آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
عنوان کتاب : محاضرات فی أصول الفقه
نام ناشر : موسسه احیاء آثار الامام الخویی
جلد : 3
تعداد صفحات: 520
ها هنا جهات من البحث:
الاُولى:بيان حقيقة التزاحم وواقعه الموضوعي.
الثانية:بيان حقيقة التعارض وأساسه.
الثالثة:بيان النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.
الرابعة:بيان مرجحات باب التعارض من جانب،وما تقتضيه القاعدة فيه من جانب آخر.
الخامسة:بيان مرجحات باب التزاحم،وما تقتضيه القاعدة عند فقدانها.
أمّا الجهة الاُولى: فالتزاحم على نوعين:
الأوّل: التزاحم بين الملاكات الواقعية بأن تكون مثلاً في فعلٍ جهة مصلحة تقتضي إيجابه،وجهة مفسدة تقتضي تحريمه،أو كانت فيه جهة تقتضي استحبابه وجهة اخرى تقتضي كراهته وهكذا،ففي هذه الموارد وما شاكلها لا محالة تقع المزاحمة بين المصلحة والمفسدة،أو كانت مصلحة في فعل ومصلحة اخرى في فعل آخر مضاد له،وهكذا.
ومن الواضح جداً أنّ الأمر في هذا النوع من التزاحم بيد المولى،حيث إنّ عليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد،ويقدّم ما هو الأقوى والأهم من تلك الملاكات على غيره التي لم تكن بهذه المرتبة من القوّة والأهمّية،ويجعل الحكم على طبق الأهم دون غيره.
ومن الضروري أنّ هذا ليس من وظيفة العبد بشيء،فانّ وظيفته العبودية وامتثال الأحكام التي جعلت من قبل المولى ووصلت إليه،والخروج عن عهدة تلك الأحكام وتحصيل الأمن من ناحيتها،من دون ملاحظته جهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أصلاً،بل إذا فرضنا أنّ العبد علم بأنّ المولى قد اشتبه عليه الأمر،كما يتفق ذلك في الموالي العرفية،فجعل الوجوب مثلاً بزعم أنّ في الفعل مصلحة،مع أ نّه لا مصلحة فيه أو علم أنّ فيه مفسدة،لم يكن له بمقتضى وظيفة العبودية مخالفة ذلك التكليف المجعول وترك امتثاله معتذراً بأ نّه لامقتضي للوجوب،أو أنّ فيه مقتضي الحرمة،فانّ كل ذلك لا يُسمع منه ويستحقّ العقاب على مخالفته،كما أنّ من وظيفة الرعايا الالتزام بالقوانين المجعولة في الحكومات، فلو أنّ أحداً خالف قانوناً من تلك القوانين اعتذاراً بأ نّه لا مصلحة في جعله أو أنّ فيه مفسدة،فلا يُسمع هذا الاعتذار منه ويعاقب على مخالفة ذلك.
فالنتيجة: هي أنّ وظيفة المولى جعل الأحكام على طبق جهات المصالح والمفاسد الواقعيتين،وترجيح بعض تلك الجهات على بعضها الآخر في مقام المزاحمة،غاية الأمر أ نّه إذا كان المولى مولىً حقيقياً يجعل الحكم على وفق ما هو الأقوى من تلك الجهات في الواقع ونفس الأمر،وإذا كان عرفياً يجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى بنظره،لعدم إحاطته بجهات الواقع تماماً،ووظيفة العبد الانقياد والاطاعة وامتثال الأحكام،سواء أعلم بوجود مصلحة في متعلقاتها
أم لم يعلم،ضرورة أنّ كل ذلك لا يكون عذراً له في ترك الامتثال،بل يعدّ هذا منه تدخّلاً في وظيفة المولى وهو قبيح.
على أ نّه ليس للعبد طريق إلى إحراز جهات المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام الشرعية مع قطع النظر عن ثبوتها ليراعي ما هو الأقوى منها.نعم، قد يستكشف من أهمّية الحكم أهمّية ملاكه فيرجّح على غيره،ولكن هذا أجنبي عمّا نحن فيه،وهو وقوع المزاحمة بين الملاكات والجهات الواقعية.فإذن ليست لتلك الكبرى صغرى في الأحكام الشرعية أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل:أنّ هذا النوع من التزاحم ليس في مقابل التعارض،فانّ ما هو في مقابله التزاحم في الأحكام الفعلية بعضها ببعض،دون التزاحم في الملاكات، ولذا لا تترتب على البحث عنه أيّة ثمرة.
الثاني:أنّ وقوع التزاحم بين الملاكات يرتكز على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها،وأمّا على وجهة مذهب الأشعري المنكر للقول بالتبعية مطلقاً فلا موضوع له.
النوع الثاني: تزاحم الأحكام بعضها مع بعض في مقام الامتثال والفعلية، ومنشؤه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً،ويكون امتثال كل واحدٍ منهما متوقفاً على مخالفة الآخر،فانّه إذا صرف قدرته على امتثاله يعجز عن امتثال الآخر،فيكون الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة،مثلاً إذا فرضنا أنّ إنقاذ الغريق أو نحوه متوقف على التصرف في مال الغير،أو كان هناك غريقان ولكن المكلف لا يقدر على إنقاذ كليهما معاً،فعندئذ لو اختار امتثال أحدهما يعجز عن امتثال الثاني فينتفي بانتفاء موضوعه.
وبعبارة واضحة قد تعرّضنا في غير موضع:أنّ لكل حكمٍ مرتبتين ولا ثالث
لهما:
الاُولى: مرتبة الجعل والانشاء،وهي جعله لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون تعرّضه لحال موضوعه وجوداً وعدماً،ومن هنا قلنا إنّ كل قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له،ومن الواضح جدّاً أنّ التالي لا يكون ناظراً إلى حال الشرط وجوداً ولا عدماً،بل هو ثابت على تقدير تحققه في الخارج،وكذا الحكم لا يكون ناظراً إلى حال موضوعه أصلاً،بل هو ثابت على فرض تحققه،وهذا معنى كون الموضوع مأخوذاً في القضية الحقيقية على نحو فرض وجوده.
الثانية: مرتبة فعلية الحكم،وهي تتحقق بفعلية موضوعه في الخارج ووجوده،ضرورة أنّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه،ومن هنا قلنا إنّ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته،فكما أنّ فعلية المعلول تدور مدار فعلية علّته،فكذلك فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان:أنّ في موارد التزاحم لا تنافي بين الحكمين بحسب مرتبة الجعل أصلاً،بداهة أ نّه لا تنافي بين جعل وجوب إنقاذ الغريق للقادر على نحو القضية الحقيقية وحرمة التصرف في مال الغير كذلك،كيف فانّ عدم التنافي بين الدليل الدال على وجوب الانقاذ والدليل الدال على حرمة التصرف في مال الغير من الواضحات الأوّلية،وكذا لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر ووجوب الازالة له،وهكذا.
فالتنافي في مورد التزاحم إنّما هو في مرتبة فعلية الأحكام وزمن امتثالها، ضرورة أنّ فعلية كلٍ من حكمين متزاحمين تأبى عن فعلية الآخر،لاستحالة فعلية كليهما معاً،وسرّه أنّ القدرة الواحدة لا تفي إلّاباعمالها في أحدهما،فلا تكفي للجمع بينهما في مقام الاتيان والامتثال،وعليه فلا محالة كان اختيار كل
واحد منهما في هذا المقام يوجب عجزه عن الآخر،فيكون الحكم الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه-وهو القدرة-من دون تصرف في دليله أصلاً.
والوجه في ذلك:ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الخطابات الشرعية تستحيل أن تتعرّض لحال موضوعاتها نفياً وإثباتاً،وإنّما هي متعرضة لبيان الأحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها في الخارج،ومن هنا قلنا إنّ الخطابات الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية،ومفادها مفاد تلك القضايا.
مثلاً:الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام للحائض أو النفساء أو المستطيع أو ما شاكل ذلك لا يتكفل شيء منها لبيان حالها وجوداً أو عدماً،وإنّما هي متكفلة لبيان الأحكام لها على تقدير تحققها في الخارج،ولذا ذكرنا أنّ كل دليل إذا كان ناظراً إلى موضوع دليل آخر نفياً أو إثباتاً حقيقةً أو حكماً،لا يكون أيّ تنافٍ بينه وبين ذلك الدليل،وذلك كما في موارد الورود والحكومة،ضرورة أنّ مفاده ثبوت الحكم على تقدير تحقق موضوعه خارجاً.
ومن الواضح أنّ نفي الحكم بانتفاء موضوعه لا يكون من رفع اليد عن دليله الدال عليه،فانّه إنّما يكون في مورد التعارض حيث إنّ فيه نفي الحكم عن الموضوع الثابت،كما سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه تعالى 1ومقامنا من قبيل الأوّل، فانّ التكليف حيث إنّه مشروط بالقدرة يستحيل أن يكون ناظراً إلى حالها وجوداً أو عدماً،بل هو ناظر إلى حال متعلقه ومقتضٍ لوجوده إن كان التكليف وجوبياً والبعد عنه إن كان تحريمياً.
وعليه فكون المكلف قادراً في الخارج أو غير قادر أجنبي عن مفاد الدليل الدال عليه،فلا يكون انتفاؤه بانتفاء القدرة من رفع اليد عن دليله ومنافياً له،
ضرورة أنّ ما لا اقتضاء له بالاضافة إلى وجود القدرة وعدمها لا يكون منافياً لما هو مقتضٍ لعدمها،كما هو واضح.
نعم،لو كان هناك دليل دلّ على انتفائه مع ثبوت موضوعه لكان منافياً له وموجباً لرفع اليد عمّا دلّ عليه،إذ هذا مقتضٍ لثبوته وذاك مقتضٍ لعدمه،فلا يمكن أن يجتمعا في موضوع واحد،ولكنهما عندئذ صارا من المتعارضين فلا يكونان من المتزاحمين،ومحل كلامنا فعلاً في الثاني لا في الأوّل.
وصفوة القول في ذلك هي:أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا مضادة ولا منافاة بين الأحكام بأنفسها،لأنّها امور اعتبارية فلا شأن لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ولا واقع موضوعي لها غير ذلك،ومن المعلوم أ نّه لا تعقل المضادة والمنافاة بين الاُمور الاعتبارية بعضها ببعض ذاتاً وحقيقة،ومن هنا قلنا إنّ التنافي والتضاد بين الأحكام إمّا أن يكون من ناحية مبدئها،وإمّا أن يكون من ناحية منتهاها،ولا ثالث لهما.
أمّا التنافي من ناحية المبدأ،فيبتني على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها،وحيث إنّ المصلحة والمفسدة متضادتان فلا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.
وأمّا التنافي من ناحية المنتهى،فلعدم تمكن المكلف من امتثال الوجوب والحرمة معاً مثلاً في شيء واحد،وكذا عدم تمكنه من امتثال وجوبين أو تحريمين متعلقين بالضدين اللذين لا ثالث لهما وهكذا،ولا يفرق في هذه الناحية بين مذهب العدلية وغيره.
وعلى هذا الأساس فإذا كان بين حكمين تنافٍ من ناحية المبدأ أو المنتهى بالذات كالوجوب والحرمة لشيء واحد،أو بالعرض كما إذا علم إجمالاً بكذب
أحدهما،فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما.
وأمّا إذا لم يكن بينهما تنافٍ لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى، كوجوب صلاة الفريضة ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً،فلا مانع من جعل كليهما معاً أصلاً،بداهة أ نّه لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر وجعل وجوب إزالة النجاسة عن المسجد،غاية الأمر أ نّه قد يتّفق لبعض أفراد المكلفين أ نّه لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال،وعليه فلا محالة لا يكون أحدهما فعلياً،لما عرفت من أنّ فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه وهو القدرة في مفروض المقام،وحيث إنّ فعلية القدرة بالاضافة إلى كلا الحكمين ممتنعة على الفرض امتنعت فعلية كليهما معاً.
ومن البديهي أنّ هذا المقدار من التنافي لا يمنع من جعلهما على نحو القضية الحقيقية،لوضوح أ نّه لو كان مانعاً فانّما يكون من جهة أ نّه يوجب كون جعلهما لغواً،ومن الواضح أ نّه لا يوجب ذلك باعتبار أ نّه تنافٍ اتفاقي في مادة شخص ما،والموجب له إنّما هو التنافي الدائمي وبالاضافة إلى جميع المكلفين، كما هو الحال في الضدين اللذين ليس لهما ثالث،حيث لا يمكن للشارع إيجابهما معاً،فانّه لغو محض وصدوره من الحكيم محال،بل الحال كذلك في مطلق الضدّين ولو كان بينهما ثالث،كالقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما،فانّه لا يمكن للشارع إيجاب كليهما معاً في زمان واحد،وذلك لعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال أبداً،من جهة أنّ التنافي بينهما أبدي لا اتفاقي، وعليه فايجابهما لغو محض فلا يصدر من الحكيم.
ومن هنا قد ذكرنا سابقاً 1أنّ التضاد بين الفعلين إذا كان دائمياً كان دليل وجوب أحدهما معارضاً لدليل وجوب الآخر لا محالة،فالملاك الرئيسي
للدخول في باب التزاحم هو أن يكون التضاد بينهما اتفاقياً بمعنى أ نّه كان في مورد دون آخر،وبالاضافة إلى مكلف دون مكلف آخر،وقد مرّ أنّ مثل هذا التنافي والتضاد لا يكون مانعاً عن الجعل أبداً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ المنشأ الأساسي لهذا التنافي والتضاد إنّما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال والاطاعة اتفاقاً بعد ما كان قادراً على إتيان كل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر،ولكنّه لم يقدر على الجمع بينهما في الخارج صدفة،لا من ناحية المضادة بينهما دائماً، بل من ناحية أنّ القدرة الواحدة لا تفي لامتثال كليهما معاً.وعليه فلا محالة كان إعمالها في امتثال هذا موجباً لانتفاء فعلية ذاك بانتفاء موضوعه-وهو القدرة – لا أ نّه يوجب انتفاءه مع بقاء موضوعه كما هو الحال في موارد المعارضة بين الدليلين،وقد ذكرنا غير مرّة أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه، فلا هذا يقتضي وجود القدرة ولا ذاك،لتقع المصادمة بين اقتضائهما إيجاد القدرة،بل كل واحد منهما بالاضافة إلى إيجادها وتحققها في الخارج بلا اقتضاء، وعليه فبما أنّ المكلف قادر على امتثال كل واحد منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر،فلا محالة يقتضي كل منهما إعمال القدرة في امتثاله،وحيث إنّ المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معاً،فتقع المزاحمة بين اقتضاء هذا لامتثاله واقتضاء ذاك.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أنّ المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين تكليفين نقطتان:
الاُولى:جعل الشارع كلا التكليفين معاً وفي عرض واحد،ولازم ذلك هو اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الآخر له.
الثانية:عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال،فاذا تحققت
هاتان النقطتان تحققت المزاحمة بينهما لا محالة،وأمّا إذا انتفت إحداهما،كما إذا لم يجعل الشارع إلّاأحدهما دون الآخر،أو كان المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً فلا مزاحمة أصلاً.
وعلى أساس هذا البيان قد ظهر امور:
الأوّل: أنّ المزاحمة بين التكليفين إنّما تكون بالاضافة إلى من لم يقدر على الجمع بينهما في مقام الامتثال،وأمّا مع القدرة عليه فلا مزاحمة بينهما أبداً،بل كلا التكليفين يكون فعلياً من دون أيّة منافاة بينهما.
الثاني: أنّ التزاحم بين الحكمين إنّما هو في مرتبة متأخرة عن مرتبة جعلهما وهي مرتبة الامتثال وحكم العقل بلزومه،ومن هنا قلنا إنّ في باب التزاحم لا تنافي في مقام الجعل أصلاً.
الثالث: أنّ ارتفاع أحد الحكمين في باب التزاحم وعدم فعليته مستند إلى ارتفاع موضوعه وعدم فعليته،لا إلى شيء آخر مع بقاء موضوعه ليقع التنافي بينه وبين ذاك الشيء،ولأجل ذلك يجري التزاحم بين الحكمين المستفادين من آيتين أو سنّتين قطعيتين،وكذلك الحكم المستفاد من رواية والحكم المستفاد من آية من الكتاب أو سنّة قطعية،بل لا مناص من تقديم الرواية على الكتاب أو السنّة القطعية في مقام المزاحمة إذا كانت واجدةً لإحدى مرجحات بابها.
لحدّ الآن قد تبيّن أنّ النقطة الرئيسية التي ينبثق منها التزاحم بين الحكمين بعد الفراغ من جعلهما إنّما هي عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية،وأمّا مع التمكن فلا مزاحمة أصلاً.
ولكن لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام كلام،وهو أنّ التزاحم قد
ينشأ من عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين في مقام الامتثال كما هو الغالب،وقد ينشأ من جهة اخرى غير ذلك.
أمّا الأوّل فقد قسّمه (قدس سره) على خمسة أقسام:
الأوّل: ما إذا كان عدم القدرة اتفاقياً كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر فيما إذا لم يقدر المكلف على انقاذ كليهما معاً.
الثاني: ما إذا كان التزاحم من جهة وقوع التضاد بين الواجبين اتفاقاً،لما عرفت من أنّ التضاد بينهما إذا كان دائمياً فيقع التعارض بين دليليهما،فتكون المصادمة عندئذ في مقام الجعل لا في مقام الامتثال والفعلية.
الثالث: موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان اتّحدتا في الخارج بنحو من الاتحاد،كالصلاة والغصب مثلاً بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها،فوقتئذ تقع المزاحمة بينهما، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة كاكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام العالم المحكوم بالوجوب،وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة،فانّ مورد الاجتماع على هذا يدخل في باب التعارض دون التزاحم.وكذا إذا كانت هناك ماهيتان متعددتان بناءً على سراية الحكم من إحداهما إلى الاُخرى،وسيأتي بيان ذلك تماماً في بحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء اللّٰه تعالى.
الرابع: ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب،كما إذا توقف إنقاذ الغريق مثلاً أو نحوه على التصرف في مال الغير،هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً،وإلّا فيدخل في باب التعارض،كما هو واضح.
الخامس: موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحد المتلازمين محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة،ومثال ذلك استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن في العراق وما شاكله من البلاد،فانّه لا تلازم بينهما بالذات،
فالتلازم إنّما يتّفق بينهما لخصوص أهل العراق أو ما سامته من النقاط.وأمّا إذا كان التلازم دائمياً فيدخل في باب التعارض.
وأمّا الثاني، وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً من شيء آخر لا من عدم قدرة المكلف،فقد مثّل له بما إذا كان المكلف مالكاً من الإبل بمقدار النصاب الخامس – وهو خمس وعشرون إبلاً-الذي يجب فيه خمس شياه،ثمّ بعد مضي ستّة أشهر ملك ناقة اخرى فتحقق النصاب السادس الذي يجب فيه بنت مخاض، وعلى هذا فمقتضى أدلة وجوب الزكاة هو وجوب خمس شياه بعد انقضاء سنة النصاب الخامس،ووجوب بنت مخاض بعد تمامية حول النصاب السادس، والمكلف قادر على دفع كليهما معاً،ولم تنشأ المزاحمة من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال،بل هي ناشئة من ناحية قيام الدليل من الخارج على أنّ المال الواحد لا يزكّى في السنة الواحدة مرّتين.
وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) هنا مجال.
أمّا ما ذكره من أنّ التزاحم الناشئ من ناحية عدم قدرة المكلف فينقسم إلى خمسة أقسام فيرد عليه:
أوّلاً: أ نّه لا أثر لهذا التقسيم أصلاً،ولا تترتب عليه أيّة ثمرة،فيكون نظير تقسيم أنّ التزاحم قد يكون بين وجوبين،وقد يكون بين تحريمين،وقد يكون بين وجوب وتحريم وهكذا،فلو كان مثل هذه الاعتبارات موجباً للقسمة لازدادت الأقسام بكثير كما لا يخفى.
وثانياً: أنّ أصل تقسيمه إلى تلك الأقسام لا يخلو عن إشكال،والوجه في ذلك:هو أنّ القسم الثاني-وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن التضاد بين الواجبين اتفاقاً-داخل في القسم الأوّل،وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم القدرة اتفاقاً،ضرورة أنّ المضادة بين فعلين من باب الاتفاق لا يمكن
تحققها إلّامن ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الاتيان والامتثال،وعليه فلا معنى لجعله قسماً ثانياً من التزاحم في قبال القسم الأوّل،بل هو هو بعينه.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليلي حكميهما،ففي غاية الصحة والمتانة في الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما،ضرورة أ نّه لا يعقل تعلق الأمر بهما حتّى على نحو الترتب،كما تقدّم 1.
وأمّا في الضدّين اللذين لهما ثالث كالقيام والقعود والسواد والبياض ونحوهما فالأمر ليس كما أفاده،وذلك لأنّ المعارضة في الحقيقة ليست بين نفس دليليهما، كما هو الحال في الضدّين اللذين لا ثالث لهما،وإنّما هي بين إطلاق كل منهما وثبوت الآخر،وعليه فلا موجب إلّالرفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بعدم الاتيان بمتعلق الآخر،لوضوح أ نّه لا معارضة بين أصل ثبوت الخطاب بهذا في الجملة وثبوت الخطاب بذاك كذلك،وإنّما تكون المعارضة بين إطلاق هذا ووجود الآخر وبالعكس،وهي لا توجب إلّارفع اليد عن إطلاق كل منهما لا عن أصله،فيكون إطلاق كل واحد منهما مترتباً على عدم الاتيان بالآخر.
ونتيجة ذلك:هو الالتزام بالترتب من الجانبين أو الالتزام بالوجوب التخييري،إلّافيما إذا علم بكذب أحدهما وعدم صدوره في الواقع،فعندئذ تقع المعارضة بينهما،فيرجع إلى قواعد باب التعارض.
وأمّا موارد اجتماع الأمر والنهي،فان قلنا بالامتناع-إمّا لدعوى سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر،وإمّا لدعوى أنّ التركيب بينهما اتحادي-فهي
من صغريات مسألة التعارض دون التزاحم.وعليه فلا معنى للقول بالترتب فيها أصلاً،وإن قلنا بالجواز وتعدد المجمع،فإن كانت هناك مندوحة وتمكّن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا تزاحم بينهما أصلاً كما تقدّم،وإن لم تكن هناك مندوحة فتقع المزاحمة بينهما لا محالة،ولكن عندئذ يدخل هذا القسم في القسم الخامس،ولا يكون قسماً آخر في قباله،بل هو من أحد مصاديقه، وسيأتي بيان كل واحد من هذه الأقسام بصورة مفصّلة إن شاء اللّٰه تعالى 1.
والغرض من التعرّض هنا الاشارة إلى عدم صحّة هذا التقسيم،وأنّ منشأ التزاحم في جميع تلك الأقسام نقطة واحدة وهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين متعلقي الحكمين في ظرف الامتثال والاطاعة،كما اعترف (قدس سره) بذلك، ومن الواضح أ نّه لا يفرق في هذا بين أن يكون التزاحم بين واجبين متضادين من باب الاتفاق أو بين واجب وحرام،سواء أكانا متلازمين أو كان أحدهما متوقفاً على الآخر،فانّ الجميع بالاضافة إلى تلك النقطة على نسبة واحدة.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ التزاحم قد لا ينشأ من جهة عدم قدرة المكلف بل من جهة اخرى كالمثال المتقدم فهو غريب منه (قدس سره) وذلك لأنّ المثال المذكور وما شاكله داخل في باب التعارض،وليس من باب التزاحم في شيء،والوجه فيه:هو أنّ ما دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى في السنة الواحدة مرّتين يوجب العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين،أعني بهما ما دلّ على وجوب خمس شياه على من ملك النصاب الخامس ومضى عليه الحول،وما دلّ على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه الحول، وإن كان لا تنافي بينهما بالذات ومع قطع النظر عمّا دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى مرّتين في عام واحد،فيكون نظير ما دلّ على وجوب صلاة الجمعة في
يوم الجمعة،وما دلّ على وجوب الظهر فيه،فانّه لا تنافي بين دليليهما بالذات أصلاً،لتمكن المكلف من الجمع بينهما ولكن العلم الخارجي بعدم وجوب ستّة صلوات في يوم واحد أوجب التنافي بينهما،إذن فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة،ولا مساس لأمثال هذا المثال بباب المزاحمة أبداً،ولذا لو لم يكن ذلك الدليل الخارجي لقلنا بوجوب كليهما معاً من دون أيّة منافاة ومزاحمة في البين.ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كيف غفل عن ذلك وأدخل المقام في باب المزاحمة.
ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن:هي أنّ التزاحم بين تكليفين في مقام الامتثال لا يعقل إلّامن ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في ذلك المقام،وعليه فالتزاحم منحصر في قسم واحد ولا ثاني له.
إلى هنا قد تمّ بصورة واضحة بيان كل من التزاحم في الملاكات بعضها ببعض،والتزاحم في الأحكام،وعلى ضوء ذلك البيان قد ظهر أ نّه لا اشتراك بينهما أصلاً لنحتاج إلى بيان نقطة امتياز أحدهما عن الآخر.
،فقد ذكرنا 1أنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.
والأوّل: كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على عدم وجوبه أو على حرمته،أو دلّ دليل على طهارة شيء ودلّ دليل آخر على نجاسته وهكذا،وأمثلة ذلك في الروايات والنصوص الواردة في أبواب الفقه بشتّى أنواعها كثيرة جداً،بل هي خارجة عن حدود الاحصاء عادة.
والثاني: كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على وجوب شيء آخر أو على حرمته،من دون تناف ومضادة بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع لامكان ثبوت كليهما معاً في ذلك المقام،ولكن علمنا من الخارج بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع من جهة قيام الاجماع أو الضرورة أو نحوها على ذلك،وهذا العلم الخارجي أوجب التنافي والتعارض بينهما في مقام الاثبات،وعدم إمكان الجمع بين ثبوت مدلوليهما في مقام الثبوت والواقع.
ومثال هذا ما لو دلّ دليل على وجوب الجمعة في يوم الجمعة تعييناً ودلّ دليل آخر على وجوب الظهر فيها كذلك،فانّه لا تنافي ولا تضاد بين مدلولي هذين الدليلين أصلاً بالذات والحقيقة،لامكان وجوب كلتا الصلاتين معاً في يوم الجمعة،ولا يلزم منه أيّ محذور من التضاد أو التناقض،ولكن بما أ نّا علمنا بعدم وجوب ست صلوات في يوم واحد يقع التعارض بين الدليلين في مقام الاثبات،فيدل كل واحد منهما بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الآخر.
ومن هذا القبيل التنافي بين ما دلّ على أنّ الواجب على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه هو الصلاة تماماً،وما دلّ على أنّ الواجب عليه الصلاة قصراً،حيث لاتنافي بين مدلوليهما بالذات والحقيقة،ولا مانع من الجمع بينهما في نفسه،والتنافي بينهما إنّما نشأ من العلم الخارجي بكذب أحدهما في الواقع وعدم ثبوته فيه من جهة عدم وجوب ست صلوات في يوم واحد، ولأجل ذلك يدل كل من الدليلين بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الدليل الآخر.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ النقطة الرئيسية التي هي مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين بشتّى أشكاله-أي سواء أكان بالذات والحقيقة أو كان بالعرض والمجاز،وسواء أكان على وجه التباين أو العموم من وجه-هي أنّ ثبوت
مدلول كل منهما في مقام الجعل يقتضي رفع اليد عن مدلول الآخر وموجب لانتفائه في ذلك المقام مع بقاء موضوعه بحاله لا بانتفائه،ومن هنا يرجع جميع أقسام التعارض إلى التناقض حقيقة وواقعاً،بمعنى أنّ ثبوت مدلول كل واحد منهما يستلزم عدم ثبوت مدلول الآخر إمّا بالمطابقة،وإمّا بالالتزام.
وعلى الجملة:فملاك التعارض والتنافي بين الدليلين هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ كل دليل متكفل لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه في الخارج بنحو القضيّة الحقيقية،هذا من جانب.ومن جانب آخر أ نّك قد عرفت في غير موضع أنّ نسبة الحكم إلى الموضوع في عالم التشريع كنسبة المعلول إلى العلّة التامة في عالم التكوين،فكما يستحيل انفكاك المعلول عن علّته التامة،فكذلك يستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين:هي أ نّه إذا كان هناك دليل آخر يدل على نفي هذا الحكم عن موضوعه الثابت بحاله لا بانتفائه،فلا محالة يقع التعارض والتكاذب بينه وبين دليله في مقام الاثبات والدلالة،فانّ دليله يقتضي ثبوته لموضوعه على تقدير وجوده في الخارج،وذاك يقتضي نفيه عن ذلك الموضوع على هذا التقدير،ومن الواضح جداً أنّ الجمع بينهما غير ممكن لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم في شيء واحد،والنفي والاثبات في موضوع فارد.
وصفوة القول:أنّ التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والواقع بالذات أو بالعرض يوجب التنافي والتعارض بين دليليهما في مقام الاثبات والدلالة، ولأجل ذلك كان كل منهما في هذا المقام يكذّب الآخر فلا يمكن تصديق كليهما معاً والأخذ بهما،فلا محالة يوجب الأخذ بأحدهما رفع اليد عن الآخر وبالعكس.
مثلاً الأخذ بالدليل الدال على وجوب القصر في المسألة المزبورة،أو على وجوب الجمعة في يوم الجمعة،لا محالة موجب لرفع اليد عن الدليل الدال على وجوب التمام أو على وجوب الظهر،والأخذ بالدليل الدال على جواز الجمع بين فاطميتين كما هو المشهور يوجب لا محالة رفع اليد عن الدليل الدال على عدم جواز الجمع بينهما،وهكذا.
ومن ذلك يظهر أنّ التعارض بين الدليلين لا يتوقف على تحقق موضوعهما في الخارج،بل ثبوت كل منهما بنحو القضيّة الحقيقية يستلزم عدم ثبوت الآخر كذلك وكذبه في الواقع ومقام الجعل،سواء أتحقق موضوعهما في الخارج أم لم يتحقق،فانّ ملاك التعارض وأساسه الموضوعي كما عرفت هو عدم إمكان جعل كلا الحكمين معاً وثبوته في مرحلة الجعل والتشريع إمّا ذاتاً أو من ناحية العلم الخارجي،بل قد يحتمل عدم ثبوت كليهما معاً كما لا يخفى،وكيف كان فعلى هذا الأساس ثبوت كل منهما على نحو القضيّة الحقيقية يستلزم لا محالة عدم ثبوت الآخر كذلك.
وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ منشأ التعارض أحد أمرين ولا ثالث لهما:
الأوّل:المناقضة أو المضادة بين نفس مدلولي الدليلين،وهذا هو الكثير في الأدلة والروايات الواردة في أبواب الفقه.
الثاني:العلم الخارجي بوحدة الحكم في الواقع ومقام الجعل وعدم مطابقة أحدهما للواقع.
،فقد اتّضح حالها من بيان حقيقة التزاحم والتعارض،وملخصه:أنّ النقطة الأساسية في كل من البابين تخالف ما هو النقطة الأساسية في الآخر.
أمّا في باب التزاحم فهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين المتزاحمين في مقام الامتثال بلا أيّة منافاة ومضادة بينهما في مقام الجعل أصلاً، فالتنافي بينهما إنّما هو في مرحلة الفعلية والامتثال،فانّ المكلف إن صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن امتثال ذاك،وإن عكس فبالعكس.
ويتفرع على تلك النقطة أمران:
الأوّل: اختصاص التزاحم بينهما بالاضافة إلى من كان عاجزاً عن امتثالهما معاً،وأمّا من كان قادراً على امتثالهما فلا مزاحمة بينهما بالاضافة إليه أبداً، فالمزاحمة في مادة العاجز دون مادة القادر،وهذا واضح.
الثاني: أنّ انتفاء الحكم في باب المزاحمة إنّما هو بانتفاء موضوعه وهو القدرة، لا انتفائه مع بقاء موضوعه بحاله.
وأمّا في باب التعارض فهي التنافي والتعاند بين الحكمين في مقام الجعل والثبوت،وعدم إمكان جعل كليهما معاً،إمّا بالذات والحقيقة،وإمّا من ناحية العلم الاجمالي بعدم جعل أحدهما في الواقع.
ونتيجة تلك النقطة أمران:
الأوّل: عدم اختصاص التعارض بمكلف دون آخر وبزمان دون زمان، بداهة أنّ استحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين لا تختص بشخص دون آخر، وبزمان دون زمان آخر،وبحالة دون حالة اخرى،والمفروض أنّ جعل كلا الحكمين معاً مستلزم للتناقض أو التضاد وهو محال.
الثاني: أنّ انتفاء الحكم في باب التعارض ليس بانتفاء موضوعه،وإنّما هو بانتفاء نفسه مع ثبوت موضوعه بحاله.
فتحصّل مما ذكرناه: أنّ المناط في كل من البابين أجنبي عما هو المناط في الباب الآخر،فلا جامع بين البابين أبداً.
وعلى هذا الأساس فالقول بأنّ الأصل عند الشك هل هو التعارض أو التزاحم لا مجال له أصلاً،ومن هنا ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ هذا القول يشبه القول بأنّ الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي 1.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من افتراق التزاحم والتعارض لا يبتني على وجهة نظر مذهب دون آخر،بل تعم جميع المذاهب والآراء،سواء فيها القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في أنفسها،والقول بعدم التبعية مطلقاً،كما هو مذهب الأشعري،والوجه في ذلك ما عرفت من أنّ مسألة التزاحم ترتكز على ركيزة واحدة وهي عدم تمكن المكلف من الجمع بين التكليفين المتوجهين إليه في ظرف الامتثال،ومن الواضح أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون لهما ملاك في مورد المزاحمة أم لا،ضرورة أ نّه لا دخل لمسألة تبعية الأحكام للملاكات بمسألتنا هذه ولا صلة لاحداهما بالاُخرى أبداً.
ومسألة التعارض أيضاً ترتكز على ركيزة وهي تنافي الحكمين في مقام الجعل والواقع،ومن الواضح أ نّها أجنبية عن كون أحدهما ذا ملاك في مورد المعارضة أو لم يكن،بداهة أ نّه لا دخل لوجود الملاك في أحدهما لوقوع التعارض بينهما، وهذا واضح جداً.
فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من ابتناء مسألة التزاحم على أن يكون المقتضي لكلا الحكمين موجوداً في مورد المزاحمة،ومسألة التعارض على أن يكون المقتضي لأحدهما موجوداً في مورد المعارضة لا يرجع إلى أصل صحيح،وسيأتي تفصيله بشكل واضح في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء اللّٰه تعالى 2.
الأوّل:فيما تقتضيه القاعدة في المتعارضين.
الثاني:في مرجحاتهما.
أمّا المورد الأوّل: فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح 3أنّ مقتضى القاعدة سقوط المتعارضين عن الحجية وفرضهما كأن لم يكونا،والوجه في ذلك هو أنّ دليل الاعتبار لا يشمل كليهما معاً لاستحالة التعبد بالمتناقضين أو الضدّين،فشموله لأحدهما المعيّن وإن لم يكن له مانع في نفسه،إلّاأ نّه معارض بشموله للآخر،حيث إنّ نسبته إلى كليهما على حد سواء،وعليه فالحكم بشموله لهذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح،وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً، فإذن يسقطان معاً فيرجع إلى العموم أو الاطلاق إن كان،وإلّا فإلى أصل عملي،وتمام الكلام في ذلك بصورة مشروحة في بحث التعادل والترجيح إن شاء اللّٰه تعالى.
وأمّا المورد الثاني: فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح 1أنّ مرجحات باب التعارض تنحصر بموافقة الكتاب أو السنّة،وبمخالفة العامة،وليس غيرهما بمرجّح،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما من آيتين متعارضتين أو ظاهرين متعارضين أو إجماعين متعارضين،بل لا يعم ما إذا كان أحد المتعارضين خبراً والآخر إجماعاً مثلاً.
فالنتيجة أنّ ها هنا دعاوى ثلاث:
الاُولى:انحصار المرجّح بخصوص موافقة الكتاب أو السنّة ومخالفة العامة.
الثانية:أنّ غيرهما من صفات الراوي ونحوها ليس بمرجح.
الثالثة:أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعمّ غيرهما.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأ نّهما قد وردتا في صحيحة قطب الراوندي عن الصادق (عليه السلام):«إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّٰه،فما وافق كتاب اللّٰه فخذوه وما خالف كتاب اللّٰه فذروه،فإن لم تجدوهما في كتاب اللّٰه فاعرضوهما على أخبار العامة،فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» 2وقد ذكرنا هناك أنّ موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامة من المرجحات،وليستا في مقام تمييز الحجة عن اللّا حجة،كما تخيل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 3بدعوى أنّ ما ورد من الروايات
من أنّ الخبر المخالف للكتاب زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار ونحو ذلك من التعبيرات،دال على أ نّه ليس بحجة،وكذا الحال في الخبر الموافق للقوم،فانّ الوثوق والاطمئنان بصدور الخبر المخالف للقوم يوجب الاطمئنان بأنّ الخبر الموافق لهم إمّا غير صادر أو صدر تقيّة.
ولكن قد ذكرنا هناك أنّ المراد بالمخالفة في تلك الروايات ما كان على نحو التباين أو العموم من وجه،فمثل هذا المخالف لم يمكن صدوره عن الأئمة (عليهم السلام) وأمّا المخالف على نحو العموم المطلق فلا إشكال في صدوره عنهم (عليهم السلام)،كيف وقد خصص به في كثير من الموارد عمومات الكتاب والسنّة،ومن الواضح جداً أنّ المراد من المخالفة في روايات الترجيح ليس المخالفة على النحو الأوّل،بل المراد منها المخالفة على النحو الثاني،وإلّا لم يكن بيانها مناسباً لمقام الترجيح،إذ المفروض أ نّه (عليه السلام) كان في مقام بيان المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر لا في مقام تمييز الحجّة عن اللّا حجة.
ومما يؤيّد ذلك: أ نّه لو كان المراد من المخالفة في تلك الطائفة هو المخالفة على النحو الأوّل لم يكن الخبر المشهور المخالف للكتاب أو السنّة حجة في نفسه،ومعه كيف يحكم (عليه السلام) بتقديمه على الخبر الشاذ الموافق للكتاب أو السنّة كما هو مقتضى إطلاق المقبولة.ومن ذلك يعلم أنّ هذه الطائفة ليست في مقام تمييز الحجة عن اللّا حجة،وإلّا لم يكن معنى لتقديم الخبر المشهور المخالف على الشاذ الموافق،بل هي في مقام بيان المرجّح لأحد المتعارضين على الآخر.
وأمّا ما ذكره من أنّ الخبر الموافق للقوم لا يكون حجّة مع وجود الخبر المخالف لهم فهو من الغرائب،ضرورة أنّ مجرد وجود الخبر المخالف لهم لا يوجب كون الموافق غير حجة،لأنّ الأحكام الموافقة لهم في نفسها كثيرة
جداً،وعليه فيحتمل أن يكون الخبر الموافق لهم هو الحكم الواقعي دون المخالف، وهذا واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ الترجيح بغيرهما لم يرد في دليل معتبر،وعلى تقدير وروده في دليل معتبر ليس من جملة المرجحات هنا،بيان ذلك:
أمّا الشهرة فلم تذكر فيما عدا المرفوعة 1والمقبولة 2.أمّا المرفوعة فهي ضعيفة سنداً،بل غير موجودة في الكتب المعتبرة،ولذا ناقش في سندها صاحب الحدائق (قدس سره) 3الذي ادّعى القطع بصدور الروايات الموجودة في الكتب الأربعة،وغيرها من الكتب المعتبرة.
وأمّا المقبولة فهي وإن كان الأصحاب يتلقونها بالقبول،إلّاأ نّها أيضاً ضعيفة سنداً بعمر بن حنظلة حيث لم تثبت وثاقته،ومع الغض عن سندها فالمذكور فيها هو الأخذ بالمجمع عليه،ومن المعلوم أنّ المراد منه هو الخبر الذي أجمع الأصحاب على روايته عن المعصومين (عليهم السلام) وصدوره منهم.
وعلى هذا فالمراد منه هو الخبر القطعي الصدور،فإذن تقديمه على الشاذ ليس من باب الترجيح،كما هو ظاهر.
ومن هنا يظهر حال صفات الراوي كالأعدلية والأفقهية والأوثقية ونحوها أيضاً،فانّ الترجيح بها لم يذكر في غير المقبولة والمرفوعة من الأخبار العلاجية.أمّا المرفوعة فقد عرفت حالها.وأمّا المقبولة فمع الغض عن سندها لم تجعل الترجيح بالصفات من مرجحات الروايتين،وإنّما جعلت الترجيح بها من
مرجحات الحكمين حيث قال (عليه السلام):«الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما»إلخ.
وأمّا الدعوى الثالثة: فلأنّ موضوع الترجيح في الأخبار العلاجية خصوص الخبرين المتعارضين،فالتعدي منهما إلى غيرهما يحتاج إلى دليل، وحيث لا دليل عليه فلا بدّ من الاقتصار عليهما،فانّ الدليل الخارجي مفقود على الفرض،وروايات الترجيح لا إطلاق فيها ولا عموم،فإذن لا يمكن رفع اليد عن مقتضى الأصل الأوّلي في غيرهما.ويأتي الكلام في جميع ذلك في بحث التعادل والترجيح إن شاء اللّٰه تعالى بصورة مفصّلة.والغرض من التعرّض هنا بهذا المقدار الاشارة إلى أنّ مسألة التعارض كما تمتاز عن مسألة التزاحم بذاتها كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها.
الاُولى:ما هو مقتضى القاعدة في مسألة التزاحم.
الثانية:ما هو مرجحاتها.
،والوجه فيه واضح،وهو انّ المانع عن الاتيان بالمتزاحمين إنّما هو عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً،وأمّا من ناحية اخرى فلا مانع أصلاً، وعليه فبما أنّ المكلف قادر على إتيان أحدهما عند ترك الآخر يتعيّن عليه بحكم العقل،ضرورة أ نّه لم يعتبر في الامتثال ما عدا قدرة المكلف عليه في ظرفه، وحيث إنّه قادر على امتثال أحدهما فلا يكون معذوراً في تركه.
أو فقل:إنّ فعلية كلا التكليفين في باب المزاحمة مستحيلة،وفعلية أحدهما
بفعلية موضوعه وهو قدرة المكلف على امتثاله ضرورية،فإذن يجب بحكم العقل امتثال هذا التكليف الفعلي،فاذا فرض عدم الترجيح لأحدهما على الآخر يحكم العقل بالتخيير بينهما،وأ نّه مخيّر في إعمال قدرته في امتثال هذا وامتثال ذاك.
ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1وهو كون أحد الواجبين ممّا لا بدل له والآخر ممّا له بدل،فيقدم الأوّل على الثاني في مقام المزاحمة،وهذا يتحقق في أحد موضعين:
أحدهما: ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في عرضه دون الآخر،كما إذا كان أحدهما واجباً تخييرياً،والآخر واجباً تعيينياً،ففي مثل ذلك إذا وقعت المزاحمة بين الواجب التعييني وبعض أفراد الواجب التخييري،قدّم الواجب التعييني على التخييري،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ وجوب الواجب التخييري لا يقتضي لزوم الاتيان بخصوص الفرد المزاحم،وإنّما يقتضي لزوم الاتيان بالجامع بينه وبين غيره،والمفروض أنّ وجوب الواجب التعييني يقتضي الاتيان بخصوص ذلك الفرد المزاحم،ومن المعلوم أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء،فالنتيجة أنّ في مقام المزاحمة بين التكليفين يقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل.
ثانيهما: ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في طوله دون الواجب الآخر،وقد مثّل لذلك بما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء أو الغسل والأمر بتطهير البدن للصلاة،وحيث إنّ للوضوء أو الغسل بدلاً وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة أمره مع أمر تطهير البدن،فيقدّم الأمر بالطهارة الخبثية على الأمر بالطهارة الحدثية، وإن كان الثاني أهم من الأوّل،وذلك لما عرفت من أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء.
وذكر (قدس سره) فرعاً آخر أيضاً لهذه الكبرى وهو:ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية،كما إذا صار الوقت ضيّقاً بحيث لو توضأ أو اغتسل لم يدرك من الركعات إلّاركعة واحدةً،وأمّا إذا تيمم بدلاً عن الوضوء أو الغسل فيدرك تمام الركعات في الوقت،ففي مثل ذلك يقدّم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة مع الطهارة المائية،لأنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً وهو الصلاة مع الطهارة الترابية،وأمّا الصلاة في الوقت فحيث إنّه لا بدل لها فتقدّم على الصلاة مع الطهارة المائية في مقام المزاحمة،لأنّ ما له البدل لا يصلح أن يزاحم ما لا بدل له.
وقد يشكل في المقام بأنّ لادراك تمام الركعات في الوقت أيضاً بدلاً وهو إدراك ركعة واحدة فيه بمقتضى الروايات الدالة على أنّ من أدرك ركعةً واحدةً في الوقت فقد أدرك تمام الصلاة 1،فاذن يدور الأمر بين واجبين لكل منهما بدل، فلا وجه لتقديم الأمر بالصلاة في الوقت على الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية.
وأجاب (قدس سره) عن هذا الاشكال:بأنّ بدلية إدراك الركعة الواحدة عن تمام الصلاة في الوقت إنّما هي في فرض عجز المكلف عن إدراك تمام الصلاة فيه لا مطلقاً،والمفروض أنّ المكلف قادر على إدراك تمامها فيه،وعليه فلا موجب لسقوط الأمر باتيان تمام الصلاة في وقتها،فاذا لم يسقط فلا محالة يسقط الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية،لعجز المكلف عنها تشريعاً وإن لم يكن عاجزاً تكويناً،وهذا كافٍ في الانتقال إلى بدلها وهو الصلاة مع الطهارة الترابية،لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأمر بالطهارة المائية مشروط بالتمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً،ولا يكفي التمكن العقلي فحسب.
وملخص ما ذكرناه هو أ نّه (قدس سره) طبّق الكبرى الكلّية-وهي أنّ ما لا بدل له يقدّم على ما له بدل في مقام المزاحمة-على فروع ثلاثة:
الأوّل: أنّ الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدّم التعييني عليه وإن كان الواجب التخييري أهم منه،كما إذا كان لشخص عشرة دنانير ودار أمرها بين أن يصرفها في مؤونة من تجب عليه مؤونته وبين أن يصرفها في كفارة شهر رمضان،وحيث إنّ لكفارة شهر رمضان بدلاً وهو صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة،فلا يمكن مزاحمة وجوبها لوجوب المؤونة،فيقدّم صرفها في المؤونة على صرفها في الكفارة،لأنّ وجوب الكفارة لا يقتضي لزوم الاتيان بخصوص فردها المزاحم،وهذا بخلاف وجوب المؤونة، فانّه يقتضي لزوم الاتيان بخصوص ذلك الفرد.
الثاني: ما إذا كان عند المكلف مقدار من الماء لا يكفي للوضوء وتطهير البدن معاً،فعندئذ يدور أمره بين أن يصرفه في الوضوء ويصلي مع البدن المتنجس،وأن يصرفه في تطهير البدن ويصلي مع التيمم،وبما أنّ للوضوء بدلاً
وهو التيمم فيتعين صرفه في إزالة الخبث عن البدن،لأنّ ما له بدل لا يصلح لأن يزاحم ما لا بدل له.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية،وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية،وبما أنّ للطهارة المائية بدلاً وهو الطهارة الترابية ولا بدل للوقت،فيتعيّن تقديم الوقت على الطهارة المائية، فيصلي في الوقت مع الطهارة الترابية.
أقول: الكلام فيما ذكره (قدس سره) يقع في مقامين:الأوّل:في أصل الكبرى التي ذكرها (قدس سره).الثاني:في الفروع التي ذكرها وأ نّها هل تكون من صغريات تلك الكبرى أم لا.
أمّا المقام الأوّل: فلا إشكال في أصل ثبوت الكبرى وأنّ ما ليس له بدل يقدّم على ما له بدل فيما إذا دار الأمر بينهما،والوجه فيه ما عرفت من أنّ ما لا اقتضاء له لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء،وكيف كان فالكبرى مسلّمة.
وأمّا المقام الثاني: فيقع الكلام فيه في موارد:الأوّل:في الفرع الأوّل.
الثاني:في الفرع الثاني.الثالث:في الفرع الثالث.
أمّا المورد الأوّل: فقد تبيّن مما قدّمناه أنّ هذا الفرع وما شاكله ليس داخلاً تحت كبرى مسألة التزاحم لتجري عليه أحكامه،وذلك لما عرفت من أنّ التزاحم بين التكليفين الفعليين لا يعقل إلّامن جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال،فلو كان المكلف قادراً عليه فلا مزاحمة بينهما أبداً،والمفروض فيما نحن فيه قدرة المكلف على امتثال الواجب التعييني والتخييري معاً من دون أيّة مزاحمة،نعم خصوص الفرد المزاحم للواجب التعييني وإن كان غير مقدور للمكلف إلّاأ نّه ليس بواجب على الفرض،وما
هو واجب-وهو الجامع بينه وبين غيره من الأفراد-مقدور له ولو من جهة القدرة على بعض أفراده.
أو فقل: إنّ ما هو مزاحم للواجب التعييني ليس بواجب،وما هو واجب ليس بمزاحم له،ومن هنا قلنا إنّه لا تزاحم بين الواجب الموسّع والمضيّق كالصلاة والازالة مثلاً.والأصل في جميع ذلك هو ما ذكرناه من أنّ التزاحم لا ينشأ إلّامن ناحية عدم تمكن المكلف من امتثال كلا التكليفين معاً،وأمّا إذا كان متمكناً منه فلا تزاحم ولا تنافي بينهما أبداً.
وعلى هذا الأساس فالفرع المزبور أو ما شاكله ليس من صغريات باب المزاحمة لتنطبق عليه الكبرى المتقدمة،فما أفاده (قدس سره) من تطبيق تلك الكبرى عليه في غير محلّه،لعدم كونه صغرىً لها.
وأمّا المورد الثاني: فيمكن المناقشة فيه من وجهين:
الأوّل: أنّ التزاحم لا يعقل أن يكون بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل بما هو،ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب كذلك،وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط جميعاً أوامر إرشادية فترشد إلى جزئيتها وشرطيتها،وليست بأوامر نفسية،ومن الواضح جداً أنّ المزاحمة لا تعقل بين الأوامر الارشادية بما هي،لأنّ مخالفتها لا توجب العقاب،وموافقتها لا توجب الثواب،بل لا تجب موافقتها بما هي لتقع المزاحمة بين موافقة هذا وموافقة ذاك في مقام الامتثال،وإنّما تعقل بين واجبين أو واجب وحرام نفسيين بحيث كان المكلف متمكناً من امتثال كل منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر،إلّاأ نّه لم يتمكن من الجمع بينهما في الامتثال.
وعلى هذا فالمزاحمة هنا لو سلّمت فانّما هي في الحقيقة بين الصلاة مع الطهارة الحدثية والصلاة مع الطهارة الخبثية،فالتعبير عن ذلك بوقوع المزاحمة
بين الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية لا يخلو عن مسامحة واضحة،ضرورة أ نّه لا شأن لهما ما عدا كونهما من قيود الصلاة،فلا معنى لوقوع المزاحمة بينهما في نفسهما مع قطع النظر عن وجوب الصلاة.
وعلى الجملة: فالمزاحمة بين أجزاء وشرائط الصلاة مثلاً بعضها ببعض مع قطع النظر عن وجوبها مما لا تعقل،ضرورة أ نّه لا وجوب لها مع قطع النظر عن وجوب الصلاة.وعلى هذا فلا معنى لوقوع المزاحمة بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل مثلاً،ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع الغض عن وجوب الصلاة،لعدم كونهما في هذا الحال واجبين لتقع المزاحمة بينهما.وأمّا مع ملاحظة وجوبها فالتزاحم بين وجوب الصلاة مع الطهارة المائية ووجوب الصلاة مع طهارة البدن أو الثوب،فاذا كان الأمر كذلك فلا وجه لتقديم الثانية على الاُولى بدعوى أنّ ما ليس له بدل يقدّم على ما له بدل، وذلك لفرض أنّ لكل واحدة منهما بدلاً،فكما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً وهو الصلاة مع الطهارة الترابية،فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب بدل وهو الصلاة مع البدن أو الثوب النجس على المختار وعارياً على المشهور، فاذن لايكون هذا الفرع أو ما شاكله من صغريات الكبرى المتقدمة،ولاتنطبق تلك الكبرى عليه.
نعم،لو كان التزاحم بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع قطع النظر عن وجوب الصلاة، لكان من صغريات تلك الكبرى،ولكنك عرفت أنّ التزاحم بينهما غير معقول.
الثاني: أنّ التزاحم كما ذكرناه في غير موضع إنّما يجري بين واجبين نفسيين كالصلاة والازالة مثلاً أو بين واجب وحرام،وأمّا بين أجزاء وشرائط واجب واحد فلا يعقل جريان التزاحم فيه.
والوجه في ذلك:هو أنّ جميع تلك الأجزاء والشرائط واجب بوجوب واحد على سبيل الارتباط ثبوتاً وسقوطاً،غاية الأمر أنّ الأجزاء بنفسها متعلقة لذلك الوجوب،والشرائط باعتبار تقيدها بمعنى أنّ الوجوب تعلق بالأجزاء متقيدة بتلك الشرائط،ومن الواضح جداً أنّ ذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك الأجزاء أو الشرائط بقانون أنّ الأمر بالمركب يسقط لا محالة بتعذر واحد من أجزائه أو شرائطه،لاستحالة تعلق الوجوب به في ظرف تعذر أحد أجزائه أو قيوده،لأنّه تكليف بالمحال فلا يصدر من الحكيم.
وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الوجوب عن المركب كالصلاة وما شاكلها عند تعذر جزء أو شرط منه،كما هو مقتضى كون أجزائه ارتباطية.
فاذن ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل،وقد دلّ الدليل في خصوص باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الاتيان بالباقي،فعندئذ بما أنّ فيما نحن فيه قد تعذر أحد قيدي الصلاة-هما الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية-فمقتضى القاعدة الأوّلية سقوط وجوبها،فيحتاج وجوب الباقي إلى دليل،والدليل موجود هنا،وهو ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال 1،بل يكفينا لاثبات عدم سقوطها في المقام الروايات الخاصة الدالة على وجوب الاتيان بها في الثوب أو البدن المتنجس أو عارياً،وما دلّ على لزوم الاتيان بالطهارة الترابية مع تعذر الطهارة المائية.وعليه فيعلم إجمالاً بجعل أحد هذين الشرطين في الواقع دون الآخر.
إذن لا محالة يقع التعارض بين دليليهما،إذ لم يعلم أنّ أ يّهما مجعول في هذا الحال في مقام الثبوت والواقع،فما دلّ على شرطية الطهارة الحدثية في هذا الحال لا محالة معارض بما دلّ على شرطية الطهارة الخبثية،وعليه فلا بدّ من
الرجوع إلى مرجحات باب التعارض إن لم يكن التعارض بينهما بالاطلاق، وإلّا فيسقطان معاً،فلا تصل النوبة إلى الترجيح،فاذن ما معنى وقوع المزاحمة بينهما،بداهة أنّ المزاحمة بين تكليف وتكليف آخر فرع ثبوتهما في الواقع ومقام الجعل من دون أيّ تنافٍ في البين لتقع المزاحمة بين امتثال هذا وامتثال ذاك.
وعلى الجملة: فالأمر المتعلق بالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط قد سقط لا محالة بتعذر واحد من شرطيها-هما الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية – بمقتضى القاعدة الأوّلية،غاية ما في الباب قد دلّ دليل من الخارج على وجوب الباقي من الأجزاء والشرائط،ومن الواضح جدّاً أنّ هذا الوجوب غير الوجوب الأوّلي المتعلق بالواجد والتمام،فانّه قد سقط من ناحية تعذر المركب،ومن المعلوم أنّ جزئية الأجزاء وشرطية الشرائط قد سقطتا بتبع سقوطه لا محالة، ضرورة استحالة بقاء الأمر الانتزاعي في ظرف سقوط منشئه.
وعليه فالجزئية والشرطية للأجزاء والشرائط الباقيتين لا محالة مجعولتان بجعل ثانوي وبدليل خارجي دال على وجوب الباقي وعدم سقوطه،ويعلم من ذلك طبعاً أنّ المجعول في المقام شرطية أحد الأمرين في الواقع،إمّا شرطية الطهارة الحدثية،وإمّا شرطية الطهارة الخبثية،فشرطية كلتيهما غير معقولة لفرض عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما،فلا يمكن أن يتعلق الأمر بالمركب منهما،فلا محالة يكون المجعول شرطية إحداهما لا محالة،ونتيجة ذلك أنّ المورد غير داخل في كبرى التزاحم.
وخلاصة ما ذكرناه:هي أنّ الكبرى المتقدمة وإن كانت مسلّمة،إلّاأ نّها لا تنطبق على هذا الفرع وما يشبهه،بل قد عرفت أ نّه غير داخل في كبرى مسألة التزاحم فضلاً عن تلك الكبرى.
وأمّا المورد الثالث: وهو ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية،فيرد عليه بعينه ما أوردناه على المورد الثاني من الوجهين.
أمّا أوّلاً:فلما عرفت من أ نّه كما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً وهو الصلاة مع الطهارة الترابية،فكذلك لادراك تمام الصلاة في الوقت بدل وهو إدراك ركعة واحدة منها في الوقت،فاذن لا تنطبق الكبرى المزبورة عليه.
وأمّا ثانياً:فلما عرفت من أنّ التزاحم لا يجري بين أجزاء واجب واحد أو شرائطه،فاذا تعذر على المكلف الجمع بين الطهارة المائية والوقت،فمقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر بالصلاة،فلو كنّا نحن والحال هذه لم نقل بوجوب الباقي من الأجزاء والشرائط،ولكن الدليل الخارجي قد دلنا على وجوب الباقي وعدم سقوط الصلاة بحال.ومن ذلك يعلم إجمالاً بجعل جزئية أحدهما في الواقع،وحيث إنّه مردد بين الطهارة المائية والوقت فتقع المعارضة بين دليليهما.فالنتيجة أنّ هذا الفرع أيضاً ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ ما ذكره (قدس سره) من الفروع الثلاثة ليس شيء منها صغرى للكبرى التي ذكرها،وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل ولا تنطبق تلك الكبرى على شيء منها.
نعم،النتيجة في الفرع الأخير بعينها هي النتيجة التي ذكرها (قدس سره) وهي تقديم ما لا بدل له على ما له بدل،ولكن بملاك آخر،لا بالملاك الذي أفاده،بيان ذلك:هو أنّ اللّٰه تعالى جعل في كتابه العزيز للصلوات الخمس أوقاتاً خاصة بحسب المبدأ والمنتهى بقوله: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ
غَسَقِ اللَّيْلِ»
1
وقد ورد في الروايات أنّ وقت صلاتي الظهرين من دلوك الشمس إلى غروبها،ووقت العشاءين من الغروب إلى غسق الليل،ووقت صلاة الصبح من أوّل الفجر إلى طلوع الشمس 2،فهذه هي أوقات الصلوات الخمس،ولا يرضى الشارع بتأخيرها عنها آناً ما،بل هي غير مشروعة فيما عدا تلك الأوقات،إلّافيما إذا قام دليل خاص على المشروعية كما في القضاء أو نحوه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه تعالى قد جعل الطهارة من الحدث شرطاً مقوّماً لها بقوله: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لاٰمَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» 3فجعل في هذه الآية المباركة الطهارة من الحدث شرطاً للصلاة، وقد ذكرنا أ نّها من أركان الصلاة وبانتفائها تنتفي،ولذا ورد«أنّ الصلاة على ثلاثة أثلاث:ثلث منها الركوع وثلث منها السجود وثلث منها الطهور» 4.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنّ الطهارة شرط لتلك الصلوات التي عيّنت لها أوقات معيّنة،وأ نّه يجب على المكلف الاتيان بها في تلك الأوقات مع الطهارة المائية إن كان واجداً للماء،ومع الطهارة الترابية إن كان فاقداً لها، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ المراد من وجدان الماء وجوده الخاص،وهو ما إذا تمكن
المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً،وذلك بقرينة داخلية وخارجية.أمّا القرينة الداخلية فهي ذكر المريض في الآية المباركة،فانّ الماء غالباً موجود عنده، ولكنه لا يتمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً.وأمّا القرينة الخارجية فهي عدّة من الروايات الدالة على ذلك.وعلى هذا فان تمكّن المكلف من استعمال الماء عقلاً وشرعاً فهو واجد له،ووظيفة الواجد الوضوء أو الغسل،وإن لم يتمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً فهو فاقد له،ووظيفة الفاقد التيمم،فالآية المباركة في مقام بيان أنّ المكلف على نوعين:الواجد والفاقد ولا ثالث لهما،ومن الواضح أنّ التقسيم قاطع للشركة.
وعليه فاذا ضممنا ما يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة القرائن الداخلية والخارجية إلى ما يستفاد من الآية الاُولى بضميمة الروايات الواردة فيها من أنّ لكل صلاة وقتاً خاصاً تجب في ذلك الوقت الخاص لا فيما عداه، فالنتيجة هي أنّ المكلف إذا تمكن في ذلك الوقت من استعمال الماء عقلاً وشرعاً فهو واجد له ووظيفته عندئذ الوضوء أو الغسل،وإن لم يتمكن فيه من استعماله عقلاً أو شرعاً فهو فاقد له،ووظيفته حينئذ التيمم.
ومن هنا قلنا إنّ المراد من عدم الوجدان في الآية المباركة عدم الوجدان بالاضافة إلى الصلاة التي قام المكلف إلى إتيانها لا مطلقاً،فلو لم يتمكن المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية فهو غير واجد بالاضافة إلى الصلاة،وإن كان واجداً بالاضافة إلى غيرها،وعلى هذا بما أنّ فيما نحن فيه لا يتمكن المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية من جهة ضيق الوقت يتعين عليه إيقاعها فيه مع الطهارة الترابية.
وهذه النتيجة نتيجة ضم هذه الآية-أعني بها آية الوضوء-إلى الآية الاُولى، مع ملاحظة القرائن والنصوص الواردة في أطرافهما.
وعلى هذا الأساس تبيّن أ نّه إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية،فيقدّم الأوّل على الثاني،والوجه فيه ما عرفت من أنّ المستفاد من الآيتين المباركتين بعد ضم إحداهما إلى الاُخرى مع ملاحظة القرائن والروايات الواردة في المقام،هو أنّ الواجب على المكلف إيقاع تمام الصلاة في الوقت مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء،ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه،ولا يجوز تأخيرها عن وقتها أصلاً،فلو أخّرها عنه ولو بمقدار ركعة واحدة لبطلت لا محالة،بل اتيانها عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرّم،ضرورة سقوط الأمر المتعلق بها في الوقت،فيحتاج وجوبها في هذا الحال إلى أمر آخر.
وعلى هذا فاذا فرضنا أنّ الوضوء أو الغسل موجب لتفويت الوقت أو تفويت مقدار منه بحيث لا يقدر على إدراك تمام الصلاة في مقدار آخر منه،فلا يجوز ولا يكون مشروعاً،وعليه فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم،لعدم تمكنه وقتئذ من الوضوء أو الغسل شرعاً،وإن تمكن عقلاً.هذا بحسب ما تقتضيه القاعدة الأوّلية.
وأمّا بحسب النصوص،فانّ جملةً منها وإن دلّت على أنّ إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات 1إلّاأنّ الظاهر منها بمقتضى الفهم العرفي اختصاص ذلك بمن لم يتمكن من إتيان تمامها في الوقت،واضطرّ إلى التأخير إلى زمان لا يبقى من الوقت إلّابمقدار إدراك ركعة واحدة،فالشارع جعل لمثله إدراك ركعة واحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات إرفاقاً وتوسعةً له،
وأمّا من تمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت،ولكنّه أخّر باختياره وإرادته إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلّابمقدار إتيان ركعة واحدة فيه،فلا يكون مشمولاً لتلك الروايات،ضرورة أ نّها لم تكن في مقام بيان الترخيص والتوسعة للمكلفين في تأخير صلواتهم إلى أن لا يسع الوقت إلّابمقدار ركعة واحدة منها.
وعلى الجملة: فلا شبهة في ظهور الروايات في اختصاص هذا الحكم بغير المتمكن من أداء تمام الصلاة في الوقت،وأنّ الشارع جعل هذا توسعةً له،وأنّ إدراكه ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراكه تمام الركعات فيه.بل يمكن استظهار ذلك-أعني الاختصاص بالمضطر وبغير المتمكن-من نفس التعبير بكلمة«أدرك»حيث إنّه يظهر من موارد استعمالات هذه الكلمة أ نّها تستعمل فيما إذا لم يتمكن الانسان منه ابتداءً،ثمّ بعد الفحص والطلب تمكن منه،كما إذا طلب أحد غريمه ثمّ وجده فيقال إنّه أدرك غريمه،وأمّا إذا لم يطلبه ولكنه صادفه من باب الاتفاق،فلا يقال إنّه أدركه،بل يقال إنّه صادف غريمه،أو إذا نظر في مسألة علمية مثلاً وبعد النظر والدقّة وصل إلى ما هو المقصود منها فيقال إنّه أدرك المقصود،وأمّا إذا خطر بباله صدفةً ومن دون تفكّر ونظر فلا يقال إنّه أدركه،وهكذا.
وفي المقام قوله (عليه السلام):«من أدرك ركعةً واحدةً من الغداة في الوقت فقد أدرك تمام الركعات» 1ظاهر في اختصاص الحكم بغير المتمكن،وأمّا من تمكّن من إدراك تمام الركعات في الوقت ولكنّه أخّرها باختياره وإرادته إلى زمان لا يسع الوقت إلّابمقدار ركعة واحدة،فلا يصدق عليه أ نّه أدرك ركعةً
واحدةً في الوقت ليكون مشمولاً للرواية،لما عرفت من أنّ كلمة«أدرك»بحسب موارد استعمالها إنّما تستعمل في وجدان شيء بالاجتهاد والطلب،فلا تصدق على وجدانه صدفة ومن باب الاتفاق.وكيف ما كان،فلا إشكال في ظهور الروايات فيما ذكرناه،وهي وإن كانت اثنتان منها ضعيفتين 1إلّاأنّ واحدة منها موثقة 2وهي كافية لاثبات المسألة.
وعلى أساس هذا البيان قد ظهر أنّ هذه الروايات أجنبية عن مقامنا تماماً، ولا يدل شيء منها على تقديم إدراك ركعة مع الطهارة المائية على إدراك تمام الركعات مع الطهارة الترابية،والوجه في ذلك ما عرفت الآن من اختصاص موضوع تلك الروايات بخصوص المضطر وغير المتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:قد تقدّم أنّ المستفاد من الآيتين المتقدمتين بضميمة الروايات والنصوص الواردة في المسألة هو أنّ المكلف إن تمكن في الوقت من الطهارة المائية فوظيفته الطهارة المائية،وإن لم يتمكن منها فوظيفته الطهارة الترابية.
فالنتيجة على هدى هذين الجانبين:هي أنّ المكلف إن لم يتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة المائية لضيقه وتمكن من إدراك تمامها مع الطهارة الترابية كان المتعين هو الثاني،والروايات المزبورة كما عرفت مختصة بالمضطر وغير المتمكن من إدراك التمام،والمفروض في المقام أ نّه متمكن من إدراكه،غاية الأمر مع الطهارة الترابية دون المائية.
ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق في التمكن من الصلاة في الوقت بين أن يكون مع الطهارة المائية وأن يكون مع الطهارة الترابية،وعلى كلا التقديرين فلا يكون مشمولاً لتلك الروايات،لاختصاصها كما مرّ بغير المتمكن مطلقاً ولو مع الطهارة الترابية كما هو مقتضى إطلاقها،فإذن لا دوران في المقام لنرجع إلى المرجّح،ونقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من دوران الأمر بين إدراك ركعة واحدة في الوقت مع الطهارة المائية،وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية لا موضوع له أصلاً.
ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن:هي أنّ ما ذكره (قدس سره) من الفروع الثلاثة
ليس شيء منها صغرى للكبرى المتقدمة،وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل.
ثمّ إنّ من الغريب ما عن بعض المحدثين 1في المقام من الحكم بسقوط الصلاة في هذا الفرض،بدعوى أ نّه فاقد للطهورين،أمّا الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل فلا يتمكن منها،لأنّها توجب تفويت الصلاة عن الوقت وهو غير جائز،وأمّا الطهارة الترابية فغير مشروعة،لأنّ مشروعيتها منوطة بفقدان الماء وعدم وجدانه،والمفروض هنا أنّ المكلف واجد للماء،إذن تسقط الصلاة عنه باعتبار أ نّه فاقد الطهورين.
ووجه غرابته ما ذكرناه في غير مورد من أنّ المراد من الوجدان ليس وجوده الخارجي،بل المراد منه من جهة القرائن الداخلية والخارجية وجوده الخاص،وهو ما تمكن المكلف من استعماله في الوضوء أو الغسل عقلاً وشرعاً، وفي المقام بما أ نّه لا يتمكن من استعماله شرعاً،لأجل أ نّه يوجب تفويت الوقت وهو غير جائز،فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم.
وعلى الجملة: فقد تقدّم أنّ المكلف مأمور بالصلاة في أوقاتها بمقتضى الآيات والروايات،وأنّ تلك الصلاة مشروطة بالطهارة المائية في فرض التمكن منها عقلاً وشرعاً،وبالطهارة الترابية في فرض فقدان الماء وعدم التمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً،وفيما نحن فيه بما أنّ المكلف لا يتمكن-من جهة المحافظة على الصلاة في وقتها-من الطهارة المائية،فتجب عليه الطهارة الترابية،ضرورة أنّ مشروعية الطهارة الترابية إنّما هي من جهة المحافظة على الوقت،وإلّا لتمكن المكلف من استعمال الماء في زمان لا محالة.
وعليه فلا معنى لما ذكر من كونه واجداً للماء فلا يكون مأموراً بالتيمم.هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين جزأين أو شرطين أو شرط وجزء لواجب واحد.
وأمّا إذا دار الأمر بين جزء أو شرط وواجب آخر،كما إذا كان عند المكلف ماء لايكفي للوضوء ولرفع عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معاً،ففي مثل ذلك وإن وقعت المزاحمة بين وجوب صرف هذا الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب صرفه في واجب آخر،إلّاأنّ تقديم صرفه في واجب آخر كرفع العطش أو نحوه على صرفه في الوضوء أو الغسل ليس من جهة ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل،وبما أنّ الوضوء أو الغسل له بدل وهو التيمم فيقدّم عليه الواجب الآخر،بل من ناحية ما ذكرناه غير مرّة من أنّ المراد من الوجدان في الآية المباركة المأخوذ في موضوع وجوب الوضوء أو الغسل ليس مطلق وجوده في الخارج،بل المراد منه بمعونة القرائن الخارجية والداخلية وجوده الخاص وهو ما تمكن المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً،ولا يكفي التمكن العقلي فحسب.
وعلى هذا فبما أنّ المكلف مأمور بصرف هذا الماء في واجب آخر لم يعتبر فيه شيء ما عدا القدرة عليه تكويناً،فلا محالة يكون عاجزاً عن صرفه في الوضوء أو الغسل،فاذن تنتقل وظيفته إلى التيمم.
فالنتيجة:أنّ وجه تقديم وجوب صرف الماء في واجب آخر على وجوب صرفه في الوضوء أو الغسل ما ذكرناه من أنّ المكلف في هذا الحال غير واجد للماء ووظيفته حينئذ بمقتضى الآية المباركة هي التيمم لا غيره،لا ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وقد تلخص مما ذكرناه:أنّ هذا الفرع أيضاً ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.
ما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر عقلاً، فيقدّم ما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً على ما كان مشروطاً بالقدرة شرعاً، وبيان ذلك:أنّ الحكمين المتزاحمين لا يخلوان من أن يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً دون الآخر،وأن يكون كلاهما مشروطاً بالقدرة شرعاً أو عقلاً، فهذه أقسام ثلاثة:
فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ الواجب المشروط بالقدرة عقلاً يقدّم على الواجب المشروط بها شرعاً.
وأفاد في وجه ذلك:أنّ ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلاً حيث إنّه تام لا قصور فيه أصلاً فلا مانع من إيجابه بالفعل،فاذا كان وجوبه فعلياً فلا محالة يكون موجباً لعجز المكلف عن الاتيان بالواجب الآخر ومانعاً عن ثبوت الملاك له،لتوقفه على القدرة عليه عقلاً وشرعاً على الفرض،وهذا بخلاف الواجب المشروط بالقدرة عقلاً،فانّ ثبوت الملاك له لا يتوقف على شيء ما عدا القدرة عليه عقلاً،والمفروض أ نّها موجودة،فاذن ليس لوجوبه بالفعل أيّة حالة منتظرة أصلاً.
وعلى الجملة:فالواجب المشروط بالقدرة شرعاً يتوقف وجوبه فعلاً على تمامية ملاكه،والمفروض أ نّها تتوقف على عدم فعلية الواجب الآخر،ومع فعلية ذاك الواجب لا ملاك له،لعدم القدرة عليه عندئذ شرعاً،والمفروض أنّ
القدرة الشرعية دخيلة في ملاكه،إذن لا وجوب له فعلاً،ليكون مزاحماً مع الواجب المشروط بالقدرة عقلاً.
ومن ذلك يتقدّم الواجب المشروط بالقدرة عقلاً في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعاً ولو كان أهم منه،لما عرفت من عدم تمامية ملاكه وعدم تحقق موضوعه وهو القدرة شرعاً مع فعلية وجوب ذلك الواجب.
ومن الواضح أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعاً أهم منه أو لا،كما أ نّه لا فرق بين أن يكون متأخراً عنه زماناً أو مقارناً معه أو متقدماً عليه،فانّ ملاك التقدّم في جميع هذه الصور واحد،وهو أنّ وجوب الواجب المشروط بالقدرة عقلاً بصرف تحققه ووجوده رافع لموضوع وجوب الواجب الآخر،ومعه لا ملاك له أصلاً،ومن هنا أنكر (قدس سره) جريان الترتب في أمثال هذه الموارد.
أقول: قد حققنا سابقاً 1أ نّه لا مانع من جريان الترتب في أمثال هذه الموارد،وما أفاده (قدس سره) من عدم الجريان فيها لا أصل له أبداً،ولذا قلنا هناك إنّه لا فرق في جريانه بين أن تكون القدرة الماخوذة في الواجب عقلية أو شرعية،كما تقدّم ذلك بشكل واضح،فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) هنا من أنّ الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلاً يتقدّم على الواجب المأخوذ فيه القدرة شرعاً في مقام المزاحمة،وإن كان صحيحاً ولا مناص من الالتزام به،إلّاأنّ ما افاده (قدس سره) في وجه ذلك غير تام، وهو أنّ ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلاً تام ولا قصور فيه،فاذن لا مانع من إيجابه فعلاً،وملاك الواجب المشروط بالقدرة شرعاً غير تام،فلا يمكن إيجابه فعلاً.
ووجه عدم تماميته هو ما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام أصلاً مع قطع النظر عن ثبوتها،وعليه فلا طريق لنا إلى استكشاف أنّ الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلاً واجد للملاك في مقام المزاحمة، والواجب المأخوذ فيه القدرة شرعاً فاقد له،لينتج من ذلك أنّ وجوب الأوّل فعلي دون الثاني.
أضف إلى هذا أنّ تقديم أحد المتزاحمين على الآخر بمرجح لا يرتكز بوجهة نظر مذهب دون آخر،بل يعم جميع المذاهب والآراء،ضرورة عدم اختصاص البحث في مسألة التزاحم بوجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الواقعية،بل يعمّ البحث عنها وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيتين.وعلى هذا فلا وجه لما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من جعل التقديم مبنيّاً على وجهة نظر مذهبنا.
أمّا أنّ أصل الحكم بالتقديم في هذه الموارد صحيح فلأجل أ نّه لا مانع من فعلية وجوب ما هو المشروط بالقدرة عقلاً في مقام المزاحمة مع الواجب المشروط بالقدرة شرعاً،لفرض أ نّه غير مشروط بشيء ما عدا القدرة التكوينية عليه، وهي موجودة،وهذا بخلاف وجوب ما هو المشروط بالقدرة شرعاً،فانّ المانع من فعلية وجوبه موجود،وهو فعلية وجوب ذاك الواجب،لفرض أ نّها توجب عجز المكلف عن الاتيان به في الخارج،وعليه فلا يكون قادراً عليه، ومع انتفاء القدرة ينتفي الوجوب لا محالة،لاستحالة بقاء الحكم مع انتفاء موضوعه.هذا هو وجه التقديم في تلك الموارد،وترى أ نّه لا يبتني على وجهة نظر مذهب دون آخر.ولا يفرق فيه بين أن يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعاً أهم منه أو لا يكون أهم،كما أ نّه لا يفرق بين أن يكون متأخراً عنه
زماناً أو مقارناً معه أو متقدماً عليه،فانّ ملاك التقديم في الجميع واحد،وهو أنّ وجوب الاتيان بالواجب الآخر فعلاً أو وجوب التحفظ عليه في ظرفه كذلك لئلّا يفوت مانع عنه وموجب لعجز المكلف عن امتثاله تشريعاً.
فلا يخلو من أن يكون أحدهما أسبق من الآخر زماناً أم لا.
أمّا الأوّل: فيقدّم فيه ما كان الأسبق من الآخر زماناً في الفعلية وتحقق موضوعه في الخارج،وذلك لأنّ ما كان متقدّماً بالزمان على غيره صار فعلياً بفعلية موضوعه خارجاً،وهو القدرة عليه تكويناً وتشريعاً.أمّا تكويناً فظاهر، وأمّا تشريعاً فلأجل أنّ الرافع للقدرة الشرعية في المقام ليس إلّاوجود خطاب إلزامي فعلي في عرضه يقتضي الاتيان بمتعلقه،فانّه يوجب عجز المكلف عن امتثاله تشريعاً فينتفي بانتفاء موضوعه،والمفروض عدم وجود خطاب كذلك،فاذن لا مانع من فعليته أصلاً،ومثاله ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الصبح مثلاً والقيام في صلاة الظهر،بأن لا يقدر المكلف على الجمع بينهما في الخارج،فلو صلّى صلاة الصبح قائماً فلا يقدر على القيام في صلاة الظهر،وإن ترك القيام في صلاة الصبح فيقدر عليه في صلاة الظهر،ففي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تقديم القيام في صلاة الصبح على القيام في صلاة الظهر،ولا يجوز تركه فيها تحفظاً على القدرة عليه في صلاة الظهر.
والوجه فيه واضح،وهو أنّ وجوب صلاة الصبح مع القيام فعلي عليه بفعلية موضوعه،وهو قدرته على إتيانها قائماً عقلاً وشرعاً،وعدم مانع في البين،لأنّ وجوب صلاة الظهر قائماً في ظرفه ليس بفعلي في هذا الحين ليكون مانعاً منه،فانّه إنّما يصير فعلياً بعد دخول الوقت،ومن الواضح جداً أ نّه لا يجوز ترك الواجب الفعلي مقدمةً لحفظ القدرة على إتيان الواجب في ظرفه.
فالنتيجة:أ نّه كلّما وقع التزاحم بين واجبين طوليين بأن يكون أحدهما متقدماً على الآخر زماناً،فلا إشكال في تقديم السابق على اللّاحق،ولا يفرق فيه بين أن يكون الواجب اللّاحق أهم من السابق أم لا،فانّ الملاك في الجميع واحد،وهو أنّ الواجب اللّاحق حيث إنّه لا يكون فعلياً في هذا الحال فلا يكون مانعاً عن فعلية وجوب السابق،وعليه فلا يجوز ترك صلاة الصبح في وقتها قائماً مقدمة لحفظ القدرة على صلاة الظهر كذلك،وهذا واضح.
ولكن ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ هذا المرجح إنّما يكون مرجحاً فيما إذا لم يكن هناك جهة اخرى توجب تقديم أحد الواجبين على الآخر ولو كان متأخراً عنه زماناً،ومثّل لذلك بما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه،فانّ النذر وإن كان سابقاً بحسب الزمان على أشهر الحج،كمن نذر في شهر رمضان مثلاً المبيت ليلة عرفة عند مشهد الحسين (عليه السلام) وبعد ذلك عرضت له الاستطاعة،فانّه مع ذلك يقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.
وأفاد في وجه ذلك:أنّ وجوب الوفاء في أمثال هذه الموارد مع اشتراطه بالقدرة شرعاً مشروط بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضاً،والوفاء بالنذر هنا حيث إنّه يستلزم ترك الواجب في نفسه،مع قطع النظر عن تعلق النذر به،فلا تشمله أدلة وجوب الوفاء به،فاذن ينحل النذر بذلك،ويصير وجوب الحج فعلياً رافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.
ثمّ أورد على نفسه بأنّ وجوب الوفاء بالنذر غير مشروط بالقدرة شرعاً، وعليه فلا وجه لتقديم وجوب الحج المشروط بالقدرة شرعاً في لسان الدليل
عليه.ولو سلّمنا أنّ وجوب الوفاء أيضاً مشروط بها،إلّاأ نّه لا وجه لتقديم وجوب الحج على وجوبه،لفرض أنّ كل واحد منهما صالح لأن يكون رافعاً لموضوع الآخر في حد نفسه،ولكن النذر من جهة تقدّمه زماناً يكون رافعاً للاستطاعة.
وأجاب عن الاشكال الأوّل،بأنّ وجوب الوفاء تابع لما تعلق به النذر سعةً وضيقاً،ومن المعلوم أنّ النذر تعلق بالفعل المقدور،ضرورة أنّ حقيقته عبارة عن الالتزام بشيء للّٰهتعالى،ومن الطبيعي أنّ العاقل الملتفت لا يلتزم بشيء خارج عن اختياره وقدرته،فنفس تعلق الالتزام بفعل يقتضي اعتبار القدرة فيه،نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه،ومن هنا قلنا إنّ متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم،وعليه فلا محالة يكون متعلق النذر فيما نحن فيه حصة خاصة،وهي الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها،وهذا عين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً الكاشف عن اختصاص الملاك بخصوص الحصة المقدورة،لا الجامع بينها وبين غير المقدورة.
وأجاب عن الاشكال الثاني،وهو دعوى كون النذر رافعاً للاستطاعة بوجهين:
الأوّل:أنّ صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً في نفسه في ظرف العمل،وإلّا فلا ينعقد،وبما أنّ في المقام متعلقه ليس براجح في ظرف العمل فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.
الثاني:أ نّا لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا عدم اعتبار رجحان متعلق النذر في ظرف العمل في صحته وانعقاده وشمول أدلة وجوب الوفاء له،وقلنا بكفاية رجحان متعلقه حين النذر وإن لم يكن راجحاً حين العمل،فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته في المقام،لاشتراط صحته بعدم كون متعلقه مخالفاً للكتاب أو
السنّة،وموجباً لترك الواجب أو فعل الحرام،وبما أنّ متعلقه في مفروض الكلام يوجب في نفسه ترك الواجب باعتبار استلزامه ترك الحج،فلا يمكن الحكم بصحته ووجوب الوفاء به،وعليه فيقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر أو ما شاكله.
وعلى الجملة: فلا مانع من فعلية وجوب الحج على الفرض غير وجوب الوفاء بالنذر،وحيث إنّه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه محللاً للحرام،فلا يكون فعلياً في مفروض المقام ليكون مانعاً عن فعلية وجوب الحج ومزاحماً له.وعلى هذا فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه،وأمّا وجوب الوفاء به فلا يعقل أن يكون رافعاً لملاك الحج،ضرورة أنّ فعليته تتوقف على عدم التكليف بالحج،لئلّا يلزم منه تحليل الحرام،فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب النذر لزم الدور.
وهذا الذي ذكرناه يجري في كل ما كان وجوبه مشروطاً بعدم كونه محللاً للحرام،كموارد الشرط والحلف واليمين وما شابهها،فعند مزاحمته مع ما هو غير مشروط به يقدّم غير المشروط به،ولو فرض أ نّه أيضاً مشروط بالقدرة شرعاً.
ثمّ قال (قدس سره) وأمّا ما عن السيِّد (قدس سره) في العروة 1من أنّ المعتبر هو أن يكون متعلق النذر راجحاً في ظرف العمل ولو بلحاظ تعلق النذر به،وبذلك صحّح جواز نذر الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات،فيظهر فساده مما قدّمناه من أنّ المعتبر في صحة النذر وانعقاده هو كون متعلقه راجحاً وغير موجب لتحليل الحرام في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به،وإلّا لأمكن تحليل جميع المحرّمات بالنذر وهذا ضروري البطلان.
نلخّص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: تسليم أنّ التزاحم بين وجوب الوفاء بالنذر ووجوب فريضة الحج إنّما هو من صغريات التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،وليس من صغريات الكبرى المتقدمة،وهي المزاحمة بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً.
الثانية: تسليم أ نّه داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون أحدهما أسبق زماناً من الآخر.
الثالثة: أنّ الأسبق زماناً إنّما يكون مرجّحاً ومقدّماً على الآخر فيما إذا لم تكن هناك جهة اخرى تقتضي تقديم الآخر عليه،كما هو الحال فيما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر،فانّ النذر وإن كان متقدّماً على الحج زماناً،كما إذا كان قبل أشهر الحج،إلّاأنّ الوفاء به بما أ نّه يستلزم ترك الواجب فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.
الرابعة: أنّ وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مشروط بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل،وبما أنّ متعلق النذر في مفروض المقام ليس براجح في ظرف العمل،لاستلزامه تحليل الحرام وهو ترك الحج،فلايكون مشمولاً لأدلة وجوب الوفاء.ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا كفاية الرجحان حين النذر وإن لم يكن راجحاً حين العمل،فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته،لفرض اشتراط انعقاده بأن لايكون متعلقه في نفسه محللاً للحرام،وبما أ نّه في المقام موجب له فلاينعقد.
الخامسة: أنّ اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعاً إنّما هو باقتضاء نفس الالتزام النذري،فانّه يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه،وهذا عين
اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً.
السادسة: أنّ لازم ما ذكره السيِّد (قدس سره) في العروة هو جواز تحليل المحرّمات بالنذر،وهذا باطل قطعاً.
ولنأخذ بالمناقشة في عدّة من هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فيرد عليها أنّ المقام غير داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،والوجه فيه هو أنّ ذلك يبتني على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً،كما هو المناسب لمعناها لغةً،فعندئذ لا محالة يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى،وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من تفسيرها بأن يكون عنده الزاد والراحلة مع أمن الطريق كما في الروايات[1] فلا يكون داخلاً
فيها،ضرورة أنّ وجوب الحج على هذا ليس مشروطاً بالقدرة شرعاً،بل هو مشروط بوجدان الزاد والراحلة وأمن الطريق،فعند وجود هذه الاُمور واجتماعها يجب الحج،كان هناك واجب آخر في عرضه أم لم يكن.
وعلى هذا الأساس فلا يكون وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه،فانّ موضوعه-وهو وجدان الزاد والراحلة مع أمن الطريق-موجود بالوجدان،بل الأمر بالعكس،فانّ وجوب الحج على هذا مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه،حيث إنّ وجوب ______________
الوفاء به منوط بكون متعلقه مقدوراً للمكلف عقلاً وشرعاً،ومن الواضح أنّ وجوب الحج عليه معجّز مولوي عن الوفاء به فلايكون معه قادراً عليه،فإذن ينتفي وجوب الوفاء به بانتفاء موضوعه.
ونتيجة ذلك هي:أنّ التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ليس داخلاً في الكبرى المزبورة-التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً-بل هو داخل في الكبرى الاُولى وهي التزاحم بين واجبين يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بالقدرة عقلاً،وذلك لما عرفت الآن من أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً فحسب،ولا يعتبر في وجوبه ما عدا تحقق الاُمور المزبورة،ووجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة عقلاً وشرعاً.
وقد تقدّم أ نّه في مقام وقوع المزاحمة بينهما يتقدّم ما كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية على ما كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية،فانّ الأوّل يوجب عجز المكلف عن امتثال الثاني،فيكون منتفياً بانتفاء موضوعه،ولا يوجب الثاني عجزه عن امتثال الأوّل،لأنّ المانع من فعليته إنّما هو عجزه التكويني،والمفروض أ نّه لا يوجب ذلك.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التزاحم بينهما من صغرى التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،لا يمكن المساعدة عليه.
وأمّا النقطة الثانية: فيرد عليها أنّ مسألة مزاحمة وجوب الحج مع وجوب الوفاء بالنذر أو ما شابهه خارجة عن كبرى مسألة التزاحم بين واجبين يكون أحدهما متقدّماً زماناً على الآخر،وليس خروجها عن تلك الكبرى خروجاً حكمياً كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بل خروجها عنها خروج موضوعي بمعنى أ نّها حقيقة ليست من صغريات تلك الكبرى،وهي لا تنطبق عليها أبداً.
والوجه في ذلك هو أنّ النذر وإن فرض تقدّمه على حصول الاستطاعة زماناً،إلّاأنّ العبرة إنّما هي بتقدّم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر كتقدّم زمان صلاة الفجر على زمان صلاتي الظهرين مثلاً وهكذا،ولا عبرة بتقدّم زمان أحد الوجوبين على زمان الآخر.
وعلى الجملة:أ نّا لو تنزّلنا عمّا ذكرناه وسلّمنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً بناءً على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور،فمع ذلك ليست المزاحمة بينه وبين وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه داخلة في الكبرى المتقدمة،لما عرفت من عدم تقدّم زمان الوفاء بالنذر على زمان الحج وإن فرض تقدّم سبب وجوبه على سبب وجوب الآخر،فانّه لا عبرة به،والعبرة إنّما هي بتقدّم أحد الواجبين على الآخر زماناً، والمفروض أ نّهما في عرض واحد فلا تقدّم لأحدهما على الآخر أصلاً.
وعليه فلا يبقى مجال لتوهّم تقدّم وجوب الوفاء بالنذر على وجوب الحج بملاك تقدّم الواجب السابق على الواجب اللّاحق.فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ المقام داخل في الكبرى المزبورة فيما إذا فرض تقدّم النذر بحسب الزمان على أشهر الحج لا يرجع إلى أصل صحيح،لما عرفت من أ نّه غير داخل في تلك الكبرى حتّى على هذا الفرض والتقدير،من جهة أنّ العبرة إنّما هي بتقدّم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر،ولا عبرة بتقدّم سبب أحدهما على سبب الآخر أصلاً،كما مرّ.
ولا يفرق في ذلك بين القول باستحالة الواجب المعلق كما هو مختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1والقول بامكانه وصحّته،كما هو المختار عندنا 2،فانّه
على كلا القولين لا تقدّم لأحد الواجبين على الآخر بحسب الزمان،غاية ما في الباب على القول بالاستحالة فكما لا وجوب فعلاً للوفاء بالنذر قبل تحقق ليلة عرفة،فكذلك لا وجوب فعلاً للحج قبل تحقق وقته ومجيئه،فإذن عدم تقدّم أحدهما على الآخر زماناً واضح،وعلى القول بالامكان فكما أنّ وجوب الوفاء بالنذر فعلي قبل مجيء وقت الواجب،فكذلك وجوب الحج فعلي قبل وقته، فالوجوبان عرضيان وكل منهما قابل لرفع موضوع الآخر.ودعوى أنّ وجوب الوفاء بالنذر على هذا سابق على وجوب الحج باعتبار أنّ سببه مقدّم على سببه،مدفوعة بأ نّه لا أثر لمجرد حدوث وجوبه قبل حصول الاستطاعة بعد فرض أ نّه مزاحم بوجوب الحج بقاءً،بل قد عرفت أ نّه لا مزاحمة بين الواجبين إلّافي زمانهما وهو زمان الامتثال والعمل لا في زمان وجوبهما كما هو ظاهر.
وبعد ذلك نقول: إنّه لا بدّ من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة،وذلك لوجهين:
الأوّل: أنّ وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحج ورافعاً لموضوعه لأمكن لكل مكلف رفع وجوبه عن نفسه بايجاب شيء ما عليه بنذر أو نحوه في ليلة عرفة المنافي للاتيان بالحج،كمن نذر أن يصلي ركعتين من النافلة مثلاً في ليلة عرفة في المسجد الفلاني،كمسجد الكوفة أو نحوه،أو نذر أن يقرأ سورة مثلاً في ليلة عرفة فيه أو في مكان آخر مثلاً وهكذا،ومن الواضح جداً أنّ بطلان هذا من الضروريات فلا يحتاج إلى بيان وإقامة برهان،كيف فانّ لازم ذلك هو أن لا يجب الحج على أحد من المسلمين، إذ لكل منهم أن يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذر أو شبهه يكون منافياً
ومضاداً له،وهذا ممّا قامت ضرورة الدين على خلافه،كما هو ظاهر.
الثاني: أ نّه قد ثبت في محلّه أنّ صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحاً،فلو نذر ترك واجب أو فعل حرام لم يصح،بل لو نذر ترك مستحب أو فعل مكروه كان كذلك،فضلاً عن أن ينذر ترك واجب أو فعل محرّم.ومن هنا لو نذرت المرأة أن تصوم غداً ثمّ رأت الدم فلا ينعقد نذرها ولا يجب عليها الصوم في الغد بمقتضى وجوب الوفاء بالنذر،لعدم رجحانه في هذه الحالة.
وعلى الجملة: فلا شبهة في اعتبار رجحان متعلقه في نفسه في انعقاده،كزيارة الحسين (عليه السلام) والصلاة في المسجد مثلاً وما شاكلهما،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:يعتبر في صحته وانعقاده أيضاً أن لا يكون محللاً للحرام بمعنى أنّ الوفاء به لا يستلزم ترك واجب أو فعل محرم.والحاصل أ نّه لا إشكال في فساد النذر أو الشرط المخالف للكتاب أو السنّة وما يكون محللاً للحرام، وقد دلّت على ذلك عدّة من الروايات 1ويترتب على هذا أنّ النذر في مفروض المقام بما أنّ متعلقه في نفسه محلل للحرام،لاستلزامه ترك الواجب وهو الحج فلا ينعقد،لما قد عرفت من اشتراط صحته بعدم كون متعلقه كذلك، وعليه فلا مناص من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.
أو فقل:إنّه لا مانع من فعلية وجوب الحج هنا على الفرض ما عدا وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه،وحيث إنّه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه مستلزماً لترك واجب أو فعل حرام،فلا محالة لا يكون فعلياً في هذا الفرض-أي فرض مزاحمته مع وجوب الحج-ليكون مانعاً عن فعلية وجوبه،لاستلزام الوفاء به ترك الواجب وهو الحج،وعليه فلا محالة يكون وجوب الحج فعلياً ورافعاً لموضوع وجوب الوفاء بالنذر،كما هو واضح.
وعلى هذا الأساس نستنتج من ذلك كبرى كلّية وهي أنّ كل واجب لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلقه في نفسه محللاً للحرام يتقدّم في مقام المزاحمة على واجب كان وجوبه مشروطاً بذلك،كالواجبات الإلهٰية التي ليست بمجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً،بل هي مجعولة بعناوين ثانوية كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقد وما شاكل ذلك،فانّ وجوب الوفاء بتلك الواجبات جميعاً مشروط بعدم كونها مخالفة للكتاب أو السنّة ومحللة للحرام،فتؤخذ هذه القيود العدمية في موضوع وجوب الوفاء بها.
وعلى ذلك يترتب أنّ تلك الواجبات لا تصلح أن تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً،كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك،لعدم أخذ تلك القيود العدمية في موضوع وجوبها،وعليه ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات،فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة:أنّ عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلتها عن شمولها في هذه الموارد-أعني بها موارد مخالفة الكتاب أو السنّة وتحليل الحرام في نفسها-لانتفاء موضوعها،لا لوجود مانع في البين،ومن هنا قلنا إنّ أدلة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأوّلية،ودالة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفة لشيء من تلك الأحكام.وأمّا في صورة المخالفة فتسقط بسقوط موضوعها كما عرفت،وتمام الكلام في ذلك في محلّه.
وأمّا النقطة الثالثة: وهي أنّ الأسبق زماناً إنّما يكون مرجحاً فيما إذا لم تكن هناك جهة اخرى تقتضي تقديم الآخر عليه،فهي في غاية الوضوح،لأنّ كل مرجح وإن كان يستدعي تقديم صاحبه على غيره،إلّاأنّ استدعاءه ليس على نحو العلة التامة،بل هو على نحو الاقتضاء،فلو كان هناك مانع من تقديمه
أو كانت هناك جهة اخرى تقتضي تقديم غيره عليه فلا أثر له.
وعلى الجملة فلا شبهة في أنّ أسبقية أحد الواجبين زماناً على الواجب الآخر من المرجحات في مقام المزاحمة،ولكن من المعلوم أ نّها إنّما تقتضي التقديم فيما إذا لم يكن هناك مانع عن اقتضائها ذلك،أو لم تكن هناك جهة اخرى أقوى منها تقتضي تقديم الواجب اللّاحق على السابق،وهذا ظاهر.
وأمّا النقطة الرابعة: وهي أنّ صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً في ظرف العمل ولا يكون محللاً للحرام،فهي تامة بالاضافة إلى ناحية،وغير تامة بالاضافة إلى ناحية اخرى.
أمّا بالاضافة إلى ناحية أنّ الوفاء بالنذر في ظرفه مستلزم لترك الواجب وهو الحج فهي تامة،لما عرفت من أنّ صحة النذر وأشباهه مشروطة بعدم كون الوفاء به محللاً للحرام،وحيث إنّه في مفروض الكلام موجب لذلك فلا يكون منعقداً.
وأمّا بالاضافة إلى ناحية أنّ متعلقه ليس براجح في نفسه في ظرف العمل لاستلزامه ترك الواجب فهي غير تامة،ضرورة أنّ المعتبر في صحته هو رجحان متعلقه في نفسه،والمفروض أ نّه كذلك في المقام،ومجرد كونه مضاداً لواجب فعلي لا يوجب مرجوحيته،إلّابناءً على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه،وقد تقدّم فساد هذا القول بشكل واضح 1،وقلنا هناك إنّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه بوجه.على أ نّه نهي غيري لا ينافي الرجحان الذاتي كما هو واضح.
وأمّا النقطة الخامسة: وهي أنّ نفس الالتزام النذري يقتضي كون متعلقه
حصة خاصة وهي الحصة المقدورة نظير اقتضاء نفس التكاليف ذلك،فقد ظهر فسادها مما تقدّم وملخصه:أنّ ذلك لا يتمّ حتّى على مسلك المشهور من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن البعث أو الزجر إلى الفعل أو عنه،فضلاً عما حققناه من أنّ حقيقته عبارة عن اعتبار فعل على ذمة المكلف،أو اعتبار تحريمه وبُعد المكلف عنه،وإبرازه في الخارج بمبرز،ولانعقل لغير ذلك معنىً محصلاً للتكليف.
ومن الطبيعي أنّ اعتبار شيء على الذمة لا يقتضي اشتراطه بالقدرة لا عقلاً ولا شرعاً،ومن هنا قلنا إنّ القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف لا من ناحية العقل ولا من ناحية الشرع،فالقدرة إنّما هي معتبرة في مقام الامتثال فحسب، ولا يحكم العقل باعتبارها بأزيد من ذلك،وقد سبق الكلام في ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الاعادة.
ومن ذلك يظهر الكلام فيما نحن فيه،وذلك لأنّ حقيقة النذر أو ما شابهه بالتحليل ليست إلّاعبارة عن اعتبار الناذر الفعل على ذمته للّٰهتعالى،وقد عرفت أنّ اعتبار شيء على الذمة لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه لا عقلاً ولا شرعاً،ضرورة أ نّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغيره على الذمة أصلاً،فاذن لا يقتضي تعلق النذر بشيء اعتبار القدرة فيه عقلاً وشرعاً، فما أفاده (قدس سره) من اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعاً من هذه الناحية غير تام.
على أنّ ما أفاده (قدس سره) هنا من اختصاص الملاك بخصوص الفعل المقدور مناقض لما أفاده سابقاً 1.
وملخص ما أفاده هناك:هو أنّ القدرة مرّة مأخوذة في متعلق الطلب لفظاً
كما في آيتي الحج والوضوء وما شاكلهما،فالتقييد في مثل ذلك لا محالة يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعاً،ضرورة أ نّها لو لم تكن دخيلة فيه في مقام الثبوت والواقع لم يكن معنى لأخذها في متعلقه في مقام الاثبات والدلالة،وعلى ذلك يترتب أ نّه بانتفاء القدرة ينتفي الملاك،لاختصاصه بخصوص الحصة المقدورة دون الأعم،وعليه فلا يمكن تصحيح الوضوء بالملاك في موارد الأمر بالتيمم.
ومرّة اخرى لم تؤخذ في متعلقه في مرتبة سابقة على الطلب،بل كان اعتبارها فيه من ناحية تعلق الطلب به،سواء أكان باقتضاء نفس الطلب ذلك أو من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز،فالتقييد في مثل ذلك بما أ نّه كان في مرتبة لاحقة وهي مرتبة عروض الطلب،فيستحيل أن يكون تقييداً في مرتبة سابقة على تلك المرتبة وهي مرتبة معروضه.
أو فقل: إنّ الطبيعة التي يتعلق بها الطلب وإن كانت مقيدة بالقدرة عليها حال تعلقه بها،إلّاأ نّها مطلقة في مرتبة سابقة عليه،ومن الواضح أنّ إطلاقها في تلك المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك،وأ نّها باطلاقها واجدة للملاك التام،وإلّا لكان على المولى تقييدها في تلك المرتبة.إذن فمن الاطلاق في مقام الاثبات يستكشف الاطلاق في مقام الثبوت.
أقول: هذا البيان بعينه يجري فيما نحن فيه،فانّ متعلق النذر في مرتبة سابقة على عروض النذر عليه،ووجوب الوفاء به مطلق،والتقييد إنّما هو في مرتبة لاحقة،وهي مرتبة عروض النذر عليه ووجوب الوفاء به،وقد عرفت أنّ مثل هذا التقييد لا يكشف عن دخل القدرة في المتعلق،ضرورة أ نّه لا يصلح أن يكون بياناً ومقيداً للاطلاق في مرتبة سابقة عليه،إذن ذات الفعل الذي هو معروض الالتزام النذري واجد للملاك على إطلاقه،والمفروض عدم الدليل على تقييده في تلك المرتبة بخصوص الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة.
وعلى الجملة:فما أفاده (قدس سره) هنا من أنّ اعتبار القدرة في متعلق النذر باقتضاء نفس الالتزام به يلازم اعتبار القدرة في متعلق الوجوب شرعاً الكاشف عن اختصاص الملاك بالفعل المقدور،لايلائم ما ذكره هناك من التفرقة بين اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعاً واعتبارها فيه باقتضاء نفس التكليف أو من جهة حكم العقل به من باب قبح تكليف العاجز كما عرفت.
فالصحيح في المقام أن يقال:إنّ الدليل على اشتراط وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه بالقدرة شرعاً هو ما دلّ على تقييده بعدم كونه مخالفاً للكتاب أو السنّة مرّة،وبعدم كونه محللاً للحرام مرّة اخرى.
ونتيجة ذلك أ نّها لا تنعقد إذا كان الوفاء بها مستلزماً لترك واجب أو فعل محرّم،لانطباق عنوان محلل الحرام عليه،ومن الواضح أنّ هذا عين اعتبار القدرة في متعلقه شرعاً،وقد تبيّن لحدّ الآن أنّ الصحيح في وجه اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعاً هو ما ذكرناه،لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كما مرّ.
وأمّا النقطة السادسة: وهي أنّ الاكتفاء في صحة النذر برجحان متعلقه في مقام العمل ولو باعتبار تعلق النذر به،يستلزم جواز تحليل المحرمات بالنذر، فيردّها أنّ ما ذكره السيِّد (قدس سره) في العروة لا يستلزم ما أفاده،والوجه فيه هو أ نّه لا إشكال في اعتبار رجحان متعلق النذر في صحته،وأ نّه لا بدّ أن يكون راجحاً ولو من جهة تعلق النذر به،هذا من جانب.
ومن جانب آخر أ نّه لا يمكن أن يقتضي وجوب الوفاء بالنذر رجحان متعلقه،ضرورة استحالة اقتضاء الحكم لوجود شرطه وتحقق موضوعه في الخارج.
فالنتيجة على ذلك:هي أنّ رجحان متعلق النذر مرّة يكون باقتضاء ذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان عليه،ومرّة اخرى يكون بعروض عنوان خارجي طارئ عليه،ولا يكون ذلك إلّاباقتضاء دليل خارجي ولا ثالث لهما، بمعنى أنّ الشيء إذا لم يكن في نفسه راجحاً،فصحة تعلق النذر به تحتاج إلى دليل من الخارج يدل على صحة النذر الكاشفة عن طروء الرجحان عليه،فان دلّ دليل على صحته كما هو الحال في الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر، حيث قد قام الدليل من الخارج على صحة نذرهما،مع أ نّهما ليسا براجحين في نفسهما،فنلتزم بها،وإلّا فلا.ومراد السيِّد (قدس سره) من الرجحان الجائي من قبل النذر هو ما ذكرناه من قيام الدليل الخارجي على صحة النذر الكاشف عن رجحان متعلقه بعنوان ثانوي وهو عنوان تعلق النذر به،وليس مراده منه الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء بالنذر ليلزم منه جواز تحليل المحرّمات،لما عرفت من استحالة اقتضاء وجوب الوفاء بالنذر ذلك،أعني رجحان متعلقه.
فما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) على السيِّد (قدس سره) إنّما يتمّ لو كان مراده من الرجحان الناشئ من قبل النذر،الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء به.
وعلى هذا البيان قد ظهر أنّ ما ذكره السيِّد (قدس سره) في العروة لا يستلزم جواز تحليل المحرّمات بالنذر،ضرورة أنّ ما أفاده (قدس سره) أجنبي عن ذلك تماماً،وخاص بما إذا قام دليل على صحة النذر.
وإن شئت فقل: إنّ إطلاق أدلة المحرّمات كافية لاثبات عدم الرجحان، والمفروض أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يقتضي رجحان متعلقه كما عرفت.
ومن الواضح جداً أ نّه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه أبداً.
نعم،إذا قام دليل على صحة تعلق النذر بفردٍ ما من أفراد المحرّمات،فلا
مناص من الالتزام بصحته وانعقاده،وتقييد إطلاق دليل التحريم بغير هذا الفرد، ولا يفرق فيه بين القول باعتبار رجحان متعلقه في نفسه،والقول بكفاية الرجحان الناشئ من تعلق النذر به،ضرورة أ نّه على كلا القولين لا مناص من الالتزام بالصحة،غاية الأمر على القول الأوّل يلزم أن يكون الدليل المزبور مخصصاً لأدلة اشتراط صحة النذر بكون متعلقه راجحاً في نفسه دون القول الثاني،ولكن لا تترتب على ذلك أيّة ثمرة عملية.
وقد تحصّل مما ذكرناه عدّة امور:
الأوّل: أنّ وجوب الحج ليس مشروطاً بالقدرة شرعاً،فانّه يبتني على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً،ولكنّك عرفت أ نّه تفسير خاطئ بالنظر إلى الروايات الواردة في تفسيرها وبيان المراد منها، حيث إنّها قد فسّرت في تلك الروايات بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق، وفي بعضها وإن زاد صحة البدن أيضاً ولكن من المعلوم أ نّها ليست شرط الوجوب مطلقاً،بل هي شرط له على نحو المباشرة،ونتيجة ذلك هي أ نّه عند وجود الزاد والراحلة وأمن الطريق يجب الحج،سواء أكان هناك واجب آخر أم لم يكن.
وعلى هذا الأساس فلا مجال لتوهم أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً، فانّ منشأ هذا التوهم ليس إلّاالتفسير المزبور،وقد عرفت أ نّه تفسير غير مطابق للواقع.فإذن يتقدّم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر في مقام المزاحمة وإن فرض أنّ وجوب الوفاء بالنذر سابق عليه زماناً،لما مضى من أنّ الواجب المشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة شرعاً مطلقاً،أي سواء أكان في عرضه أو سابقاً عليه بحسب الزمان أو متأخراً عنه.
أمّا وجه تقديمه في الصورتين الاُوليين فواضح،لفرض أنّ التكليف به بما أ نّه فعلي يكون معجّزاً مولوياً بالاضافة إلى الآخر وموجباً لانتفائه بانتفاء موضوعه،دون العكس.
وأمّا في الصورة الأخيرة،فلأنّ المفروض أنّ ملاكه حيث إنّه تام في ظرفه فلا يجوز تفويته،إذ لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه،فكما أنّ الأوّل قبيح عنده فكذلك الثاني،وعليه فيجب التحفظ على ملاكه وعدم تفويته،وبما أنّ الاتيان بالواجب الآخر موجب لتفويته فلا يجوز،وهذا معنى عدم قدرة المكلف على إتيانه شرعاً.
الثاني: أ نّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعاً بناءً على صحة التفسير المزبور،فأيضاً لا وجه لتقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه عليه،وذلك لما عرفت من عدم دخول ذلك في كبرى تزاحم واجبين كان أحدهما أسبق زماناً من الآخر،فانّ العبرة في ذلك إنّما هي بتقدم أحد الواجبين على الآخر زماناً كما مرّ،ولا عبرة بتقدم سبب وجوب أحدهما على سبب وجوب الآخر،أو بتقدم حدوث وجوب أحدهما على حدوث وجوب الآخر بعد كونه مزاحماً به بقاءً.
الثالث: أ نّه لو تنزلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ وجوب الوفاء بالنذر وما شاكله مقدّم على وجوب الحج زماناً،فمع ذلك لا وجه لتقديمه عليه،وذلك لما عرفت من الوجهين المتقدمين،ونتيجتهما هي أنّ حصول الاستطاعة في زمن متأخر كاشف عن بطلان النذر من الأوّل وعدم انعقاده.
ومن ذلك البيان قد ظهر فساد ما ذهب إليه جماعة منهم صاحب الجواهر (قدس سره) 1من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج،
بملاك أنّ النذر مقدّم عليه زماناً،فيكون رافعاً للاستطاعة،ولا عكس.أو فقل:إنّ وجوب الوفاء به مطلق ووجوب الحج مشروط فلا يمكن أن يزاحم الواجب المشروط الواجب المطلق.
ووجه فساده ما عرفت من منع ذلك صغرى وكبرى،فلا حاجة إلى الاعادة.
ثمّ إنّه من الغريب ما صدر عن السيِّد الطباطبائي (قدس سره) في العروة في المسألة 32 من مسائل الحج وإليك نص كلامه:إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين (عليه السلام) في كل عرفة،ثمّ حصلت لم يجب عليه الحج، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره أن يعطي الفقير كذا مقداراً،فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه،بل وكذا لو نذر قبل حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة مثلاً في الزيارة أو التعزية أو نحو ذلك،فان هذا كلّه مانع عن تعلق وجوب الحج به،وكذا إذا كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج،ثمّ حصلت الاستطاعة، وإن لم يكن ذلك الواجب أهم من الحج،لأنّ العذر الشرعي كالعقلي في المنع من الوجوب.
وأمّا لو حصلت الاستطاعة أوّلاً،ثمّ حصل واجب فوري آخر لا يمكن الجمع بينه وبين الحج يكون من باب المزاحمة،فيقدّم الأهم منهما،فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحج،وحينئذ فان بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجب الحج فيه وإلّا فلا،إلّاأن يكون الحج قد استقرّ عليه سابقاً فانّه يجب عليه ولو متسكعاً 1.
ثمّ قال في مسألة اخرى ما لفظه:النذر المعلق على أمر قسمان،تارةً يكون
التعليق على وجه الشرطية،كما إذا قال إن جاء مسافري فللّٰه عليّ أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة،وتارةً يكون على نحو الواجب المعلق كأن يقول:للّٰهعليّ أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة عند مجيء مسافري، فعلى الأوّل يجب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل مجيء مسافره،وعلى الثاني لا يجب،فيكون حكمه حكم النذر المنجّز في أ نّه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافياً لها لم يجب الحج،سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها، وكذا لو حصلا معاً لا يجب الحج من دون فرق بين الصورتين،والسر في ذلك أنّ وجوب الحج مشروط والنذر مطلق،فوجوبه يمنع عن تحقق الاستطاعة 1.
أقول: نتيجة ما ذكره (قدس سره) امور:
الأوّل: أنّ وجوب الوفاء بالنذر يتقدّم على وجوب الحج مطلقاً،إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة،وكان منجّزاً ثمّ حصلت الاستطاعة،لأنّ وجوب الوفاء بالنذر رافع لموضوع وجوب الحج وهو الاستطاعة،فلا يكون المكلف معه قادراً على أداء فريضة الحج شرعاً.
الثاني: أ نّه إذا كان هناك واجب مطلق فوري قبل تحقق الاستطاعة،ثمّ تحققت ولم يتمكن المكلف من الجمع بينه وبين الحج،قدّم ذلك الواجب على الحج وإن لم يكن أهم منه.
الثالث: أن يكون وجوب الحج مزاحماً بواجب فوري بعد حصول الاستطاعة،ففي مثل ذلك يقدّم الأهم،فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدّم على الحج.
الرابع: أنّ النذر المعلق إذا كان على نحو الواجب المشروط فلا يكون مانعاً عن وجوب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل تحقق الشرط،وإن كان على نحو
الواجب المعلق،بأن يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً،فيكون مانعاً عن وجوب الحج ولو كان تحقق الاستطاعة قبل حصول المعلق عليه في الخارج.
ولكنّ للمناقشة في هذه الاُمور مجالاً:
أمّا الأمر الأوّل: فقد ظهر فساده مما قدّمناه بصورة مفصّلة فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا الأمر الثاني: فانّ الواجب المطلق الفوري الثابت على ذمة المكلف لا يخلو من أن يكون مشروطاً بالقدرة عقلاً،أو يكون مشروطاً بها شرعاً.
فعلى الفرض الأوّل، فإن كان أهم من الواجب الآخر وهو الحج في مفروض المثال،فلا إشكال في تقديمه عليه مطلقاً،أي سواء أكان سابقاً عليه زماناً أم مقارناً معه أم متأخراً عنه،والوجه فيه ما سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه 1من أنّ الواجب الأهم يتقدّم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً،ولو كان متأخراً عنه،وعلى هذا فلا أثر لفرض كون ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة أو بعده كما عن السيِّد (قدس سره) بل لا أثر لفرض كونه قبل زمان الواجب الآخر وهو الحج-هنا-أو بعده،فانّه يتقدّم عليه في مقام المزاحمة على جميع هذه التقادير والفروض.
وإن كان بالعكس بأن يكون وجوب الحج أهم من ذلك الواجب الآخر فلا إشكال في تقديمه عليه،بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو مقارناً معه أو متأخراً عنه،والوجه في ذلك:ما ذكرناه من أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً لا شرعاً،من جهة ما عرفت من أنّ الاستطاعة عبارة عن حصول الزاد والراحلة مع أمن الطريق،وليست عبارة عمّا هو المشهور من التمكن من أداء
فريضة الحج عقلاً وشرعاً لتكون نتيجته اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعية.
وعلى هذا لايفرق بين فرض كون وجوب ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة ثمّ حصلت أو بعده،وسيجيء بيان ذلك من هذه الجهة بصورة مفصلة.
وأمّا إذا كان الواجبان متساويين،بأن لا يكون أحدهما أهم من الآخر ولا محتمل الأهمّية،فيتخيّر المكلف بين صرف قدرته في امتثال هذا وصرفها في امتثال ذاك على ما سنبيِّن إن شاء اللّٰه تعالى.
وعلى الفرض الثاني، وهو ما إذا كان الواجب المطلق مشروطاً بالقدرة شرعاً،لا إشكال في تقديم فريضة الحج عليه ولو كانت الاستطاعة متأخرة عنه زماناً،وذلك لما عرفت من أنّ الواجب المشروط بالقدرة شرعاً لا يصلح أن يزاحم الواجب المشروط بالقدرة عقلاً،وبما أ نّا قد ذكرنا أنّ وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلاً فيتقدّم عليه مطلقاً ولو كان متأخراً عنه.
ومن ذلك يظهر حال الأمر الثالث أيضاً فلا حاجة إلى البيان.
فما أفاده السيِّد (قدس سره) من التفرقة بين كون الواجب المطلق الفوري ثابتاً في الذمة قبل حصول الاستطاعة ثمّ حصلت،وكونه ثابتاً فيها بعد حصولها، وأ نّه على الأوّل يتقدّم على الحج مطلقاً،وعلى الثاني لا بدّ من ملاحظة الأهمّية في البين،لا يرجع إلى معنىً صحيح،لما عرفت من أ نّه لا عبرة بالتقدّم أو التأخّر الزماني أصلاً.
وأمّا الأمر الرابع: فيظهر فساده مما تقدّم من أنّ النذر مطلقاً-أي سواء أكان على نحو الواجب المشروط أم على نحو الواجب المعلق،بأن يكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً-لا يكون مانعاً عن وجوب الحج،بل قد عرفت أنّ وجوب الحج مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه.
وقد تبيّن لحدّ الآن أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب-من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة، باعتبار أنّ وجوبه مطلق ووجوب الحج مشروط،فهو رافع لموضوعه ومانع عن حصول شرطه-لا أصل له،ولا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
وأمّا الثاني: وهو ما إذا كان الواجبان المشروطان بالقدرة شرعاً عرضيين، فهل يلاحظ فيه الترجيح فيقدّم الأهم على غيره أم لا؟ ثمّ على فرض عدم ملاحظة الترجيح بينهما،وعدم تقديم الأهم على غيره،فهل التخيير الثابت بينهما عقلي أو شرعي،فهنا مقامان:
الأوّل: أنّ كبرى مسألة تقديم الأهم على غيره هل تنطبق على المقام-وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً-أم لا؟
الثاني: أنّ الحاكم بالتخيير بينهما في صورة تساويهما أو من جهة أ نّه لا وجه لتقديم الأهم على غيره هل هو الشرع أو العقل ؟.
أمّا المقام الأوّل: فقد ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1إلى أ نّه لا وجه لتقديم الأهم على غيره،وقد أفاد في وجه ذلك أنّ الأهمّية إنّما تكون سبباً للتقديم فيما إذا كان كل من الواجبين واجداً للملاك التام فعلاً،وأمّا في مثل مقامنا هذا حيث يكون كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً فيستحيل أن يكون كل منهما واجداً للملاك بالفعل،لفرض أنّ القدرة دخيلة فيه،والمفروض هنا أ نّه لا قدرة للمكلف على امتثال كليهما معاً،والقدرة إنّما هي على امتثال أحدهما دون الآخر،وعليه فيكون الملاك في أحدهما لا في غيره،ومن الظاهر أنّ أهمّية طرف لاتكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر،ضرورة أ نّا
كما نحتمل أن يكون الملاك فيه كذلك نحتمل أن يكون في الطرف الآخر،ومجرّد كونه أهم على فرض وجود الملاك فيه لا يكون دليلاً على تحققه ووجوده فيه واقعاً وحقيقة،دون ذلك الطرف.
وبتعبير ثان: حيث إنّ المفروض اشتراط كل من الواجبين بالقدرة شرعاً وأنّ لها دخلاً في الملاك ولا ملاك بدونها،فلا محالة يكون كل منهما صالحاً لأن يكون رافعاً لملاك الآخر من جهة عدم القدرة عليه بحكم الشارع،من دون فرق فيه بين أن يكون الملاكان متساويين أو يكون أحدهما أهم من الآخر على فرض وجوده وتحققه،وعلى هذا فأهمّية طرفٍ لا تكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف الآخر في مقام المزاحمة،وذلك لصلاحية كل منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر ولو كان أحدهما أهم من الآخر،ومجرد كون الملاك في طرفٍ أهم على تقدير وجوده لا يوجب كونه واجداً له دون الآخر،فاذن لا وجه لتقديمه عليه في مقام التزاحم.
وأمّا المقام الثاني: فقد اختار (قدس سره) أنّ التخيير الثابت فيه تخيير شرعي لا عقلي،غاية الأمر أ نّه قد كشف عنه العقل،والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ كلاً من الواجبين واجد للملاك في ظرف القدرة عليه عقلاً وشرعاً، وأمّا إذا وقع التزاحم بينهما فيكون أحدهما لا بعينه واجداً للملاك دون الآخر.
أو فقل:إنّ في فرض التزاحم بما أنّ أحدهما لا بعينه مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً،لعدم المانع منه لا من قبل العقل ولا من قبل الشرع،فلا محالة يكون واجداً للملاك الالزامي،فاذا كان واجداً له فلا مناص من الالتزام بايجابه، بداهة أ نّه لا يجوز للمولى الحكيم أن يرفع اليد عن التكليف به مع فرض كونه واجداً للملاك بمجرد عجز المكلف عن امتثال كليهما معاً،وعليه فلا مناص من الالتزام بوجوب واحد منهما لا معيّناً،لاستقلال العقل بقبح ترخيص المولى في
تفويت الملاك الملزم،ونتيجة إيجابه هي التخيير شرعاً،أعني به وجوب هذا أو ذاك.
وخلاصة ما أفاده (قدس سره) نقطتان:
الاُولى:أنّ أهمّية أحد واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ليست من المرجحات،فالوظيفة هي التخيير بينهما مطلقاً.
الثانية:أنّ التخيير الثابت بينهما شرعي لا عقلي.
ولكن كلتا النقطتين خاطئة:
أمّا النقطة الاُولى: فيردّها أنّ مناط تقديم الأهم على المهم في محل الكلام وترجيحه عليه في مقام المزاحمة لا يكون بملاك أ نّه واجد للملاك دون غيره، ليقال بعدم إحرازه فيه في هذا المقام،بل هو بمناط آخر.
بيانه:أنّ المانع عن تقديم الأهم على المهم في المقام لا يخلو من أن يكون عقلياً أو شرعياً فلا ثالث لهما.أمّا المانع عقلي-وهو عدم القدرة عليه تكويناً-فغير موجود بالضرورة،إذ المفروض أ نّه مقدور تكويناً ووجداناً،وهذا واضح.
وأمّا المانع الشرعي-وهو أمر الشارع بصرف القدرة في غيره الموجب للعجز عن صرفها فيه-فأيضاً كذلك،ضرورة أ نّه لا نعني به إلّاأمر الشارع باتيان شيء لايقدر المكلف معه على الاتيان بالأهم في الخارج ومقام الامتثال،فمثل هذا الأمر لا محالة يكون مانعاً عن فعلية الأمر بالأهم،ولكن المفروض هنا عدم أمر من قبل الشارع بصرف القدرة في غير الأهم ليكون مانعاً عن فعلية أمره.فاذن لا مانع من الأخذ بالأهم وتقديمه على المهم أصلاً.
وعلى الجملة:فالمهم وإن كان مقدوراً عقلاً إلّاأ نّه من ناحية مزاحمته مع الأهم غير مقدور شرعاً،وقد عرفت أنّ القدرة الشرعية دخيلة في متعلقه،
فلا يكون الأمر به فعلياً بدون تلك القدرة،فاذا لم يكن الأمر المتعلق به فعلياً فلا مانع من فعلية الأمر بالأهم.
وممّا ذكرناه ظهر أ نّه يمكن إحراز الملاك في الأهم وكونه واجداً له دون المهم، والوجه في ذلك أنّ الأهم مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً.أمّا عقلاً فواضح.
وأمّا شرعاً فأيضاً كذلك،ضرورة أ نّه لا مانع منه ما عدا تخيّل أنّ الأمر بالمهم مانع،وقد عرفت أنّ هذا خيال لم يطابق الواقع،وذلك لاستحالة كون الأمر بالمهم في حال مزاحمته مع الأمر بالأهم فعلياً،ضرورة عدم قدرة المكلف في تلك الحال على امتثاله بحكم الشرع،حيث إنّه يوجب تفويت واجب أهم منه، ومن المعلوم أ نّه لا يجوز امتثال ما يوجب تفويت ما هو أهم منه بنظر الشرع، ونتيجة ذلك هي أ نّه لا مانع من كون الواجب الأهم واجداً للملاك الملزم في هذا الحال لا عقلاً ولا شرعاً.
وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ وجود الملاك في كل منهما مشكوك فيه،لصلاحية كل واحد منهما لأن يكون رافعاً لملاك الآخر من دون فرق بين تساوي الملاكين وكون أحدهما أهم من الآخر،لايمكن المساعدة عليه بوجه،وذلك لما عرفت من الضابط لتقديم الأهم على المهم في المقام من ناحية،وكونه واجداً للملاك من ناحية اخرى،وإن كانت الناحية الاُولى مترتبة على الناحية الثانية،كما هو واضح.هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما معلوم الأهمّية.
وأمّا إذا كان محتمل الأهمّية،فهل يتقدّم في مقام المزاحمة على الطرف الآخر الذي لا تحتمل أهمّيته أصلاً كما هو الحال فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً أم لا ؟ وجهان.
الظاهر أ نّه لا مانع من التقديم،والوجه في ذلك:هو أنّ المكلف بعد ما
لايتمكن من امتثال كلا الواجبين معاً،ويتمكن من امتثال أحدهما دون الآخر، فلا محالة يدور أمره بين امتثال أحدهما تخييراً،وامتثال خصوص ما تحتمل أهمّيته،وعليه فيدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال،وقد ذكرنا في غير مورد أنّ في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في غير مقام الامتثال والحجية وإن كان الصحيح هو جريان البراءة عن التعيين، إلّا أنّ في هذين المقامين لا مناص من الاشتغال والالتزام بالتعيين،وذلك لأنّ حصول البراءة بامتثال ما تحتمل أهمّيته معلوم،إمّا من جهة التعيين أو التخيير، وأمّا حصولها بامتثال ما لا تحتمل أهمّيته فغير معلوم،ومن الواضح جداً أنّ العقل لايكتفي في مقام الامتثال بالشك فيه بعد اليقين بالتكليف،بل يلزم بتحصيل اليقين بالبراءة عنه،بقاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني،وكذا الحال في مقام الحجية،فانّ حجية ما يحتمل تعيينه معلومة ولا مناص من الالتزام به،وحجية ما لايحتمل تعيينه مشكوكة،وقد حققنا أنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فعلاً،وهذا هو السر في افتراق هذين المقامين عن غيرهما.
ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن:هي أنّ الأهم وكذا محتمل الأهمّية من المرجحات في المقام،كما أ نّهما من المرجحات في واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً فحسب.
وأمّا النقطة الثانية: فيردّها أنّ المفروض قدرة المكلف على امتثال كل من الواجبين المتزاحمين في نفسه،وفي ظرف ترك الآخر عقلاً وشرعاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الشارع لم يأمر بخصوص أحدهما المعيّن،لأنّه ترجيح من دون مرجح.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أ نّه لا مانع من أمر الشارع بكليهما
طولاً وعلى نحو الترتب،بأن يكون تعلق الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر ومترتباً عليه،بل لا مناص من الالتزام بذلك،والوجه فيه هو أنّ الأمر في المقام يدور بين أن يرفع اليد عن إطلاق كل من دليليهما بتقييد الأمر في كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر،وأن يرفع اليد عن أصل وجوب كل منهما رأساً،ومن المعلوم أنّ المتعين هو الأوّل دون الثاني،ضرورة أنّ رفع اليد عن أصل الأمر بهما بلا سبب،إذ أ نّه لا يقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاق كل منهما مع التحفظ على أصله.
ونتيجة ذلك هي الالتزام بالترتب من الجانبين،بمعنى أنّ تعلق الأمر بكل من الفعلين مشروط بعدم الاتيان بمتعلق الآخر،ولا مانع من ذلك أصلاً لا عقلاً كما هو واضح،إذ المفروض أنّ كلاً منهما مقدور عقلاً في ظرف ترك امتثال الآخر والاتيان بمتعلقه،ولا شرعاً لفرض أ نّه ليس هناك أيّ مانع شرعي عن تعلق الأمر بكل واحد منهما في نفسه،وفي ظرف ترك الآخر،إذ المفروض أنّ كلاً من الفعلين في ذاته ومع قطع النظر عن الآخر سائغ،ومعه لا مانع من تعلق الأمر بهما كذلك،وبه نستكشف وجود الملاك في كل منهما في نفسه،وعند ترك الآخر.
وعلى الجملة:فقد ذكرنا سابقاً أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين ما يكون كل من الواجبين مشروطاً بالقدرة عقلاً،وما يكون مشروطاً بها شرعاً،فكما أ نّه يجري في الأوّل،فكذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة.
ودعوى أنّ جريان الترتب في مورد يتوقف على إحراز الملاك فيه،وهو في المقام لا يمكن،لفرض دخل القدرة الشرعية فيه،مدفوعة بما ذكرناه هناك من أنّ جريان الترتب لا يتوقف عليه،ضرورة أنّ إحرازه لا يمكن إلّابعد إثبات الأمر،فلو توقف إثبات الأمر على إحرازه لدار،كما قدّمناه بشكل واضح.
فتحصّل: أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب هنا،وقد تقدّم أ نّه لا فرق في إمكان الترتب واستحالته بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين.وأمّا عدم التزام شيخنا الاُستاذ (قدس سره) به في المقام مع أ نّه من القائلين به مطلقاً من دون فرق بين أن يكون من طرف أو من طرفين،فمن جهة ما بنى (قدس سره) على أصل فاسد،وهو أنّ الترتب لا يجري فيما إذا كانت القدرة المأخوذ فيه شرعية كما عرفت.
وعلى هذا الأساس يترتب أنّ التخيير بينهما تخيير عقلي،كالتخيير بين واجبين متزاحمين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً،فانّ المكلف بعد ما لا يتمكن من امتثال كلا التكليفين معاً فلا محالة يكون مخيراً بين امتثال هذا وامتثال ذاك بحكم العقل،فلا موضوع عندئذ للتخيير الشرعي أصلاً.وتظهر الثمرة في المقام بين كون التخيير شرعياً وكونه عقلياً،فيما إذا كان المكلف تاركاً لامتثال كلا الواجبين معاً،فانّه على الأوّل يستحق عقاباً واحداً،لوحدة التكليف على الفرض.وعلى الثاني يستحق عقابين،لما عرفت من أنّ لازم القول بالترتب هو تعدد العقاب من جهة تعدد التكليف،وقد ذكرنا أ نّه لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب،بل لا مناص عنه،وأ نّه لا يكون عقاباً على ترك ما ليس بالاختيار،فانّ تعدد العقاب من جهة الجمع بين التركين،لا من جهة ترك الجمع بينهما،وقد مرّ بيان ذلك بصورة واضحة فلا حاجة إلى الاعادة.
فيقع الكلام فيه في مقامين:
الأوّل:فيما إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر،أو محتمل الأهمّية.
الثاني:فيما إذا كانا متساويين.
أمّا المقام الأوّل: فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم،سواء أكان الأهم
مقارناً مع المهم زماناً أو سابقاً عليه أو متأخراً عنه.أمّا في الاُوليين فواضح، وذلك لأنّ التكليف بالأهم يصلح أن يكون معجّزاً مولوياً للمكلف بالاضافة إلى الطرف الآخر وهو المهم،وأمّا التكليف بالمهم فلا يصلح أن يكون كذلك، فتكون نسبته إلى الأهم كنسبة المستحب إلى الواجب،فكما أنّ المستحب لا يصلح أن يزاحم الواجب في مقام الامتثال،فكذلك المهم لا يصلح أن يزاحم الأهم.
أو فقل: إنّ التزاحم سواء أكان بين التكليفين أم بين الاطلاقين فلا محالة يوجب سقوط أحدهما دون الآخر،إذ سقوط كليهما غير محتمل،ضرورة أ نّه بلا موجب،وعليه فيدور الأمر بين سقوط المهم دون الأهم وبالعكس،ومن الواضح جداً أنّ الثاني غير معقول،لأنّه ترجيح المرجوح على الراجح،فإذن يتعيّن الأوّل،وهذا معنى تقديم الأهم على المهم،وأمثلة ذلك في الشرع والعرف كثيرة:
منها:ما إذا دار الأمر بين حفظ بيضة الاسلام مثلاً وواجب آخر،فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني في مقام الامتثال.
ومنها:ما إذا دار الأمر بين حفظ نفس مؤمن مثلاً وحفظ ماله أو نحوه،فلا ينبغي الشك في تقديم الأوّل على الثاني،لكونه أهم منه وهكذا.
وأمّا في الصورة الأخيرة فالأمر أيضاً كذلك،والوجه فيه هو أنّ الأهم وإن كان متأخراً عن المهم زماناً،إلّاأنّ ملاكه بما أ نّه تام في ظرفه وأهم من غيره، فلا محالة وجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلّا يفوت،ضرورة أنّ العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي،كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه،وعلى هذا حيث إنّ الاتيان بالمهم فعلاً يوجب تفويت ملاك الأهم في ظرفه فلا يجوز،فيكون حكم العقل بوجوب حفظ القدرة عليه في زمانه
معجّزاً للمكلف بالاضافة إلى امتثال المهم بالفعل.
وبتعبير ثانٍ أنّ الحاكم بالترجيح في باب المزاحمة حيث إنّه كان هو العقل لا غيره،فمن الواضح جداً أ نّه مستقل بتقديم الأهم على المهم في مقام الامتثال مطلقاً،ولو كان الأهم متأخراً عنه زماناً كما في مفروض المقام،فانّه يحكم بلزوم حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه،لئلّا يلزم منه تفويت الملاك الملزم فيه،ولا يحكم بلزوم الاتيان بالمهم فعلاً،بل يحكم بعدم جواز الاتيان به، لاستلزامه تفويت ما هو الأهم منه.
ومثاله ما إذا دار الأمر بين حفظ مال الانسان مثلاً فعلاً،وحفظ نفسه في زمان متأخر،بأن لا يقدر على حفظ كليهما معاً،فلو صرف قدرته في حفظ ماله فعلاً فلا يقدر على حفظ نفسه،ولو عكس فبالعكس،كما إذا فرض أنّ الحاكم حكم بمصادرة أمواله فعلاً،وهو وإن كان قادراً على حفظ ماله بالشفاعة عنده،إلّاأ نّه يعلم بأ نّه يحكم بعد بضع ساعات بقتل نفسه،فلو توسط عنده فعلاً لحفظ ماله،فلا يقبل توسطه فيما بعد لحفظ نفسه،لفرض أ نّه لا يقبل توسطه في اليوم إلّامرّة واحدة،فاذن يدور أمره بين أن يحفظ نفسه في زمان متأخر ويرفع يده عن حفظ ماله فعلاً،وأن يحفظ ماله فعلاً ويرفع يده عن حفظ نفسه فيما بعد،ففي مثل ذلك لا إشكال في حكم العقل بترجيح الأوّل على الثاني،وتقديمه عليه،وكذا إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي آخر وحفظ نفس محترمة في زمان متأخر بأن لا يقدر المكلف على امتثال الأوّل وحفظ الثانية معاً،فانّه لا إشكال في وجوب حفظ القدرة على الواجب المتأخر، وهو حفظ النفس المحترمة ورفع اليد عن وجوب الواجب الفعلي،وهكذا.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من تقديم الواجب الأهم على المهم فيما إذا كان متأخراً عنه زماناً بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الواجب المعلق واضح،
حيث إنّ الوجوب فعلي على الفرض والواجب أمر متأخر،ومن المعلوم أنّ فعلية الوجوب تكشف عن كون الواجب في ظرفه واجداً للملاك الملزم،وقد عرفت أ نّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الإلزامي،فكما أ نّه يحكم بقبح الأوّل،فكذلك يحكم بقبح الثاني.
وعلى ذلك فان لم يكن ملاك الواجب المتأخر في ظرفه أهم من ملاك الواجب الفعلي وكانا متساويين،فيحكم العقل بالتخيير بينهما،وعدم ترجيح الواجب الفعلي على المتأخر،لعدم العبرة بالسبق الزماني في المقام أصلاً.
وما ذكرناه سابقاً 1من أنّ ما هو أسبق زماناً يتقدّم على غيره،إنّما هو فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،لا فيما إذا كان مشروطاً بها عقلاً،ونقطة الفرق بينهما هي أ نّه على الأوّل بما أنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة شرعاً،ففي فرض المزاحمة لا مناص من الأخذ بما هو سابق زماناً على الآخر،حيث إنّ ملاكه تام بالفعل من ناحية أ نّه مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً،ومعه لا عذر له في تركه أصلاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا يجب احتفاظ القدرة على الواجب المتأخر،لفرض أنّ القدرة دخيلة في ملاكه،فيستحيل أن يقتضي احتفاظها.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لابدّ من الاتيان بالمتقدم زماناً دون المتأخر،ومن الواضح أنّ الاتيان به يوجب عجزه عنه،فيكون التكليف به منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة،وعلى الثاني بما أنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة عقلاً،فلا يكون سبق أحدهما زماناً على الآخر في فرض المزاحمة من المرجحات،لما عرفت من أنّ ملاك الواجب المتأخر حيث إنّه تام في ظرفه
– كما هو المفروض-فلا محالة يقتضي الاحتفاظ عليه في ظرفه في مقابل اقتضاء الواجب الفعلي.
وأمّا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من استحالة الواجب التعليقي وعدم إمكانه،فتقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً يرتكز على إحراز الملاك فيه في ظرفه من دليل خارجي،فإن علم من الخارج اشتماله على الملاك،كما إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي كحفظ مال المولى مثلاً،وواجب متأخر كحفظ نفسه أو حفظ بيضة الاسلام أو ما شاكل ذلك من الواجبات التي قد اهتمّ الشارع بها غاية الاهتمام على نحو الاطلاق من دون اختصاص بوقت دون آخر،فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم وإن كان متأخراً عنه زماناً،لتمامية ملاكه الالزامي في وقته،وقد عرفت استقلال العقل باحتفاظ القدرة عليه في ظرفه،وعدم جواز صرفها في الواجب الفعلي، ففي أمثال هذه الموارد لا فرق بين نظريتنا ونظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ضرورة أ نّه لا أثر لفعلية الوجوب ما عدا كشفه عن اشتماله-أي الواجب المتأخر-على الملاك في ظرفه،وإذا علمنا بتحقق الملاك فيه واشتماله عليه،فلا أثر لفعلية الوجوب وعدمها.
وأمّا إذا لم يعلم من الخارج بوجود الملاك فيه،كما إذا لم تكن قرينة خارجية تدل عليه،والمفروض أ نّه ليس هنا قرينة داخلية أيضاً وهي ثبوت الوجوب، فلا يمكن عندئذ استكشاف الملاك في شيء،لما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في فعل مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له،فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي،ضرورة أ نّه مع عدم إحراز الملاك فيه في ظرفه
لا يحكم العقل باحتفاظ القدرة عليه،وبدون حكمه فلا مانع من امتثال الواجب الفعلي أصلاً،ففي مثل تلك الموارد تفترق نظريتنا عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فعلى نظريتنا بما أنّ الوجوب فعلي والواجب أمر متأخر،فهو لا محالة يكشف عن وجود الملاك فيه وكونه تاماً،وإلّا لم يعقل كون وجوبه فعلياً.وعلى نظريته (قدس سره) حيث إنّه لا وجوب فعلاً،فلا كاشف عن كونه واجداً للملاك في وقته،وعليه فلا وجه لتقديمه على المهم وهو الواجب الفعلي.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أنّ تقديم الأهم على المهم إذا كان متأخراً عنه زماناً منوط على نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) باحراز الملاك فيه من الخارج،وإلّا فلا يمكن الحكم بالتقديم أصلاً،بل يتعين العكس كما لا يخفى.
وكيف كان فعلى فرض كونه مشتملاً على الملاك في ظرفه يتقدّم على المهم لا محالة ولو كان متأخراً عنه زماناً،وكلامنا في المقام على نحو الفرض والتقدير والكبرى الكلّية من دون نظر إلى مصاديقها وأفرادها.
هذا،ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1هنا قد مثّل لذلك-أي لتزاحم واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً-بما إذا لم يكن المكلف متمكناً من القيام في جزأين طوليين من الصلاة.
ولا يخفى ما في هذا المثال،أمّا أوّلاً:فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ التزاحم لا يجري في أجزاء واجب واحد أو شرائطه.
وأمّا ثانياً:فلأ نّه منافٍ لما ذكره (قدس سره) 2من اشتراط أجزاء الصلاة
بالقدرة شرعاً،وعليه فلا مناص من تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره ولو كان ذلك الغير أهم منه،كما عرفت.
فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن:أنّ الواجب الأهم يتقدّم في مقام المزاحمة على المهم مطلقاً ولو كان متأخراً عنه زماناً،فيما إذا كان مشروطاً بالقدرة عقلاً،سواء أكان المهم أيضاً كذلك أم لا.نعم،إذا كان الأهم مشروطاً بالقدرة شرعاً فلا يتقدّم على المهم في فرض تأخره عنه زماناً،بل يتقدّم المهم عليه ولو كان مشروطاً بها شرعاً.
وأمّا إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمّية دون الآخر،فهل يكون مرجحاً لتقديمه عليه أم لا ؟ فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أ نّه بناءً على القول بالتخيير الشرعي في المتساويين يكون المقام داخلاً في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين التي ذكرناها في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين،فإن قلنا في تلك المسألة بالاشتغال والتعيين فلا بدّ أن نقول به في هذه المسألة أيضاً،وإن قلنا هناك بالبراءة والتخيير فلابدّ أن نقول به في المقام أيضاً،وعلى الجملة فمسألتنا هذه من صغريات كبرى تلك المسألة،فيبتني الحكم فيها على الحكم في تلك من البراءة أو الاشتغال.
وأمّا بناءً على القول بالتخيير العقلي في المتساويين فقد ذكر (قدس سره) أ نّه لا إشكال في تقديم ما تحتمل أهمّيته على غيره،والوجه في ذلك:هو أنّ التكليفين المتزاحمين إذا كانا متساويين فلا إشكال في سقوط إطلاقيهما وحكم
العقل بالتخيير بينهما،بمعنى حكمه بثبوت كل واحد منهما مترتباً على ترك الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه، من دون فرق بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين كما في مثل المقام، ضرورة أنّ العقل لا يجوّز رفع اليد عن أصل التكليفين معاً،فانّه بلا موجبٍ ومقتضٍ،ومن الواضح أ نّه لا يجوز رفع اليد عن التكليف بلا سبب يقتضي رفعه،فالمقتضي-وهو المزاحمة-في المقام لا يقتضي إلّارفع اليد عن ثبوت كل منهما على تقدير الاتيان بالآخر لا مطلقاً،وهذا عبارة اخرى عن ثبوت كل منهما على تقدير ترك الآخر،ويترتب على ذلك أنّ المكلف مخيّر بين امتثال هذا وامتثال ذاك.
وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية دون الآخر،ففي مثل ذلك لا شبهة في أنّ الاتيان بالطرف المحتمل أهمّيته يوجب القطع بسقوط التكليف عن الطرف الآخر،وذلك لأنّ ما أتى به على تقدير كونه أهم في الواقع ونفس الأمر فهو الواجب دون غيره،وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب لا محالة.
وإن شئت قلت:إنّه بناءً على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمّية أحدهما دون الآخر،فقد علمنا بسقوط الاطلاق عن الآخر،وباشتراطه بعدم الاتيان بمتعلق الأوّل،وأمّا ما يحتمل أهمّيته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلا بدّ من الأخذ به.وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمّية على غيره في مقام المزاحمة.إلى هنا قد تمّ بيان ما أفاده (قدس سره) مع توضيح منّا.
ونناقش ما أفاده (قدس سره) من ناحيتين:
الاُولى: أ نّه لا تظهر الثمرة فيما نحن فيه بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين،والقول بالتخيير العقلي فيهما على وجهة نظره (قدس سره) 1في
مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين،حيث إنّه (قدس سره) قد التزم في تلك المسألة بالاحتياط،وعدم جواز الرجوع إلى البراءة على ما نطق به كلامه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،وبما أنّ مسألتنا هذه على الفرض الأوّل داخلة في كبرى تلك المسألة،فلا مناص له من الالتزام بالاحتياط فيها،ولزوم الأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته،وعليه فالنتيجة على هذا القول بعينها هي النتيجة على القول بالتخيير العقلي،وهي تعين الأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته دون الطرف الآخر،فاذن لا فرق بين القولين من هذه الناحية أصلاً.
الثانية: أنّ المقام على القول المزبور-أعني القول بالتخيير الشرعي في المتساويين-وإن كان داخلاً في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين،إلّاأنّ التعيين والتخيير في خصوص المقام حيث إنّهما كانا في مقام التزاحم والامتثال،فلا مناص من الالتزام بعدم جريان البراءة عن التعيين ووجوب الأخذ به،وإن قلنا بجريان البراءة في تلك الكبرى،كما فصّلنا الكلام من هذه الناحية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين 1.
وتوضيح ذلك:هو أنّ مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الحجية وإنشائها في مرحلة التشريع والاعتبار،كما لو شككنا في أنّ حجية فتوى الأعلم هل هي تعيينية،أو أنّ المكلف مخير بين الأخذ بها والأخذ بفتوى غير الأعلم.
الثاني: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية من
جهة التزاحم.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع، فلا يعلم أنّ التكليف مجعول للجامع بلا أخذ خصوصية فيه أو مجعول لحصة خاصة منه،كما لو شككنا في أنّ وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة هل هو تعييني أو تخييري.
وبعد ذلك نقول:إنّا قد ذكرنا في غير مورد أنّ البراءة لا تجري في القسمين الأوّلين،ولا بدّ فيهما من الالتزام بوجوب الاحتياط،وأمّا في القسم الأخير فالصحيح هو جريان البراءة فيه،فها هنا دعويان:
الاُولى:عدم جريان أصالة البراءة في القسمين الأوّلين.
الثانية:جريان البراءة في القسم الأخير.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الشك في حجية شيء في مقام الجعل والتشريع مساوق للقطع بعدم حجيته فعلاً،ضرورة أ نّه مع هذا الشك لا يمكن ترتيب آثار الحجة عليه،وهي إسناد مؤداه إلى الشارع،والاستناد إليه في مقام الجعل،للقطع بعدم جواز ذلك،لأنّه تشريع محرّم،ومن المعلوم أ نّا لا نعني بالحجية الفعلية إلّاترتيب تلك الآثار عليها،وعليه فاذا دار الأمر بين حجية شيء كفتوى الأعلم مثلاً تعييناً،وحجيته تخييراً،فلا مناص من الأخذ به،وطرح الطرف الآخر،للقطع بحجيته واعتباره فعلاً،إمّا تعييناً أو تخييراً، والشك في حجية الآخر كفتوى غير الأعلم واعتباره،وقد عرفت أنّ الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها،وهذا واضح.
وكذا الحال في مقام الامتثال،فانّه إذا دار الأمر بين امتثال شيء تعييناً أو تخييراً،فلا مناص من التعيين والأخذ بالطرف المحتمل تعيينه،ضرورة أنّ الاتيان
به يوجب القطع بالأمن من العقاب واليقين بالبراءة،وذلك لأنّه على تقدير كونه أهم من الآخر فهو الواجب،وعلى تقدير كونه مساوياً له فهو مصداق للواجب وأحد فرديه،ومن المعلوم أنّ الاتيان به كافٍ في مقام الامتثال،وهذا بخلاف الطرف الذي لا تحتمل أهمّيته أصلاً،فانّ الاتيان به لا يوجب القطع بالبراءة والأمن من العقاب،لاحتمال أن لايكون واجباً في الواقع أصلاً،وانحصار الوجوب بالطرف الأوّل،ومن الواضح جداً أنّ العقل يستقل في مرحلة الامتثال بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة والأمن من العقوبة بقانون أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية،وبما أنّ المفروض في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال اشتغال ذمة المكلف بالواجب،فيجب عليه بحكم العقل تحصيل البراءة عنه والأمن من العقوبة،وحيث إنّه لا يمكن إلّاباتيان الطرف المحتمل أهمّيته،فلا محالة ألزمه العقل بالأخذ به وإتيانه،وهذا معنى حكم العقل بالتعيين وعدم جواز الرجوع إلى البراءة في مسألة التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال والفعلية.
وبتعبير واضح: أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية منحصر بباب التزاحم بين التكليفين لا غير،ومن الواضح أنّ المزاحمة بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب لا تقتضي إلّاسقوط إطلاق أحدهما إذا كان في البين ترجيح،وسقوط إطلاق كليهما إذا لم يكن ترجيح في البين.
وعلى هذا الأساس أ نّه إذا كان أحد التكليفين المتزاحمين معلوم الأهمّية فلا إشكال في تقديمه على الآخر كما سبق،وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية دون الآخر فيدور أمر المكلف بين الاتيان به والاتيان بالطرف الآخر،ولكنه إذا أتى به مأمون من العقاب،ومعذور في ترك الآخر،وذلك لأنّ جواز الاتيان بهذا الطرف معلوم على كل تقدير،أي سواء أكان أهم في الواقع أم كان مساوياً
له،وبالطرف الآخر غير معلوم،ومن الواضح جداً أنّ العقل يلزم بامتثال هذا الطرف وإتيانه،لأنّه يوجب الأمن من العقاب على كل تقدير،وحصول القطع بالبراءة،دون الاتيان بذاك الطرف،لاحتمال أ نّه غير واجب في الواقع، وانحصار الوجوب بالطرف المزبور،ومعه لا يكون الاتيان به موجباً لحصول القطع بالبراءة،وقد عرفت أنّ همّ العقل في مقام الامتثال تحصيل الأمن من العقوبة والقطع بالفراغ.
ونظير المقام ما إذا شكّ في البراءة من جهة الشك في القدرة على الامتثال، كما إذا شكّ في وجوب النفقة من جهة الشك في وجود المال عنده،وأ نّه قادر على دفعها أم لا،فلا يمكن له أن يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوبها،وذلك لأنّ المفروض أنّ ذمته قد اشتغلت بوجوب النفقة،ومن الواضح أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني،فاذن لا يمكن حصول البراءة إلّابالفحص والاستعلام عن وجود المال عنده،والوجه فيه هو أنّ مجرد احتمال كونه عاجزاً عن امتثال التكليف الثابت على ذمته لا يكون عذراً له في تركه وعدم امتثاله عند العقل ما لم يحرز عجزه عنه وعدم قدرته عليه،ضرورة أنّ ترك امتثال التكليف لا بدّ أن يستند إلى مؤمّن،ومن المعلوم أنّ مجرد احتمال العجز لا يكون مؤمّناً،فاذن لا مناص من الأخذ بالاحتياط.
فقد تحصّل مما ذكرناه:أ نّه بناءً على وجهة نظرنا أيضاً لا تظهر الثمرة بين القول بالتخيير الشرعي في المتساويين،والقول بالتخيير العقلي فيهما،فعلى كلا القولين لا مناص من الاحتياط والأخذ بالطرف المحتمل أهمّيته،غاية الأمر بناءً على التخيير العقلي سقوط أحد الاطلاقين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه،ومع الشك لا بدّ من الأخذ به،وبناءً على التخيير الشرعي سقوط أحد التكليفين معلوم وسقوط الآخر مشكوك فيه،وما لم يثبت سقوطه لا يعذر من
مخالفته،ولكن النتيجة واحدة.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي جريان البراءة في القسم الأخير من الأقسام المتقدمة،فلأنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في كيفية جعل التكليف،وأ نّه تعلق بالجامع أو بخصوص فرد خاص،كما لو شككنا في أنّ وجوب كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان متعلق بالجامع بين صوم شهرين متتابعين وإطعام ستّين مسكيناً،أو متعلق بخصوص صوم شهرين،وحيث إنّ مرجع ذلك إلى الشك في إطلاق التكليف وعدم أخذ خصوصية في متعلقه،وتقييده بأخذ خصوصية فيه،والإطلاق والتقييد على ما ذكرناه وإن كانا متقابلين بتقابل التضاد،إلّاأنّ التقييد بما أنّ فيه كلفة زائدة فهي مدفوعة بأصالة البراءة عقلاً ونقلاً،وهذا بخلاف الاطلاق حيث إنّه ليس فيه أيّة كلفة لتدفع بأصالة البراءة، فإذن ينحل العلم الاجمالي بجريان الأصل في أحد طرفيه دون الآخر،وتفصيل الكلام في ذلك في بحث البراءة والاشتغال 1والغرض من التعرّض هنا الاشارة إلى عدم صحة ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الأخذ بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير مطلقاً.
وأمّا المقام الثاني: وهو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان متساويين ولم تحتمل أهمّية أحدهما على الآخر أصلاً،أو احتملت أهمّية كل منهما بالاضافة إلى الآخر، فلا مناص من الالتزام بالتخيير فيه،ضرورة أ نّه لا يجوز رفع اليد عن كليهما معاً فهذا لا كلام فيه،وإنّما الكلام في أنّ هذا التخيير عقلي أو شرعي.
وقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2في المقام أنّ التخيير عقلي على
عكس ما اختاره في المسألة المتقدمة،وهي ما إذا كان كل من الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعاً.
وغير خفي أنّ كون التخيير في المقام عقلياً أو شرعياً يرتكز على القول بامكان الترتب واستحالته.
فعلى الفرض الأوّل لا بدّ من القول بكون التخيير عقلياً،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ لازم هذا الفرض ثبوت كل من التكليفين المتزاحمين على نحو الترتب والاشتراط،بمعنى أنّ فعلية كل منهما مشروطة بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً،فانّ معنى الترتب من الجانبين يرجع إلى تقييد إطلاق كل من التكليفين بعدم امتثال الآخر،ومن المعلوم أنّ هذا التقييد ليس أمراً حادثاً بحكم العقل فعلاً،بل هو نتيجة اشتراط التكاليف بالقدرة عقلاً من الأوّل،فانّ ذلك الاشتراط يقتضي هذا التقييد من الجانبين إذا كانا متساويين، ومن جانب واحد إذا كان أحدهما واجداً للترجيح،وليس معنى التخيير هنا تبديل الوجوب التعييني بالتخييري ليقال إنّه غير معقول،ضرورة أ نّه باقٍ على حاله،غاية الأمر أنّ المزاحمة تقتضي رفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله،فانّ الضرورة تتقدر بقدرها،بل معناه هو تخيير المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك،وهذا نتيجة عدم قدرته على امتثال كليهما معاً من جانب،وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر من جانب ثانٍ،وعدم جواز رفع اليد عنهما معاً من جانب ثالث.
وعلى الفرض الثاني لا مناص من الحكم بكون التخيير شرعياً،والوجه فيه هو أنّ لازم هذا الفرض سقوط كلا التكليفين المتزاحمين معاً،فلا هذا ثابت ولا ذاك،ولكن حيث إنّا نعلم من الخارج أنّ الشارع لم يرفع اليد عن كليهما
معاً،لأنّ الموجب لذلك ليس إلّاعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال،ومن الواضح جداً أنّ هذا لا يوجب ذلك،فانّ الضرورة تتقدر بقدرها،وهي لا تقتضي إلّارفع اليد عن أحدهما دون الآخر،لكونه مقدوراً له عقلاً وشرعاً،وبذلك نستكشف أنّ الشارع قد أوجب أحدهما لا محالة،وإلّا لزم أن يفوت غرضه،وهو قبيح من الحكيم،وهذا معنى كون التخيير شرعياً.
إلى هنا قد تبيّن أنّ التكليفين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً،فإن كانا عرضيين وكان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فلا إشكال في تقديمه عليه،وأمّا إذا كانا متساويين من جميع الجهات فلا إشكال في التخيير كما مرّ.وأمّا إن كانا طوليين،فإن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فأيضاً يتقدّم عليه على تفصيل قد تقدّم فلاحظ.هذا كلّه فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر قدرة مطلقة كما هو المفروض لا قدرة خاصة.
وأمّا إذا كانت القدرة المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً،كما لو نذر أحد صوم يومي الخميس والجمعة،ثمّ علم بأ نّه لا يقدر على صوم كلا اليومين معاً،ففي مثل ذلك لا إشكال في لزوم تقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر،فيقدّم في المثال صوم يوم الخميس على صوم يوم الجمعة، لكونه مقدّماً عليه زماناً،وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر وتركه في صلاة العصر،أو بين ترك القيام في صلاة المغرب وتركه في صلاة العشاء،بأن لا يقدر المكلف على الاتيان بكلتا الصلاتين مع القيام،فيقدّم ما هو أسبق زماناً على الآخر.
والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ المكلف حيث إنّه كان قادراً على الصوم
يوم الخميس،والقيام في صلاة الظهر أو المغرب،فلا عذر له في تركه أصلاً، لفرض أنّ وجوبهما فعلي،ولا مانع من فعليته أصلاً،ضرورة أنّ المانع هنا ليس إلّاالتكليف بالصوم أو القيام في ظرف متأخر،ومن المعلوم أ نّه لا يصلح أن يكون مانعاً،لفرض عدم وجوب احتفاظ القدرة على امتثاله في ظرفه،لما عرفت من أنّ القدرة المعتبرة فيه إنّما هي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً،فإذن كما لا يجب حفظ القدرة قبل مجيء وقته،كذلك لا يجب تحصيلها.
فعلى هذا لا مناص من الالتزام بلزوم تقديم المتقدم زماناً على الآخر،ولا عذر له في ترك امتثاله باحتفاظ القدرة على امتثال الواجب المتأخر أبداً،لعدم المقتضي لذلك أصلاً،ففي الأمثلة المزبورة لا بدّ من الاتيان بالصوم يوم الخميس، وبالقيام في صلاة الظهر أو المغرب،ولا يجوز الاحتفاظ بالقدرة بتركهما على الصوم يوم الجمعة،والقيام في صلاة العصر أو العشاء،ومن المعلوم أ نّه بعد الاتيان بالواجب المتقدم يعجز المكلف عن امتثال الواجب المتأخر،فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه وهو القدرة في ظرفه.
ومن هذا القبيل ما إذا دار الأمر بين ترك الصوم في العشرة الاُولى من شهر رمضان وتركه في العشرة الثانية،كما إذا فرضنا أنّ شخصاً لا يتمكن من الصوم في كلتا العشرتين معاً،ولكنّه قادر عليه في إحداهما دون الاُخرى،فانّه لا بدّ من تقديم الصوم في العشرة الاُولى على الصوم في العشرة الثانية،فانّ وجوب الصوم في العشرة الاُولى فعلي بفعلية موضوعه،ولا حالة منتظرة له أبداً،وهذا بخلاف وجوبه في العشرة الثانية،فانّه غير فعلي من جهة عدم فعلية موضوعه، وعليه فلا عذر له في تركه في الاُولى باحتفاظ القدرة عليه في الثانية،ضرورة أنّ القدرة المعتبرة على الصوم في كل يوم القدرة في ظرفه،فإن كان المكلف قادراً على الصوم في اليوم الأوّل أو الثاني فهو مكلف به،وإلّا فلا تكليف به أصلاً،
ولا يجوز له الاحتفاظ بالقدرة بترك الصوم في اليوم الأوّل على الصوم في اليوم الثاني،بل لا بدّ له من الاتيان به في اليوم الأوّل،فان تمكن منه بعده في اليوم الثاني أيضاً فهو،وإلّا فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة،وكذا الحال في المثال المزبور،فانّه لا بدّ من الاتيان بالصوم في العشرة الاُولى،فإن تمكن بعده من الاتيان به في العشرة الثانية أيضاً فهو،وإلّا فينتفي التكليف به بانتفاء موضوعه – وهو القدرة في ظرفه-ولا يجوز له حفظ القدرة على الصوم في الثانية بتركه في الاُولى،ولو فعل ذلك كان معاقباً عليه،لأنّه ترك التكليف الفعلي من دون عذر،وحينئذ-أي حين تركه في الاُولى-وجب عليه في الثانية لا محالة، لقدرته عليه فعلاً،ولا عذر له في تركه أصلاً،فلو تركه كان معاقباً عليه أيضاً.
فالنتيجة: أ نّه لو ترك الصوم في العشرة الاُولى والثانية معاً يستحق عقابين، وهذا ليس عقاباً على ما هو خارج عن الاختيار والقدرة ليكون قبيحاً من الحكيم،فانّ استحقاقهما إنّما هو على الجمع بين تركه في الاُولى وتركه في الثانية، وهو مقدور له بالوجدان،ولا يكون العقاب عليه من العقاب على ما ليس بالاختيار.
نظير ما ذكرناه في بحث الترتب من أنّ المكلف عند ترك الأهم والمهم معاً يستحق عقابين،وقلنا هناك إنّ هذا لا يكون عقاباً على ما ليس بالاختيار، لأ نّه على الجمع بين التركين،وهو مقدور له بالبداهة،لا على ترك الجمع بينهما ليكون غير مقدور كما تقدّم.وفيما نحن فيه تعدد العقاب عند ترك كلا الواجبين من جهة الجمع بين التركين،لا من جهة ترك الجمع بينهما ليكون عقاباً على غير مقدور،وهذا واضح.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أ نّه لا مسوّغ للمكلف في أن يترك الصوم في العشرة الاُولى،ويحفظ قدرته عليه في العشرة الثانية أو الأخيرة،بل لا بدّ له من
الاتيان به في الاُولى،ومعه يعجز عن الاتيان به في الثانية.
ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك الطهارة المائية في الظهرين، وتركها في العشاءين،كما إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي لكلتيهما معاً،فلو صرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين فلا يبقى للعشاءين،وإن احتفظ به للعشاءين،فلا يتمكن من الاتيان بالظهرين مع الوضوء أو الغسل.
والوجه فيه واضح،وهو أنّ المكلف واجد للماء فعلاً بالاضافة إلى صلاتي الظهرين،وقد ذكرنا أنّ المراد من وجدان الماء في الآية المباركة هو الوجدان بالاضافة إلى الصلاة المكلف بها فعلاً لا مطلقاً،كما أنّ المراد من عدم الوجدان فيها ذلك،والمفروض هنا أنّ المكلف واجد للماء بالاضافة إلى صلاتي الظهرين المكلف بهما فعلاً،فيكون مشمولاً لقوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» 1إلى آخر الآية،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:أنّ الوجدان المعتبر في توجه التكليف بالصلاة هو الوجدان في وقتها،فلا أثر للوجدان قبله،ولا يكون الوجدان قبل الوقت موجباً لتوجه التكليف بالصلاة إليه فعلاً،ضرورة أ نّه لا وجوب لها قبل دخول وقتها.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين:هي أ نّه مكلف بصلاتي الظهرين مع الطهارة المائية لكونه واجداً للماء،ووظيفة الواجد هي الطهارة المائية لا غيرها، ولايكون مكلفاً بالعشاءين فعلاً،لعدم دخول وقتهما،فانّه لا أثر لوجدانه الماء بالاضافة إليهما،والمفروض أ نّه بعد الاتيان بالظهرين يصير فاقداً للماء،ووظيفة الفاقد هي الطهارة الترابية دون غيرها.وعلى هذا فلا مسوّغ لترك صلاتي
الظهرين مع الطهارة المائية والاتيان بهما مع الطهارة الترابية،ليحتفظ بالماء لصلاتي العشاءين،لما عرفت من عدم المقتضي للحفظ أصلاً،بل المقتضي لصرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين موجود،وهو فعلية التكليف بهما مع الطهارة المائية.
وكذا الحال في بقية الأجزاء والشرائط،فلو دار الأمر بين ترك جزء أو شرط كالقيام أو نحوه في صلاة الظهر مثلاً،وتركه في صلاة المغرب فالأمر كما تقدّم، بمعنى أنّ وظيفته الفعلية تقتضي الاتيان بصلاة الظهر قائماً،ولا يجوز له ترك القيام فيها بحفظ القدرة عليه لصلاة المغرب،بل في الحقيقة لا مزاحمة في البين، ضرورة أنّ المزاحمة إنّما تعقل بين التكليفين الفعليين،ليكون لكلٍ منهما اقتضاء للاتيان بمتعلقه في الخارج،وأمّا إذا كان أحدهما فعلياً دون الآخر فلا اقتضاء لما لا يكون فعلياً،ومن المعلوم أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يعقل أن يزاحم ما فيه الاقتضاء،هذا كلّه فيما إذا كان أحد الواجبين المزبورين فعلياً دون الواجب الآخر.
وأمّا إذا كان وجوب كليهما فعلياً كصلاتي الظهرين مثلاً أو العشاءين بعد دخول وقتهما،فهل الأمر أيضاً كذلك أم لا ؟ وجهان.
الصحيح هو الوجه الأوّل،بيان ذلك:هو أ نّا إذا فرضنا أنّ الأمر يدور بين الطهارة المائية مثلاً في صلاة الظهر،والطهارة المائية في صلاة العصر،أو بين الطهارة المائية في صلاة المغرب،والطهارة المائية في صلاة العشاء،بأن لايتمكن المكلف من الجمع بين هاتين الصلاتين مع الطهارة المائية،ففي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بتقديم صلاة الظهر مع الطهارة المائية على صلاة العصر،أو المغرب على العشاء،ولا تجوز المحافظة عليها لصلاة العصر أو العشاء بتركها في صلاة الظهر أو المغرب.
والوجه فيه هو أنّ وظيفة المكلف فعلاً هي الاتيان بصلاة الظهر فحسب، لفرض أ نّه ليس مأموراً باتيان صلاة العصر قبل الاتيان بالظهر لاعتبار الترتيب بينهما،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:المفروض أ نّه في هذا الحال واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً،ومن الواضح أنّ وظيفته عندئذ بمقتضى الآية المباركة هي الوضوء أو الغسل،ولا يشرع في حقّه التيمم.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا أثر لكون المكلف واجداً للماء فعلاً بالإضافة إلى صلاة العصر،لما ذكرناه من أنّ المستفاد من الآية المباركة بضميمة الروايات أنّ المراد بوجدان الماء هو وجدانه بالاضافة إلى الصلاة المأمور بها فعلاً،والمفروض أنّ فيما نحن فيه المأمور به فعلاً هو صلاة الظهر دون العصر، ضرورة أ نّه لا يجب الاتيان به قبل الظهر،فإذن هو واجد للماء بالإضافة إلى الظهر،ومن المعلوم أنّ وظيفة الواجد هي الوضوء أو الغسل دون التيمم،وقد ذكرنا أنّ تقسيم المكلف إلى الواجد والفاقد في الآية المباركة قاطع للشركة،فلا يكون الواجد شريكاً مع الفاقد في شيء،وبالعكس.وعليه فيجب صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر،ومعه لا محالة يكون فاقداً له بالاضافة إلى العصر،ومن الواضح أنّ وظيفة الفاقد هي التيمم لا غيره.
بل لا مزاحمة في الحقيقة بين الأمر بصلاة الظهر مع الطهارة المائية والأمر بصلاة العصر معها،ضرورة أ نّه لا مقتضي من قبل الأمر بصلاة العصر حتّى يستدعي احتفاظ الماء لها في ظرفها،ليزاحم استدعاء الأمر بصلاة الظهر صرف هذا الماء فعلاً في الوضوء أو الغسل،ومن الواضح جداً أ نّه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه.
وعلى الجملة: فلا يخلو الأمر من أنّ المكلف إمّا أن يصلي الظهر مع الطهارة المائية،أو يصلي مع الطهارة الترابية،أو لا يصلي أصلاً،ولا رابع لها.فعلى
الأوّل لا محالة يكون المكلف فاقداً للماء بالاضافة إلى صلاة العصر،فوظيفته التيمم.وعلى الثاني بما أنّ صلاته باطلة،لأنّ وظيفته كانت الطهارة المائية، لكونه واجداً للماء على الفرض،فلا تكون الطهارة الترابية مشروعة له،فلا يجوز له الاتيان بالعصر مع الطهارة المائية،لعدم جواز الاتيان به قبل الاتيان بالظهر،والمفروض أنّ الأمر بالظهر باقٍ على حاله،وعليه بما أ نّه لا يكون مكلفاً فعلاً بالعصر،فلا يكون مانع من قبله من صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر،ومن هنا يظهر حال الصورة الأخيرة كما هو واضح،وكذا حال بقية الأجزاء والشرائط.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أ نّه لا مزاحمة حقيقة في أمثال هذه الموارد أصلاً، هذا كلّه فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المتأخر القدرة الخاصة،وهي القدرة في ظرف العمل.
وأمّا إذا كانت القدرة المأخوذة فيه القدرة المطلقة،بأن استكشفنا من القرائن الداخلية أو الخارجية أ نّه واجد للملاك الملزم في ظرفه بمجرد القدرة عليه ولو آناً ما،ففي مثل ذلك قد عرفت أ نّه لا وجه لتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر،بل لا بدّ من ملاحظة الأهمّية في البين.
والوجه في ذلك هو أنّ العقل كما يحكم بصرف القدرة في امتثال الواجب المتقدم،كذلك يحكم باحتفاظها للواجب المتأخر،ضرورة أ نّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه،فكما أ نّه يحكم بقبح الأوّل فكذلك يحكم بقبح الثاني،وعليه فلا أثر للسبق الزماني هنا أصلاً.
فاذن إن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فيقدّم عليه،بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو متأخراً عنه،وبلا فرق بين القول بامكان الترتب والقول باستحالته،وإلّا فيحكم العقل بالتخيير بينهما،كما تقدّم بشكل واضح.
ولكن لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام كلام،وهو أنّ التزاحم إذا كان بين واجبين طوليين متساويين في الملاك،كما إذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاُولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية،أو بين ترك واجب متوقف على ارتكاب محرّم مساوٍ معه في الملاك،فلا مناص من الالتزام بتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر.
وقد أفاد في وجه ذلك ما توضيحه:هو أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كانا عرضيين،ففي صورة التساوي وعدم كون أحدهما أهم من الآخر لا مناص من الالتزام بالتخيير،ضرورة أ نّه لا وجه في هذا الفرض لتقديم أحدهما على الآخر أصلاً.وأمّا إذا كانا طوليين،فإن كانا متساويين فلا بدّ من تقديم الواجب المتقدم على المتأخر زماناً،وذلك لأنّ التكليف بالمتقدم فعلي ولا موجب لسقوطه أصلاً،لأنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين إنّما هو بصرف القدرة في امتثال الآخر،كما أنّ ثبوت كل منهما إنّما هو عند ترك امتثال الآخر وعدم صرف القدرة فيه،بناءً على ما هو الصحيح من إمكان الترتب وجوازه،وعدم الفرق فيه بين أن يكون من طرف أو من طرفين،وبما أنّ التكليف بالواجب المتأخر متأخر خارجاً،لفرض أنّ متعلقه متأخر عن متعلق التكليف بالمتقدم،فلا يكون له مسقط في عرضه،ضرورة أنّ امتثاله في ظرفه لا يكون مسقطاً له،كما أنّ ترك امتثاله فيه لايعقل أن يكون شرطاً لثبوته له،إلّابناءً على إمكان الشرط المتأخر والمفروض أ نّه (قدس سره) يرى استحالته وعدم إمكانه.
وعلى الجملة: ففي زمان الواجب المتقدم لا مانع من صرف القدرة في امتثاله أصلاً،لفرض عدم إمكان صرف القدرة في امتثال الواجب المتأخر
فعلاً،والمفروض أنّ المسقط لوجوبه ليس إلّاامتثاله خارجاً كما عرفت،وحيث إنّه لا يمكن بالفعل فلا مسقط له أصلاً إلّاأن يكون امتثاله في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر،ولكنّك عرفت أ نّه يرى استحالة ذلك، فاذن يتعين امتثال المتقدم بحكم العقل.
ومن هنا يظهر أ نّه لا يمكن الالتزام بالترتب من الطرفين في مثل الفرض، وذلك لأنّ معنى الترتب من الطرفين هو أنّ ثبوت التكليف بكل منهما مشروط بترك امتثال الآخر خارجاً وعدم الاتيان بمتعلقه،وهذا لا يعقل في مثل المقام، ضرورة أنّ ثبوت التكليف بالمتقدم لا يعقل أن يكون مشروطاً بترك امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه إلّاعلى نحو الشرط المتأخر،وهو محال على وجهة نظره (قدس سره).
نعم،إذا كان المتأخر أقوى ملاكاً من المتقدم فلا بدّ من تقديمه عليه،والوجه في ذلك هو أنّ التزاحم في الحقيقة عندئذ إنّما هو بين التكليف بالمتقدم ووجوب حفظ القدرة فعلاً على امتثال التكليف بالمتأخر،وبما أنّ ملاك المتأخر أهم من ملاك الواجب الفعلي،فلا محالة يكون وجوب حفظ القدرة عليه أهم من وجوب الواجب الفعلي،فيتقدّم عليه في مقام المزاحمة.
فالنتيجة المستفادة من مجموع ما أفاده (قدس سره) هنا هي أنّ التزاحم لا يعقل بين تكليفين طوليين،إلّاإذا كان المتأخر أهم من المتقدم لتقع المزاحمة بين وجوب حفظ القدرة عليه فعلاً،ووجوب الواجب المتقدم،وأمّا إذا كانا متساويين،أو كان المتقدم أهم من المتأخر،فلا تزاحم بينهما أبداً،بل يتعين امتثال الواجب المتقدم بحكم العقل،دون الواجب المتأخر،ولأجل ذلك لا يجري الترتب بينهما كما عرفت.
ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده (قدس سره) وهي أ نّا قد حققنا سابقاً أنّ كون أحد الخطابين مشروطاً بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه لم يرد في لسان دليل من الأدلة،لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره،بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين إلّاعلى هذا الفرض والتقدير،ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما فعلاً وفي عرض الآخر.
والوجه في ذلك:هو أنّ العقل مستقل بلزوم حفظ خطاب المولى بالمقدار الممكن،وعدم جواز رفع اليد لا عن أصله ولا عن اطلاقه ما لم تقتضه الضرورة، وهذا ظاهر.
وعلى أساس ذلك بما أنّ في مقام المزاحمة بين التكليفين لا يتمكن المكلف من التحفظ على كليهما معاً،فلا مناص من الالتزام برفع اليد عن أحدهما والأخذ بالآخر إذا كان ذلك الآخر واجداً للترجيح،فانّ هذا غاية ما يمكنه.
وأمّا إذا لم يكن واجداً له فلا مناص من الالتزام بالتخيير بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد تقدّم منّا غير مرّة أ نّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه،فكما أ نّه يحكم بقبح الأوّل،فكذلك يحكم بقبح الثاني.
ومن ناحية ثالثة:قد حققنا في بحث الواجب المطلق والمشروط 1أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر،بل لا مناص عنه في المركبات التدريجية كالصلاة وما شاكلها،كما تقدّم هناك.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث:هي أنّ في صورة كون التكليفين
المتزاحمين متساويين لا مناص من القول بالتخيير-مطلقاً-من دون فرق بين أن يكونا عرضيين أو طوليين.
والسر في ذلك ما عرفت من أنّ القول بالتخيير هنا عقلاً يرتكز على القول بالترتب،وقد ذكرنا أ نّه لا فرق فيه بين أن يكون من طرف واحد،كما إذا كان أحدهما أهم من الآخر،وأن يكون من طرفين،كما إذا كانا متساويين،وقد سبق أنّ معنى الترتب عند التحليل عبارة عن تقييد إطلاق التكليف بأحدهما بترك امتثال التكليف بالآخر،وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً في فرض كون أحدهما أهم من الآخر،وتقييد اطلاق التكليف بكل منهما بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في فرض كونهما متساويين.
ومن المعلوم أنّ هذا التقييد والاشتراط ليس ناشئاً فعلاً بحكم الشرع أو العقل،بل هو نتيجة اشتراط التكاليف من الأوّل بالقدرة،ومن هنا قلنا إنّ هذا التخيير ليس معناه تبديل الوجوب التعييني بالتخييري،بل كل منهما باقٍ على وجوبه التعييني،غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق وجوب كل منهما بتقييده بعدم الاتيان بمتعلق الآخر،بل معناه اختيار المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك،باعتبار أنّ القدرة الواحدة لا تفي بامتثال كليهما معاً،ولا يفرق في ذلك بين كونهما عرضيين أو طوليين،غاية الأمر على الثاني لا بدّ من الالتزام بجواز الشرط المتأخر،حيث إنّ شرطية عدم الاتيان بالواجب المتأخر في ظرفه لفعلية وجوب المتقدم لا تعقل إلّاعلى هذا القول،ولكن قد تقدّم أنّ الصحيح هو جوازه،وأ نّه لا مانع منه أصلاً،بل لا مناص من الالتزام به في بعض الموارد، كما مرّ بشكل واضح،وعليه فلا فرق بين كونهما عرضيين أو طوليين،فعلى كلا التقديرين لا بدّ من الالتزام بالترتب،وبثبوت كلا التكليفين على شكل اشتراط ثبوت كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر في ظرفه.