتثاله
وزمان عصيانه واحد،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ زمان فعلية التكليف بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد.
فالنتيجة على ضوء ذلك:أنّ زمان فعلية التكليف بالمهم وزمان فعلية التكليف بالأهم واحد،إذ زمان فعلية التكليف بالمهم متحد مع زمان عصيان الأهم،لفرض أنّ عصيانه شرط لفعليته وموضوع لها،فيستحيل أن يكون زمان فعليته متقدماً على زمان عصيانه أو متأخراً عنه،والمفروض أنّ زمان عصيانه متحد مع زمان فعلية خطابه،فينتج ذلك أنّ زمان فعلية خطاب المهم متحد مع زمان فعلية خطاب الأهم،لأنّ ما مع المقارن بالزمان مقارن أيضاً لا محالة كما سبق.
وعلى هذا الضوء تترتب ضرورة تقارن فعلية خطاب المهم مع خطاب الأهم واجتماعهما في زمان واحد.نعم،تتقدم فعلية الخطاب على عصيانه أو امتثاله رتبة،كتقدم عصيان الأهم على فعلية خطاب المهم.وأمّا خطاب الأهم فليس بمتقدم على خطاب المهم رتبة،كما أ نّه ليس بمتقدم زماناً،والوجه في ذلك واضح،فانّ تقدّم الأمر على عصيانه أو امتثاله بملاك أ نّه علة له،وتقدّم عصيان الأهم على فعلية الأمر بالمهم بملاك أ نّه شرط له،ولا ملاك لتقدم خطاب الأهم على خطاب المهم أصلاً،فما هو المعروف من أنّ الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم،ليس المراد منه التقدم والتأخر بحسب الرتبة كما توهم،بل المراد منه مجرد ترتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم.
ودعوى أنّ الأمر بالمهم متأخر عن عصيان الأمر بالأهم وهو متأخر عن الأمر به فيتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتين،مدفوعة بما ذكرناه سابقاً من أنّ التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم ذات المتقدم أو المتأخر وليس أمراً خارجاً عن ذاته،ولذا يختص هذا التقدم أو
التأخر بما فيه ملاكهما،فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلاً عن غيره،ولذا قلنا بتقدم العلة على المعلول،لوجود ملاك التقدم فيها.وأمّا عدمها فلا يتقدم عليه مع أ نّه في مرتبتها،وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وإن كان الأمر بالأهم مقدّماً على عصيانه بملاك أ نّه علة له إلّاأ نّه لا يوجب تقدمه على الأمر بالمهم،لانتفاء ملاكه.
أو فقل: إن تأخّر الأمر بالمهم عن عصيان الأمر بالأهم المتأخر عن نفس الأمر به،لا يوجب تأخره عن نفس الأمر بالأهم،وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في أوّل بحث الضد فلاحظ 1.هذا بناءً على القول باستحالة الواجب المعلق.
وأمّا بناءً على إمكان الواجب المعلّق كما هو الصحيح،فلا مانع من أن يكون زمان الوجوب مقدّماً على زمان الواجب-الذي هو ظرف امتثاله وعصيانه – وقد حققنا ذلك في بحث الواجب المعلّق والمشروط بصورة مفصلة 2،وقلنا هناك إنّه لا يلزم أيّ محذور من الالتزام بتعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه،كما أ نّه لا يلزم من الالتزام بالشرط المتأخر أصلاً.
ثمّ إنّه لا يفرق فيما ذكرناه من إمكان الترتب بين القول بامكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما،ولا يتوقف القول بامكان الترتب على القول باستحالتهما،بتخيل أ نّه لو قلنا بامكان الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر لكان لازم ذلك إمكان فعلية تكليف المهم قبل تحقق عصيان الأهم على نحو الشرط المتأخر أو الواجب المعلّق،وهذا غير معقول،لأنّ طلب الضدّين
في آن واحد محال فلا يكون ممكناً،ولكنّه خيال فاسد.
والوجه في ذلك:هو أنّ ملاك استحالة الترتب ليس اجتماع الخطابين-أي خطاب الأهم وخطاب المهم-في زمان واحد،لأنّ اجتماعهما على كلا المذهبين في زمان واحد ومقارنتهما فيه ممّا لا بدّ منه،ضرورة أنّ حدوث التكليف بالمهم بعد سقوط التكليف بالأهم خلاف مفروض الخطاب الترتبي،وخارج عن محلّ الكلام،إذ لا إشكال في جواز ذلك وصحته،فان محل الكلام هو ما إذا كان الأمران متقارنين زماناً،ومع إثبات أنّ الجمع بين الأمرين في زمان واحد مع ترتب أحدهما على عصيان الآخر لا يرجع إلى طلب الجمع بين الضدّين،فلا مانع منه أصلاً،وهذا هو ملاك القول بامكان الترتب وصحته،كما أنّ ملاك القول بامتناعه واستحالته تخيّل أنّ الجمع بين الخطابين في زمان واحد يستلزم طلب الجمع بين الضدّين وهو محال.
وعلى هذا الأساس فكل من ملاك إمكان الترتب واستحالته أجنبي عن ملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر واستحالتهما تماماً،إذ ملاك إمكان الترتب وامتناعه يدوران مدار النقطة المزبورة،وهي أنّ الجمع بين الطلبين في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين الضدّين أم لا ؟ فالقائل باستحالة الترتب يدعي الأوّل،والقائل بامكانه يدعي الثاني،فتلك النقطة هي محط البحث والأنظار بين الأصحاب في المقام.وملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر وملاك استحالتهما يدوران مدار ما ذكرناه من الأساس هناك فلا حاجة إلى الاعادة.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ القول بامكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر.وعليه فلا فرق فيما ذكرناه من إمكان الترتب وأنّ الجمع بين الأمرين في زمان واحد لا يرجع إلى طلب الجمع
بين الضدّين،بين وجهة نظرنا في هاتين المسألتين-الواجب المعلّق والشرط المتأخر-وبين وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فيهما أصلاً.
فالغرض من هذه الجهة دفع ما توهم من ابتناء القول بامكان الترتب على القول باستحالة الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر.
الجهة الثالثة: لا إشكال في إطلاق الواجب بالاضافة إلى وجوده وعدمه – بمعنى تعلّق الطلب بالماهية المعراة عن الوجود والعدم-بداهة أنّ الطلب المتعلق بالفعل لا يعقل تقييد متعلقه بالوجود أو العدم،إذ على الأوّل يلزم طلب الحاصل وعلى الثاني الخلف،أو طلب الجمع بين النقيضين،وكذا الحال في الطلب المتعلق بالترك،فانّه لا يمكن تقييده بالترك المفروض تحققه،لاستلزامه طلب الحاصل ولا تقييده بالوجود،لأنّه خلف أو طلب الجمع بين النقيضين.
فالنتيجة: أنّ تقييد متعلق الأمر بوجوده في الخارج أو بعدمه محال،فإذا استحال تقييده بالحصة المفروضة الوجود أو المفروضة العدم فلا محالة يكون متعلقه هو الجامع بينهما،ولازم ذلك هو ثبوت الأمر في حال وجوده وحال عدمه وفي حال عصيانه وامتثاله.وهذا واضح لا كلام فيه،وإنّما الكلام والاشكال في أنّ ثبوت الأمر في هذه الأحوال هل هو بالاطلاق أم لا ؟
فعلى مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ليس بالاطلاق،لما يراه (قدس سره) 1من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر،وحيث إنّ التقييد في المقام محال كما عرفت فالاطلاق أيضاً محال،إذن لا إطلاق لمتعلق الأمر بالاضافة إلى تقديري وجوده وعدمه،لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين،ولا بنتيجة الاطلاق أو
التقييد.أمّا الأوّل،فكما مرّ.وأمّا الثاني،فلأنّ استحالة التقييد والاطلاق في المقام ليست من ناحية استحالة لحاظيهما ليمكن التوصل إليهما بجعل آخر ويسمّى ذلك بنتيجة الاطلاق ونتيجة التقييد،بل من ناحية أنّ التقييد هنا مستلزم لتحصيل الحاصل أو طلب الجمع بين النقيضين،والاطلاق مستلزم للجمع بين كلا المحذورين المزبورين.
ومن الواضح البيّن أنّ كل هذه الاُمور محال في حد ذاته،لا من ناحية عدم إمكان الجعل بجعل واحد،وعدم إمكان اللحاظ بلحاظ فارد،ولكن مع هذا كان الحكم موجوداً في كلتا الحالتين-الوجود والعدم-،والوجه فيه:هو أ نّه لا موجب لسقوط التكليف بالأهم في المقام ما عدا العجز عن امتثاله،والمفروض أنّ المكلف غير عاجز عنه،ضرورة أنّ فعل الشيء لا يصير ممتنعاً حال تركه وكذا تركه حال فعله،إذ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا يوجب العجز وسلب القدرة عن الطرف الآخر بالبداهة.وعلى هذا فالأهم مقدور للمكلف حال تركه،كما أنّ تركه مقدور حال فعله،وكذا هو مقدور حال فعل المهم.
والأصل في جميع ذلك:هو أنّ ترجيح أحد الطرفين على الآخر أو ترجيح فعل المهم في المقام على فعل الأهم باختيار المكلف وإرادته،فلا يعقل أن يكون ذلك موجباً لامتناع الطرف الآخر،وإلّا فلا يكون الشيء من الأوّل مقدوراً، وهذا خلف.ونتيجة ذلك:هي أنّ الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وحال الاتيان بالمهم،وهذا معنى اجتماع الأمرين في زمان واحد،هذا على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا بناءً على وجهة نظرنا من أنّ التقابل بينهما ليس من تقابل العدم والملكة بل من تقابل التضاد،وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة تحقق الآخر ووجوبه لا استحالته،فثبوته بالاطلاق،والوجه فيه:ما ذكرناه غير
مرّة من أنّ الاهمال في الواقع ومقام الثبوت غير معقول،فمتعلق الحكم في الواقع إمّا هو ملحوظ على وجه الاطلاق بالاضافة إلى جميع القيود حتّى القيود الثانوية-ومعنى الاطلاق عدم دخل شيء من تلك القيود فيه واقعاً،لا أنّ جميعها دخيلة فيه-وإمّا هو ملحوظ على وجه التقييد ولا ثالث لهما،وعليه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر لانتفاء ثالث بينهما.وفي المقام بما أنّ تقييد متعلق الأمر بتقديري الفعل في الخارج أو الترك محال،فلا محالة كان إطلاقه بالاضافة إليه واجباً.
وعلى هذا يترتب أنّ الأمر المتعلق بالأهم مطلق بالاضافة إلى حالتي وجوده وعدمه،فعندئذ إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأهم وتركه في الخارج فلا محالة عند تركه يجتمع الأمران،أمّا الأمر بالأهم فمن جهة الاطلاق كما عرفت،وأمّا الأمر بالمهم فلتحقق شرطه-وهو ترك الأهم وعصيان أمره – ولكن مع ذلك فليس مقتضى الأمرين طلب الجمع بين الضدّين في زمن واحد، لأنّ أحدهما في طول الآخر لا في عرضه.وعليه فلا يمكن أن يقع متعلقهما على صفة المطلوبية ولو تمكن المكلف من إيجادهما في الخارج.
أو فقل:إنّ طلب الجمع بين فعلين في الخارج يتصور على صور أربع،وما نحن فيه ليس من شيء منها.
الاُولى: ما إذا كان هناك أمر واحد تعلّق بالجمع بين فعلين على نحو يرتبط كل منهما بالآخر ثبوتاً وسقوطاً،كما إذا تعلّق الأمر بالجمع بين الكتابة والجلوس مثلاً.
الثانية: ما إذا تعلّق أمران بفعلين على نحو يكون متعلق كل من الأمرين مقيداً بحال امتثال الأمر بالآخر،كما إذا أمر المولى بالصلاة المقارنة لامتثال الأمر بالصوم وبالعكس.
الثالثة: أن يكون متعلق أحد الخطابين مقيداً بحال امتثال الآخر دون العكس.
الرابعة: ما إذا تعلّق أمران بفعلين على وجه الاطلاق،بأن يكون كل منهما مطلقاً بالاضافة إلى حال امتثال الآخر والاتيان بمتعلقه،كما هو الحال في الأمر المتعلق بالصوم والصلاة،فانّ وجوب كل منهما مطلق بالاضافة إلى الاتيان بالآخر.
هذه هي الصور التي يكون المطلوب فيها الجمع،غاية الأمر أنّ الجمع في الصورة الاُولى بعنوانه متعلق للأمر والطلب.وأمّا في الصور الثلاثة الأخيرة فالجمع بعنوانه ليس متعلقاً للطلب،بل الأمر فيها يرجع إلى طلب واقع الجمع وحقيقته بالذات،كما في الصورتين الاُوليين،وبالعرض كما في الصورة الأخيرة، فانّ الجمع في تلك الصورة-أعني بها الصورة الأخيرة-ليس بمطلوب لا بعنوانه ولا بواقعه حقيقة،وإنّما هو مطلوب بالعرض،بمعنى أنّ عند تحقق امتثال أحدهما كان الاتيان بالآخر أيضاً مطلوباً،وهذا نتيجة إطلاق الخطابين.
وعلى كل حال فالقول بالترتب واجتماع الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم في زمان واحد لا يستلزم القول بطلب الجمع بينهما أصلاً.أمّا الجمع بمعنى تعلّق طلب واحد به كما في الصورة الاُولى فواضح.وأمّا الجمع بالمعنى الموجود في بقية الصور فأيضاً كذلك،لأنّ تعلّق طلبين بفعلين في زمان واحد إنّما يقتضيان الجمع بينهما فيما إذا كان امتثال كل منهما مقيداً بتحقق امتثال الآخر،أو كان امتثال أحدهما خاصة مقيداً بذلك دون الآخر،أو كان كل واحد منهما مطلقاً من هذه الجهة كما عرفت في الصور الثلاثة المتقدمة.
وأمّا إذا فرضنا أنّ أحد الأمرين مشروط بعدم الاتيان بمتعلق الآخر وعصيانه كما فيما نحن فيه،فيستحيل أن تكون نتيجة اجتماع الأمرين وفعليتهما
في زمن واحد طلب الجمع،بداهة أنّ فعلية الأمر بالمهم مشروط بعدم الاتيان بالأهم وفي ظرف تركه،وهذا في طرف النقيض مع طلب الجمع تماماً ومعانده رأساً،ومن هنا قلنا إنّه لا يمكن وقوع الفعلين معاً-الأهم والمهم-على صفة المطلوبية وإن فرضنا أنّ المكلف متمكن من الجمع بينهما في الخارج.
وسر ذلك:هو أنّ الأمر بالمهم إذا فرض اشتراطه بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه،فلا يمكن فعلية أمره بدون تحقق شرطه وهو ترك الأهم وفي ظرف وجوده،وإلّا لزم أحد محذورين:إمّا اجتماع النقيضين،أو الخلف، وكلاهما مستحيل،وذلك لأنّ الأمر بالمهم تتوقف فعليته على فعلية موضوعه وهو ترك الأهم وعدم الاتيان به،وعليه فإذا فرض فعلية الأمر بالمهم في ظرف وجود الأهم،فعندئذ لا بدّ إمّا من فرض عدم الأهم عند وجوده فلزم اجتماع النقيضين،وإمّا من فرض أنّ عدم الأهم ليس بشرط،وهذا خلف.
ونتيجة ذلك:هي استحالة فعلية الأمر بالمهم في ظرف وجود الأهم وتحققه في الخارج،لاستلزامها أحد المحالين المزبورين.
وعلى هذا الضوء يستحيل استلزام فعلية الأمرين المترتب أحدهما على عدم الاتيان بالآخر وعصيان أمره لطلب الجمع بين متعلقيهما.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ المقام في طرف النقيض مع الصور المتقدمة،إذ فعلية الأمرين فيها تقتضي الجمع بين متعلقيهما كما عرفت،وفعلية الأمرين في المقام تقتضي التفريق بين متعلقيهما،وعدم امكان كون كليهما معاً مطلوباً.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ هذه الجهة وإن لم تكن كثيرة الدخل في إمكان القول بالترتب وجوازه،إلّاأنّ الغرض من التعرض لها لدفع ما ربّما يتخيل أنّ الأمر بالأهم لو كان مطلقاً بالاضافة إلى حالتي عصيانه وامتثاله وفعله وتركه في الخارج لم يمكن القول بالترتب،إذ مقتضى إطلاقه هو أنّ أمره في حال عصيانه
باقٍ،فإذا كان باقياً فلا محالة يدعو إلى إيجاد متعلقه في الخارج،والمفروض أنّ هذا الحال هو حال فعلية الأمر بالمهم،لفرض تحقق شرطها-وهو عصيان الأهم-إذن يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدّين،وهذا محال.
ولكن من بيان تلك الجهة قد ظهر فساد هذا الخيال،وذلك لأنّ محل الكلام في إمكان الترتب واستحالته فيما إذا كان الأمر بالأهم ثابتاً حال عصيانه وترك متعلقه،وإلّا فليس من محل الكلام في شيء كما تقدّم،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ اجتماع أمرين متعلقين بالضدّين في زمن واحد شيء، وطلب الجمع بينهما شيء آخر،ولا ملازمة بين أحد الأمرين والآخر أصلاً.
نعم،لو كان تعلّق أمرين بهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق،لكان ذلك مستلزماً لطلب الجمع بينهما لا محالة.ولكن أين هذا من تعلّق أمرين بهما على نحو الترتب،بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيان الأوّل وعدم الاتيان بمتعلقه،لأنّك عرفت أنّ اجتماع الأمرين كذلك لا يستلزم طلب الجمع بين متعلقيهما بل هو في طرف النقيض معه وينافيه ويعانده،لا أ نّه يقتضيه كما مرّ.
وعلى الجملة: فالغرض من بيان هذه الجهة الاشارة إلى هذين الأمرين، أعني بهما دفع الخيال المزبور وأ نّه لا مجال له أصلاً.وامتياز المقام عن الصور المتقدمة،وأنّ فعلية الأمرين في تلك الصور تستلزم طلب الجمع لا في المقام كما عرفت.
الجهة الرابعة: وهي الجهة الرئيسية لأساس الترتب وتشييد كيانه:قد ذكرنا غير مرّة أنّ الخطابات الشرعية بشتّى أشكالها لاتتعرّض لحال موضوعاتها وضعاً ورفعاً،وإنّما هي تتعرض لحال متعلقاتها على تقدير وجود موضوعاتها، مثلاً خطاب الحج كما في الآية المباركة لا يكون متعرّضاً لحال الاستطاعة،ولا
يكون ناظراً إليها وجوداً وعدماً،وإنّما يكون متعرّضاً لحال الحج باقتضاء وجوده على تقدير وجود الاستطاعة وتحققها في الخارج بأسبابها المقتضية له، فلا نظر له إلى إيجادها،ولا إلى عدم إيجادها أصلاً،ولا إلى أ نّها موجودة أو غير موجودة.وكذا خطاب الصلاة وخطاب الزكاة وما شاكلهما،فانّ كلاً منها لا يكون متعرّضاً لحال موضوعه،لا وضعاً ولا رفعاً،ولا يكون مقتضياً لوجوده ولا لعدمه،وإنّما هو متعرض لحال متعلقه باقتضاء ايجاده في الخارج على تقدير وجود موضوعه.
والسرّ في ذلك:هو أنّ جعل الأحكام الشرعية إنّما هو على نحو القضايا الحقيقية،ومعنى القضية الحقيقية هو أنّ ثبوت المحمول فيها ووجوده على تقدير وجود الموضوع وثبوته،ونسبة المحمول فيها إلى الموضوع وضعاً ورفعاً نسبة لا اقتضائية،فلا يقتضي المحمول وجود موضوعه ولا يقتضي عدمه،فمتى تحقق الموضوع تحقق المحمول وإلّا فلا.
ومن هنا قلنا إنّ القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له،ومن الواضحات الأوّلية أنّ الجزاء لايقتضي وجود الشرط ولا عدمه،ولذلك لو كان أحد الدليلين ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر وضعاً أو رفعاً فلا ينافي ما هو مقتضى ذاك الدليل أبداً،لأنّه بالاضافة إلى موضوعه لا اقتضاء،فلا يزاحم ما يقتضي وضعه أو رفعه،ولذا لا تنافي بين الدليل الحاكم والمحكوم والوارد والمورود.
وعلى ذلك الأساس نقول:إنّ عصيان الأمر بالأهم في محلّ الكلام وترك متعلقه،بما أ نّه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم،فهو لا يكون متعرّضاً لحاله وضعاً ورفعاً،لما عرفت من أنّ الحكم يستحيل أن يستدعي وجود موضوعه أو عدمه،وإنّما هو يستدعي إيجاد متعلقه على تقدير وجود موضوعه في
الخارج،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الأمر بالأهم محفوظ في ظرف عصيانه،إمّا من جهة الاطلاق كما ذكرناه،أو من جهة أنّ الأمر يقتضي الاتيان بمتعلقه وإيجاده في الخارج،وهذا عبارة اخرى عن اقتضاء هدم موضوع الأمر بالمهم ورفعه،وهو عصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي عدم التنافي بين هذين الأمرين أبداً.
أمّا بين ذاتيهما فواضح،ضرورة أ نّه لا تنافي بين ذات الأمر بالمهم مع قطع النظر عن اقتضائه،وذات الأمر بالأهم كذلك،وقد ذكرنا في غير مورد أ نّه لا تضاد ولا تماثل بين نفس الأحكام بما هي أحكام،إذ حقيقتها ليست إلّا اعتبار المولى،ومن المعلوم أ نّه لا مضادة بين اعتبار واعتبار آخر،ولا مماثلة بينهما كما سيجيء ذلك بشكل واضح في الفرق بين مسألة التزاحم والتعارض.
وأمّا بينهما باعتبار اقتضائهما فالأمر أيضاً كذلك،لأنّ الأمر بالمهم إنّما يقتضي ايجاد متعلقه في الخارج على تقدير عصيان الأمر بالأهم من دون تعرض لحال عصيانه وضعاً أو رفعاً،وجوداً أو عدماً.والأمر بالأهم يقتضي هدم عصيانه الذي هو موضوع للأمر بالمهم،ومن الضروري أ نّه لا تنافي بين مقتضى-بالفتح-الأمرين كذلك،كيف فانّ ما كانت فعلية أصل اقتضائه – الأمر بالمهم-منوطة بعدم تأثير الآخر-الأمر بالأهم-وعدم العمل بمقتضاه، فيستحيل أن يزاحمه في تأثيره ويمنعه عنه،لأنّه في ظرف تأثيره والعمل بمقتضاه ليس بفعلي ليكون مزاحماً له،وفي ظرف عدم العمل به وإن كان فعلياً إلّاأ نّك قد عرفت أ نّه غير ناظر إلى حال موضوعه-العصيان-أصلاً ليزاحمه.
وإن شئت فقل: إنّ المقتضيين في محلّ الكلام-خطاب الأهم وخطاب المهم – إنّما يكونان متنافيين إذا كان اقتضاء كل واحد منهما لايجاد متعلقه على
وجه الاطلاق وفي عرض الآخر،بأن يكون الغرض من كل منهما فعلية مقتضاه من دون ترتب في البين،إذ عندئذ يستحيل تأثيرهما معاً وفعلية مقتضاهما، لأ نّه طلب للجمع بين الضدّين والمتنافيين،واستحالة ذلك من الواضحات.
وأمّا إذا كان اقتضاء أحدهما مترتباً على عدم اقتضاء الآخر ومنوطاً بعدم تحقق مقتضاه،فلا تنافي بين اقتضائهما أبداً بل بينهما كمال الملاءمة،فان اقتضاء خطاب المهم إنّما هو في ظرف عدم تحقق مقتضى-بالفتح-خطاب الأهم وعدم فعليته.وأمّا في ظرف تحققه وفعليته،فلا اقتضاء له لعدم تحقق شرطه.إذن كيف يكونان مقتضيين لأمرين متنافيين والجمع بين الضدّين.
ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالاً:وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالازالة مثلاً،والصلاة في آخر الوقت بحيث لو اشتغل المكلف بالازالة لفاتته الصلاة، فعندئذ الأمر بالازالة إنّما ينافي الأمر بالصلاة،إذا كانت دعوته إلى إيجاد الازالة واقتضائه له على وجه الاطلاق،وفي عرض اقتضاء الأمر بالصلاة ودعوته، بأن يكون الغرض منه فعلية مقتضاه مطلقاً،لا على تقدير دون آخر،وعليه فيلزم طلب الجمع بين الضدّين لفرض اقتضاء كل منهما لايجاد مقتضاه في عرض اقتضاء الآخر له.
وأمّا إذا فرضنا أنّ اقتضاء الأمر بالازالة كان مترتباً على ترك الصلاة وعصيان أمرها،كما هو محلّ الكلام،فلا يعقل أن يكون مزاحماً لمقتضى الأمر بالصلاة،والسرّ في ذلك:هو أ نّه لا تنافي ولا تضاد بالذات بين نفس اقتضاء الأمر بالمهم واقتضاء الأمر بالأهم،مع قطع النظر عن التضاد والتنافي بين مقتضاهما وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج،فالتنافي بين اقتضائهما إنّما هو من جهة التنافي والتضاد بين مقتضاهما،وعلى هذا فلا يمكن تعلّق الطلبين بهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق،لاستلزام ذلك طلب الجمع بين الضدّين، وهو تكليف بالمحال.
وأمّا إذا كان طلب أحدهما مترتباً على عدم الاتيان بالآخر وفي ظرف عدمه،فلا يلزم التكليف بالمحال،فانّ الازالة عند الاتيان بالصلاة وامتثال أمرها ليست بمطلوبة واقعاً ليلزم من ذلك طلب الجمع،وعند تركها فهي وإن كانت مطلوبة إلّاأنّ مطلوبيتها لمّا كانت مقيدة بترك الصلاة في الخارج وعدم العمل بمقتضى أمرها في كل آن،فلا تنافي مطلوبية الصلاة،ولا يلزم من تعلّق الأمرين بهما عندئذ طلب الجمع،كيف وأنّ الأمر بالازالة حيث كان معلّقاً على تقدير عدم العمل بمقتضى أمر الصلاة من دون تعرّضه لحال هذا التقدير واقتضائه وضعه،لما عرفت من أنّ الحكم لا يقتضي وجود موضوعه،فلا يكون مانعاً عن فعلية مقتضى-بالفتح-الأمر بالصلاة الذي هو ناظر إلى ذلك التقدير، ويقتضي هدمه.
إذن لا مانع من اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لعدم التنافي بينهما،لا بالذات كما مرّ،ولا باعتبار اقتضائهما،لأنّ التنافي بينهما بهذا الاعتبار إنّما هو من جهة أنّ القدرة الواحدة لا تفي بهما معاً،ومن الواضح أ نّها إنّما لا تفي فيما إذا كان كلاهما مطلوباً في عرض واحد لا على النحو الترتب، بمعنى أنّ المهم مطلوب في ظرف ترك الأهم،إذ لا شبهة حينئذ في وفاء القدرة بهما على هذا النحو كما عرفت.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه:أنّ فعلية تعلّق الأمرين بهما واجتماعهما في زمان واحد إنّما تستدعي طلب الجمع بينهما على أحد تقديرين لا ثالث لهما:
الأوّل:أن يكون الأمر بالمهم في عرض الأمر بالأهم وعلى وجه الاطلاق، فعندئذ لا محالة يلزم طلب الجمع بينهما.
الثاني:أن يكون الأمر بالمهم في فرض تقييده بترك الأهم ناظراً إلى حال تركه ومقتضياً لوضعه وتحققه في الخارج،فحينئذ يلزم طلب الجمع لفرض أنّ
الأمر بالأهم يقتضي هدمه ورفعه.ومن الواضح جداً أ نّا لا نعقل لزوم طلب الجمع بينهما فيما عدا هاتين الصورتين،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:أنّ مفروض كلامنا هاهنا ليس من قبيل الصورة الاُولى كما هو ظاهر،ولا من قبيل الصورة الثانية،لما عرفت من أنّ ترك الأهم بما أ نّه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم،فيستحيل أن يقتضي وجوده،ففرض اقتضائه وجوده وتحققه،فرض عدم كونه مأخوذاً في موضوعه،وهذا خلف.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين:هي عدم لزوم طلب الجمع في مفروض الكلام.
وأمّا التنافي بين الأمرين باعتبار مبدئهما:فهو أيضاً غير متحقق،بداهة أ نّه لا تنافي ولا تزاحم بين تحقق ملاك في الواجب المهم على تقدير ترك الواجب الأهم وعصيانه،وتحقق ملاك في الواجب الأهم على وجه الاطلاق،بل لا تنافي بين الملاكين فيما إذا كان ثبوته في المهم أيضاً على وجه الاطلاق مع قطع النظر عن تأثيرهما في جعل الحكم فعلاً.
ومن هنا يظهر أ نّه لا تنافي بين إرادة المهم على تقدير عدم امتثال الأهم، وإرادة الأهم على نحو الاطلاق.
والنكتة في جميع ذلك:هي أنّ التزاحم بين هذه الاُمور جميعاً إنّما نشأ من مبدأ واحد وهو عدم قدرة المكلف على الجمع بين الضدّين في مقام الامتثال.
ومن المعلوم أنّ التنافي إنّما هو فيما إذا كان كل منهما مراداً للمولى ومطلوباً له في عرض الآخر،وأمّا إذا كانت مطلوبية أحدهما مقيدة بعدم الاتيان بالآخر،فلا تنافي بين طلبيهما في زمان واحد،ولا بين إرادتيهما،لتمكن المكلف عندئذ من الاتيان بالأهم والاتيان بالمهم على تقدير ترك الأهم عقلاً وشرعاً.
فالقائل باستحالة الترتب إنّما قال بها من جهة غفلته عن هذه النكتة،
وتخيله أنّ فعلية طلب المهم وفعلية طلب الأهم في زمان واحد تستلزمان طلب الجمع بينهما،إذ المفروض أنّ كل واحد منهما في هذا الزمان يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج،وهذا معنى طلب الجمع،ولكنّه غفل عن أنّ مجرد فعلية اقتضائهما لذلك لا يستلزم طلب الجمع،وإنّما يستلزم ذلك فيما إذا كان اقتضاء كل منهما على وجه الاطلاق وفي عرض الآخر،وأمّا إذا كان اقتضاء طلب المهم مقيداً بترك الأهم من دون اقتضائه لتركه،فلا يستلزم طلب الجمع بل مقتضاهما التفريق في مقام الامتثال كما عرفت.
وخلاصة ما ذكرناه في المقام:بعد تحليل مسألة الترتب تحليلاً علمياً عميقاً،هو أنّ المانع من طلب الضدّين معاً ليس إلّاعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال،ومن الواضح أنّ ذلك المانع إنّما هو فيما إذا كان طلبهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق.وأمّا إذا كان طلب أحدهما مقيّداً بترك الآخر من دون تعرضه لحال تركه أصلاً-كما هو المفروض-فلا مانع عندئذ أصلاً،لفرض أنّ المكلف قادر على الاتيان بالأهم،وعلى الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم،والجمع بينهما غير مطلوب على الفرض،إذن لا مانع من تعلّق الطلبين بهما على هذا النحو والتقدير،ولا يلزم منه طلب المحال.والغفلة عن هذه النقطة الأساسية أوجبت تخيل أنّ تعلّق الأمرين بالضدّين في زمان واحد مستحيل ولو كان على نحو الترتب.
أو فقل: إنّ منشأ استحالة طلب الجمع بين الضدّين هو أنّ القدرة الواحدة لا تفي للجمع بينهما في زمان واحد،وأمّا إذا كان طلب أحدهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر،فالقدرة الواحدة تفي بهما،ضرورة أ نّه مع إعمال القدرة في فعل الأهم وصرفها في امتثاله،لا أمر بالمهم أصلاً،لعدم تحقق شرطه،وأمّا مع عدم إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم،ولا مانع عندئذ من فعلية أمره مع
فعلية الأمر بالأهم،ولا يلزم من فعلية كلا الأمرين في زمان واحد طلب المحال وغير المقدور أصلاً.
ونظير ما ذكرناه من الترتب موجود في الاُمور التكوينية أيضاً،وهو ما إذا كان هناك مقتضيان أحدهما يقتضي تحريك جسم عن مكان،والآخر يقتضي بياضه على تقدير حصوله في ذلك المكان،من دون نظر له إلى حال هذا التقدير واقتضائه حصوله فيه أصلاً،أو كما إذا كان مقتضٍ يقتضي وجود رمّانة مثلاً في يد أحد،ولكنّه على تقدير وقوعه من يده في الخارج كان مقتضٍ آخر يقتضي وجودها في يد شخص آخر،فالمقتضي لأخذه موجود-على تقدير سقوطه من يد الأوّل-دون أن يكون فيه اقتضاء لسقوطه،ونحو ذلك،فكما لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين التكوينيين في هذين المثالين وما شاكلهما،فكذلك لاتعقل المزاحمة بين المقتضيين التشريعيين في محلّ البحث.
والسرّ في ذلك ليس إلّاما ذكرناه من النقطة الأساسية.هذا تمام الكلام في الدليل اللمي.
نتائج الجهات المتقدمة:
نتيجة الجهة الاُولى هي:أنّ عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه في الآن الأوّل،غير كافٍ لفعلية الأمر بالمهم على الاطلاق،وإلى آخر أزمنة امتثاله،بل فعليته مشروطة في كل آن وزمن بعصيانه في ذلك الآن والزمن،فلو كان عصيانه في الآن الأوّل كافياً لفعلية أمره مطلقاً،لزم محذور طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث وهكذا،كما سبق.
ونتيجة الجهة الثانية هي:أنّ القول بالترتب لا يتوقف عى القول باستحالة الواجب المعلّق والشرط المتأخر،فانّ ملاك إمكان الترتب واستحالته غير ملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر واستحالتهما،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ زمان فعلية الأمر بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد،كما أنّ زمان فعليته وزمان فعلية الأمر بالمهم واحد،وليس الأمر بالأهم ساقطاً في زمان فعلية الأمر بالمهم،بأن حدث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم،فان ذلك خارج عن محلّ الكلام في المقام،ولا اشكال في جوازه.وما هو محلّ الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعلياً كما تقدّم.
ونتيجة الجهة الثالثة هي:أنّ انحفاظ الأمر بالأهم في زمان الأمر بالمهم – وهو زمان عصيان الأمر بالأهم-بالاطلاق على وجهة نظرنا،ومن جهة اقتضاء الأمر لهدم هذا التقدير على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وعلى كل منهما لا يلزم من انحفاظه في ذلك الزمان طلب الجمع بين الضدّين، فانّ ملاك طلب الجمع إنّما هو إطلاق الخطابين وكون كل منهما في عرض الآخر، لا ترتب أحدهما على عصيان الآخر،فانّه يناقض طلب الجمع وينافيه،كما تقدّم بشكل واضح.
ونتيجة الجهة الرابعة هي:أنّ خطاب المهم-بما أ نّه مشروط بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه-لا نظر له إلى عصيانه رفعاً ووضعاً،لما عرفت من أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه أو عدمه،وخطاب الأهم بما أ نّه محفوظ في هذا الحال فهو يقتضي هدم عصيانه ورفعه،باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه في الخارج،ومن الواضح أنّ الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب الجمع،بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع، ولذا لو تمكن المكلف من الاتيان بهما في الخارج فلا يقعان على صفة المطلوبية، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الأهم دون المهم،والمفروض أنّ المكلف قادر على الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم،فإذا كان قادراً فلا مانع من تعلّق التكليف به على هذا التقدير،فانّ المانع عن طلب الجمع هو عدم القدرة، وحيث لم يكن المطلوب هو الجمع فلا مانع أصلاً.
وعلى ضوء هذه النتائج تترتب نتيجة حتمية،وهي إمكان الترتب،وأ نّه لا مناص من الالتزام به،بل نقول:إنّ من انضمام تلك النتائج بعضها مع بعضها الآخر وملاحظة المجموع بصورة موضوعية يستنتج أنّ مسألة إمكان الترتب من الواضحات الأوّلية،وأ نّها غير قابلة للانكار،بحيث إنّ تصوّرها-بعد ملاحظة ما ذكرناه-يلازم تصديقها كما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من إمكان تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب وعدم لزوم طلب الجمع بينهما فيما إذا كان خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه،إنّما هو من جهة أنّ هذا التقييد هادم لموضوع طلب الجمع ومناقض له،لا من جهة أنّ العصيان أمر اختياري وتعليق طلب الجمع على أمر اختياري لا مانع منه،بداهة أنّ طلب الجمع محال مطلقاً ولو كان معلّقاً على أمر يمكن رفعه،وعدم إيجاده في الخارج،فلا فرق في استحالة طلب إيجاد الضدّين معاً أو النقيضين بين أن يكون مطلقاً،وأن يكون معلّقاً على أمر اختياري،كأن يقول الآمر إذا صعدت السطح مثلاً،فاجمع بين الضدّين أو النقيضين،أو إذا سافرت فاجمع بينهما إلى غير ذلك،فانّ استحالة طلب المحال وقبحه-ولو مشروطاً بشرط يكون وجوده وعدمه تحت اختيار المكلف-من الضروريات الأوّلية.
وأمّا ما نسب إلى السيد العلّامة الميرزا الكبير الشيرازي (قدس سره) من أ نّه اعترف بأنّ الترتب وإن استلزم طلب الجمع،إلّاأ نّه لا محذور فيه بعد ما كان عصيان الأهم الذي هو مأخوذ في موضوع المهم تحت اختيار المكلف، لتمكنه من الفرار عن هذا المحذور بترك العصيان والاتيان بالأهم،فلا يخلو ما في هذه النسبة،ضرورة أنّ صدور مثل هذا الكلام عنه (قدس سره) في غاية البعد،فانّه من عمدة مؤسسي الترتب في الجملة،فكيف يعترف بهذا المحذور.
ومن هنا قال شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّ هذه النسبة ليست مطابقة للواقع،بل يستحيل صدور ذلك منه (قدس سره) ولعلّه تعرّض لمناسبة أنّ العصيان أمر اختياري فتوهم المتوهم منه أ نّه أراد به تصحيح الترتب 1.والأمر كما أفاده (قدس سره).
هذا تمام كلامنا في أدلة الترتب.
بقي هنا شيء تعرّض له شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لتوضيح محل البحث في المقام ولا بأس بعطف الكلام عليه.
فنقول:قد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2أنّ الأمرين المتعلقين بفعلين إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً على قسمين:
الأوّل:أن لا يكون أحد الخطابين المجتمعين في الزمان ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر وهدمه.
الثاني:أن يكون أحدهما ناظراً إلى رفع موضوع الآخر.
أمّا القسم الأوّل: فالشرط الذي يترتب عليه الخطاب والأمر لا يخلو من أن يكون اختيارياً كالسفر والحضر وقصد الاقامة وما شاكل ذلك،وأن يكون غير اختياري كزوال الشمس وغروبها وكسوفها وخسوف القمر وما يشبهها، وعلى كلا التقديرين فعند تحقق الشرط يصير كلا الخطابين فعلياً،وحينئذ فان كان كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بمتعلق الآخر،أو كان أحدهما مشروطاً بذلك دون الآخر،فلا شبهة في استحالة وقوع متعلقيهما في الخارج على صفة المطلوبية،وتعلّق الطلب بالجمع بينهما،وذلك على ضوء ما بيّناه من أنّ اجتماع
الأمرين كذلك لا يرجع إلى طلب الجمع بل يناقضه.
وأمّا إذا كانا مطلقين من هذه الناحية،فعندئذ إن لم يكن بين متعلقيهما تضاد في الوجود الخارجي،وتمكن المكلف من إيقاعهما في الخارج وإيجادهما فيه،فلا إشكال في وجوبه.وأمّا إن كانت بينهما مضادة في عالم الوجود فيدخلان في كبرى باب التزاحم وتجري عليهما أحكامه من تقييد إطلاق كل واحد منهما بعدم الاتيان بالآخر إذا لم يكن في البين أهم،وإلّا يتعين تقييد إطلاق خطاب المهم بعدم الاتيان بالأهم دون العكس،ولا يلزم فيه محذور طلب الجمع ونحوه كما سبق.
ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط المزبور اختيارياً أو غير اختياري، وذلك لما عرفت من أنّ الحكم لا يقتضي وجود شرطه في الخارج.إذن كونه اختيارياً لا أثر له من هذه الناحية.
وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر،فهو على نحوين:
أحدهما:ما إذا كان أحد الخطابين رافعاً لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله وإتيانه في الخارج.
ثانيهما:ما إذا كان رافعاً له بصرف وجوده وتحققه في الخارج.
أمّا النحو الأوّل: فهو من محل الكلام هنا جوازاً وامتناعاً،باعتبار أنّ توجه خطابين كذلك إلى شخص واحد في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج كما تخيله المنكرون للترتب،أو لا يستلزم ذلك كما هو الصحيح؟ وقد تقدّم الكلام في هذا النحو من الخطابين ضمن عدّة من الفروعات الفقهية بصورة مفصّلة،فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا النحو الثاني: وهو ما إذا كان الخطاب بصرف وجوده رافعاً لموضوع
الآخر،فهو خارج عن محل البحث والكلام،وذلك لامتناع اجتماع الخطابين حينئذ في زمان واحد،إذ المفروض أ نّه بمجرد تحقق أحد الخطابين يرتفع الخطاب الآخر بارتفاع موضوعه،فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد، بداهة أنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه،ومن الواضح أ نّها مستحيلة في فرض وجود الرافع لموضوعه،فيكون المقام نظير الأمارات القائمة في موارد الاُصول،فانّها رافعة لموضوعها،ولا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها،وقد عرفت أنّ محل البحث هنا هو ما إذا كان الخطابان مجتمعين في زمان واحد،وأمّا إذا لم يكونا مجتمعين فيه،فلا يكونان داخلين في محل البحث،وقد ذكر (قدس سره) لذلك فروعاً كثيرة:
1-مسألة الحج: ببيان أنّ موضوعها-وهو الاستطاعة-يرتفع بصرف تحقق خطاب آخر وهو الخطاب بأداء الدين مثلاً،فانّه بمحض وجوده رافع لموضوع الخطاب بالحج،ومعه لا يكون المكلف مستطيعاً إذا لم يكن المال الموجود عنده وافياً بأداء الدين ومصارف الحج معاً،نعم هو وافٍ بالمصارف وحدها،فلو لم يكن مديوناً لكان مستطيعاً وكان الحج واجباً عليه،ولكن دينه مانع عن وجوبه ورافع لموضوعه،وعليه فلو لم يؤدّ دينه وعصى أمره وحج،فلا يكون حجه من حجة الاسلام،ولا يكون مجزئاً،لعدم جريان الترتب في ذلك.
وعلى الجملة:فهذا خارج عن محل الكلام في المقام،لعدم امكان اجتماع الخطاب بأداء الدين والخطاب بالحج في زمان واحد،ففي زمان تحقق الخطاب بأداء الدين يرتفع موضوع الخطاب بالحج،والمفروض أنّ الخطاب بأداء الدين في زمان عصيانه وترك متعلقه أيضاً موجود،لما سبق مفصّلاً من أنّ التكليف ثابت في حال عصيانه أيضاً.وعلى هذا فلا يمكن فرض وجود الخطاب بالحج
مترتباً على عصيان الأمر بأداء الدين.هذا بناءً على ما هو المعروف من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً.
وأمّا بناءً على تفسيرها بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق كما في الرواية 1– وهو الصحيح-فالتكليفان متزاحمان ولا مانع من اجتماعهما على نحو الترتب،فانّه عند عصيان الأمر بأداء الدين متمكن من الزاد والراحلة، وعندئذ فلا مانع من وجوب الحج عليه،بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه.
2- إنّ الخطاب باخراج الخمس في بعض الموارد بصرف وجوده وتحققه رافع لموضوع وجوب الزكاة ومانع عنه،وذلك كما إذا فرضنا أنّ شخصاً ملك عشرين شاة في أوّل محرّم مثلاً،ثمّ ملك عشرين شاة اخرى في آخره،فإذا مضى على الطائفة الاُولى حول كامل تعلّق الخطاب باخراج الخمس منها،وهو أربع من تلك الشياه.ومن المعلوم أنّ هذا الخطاب بصرف وجوده مانع عن وجوب الزكاة ورافع لموضوعه وهو بلوغها حدّ النصاب-أعني به أربعين شاة-فان هذه الأربعة عندئذ صارت ملكاً للإمام (عليه السلام) والسادة،فلم يبق في ملك المالك إلّاست وثلاثون شاة،وهي غير بالغة حدّ النصاب الذي هو موضوع لوجوب إخراج الزكاة.
أو إذا فرضنا أ نّه ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة من الأرباح،فعندئذ لا محالة بمجرد إكمال سنة التجارة،وقبل تمامية حول الزكاة تعلّق الخطاب بإخراج الخمس منها،الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة الإمام (عليه السلام) والسادة إيّاه في ذلك المال-أعني به الشياه-ومن الواضح أ نّها بذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة،إذ لم يبق في ملكه الطلق بعد خروج ثمان
منها إلّااثنتان وثلاثون شاة،وهي لا تبلغ حدّ النصاب،ففي هذا المثال وما شاكله لا يمكن القول بالترتب،إذ الخطاب بإخراج الخمس بصرف تحققه وفعليته مانع عن وجوب الزكاة ورافع لموضوعه،لا بامتثاله وإتيانه في الخارج،ليمكن الالتزام بوجوب الزكاة في ظرف عصيان الخطاب بالخمس وعدم امتثاله.
وعلى الجملة:ففعلية الخطاب باخراج الزكاة إنّما هي بفعلية موضوعه،وهو بلوغ المال النصاب،وهذا المال وإن كان في نفسه داخلاً في النصاب مع قطع النظر عن وجوب إخراج الخمس منه،إلّاأنّ وجوب ذلك مخرج له عن كونه ملكاً تاماً له بمشاركة الإمام (عليه السلام) والسادة إيّاه في ذلك المال،فبذلك يخرج عن موضوع وجوب الزكاة.وأمّا الباقي في ملكه فليس يبلغ حدّ النصاب، هذا بناءً على ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الرافع لموضوع وجوب الزكاة في مثل هذا المورد صرف تحقق الخطاب باخراج الخمس وفعليته.
وأمّا بناءً على ما حققناه في محلّه،فالأمر ليس كما أفاده (قدس سره) والوجه في ذلك:هو أنّ الترتب وإن كان غير جارٍ بين هذين الخطابين وما شاكلهما، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بل لأجل ما ذكرناه من أنّ الرافع لموضوع وجوب الزكاة إنّما هو تعلّق الخمس بالربح،وكون غير المالك شريكاً معه في خمس هذا المال،وبذلك يخرج عن كونه ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إيّاه في ذلك،فعندئذ يخرج عن موضوع وجوب الزكاة،لفرض عدم بلوغ الباقي في ملكه حدّ النصاب،هذا من جهة.
ومن جهة اخرى:أنّ المفروض-كما حقق في محلّه 1– أنّ الخمس إنّما تعلّق
بالربح من حين وجوده،ولا يتوقف تعلقه به على إكمال سنة التجارة،غاية الأمر أنّ الشارع قد رخّص المالك في التصرف في الأرباح إلى حين إكمال السنة، وهذا مجرد ترخيص في التصرف من قبل الشارع في المال المشترك بينه وبين غيره،فلا ينافي كون خمسها ملكاً للغير.
فالنتيجة على ضوء هاتين الجهتين:هي أنّ موضوع وجوب الزكاة يرتفع من حين تعلّق الخمس بها،وهو أوّل زمان تحققها وحصولها في الخارج،سواء أتحقق الخطاب باخراج الخمس في ذلك الزمان أم لم يتحقق،فانّه لا دخل لتحقق الخطاب وفعليته في ذلك أبداً،مثلاً في المثالين المتقدمين بمجرد أنّ المالك ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة أو عشرين شاة،تعلّق بها الخمس الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إيّاه فيها،فبذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة،ضرورة أ نّه بعد صيرورة أربع منها في المثال الأوّل، وثمان منها في المثال الثاني ملكاً لغير المالك،لم يبق في ملكه ما يبلغ حدّ النصاب، فيرتفع الموضوع من زمان حصول ذلك الربح وهو زمان ملك المالك أربعين أو عشرين شاة،ولا يتوقف ارتفاعه على وجود الخطاب وتحققه أصلاً،بداهة أنّ الموجب لارتفاعه إنّما هو صيرورة خمس تلك الأرباح ملكاً لغير المالك،فانّه يمنع عن بلوغها حدّ النصاب،لا وجود الخطاب،إذ الالزام بالاخراج إنّما يتحقق بعد مضي الحول وتمام السنة.نعم،يستحبّ الاخراج من زمان الربح لا أ نّه واجب.
3- ما إذا تعلّق الخطاب باخراج شيء زكاة،فانّه في بعض الموارد بنفسه وبصرف وجوده مانع عن وجوب الخمس ورافع لموضوعه،وذلك كثيراً ما يتفق في الغلات الأربع،كما إذا ملك المكلف أثناء سنة التجارة من الغلّات
مقداراً يبلغ حدّ النصاب فوجب عليه إخراج زكاته،وهي مقدار عشر هذا المال مثلاً،فيخرج بذلك هذا العشر عن فاضل المؤونة الذي هو موضوع وجوب الخمس.
أو فقل: إنّ تعلّق الخطاب باخراج الزكاة عن ذلك المال يخرجه عن كونه ملكاً طلقاً له بمشاركة الفقير إيّاه في عشر ذلك،وعليه فلا يكون عشره من فاضل مؤونته ليتعلق به الخمس.ولا يفرق في عدم تعلّق الخمس به بين أن يخرجه ويعطي للفقير أم لا،فلا يمكن اجتماع هذين الخطابين في زمان واحد ليمكن تصحيح وجوب الخمس بالترتب.هذا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا بناءً على وجهة نظرنا فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الرافع للموضوع في أمثال هذا المورد ليس الخطاب بصرف وجوده وتحققه،بل الرافع له هنا هو نفس تعلّق الزكاة بعين هذا المال الموجب لخروجه عن كونه ملكاً تاماً له بمشاركة الفقير إيّاه في ذلك المال،فبذلك يخرج عشره عن فاضل المؤونة من جهة أ نّه صار ملكاً لغيره،ومن الواضح جداً أ نّه لا دخل في ذلك لوجود الخطاب باخراج الزكاة وعدم وجوده أصلاً،وهذا بمكان من الوضوح.
4- ما إذا كان المكلف مديوناً بدين صرفه في مؤونة سنته،فالخطاب بأدائه بصرف تحققه وفي نفسه يخرج ربح هذه السنة عن عنوان فاضل المؤونة إن كان دينه مستوعباً لتمام الربح،كما إذا كان مائة دينار وربحه أيضاً كذلك،وإن لم يكن مستوعباً لتمامه كما إذا كان دينه خمسين ديناراً وربحه في تلك السنة مائة دينار،فيخرج عن الربح بمقدار الدين عن فاضل المؤونة،فلا يتعلق به الخمس دون الزائد،وعلى هذا لو عصى الأمر بأداء الدين ولم يؤدّ دينه فلا يجب عليه إخراج الخمس عنه بمقدار دينه،هذا بناءً على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
والصحيح أنّ الرافع لموضوع وجوب الخمس هنا إنّما هو نفس وجوب الدين،إذ معه لا يتحقق له في هذه السنة ربح ليتعلق به الخمس،لا الخطاب بأدائه،فانّه لا دخل له في ذلك أصلاً،ولذا لو فرض أ نّه لم يكن خطاب بأدائه لمانع من الموانع لم يتعلق به الخمس أيضاً،لعدم الموضوع له،وهو الفاضل عن مؤونة السنة.هذا إذا كان دينه من جهة الصرف في المؤونة.وأمّا إذا كان دينه من غير تلك الجهة،كما إذا كان من ناحية الضمان أو نحوه،فهل هو أيضاً رافع لموضوع وجوب الخمس أم لا،ففيه كلام وإشكال،وتمام الكلام في باب الخمس 1إن شاء اللّٰه تعالى.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه:أنّ هذه الفروعات وما شاكلها جميعاً خارجة عن محل الكلام في المسألة،ولا يجري الترتب في شيء منها،ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ عدم جريانه من جهة أنّ أحد الخطابين رافع لموضوع الخطاب الآخر بصرف وجوده وتحققه،فلا يمكن اجتماعهما في زمان واحد،بل لما ذكرناه من أنّ الرافع له شيء آخر،وهو المانع عن اجتماعهما في زمان واحد،ولا دخل لوجود الخطاب وعدمه في ذلك أبداً.
نعم،ما ذكره (قدس سره) بالاضافة إلى الأمارات وأ نّها رافعة لموضوع الاُصول وأ نّه لا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها صحيح،بل لا يختص هذا بالأمارات والاُصول،فيعم جميع موارد الحكومة والورود،إذ لا يبقى موضوع لدليل المحكوم والمورود بعد ورود دليل الحاكم والوارد،ولكن قياس هذه الفروعات بتلك الموارد قياس مع الفارق.
ونتائج أبحاث الترتب إلى هنا عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ البحث عن الترتب إنّما يكون ذا ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة المزاحمة لواجب أهم بالأمر ولا بالملاك،وإلّا فلا تترتب على البحث عنه ثمرة كما عرفت.
الثانية: أنّ البحث عن هذه المسألة بحث عقلي لا يرتبط بعالم اللفظ أبداً.
الثالثة: أنّ ما كان محلاً للبحث هو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان مضيّقين، أحدهما أهم من الآخر،وأمّا إذا كانا موسّعين،أو كان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّقاً،فقد سبق أنّ هاتين الصورتين خارجتان عن محل البحث والكلام.
نعم،ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ الصورة الأخيرة داخلة في محل الكلام.ولكن قد عرفت أنّ ما ذكره إنّما يتم على مسلكه (قدس سره) لا مطلقاً، كما تقدّم تفصيلاً.
الرابعة: أنّ إمكان الترتب كافٍ لوقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل، فالبحث فيه متمحض في جهة إمكانه.
الخامسة: أنّ الترتب لا يجري في أجزاء واجب واحد وشرائطه،فإذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاُولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية مثلاً فلا يجري الترتب فيه،لعدم كونهما من المتزاحمين ليترتب عليهما أحكامهما ومنها الترتب.نعم،ذكر جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ التزاحم يجري بينهما كما يجري بين واجبين نفسيين،ولكن قد عرفت فساد ذلك.
السادسة: أ نّه لا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على نحو الترتب على إحراز الملاك فيه،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد أنكر جريانه فيما لم يحرز كونه واجداً للملاك،وقلنا إنّ الترتب لا يتوقف على ذلك،والأصل فيه ما تقدّم من أ نّه لا يمكن إحراز الملاك في شيء مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به، من دون فرق في ذلك بين اعتبار القدرة في موضوع التكليف عقلاً أو شرعاً.
السابعة: أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين ما إذا كانت القدرة معتبرة في موضوع التكليف بالمهم عقلاً،وما إذا كانت معتبرة فيه شرعاً كما في الوضوء، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث منع عن جريان الترتب في الثاني بدعوى أنّ نفس التكليف بالأهم رافع لموضوع وجوب الوضوء لا امتثاله، ولكن قد عرفت فساده،وأنّ نفس التكليف بالأهم لا يكون رافعاً لموضوعه، لفرض أنّ التصرف في الماء الموجود عنده مباح وليس بحرام،غاية الأمر يجب صرفه في واجب أهم كحفظ النفس المحترمة أو نحوه،ولكن المكلف عصى ولم يصرفه فيه.إذن يكون المكلف واجداً للماء ولا مانع من صرفه في الوضوء لا عقلاً كما هو واضح،ولا شرعاً لأنّ التصرّف في هذا الماء مباح له على الفرض، والعصيان إنّما هو من جهة ترك ذلك الواجب،لا من جهة التصرف فيه،وعليه فعلى القول بامكان الترتب لا مانع من الالتزام به في مثل المقام.نعم،لو كان التصرف في الماء في نفسه حراماً فلا يمكن تصحيح الوضوء بالترتب،لأنّ نفس الحرمة رافعة لموضوع وجوبه لا امتثالها.
الثامنة: أنّ ما دلّ على إمكان الترتب امور ثلاثة:الوجدان،الدليل الإنّي الدليل اللمي.
التاسعة: أنّ الترتب قد وقع في عدّة من الفروعات الفقهية ولا مناص من الالتزام به في تلك الفروعات،كما تقدّمت جملة منها فلاحظها.
العاشرة: أنّ الواجب الأهم إذا كان آنيّاً غير قابل للدوام والبقاء،وكان الواجب المهم تدريجياً قابلاً لذلك،فلا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على القول بامكان الترتب،ولذا قلنا إنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام،فان ما كان محلاً للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم مع قطع النظر عن القول بالترتب.
الحادية عشرة: أنّ محل الكلام هو ما إذا كان كل من الواجب الأهم والمهم تدريجياً أو كان كلاهما آنياً.
الثانية عشرة: أنّ شرط فعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم مستمراً إلى آخر أزمنة امتثال الأمر بالمهم على نحو الشرط المتأخر،لا صرف وجود عصيانه في الآن الأوّل،وإن تبدل بالاطاعة في الآن الثاني،فانّ هذا لا يدفع محذور طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث كما تقدّم.
الثالثة عشرة: أنّ زمان المعتبر والمجعول-وهو زمان فعلية الحكم بفعلية موضوعه-دائماً متحد مع زمان الواجب،وهو زمان عصيانه وامتثاله،بناءً على القول باستحالة الواجب المعلّق والشرط المتأخر،وأمّا بناءً على القول بامكانهما-كما هو الصحيح-فلا مانع من أن يكون زمان المعتبر مقدّماً على زمان الواجب كما سبق.
الرابعة عشرة: أ نّه لا فرق في القول بامكان الترتب واستحالته بين القول بامكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما،فان ملاك الامكان والاستحالة في الترتب شيء وهناك شيء آخر كما عرفت.
الخامسة عشرة: أنّ الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وامتثاله،كما أ نّه ثابت حال الأمر بالمهم على ما تقدّم.
السادسة عشرة: أنّ ثبوت الأمر بالأهم في حالي عصيانه وامتثاله إنّما هو بالاطلاق على وجهة نظرنا ومن جهة ثبوت المؤثر حال تأثيره على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
السابعة عشرة: أنّ اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لايستلزم طلب الجمع،بل هو يناقضه ويعانده بملاك تقييد مطلوبية المهم بترك الأهم،
وقد تقدّم أنّ اقتضاء اجتماع الأمرين للجمع بين متعلقيهما في الخارج يتصور في صور،وما نحن فيه ليس بشيء منها.
الثامنة عشرة: أنّ النقطة التي ينطلق منها إمكان الترتب بل ضرورته هي أ نّه لا تنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم في ذاتهما،مع قطع النظر عن اقتضائهما للاتيان بمتعلقيهما،فالمنافاة إنّما هي بين متعلقيهما من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما،ومن الواضح أنّ هذه المنافاة ترتفع بتقييد فعلية الأمر بالمهم بترك الأهم وعصيان أمره،مع عدم اقتضائه لعصيانه وتركه،لما عرفت من استحالة اقتضاء الحكم لوجود موضوعه في الخارج،وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم أصلاً،لا بالذات كما عرفت،ولا باعتبار اقتضائهما لمتعلقيهما،فان متعلق الأمر بالأهم مطلوب على الاطلاق وليس في عرضه مطلوب آخر ليزاحمه،وعلى تقدير تركه وعدم الاتيان به فالمهم حينئذ مطلوب،والمفروض أ نّه في هذا الظرف مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً،فإذا كان كذلك فلا مانع من تعلّق الأمر به،وليس فيه تكليف بالمحال والجمع أبداً، ومجرد ثبوت الأمر بالأهم في هذا الحال لا ينافيه لا ذاتاً ولا اقتضاءً،ولعلّ المنكرين للترتب لم ينظروا إلى هذه النقطة نظرة عميقة صحيحة،بل نظروا إليها نظرة سطحية،وتخيّلوا أنّ اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد غير معقول.وكيف ما كان فامكان الترتب على ضوء بياننا هذا قد أصبح أمراً ضرورياً،فلا مناص من الالتزام به أصلاً.
التاسعة عشرة: أ نّه لا تنافي ولا تزاحم بين الملاك القائم بالمهم في ظرف ترك الأهم وعصيان أمره،والملاك القائم بالأهم على وجه الاطلاق،كما أ نّه لا تنافي بين إرادة المهم في هذا الظرف وإرادة الأهم على الاطلاق كما عرفت.
العشرون: أنّ الخطاب الناظر إلى موضوع خطاب آخر على قسمين:
أحدهما:ما كان رافعاً لموضوعه بصرف وجوده وتحققه،وقد مثّل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لذلك بفروع كثيرة،ولكن قد عرفت أنّ الرافع للموضوع في تلك الفروعات ليس هو صرف وجود الخطاب،بل الرافع له شيء آخر كما عرفت.
وثانيهما:ما كان رافعاً له بامتثاله والاتيان بمتعلقه،وقد تقدّم أنّ القسم الأوّل خارج عن محل الكلام،ولا يمكن فيه فرض الترتب،والقسم الثاني داخل فيه.
الأوّل: ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصّه:
قلت:ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آتٍ في طلبهما كذلك،فانّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما،إلّاأ نّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما،بداهة فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص،أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضاً،لتحقق ما هو شرط فعليته فرضاً.
لا يقال: نعم،لكنّه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار، فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلّاالطلب بالأهم،ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.
فانّه يقال: استحالة طلب الضدّين ليست إلّالأجل استحالة طلب المحال، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال،وإلّا لصحّ فيما علّق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب،مع أ نّه محال بلا ريب ولا إشكال.
إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك،فانّ الطلب في كل منهما في الأوّل يطارد الآخر،بخلافه في الثاني فانّ الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم،فانّه يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم،فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره.
قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم،وهل يكون طرده له إلّا من جهة فعليته ومضادّة متعلقه له 1.وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده،لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره،فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين،مع أ نّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم،فانّه على هذا الحال يكون طارداً لطلب الضد-كما كان في غير هذا الحال-فلا يكون له معه أصلاً بمجال 2.
أقول: ملخص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان واحد كما هو المفروض في محل الكلام،يقتضي الجمع بينهما في ذلك الزمان،لما عرفت من أنّ نسبة الحكم إلى متعلقه نسبة المقتضي إلى مقتضاه في الخارج،وعلى هذا فكما أنّ الأمر بالأهم يقتضي ايجاد متعلقه في الزمان المزبور،فكذلك الأمر بالمهم يقتضي إيجاده فيه،لفرض كونه فعلياً في ذلك الزمان،إذ لا معنى لفعلية الأمر في زمان إلّااقتضاءه إيجاد متعلقه فيه خارجاً ودعوته إليه فعلاً،وعلى هذا فلا محالة يلزم من اجتماعهما في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان من جهة مضادة متعلقيهما في الوجود،مع أنّ الأمر بالمهم لو لم يقتض طرد الأهم فالأمر به لا محالة يقتضي طرد الأمر بالمهم،وهذا يكفي في استحالة طلبه.
وغير خفي أنّ صدور هذا الكلام منه (قدس سره) غريب،والوجه في ذلك:
هو أ نّه لا يعقل أن يكون الأمر بالمهم طارداً للأمر بالأهم،بداهة أنّ طرده له
يبتني على أحد تقديرين لا ثالث لهما.
أحدهما:أن يكون الأمر بالمهم مطلقاً وفي عرض الأمر بالأهم،فحينئذ لا محالة تقع المطاردة بينهما من ناحية مضادة متعلقيهما،وعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما.
الثاني:أن يكون الأمر به على تقدير تقييده بعصيان الأهم مقتضياً لعصيانه وتركه في الخارج،فعندئذ تقع المطاردة والمزاحمة بين الأمرين لا محالة باعتبار أنّ الأمر بالمهم يقتضي عصيان الأهم وترك متعلقه،والأمر بالأهم يقتضي هدم عصيانه ورفعه.
ولكن كلا التقديرين خلاف مفروض الكلام.
أمّا الأوّل:فواضح،لما عرفت من أنّ محل الكلام فيما إذا كان الأمر بالمهم مقيداً بحال ترك الأهم وعصيان أمره فلا يكون مطلقاً.
وأمّا الثاني:فلما تقدّم من أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه في الخارج،وناظراً إليه رفعاً ووضعاً.
وعلى ضوء هذا فالأمر بالمهم بما أ نّه لا يكون مطلقاً،ولا يكون متعرضاً لحال موضوعه وهو عصيان الأهم،بل هو ثابت على تقدير تحقق موضوعه ووجوده،فيستحيل أن يكون طارداً للأمر بالأهم ومنافياً له،فانّه لا اقتضاء له بالاضافة إلى حالتي وجوده وعدمه،ومن الواضح جداً أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يزاحم ما فيه الاقتضاء.
أو فقل:إنّ اقتضاء الأمر بالمهم لاتيان متعلقه إنّما هو على تقدير ترك الأهم وعصيان أمره،واقتضاؤه على هذا التقدير لا ينافي اقتضاء الأمر بالأهم أصلاً، ولا يكون الاتيان بمتعلقه في هذا الحال مزاحماً بأيّ شيء،غاية ما في الباب أنّ
المكلف من جهة سوء سريرته عصى الأمر بالأهم ولم يعمل بمقتضاه،فلا يكون عصيانه مستنداً إلى مزاحمة الأمر بالمهم،كيف فانّ الأمر به قد تحقق في فرض عصيانه وتقدير وجوده،فلا يعقل أن يكون عصيانه مستنداً إليه،بل هو مستند إلى اختيار المكلف إيّاه،وعند ذلك-أي اختيار المكلف عصيانه وترك متعلقه-يتحقق الأمر بالمهم.وعليه فلا يمكن أن يكون مثل هذا الأمر طارداً ومزاحماً له،فالطرد من جانب الأمر بالمهم غير معقول،فإذن المطاردة من الجانبين غير متحققة.
وأمّا الطرد من جانب الأمر بالأهم فحسب فهو أيضاً غير متحقق،والوجه في ذلك:هو أنّ الأمر بالأهم إنّما يطارد الأمر بالمهم فيما إذا فرض كونه ناظراً إلى متعلقه ومستدعياً لهدمه،فحينئذ لا محالة يكون طارداً له باعتبار أ نّه يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج،وذاك يقتضي هدمه،وبما أ نّه أهم فيطارده، ولكنّ الفرض أ نّه غير ناظر إليه،وإنّما هو ناظر إلى موضوعه ومقتضٍ لرفعه.
وعلى هذا فلا تنافي بينهما أصلاً ليكون الأمر بالأهم طارداً للأمر بالمهم،إذ المفروض أنّ الأمر بالمهم لا يقتضي وجود موضوعه في الخارج وغير متعرض لحاله أصلاً لا وجوداً ولا عدماً،ومعه كيف يكون الأمر بالأهم طارداً له، بداهة أنّ الطرد لا يتصور إلّافي مورد المزاحمة،ولا مزاحمة بين ما لا اقتضاء فيه بالاضافة إلى شيء أصلاً وما فيه اقتضاء بالاضافة إليه.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام لا يرجع إلى معنىً معقول.
نعم،ما أفاده (قدس سره) من أنّ استحالة طلب المحال لا تختص بحال دون حال متين جداً كما تعرضنا له آنفاً،إلّاأ نّه أجنبي عن محل الكلام بالكلية.
الثاني: أيضاً ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك لفظه:
ثمّ إنّه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين،ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) لا يلتزم به على ما هو ببالي وكنّا نورد به على الترتب وكان بصدد تصحيحه 1.
أقول: توضيح ما أفاده (قدس سره) هو أنّ غرضه من ذلك بيان نفي القول بالترتب بطريق الإن بتقريب:أ نّا لو سلّمنا أ نّه لا يلزم من فعلية خطاب المهم وخطاب الأهم في زمان واحد على نحو الترتب طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج،بل قلنا إنّ ترتب أحد الخطابين على عصيان الخطاب الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه يناقض طلب الجمع ويعانده،إلّاأ نّه لا يمكن الالتزام بما هو لازم للقول بالترتب وهو تعدد العقاب عند ترك المكلف امتثال كلا الواجبين معاً-أعني الواجب الأهم والمهم-ضرورة أنّ العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف قبيح بحكم العقل،وبما أنّ المفروض في المقام استحالة الجمع بين متعلقيهما خارجاً من جهة مضادتهما،فكيف يمكن العقاب على تركهما،أليس هذا من العقاب على ترك ما هو خارج عن قدرة المكلف واختياره.
وعلى هذا،فلا مناص من الالتزام بعدم تعدد العقاب وأنّ تارك الأهم والمهم معاً يستحق عقاباً واحداً،وهو العقاب على ترك الأهم دون ترك المهم، وهو يلازم انكار الترتب وعدم تعلق أمر مولوي إلزامي بالمهم،وإن كان في الخارج أمر إنشائي،فهو إرشاد إلى كونه واجداً للملاك والمحبوبية في هذه الحال، ضرورة أ نّه لا معنى للالتزام بوجود الأمر المولوي الالزامي وعدم ترتب استحقاق العقاب على مخالفته،لاستحالة تفكيك الأثر عن المؤثر.
أو فقل:إنّ القائل بالترتب لا يخلو من أحد أمرين:إمّا أن يلتزم بتعدد العقاب.وإمّا أن لا يلتزم به.فالأوّل يستلزم العقاب على أمر غير مقدور وهو محال.والثاني يستلزم انكار الترتب.فبالنتيجة أ نّه لا يمكن القول بالترتب أصلاً،بل لا مناص من الالتزام باستحالته من جهة استحالة ما يترتب عليه.
وغير خفي ما فيه من الخلط بين أن يكون العقاب على ترك الجمع بين الواجبين-أعني بهما الواجب الأهم والمهم-وأن يكون العقاب على الجمع في الترك،بمعنى أ نّه يعاقب على ترك كل منهما في حال ترك الآخر،فانّ المستحيل إنّما هو العقاب على الأوّل،حيث إنّ الجمع بينهما من جهة تضادهما في الخارج غير ممكن وخارج عن قدرة المكلف واختياره،فالعقاب على تركه لا محالة يكون عقاباً على أمر غير مقدور وهو محال،إلّاأنّ القائل بالترتب لا يقول باستحقاق العقاب على ذلك ليقال إنّه محال،فانّ القائل به إنّما يقول باستحقاق العقاب على الفرض الثاني-وهو الجمع بين تركي الأهم والمهم خارجاً-وهو مقدور للمكلف،فلا يكون العقاب عليه عقاباً على غير مقدور.
والوجه في ذلك: هو أنّ الأمر في المقام لم يتعلّق بالجمع بينهما ليقال باستحالة العقاب على تركه من جهة استحالة طلب الجمع بينهما،بل الأمر تعلق بذات كل واحد منهما مع قطع النظر عن الآخر،ولا يرتبط أحدهما بالآخر في مقام الجعل والتعلق،غاية الأمر قد وقعت المزاحمة بينهما في مقام الامتثال والفعلية، وبما أنّ المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في مقام الامتثال قيّدنا فعلية الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه.
ونتيجة ذلك:هي أنّ الأهم مطلوب على وجه الاطلاق والمهم مطلوب في ظرف ترك الأهم وعصيانه،وقد سبق أنّ ذلك يناقض طلب الجمع ويعانده،لا أ نّه يستلزمه.
وعلى هذا،فكل منهما مقدور للمكلف على نحو الترتب،فانّه عند إعمال قدرته في فعل الأهم وامتثاله،لا أمر بالمهم،والمفروض أ نّه في هذا الحال قادر على فعل الأهم تكويناً وتشريعاً،وعندئذ لا يكون العقاب على تركه وعصيان أمره عقاباً على ما لا يقدر.
وأمّا مع عدم إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم،وحينئذ لو تركه وعصى أمره فلا مانع من العقاب عليه،إذ المفروض أ نّه مقدور في هذا الحال، وهذا معنى الجمع بين تركي الواجبين والعصيانين-ترك المهم عند ترك الأهم وعصيانه عند عصيانه-وحيث إنّه باختيار المكلف فيستحق عقابين،عقاباً على ترك الواجب الأهم وعقاباً على ترك الواجب المهم.
ومن ذلك يستبين أنّ الالتزام بجواز الترتب يستلزم الالتزام بجواز تعدد العقاب،ولا يلزم من الالتزام به-الترتب-كون العقاب عند مخالفة الأمرين من العقاب على أمر مستحيل،ضرورة أنّ معنى إمكان الترتب هو جواز تعلق الأمر بالأهم على وجه الاطلاق،وبالمهم مقيداً بعصيان الأهم،لفرض أ نّهما على هذا النحو مقدوران للمكلف،فإذا كانا مقدورين فلا محالة يستحق عقابين على تركهما في الخارج وعصيان الأمرين المتعلقين بهما،ولا يكون ذلك من العقاب على المحال،فانّ المحال وما لا يقدر عليه المكلف إنّما هو الجمع بين الضدّين في الخارج،لا الجمع بين تركيهما على نحو الترتب،فانّه بمكان من الوضوح،بداهة أنّ الانسان قادر على ترك القيام مثلاً عند تركه الجلوس أو بالعكس،وقادر على ترك إيجاد السواد مثلاً عند تركه إيجاد البياض وهكذا، وما لا يتمكن منه ولا يقدر عليه إنّما هو الجمع بين فعليهما خارجاً،فلا يقدر على إيجاد القيام عند وجود الجلوس،أو إيجاد السواد عند وجود البياض وهكذا.وسنبيّن إن شاء اللّٰه تعالى عند الفرق بين باب التزاحم والتعارض أنّ
التزاحم يختص بالضدّين اللّذين لهما ثالث،وأمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما فلا يمكن وقوع التزاحم بينهما،بل هما يدخلان في كبرى باب التعارض.
وعليه فمن الواضح جداً أنّ ترك كل من الضدّين لهما ثالث عند ترك الآخر مقدور،فلا مانع من العقاب عليه.
أو فقل:إنّ استحقاق العقاب على عصيان الأهم وتركه مورد تسالم من الكل،وإنّما الكلام في استحقاق العقاب على ترك المهم،مضافاً إلى استحقاق العقاب على ترك الأهم،ومن الضروري أنّ المهم في ظرف عصيان الأهم مقدور عقلاً وشرعاً،وإنّما لايكون مقدوراً في صورة واحدة وهي صورة الاتيان بالأهم-لا مطلقاً-وعليه فلا يكون العقاب على تركه محالاً.
والغفلة عن هذا أوجبت تخيل أ نّه على تقدير القول بامكان الترتب لا يمكن الالتزام بما هو لازمه من استحقاق عقوبتين في صورة مخالفة الأمرين،لأنّه عقاب على ما لا يقدر عليه المكلف-وهو الجمع بين الضدّين-غافلاً عن أنّ القول بامكان الترتب يرتكز على أساس يناقض طلب الجمع ويعانده.وعليه فكيف يمكن أن يقال إنّ القول بامكانه يستلزم كون العقاب على تركه-الجمع – ليقال إنّه محال،فلا يمكن الالتزام به،بل القول به يستلزم كون العقاب على عصيان الأهم على وجه الاطلاق،وعلى عصيان المهم في ظرف عصيان الأهم – لا مطلقاً-والمفروض أنّ كلا العصيانين على هذا الشكل مقدور للمكلف، فيستحق عقابين عليهما،ولا يكون ذلك من العقاب على غير المقدور.
نعم،لو كان القول بالترتب مستلزماً لطلب الجمع لكان العقاب على مخالفته قبيحاً،إلّاأ نّه على هذا لا يمكن الالتزام بأصل الترتب لتصل النوبة إلى التكلم عن إمكان الالتزام بما هو لازمه وعدم إمكانه به.
فالنتيجة قد أصبحت أنّ القول بامكان الترتب يستلزم ضرورة الالتزام
بتعدد العقاب في صورة مخالفة الأمرين،ولا يكون ذلك من العقاب على غير المقدور.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ القائل بالترتب لا يمكن أن يلتزم بما هو لازم له-وهو تعدد العقاب-لا يرجع إلى معنىً معقول أصلاً،ومنشؤه غفلته (قدس سره) عن تصور حقيقة الترتب وما هو أساس إمكانه وجوازه،وإلّا لم يقع في هذا الاشتباه،فان تعدّد العقاب فيما نحن فيه نظير تعدّده في الواجبات الكفائية، فان صدور واجب واحد من جميع المكلفين وإن كان مستحيلاً،إلّاأنّ تركه عند ترك الباقين مقدور له فلا مانع من العقاب عليه.
بل يمكن أن يقال: إنّ تعدد العقاب في صورة مخالفة المكلف وتركه الواجب الأهم والمهم معاً من المرتكزات في الأذهان،مثلاً إذا فرض وقوع المزاحمة بين صلاة الفريضة في آخر الوقت وصلاة الآيات،بحيث لو اشتغل المكلف بصلاة الآيات لفاتته فريضة الوقت،فعندئذ لو عصى المكلف الأمر بالصلاة ولم يأت بها فلا محالة يدور أمره بين أن يأتي بصلاة الآيات وأن يتركها،ومن الواضح جداً أ نّه إذا تركها في هذا الحال فتشهد المرتكزات العرفية على أ نّه يستحقّ العقوبة عليه أيضاً،فانّ المانع بنظرهم عن الاتيان بها هو الاتيان بفريضة الوقت.
وأمّا إذا ترك الفريضة فلا يجوز له أن يشتغل بفعل آخر ويترك الآيات،وبذلك نستكشف إمكان الترتب وإلّا لم يكن هذا المعنى مرتكزاً في أذهانهم.
الثالث: أنّ القول بالترتب بما أ نّه يبتني على فعلية كلا الأمرين في زمان واحد-أعني بهما الأمر بالأهم والأمر بالمهم-فلا محالة يستلزم طلب الجمع والمحال،ضرورة أ نّه لا معنى لكون الأمرين فعليين في زمان واحد إلّااقتضاءهما إيجاد متعلقيهما في ذلك الزمان،وهذا معنى طلب الجمع والتكليف بالمحال،ومن الظاهر أنّ مثل هذا التكليف لا يمكن جعله.
والوجه في ذلك: هو أنّ الغرض الداعي إلى جعل التكليف واعتباره على ذمة المكلف-سواء أكان التكليف وجوبياً أو تحريمياً-جعل الداعي له ليحرّك عضلاته نحو الفعل وينبعث منه،ومن الواضح البيّن أنّ جعل الداعي له وإيجاده في نفسه لتحريك عضلاته إنّما يمكن فيما إذا كان الفعل في نفسه ممكناً،ولا يلزم من فرض وقوعه في الخارج أو لا وقوعه فيه محال،فإذا كان الفعل ممكناً بالامكان الوقوعي أمكن حصول الانبعاث له أو الانزجار من بعث المولى المتعلق به أو زجره عنه.وأمّا إذا كان الفعل ممتنعاً وخارجاً عن قدرة المكلف واختياره فلا يمكن حصول الانبعاث أو الانزجار له من بعثه أو زجره،فإذا لم يمكن حصوله استحال البعث أو الزجر،فانّ الغرض منه كما عرفت إمكان داعويته،فإذا استحالت استحال جعله،لكون جعله عندئذ لغواً صرفاً فلا يصدر من الحكيم،لاستحالة تكليف العاجز.
وتترتب على هذا استحالة فعلية كلا الأمرين المزبورين في زمان واحد كما هو مبنى الترتب،وذلك لأنّ معنى فعليتهما في زمان واحد هو أنّ كليهما يدعو فعلاً إلى إيجاد متعلقيهما في الخارج في ذلك الزمان،وإلّا فلا معنى لكونهما فعليين، والحال أ نّك قد عرفت استحالة جعل الداعي بجعل التكليف نحو المحال وما لا يقدر عليه المكلف،وبما أنّ الجمع بين متعلقيهما في الخارج في زمان واحد محال،فلا يمكن أن يكون كلاهما داعياً في ذلك الزمان،لاستحالة حصول الداعي للمكلف وانبعاثه عنهما في زمان واحد،إذن يستحيل جعل كليهما في هذا الحال،لما مرّ من أنّ استحالة داعوية التكليف تستلزم استحالة جعله.
فالنتيجة:استحالة القول بالترتب،وأنّ المجعول في الواقع هو الأمر بالأهم دون الأمر بالمهم.
والجواب عنه: يظهر ممّا تقدّم وملخصه:هو أ نّه لا يلزم من اجتماع الأمرين
في زمان واحد طلب الجمع،ليستحيل داعوية كل منهما لايجاد متعلقه في هذا الزمان،والوجه فيه:هو أنّ الأمر بالمهم بما أ نّه كان مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه خارجاً،فلا نظر له إلى عصيانه رفعاً ووضعاً،لما عرفت من أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه أو عدمه،والأمر بالأهم بما أ نّه كان محفوظاً في هذا الحال فهو يقتضي هدم عصيانه ورفعه،باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه في الخارج،ومن الواضح أنّ الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب الجمع بل هو في طرف النقيض معه.
ومن هنا قلنا إنّه لو تمكن المكلف من الجمع بينهما خارجاً فلا يقعان على صفة المطلوبية،بل الواقع على هذه الصفة خصوص الواجب الأهم دون المهم، وبما أنّ المفروض قدرة المكلف على الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم،فلا مانع من تعلق التكليف به على هذا التقدير وحصول الانبعاث منه،ضرورة أنّ المانع عن ذلك إنّما هو عدم قدرة المكلف عليه،وحيث إنّ المطلوب لم يكن عند اجتماع الطلبين هو الجمع بين متعلقيهما وحصول الانبعاث منهما معاً،فلا مانع منه أبداً.
وقد ذكرنا أنّ طلب الجمع إنّما يلزم على أحد تقادير [ ثلاثة ] لا رابع لها.
الأوّل:أن يكون كلا الخطابين على وجه الاطلاق.
الثاني:أن خطاب المهم على تقدير اشتراطه بعصيان خطاب الأهم يكون ناظراً إلى حال عصيانه وضعاً ورفعاً.
الثالث:أنّ الخطاب بالمهم مشروط باتيان الأهم،بأن يكونا مطلوبين على نحو الاجتماع في آن واحد،ومن المعلوم أنّ ما نحن فيه ليس من شيء منها.
أمّا أ نّه ليس من قبيل الأوّل فواضح،لفرض أنّ الأمر بالمهم مقيد بعصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً.
وأمّا أ نّه ليس من قبيل الثاني،فلمّا عرفت غير مرّة من أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه في الخارج ويكون ناظراً إلى حاله وضعاً أو رفعاً.
وأمّا أ نّه ليس من قبيل الثالث فظاهر،بل هو في طرف النقيض معه،إذ المفروض في المقام أنّ الأمر بالمهم مقيد بعدم الاتيان بالأهم على عكس ذلك تماماً.
فالنتيجة على ضوء ذلك:أنّ مقتضى-بالفتح-مثل هذين الخطابين يستحيل أن يكون هو الجمع بين متعلقيهما،بداهة أنّ مقتضى-بالفتح-أحدهما رافع لموضوع الآخر وهادم له،إذن لا يلزم من اجتماع الخطابين في زمان واحد طلب الجمع،ليقال باستحالة ذلك وعدم إمكان الانبعاث عنهما.نعم،هو جمع بين الطلبين،لا طلب للجمع بين الضدّين.
وبذلك ظهر أنّ انبعاث المكلف عن كلا الأمرين في عرض واحد وإن كان لا يمكن،إلّاأنّ انبعاثه عنهما على نحو الترتب لا مانع منه أصلاً،فانّه عند انبعاثه عن الأمر بالأهم لا بعث بالاضافة إلى المهم ليزاحمه في ذلك ويقتضي انبعاث المكلف نحوه،وعلى تقدير عدم انبعاثه عنه باختياره وإرادته لا مانع من انبعاثه عن الأمر بالمهم،بداهة أنّ المهم مقدور للمكلف في هذا الحال عقلاً وشرعاً،فإذا كان مقدوراً فلا مانع من تعلق الأمر به الموجب لانبعاث المكلف عنه نحو إيجاده،فهذا الوجه أيضاً لا يرجع إلى معنى محصّل.
وقد أجاب عنه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بما ملخّصه:أنّ الأمر بالأهم والأمر بالمهم وإن كانا فعليين حال العصيان معاً،إلّاأنّ اختلافهما في الرتبة أوجب عدم لزوم طلب الجمع من فعليتهما،لما عرفت من أنّ الأمر
بالأهم في رتبة يقتضي هدم موضوع الأمر بالمهم وعدمه،وأمّا هو فلا يقتضي وضع موضوعه،وإنّما يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج على تقدير وجود موضوعه،وحيث إنّه لم يكن بين الأمرين اتحاد في الرتبة،يستحيل أن تقتضي فعليتهما طلب الجمع بين متعلقيهما.
ومن هنا قال:إنّ ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) من أنّ الأمر بالمهم مشروط بالعزم على عصيان الأمر بالأهم غير صحيح،فانّه على هذا لا يكون الأمر بالأهم رافعاً لموضوع الأمر بالمهم وهادماً له تشريعاً،فانّ الأمر بالأهم إنّما يقتضي عدم عصيانه،لا عدم العزم على عصيانه.
فالنتيجة أنّ ما أفاده (قدس سره) هنا أمران:
الأوّل:أنّ ملاك عدم لزوم طلب الجمع بين الضدّين من اجتماع الأمرين في زمان واحد،إنّما هو اختلافهما في الرتبة.
الثاني:أنّ ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) غير صحيح.
ولنأخذ بالمناقشة في كلا الأمرين:
أمّا الأمر الأوّل فيردّه أوّلاً: ما ذكرناه مراراً من أنّ الأحكام الشرعية ثابتة للموجودات الزمانية،ولا أثر لاختلافها في الرتبة،وعلى هذا فلا أثر لتقدم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم رتبة بعد ما كانا متقارنين زماناً،بل القول بالاستحالة أو الامكان يبتني على أنّ قضية اجتماع الأمرين في زمان هل هي طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج أم لا،ولا يفرق في ذلك بين كونهما مختلفين في الرتبة أم لا،ضرورة أنّ اختلافهما في الرتبة لا يوجب اختلافهما في الزمان،فانّ من الواضح أنّ المحال إنّما هو طلب الجمع بين الضدّين في الخارج لا في الرتبة،لما عرفت من أنّ التضاد والتماثل والتناقض وما شاكلها جميعاً من
صفات الموجودات الخارجية فلا تتصف الأشياء بتلك الصفات مع قطع النظر عن وجوداتها في الخارج.
ومن هنا قلنا إنّه لا مضادة ولا مناقضة في المرتبة أصلاً،ومن هنا جاز اجتماع الضدّين أو النقيضين في رتبة واحدة،كما جاز ارتفاعهما عنها.أمّا الأوّل،فلمّا حققناه من أنّ النقيضين وكذا الضدّين في مرتبة واحدة،وهذا معنى اجتماعهما في المرتبة.وأمّا الثاني،فلأنّ النقيضين قد ارتفعا من الماهيات من حيث هي،فانّها بما هي لا موجودة ولا معدومة.
فالنتيجة هي أ نّه لا يمكن القول بأنّ ملاك عدم لزوم طلب الجمع من فعلية الأمر بالأهم والأمر بالمهم معاً هو اختلافهما في الرتبة.
فالصحيح في الجواب:هو ما تقدّم من أنّ الملاك الرئيسي لعدم لزوم طلب الجمع بين الضدّين من اجتماع الأمرين هو تقييد الأمر بالمهم بعدم الاتيان بالأهم وعصيانه،وعدم تعرضه لحاله أصلاً كما تقدّم ذلك بشكل واضح.
وثانياً: ما سبق من أنّ الأمر بالأهم لا يتقدم على الأمر بالمهم رتبة،فانّ تقدّم شيء على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك كامن في صميم ذات المتقدم،فلا يتعدّى منه إلى ما هو في مرتبته فضلاً عن غيره،ومن الواضح أ نّه لا ملاك لتقدّم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم.
ودعوى أنّ الأمر بالأهم مقدّم على عصيانه وعدم امتثاله الذي اخذ في موضوع الأمر بالمهم،والمفروض أنّ الموضوع مقدّم على الحكم رتبة،فلازم ذلك تقدّم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم برتبتين،يدفعها ما أشرنا إليه من أنّ التقدّم أو التأخّر بالرتبة يحتاج إلى ملاك راجع إلى ذات الشيء وطبعه،وتقدّم الأمر بالأهم على عصيانه بملاك لايقتضي تقدّمه على ما هو متأخر عن العصيان رتبة كما لا يقتضي تقدمه على ما هو في مرتبته بعد ما كان الجميع متّحدة في
الزمان،وموجودات في زمان واحد،ومن هنا قلنا إنّ العلة مقدّمة على المعلول دون عدمه،مع أ نّه في مرتبته.
وأمّا الأمر الثاني: فيظهر فساده ممّا ذكرناه من أنّ ملاك استحالة الترتب وإمكانه هو لزوم طلب الجمع بين الضدّين من اجتماع الأمرين في زمان واحد، وعدم لزومه،ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم أو بالعزم عليه،فانّه كما يقتضي هدم تقدير عصيانه يقتضي هدم تقدير العزم عليه أيضاً،فلا فرق بينهما من هذه الناحية.وعلى الجملة فملاك جواز الترتب على تقدير اشتراط الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم موجود بعينه في صورة اشتراطه بالعزم على عصيانه.
نعم،الذي يرد عليه هو أنّ العزم ليس بشرط،والوجه فيه:هو أنّ هذا الاشتراط قد ثبت بحكم العقل،ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم إلّابثبوت الأمر بالمهم في ظرف عصيان الأمر بالأهم خارجاً وعدم الاتيان بمتعلقه.
وإن شئت فقل: إنّ مقتضى المزاحمة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم هو سقوط إطلاق الأمر بالمهم حال العجز وعدم القدرة على امتثاله،وبقاؤه في حال القدرة على امتثاله،لعدم موجب لسقوطه حينئذ،ومقتضى ذلك هو اشتراط الأمر بالمهم بنفس العصيان الخارجي،لا بالعزم على عصيانه.
الرابع: أنّ العصيان الذي هو شرط لفعلية الأمر بالمهم،إن كان شرطاً بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن،فهو هادم لأساس الترتب،إذ الترتب عند القائل به مبتنٍ على وجود كلا الأمرين-أعني بهما الأمر بالأهم والأمر بالمهم-في زمان واحد،ولكن في الفرض المزبور يسقط الأمر بالأهم، فانّ الأمر كما يسقط بالامتثال والاتيان بمتعلقه خارجاً،كذلك يسقط بالعصيان وعدم الاتيان به في الخارج.
وعلى هذا فلا يمكن فرض اجتماع الأمرين في زمان واحد،فانّ في زمان فعلية الأمر بالمهم قد سقط الأمر بالأهم من جهة العصيان،وفي زمان ثبوت الأمر بالأهم لا أمر بالمهم،لعدم تحقق شرطه،وقد تقدّم أنّ تعلق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل الكلام ولا إشكال في جوازه،فان محل الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعلياً في زمن واحد،وهذا غير معقول مع فرض كون معصية الأمر بالأهم علة لسقوطه،إذ عندئذ لا ثبوت له حال العصيان ليجتمع مع الأمر بالمهم في ذلك الحال.
وأمّا إذا كان العصيان شرطاً على نحو الشرط المتأخر،أو كان وجوده الانتزاعي-وهو كون المكلف متصفاً بأ نّه يعصي فيما بعد-شرطاً في فعلية الأمر بالمهم،فلا محالة يلزم منه طلب الجمع بين الضدّين،وذلك لأنّ الأمر بالمهم يصير فعلياً في زمان عدم سقوط الأمر بالأهم،إذ المفروض أنّ العصيان شرط متأخر،أو أنّ الشرط في الحقيقة هو عنوان تعقبه بالعصيان المتأخر، وعلى كل حال فالأمر المتعلق به فعلي،كما أنّ الأمر بالأهم فعلي،وهو لم يسقط بعد،لأنّ مسقطه-وهو العصيان على الفرض-لم يتحقق،فإذن يتوجه إلى المكلف تكليفان فعليّان في زمان واحد،ولا محالة يقتضي كل منهما لايجاد متعلقه في الخارج في ذلك الزمان،ضرورة أ نّه لا معنى لفعلية تكليفٍ إلّا اقتضاؤه إيجاد متعلقه خارجاً ودعوته إليه فعلاً،وفي المقام بما أنّ كلاً من الأمر بالأهم والأمر بالمهم فعلي في زمن واحد،فلا محالة يدعو كل منهما إلى إيجاد متعلقه في ذاك الزمن،وهذا معنى لزوم طلب الجمع بين الضدّين.
وصفوة هذا الوجه: هي أنّ العصيان إن كان شرطاً بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن،فلا يمكن عندئذ فرض اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان واحد،لأنّ بتحقق العصيان خارجاً وإن صار الأمر بالمهم فعلياً،إلّا
أ نّه في هذا الزمان يسقط الأمر بالأهم،فزمان ثبوت أحدهما هو زمان سقوط الآخر،فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد.
وقد تقدّم أنّ هذا خارج عن محل الكلام في المسألة ولا إشكال في جوازه، فانّ ما كان محلاً للكلام هو ما إذا كان الأمران مجتمعين في زمان واحد،وأمّا إن كان شرطاً بنحو الشرط المتأخر،أو كان الشرط في الحقيقة هو عنوانه – العصيان-الانتزاعي المنتزع منه باعتبار وجوده في زمان متأخر،فحينئذ وإن كان الأمران مجتمعين في زمان واحد،إلّاأنّ لازم اجتماعهما فيه هو طلب الجمع بين إيجاد متعلقيهما في الخارج،بداهة أ نّه لا معنى لتعلق التكليف بشيء إلّا اقتضاؤه إيجاده خارجاً،وبما أ نّهما متضادان على الفرض فيلزم طلب الجمع بينهما،وهو محال.فالنتيجة:عدم إمكان القول بالترتب.
والجواب عن هذا الوجه على ضوء ما بيّناه واضح،وتفصيل ذلك:أنّ ما ذكر من أنّ العصيان إذا كان شرطاً متأخراً،أو كان الشرط عنواناً انتزاعياً من العصيان المتأخر في ظرفه فهو يستلزم طلب الجمع بين الضدّين،لفرض اجتماع الأمرين في زمان واحد،فيردّه:
أوّلاً: أنّ العصيان ليس بوجوده المتأخر ولا بعنوانه الانتزاعي شرطاً،بأن يكون الأمر بالمهم فعلياً لمن يعصي في زمان متأخر،لما سنبيّن إن شاء اللّٰه من أنّ العصيان شرط بوجوده الخارجي،وعليه فما لم يتحقق العصيان في الخارج لم يصر الأمر بالمهم فعلياً.
وثانياً: قد تقدّم أنّ اجتماع الأمرين في زمان واحد على نحو الترتب لايستلزم طلب الجمع،بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع ومعانده رأساً،والأصل في ذلك:ما سبق من أنّ طلب الجمع بين الضدّين إنّما يلزم على أحد التقادير المتقدمة،وقد مضى الكلام فيها بشكل واضح فلا حاجة إلى الاعادة وقلنا إنّ
ما نحن فيه ليس من شيء من تلك التقادير.
وممّا يشهد على ما ذكرنا:أ نّه إذا فرض فعلان في حد ذاتهما ممكني الجمع كقراءة القرآن والدخول في المسجد مثلاً،فمع ترتب الأمر بأحدهما على عدم الاتيان بالآخر لا يقعان على صفة المطلوبية عند جمع المكلف بينهما خارجاً، بداهة أنّ مطلوبية أحدهما إذا كانت مقيدة بعدم الاتيان بالآخر،فيستحيل وقوعهما معاً في الخارج على صفة المطلوبية.وهذا برهان قطعي على عدم مطلوبية الجمع.
ودعوى: أنّ عدم وقوعهما على صفة المطلوبية معاً هنا إنّما هو من جهة عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما،فلو تمكن من ذلك فلا محالة يقعان على صفة المطلوبية، مدفوعة: بأنّ وقوعهما على هذه الصفة مع فرض بقاء تقييد الأمر بالمهم بعدم الاتيان بالأهم وعصيان أمره في هذا الحال غير معقول،بل الاتيان بالمهم عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرّم.وأمّا مع فرض ارتفاع التقييد في هذا الحال كما هو الصحيح-لأنّ التقييد من جهة المزاحمة بين التكليفين وعدم تمكن المكلف من الجمع بين متعلقيهما في مقام الامتثال،وأمّا مع فرض عدم المزاحمة وتمكن المكلف من الجمع بينهما في تلك المرحلة فلا تقييد في البين، ولا حكم للعقل به،لأنّه إنّما يحكم به في صورة المزاحمة لا مطلقاً-فهو خارج عن محل الكلام،فانّ محل الكلام هو ما إذا لم يتمكن المكلف من الجمع بينهما، فانّه يوجب تقييد الواجب المهم بعدم الاتيان بالأهم بحكم العقل،وفي هذا الفرض لا يمكن وقوعهما على صفة المطلوبية كما سبق.
وأمّا ما ذكر من أنّ العصيان إذا كان شرطاً بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن فلا يمكن فرض اجتماع الأمرين-الأمر بالأهم والأمر بالمهم – في زمان واحد،فهو يبتني على نقطة فاسدة وهي توهم أنّ العصيان مهما تحقق
ووجد في الخارج فهو مسقط للأمر،ولكن الشأن ليس كذلك،والوجه فيه:هو أ نّا إذا حلّلنا مسألة سقوط الأمر تحليلاً علمياً نرى أنّ الموجب لسقوطه أمران لا ثالث لهما:
الأوّل: امتثاله والاتيان بمتعلقه في الخارج،هذا باعتبار أنّ ذلك موجب لحصول الغرض منه،وقد ذكرنا غير مرّة أنّ الأمر معلول للغرض الداعي له حدوثاً وبقاءً،فمع تحقق الغرض في الخارج لا يعقل بقاء الأمر،وإلّا لزم بقاء الأمر بلا غرض،وهو كبقاء المعلول بلا علة محال.فالنتيجة:أنّ الامتثال والاتيان بمتعلقه خارجاً إنّما يوجب سقوط الأمر باعتبار حصول الغرض بذلك وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه-المأمور به-في الخارج،لا أنّ الامتثال في نفسه يقتضي سقوط الأمر وعدمه،بداهة أنّ الامتثال معلول للأمر فلا يعقل أن يكون معدماً له،لاستحالة أن يكون وجود المعلول خارجاً علة لعدم وجود علته،ووجود المقتضى-بالفتح-علة لعدم مقتضيه.
وعلى الجملة:فامتثال الأمر والاتيان بمتعلقه خارجاً بما أ نّه يوجب حصول الغرض يكون مسقطاً له لا محالة،فانّ أمد اقتضائه لايجاد متعلقه خارجاً ينتهي بوجوده وتحققه في الخارج،وبعده لا اقتضاء له أبداً.
الثاني: امتناع الامتثال وعدم تمكن المكلف منه،فانّه يوجب سقوط الأمر لا محالة،لقبح توجيه التكليف نحو العاجز.ولا يفرق في ذلك بين أن يكون عدم تمكن المكلف من ناحية ضيق الوقت أو من ناحية مانع آخر.
فالنتيجة قد أصبحت:أنّ الأمر بما أ نّه تابع للغرض الداعي له حدوثاً وبقاءً، فمع تحقق هذا الغرض ووجوده لا يعقل بقاء الأمر،وإلّا لزم بقاء المعلول بلا علة،كما أ نّه مع امتناع حصول هذا الغرض في الخارج من جهة عدم تمكن المكلف من تحصيله،لعجزه عن الامتثال والاتيان بالمأمور به لا يعقل بقاء
الأمر.وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا يعقل سقوط الأمر،بداهة أ نّه لا يسقط بلا سبب وموجب.
وأمّا العصيان بما هو عصيان فلا يعقل أن يكون مسقطاً للأمر،وذلك لما تقدّم من أنّ ثبوت الأمر في حال العصيان والامتثال أمر ضروري لا مناص من الالتزام به،وإلّا فلا معنى للامتثال والعصيان،ضرورة أنّ الأمر لو سقط في حال الامتثال أو العصيان فلا أمر عندئذ ليمتثله المكلف أو يعصيه.
نعم،لو استمرّ العصيان إلى زمان لا يتمكن المكلف بعده من الامتثال لسقط الأمر لا محالة،ولكن لا من جهة العصيان بما هو،بل من جهة عدم قدرة المكلف عليه وعدم تمكنه منه،كما أنّ الامتثال إذا استمرّ إلى آخر جزء من الواجب لسقط الأمر من جهة حصول الغرض به.
وسرّ ذلك:هو ما عرفت من أ نّه لا موجب لسقوط التكليف إلّاأحد الأمرين المزبورين،أعني بهما عجز المكلف عن امتثاله،وحصول الغرض منه.
وأمّا إذا كان المكلف متمكناً من الامتثال،ولكنّه عصى ولم يأت به في الآن الأوّل،فمن الواضح أنّ مجرد تركه في ذلك الآن وعدم الاتيان به فيه لا يوجب سقوطه مع تمكنه منه في الآن الثاني.
وعلى ضوء هذا يترتب أنّ التكليف بالأهم في محل الكلام لا يسقط بعصيانه في الآن الأوّل مع تمكن المكلف من امتثاله في الآن الثاني،والوجه في ذلك:هو أ نّه لا موجب لسقوط الأمر بالأهم في المقام ما عدا عجز المكلف عن امتثاله والاتيان بمتعلقه،والمفروض أنّ المكلف غير عاجز عنه،ضرورة أنّ فعل الشيء لا يصير ممتنعاً حال تركه،وكذا تركه حال فعله،إذ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا يوجب العجز وسلب القدرة عن الطرف بالبداهة،وعلى ذلك فالأهم مقدور للمكلف حال تركه كما كان مقدوراً حال فعله،وكذا هو مقدور
حال فعل المهم.
والأصل في هذا هو أنّ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر أو ترجيح فعل المهم في المقام على فعل الأهم باختيار المكلف وإرادته،فلا يعقل أن يكون ذلك موجباً لامتناع الطرف الآخر،وإلّا لم يكن الشيء من الأوّل مقدوراً، وهذا خلف.
ونتيجة ذلك: هي أنّ الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وحال الاتيان بالمهم،غاية الأمر ثبوته في هذا الحال على وجهة نظرنا بالاطلاق،حيث قد ذكرنا غير مرّة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول،فمتعلق الحكم في الواقع إمّا هو ملحوظ على وجه الاطلاق بالاضافة إلى جميع الخصوصيات حتّى الخصوصيات الثانوية،وإمّا هو ملحوظ على وجه التقييد بشيء منها ولا ثالث لهما.وعليه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر،وحيث إنّ في المقام التقييد بالوجود والعدم محال،فالاطلاق واجب،وعلى وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من جهة انحفاظ المؤثر في ظرف تأثيره واقتضائه هدم عصيانه.
وعلى هذا فالأمر بالأهم لا يسقط في ظرف عصيانه،فإذن يجتمع الأمران في زمان واحد-وهو زمان عصيان الأهم-أمّا الأمر بالمهم فلتحقق شرطه، وأمّا الأمر بالأهم فلعدم سقوطه بالعصيان.
نعم،لو كان الواجب الأهم آنياً لسقط الأمر به بالعصيان في الآن الأوّل، ولكن لا من ناحية أنّ العصيان مسقط له،بل من ناحية عدم تمكن المكلف من امتثاله والاتيان بمتعلقه خارجاً في الآن الثاني،لانتفائه بانتفاء موضوعه في ذلك الآن،وبعده لا يبقى مجال وموضوع للامتثال،وقد تقدّم ذلك سابقاً بشكل
واضح،وقلنا هناك إنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام،فانّ ما كان محلاً للكلام هنا هو ما لا يمكن إثبات الأمر بالمهم إلّابناءً على القول بالترتب،ومع الإغماض عنه يستحيل إثبات الأمر به،وفي هذا الفرض لا مانع من ذلك،فانّ المانع منه هو فعلية الأمر بالأهم،وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من فعلية الأمر بالمهم أصلاً،وحيث إنّ المفروض هنا سقوط الأمر بالأهم في الآن الثاني بسقوط موضوعه-وهو القدرة-فلا محذور في تعلق الأمر بالمهم في ذلك الآن أصلاً.
نعم،إذا كان الواجب المهم أيضاً آنياً،فيدخل في محل النزاع ولا يمكن إثبات الأمر به عندئذ إلّابناءً على القول بالترتب كما سبق.
ومن هذا القبيل ما إذا كان الواجب الأهم مضيّقاً على نحو لو عصاه المكلف في جزء من وقته لفاته،ولا يتمكن بعده من الاتيان به وامتثاله لسقوطه بسقوط موضوعه،ضرورة أ نّه بعد مضي مقدار من الزمان الذي لا يتمكن المكلف بعده من الاتيان به يسقط أمره،لأجل امتناع تحصيل ملاكه وغرضه، لا لأجل مجرد عدم الفعل في الآن الأوّل وعصيانه فيه،ومثال ذلك هو ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصوم مثلاً ووجوب واجب آخر،فإذا ترك الصوم في جزء من الزمان فهو لا يتمكن من امتثال أمره بعد ذلك فيسقط وجوبه لا محالة.
ولعلّ المنكر للترتب تخيّل أوّلاً أنّ محل النزاع خصوص هذا الفرض،وتخيّل ثانياً أنّ سقوط الأمر فيه مستند إلى العصيان في الآن الأوّل لا إلى شيء آخر، وثالثاً أنّ الأمر غير ثابت في حال العصيان،فها هنا دعاوى ثلاث:
الاُولى:أنّ محل البحث في مسألة الترتب إنّما هو في أمثال هذا الفرض.
الثانية:أنّ سقوط الأمر فيه مستند إلى عدم الفعل في الآن الأوّل وعصيان
الأمر فيه،لا إلى شيء آخر.
الثالثة:أنّ الأمر ساقط في حال العصيان.
ولكن جميع هذه الدعاوى باطلة.
أمّا الدعوى الاُولى: فالأمر على عكسها-أعني به أنّ هذا الفرض وما يشبهه خارج عن محل الكلام في المقام-والوجه في ذلك:هو ما عرفت من أنّ محل الكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم إلّابناءً على القول بالترتب، وفي هذا الفرض يمكن إثبات الأمر به مع قطع النظر عنه،إذ المانع عن تعلق الأمر به هو فعلية الأمر بالأهم،وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من تعلقه به أصلاً،وبما أنّ المفروض هنا سقوطه في الآن الثاني،فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم فيه،لما تقدّم من أنّ صحة تعلق الأمر به بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات الأوّلية،وليس من محل النزاع في شيء.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ الواجب الأهم إذ كان موقتاً على نحو يكون وقته مساوياً لفعله،فهو خارج عن محل البحث،لسقوط وجوبه في الآن الثاني بمجرد تركه خارجاً وعدم الاتيان به في الآن الأوّل.
وأمّا الدعوى الثانية: فلما عرفت من أنّ العصيان بنفسه لا يمكن أن يكون مسقطاً للأمر،وقد سبق أنّ المسقط له أحد الأمرين المزبورين ولا ثالث لهما هما:1-امتثاله الموجب لحصول الغرض والملاك الداعي له.2-وعجز المكلف عنه الموجب لامتناع حصوله.وأمّا مجرد ترك امتثاله في الآن الأوّل وعصيانه فيه مع تمكنه منه في الآن الثاني فلا يوجب سقوطه،ضرورة أنّ سقوطه عندئذ من دون موجب وعلة وهو محال.
وأمّا الدعوى الثالثة: فلما تقدّم من أنّ الأمر ثابت في حال العصيان،
ضرورة أ نّه لو لم يكن ثابتاً في آن العصيان فلا معنى لمخالفة المكلف وعصيانه إيّاه،فانّه لا أمر في هذا الآن ليعصيه،وقد سبق أنّ ثبوته بالاطلاق على وجهة نظرنا ومن جهة اقتضائه هدم عصيانه على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه هنا عدّة امور:
الأوّل: أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً أو كان على نحو يسقط أمره بمجرد عدم إتيانه في الآن الأوّل وعصيانه فيه بسقوط موضوعه-وهو القدرة-وكان الواجب المهم تدريجياً،فهو خارج عن محل البحث،لعدم توقف إثبات الأمر بالمهم على القول بالترتب كما مرّ.
الثاني: أنّ العصيان بأيّ نحو فرض لا يعقل أن يكون مسقطاً للأمر،نعم قد يوجب سقوطه من جهة سقوط موضوعه وعدم تمكن المكلف من امتثاله بعده.
الثالث: أنّ المسقط للأمر بقانون أ نّه تابع للغرض والملاك الداعي له حدوثاً وبقاءً إنّما هو أحد الأمرين المتقدمين،حصول الملاك والغرض في الخارج بالامتثال،وامتناع حصوله وتحققه فيه لعجز المكلف عنه.
الرابع: أنّ الامتثال لا يقتضي بذاته سقوط الأمر،بل اقتضاؤه ذلك باعتبار حصول غرضه وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه في الخارج.
الخامس: أنّ الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن،بمعنى أ نّه ما لم يتحقق في الخارج لم يصر الأمر بالمهم فعلياً.
السادس: أنّ الأمر بالأهم والأمر بالمهم وإن اجتمعا على هذا في زمان واحد،إلّاأنّ مقتضاهما ليس هو طلب الجمع بين متعلقيهما بل هو طلب التفريق
بينهما،كما حققناه بصورة مفصلة.
فالنتيجة على ضوء هذه الاُمور:هي بطلان الدليل المزبور وأ نّه لا مجال له أبداً.
إلى هنا قد تبين بطلان جميع أدلة استحالة الترتب وأ نّه لا يمكن تصديق شيء منها.
هذا تمام كلامنا في بحث الترتب جوازاً وامتناعاً،إمكاناً واستحالة.
بقي الكلام في أُمور:
قد ذكرنا في آخر بحث البراءة والاشتغال أنّ حديث لا تعاد لا يختص بالناسي،بل يعمّ الجاهل القاصر أيضاً ولذلك قلنا بعدم وجوب الاعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد استظهر اختصاصه بالناسي فلا يعمّ الجاهل 1.وقد ذكرنا هناك أنّ ما ذكره (قدس سره) في وجه ذلك غير تام،وتمام الكلام في بحث البراءة والاشتغال إن شاء اللّٰه تعالى.
وأمّا الجاهل المقصر فقد تسالم الأصحاب قديماً وحديثاً على عدم صحة عباداته،واستحقاقه العقاب على ترك الواقع ومخالفته،ووجوب الاعادة والقضاء عليه عند انكشاف الخلاف وظهوره،ولكن استثني من ذلك مسألتان.
الاُولى:مسألة الجهر والخفت.
الثانية:مسألة القصر والتمام،حيث ذهب المشهور إلى صحة الصلاة جهراً في موضع الاخفات وبالعكس،وصحة الصلاة تماماً في موضع القصر،وكذلك القصر في موضع التمام للمقيم عشرة أيام-لا مطلقاً-على المختار،كل ذلك في فرض الجهل ولو عن تقصير،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ المشهور قد التزموا في تلك الموارد باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع وتركه،فمن صلّى جهراً في موضع الاخفات أو بالعكس،أو صلّى تماماً في موضع القصر استحقّ العقاب على ترك الواقع،مع الحكم بصحة ما أتى به.
ومن هنا وقع الاشكال في الجمع بين هاتين الناحيتين وأ نّه كيف يمكن الحكم بصحة المأتي به خارجاً وأ نّه مجزئ عن الواقع وعدم وجوب الاعادة مع بقاء الوقت،والحكم باستحقاق العقاب.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ المسألتين بحسب الفتاوى والنصوص ممّا لا إشكال فيهما أصلاً.
أمّا بحسب الفتاوى فقد تسالم الأصحاب عليهما.
وأمّا بحسب النصوص فقد وردت فيهما نصوص صحيحة قد دلّت على ذلك،وإنّما الكلام والاشكال في الجمع بين الناحيتين المزبورتين في مقام الثبوت والواقع،وقد تفصي عن ذلك بوجهين:
الأوّل: ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) 1من الالتزام بالترتب في المقام،بتقريب أنّ الواجب على المكلف ابتداءً هو الصلاة جهراً مثلاً، وعلى تقدير تركه وعصيان أمره فالواجب هو الصلاة إخفاتاً أو بالعكس،أو أنّ الواجب عليه ابتداءً هو الصلاة قصراً،وعلى تقدير تركه فالواجب هو
الصلاة تماماً،وبذلك دفع الاشكال المزبور وأ نّه لا منافاة عندئذ بين الحكم بصحة العبادة المأتي بها جهراً أو إخفاتاً وأ نّها مجزئة عن الواقع،وصحة العقاب على ترك الآخر.
وقد أورد عليه شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) بقوله:إنّا لا نعقل الترتب 1،واكتفى بذلك ولم يبيّن وجهه.
وأورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2بأنّ قوله هذا مناقض لما ذهب إليه في تعارض الخبرين بناءً على السببية من الالتزام بالترتب هناك.
وإليك نص كلامه:إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع،لأنّ ذلك غير ممكن كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة…لكن لمّا كان امتثال التكليف بالعمل بكل واحد منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطاً بالقدرة،والمفروض أنّ كل واحد منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر،فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله،ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه،فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة،وهذا ممّا يحكم به بداهة العقل،كما في كل واجبين اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله إلّا تعيّن الآخر عليه كذلك.
والسرّ في ذلك:أ نّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل،
لم يكن وجوب كل واحد منهما ثابتاً بمجرّد الامكان،ولزم كون وجوب كل منهما مشروطاً بعدم وجود الآخر،وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كل منهما في مقام الامتثال بأزيد من الامكان،سواء كان وجوب كل منهما بأمر أو كان بأمر واحد يشمل الواجبين،وليس التخيير في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير.والحاصل أ نّه إذا أمر الشارع بشيء واحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقلي والشرعي،وإذا أمر بشيئين واتفق امتناع ايجادهما في الخارج استقلّ بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه،لأنّها ممكنة فيقبح تركها،لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية، بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه ظاهراً على المكلف،فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين،فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لاعمال الآخر كما في كل واجبين متزاحمين 1.
أقول: ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من المناقضة بين كلام الشيخ (قدس سره) في المقام،وما ذكره في بحث التعادل والترجيح متين جداً،فان كلامه هناك الذي نقلناه بألفاظه هنا ظاهر بل صريح في التزامه بالترتب،إذ لا معنى له إلّاالالتزام بوجوب أحد الواجبين المتزاحمين عند ترك الآخر،بأن يرفع اليد عن إطلاق كل واحد منهما عند الاتيان بالآخر،لا عن أصله إذا كانا متساويين،وعن إطلاق واحد منهما إذا كان أحدهما أهم من الآخر.
ومن الواضح جداً أ نّه لا فرق في القول بالترتب بين أن يكون من طرف واحد كما تقدّم الكلام فيه مفصلاً،وأن يكون من الطرفين كما إذا كان كلاهما متساويين،فانّه عند ذلك بما أنّ المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في الخارج فلا مانع من أن يكون الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر فهما-الترتب
من طرف واحد،ومن الطرفين-يشتركان في ملاك إمكان الترتب واستحالته، فان ملاك الامكان هو أنّ اجتماع الأمرين كذلك في زمان واحد لا يستلزم طلب الجمع،وملاك الاستحالة هو أنّ اجتماعهما كذلك يستلزم طلبه،والمفروض أنّ الأمرين مجتمعان في زمان واحد،لما عرفت من أنّ الأمر ثابت حالتي وجود متعلقه وعدمه فلا يسقط بمجرّد تركه،كما أ نّه لايسقط بصرف الاشتغال بالآخر.
نعم،يسقط بعد الاتيان به،لفرض أنّ وجوب كل منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر،فلا محالة لا وجوب بعد الاتيان به،وعلى كل حال فهو (قدس سره) قد التزم بالترتب في تعارض الخبرين بناءً على السببية غافلاً عن كون هذا ترتباً مستحيلاً في نظره.
ومن هنا قلنا إنّ مسألة إمكان الترتب مسألة ارتكازية وجدانية،ولا مناص من الالتزام بها،ولذا قد يلتزم بها المنكر لها بشكل آخر وببيان ثانٍ غافلاً عن كونه ترتباً،مع أ نّه هو في الواقع وبحسب التحليل.
وأمّا شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1فقد أورد على ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) في المسألة-صحّة الجهر في موضع الاخفات وبالعكس جهلاً-من ناحية اخرى،ونحن وإن تعرضنا المسألة في آخر بحث البراءة والاشتغال ودفعنا الاشكال عنها من دون حاجة إلى الالتزام بالترتب فيها،إلّاأنّ الكلام هنا يقع في الوجوه التي ذكرها شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في وجه عدم جريان الترتب فيها،وأ نّها ليست من صغريات كبرى مسألة الترتب،بيانها:
الأوّل: أنّ محل الكلام في جريان الترتب وعدم جريانه إنّما هو فيما إذا كان
التضاد بين متعلقي الحكمين اتفاقياً،والوجه في ذلك:هو أنّ التضاد بين المتعلقين إنّما يوجب التزاحم بين الحكمين فيما إذا كان من باب الاتفاق كالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد وإنقاذ الغريقين وما شاكلهما بالاضافة إلى من لا يقدر على الجمع بينهما في عالم الوجود،ولذا لا تزاحم ولا تضاد بينهما بالاضافة إلى من يقدر على الجمع بينهما فيه.وأمّا إذا كان التضاد بينهما دائمياً بحيث لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الوجود أصلاً كالقيام والجلوس والسواد والبياض وما شابههما،فلا يمكن جعل الحكمين لهما معاً،لأنّ ذلك لغو صرف فلا يصدر من الحكيم.
نعم،يمكن جعلهما على نحو التخيير إلّاأ نّه خارج عن محل الكلام،وعليه فلا محالة يدخلان في باب التعارض،لتنافيهما بحسب مقام الجعل.
وعلى هذا الأساس فحيث إنّ التضاد بين الجهر والاخفات دائمي فلا محالة كان دليل وجوب كل منهما معارضاً لدليل وجوب الآخر،فبذلك يخرجان عن باب التزاحم الذي هو الموضوع لبحث الترتب.
ويمكن المناقشة فيما أفاده (قدس سره) وذلك لأنّ ما ذكره من أنّ التضاد بين المتعلقين إذا كان دائمياً فيدخلان في باب التعارض،وإن كان متيناً جداً،إلّاأنّ ذلك لا يمنع عن جريان بحث الترتب فيهما إمكاناً واستحالة،فانّ ملاك إمكانه هو أنّ تعلق الأمرين بالضدّين على نحو الترتب لا يرجع إلى طلب الجمع بينهما في الخارج،وملاك استحالته هو أنّ ذلك يرجع إلى طلب الجمع بينهما فيه،ومن الواضح جدّاً أ نّه لا يفرق في ذلك بين أن يكون التضاد بينهما اتفاقياً أو دائمياً، ضرورة أنّ مرجع ذلك إن كان إلى طلب الجمع فهو محال على كلا التقديرين من دون فرق بينهما أصلاً،وإن لم يكن إلى طلب الجمع فهو جائز كذلك،إذ على هذا كما يجوز تعلق الأمر بالصلاة والازالة مثلاً على نحو الترتب،كذلك
يجوز تعلق الأمر بالقيام والقعود مثلاً على هذا النحو.
وعلى الجملة: فالمحال إنّما هو طلب الجمع،فكما يستحيل طلب الجمع بين القيام والقعود خارجاً،فكذلك يستحيل طلب الجمع بين الصلاة والازالة،وأمّا طلبهما على نحو الترتب الذي هو مناقض لطلب الجمع ومعاند له فلا مانع منه أصلاً.
فالنتيجة من ذلك:هي أنّ الترتب كما يجري بين الخطابين في مقام الفعلية والمزاحمة بتقييد فعلية خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه،كذلك يجري بينهما في مقام الجعل والمعارضة بتقييد جعل أحد الحكمين المتعارضين بعصيان الحكم الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه على نحو القضية الحقيقية،وفي مسألتنا هذه لا مانع من جعل وجوب الجهر في موضع الخفت وبالعكس على نحو الترتب،بأن يكون الواجب على المكلف ابتداءً هو الاخفات مثلاً،وعلى تقدير عصيانه وتركه جهلاً يكون الواجب عليه هو الجهر أو بالعكس،وكذا الحال في موضع القصر والتمام،فانّ المجعول ابتداءً على المسافر هو وجوب القصر،وعلى تقدير تركه وعدم الاتيان به جهلاً يكون المجعول عليه هو وجوب التمام،ولا مانع من أن يؤخذ في موضوع أحد الخطابين عصيان الخطاب الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في مقام الجعل أصلاً.
نعم،الترتب في مقام الجعل في هاتين المسألتين يمتاز عن الترتب في مقام الفعلية والامتثال في نقطتين:
الاُولى: أنّ المأخوذ في موضوع الخطابين فيهما عدم الاتيان بالآخر في حال الجهل لا مطلقاً،ولذا لو لم يأت المكلف بالصلاة جهراً في صورة العلم والعمد أو الصلاة قصراً فلم تجب عليه الصلاة إخفاتاً أو الصلاة تماماً بالترتب،فيختصّ القول بالترتب فيهما بحال الجهل.
الثانية: أنّ وقوع الترتب في مقام الجعل يحتاج إلى دليل،فلا يكفي إمكانه لوقوعه،وهذا بخلاف الترتب في مقام التزاحم والامتثال،فان إمكانه يُغني عن إقامة الدليل على وقوعه فيكون الوقوع على طبق القاعدة،لما عرفت سابقاً من أ نّه بناءً على إمكان الترتب كما هو المفروض،فالساقط إنّما هو إطلاق خطاب المهم دون أصله،لأنّ سقوط أصله بلا موجب وسبب،إذ الموجب له إنّما هو وقوع التزاحم بينه وبين خطاب الأهم،والمفروض أنّ التزاحم يرتفع برفع اليد عن إطلاق خطاب المهم.وعليه فلا بدّ من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور،وأمّا الزائد عليه فيستحيل سقوطه.
وعلى هذا يترتب بقاء خطاب المهم في ظرف عصيان خطاب الأهم وعدم الاتيان بمتعلقه،وهذا معنى أنّ وقوعه لا يحتاج إلى دليل،بل نفس ما دلّ على وجوب المهم كاف.
ولكن للشيخ الكبير (قدس سره) أن يدعي أنّ الدليل قد دلّ على وقوعه في المسألتين المزبورتين،وهو الروايات الصحاح الدالة على صحة الجهر في موضع الخفت وبالعكس،وصحة التمام في موضع القصر،وعليه فيتم ما أفاده (قدس سره) ثبوتاً وإثباتاً،ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فانّه لم يدّع الترتب في مقام التزاحم والفعلية ليرد عليه ما أورده،بل هو يدّعي الترتب في مقام الجعل،وقد عرفت أ نّه بمكان من الوضوح،غاية الأمر أنّ وقوعه يحتاج إلى دليل،وقد عرفت الدليل عليه-وهو الروايات المزبورة – فإذن يتمّ ما أفاده.
الثاني: ما أفاده (قدس سره) من أنّ مورد بحث الترتب هو ما إذا كان خطاب المهم مترتباً على عصيان الخطاب بالأهم وترك متعلقه،ومن الواضح أنّ هذا إنّما يعقل فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود في الخارج عند عصيان
الأهم وعدم الاتيان به،وإلّا فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال،ضرورة استحالة تعلق الطلب بما هو ضروري الوجود في الخارج،كما أ نّه يستحيل تعلقه بما هو ممتنع الوجود فيه،وبذلك يظهر أنّ مورد البحث في المسألة إنّما هو في الضدّين اللذين لهما ثالث كالصلاة والازالة مثلاً،والقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما،فان وجود أحدهما لا يكون ضرورياً عند عصيان الآخر وتركه.وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شابههما، فلا يعقل جريان الترتب فيهما،لأنّ وجود أحدهما عند عصيان الآخر وتركه ضروري،فلا يكون قابلاً لأن يتعلق به الخطاب الترتبي،بداهة أنّ طلبه عندئذ يكون من قبيل طلب الحاصل.
وعلى الجملة:فإذا كان وجود الشيء ضرورياً على تقدير ترك الآخر كوجود الحركة مثلاً على تقدير ترك السكون أو بالعكس،لاستحال تعلق الأمر به على هذا التقدير،لأنّ قبل تحقق ذلك التقدير يستحيل كون الأمر المتعلق به فعلياً،لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه وتحققه،وبعد تحققه يكون طلبه طلباً لايجاد الموجود وهو محال.
فقد تحصّل: أنّ طلب أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما على تقدير ترك الآخر،طلب لما هو مفروض الوجود في الخارج وهو مستحيل،كما أ نّه يستحيل طلب الشيء على فرض وجوده أو عدمه فيه على ما سبق.
وبعد ذلك نقول: إنّ الجهر والاخفات في القراءة بما أ نّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما،وكذا القصر والتمام،فانّ المكلف في حال القراءة لا يخلو من الجهر أو الاخفات،وكذا في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام،ولا ثالث في البين،فلا يعقل جريان الترتب فيهما،لفرض أنّ وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر ضروري،وعليه فيستحيل تعلق الأمر بأحدهما في ظرف ترك
الآخر،لأنّه طلب الحاصل،فلا يمكن أن يقال:إنّ الاخفات مأمور به على تقدير ترك الجهر أو بالعكس،أو التمام مأمور به على تقدير ترك القصر.
فالنتيجة من ذلك:هي أنّ هاتين المسألتين خارجتان عن موضوع الترتب رأساً.
وغير خفي أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الكبرى،وهي اختصاص القول بجواز الترتب بما إذا كان للواجبين المتضادين ثالث،في غاية المتانة والصحة،والوجه فيه:ما عرفت في ضمن كلامه من أنّ وجود أحدهما إذا كان ضرورياً عند ترك الآخر فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال،إلّاأنّ تلك الكبرى لا تنطبق على المسألتين المزبورتين وأ نّهما ليستا من صغرياتها ومصاديقها،وذلك لأنّ جعل محل الكلام في المسألتين من الضدّين اللذين لا ثالث لهما غير مطابق للواقع،ومبني على تخيل أنّ المأمور به هو نفس الجهر والاخفات في هذه المسألة،والقصر والتمام في تلك المسألة.
وعليه فالمكلف في حال القراءة لا محالة لا يخلو من الجهر أو الاخفات،كما أ نّه في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام.ولكنّه غفلة عن الواقع،وذلك لأنّ المأمور به في المسألة الاُولى إنّما هو القراءة الجهرية أو الاخفاتية،وفي المسألة الثانية إنّما هو الصلاة قصراً أو الصلاة تماماً،ومن الواضح جداً أ نّهما من الضدّين اللذين لهما ثالث،ضرورة أنّ القراءة الجهرية ليست ضرورية الوجود عند ترك القراءة الاخفاتية أو بالعكس،كما أنّ الصلاة تماماً ليست ضرورية الوجود عند ترك الصلاة قصراً،إذ المكلف عند ترك القراءة جهراً يمكن أن يأتي بها إخفاتاً ويمكن أن لا يأتي بها أصلاً،كما أ نّه عند ترك الصلاة قصراً يمكن أن يأتي بالصلاة تماماً ويمكن أن لا يأتي بها أبداً،وعلى هذا فلا مانع من تعلق الأمر بهما على نحو الترتب،بأن يكون الأمر باحداهما مشروطاً
بعصيان الأمر بالاُخرى وعدم الاتيان بمتعلقه.
نعم،لا واسطة بين الجهر والاخفات في ظرف وجود القراءة،كما أ نّه لا واسطة بين القصر والتمام في فرض وجود الصلاة،فانّ الصلاة إذا تحققت فلا محالة لا تخلو من كونها قصراً أو تماماً ولا ثالث لهما،كما أنّ القراءة إذا تحققت فلا تخلو من كونها جهرية أو إخفاتية.ولكن هذا ليس من محل الكلام في شيء ضرورة أنّ المأمور به كما عرفت ليس هو الجهر أو الاخفات بما هو،والقصر أو التمام كذلك،بل المأمور به هو القراءة الجهرية والقراءة الاخفاتية،والصلاة قصراً والصلاة تماماً،وقد عرفت أنّ بينهما واسطة فلا يكون وجود إحداهما ضرورياً عند ترك الاُخرى.
بل يمكن أن يقال:إنّ ما ذكره (قدس سره) لو تمّ فانّما يتم بالاضافة إلى مسألة الجهر والخفت،وأمّا بالنسبة إلى الاتمام والتقصير فالواسطة موجودة، فان معنى التقصير هو الاتيان بالتسليمة في الركعة الثانية،ومعنى الاتمام هو التسليم في الركعة الرابعة،ويمكن المكلف ترك كلا الأمرين كما هو واضح.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ المسألتين داخلتان في موضوع بحث الترتب.فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أ نّهما من الضدّين اللذين ليس لهما ثالث مبني على غفلته عما ذكرناه،وتخيل أنّ المأمور به هو نفس الجهر والاخفات.
الثالث: ما ذكره (قدس سره) من أنّ الخطاب المترتب على عصيان خطاب آخر إنّما يكون فعلياً عند تحقق أمرين:
الأوّل: تنجز الخطاب المترتب عليه من ناحية وصوله إلى المكلف صغرىً وكبرىً.وقد ذكرنا في محلّه أنّ التكليف ما لم يصل إلى المكلف بحسب الصغرى والكبرى لا يكون محرّكاً له وموجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته 1.
الثاني: عصيانه الذي هو الموضوع للخطاب المترتب.وقد ذكرنا غير مرّة أنّ فعلية الحكم بفعلية موضوعه،ويستحيل أن يكون الحكم فعلياً بدون فعلية موضوعه وتحققه في الخارج،وحيث إنّ المفروض فيما نحن فيه توقف صحة الصلاة مع القراءة الجهرية مثلاً على الجهل بوجوب الاخفات،فلا يمكن تحقق العصيان للتكليف بالاخفات ووجوبه ليتحقق موضوع وجوب الجهر،لأنّ التكليف الواقعي لا يتنجز مع الجهل به،وبدون التنجز لا يتحقق العصيان الذي اخذ في موضوع وجوب الجهر.
وعلى هذا،فلا يتحقق شيء من الأمرين المزبورين،وبدون ذلك يستحيل فعلية الخطاب المترتب،فإذا استحالت فعليته استحال جعله أيضاً،لما ذكرناه من أنّ الغرض من جعل التكليف-سواء أكان وجوبياً أم تحريمياً-إنّما هو إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل أو الترك،ومن الواضح أ نّه إنّما يكون داعياً فيما إذا أمكن إحرازه صغرىً وكبرىً،وأمّا إذا لم يمكن إحرازه كذلك فيستحيل أن يكون داعياً.
ومن هنا قد ذكرنا في بحث البراءة 1أنّ التكليف إذا لم يصل إلى المكلف صغرىً فلا يكون محرّكاً له بمجرّد وصوله كبرى،كما إذا علم بحرمة شرب الخمر مثلاً في الشريعة المقدسة،ولكن لم يعلم أنّ هذا المائع المعيّن خمر،فلا يكون مثل هذا العلم داعياً إلى ترك شرب هذا المائع،وكذا الحال فيما إذا كان التكليف واصلاً صغرىً،ولكنّه لم يصل كبرىً،كما إذا علم أنّ هذا المائع المعيّن خمر، ولكن لم يعلم حرمة شربه،فلا يكون مجرّد العلم بكونه خمراً مؤثراً في تركه.
ومن ذلك قلنا إنّه لا فرق في جريان البراءة بين الشبهات الحكمية والموضوعية، فكما أ نّها تجري في الاُولى فكذلك تجري في الثانية،لأنّ ملاك الجريان فيهما واحد-وهو عدم العلم بالتكليف الفعلي-غاية الأمر أنّ جريانها في الاُولى مشروط بالفحص فلا تجري قبله،دون الثانية،وفي المقام بما أ نّه لا يمكن إحراز موضوع الخطاب المترتب-وهو عصيان الخطاب المترتب عليه-فلا يمكن جعله لأ نّه لغو فلا يصدر من الحكيم.
ثمّ أورد على نفسه:بأنّ المفروض في محل الكلام هو أنّ الجهل بالخطاب المترتب عليه ناشئ عن التقصير،فلا يكون مانعاً عن تنجز الخطاب المزبور، وحصول عصيانه الذي اخذ في موضوع الخطاب المترتب،فانّ المانع عن ذلك إنّما هو الجهل عن قصور.
وأجاب عنه: بأنّ الخطاب الواقعي لا يكون منجّزاً وقابلاً للدعوة في ظرف الجهل،من دون فرق فيه بين كون الجهل عن قصور أو عن تقصير،وأمّا استحقاق العقاب فانّما هو على مخالفة الواقع في ظرف وجوب الاحتياط أو التعلم،والوجه فيه:ما ذكرناه في محلّه 1من أنّ وجوب الاحتياط أو التعلم إنّما هو من باب تتميم الجعل الأوّل،فالعقاب على مخالفة الواقع هو بعينه العقاب على مخالفة إيجاب الاحتياط أو التعلّم وبالعكس.وعلى هذا يترتب أنّ استحقاق العقاب على تقدير مخالفة الحكم الواقعي في موارد وجوب الاحتياط أو التعلم لا يصحح إحراز العصيان،فانّ إحرازه يتوقف على وصول الحكم الواقعي بنفسه بالوجدان أو بطريق معتبر من أمارة أو أصل محرز،ومن الواضح أ نّه ما لم يحرز العصيان لا وجداناً ولا تعبداً لا يكون الحكم المترتب عليه محرزاً أيضاً.
وبتعبير آخر: أنّ تعلق الأمر بالضدّين على نحو الترتب يبتني على أخذ
عصيان الأمر المترتب عليه في موضوع الأمر المترتب،وهذا في محل الكلام غير معقول،فلا يمكن أخذ عصيان الأمر بالاخفات مثلاً في موضوع الأمر بالجهر،والوجه في ذلك:هو أنّ المكلف بالقراءة الاخفاتية لا يخلو من أن يكون عالماً بوجوب الاخفات عليه،أو يكون جاهلاً به ولا ثالث لهما.أمّا الفرض الأوّل فهو خارج عن محل الكلام،إذ المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب الاخفات،فلا يقع صحيحاً في صورة العلم بوجوبه بالضرورة.وأمّا على الفرض الثاني فعصيان وجوب الاخفات وإن كان متحققاً في الواقع،إلّاأ نّه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل، لاستحالة جعل حكم على موضوع لا يمكن إحرازه أصلاً،فانّ المكلف إذا علم بعصيانه وجوب الاخفات ينقلب الموضوع فيصير الواجب عليه عندئذ هو الاخفات دون الجهر،وإذا كان جاهلاً به فلا يصل،وعليه فكيف يمكن أخذه في موضوع وجوب الجهر.
وإن شئت فقل: إنّ فعلية الخطاب المترتب تتوقف على توفير شروط:
الأوّل:أن يكون الخطاب المترتب عليه فعلياً ومنجّزاً.
الثاني:كون المكلف عاصياً له وغير آتٍ به في الخارج.
الثالث:كونه عالماً بعصيانه،فعند توفر هذه الشروط الثلاثة يمكن القول بالترتب وبفعلية الخطاب المترتب،وإلّا فلا يمكن القول به أبداً،فالموارد التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول كما في الشبهات البدوية،تنتفي فيها الشروط الثلاثة معاً،ضرورة أ نّه مع جريان البراءة لا يتنجز التكليف الواقعي،ومع عدم تنجزه فلا عصيان فضلاً عن العلم به.وعليه فلا يمكن القول بالخطاب الترتبي في تلك الموارد،كما أ نّه في الموارد التي لا تجري فيها أصالة البراءة من جهة وصول التكليف الواقعي بطريقه وذلك كموارد الشبهات
قبل الفحص،والموارد التي اهتمّ الشارع بها،يمتنع جعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي في تلك الموارد،فانّ التكليف الواقعي فيها وإن كان فعلياً ومنجّزاً إلّاأنّ مجرد ذلك لا يجدي في صحة الخطاب بنحو الترتب، لانتفاء الشرطين الأخيرين فيها،أعني بهما تحقق العصيان،والعلم به.
والوجه فيه: ما عرفت من أنّ العصيان في تلك الموارد حقيقة إنّما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي-وهو وجوب الاحتياط أو التعلم-الواصل عند المصادفة للواقع دون الخطاب الواقعي المجهول،وكما أنّ في موارد العلم الاجمالي التي كان التكليف فيها معلوماً إجمالاً وواصلاً به،وفعليته وعصيانه كانا متحققين واقعاً على تقدير تحقق المخالفة ومصادفة الاحتمال للواقع،فمع ذلك لا يمكن الالتزام بالترتب فيها،وجعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي،وذلك لأنّ الشرط الأخير الذي اعتبر في صحة الخطاب الترتبي – أعني به العلم بتحقق العصيان الموجب لوصول الخطاب المترتب وتنجزه على المكلف-منتف في هذا الفرض.
والحاصل:أنّ المكلف إن لم يكن محرزاً للعصيان المترتب عليه خطاب آخر لم يتنجز عليه ذلك الخطاب،لعدم إحراز موضوعه-وهو العصيان-وإن كان محرزاً له فجعل الخطاب المترتب في مورده وإن كان صحيحاً ولا مانع منه أصلاً،إلّاأ نّه خلاف مفروض الكلام في المقام،فانّ مفروض الكلام هو جعل خطاب آخر مترتباً على العصيان الواقعي للخطاب الأوّل في ظرف جهل المكلف به لا مطلقاً،ومن الواضح أنّ كل خطاب يستحيل وصوله إلى المكلف صغرىً أو كبرىً يستحيل جعله من المولى الحكيم.
وعلى ذلك يتفرع استحالة أخذ النسيان في موضوع خطاب،فانّ المكلف إن التفت إلى نسيانه انقلب الموضوع وخرج عن عنوان الناسي،وإن لم يلتفت
إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه،فلا يمكن جعل مثل هذا التكليف الذي لا يعقل وصوله إلى المكلف أبداً.هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في المقام مع شيء من التوضيح.
أقول: ما ذكره (قدس سره) ينحل إلى عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ فعلية الخطاب المترتب على عصيان الخطاب الآخر ترتكز على ركائز ثلاث:1-فعلية ذلك الخطاب وتنجزه.2-عصيانه.3-العلم بعصيانه،وإلّا فتستحيل فعلية الخطاب المترتب على ذلك.
وعلى ضوء تلك النقطة تترتب امور:
الأوّل:عدم إمكان جريان الترتب في محل الكلام وفي مسألة القصر والتمام، لعدم توفر الركيزة الثانية والثالثة فيهما-وهما تحقق العصيان في الواقع والعلم به-والعصيان وإن كان متحققاً في كلتا المسألتين،إلّاأ نّه حقيقةً إنّما هو بالاضافة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع-وهو وجوب التعلم-لا على مخالفة الخطاب الواقعي المجهول.
الثاني:عدم إمكان جريانه في الشبهات البدوية التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول،لعدم توفر شيء من الركائز المزبورة في تلك الشبهات كما هو واضح.
الثالث:أ نّه لا يمكن جعل خطاب مترتب على عصيان خطاب آخر في موارد الشبهات قبل الفحص،أو الموارد المهمة التي يجب الاحتياط فيها،لانتفاء الركيزة الثانية والثالثة فيهما-أعني بهما تحقق العصيان،والعلم به-وذلك لما عرفت من أنّ العصيان حقيقة إنّما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند مطابقته للواقع،دون الخطاب الواقعي المجهول.
الرابع:عدم إمكان جريانه في موارد العلم الاجمالي،لعدم توفر الركيزة الثالثة في تلك الموارد،وإن كانت الركيزة الاُولى والثانية متوفرتين فيها،فانّ التكليف المعلوم بالاجمال واصل إلى المكلف بالعلم الاجمالي،وعصيانه متحقق على تقدير تحقق المصادفة للواقع،وذلك لأنّ العلم بتحقق العصيان الموجب لوصول التكليف المترتب وتنجزه على المكلف منتفٍ في هذا الفرض.
الثانية: أنّ العقاب فيما نحن فيه وفي الشبهات قبل الفحص وفي الموارد المهمة،إنّما يكون على مخالفة الوجوب الطريقي كوجوب التعلم أو الاحتياط المستلزمة لمخالفة الواقع،ومن هنا قلنا إنّ العصيان حقيقة إنّما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع،دون الخطاب الواقعي المجهول.
الثالثة: أ نّه لا يمكن أخذ النسيان بشيء في موضوع حكم،لاستحالة كونه واصلاً إلى المكلف،وذلك لأنّ المكلف إن التفت إلى نسيانه خرج عن موضوع الناسي وصار ذاكراً،وإن لم يلتفت إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه،فلا يمكن جعل مثل هذا الحكم الذي لا يمكن وصوله إلى المكلف صغرىً وكبرىً أبداً.
ولنأخذ بدراسة هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فبناءً على ما أفاده (قدس سره) من أنّ المأخوذ في موضوع الخطاب المترتب هو عصيان الخطاب المترتب عليه،فهي في غاية الصحة والمتانة،ضرورة أ نّه على أساس تلك النقطة لا يمكن القول بالترتب في شيء من الموارد المزبورة كما عرفت.أمّا فيما نحن فيه وما شاكله فلانتفاء الركيزة الثالثة-وهي إحراز عصيان الخطاب المترتب عليه-لوضوح أنّ الأمر بالقراءة الجهرية إذا كان مشروطاً بعصيان الأمر بالقراءة الاخفاتية وبالعكس،ومع
ذلك كانت صحة كل واحدة منهما مشروطة بحال الجهل بوجوب الاُخرى،لم يمكن إحراز ذلك العصيان بما هو مأخوذ في الموضوع،وإلّا لانقلب الموضوع.
وأمّا في الموارد الثلاثة الأخيرة فأيضاً الأمر كذلك من جهة انتفاء تلك الركيزة فيها بعينها.
نعم،ما أفاده (قدس سره) من انتفاء الركيزة الثانية فيما عدا المورد الأخير، بدعوى أنّ استحقاق العقاب على عصيان الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة للواقع،لا على التكليف الواقعي المجهول،لا يمكن المساعدة عليه،لما سنبيّن في النقطة الآتية إن شاء اللّٰه تعالى.ولكن الالتزام بتلك النقطة،وهي لزوم تقييد فعلية الخطاب المترتب بعنوان عصيان الخطاب المترتب عليه،بلا ملزم وسبب، بل الأمر على خلاف ذلك.فهاهنا دعويان:
الاُولى:أ نّه لا ملزم للتقييد بخصوص العصيان.
الثانية:أ نّه لا بدّ من الالتزام بالتقييد بغيره.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ صحة القول بجواز الترتب لا تتوقف على ذلك أصلاً،فانّ الترتب كما يمكن تصحيحه بتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم، كذلك يمكن تقييده بعدم الاتيان بمتعلقه،فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً.
إذن الالتزام بكون الشرط هو خصوص الأوّل دون الثاني بلا موجب وسبب، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ صحة الترتب-أي تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب-لم ترد في آية أو رواية،ليقال إنّ الموضوع المأخوذ فيها هو عصيان الأمر بالأهم لا ترك متعلقه في الخارج.
وعلى هذا،فلا مانع من أن يكون الأمر بالقراءة الاخفاتية مثلاً مترتباً على
ترك القراءة الجهرية وبالعكس،والأمر بالصلاة تماماً مترتباً على ترك الصلاة قصراً،فانّ الترك قابل للاحراز من دون لزوم محذور انقلاب الموضوع.
فالنتيجة:أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب في هاتين المسألتين،فانّ المانع منه ليس إلّاتوهم أنّ الشرط خصوص العصيان،ولكن قد عرفت بطلانه وأنّ إمكان الترتب لا يتوقف على ذلك،فانّ مناط إمكانه هو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدّين من اجتماع الأمرين في زمان واحد،ومن الواضح أ نّه لا يفرق في ذلك بين أن يكون الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم أو بترك متعلقه في الخارج.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ الملاك الرئيسي لامكان الترتب وجوازه هو أنّ الواجب المهم في ظرف عدم الاتيان بالواجب الأهم وتركه في الخارج مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً،فإذا كان مقدوراً في هذا الحال فلا يكون تعلق الأمر به على هذا التقدير قبيحاً،فانّ القبيح إنّما هو التكليف بالمحال وبغير المقدور،وهذا ليس من التكليف بغير المقدور.
ونتيجة ذلك:هي أنّ شرط تعلق الأمر بالمهم هو عدم الاتيان بالأهم وتركه خارجاً لا عصيانه،ضرورة أنّ إمكان الترتب ينبثق من هذا الاشتراط،سواء أكان ترك الأهم معصية أم لم يكن،وسواء أعلم المكلف بانطباق عنوان العصيان عليه أم لم يعلم،فانّ كل ذلك لا دخل له في إمكان الأمر بالمهم مع فعلية الأمر بالأهم أصلاً،ولذا لو فرضنا في مورد لم يكن ترك الأهم معصية لعدم كون الأمر وجوبياً،لم يكن مانع من الالتزام بالترتب فيه.
ومن هنا قلنا بجريان الترتب في الأوامر الاستحبابية وعدم اختصاصه بالأوامر الالزامية.
وعلى الجملة: فتعلق الأمر بالمهم على الاطلاق في مقابل الأمر بالأهم
قبيح،لاستلزام ذلك طلب الجمع،وكذا تعلقه به في حال الاتيان بالأهم قبيح، لعين المحذور المزبور.وأمّا تعلقه به في حال عدم الاتيان به وترك امتثاله في الخارج فلا قبح فيه،ولازم ذلك هو كون الشرط لتعلق الأمر بالمهم ترك الأهم واقعاً وعدم الاتيان به خارجاً،كان تركه معصية أم لم يكن،كان المكلف محرزاً لانطباق عنوان المعصية عليه أم لم يحرز.
وأمّا العصيان بما هو مع قطع النظر عن تركه وعدم الاتيان به واقعاً،فلا يصلح أن يكون شرطاً له ومصححاً لتعلقه به،وأمّا مع انضمامه به فهو كالحجر في جنب الانسان،فانّ المصحح له واقعاً إنّما هو تركه خارجاً،بداهة أ نّه أساس إمكان الترتب ونقطة دائرة إمكانه،لما عرفت من استحالة تعلق الأمر به في غير تلك الحال.
وأمّا ما تكرر في كلماتنا من أنّ فعلية الأمر بالمهم مشروطة بعصيان الأمر بالأهم،فمن جهة أ نّه عنوان يمكن الاشارة به إلى ما هو شرط في الواقع-وهو ترك الأهم-غالباً،لا من ناحية أ نّه شرط واقعاً وله موضوعية في المقام.إذن فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) هنا لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى صحيح أبداً.
وعلى هذا الأساس لا مانع من الالتزام بالترتب في هاتين المسألتين ودفع الاشكال المتقدم به،غاية الأمر أنّ الترتب فيهما حيث إنّه على خلاف القاعدة فيحتاج وقوعه إلى دليل،والدليل موجود هنا وهو الروايات الصحيحة الواردة فيهما 1،وذلك لا ينافي دفع الاشكال بشكل آخر كما سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه
تعالى.وعلى ضوء ما حققناه قد تبيّن أ نّه لا أصل للركيزة الثانية والثالثة – وهما عصيان الأمر بالأهم،والعلم بعصيانه-ولا دخل لهما في صحة الترتب أصلاً.
نعم،الذي ترتكز عليه صحة الترتب وجوازه هو ترك الاتيان بما تعلق الخطاب المترتب عليه به بما هو ترك،وإحراز ذلك الترك في الخارج.
وعلى هذا الأساس لا بدّ من التفصيل بين الموارد الثلاثة المتقدمة-أعني بها الشبهات البدوية والشبهات قبل الفحص،والموارد المهمة،وموارد العلم الاجمالي – بالالتزام بجريان الترتب فيما عدا الاُولى،وعدم جريانه فيها،فهاهنا دعويان:
الاُولى:عدم جريان الترتب في موارد الشبهات البدوية.
الثانية:جريانه فيما عداها.
أمّا الدعوى الاُولى:فهي في غاية الصحة والمتانة،والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ التكليف الواقعي في الشبهات البدوية على تقدير ثبوته غير صالح لأن يكون مزاحماً لحكم من الأحكام،ومع هذا الحال لا موضوع للبحث عن الترتب.
وأمّا الدعوى الثانية:فلأنّ التكليف الواقعي في جميع تلك الموارد من جهة وصوله إلى المكلف بطريقه أو بعلم إجمالي صالح لأن يكون مزاحماً لتكليف آخر مضاد له،وعليه فلا مانع من الالتزام بالترتب فيها باعتبار أنّ التكليف الواقعي بعد تنجزه لا محالة يقتضي لزوم الاتيان بتلك المشتبهات في موارد الشبهات الوجوبية ووجوب الاجتناب عنها في موارد الشبهات التحريمية،وعندئذ لو كان هناك واجب آخر يزاحم لزوم الاتيان بها أو وجوب الاجتناب عنها،فلا مانع من الالتزام بوجوبه عند ترك ذلك،وهذا واضح.
وأمّا النقطة الثانية: فلا يمكن القول بها،والوجه في ذلك:هو أنّ العقاب
ليس على مخالفة الوجوب الطريقي الواصل المصادف للواقع،ضرورة أنّ مخالفة الوجوب الطريقي بما هو لا توجب العقاب،وفي صورة المصادفة للواقع ليس العقاب على مخالفته،بل إنّما هو على مخالفة الواقع،فانّه بعد تنجزه بوجوب الاحتياط أو التعلم فلا محالة توجب مخالفته استحقاق العقاب.
وعلى الجملة:فوجوب الاحتياط أو التعلم ليس وجوباً نفسياً على الفرض،لتستلزم مخالفته العقوبة،بل هو وجوب طريقي شأنه إحراز الواقع وتنجزه،وبعده لا محالة يكون العقاب على مخالفة الواقع بما هو لا على مخالفته، وضم مخالفته إلى مخالفة الواقع بالاضافة إلى استحقاق العقاب كالحجر في جنب الانسان،ضرورة أ نّه لا دخل له في العقاب أصلاً.
نعم،ما أفاده (قدس سره) من أنّ العقاب لا يمكن أن يكون على الواقع المجهول بما هو متين،إلّاأنّ ذلك لا يوجب أن لا يمكن العقاب عليه بعد إحرازه وتنجزه من جهة وجوب الاحتياط أو التعلم أيضاً.فما أفاده (قدس سره) هنا لا يلائم مذهبه من أنّ وجوب التعلم والاحتياط طريقي لا نفسي.
وأمّا النقطة الثالثة: وهي استحالة أخذ النسيان في موضوع الحكم،فهي في غاية الجودة والاستقامة،وقد تعرّضنا لها في الدورة السابقة في آخر بحث البراءة والاشتغال بصورة مفصّلة فلا حاجة إلى الاعادة هنا،ويأتي الكلام فيها في محلّها إن شاء اللّٰه تعالى 1.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نص كلامه:
قلت:إنّما حكم بالصحة لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء
في نفسها مهمة في حد ذاتها،وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر،وإنّما لم يؤمر بها لأجل أ نّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم.
وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة فانّها بلا فائدة،إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلاً مع تمكنه من التعلم فقد قصّر ولو علم بعده وقد وسع الوقت.فانقدح أ نّه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام،ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات،وإن كان الوقت باقياً.
إن قلت:على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سبباً لتفويت الواجب فعلاً،وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام،وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.
قلت:ليس سبباً لذلك،غايته أ نّه يكون مضاداً له،وقد حققنا في محلّه أنّ الضد وعدم ضدّه متلازمان ليس بينهما توقف أصلاً.
لا يقال:على هذا فلو صلّى تماماً أو صلّى إخفاتاً في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.
فانّه يقال:لا بأس بالقول به لو دلّ دليل على أ نّها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم،لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل، ولا بعد أصلاً في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به كما لا يخفى 1.
أقول: ملخص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ الحكم بصحة الصلاة جهراً في موضع الاخفات وبالعكس،وصحة الصلاة تماماً في موضع القصر يبتني على أساس اشتمالهما على المصلحة الملزمة في نفسها،وبعد استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة الاُخرى التي هي أهم من المصلحة الاُولى،لتضاد المصلحتين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج.ثمّ إنّ اشتمالهما على تلك المصلحة الملزمة يختص بحالة الجهل بوجوب الواجب الواقعي،وأمّا في صورة العلم به فلا مصلحة لهما أبداً،ولا بعد في ذلك،ضرورة أنّ الأشياء تختلف من حيث وجدانها المصلحة أو عدم وجدانها لها باختلاف الحالات والأزمان،وهذا واضح.
ويتفرّع على ذلك عدم وجوب الاعادة ولو مع بقاء الوقت وتمكن المكلف منها،لعدم مشروعيتها بعد استيفاء المصلحة المزبورة في ضمن الصلاة تماماً والصلاة جهراً مثلاً،وقد حققنا في محلّه أنّ عدم الضد ليس مقدمة للضد الآخر ليكون فعله منهياً عنه فيكون فاسداً.وأمّا الحكم باستحقاقه العقوبة مع تمكنه من الاعادة في الوقت فمن ناحية تقصيره،وعدم فائدة الاعادة.
وقد أجبنا عن ذلك في آخر بحث البراءة والاشتغال وملخصه:أنّ المضادة بين الأفعال الخارجية وإن كانت معقولة وواقعة في الخارج بالبداهة،كالمضادة بين القيام والقعود والحركة والسكون وما شاكلهما،وأمّا المضادة بين الملاكات الواقعية القائمة بالأفعال الخارجية بما هي مع قطع النظر عن التضاد بين تلك الأفعال ففي غاية البعد،بل تكاد تلحق بالمحال،ضرورة أ نّه لا يعقل التضاد بين المصلحتين مع إمكان الجمع بين الفعلين،فإذا فرضنا أنّ في كلٍ من صلاتي الجهر والاخفات مصلحة تامة،أو في كلٍ من صلاتي التمام والقصر مصلحة كذلك، وكان المكلف متمكناً من الجمع بينهما خارجاً،فلا نعقل التضاد بين المصلحتين
بحيث لايتمكن المكلف من الجمع بينهما خارجاً واستيفائهما معاً.فما أفاده (قدس سره) من التضاد بين المصلحتين وعدم إمكان استيفائهما معاً لا نعقل له معنىً محصلاً أصلاً.
أضف إلى ذلك:أنّ المصلحتين المفروضتين القائمة إحداهما بطبيعي الصلاة والاُخرى بخصوص القصر أو الاخفات مثلاً لا تخلوان من أن تكونا ارتباطيتين أو تكونا استقلاليتين ولا ثالث لهما.
فعلى الأوّل لا يمكن الحكم بصحة الصلاة تماماً في موضع القصر والصلاة جهراً في موضع الخفت وبالعكس،لفرض أنّ المصلحتين ارتباطيتان،ومع عدم حصول المصلحة الثانية لا يكفي حصول الاُولى.
وعلى الثاني يلزم تعدد الواجب بأن يكون القصر مثلاً أو الجهر أو الاخفات واجباً في واجب،وهو طبيعي الصلاة مع قطع النظر عن أيّة خصوصية من هذه الخصوصيات،باعتبار كونها مشتملة على مصلحة إلزامية في حال الجهل بتلك الخصوصيات،ولازم ذلك هو تعدد العقاب عند ترك الصلاة على الاطلاق وعدم الاتيان بها أبداً،لا تماماً ولا قصراً لا جهراً ولا إخفاتاً،وهو خلاف الضرورة كما لا يخفى.
فالصحيح هو ما ذكرناه في محلّه وحاصله:أ نّه لا يمكن المساعدة على ما هو المشهور بين الأصحاب من الجمع بين الحكم بصحة الجهر في موضع الخفت وبالعكس وصحة التمام في موضع القصر،وبين الحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب الواقعي.
والوجه في ذلك:هو أنّ الجاهل بوجوب القصر والاخفات مثلاً لو صلّى قصراً أو اخفاتاً وتحقق منه قصد القربة في حال الاتيان به،فلا يخلو الأمر من أن يحكم بفساد صلاته هذه ووجوب الاعادة عليه عند انكشاف الحال وارتفاع الجهل،أو يحكم بصحتها وعدم وجوب الاعادة عليه ولا ثالث في البين.
أمّا على الأوّل، فلا شبهة في أن مقتضاه هو أنّ الصلاة تماماً أو جهراً هو الواجب على المكلف تعييناً في الواقع عند جهل المكلف بالحال،وعلى هذا فلا معنى لاستحقاق العقاب على ترك القصر أو الاخفات،ضرورة أنّ القصر أو الاخفات لا يكون واجباً في هذا الحال على الفرض،ليستحقّ العقاب على تركه،ودعوى الاجماع عليه في هذا الفرض من الغرائب كما لا يخفى.على أنّ استحقاق العقاب ليس من الأحكام الشرعية ليمكن دعوى الاجماع عليه.هذا مع أنّ كلمات كثير من الأصحاب خالية عن ذلك.
وأمّا على الثاني، فلا شبهة في أنّ الحكم في الواقع حينئذ يكون هو التخيير بين الجهر والاخفات والقصر والتمام،ولازم ذلك أن يكون الاتيان بالقصر أو الاخفات مجزئاً كما هو شأن كل واجب تخييري،وعلى هذا فلا موضوع لاستحقاق العقاب بعد الاتيان بأحد طرفي التخيير،وإن لم يكن المكلف حال العمل ملتفتاً إليه،ضرورة أنّ الالتفات إليه ليس من أحد شرائط صحة الاتيان بأحد طرفيه.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه أمران:
الأوّل: أ نّه يمكن دفع الاشكال المزبور عن المسألتين المتقدمتين بوجهين:
أحدهما:الالتزام بالترتب في مقام الجعل،وقد عرفت أ نّه لا مانع منه أصلاً، غاية الأمر أنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل،وقد دلّ الدليل على وقوعه فيهما.
ثانيهما:ما ذكرناه لحدّ الآن من أ نّه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلاً كما عرفت.
الثاني: أنّ نقطة الامتياز بين هذين الجوابين هي أنّ الجواب الأوّل ناظر إلى
أ نّه لا مانع من الجمع بين الأمرين المزبورين،أعني بهما صحة التمام في موضع القصر والجهر في موضع الخفت أو بالعكس،واستحقاق العقاب على مخالفة الواقع،فانّه بناءً على القول بصحة الترتب فيهما لا إشكال في الالتزام بالجمع بين هذين الأمرين،بل هو لازم ضروري للقول بالترتب،كما عرفت الكلام فيه بصورة مفصلة.والجواب الثاني ناظر إلى أ نّه مع الحكم بصحة التمام في موضع القصر والجهر في موضع الخفت وبالعكس كما هو صريح صحيحة زرارة 1،لا يمكن الحكم باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع،لما عرفت من أ نّه مع قطع النظر عن الترتب فالحكم بالصحة يبتني على أحد التقديرين المتقدمين هما:كون التمام أو الجهر مثلاً واجباً تعيينياً في ظرف الجهل،وكونه أحد فردي الواجب التخييري.وعلى كلا التقديرين لا مجال لاستحقاق العقاب أصلاً.هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.
أنّ الترتب كما يجري بين الواجبين المضيقين أحدهما أهم من الآخر كما سبق، فهل يجري بين الواجبين أحدهما موسّع والآخر مضيق أم لا ؟
قد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2جريانه فيهما،ببيان أنّ الواجب المهم إذا كان موسعاً له أفراد كثيرة،وكان بعض أفراده مزاحماً للأهم دون بعضها الآخر،فبناءً على ما ذكرناه من أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف من جهة
اقتضاء نفس التكليف ذلك،فلا محالة يتقيد المأمور به بالحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة،فيخرج غير المقدور من الأفراد عن إطلاقه،وعليه فلا محالة يتوقف شمول الاطلاق للفرد المزاحم على القول بامكان الترتب وجوازه،فان قلنا به يدخل في الاطلاق عند عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه،وإلّا فهو خارج عنه مطلقاً.نعم،يمكن الحكم بصحته حينئذ من جهة اشتماله على الملاك.
وأمّا بناءً على ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو من ناحية حكم العقل بقبح تكليف العاجز،فلا نحتاج في الحكم بصحة الفرد المزاحم إلى القول بالترتب والالتزام به،بل يمكن القول بها ولو قلنا باستحالة الترتب،والوجه في ذلك:هو أنّ الطبيعة المأمور بها بما أ نّها مقدورة للمكلف ولو بالقدرة على بعض أفرادها كما هو المفروض،فلا مانع من تعلق الأمر بها على إطلاقها.
وعليه فيصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة،إذ الانطباق قهري والإجزاء عقلي.
أقول: الكلام في ذلك مرّة يقع من ناحية أنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هل هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو اقتضاء نفس التكليف ذلك،ومرّة اخرى يقع من ناحية أنّ المهم إذا كان موسّعاً وكان بعض أفراده مزاحماً بالأهم،أيمكن إثبات صحته بالترتب أم لا ؟
أمّا الكلام في الناحية الاُولى:فقد ذكرنا أنّ القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف أصلاً،لا من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز،ولا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك،وإنّما هي معتبرة في ظرف الامتثال والاطاعة، ضرورة أنّ العقل لا يحكم بأزيد من اعتبارها في تلك المرحلة،وقد تقدّم
الكلام 1في ذلك بصورة مفصّلة،وقد أوضحنا هناك بطلان ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من وجوه فلاحظ.
وأمّا الكلام في الناحية الثانية:فجريان الترتب فيه يبتني على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، وبما أنّ تقييد المهم في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال،فاطلاقه بالاضافة إليه أيضاً محال،وعليه فلا يمكن الحكم بصحته من جهة الاطلاق،فلا محالة تبتني صحته على القول بالترتب مع قطع النظر عن كفاية الملاك،غاية الأمر أنّ الترتب هنا إنّما هو في إطلاق الواجب المهم،بمعنى أنّ إطلاقه مترتب على ترك الواجب الأهم،وهذا بخلاف الترتب في غير المقام،فان هناك أصل الخطاب بالمهم مترتب على ترك امتثال الخطاب بالأهم لا إطلاقه،وعلى كل حال فالترتب في المقام مبتنٍ على مسلكه (قدس سره).
ولكن قد ذكرنا غير مرّة أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد، فاستحالة أحدهما في مورد لا يستلزم استحالة الآخر،وعليه فلا يتوقف الحكم بصحته على القول بجواز الترتب،ضرورة أ نّه عندئذ يمكن الاتيان به بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة.
وعلى الجملة:فجريان الترتب فيما إذا كان الواجب المهم موسعاً والأهم مضيقاً يرتكز على أحد أمرين:
الأوّل: دعوى اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلقه وأ نّه يوجب
تقييده بحصة خاصة وهي الحصة المقدورة.
الثاني: دعوى أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق.
ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين في غير موضع.هذا مضافاً إلى أنّ الدعوى الاُولى-على تقدير تسليمها في نفسها-لا توجب تقييد المتعلق بخصوص تلك الحصة،كما تقدّم الكلام في ذلك بشكل واضح 1فلا نعيد.
فالصحيح في المقام أن يقال كما ذكرناه سابقاً:إنّ هذه الصورة-أعني بها ما إذا كان المهم موسعاً والأهم مضيقاً-خارجة عن كبرى مسألة التزاحم لتمكن المكلف فيها على الفرض من الجمع بين التكليفين في مقام الامتثال،ومعه لا مزاحمة بينهما أصلاً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ البحث عن إمكان ترتب أحد الحكمين على عدم الاتيان بمتعلق الحكم الآخر واستحالة ذلك،إنّما هو في فرض التزاحم بينهما، وإلّا فلم يكن للبحث عنه موضوع أصلاً،كما هو واضح.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ الصورة المزبورة خارجة عن موضوع بحث الترتب،فان موضوع بحثه هو ما إذا لم يمكن إثبات صحة المهم إلّا بناءً على القول بالترتب،وفي المقام يمكن إثبات صحته بدون الالتزام به،بل ولو قلنا باستحالته كما عرفت غير مرّة.
ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2أنّ المكلف قد يكون عالماً بخطاب الأهم قبل الشروع في امتثال خطاب المهم،وقد يكون عالماً به بعد الشروع
فيه.أمّا على الفرض الأوّل فيدور الحكم بصحة الاتيان بالمهم وامتثال خطابه مدار القول بامكان الترتب،كما أنّ الحكم بفساده يدور مدار القول بامتناعه كما سبق.وأمّا على الفرض الثاني وهو ما إذا كان المكلف عالماً بخطاب الأهم بعد الشروع فيه،فان كان الواجب المهم ممّا لا يحرم قطعه فحكمه حكم الفرض الأوّل بلا كلام.وأمّا إن كان ممّا يحرم قطعه كما إذا دخل في المسجد وشرع في الصلاة ثمّ علم بتنجسه،فعندئذ لا يتوقف بقاء الأمر بالمهم-وهو الصلاة في مفروض المثال-على القول بالترتب،فيمكن الحكم بصحتها من دون الالتزام به أصلاً.
والوجه في ذلك:هو أنّ إزالة النجاسة عن المسجد وإن كانت أهم من الصلاة باعتبار أ نّها فورية دون الصلاة،إلّاأنّ المكلف إذا شرع فيها وحرم عليه قطعها على الفرض لم يكن عندئذ موجب لتقديم الأمر بالازالة على الأمر بالصلاة،وعليه فلا يتحقق عصيان لخطابها ليكون الأمر باتمامها متوقفاً على جواز الترتب.
وسرّ ذلك:هو أنّ الدليل على وجوب الازالة إنّما هو الاجماع،وليس دليلاً لفظياً ليكون له إطلاق أو عموم يشمل هذه الصورة أيضاً.وعلى هذا فلا بدّ من الاقتصار على المقدار المتيقن منه،والمقدار المتيقن منه غير تلك الصورة فلا يشملها.إذن يبقى الأمر بالاتمام بلا مزاحم.وعلى الجملة فالاجماع بما أ نّه دليل لبّي فالقدر المتيقن منه غير هذا الفرض فلا يشمل ذلك.
نعم،إذا كان هناك واجب آخر أهم من إتمام الصلاة كحفظ النفس المحترمة أو ما شاكله،توقف الأمر باتمام الصلاة عندئذ على القول بالترتب أيضاً، ضرورة أنّ الأمر بالاتمام من جهة مزاحمته بالأهم قد سقط يقيناً،فثبوته له حينئذ لا محالة يتوقف على عصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم لو كان مدرك حرمة قطع
الصلاة هو الروايات الدالة على أنّ تحليلها هو التسليم 1،فان مقتضى إطلاق تلك الروايات هو حرمة قطعها والخروج عنها بغير التسليم مطلقاً ولو كانت مزاحمة مع الازالة.ولكن قد ذكرنا في بحث الفقه 2أنّ شيئاً من هذه الروايات لا يدل على حرمة قطع الصلاة،غاية ما في الباب أ نّها تدل على أنّ التسليم هو الجزء الأخير،وأنّ الصلاة تختتم به كما تفتتح بالتكبيرة،وأمّا أنّ قطعها يجوز أو لا يجوز فهي أجنبية عن هذا تماماً.
ومن هنا قلنا إنّه لا دليل على حرمة قطع الصلاة أصلاً ما عدا دعوى الاجماع على ذلك كما في كلمات غير واحد،ولكن قد ذكرنا أنّ الاجماع لم يتم، فانّ المحصّل منه غير ثابت،والمنقول منه غير معتبر.على أ نّه يحتمل أن يكون مدركه تلك الروايات أو غيرها،ومع هذا كيف يمكن أن يكون كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام).
ولو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا ثبوت الاجماع،فالقدر المتيقن منه هو ما إذا لم تكن الصلاة مزاحمة مع الازالة،وأمّا في صورة المزاحمة فلا علم لنا بثبوته، وذلك لعدم تعرض كثير من الفقهاء لتلك الصورة.وعليه فلا موجب لتقديم وجوب إتمام الصلاة على وجوب الازالة.
وعلى الجملة:بما أنّ الدليل على كل من الطرفين هو الاجماع فهو لا يشمل الصورة المزبورة،فإذن لا دليل على وجوب الازالة في تلك الصورة،ولا على وجوب الاتمام،وحيث لا أهمية في البين فمقتضى القاعدة هو التخيير بين قطع الصلاة والاشتغال بالازالة وبين إتمامها،وتمام الكلام في محلّه.
هل يمكن الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب أم لم يمكن ؟
أقول: تحقيق الكلام في هذه المسألة يستدعي البحث عنها في جهات:
الاُولى:الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب.
الثانية:الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب.
الثالثة:الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة أو في الفضاء المغصوب.
أمّا الجهة الاُولى: فلا شبهة في فساد الوضوء أو الغسل،والوجه فيه ظاهر، وهو أنّ المنهي عنه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به،وحيث إنّ الوضوء أو الغسل في هذا الماء بنفسه تصرّف في مال الغير ومصداق للغصب،فيستحيل أن ينطبق عليه المأمور به،ولا يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أبداً كما هو ظاهر.
وأمّا الجهة الثانية: فلو قلنا إنّه يصدق على الوضوء أو الغسل من إناء المغصوب أو الذهب أو الفضة أ نّه نحو تصرف فيه بناءً على عدم جواز استعمال الآنيتين مطلقاً،فلا إشكال في فساده أيضاً،لما عرفت من أنّ المحرّم يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به،وبما أنّ الوضوء أو الغسل على هذا بنفسه محرّم فيمتنع أن ينطبق الواجب عليه،وهذا واضح.وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ المأمور به في مثل هذه الموارد غير متحد مع المنهي عنه،فانّ المأمور به هو صب الماء على الرأس والبدن أو على الوجه واليدين،والمنهي عنه هو أخذ الماء من تلك الأواني،فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل،وذلك
لعدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته ولوازمه الاتفاقية.
وإن شئت فقل:إنّ متعلق النهي هو أخذ الماء منها،فانّه نحو استعمال لها وهو محرّم على الفرض،وأمّا صبّه على الوجه واليدين مثلاً بعد أخذه منها فليس باستعمال لها ليكون محرّماً،نعم هو مترتب عليه،وقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب 1أنّ حرمة المقدمة لا تمنع عن إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة،وأمّا إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بينهما.فإذن المرجع هو قواعد باب التزاحم.
ولكن المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو التفصيل بين ما إذا كان الماء منحصراً فيها وما إذا لم يكن،فذهبوا إلى فساد الوضوء أو الغسل في الصورة الاُولى،وإلى صحته في الصورة الثانية.
أمّا الصورة الاُولى: فقد ذكروا أنّ أخذ الماء منها بما أ نّه كان محرّماً شرعاً فالمكلف وقتئذ فاقد للماء،لما ذكرناه غير مرّة من أنّ المستفاد من الآية المباركة بقرينة داخلية وخارجية هو أنّ المراد من وجدان الماء فيها وجوده الخاص، وهو ما إذا تمكن المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً،وفي المقام وإن تمكن من استعماله عقلاً وتكويناً،ولكنّه لا يتمكن منه شرعاً،والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي،فإذن وطيفته هي التيمم.
وأمّا الصورة الثانية: فلأنّ الوضوء أو الغسل مشروع في حقّه،لفرض أ نّه واجد للماء غاية الأمر أ نّه قد ارتكب مقدمة محرّمة وهي أخذ الماء من الأواني، وهذا لايمنع عن صحة وضوئه أو غسله بعد ما كان الماء الموجود في يده مباحاً، وهذا ظاهر.
أقول: التحقيق على ما هو الصحيح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه
خارجاً،صحة الوضوء أو الغسل على كلا التقديرين،وبيان ذلك يقتضي دراسة نواحي عديدة:
الاُولى:صورة انحصار الماء بأحد الأواني المزبورة مع عدم تمكن المكلف من تفريغ الماء منها في إناء آخر على نحو لا يصدق عليه الاستعمال.
الثانية:ما إذا تمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر من دون أن يصدق عليه الاستعمال.
الثالثة:صورة عدم انحصار الماء فيها ووجود ماء آخر عنده يكفي لوضوئه أو غسله.
أمّا الكلام في الناحية الاُولى:فيقع في موردين:
الأوّل:ما إذا أخذ المكلف الماء من هذه الأواني دفعة واحدة بمقدار يفي لوضوئه أو غسله.
الثاني:ما إذا أخذ الماء منها غرفة غرفة.
أمّا الأوّل: فالظاهر أ نّه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به،ضرورة أنّ المكلف بعد أخذ الماء منها صار واجداً للماء وجداناً ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً،ولا نرى في استعمال هذا الماء في الوضوء أو الغسل أيّ مانع، هذا نظير ما إذا توقف التمكن من استعمال الماء على التصرف في أرض مغصوبة، ولكن المكلف بسوء اختياره تصرف فيها ووصل إلى الماء،وبعد وصوله إليه لا إشكال في أ نّه واجد للماء ووظيفته عندئذ هي الوضوء أو الغسل دون التيمم، وإن كان قبل التصرف فيها أو قبل الأخذ منها فاقداً للماء وكانت وظيفته التيمم دون غيره،ولكن بعد التصرف فيها أو بعد الأخذ منها انقلب الموضوع وصار الفاقد واجداً للماء.وهذا لعلّه من الواضحات.
وأمّا الثاني: فلأنّ بطلان الوضوء أو الغسل على هذا يبتني على اعتبار القدرة الفعلية على مجموع العمل المركب من أجزاء تدريجية كالصلاة والصوم والوضوء والغسل وما شاكلها من الابتداء وقبل الشروع فيه،ولم نكتف بالقدرة التدريجية على شكل تدريجية أجزائه بأن تتجدد القدرة عند كل جزء منها،ويكون تجددها عند الأجزاء اللّاحقة شرطاً لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر.وعلى هذا فلا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بأخذ الماء منها غرفة غرفة،ضرورة أنّ المكلف قبل الشروع في التوضؤ أو الاغتسال لم يكن واجداً للماء بمقدار يكفي لوضوئه أو غسله،فوقتئذ لو عصى وأخذ الماء منها غرفة غرفة وتوضأ أو اغتسل به فيكون وضوءه أو غسله باطلاً،لعدم ثبوت مشروعيته.
وهذه النظرية وإن قوّيناها سابقاً،ولكنّها نظرية خاطئة،بيان ذلك:أ نّه لا مجال لتلك النظرية بناءً على ما حققناه من إمكان الشرط المتأخر وأ نّه لا مناص من الالتزام به في الواجبات المركبة من الأجزاء الطولية،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد حققنا ضرورة إمكان الترتب وأ نّه لا مناص من التصديق به.ومن ناحية ثالثة:قد ذكرنا غير مرّة أنّ القدرة التي هي شرط للتكليف إنّما هي القدرة في ظرف العمل والامتثال،ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة عند الاتيان بكل جزء ولا دليل على اعتبارها من الابتداء.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي صحة الوضوء أو الغسل بالماء المأخوذ منها بالاغتراف،فانّ القدرة تتجدّد عند كل جزء من أجزائه بالعصيان وبارتكاب المحرّم،حيث إنّ المكلف بعد ارتكابه واغترافه الماء من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة يقدر على الوضوء مثلاً بمقدار غسل الوجه،وبما
أ نّه يعلم بارتكابه المحرّم ثانياً وثالثاً إلى أن يتمّ الوضوء أو الغسل،يعلم بطروء التمكن عليه من غسل سائر الأعضاء،فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً على عصيانه،بناءً على ما ذكرناه من صحة الترتب وجوازه،وأنّ وجود القدرة في ظرف الاتيان بالأجزاء اللّاحقة شرط لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر.
ومن المعلوم أ نّه لا فرق في ذلك بين أنّ القدرة تبقى من الابتداء،أو تحدث في ظرف الاتيان بها،وقد عرفت أ نّه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك.
وبتعبير واضح:أ نّه لاينبغي الاشكال في كفاية القدرة بالتدريج على الواجبات المركبة على شكل تدرج أجزائها،بأن تحدث القدرة على كل جزء منها في ظرفه،مثلاً إذا فرض أنّ عند المكلف ماءً قليلاً لا يفي إلّابغسل وجهه فقط، ولكنّه يعلم بنزول المطر من جهة إخبار معصوم (عليه السلام) مثلاً،أو قرينة قطعية اخرى،فلا إشكال في صحة غسله وجهه بقصد الوضوء،لتمكنه عندئذ من غسل بقية الأعضاء بعد غسل وجهه،أو لو كان عنده ثلج يذوب شيئاً فشيئاً،وليس عنده إناء ليجمعه فيه،ففي مثل ذلك يتمكن من الوضوء أو الغسل بأخذ الماء غرفة غرفة وعلى نحو التدريج،فلا تكون وظيفته التيمم، لأ نّه واجد للماء وقادر على استعماله في الوضوء أو الغسل عقلاً وشرعاً،بداهة أ نّه لا يعتبر في صحة الوضوء أو الغسل أن يكون عنده ماء بمقدار يفي به من الابتداء وقبل الشروع فيه،إذ هو عمل تدريجي لا يعتبر في صحته وتعلق الأمر به إلّاالقدرة عليه،سواء أكانت موجودة من الأوّل أو وجدت تدريجاً،فانّه لا دخل لشيء من الخصوصيتين في فعلية التكليف بنظر العقل.
ونظير هذا ما إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار غرفة واحدة دون الزائد،ولكنّه لو أخذ ذلك الماء فيخرج بذاك المقدار ثانياً وهكذا،فلا إشكال
في وجوب الوضوء عليه أو الغسل.
ومن هذا القبيل ما إذا كان الماء لغير المكلف ولم يرض بالتصرف فيه إلّا بالأخذ منه بمقدار غرفة واحدة،ولكنّه يعلم أ نّه يبدو له ويرضى بعد غسل وجهه به مثلاً بالأخذ منه غرفة ثانية وثالثة وهكذا إلى أن يتم وضوءه أو غسله،فانّه يجب عليه الوضوء أو الغسل حينئذ بلا إشكال.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل في أمثال تلك الموارد،ولا يشرع في حقّه التيمم،لكونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً،ضرورة أ نّه لا نعني بوجدان الماء إلّاكونه متمكناً من استعماله من زمان الشروع في الوضوء أو الغسل إلى زمان انتهائه،ولا أثر لوجدان الماء من الابتداء بالاضافة إلى الأجزاء التالية،وإنّما الأثر لوجدانه حين الاتيان بها وغسلها كما هو واضح،هذا من جانب.ومن جانب آخر:
أ نّك قد عرفت أنّ الترتب أمر ممكن،بل لا مناص من الالتزام به.
وعلى ضوء هذين الجانبين فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة بقانون الترتب،وأنّ الأمر بالوضوء أو الغسل مترتب على عصيان المكلف النهي عن التصرف فيها،إذ المانع من الأمر به إنّما هو حرمة التصرف في تلك الأواني،وأمّا بعد ارتكابه المحرّم باغترافه منها يتمكن من الوضوء أو الغسل بمقدار غسل الوجه أو الرأس فحسب،ولكنّه علم بطروء العصيان باغترافه ثانياً وثالثاً إلى أن يتمكن من غسل بقية الأعضاء،وإن فرض أ نّه لم يتوضأ أو لم يغتسل به خارجاً،فحينئذ لا مناص من الالتزام بالأمر به مترتباً على عصيانه،لكونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً،وقد عرفت أ نّه لا فرق بين الوجدان الفعلي والوجدان التدريجي،فكلاهما بالاضافة إلى وجوب الغسل أو الوضوء على نسبة واحدة،