آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
وقد تحصّل مما ذكرناه:أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب في المتزاحمين الطوليين،لا من ناحية الالتزام بالترتب من الطرفين،ولا من ناحية ابتنائه على جواز الشرط المتأخر،ولا من ناحية حكم العقل.
أمّا الأوّل،فقد ذكرنا أ نّه لا فرق في إمكان الترتب بين أن يكون من طرف واحد كما في الأهم والمهم،أو من طرفين كما في المتساويين.
وأمّا الثاني،فقد حققنا جواز الشرط المتأخر وامكانه.
وأمّا الثالث،فقد عرفت أ نّه لا فرق عند العقل بين تفويت الملاك الملزم في ظرفه،وتفويت الواجب الفعلي.
فما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من عدم جريان الترتب بينهما،لا يرجع إلى معنىً صحيح أصلاً.
كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من المانع،وهو أنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين حيث إنّه كان بامتثال الآخر فلا يعقل أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر-من جهة تأخره خارجاً-مسقطاً للتكليف بالمتقدم،فأيضاً لا يرجع إلى معنىً محصّل،والوجه فيه:
أمّا أوّلاً:فلأ نّه لا مانع من أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر،بناءً على ما حققناه من إمكانه وجوازه.
وأمّا ثانياً:فلأنّ المسقط له ليس هو امتثال الآخر بما هو،لما قدّمناه سابقاً من أنّ المسقط للتكليف أحد أمرين لا ثالث لهما:
الأوّل:امتثاله في الخارج الموجب لحصول غرضه،فانّه بعد حصول الغرض الداعي له خارجاً لا يعقل بقاؤه،ولذا قلنا إنّ المسقط في الحقيقة إنّما هو حصول الغرض وتحققه في الخارج،لا الامتثال نفسه كما تقدّم.
الثاني:انتفاء القدرة وعجز المكلف عن امتثاله،ومعه لا محالة يسقط التكليف،بداهة استحالة توجيهه نحو العاجز،ومن المعلوم أنّ المسقط فيما نحن فيه ليس هو الأوّل على الفرض،بل المسقط له إنّما هو الثاني كما هو المفروض، باعتبار أنّ المكلف إن أعمل قدرته في امتثال الواجب الفعلي عجز عن امتثال الواجب المتأخر في ظرفه،فينتفي بانتفاء موضوعه-وهو القدرة-وإن حفظ قدرته على امتثال المتأخر عجز عن امتثال المتقدم لا محالة،ضرورة أنّ القدرة الواحدة لا تفي لامتثال كليهما معاً،ومثال ذلك:ما إذا توقف امتثال واجب على ارتكاب محرّم كالتصرّف في مال الغير مثلاً،فانّه إن صرف قدرته في ترك الحرام عجز عن امتثال الواجب في ظرفه كانقاذ الغريق مثلاً أو نحوه،وإن حفظ قدرته لامتثاله في ظرفه بارتكاب الحرام عجز عن تركه،ومن الواضح أنّ مع العجز عنه تسقط حرمته لا محالة،ولا يفرق في سقوط حرمته بين أن يمتثل المكلف الواجب المتأخر خارجاً أم لا،ضرورة أنّ المسقط للتكليف بالمتقدم ليس هو امتثال المتأخر في الخارج،بل المسقط له في الحقيقة-كما عرفت – عدم تمكن المكلف من امتثاله.
وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)-من أنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين لايكون إلّابامتثال الآخر،وحيث إنّ امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً فلا يعقل أن يكون مسقطاً للتكليف بالمتقدم-لا يرجع إلى معنىً صحيح،لما عرفت من أنّ المسقط له ليس هو امتثال التكليف بالمتأخر ليقال إنّه حيث لا يكون في عرضه فلا يكون مسقطاً له،بل المسقط له ما مرّ وهو عدم تمكن المكلف من امتثاله.
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت:أ نّه لا فرق في نظر العقل بين أن يكون المتزاحمان المتساويان عرضيين أو طوليين،إذ أ نّه على كلا التقديرين يستقل
العقل بالتخيير بينهما على بيان تقدّم بصورة واضحة.
ثمّ إنّ ما مثّل لذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الاُولى من الصلاة وتركه في الركعة الثانية،فقد ظهرت المناقشة فيه مما تقدّم من أ نّه لا تعقل المزاحمة بين جزأين أو شرطين أو جزء أو شرط لواجب واحد،وسيجيء الكلام في ذلك بصورة مفصّلة 1.
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد طبّق كبرى مسألة التزاحم على جملة من الفروع وقد تقدّم الكلام في بعضها 2:
الأوّل: ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهور في الصلاة وسقوط قيد من قيودها الاُخر،فيسقط ذلك القيد وإن كان وقتاً،لكون الطهور ركناً لها،وأهم من بقية القيود،ولذا ورد أ نّه«لا صلاة إلّابطهور» 3.
الثاني: ما إذا دار الأمر بين خصوص الطهارة المائية وغيرها من القيود فيقدّم غيرها عليها،وقد ذكر في وجه ذلك أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضى ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال 4، إلّا أنّ الطهارة المائية خاصة ممتازة عن بقية القيود من الأجزاء والشرائط،من جهة جعل الشارع البدل لها وهو الطهارة الترابية،فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع،فيقدّم عليها كل قيد من قيود الصلاة في مقام المزاحمة.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين وقوع ركعة من الصلاة في خارج الوقت وسقوط أيّ قيد من قيودها الاُخر غير الطهور،يسقط ذلك القيد،لكون إدراك الوقت أهم.
الرابع: ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت وإدراك قيد آخر ولا يتمكن من الجمع بينهما،فيقدّم إدراك ذلك القيد على إدراك تمام الركعات فيه،واستثنى من ذلك خصوص السورة وقال:إنّها تسقط عند الدوران المزبور، لقيام الدليل على سقوطها بالاستعجال.
الخامس: ما إذا دار الأمر بين سقوط الأجزاء وسقوط الشرائط،فتسقط الشرائط،وعلّل ذلك بأ نّها متأخرة رتبة عن الأجزاء،لأنّها إنّما اخذت قيوداً فيها،ومن الواضح أنّ القيد متأخر رتبة عن المقيد.
السادس: ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده،كما لو دار الأمر بين سقوط أصل الساتر عن الصلاة وسقوط قيده وهو كونه طاهراً، يسقط قيده لتأخره عنه رتبة.
السابع: ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد مأخوذ في الركن وسقوط قيد مأخوذ في غيره من الأجزاء أو الشرائط،كما لو دار الأمر بين ترك الطمأنينة مثلاً في الركن وتركها في غيره من الذكر أو القراءة أو نحو ذلك،يتعيّن سقوط الثاني.
الثامن: ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال القراءة،يتعين سقوط القيام فيها باعتبار أنّ القيام قبل الركوع بنفسه ركن ومقوّم له،فلا محالة يتقدّم على القيام في حال القراءة،ومن هنا يتقدّم القيام قبل الركوع على القيام حال التكبيرة أيضاً،فانّ القيام حالها شرط،وفي الركوع مقوّم.
التاسع: ما إذا دار الأمر بين سقوط أحد الواجبين الطوليين،سقط المتأخر وإن لم يكن الملاك فيه أهم،ومن ثمّ يتقدّم القيام في التكبيرة على القيام في القراءة،هذا مضافاً إلى كونه شرطاً في الركن دون القيام في القراءة،وقد عرفت أ نّه في مقام دوران الأمر بين سقوط شرط الركن وسقوط شرط غيره،يتعين سقوط شرط غيره.
العاشر: ما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة وترك الركوع والسجود فيها،وتعرّض لهذا الفرع السيِّد (قدس سره) في العروة في موضعين:الأوّل:في مبحث المكان 1،والثاني:في مبحث القيام 2،وحكم (قدس سره) في كلا الموضعين بالتخيير بينهما.
ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد حكم في حاشيته على العروة 3في أحد الموضعين بتقديم القيام على الركوع والسجود،وفي الآخر بتقديم الركوع والسجود على القيام على عكس الأوّل.ونظره (قدس سره) في الأوّل إلى تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره،وفي الثاني إلى تقديم الأهم على غيره،وعلى كل حال فبين كلاميه في الموضعين تناقض واضح.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) من الترجيح في هذه الفروعات جميعاً يرتكز على أساس إجراء قواعد التزاحم فيها من الترجيح بالأسبقية في بعضها، وبالأهمّية في بعضها الآخر،وبالتقدّم الرتبي في ثالث.
ولنا أن نأخذ بالمناقشة فيما ذكره (قدس سره) من ناحيتين:
الاُولى:أنّ هذه الفروعات وما شاكلها أجنبية عن مسألة التزاحم تماماً، ولا يجري فيها شيء من أحكامها وقواعدها.
الثانية:أ نّه على تقدير تسليم جريان قواعد التزاحم في تلك الفروعات فانّ ما أفاده (قدس سره) فيها من الترجيح لا يتم على إطلاقه.
أمّا الناحية الاُولى: فقد أشرنا إليها إجمالاً فيما سبق،ونقدِّم لكم هنا بصورة مفصلة،بيان ذلك:أ نّه قد تقدّم أنّ التزاحم هو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن جعل كليهما معاً على نحو القضية الحقيقية،ومن هنا قلنا إنّه لا تنافي بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع،ضرورة أ نّه لا تنافي بين جعل وجوب إنقاذ الغريق مثلاً للقادر وجعل حرمة التصرف في مال الغير له وهكذا…
بل بينهما كمال الملاءمة في هذا المقام،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:أنّ التعارض هو تنافي الحكمين في مقام الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كليهما معاً على نحو القضية الحقيقية،فثبوت كل منهما على هذا النحو يكذّب الآخر بالمطابقة أو بالالتزام على بيان قد سبق بشكل واضح.
ومن جانب ثالث:أنّ الأمر المتعلق بالمركب كالصلاة وما شاكلها-بصفة أ نّه أمر واحد شخصي-لا محالة ينبسط على أجزاء ذلك المركب وتقيداته بقيودات خارجية،فيأخذ كل جزء منه حصة من ذلك الأمر الواحد الشخصي، فيكون مأموراً به بالأمر الضمني النفسي،ومن المعلوم أنّ الأمر الضمني المتعلق بجزء مربوط بالذات بالأمر الضمني المتعلق بجزء آخر وهكذا،ضرورة أنّ الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء هي عين ذلك الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق بالمجموع المركب من تلك الأجزاء بالتحليل العقلي.
وعلى هذا فلا يعقل سقوط بعض تلك الأوامر عن بعض تلك الأجزاء وبقاء
بعضها الآخر،لفرض أنّ هذه الأوامر عين الأمر النفسي،غاية الأمر العقل يحلله إلى أوامر متعددة ضمنية،ويجعله حصة حصة،فتتعلق بكل جزء من أجزاء متعلقه حصة منه،ومن الواضح جداً أ نّه لا يعقل بقاء تلك الحصة بدون بقاء الأمر النفسي ولا سقوطها بدون سقوطه،وهذا معنى ارتباطية تلك الأجزاء بعضها ببعضها الآخر ثبوتاً وسقوطاً في الواقع ونفس الأمر.
فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الثلاثة:هي أنّ في الفروع المزبورة أو ما شاكلها لا يعقل أن يكون التزاحم بين أمرين نفسيين،ضرورة أ نّه ليس فيها إلّا أمر نفسي واحد متعلق بالمجموع المركب.وكذا لا يعقل أن يكون التزاحم بين أمرين إرشاديين،لما عرفت من أ نّه لا شأن للأمر الارشادي ما عدا الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية،ولذا لا تجب موافقته ولا تحرم مخالفته بحكم العقل.ومن المعلوم أنّ المزاحمة إنّما تعقل بين أمرين يقتضي كل منهما امتثاله والاتيان بمتعلقه خارجاً لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال والاطاعة،والمفروض أ نّه لا اقتضاء للأمر الارشادي بالاضافة إلى ذلك أصلاً لتعقل المزاحمة بينهما.
والذي يمكن أن يتوهم في أمثال هذه المقامات هو وقوع المزاحمة بين أمرين ضمنيين،ببيان أنّ كلاً منهما يقتضي الاتيان بمتعلقه،فعندئذ لو كان المكلف قادراً على امتثال كليهما والاتيان بمتعلقيهما خارجاً فلا مزاحمة في البين أصلاً.
وأمّا إذا فرضنا أ نّه لا يقدر إلّاعلى امتثال أحدهما دون الآخر،فلا محالة تقع المزاحمة بينهما،كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة مثلاً وترك الركوع فيها،أو بين ترك القيام في حال التكبيرة وتركه في حال القراءة،أو بين ترك الطهارة الحدثية وترك الطهارة الخبثية وما شابه ذلك،ففي أمثال هذه الموارد التي لا يكون المكلف قادراً على الجمع بينهما في الخارج لا محالة تقع المزاحمة بين الأمر الضمني المتعلق بالقيام والأمر الضمني المتعلق بالركوع،أو الأمر
الضمني المتعلق بتقيد الصلاة بالطهارة الحدثية،والأمر الضمني المتعلق بتقيدها بالطهارة الخبثية،وهكذا.
والوجه في ذلك:هو أنّ ملاك التزاحم بين أمرين نفسيين كالأمر بالصلاة مثلاً في ضيق الوقت والأمر بالازالة-وهو عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً،فلو صرف قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الثاني،فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة ولو انعكس فبالعكس-بعينه موجود بين أمرين ضمنيين،كالأمر بالقيام مثلاً والأمر بالركوع أو ما شاكلهما،فانّ المفروض هنا هو أنّ المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معاً،فلا يتمكن من الجمع بين القيام والركوع في الصلاة،فلو صرف قدرته في امتثال الأوّل عجز عن امتثال الآخر،فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه-وهو القدرة-وإن صرف فيه عجز عن الأوّل وهكذا.
وعليه فيرجع إلى قواعد باب التزاحم،فإن كان أحدهما أهم من الآخر قدّم عليه،وكذا إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً،فانّ ما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً يتقدّم على غيره،أو إذا كان كلاهما مشروطاً بالقدرة شرعاً ولكن كان أحدهما أسبق من الآخر زماناً تقدّم الأسبق على غيره،وأمّا إذا كانا متساويين من تمام الجهات ولم يكن ترجيح في البين ولا احتماله،فالعقل يحكم بالتخيير بينهما بمعنى تقييد إطلاق الأمر بكل منهما بعدم الاتيان بالآخر كما عرفت في التزاحم بين الواجبين النفسيين إذا كانا متساويين من جميع الجهات.
وعلى الجملة: فجميع ما ذكرناه في التزاحم بين الأمرين النفسيين يجري في المقام من دون تفاوت أصلاً إلّافي نقطة واحدة،وهي أنّ التزاحم هناك بين أمرين نفسيين،وهنا بين أمرين ضمنيين،ومن المعلوم أنّ الاختلاف في هذه
النقطة لا يوجب التفاوت بينهما في جريان أحكام التزاحم ومرجحاته وقواعد بابه أصلاً.هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه القول بجريان التزاحم في أجزاء وشرائط واجب واحد كما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وغيره.
وغير خفي أنّ هذا البيان وإن كان في غاية الصحة والاستقامة بالاضافة إلى حكمين نفسيين:وجوبيين كانا أو تحريميين،أو كان أحدهما وجوبياً والآخر تحريمياً كما تقدّم الكلام في التزاحم بينهما بصورة مفصلة فلا نعيد،إلّاأ نّه لا يتم بالاضافة إلى حكمين ضمنيين،وذلك لأنّ تماميته بالاضافة إليهما تبتني على نقطة واحدة،وهي أنّ الأمر المتعلق بالمركب لا يسقط بتعذر بعض أجزائه أو شرائطه،فحينئذ لو دار الأمر بين ترك جزء كالقيام في الصلاة مثلاً وترك جزء آخر كالركوع فيها أو نحوهما،فلا محالة تقع المزاحمة بينهما،لفرض أنّ الأمر بالصلاة باقٍ ولم يسقط بتعذر أحد هذين الجزأين،والمفروض أنّ كلاً منهما مقدور في نفسه وفي ظرف عدم الاتيان بالآخر.
فإذن لا مانع-بناءً على ما حققناه من صحة الترتب-[ من ] الالتزام بثبوت الأمر الضمني النفسي لكل منهما في نفسه وعند عدم الاتيان بالآخر وهذا التقييد نتيجة أمرين:
الأوّل:وقوع المزاحمة بين هذا الأمر الضمني وذاك في مقام الامتثال.
الثاني:الالتزام بالترتب بينهما من الجانبين.
ولكن عرفت أنّ هذه النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً، ضرورة أ نّه لا يعقل بقاء الأمر المتعلق بالمركب مع تعذر بعض أجزائه أو شرائطه كما سبق بشكل واضح 1.وعلى هذا الأساس فاذا تعذر أحد أجزائه
أو شرائطه معيّناً كان أو غير معين-أعني به ما إذا دار الأمر بين ترك هذا وذاك-فلا محالة يسقط الأمر المتعلق به،بداهة استحالة بقائه لاستلزامه التكليف بالمحال،وهو غير معقول.
وبتعبير آخر:أنّ فرض بقاء الأمر الأوّل بحاله يستلزم التكليف بالمحال، وفرض بقاء الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء والشرائط الباقيتين،وأنّ الساقط إنّما هو الأمر الضمني المتعلق بخصوص المتعذر منهما خلف،وذلك لفرض أنّ تلك الأوامر أوامر ضمنية كل منها مرتبط مع الآخر ارتباطاً ذاتياً،فلا يعقل بقاء بعض منها وسقوط بعضها الآخر،وإلّا لكانت أوامر استقلالية لا ضمنية، وهذا خلف كما عرفت.
فاذن مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب بتعذر أحد أجزائه أو قيوده، وعليه فلا أمر لا بالمركب ولا بأجزائه،فلا موضوع للتزاحم ولا التعارض، فانتفاؤهما بانتفاء موضوعهما،ولذا لو كنّا نحن والقاعدة الأوّلية لم نقل بوجوب الباقي،فانّ الأمر المتعلق بالمجموع المركب منه قد سقط يقيناً،وإثبات أمر آخر متعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل،ففي كل مورد ثبت دليل على وجوبه فنأخذ به، وإلّا فمقتضى القاعدة عدم وجوبه.
ولكن قد يتوهم في المقام أ نّه وإن لم يمكن الالتزام بالتزاحم بين واجبين ضمنيين كجزأين أو شرطين أو جزء وشرط،فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعناوينها الأوّلية كما عرفت،إلّاأ نّه لا مانع من الالتزام به فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعنوان المقدور،ببيان أ نّه إذا تعذر أحد أجزائه لا يسقط الأمر عن الأجزاء الباقية،لفرض أنّ جزئيته تختص بحال القدرة،وفي حال التعذر لا يكون جزءاً واقعاً،وإذا لم يكن جزءاً كذلك في هذا الحال،فلا
محالة لا يكون تعذره موجباً لسقوط الأمر عن الباقي.
وعلى هذا فإن كان المتعذر أحد أجزاء ذلك المركب معيّناً سقط الأمر عنه خاصة دون الباقي،لفرض اختصاص جزئيته بحال القدرة،وفي هذا الحال لا يكون جزءاً واقعاً،وإن كان المتعذر مردداً بين اثنين منها،ففي مثله لا محالة تقع المزاحمة بين الأمر الضمني المتعلق بهذا والأمر الضمني المتعلق بذاك،بتقريب أنّ ملاك التزاحم-وهو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن ثبوتهما بحسب مقام الجعل بلا منافاة-موجود بعينه هنا،لفرض أ نّه لا تنافي بين الأمر الضمني المتعلق بهذا الجزء والأمر الضمني المتعلق بالآخر بحسب مقام الجعل،فهذا مجعول له بعنوان كونه مقدوراً وذاك مجعول له بهذا العنوان،من دون أيّة منافاة في البين،غاية الأمر من جهة عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً وقع التنافي والتزاحم بينهما،فلو صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن الآخر،فينتفي بانتفاء موضوعه-وهو القدرة-وإن عكس فبالعكس.
وعلى الجملة:فيجري فيه جميع ما يجري في التزاحم بين الواجبين النفسيين على القول بامكان الترتب واستحالته حرفاً بحرف،من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
ولكنّه توهم خاطئ ولم يطابق الواقع،والوجه في ذلك هو أ نّه لا شبهة في أنّ الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء المتعذر يسقط بتعذره لا محالة، ضرورة أ نّه لايعقل بقاؤه،كما إذا فرضنا أنّ للمركب عشرة أجزاء مثلاً،وتعلق الأمر بها بعنوان كونها مقدورة،فعندئذ إذا فرض سقوط أحد أجزائه وتعذّره، فلا إشكال في سقوط الأمر المتعلق بمجموع العشرة،بداهة استحالة بقائه، لاستلزامه التكليف بالمحال وبغير المقدور،وأمّا الأمر المتعلق بالتسع الباقية فهو أمر آخر لا الأمر الأوّل،لفرض أ نّه متعلقبالمركب من عشرة أجزاء،لا بالمركب من التسعة،وهذا واضح.وأمّا إذا تعذر أحد جزأين منها لا بعينه،بأن تردد
الأمر بين كون المتعذر هذا أو ذاك فأيضاً لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع،لفرض عدم قدرة المكلف عليه،ومعه يستحيل بقاء أمره،لاستلزامه التكليف بغير المقدور.
وعليه فلا محالة نشك في أنّ المجعول الأوّلي في هذا الحال أيّ شيء،هل هو جزئية هذا أو جزئية ذاك،أو أ نّه جزئية الجامع بينهما بلا خصوصية لهذا ولا لذاك،فإذن لامحالة يدخل المقام في باب التعارض،فيرجع إلى أحكامه وقواعده.
وبتعبير واضح:أ نّه لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع المركب من عشرة أجزاء مثلاً بتعذر جزئه وسقوطه واستحالة بقائه كما عرفت،ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتعذر معيّناً أو غير معيّن كما هو واضح،ومن المعلوم أنّ بسقوطه-الأمر-يسقط جميع الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزائه،لفرض أنّ تلك الأوامر عين ذلك الأمر المتعلق بالمجموع،فلا يعقل بقاؤها مع سقوطه.
وتخيّل أنّ الساقط في هذا الفرض إنّما هو خصوص الأمر الضمني المتعلق بالجزء المتعذر دون البقية خيال فاسد جداً،ضرورة أنّ الأمر المتعلق بالمجموع لا يخلو من أن يكون باقياً في هذا الحال أو ساقطاً.فعلى الفرض الأوّل لا يعقل سقوطه،لفرض أ نّه حصة منه،فمع بقائه لا محالة هو باق.وعلى الفرض الثاني سقط الأمر الضمني عن الجميع،لا عن خصوص المتعذر،لما عرفت من حديث العينية،وهذا معنى ارتباطية الأوامر الضمنية بعضها مع بعض الآخر ارتباطاً ذاتياً.
ولكن حيث قد عرفت استحالة الفرض الأوّل في هذا الحال،فلا محالة يتعين الالتزام بالفرض الثاني.نعم،ثبت الأمر للباقي بعد سقوطه عن المجموع بمقتضى اختصاص جزئية المتعذر بحال القدرة،فانّ قضية ذلك سقوط جزئيته في حال التعذر واقعاً،ولازمه ثبوت الأمر للباقي،وبما أنّ الباقي في هذا الفرض
مردد بين المركب من هذا أو ذاك،فلا محالة لا نعلم أنّ المجعول جزئية هذا له أو ذاك أو جزئية الجامع بينهما،بعد عدم إمكان كون المجعول جزئية كليهما معاً، فإذن لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما فيرجع إلى قواعد بابها،فإن كان أحدهما عاماً والآخر مطلقاً،فيقدّم العام على المطلق،وإن كان كلاهما عاماً فيرجع إلى مرجحات باب التعارض،وإن كان كلاهما مطلقاً فيسقطان معاً، فيرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وذاك،فتكون النتيجة جزئية الجامع.
وبهذا البيان قد ظهر أ نّه لا فرق بين المقام وبين ما إذا تعلق الأمر بالمركب من الأجزاء بعناوينها الأوّلية إلّافي نقطة واحدة،وهي أنّ في مثل المقام لا يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل خارجي يدل عليه ك«لا تسقط الصلاة بحال» 1أو نحوه،بل الأمر به ثابت من الابتداء،بمعنى أنّ الشارع قد أوجب كل مرتبة من مراتب هذا المركب عند تعذر مرتبة اخرى منه.
ويدل على هذا في المقام تقييد جزئية كل من أجزائه بحال القدرة،ولازم ذلك هو عدم جزئيته في حال العجز واقعاً،وثبوت الأمر للباقي،وأمّا في غير المقام ومحل الفرض يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل من الخارج،وإلّا فمقتضى القاعدة عدم وجوبه،بعد سقوط الأمر عن المجموع بتعذر جزئه.
ولكن بعد ما دلّ الدليل من الخارج على وجوبه،فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه،فكما أنّ فيه إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في باب التعارض،لفرض أنّ المجعول في هذا الحال ليس إلّاوجوب أحدهما،ولا يعقل أن يكون وجوب كليهما معاً،لاستلزامه التكليف بالمحال،ومن المعلوم أ نّه لا
موضوع للتزاحم في مثله كما هو واضح،فكذلك فيما نحن فيه إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في هذا الباب،وذلك لأنّا نعلم إجمالاً في هذا الحال بوجوب أحدهما،لفرض تعلق الأمر الآخر بالباقي وسقوط الأمر الأوّل عن المجموع كما عرفت،ومعه لا محالة نشك في أنّ المجعول وجوب خصوص هذا أو ذاك،أو وجوب الجامع بينهما،بعد عدم إمكان وجوب كليهما معاً، فعندئذ لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما،ومعه لا موضوع للتزاحم أصلاً.
ولعل منشأ تخيّل أنّ هذا من باب التزاحم الغفلة عن تحليل نقطة واحدة وهي تعلق الأمر بالباقي من الابتداء،من دون حاجة إلى التماس دليل خارجي عليه،فان عدم تحليلها أوجب تخيل أنّ الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزاء مثل هذا المركب لم تسقط بسقوط جزء منه،غاية الأمر أنّ تعذره أوجب سقوط خصوص الأمر الضمني المتعلق به لا بغيره،وعليه فإن كان الجزء المتعذر معيّناً سقط الأمر عنه خاصة،وإن كان مردداً بين هذا وذاك سقط أمر أحدهما بسقوط موضوعه-وهو القدرة-دون الآخر،بعد ثبوت كليهما معاً في مقام الجعل،من دون أيّ تنافٍ بينهما فيه،ومن المعلوم أ نّا لا نعني بالتزاحم إلّاهذا، غاية الأمر على القول بالترتب الساقط هو إطلاق الخطاب،وعلى القول بعدمه الساقط أصله.
ووجه الغفلة عن ذلك هو ما عرفت من أنّ الأمر وإن تعلق بالباقي من الأوّل إلّاأ نّه أمر آخر بالتحليل،ضرورة أنّ الأمر الأوّل المتعلق بالمجموع المركب قد سقط يقيناً من جهة تعذر جزء منه،ولا يعقل بقاؤه في هذا الحال – كما مرّ-ومع سقوطه لا محالة تسقط الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزائه،وعليه فلا محالة نشك في هذا الفرض وما شاكله في أنّ الأمر المجعول ثانياً للباقي هل هو مجعول للمركب من هذا أو ذاك،يعني أنّ الشارع في هذا الحال جعل هذا جزءاً أو ذاك،فيكون الشك في أصل المجعول في هذا الحال،ومن المعلوم أ نّه
لا يعقل فيه التزاحم،ولا موضوع له،ضرورة أ نّه إنّما يعقل فيما إذا كان أصل المجعول لكل منهما معلوماً،وكان التنافي بينهما في مقام الامتثال،لا في مثل المقام،كما لا يخفى.
فقد أصبحت النتيجة بوضوح أ نّه لا فرق في عدم جريان التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط من واجب واحد،بين أن يكون الأمر متعلقاً به بعنوان كون أجزائه مقدورة،وأن يكون متعلقاً به على نحو الاطلاق بلا تقييد بحالة خاصة دون اخرى.
نعم،فرق بينهما في نقطة أجنبية عما هو ملاك التزاحم والتعارض بالكلّية، وهي أنّ ثبوت الأمر بالباقي هنا مقتضى نفس تخصيص جزئية أجزائه بحال القدرة-كما عرفت-وهناك يحتاج إلى دليل خارجي يدل عليه،وإلّا فلا وجوب له.
نعم،قد ثبت في خصوص باب الصلاة وجوب الباقي بدليل،وهو ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال 1بل الضرورة قاضية بعدم جواز ترك الصلاة في حالٍ إلّالفاقد الطهورين على ما قوّيناه 2،ومع قطع النظر عن ذلك تكفينا الروايات الخاصة الدالة على وجوب الاتيان بالصلاة جالساً إذا لم يتمكن من القيام،وعلى وجوب الاتيان بها بغير الاستقبال إلى القبلة إذا لم يتمكن منه وعلى وجوب الاتيان في الثوب النجس أو عارياً على الخلاف في المسألة، وغير ذلك،فهذه الروايات قد دلّت على وجوب الاتيان بالباقي وأ نّه لا يسقط، والساقط إنّما هو الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء أو القيد المتعذر،فلو
لم يتمكن المصلي من القيام مثلاً وجبت عليه الصلاة جالساً بمقتضى النص الخاص، وكذا لو لم يتمكن من الجلوس وجبت عليه الصلاة مضطجعاً،وهكذا.
وعلى الجملة:فمع قطع النظر عما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،تكفينا في المقام هذه الروايات الخاصة الدالة على وجوب الباقي وعدم سقوطه بتعذر جزء أو شرط،ولكن عرفت أنّ هذه القاعدة-أي قاعدة عدم سقوط الباقي بالتعذر-تختص بخصوص باب الصلاة،فلا تعم غيرها،ولذا لو لم يتمكن المكلف من الصوم في تمام آنات اليوم لم يجب عليه الامساك في الآنات الباقية من هذا اليوم،كما لو اضطرّ الصائم إلى الإفطار في بعض اليوم فلا يجب عليه الامساك في الباقي.
وعلى ضوء هذا الأصل فاذا تعذّر أحد أجزاء الصلاة أو شرائطه وكان المتعذر متعيناً،كما إذا لم يتمكن المصلي من القيام مثلاً أو القراءة أو ما شاكل ذلك،فلا إشكال في وجوب الاتيان بالباقي.وأمّا إذا كان المتعذر مردداً بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط،فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما،للعلم الاجمالي بجعل أحدهما في الواقع دون الآخر،لفرض انتفاء القدرة إلّاعلى أحدهما،فإذن لا بدّ من النظر إلى أدلتهما وإعمال قواعد التعارض بينهما.
فنقول:إنّ الدليلين الدالين عليهما لا يخلوان من أن يكون أحدهما لبياً والآخر لفظياً،وأن يكون كلاهما لبياً،أو كلاهما لفظياً،وعلى الثالث فأيضاً لا يخلوان من أن تكون دلالة أحدهما بالاطلاق والآخر بالعموم،وأن تكون دلالة كليهما بالعموم أو بالاطلاق.
أمّا القسم الأوّل، وهو ما إذا كان الدليل على أحدهما لبياً وعلى الآخر لفظياً،فلا إشكال في مقام المعارضة بينهما في تقديم الدليل اللفظي على اللبي،
والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ الدليل اللبي كالاجماع أو نحوه حيث إنّه لا عموم ولا إطلاق له،فلا بدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقن،وهو غير مورد المعارضة مع الدليل اللفظي،فلا نعلم بتحققه في هذا المورد،وذلك كما إذا دار الأمر بين القيام مثلاً في الصلاة والاستقرار فيها،فانّ الدليل على اعتبار الاستقرار لبي وهو الاجماع،فيجب الاقتصار فيه على المقدار المتيقن.
ونتيجته هي أ نّه لا إجماع على اعتبار الاستقرار في الصلاة في هذا الحال، والدليل على اعتبار القيام بما أ نّه لفظي،وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة أبي حمزة:«الصحيح يصلي قائماً وقعوداً،والمريض يصلي جالساً…»إلخ 1وقوله (عليه السلام):في صحيحة زرارة في حديث«وقم منتصباً فانّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه وآله) قال:من لم يقم صلبه فلا صلاة له» 2ونحوهما من الروايات الدالة على ذلك،فيجب الأخذ باطلاقه.ونتيجته هي وجوب الاتيان بالصلاة قائماً في هذا الحال بدون الاستقرار والطمأنينة،لما عرفت من عدم الدليل على اعتباره في هذه الحالة.
وعلى الجملة:فإذا دار الأمر بين أن يصلي قائماً بدون الطمأنينة والاستقرار، وأن يصلي جالساً معها،فبما أنّ الدليل الدال على اعتبار الطمأنينة لبي،فلا إشكال في تقديم القيام عليها،فيحكم بوجوب الصلاة قائماً بدون الطمأنينة،ومن هنا حكم السيِّد (قدس سره) في العروة 3بتقديم القيام عليها إذا دار الأمر بينهما، ولعل نظره (قدس سره) إلى ما ذكرناه.
وأمّا القسم الثاني، وهو ما إذا كان كلا الدليلين لبياً،فلا يشمل مورد المعارضة،وذلك لما مرّ من أنّ الدليل إذا كان لبياً فلا بدّ من الاقتصار في مورده على المقدار المتيقن منه،ومن المعلوم أنّ المقدار المتيقن منه غير هذا المورد، ضرورة أ نّا لم نحرز تحققه فيه لو لم نحرز عدمه.وعليه فمورد المعارضة لا يكون مشمولاً لهذا ولا لذاك،فوقتئذ لو كنّا نحن وهذا الحال ولم يكن دليل من الخارج على عدم سقوط كليهما معاً فنرجع إلى البراءة عن وجوب كل منهما،فلا يكون هذا واجباً ولا ذاك.
وأمّا إذا كان دليل من الخارج على ذلك،كما هو كذلك،حيث إنّا نعلم بوجوب أحدهما في الواقع،فعندئذ مرّة يدور الأمر بين الأقل والأكثر،بمعنى أنّ الجزء هو الجامع بينهما أو مع خصوصية هذا أو ذاك،ومرّة اخرى يدور الأمر بين المتباينين،بمعنى أ نّا نعلم أنّ الجزء أحدهما بالخصوص في الواقع ونفس الأمر لا الجامع،ولكن دار الأمر بين كون الجزء هذا وذاك.
فعلى الأوّل،ندفع اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك بالبراءة،فنحكم بأنّ الجزء هو الجامع بينهما،فتكون النتيجة هي التخيير شرعاً،يعني أنّ الشارع في هذا الحال جعل أحدهما جزءاً مع إلغاء خصوصية كل منهما.
وعلى الثاني،فمقتضى القاعدة هو الاحتياط،للعلم الاجمالي بجزئية أحدهما بخصوصه في الواقع،وأصالة عدم جزئية هذا معارضة بأصالة عدم جزئية ذاك، فيتساقطان،فإذن يكون العلم الاجمالي موجباً للاحتياط على تقدير إمكانه، وإلّا فالوظيفة هي التخيير بين إتيان هذا أو ذاك.
وأمّا القسم الثالث، وهو ما إذا كانت دلالة أحدهما على ذلك بالاطلاق والآخر بالعموم،فيقدّم ما كانت دلالته بالعموم على ما كانت دلالته بالاطلاق.
وذلك لأنّ دلالة العام تنجيزية،فلا تتوقف على أيّة مقدّمة خارجية،ودلالة المطلق تعليقية،فتتوقف على تمامية مقدّمات الحكمة،منها عدم البيان له.ومن الواضح جداً أنّ العام يصلح أن يكون بياناً للمطلق،ومعه لا تتم مقدّمات الحكمة ليؤخذ باطلاقه.
وعلى الجملة:فقد ذكرنا 1أنّ مسألة دوران الأمر بين العام والمطلق خارجة عن كبرى مسألة التعارض،لعدم التنافي بين مدلوليهما في مقام الاثبات على الفرض،ضرورة أنّ العرف لا يرى التنافي بينهما أصلاً،ويرى العام صالحاً للقرينية على تقييد المطلق،ولا يفرق في ذلك بين كون العام متصلاً بالكلام أو منفصلاً عنه،غاية الأمر أ نّه على الأوّل مانع عن ظهور المطلق في الاطلاق، وعلى الثاني مانع عن حجية ظهوره.
وأمّا القسم الرابع، وهو ما إذا كانت دلالة كل منهما بالعموم،فلا بدّ فيه من الرجوع إلى المرجحات السندية من موافقة الكتاب ومخالفة العامة على ما ذكرنا من انحصار الترجيح بهما،لوقوع المعارضة بينهما،فلا يمكن الجمع الدلالي بتقديم أحدهما على الآخر،وهذا واضح.
وأمّا القسم الخامس، وهو ما إذا كانت دلالة كل منهما بالاطلاق،كما هو الغالب في أدلة الأجزاء والشرائط،فيسقط كلا الاطلاقين معاً،إلّاإذا كان أحدهما من الكتاب والآخر من غيره،فيقدّم إطلاق الكتاب عليه فيما إذا كانت النسبة بينهما عموم من وجه كما لا يخفى.وأمّا إذا لم يكن أحدهما من الكتاب أو كان كلاهما منه فيسقطان،وذلك لما ذكرناه من أنّ التعارض بين الدليلين إذا كان بالاطلاق،فمقتضى القاعدة سقوط إطلاق كليهما والرجوع إلى الأصل العملي
إذا لم يكن هناك أصل لفظي من عموم أو إطلاق،وليس المرجع في مثله المرجحات السندية،وذلك لعدم تمامية جريان مقدّمات الحكمة في كل منهما في هذا الحال،فلا موجب لترجيح أحدهما على الآخر إذا كان واجداً للترجيح، ومقتضى الأصل العملي في المقام هو التخيير،حيث إنّا نعلم إجمالاً بوجوب أحدهما من الخارج،فيكون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك.ونتيجة ذلك هي جزئية الجامع بينهما من دون اعتبار أيّة خصوصية.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أنّ الرجوع إلى مرجحات باب التعارض منحصر في خصوص القسم الرابع فحسب،أمّا في الأقسام الباقية فلا يرجع في شيء منها إلى تلك المرجحات أبداً.هذا كلّه إذا كان الأمر دائراً بين جزأين أو شرطين مختلفين في النوع.
وأمّا إذا كان الأمر دائراً بين فردين من نوع واحد،كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الاُولى وتركه في الركعة الثانية،أو دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الاُولى وتركها في الثانية وهكذا،ففي أمثال هذه الموارد الدليل على وجوب ذلك وإن كان واحداً في مقام الاثبات والابراز،إلّاأ نّه في الواقع ينحل بانحلال أفراد هذا النوع،فيثبت لكل منها وجوب،وعليه فلا محالة تقع المعارضة بين وجوب هذا الفرد ووجوب ذاك الفرد-بمعنى استحالة جعل وجوب كليهما معاً في هذا الحال-ففي هذين المثالين تقع المعارضة بين وجوب القيام في الركعة الاُولى ووجوبه في الثانية،وبين وجوب القراءة في الاُولى ووجوبها في الثانية وهكذا،للعلم الاجمالي بجعل أحدهما في الواقع،واستحالة جعل كليهما معاً،ومن الواضح أ نّا لا نعني بالتعارض إلّاالتنافي بين الحكمين بحسب مقام الجعل،وهو موجود في أمثال تلك الموارد.
وعلى هذا،فمقتضى القاعدة هنا التخيير،بمعنى جعل الشارع أحدهما جزءاً، إذ احتمال اعتبار خصوصية كل منهما مدفوع بأصالة البراءة،فانّ اعتبارها يحتاج إلى مؤونة زائدة،ومقتضى الأصل عدمها،فإذن النتيجة هي جزئية الجامع بينهما،لا خصوص هذا ولا ذاك،هذا كلّه حسب ما تقتضيه القاعدة في دوران الأمر بين فردين طوليين من نوع واحد.
وأمّا بحسب الأدلة الخاصة،فقد ظهر من بعض أدلة وجوب القيام تعيّنه في الركعة الاُولى وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة جميل بن دراج«إذا قوي فليقم» 1فانّه ظاهر في وجوب القيام مع القدرة عليه فعلاً،وأنّ المسقط له ليس إلّاالعجز الفعلي،والمفروض أنّ المكلف قادر عليه فعلاً في الركعة الاُولى، فإذا كان قادراً عليه كذلك يتعين بمقتضى قوله (عليه السلام):«إذا قوي فليقم» ومن المعلوم أ نّه إذا قام في الاُولى عجز عنه في الثانية فيسقط بسقوط موضوعه، وهو القدرة.
وأمّا غير القيام كالقراءة والركوع والسجود ونحوها فلا يظهر من أدلتها وجوب الاتيان بها في الركعة الاُولى في مثل هذه الموارد-أعني موارد دوران الأمر بين ترك هذه الأجزاء في الاُولى وتركها في الثانية-لعدم ظهورها في وجوب تلك الاُمور مع القدرة عليها فعلاً،بل هي ظاهرة في وجوبها مع القدرة عليها في تمام الصلاة.وعليه فلا فرق بين القدرة عليها في الركعة الاُولى والقدرة عليها في الركعة الثانية أصلاً،ولا تجب صرف القدرة فيها في الاُولى بل له التحفظ بها عليها في الثانية،فإذن المرجع فيها هو ما ذكرناه من التخيير باعتبار أنّ الدليل كما عرفت لا يمكن أن يشمل كليهما معاً،لفرض عدم القدرة عليهما،
كذلك،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:أ نّا نعلم إجمالاً بوجوب أحدهما،ونرفع اعتبار خصوصية كل منهما بالبراءة.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي التخيير لا محالة ووجوب الجامع بينهما،لا خصوص هذا ولا ذاك.
وعلى ما ذكرناه من الضابط في باب الأجزاء والشرائط،يظهر حال جميع الفروع المتقدمة 1التي ذكرها شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وكذا حال عدّة من الفروع التي تعرّضها السيِّد (قدس سره) في العروة 2.
وعلى أساس ذلك تمتاز نظريتنا عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في هذه الفروعات.
والنقطة الرئيسية للامتياز بين النظريتين،هي أ نّا لو قلنا بانطباق كبرى باب التزاحم على تلك الفروعات،فلابدّ عندئذ من الالتزام بمرجحاتها ومراعاة قوانينها،كتقديم الأهم أو محتمل الأهمّية على غيره،وتقديم ماهو أسبق زماناً على المتأخر،وما هو مشروط بالقدرة عقلاً على ما كان مشروطاً بها شرعاً، وهكذا.وهذا بخلاف ما إذا قلنا بانطباق كبرى باب التعارض عليها،فانّه على هذا لا أثر لشيء من تلك المرجحات أصلاً،ضرورة أنّ الأهمّية أو الأسبقية لا تكون من المرجحات في باب التعارض،ووجهه واضح،وهو أنّ الأهمّية أو الأسبقية إنّما تكون مرجحة على تقدير ثبوتها،وفي فرض تحقق موضوعها، ومن المعلوم أنّ في باب التعارض أصل الثبوت غير محرز،فانّ أهمّية أحد
المتعارضين على فرض ثبوته في الواقع،وكونه مجعولاً فيه،ومن الواضح جداً أ نّها لا تقتضي ثبوته.
ومن هنا قد ذكرنا أنّ كبرى مسألة التعارض كما تمتاز عن كبرى مسألة التزاحم بذاتها،كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها،فلا تشتركان في شيء أصلاً.وعليه فالمرجع في باب الأجزاء والشرائط هو ما ذكرناه،ولا أثر للسبق الزماني والأهمّية فيها أبداً.
وعلى هدى تلك النقطة تظهر الثمرة بين القول بالتزاحم والقول بالتعارض في عدّة موارد وفروع:
منها: ما إذا دار الأمر بين ترك الركوع في الركعة الاُولى وتركه في الثانية، فعلى القول الأوّل يتعين تقديم الركوع في الركعة الاُولى على الركوع في الثانية، من جهة انطباق كبرى تقديم ما هو أسبق زماناً على غيره هنا،فلو ترك الركوع في الاُولى وأتى به في الثانية بطلت صلاته،وعلى القول الثاني فالأمر فيه التخيير كما عرفت.وعليه فيجوز للمكلف أن يأتي بالركوع في الاُولى ويترك في الثانية وبالعكس،فتكون صلاته على كلا التقديرين صحيحة.وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة الاُولى وتركها في الثانية،وهكذا.
ومنها: ما إذا دار الأمر في الصلاة بين ترك القيام وترك الركوع،فعلى الأوّل يمكن الحكم بتقديم القيام نظراً إلى سبقه زماناً،ويمكن الحكم بالعكس نظراً إلى كون الركوع أهم منه،وقد فعل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ذلك في هذا الفرع كما تقدّم،وعلى الثاني فالأمر فيه التخيير،باعتبار أنّ التعارض بين دليليهما بالاطلاق،فيسقط كلا الاطلاقين،فيرجع إلى أصالة عدم اعتبار خصوص هذا وذاك،فتكون نتيجة ذلك التخيير،أعني وجوب أحدهما لا بعينه.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين ترك الطمأنينة في الركن كالركوع والسجود وما شاكلهما،وتركها في غيره كالأذكار والقراءة ونحوهما،فعلى الأوّل يتعين سقوط قيد غير الركن،لكون قيده أهم منه،فيتقدّم الأهم في باب المزاحمة.وعلى الثاني فلا وجه للتقديم أصلاً،لما عرفت من أنّ الدليل على اعتبار الطمأنينة هو الاجماع،ومن المعلوم أ نّه لا إجماع في هذا الحال،وعليه فنرجع إلى أصالة البراءة عن اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك،فتكون النتيجة هي التخيير.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين القيام المتصل بالركوع والقيام في حال القراءة، فبناءً على الأوّل لابدّ من تقديم القيام المتصل بالركوع على القيام في حال القراءة، لكونه أهم منه،إمّا من جهة أ نّه بنفسه ركن أو هو مقوّم للركن كالركوع،ولذا حكم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بتقديمه عليه في الفروعات المتقدمة.وبناءً على الثاني فلا وجه للتقديم أصلاً،بل الأمر في مثله العكس،وذلك لما أشرنا إليه من أنّ المستفاد من صحيحة جميل بن دراج المتقدمة 1وجوب القيام عند تمكن المكلف منه فعلاً،والمفروض أنّ المكلف في مثل المقام قادر فعلاً على القيام في حال القراءة،فإذا كان الأمر كذلك يتعين عليه ولا يجوز له تركه باختياره وإرادته.
فما ذكره (قدس سره) من الكبريات التي بنى فيها على إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،وقد عرفت أنّ تلك الكبريات جميعاً داخلة في باب التعارض،فالمرجع فيها هو قواعد ذلك الباب، ولأجل ذلك تختلف نظريتنا فيها عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) تماماً، وإن كانت النتيجة في بعضها واحدة على كلتا النظريتين،وذلك كما إذا دار الأمر
بين ترك الطهور في الصلاة وترك جزء أو قيد آخر،فلا إشكال في تقديم الطهور على غيره على كلا المسلكين.
أمّا على مسلك من بنى ذلك على باب التزاحم فواضح،لكون الطهور أهم من غيره،ومن هنا قلنا بسقوط الصلاة لفاقده،وهذا واضح.
وأمّا على مسلك من بنى ذلك على باب التعارض فأيضاً كذلك،والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الطهور مقوّم للصلاة فلا تصدق الصلاة بدونه،ولذا ورد في الرواية أنّ«الصلاة ثلاثة أثلاث:ثلث منها الركوع،وثلث منها السجود، وثلث منها الطهور» 1،وقد ذكرنا في محلّه 2أنّ الركوع والسجود بعرضهما العريض ركنا الصلاة وثلثاها،لا بخصوص مرتبتهما العالية،كما أ نّا ذكرنا أنّ المراد من الطهور الذي هو ركن للصلاة الجامع بين الطهارة المائية والترابية،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الصلاة لا تسقط بحال،فلو سقطت مرتبة منها لم تسقط مرتبة اخرى منها وهكذا،للنصوص الدالة على ذلك كما عرفت.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا بدّ في مقام دوران الأمر بين الطهور وغيره من تقديم الطهور،ضرورة أ نّه في فرض العكس-أي تقديم غيره عليه-لا صلاة لتجب مع ذلك القيد،بل إذن لا تعارض ولا دوران في البين أصلاً،ضرورة أنّ التعارض بين دليلي الجزأين أو الشرطين أو الشرط والجزء إنّما يتصور مع فرض وجود الموضوع وهو حقيقة الصلاة،ليكون وجوبها ثانياً بدليل خاص موجباً للتعارض بينهما،وأمّا إذا فرض دوران الأمر بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وغيره،فيتعين تقديم الأوّل وصرف
القدرة فيه ولا يمكن العكس،بداهة أ نّه يلزم من وجوب هذا القيد عدمه،إذ معنى تقديمه هو أ نّه واجب في ضمن الصلاة،والمفروض أنّ تقديمه عليه مستلزم لانتفاء الصلاة،ومن المعلوم أنّ كل ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال،وهذا لا من ناحية أهمّية الطهور،ليقال إنّه لا عبرة بها في باب التعارض أصلاً،بل هو من ناحية أنّ تقديم غيره عليه يوجب انتفاء حقيقة الصلاة،فلا صلاة عندئذ لتجب.
وبتعبير آخر:أنّ دوران الأمر بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط على كلا القولين-أي القول بالتعارض والقول بالتزاحم-إنّما هو في فرض تحقق حقيقة الصلاة وصدقها،بأن لا يكون انتفاء شيء منهما موجباً لانتفاء الصلاة، فعندئذ يقع الكلام في تقديم أحدهما على الآخر،فبناءً على القول بالتزاحم يرجع إلى قواعده وأحكامه،وبناءً على القول بالتعارض يرجع إلى مرجحاته وقواعده.وأمّا إذا فرضنا دوران الأمر بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وغيره، فلا إشكال في تقديم الأوّل على الثاني وعدم الاعتناء به،ضرورة أنّ مرجع هذا إلى دوران الأمر بين سقوط أصل الصلاة وسقوط جزئها أو قيدها،ومن المعلوم أ نّه لا معنى لهذا الدوران أصلاً،حيث إنّه لا يعقل سقوط أصل الصلاة وبقاء القيد على وجوبه،لفرض أنّ وجوبه ضمني لا استقلالي.
وقد تحصّل من ذلك كبرى كلّية،وهي أ نّه لا معنى لوقوع التزاحم أو التعارض بين ما هو مقوّم لحقيقة الصلاة وبين غيره من الأجزاء أو الشرائط، هذا بناءً على ما قوّيناه 1من سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وغيرهما من الأركان.وأمّا بناءً على عدم سقوطها عنه فوقتئذ تفترق نظرية التزاحم في
أمثال هذه الموارد عن نظرية التعارض،إذ على الأوّل لا بدّ من تقديم الطهور على غيره في مقام وقوع المزاحمة بينهما لأهمّيته.وأمّا على الثاني-وهو نظرية التعارض-فلا وجه لتقديمه على غيره من هذه الناحية أصلاً،لما عرفت من أ نّه لا عبرة بالأهمّية في باب التعارض أبداً،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى أدلتهما، فإن كان الدليل الدال على أحدهما عاماً والآخر مطلقاً،فيقدّم العام على المطلق كما عرفت،وإن كان كلاهما عاماً،فيقع التعارض بينهما فيرجع إلى مرجحاته، وإن كان كلاهما مطلقاً فيسقط كلا الاطلاقين،ويرجع إلى الأصل العملي وهو أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك ونتيجته التخيير كما سبق.
وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الاُولى وتركه في الثانية، فانّ النتيجة في هذا الفرع أيضاً واحدة على كلا القولين،وهي تقديم القيام في الركعة الاُولى على القيام في الثانية،ولكن على القول بالتزاحم بملاك أ نّه أسبق زماناً من الآخر،وقد عرفت أنّ ما هو أسبق زماناً يتقدّم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً كما هو كذلك في المقام،وعلى القول بالتعارض فمن ناحية النص المتقدم،هذا تمام كلامنا في الناحية الاُولى.
وأمّا الناحية الثانية -وهي ما ذكره (قدس سره) من الترجيح للتقديم في هذه الفروعات-فأيضاً لاتتم على إطلاقها على فرض تسليم أنّ تلك الفروعات من صغريات باب التزاحم.
وبيان ذلك يحتاج إلى درس كل واحد من هذه الفروعات على حدة.
أمّا الفرع الأوّل: وهو ما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في الصلاة وترك قيد آخر من قيودها،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط قيد آخر ولو كان وقتاً.
وغير خفي أ نّه لا بدّ من فرض هذا الفرع في غير الأركان من الأجزاء أو
الشرائط،ضرورة أ نّه في فرض دوران الأمر بين سقوط الطهور وسقوط ركن آخر بعرضه العريض،كالركوع أو السجود أو التكبيرة،لا صلاة لتصل النوبة إلى أ نّها واجبة مع هذا أو ذاك،لفرض أ نّها تنتفي بانتفاء ركن منها،فإذن لا موضوع للتزاحم ولا التعارض.
نعم،يمكن دوران الأمر بين سقوطه وسقوط مرتبة منها،فانّ حاله حال دوران الأمر بينه وبين سقوط بقية الأجزاء والشرائط كما هو واضح.
ومن هنا يظهر أ نّه لا يعقل التزاحم بين الطهور والوقت أيضاً،ضرورة انتفاء الصلاة بانتفاء كل منهما،فلا موضوع عندئذ للتزاحم ليرجّح أحدهما على الآخر.فما أفاده (قدس سره) من أ نّه يسقط ذلك القيد وإن كان وقتاً لا يرجع إلى معنىً محصّل،لفرض أنّ الصلاة تسقط بسقوط الوقت فلا صلاة عندئذ لتجب مع الطهور.
وبعد ذلك نقول:إنّه لا إشكال في تقديم الطهور على غيره من الأجزاء والشرائط،وليس وجهه مجرد كونه أهم،بل وجهه ما ذكرناه من أنّ الطهور بما أ نّه مقوّم لحقيقة الصلاة فلا تعقل المزاحمة بينه وبين غيره،ضرورة أنّ مرجع ذلك إلى دوران الأمر بين ترك نفس الصلاة وترك قيدها،ومن الواضح جداً أ نّه لا معنى لهذا الدوران أصلاً،ومن هنا قلنا إنّ التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط إنّما يعقل فيما إذا لم يكن أحدهما مقوّماً لحقيقة الصلاة، وإلّا فلا موضوع له لتصل النوبة إلى ملاحظة المرجح لتقديم أحدهما على الآخر، ولا يشمله ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال من رواية أو إجماع قطعي، ضرورة أنّ هذا العمل ليس بصلاة.
وأمّا الفرع الثاني: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط
قيد آخر،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط الطهارة المائية،وأفاد في وجه ذلك أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعاً،لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،إلّاأنّ الطهارة المائية خاصة تمتاز عن بقية الأجزاء والشرائط من ناحية جعل الشارع لها بدلاً دون غيرها،فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع.
ولنأخذ بالمناقشة عليه وملخّصها:هو أنّ ثبوت البدل شرعاً لا يختص بخصوص الطهارة المائية،فكما أنّ لها بدلاً وهو الطهارة الترابية،فكذلك لبقية الأجزاء والشرائط.
والوجه في ذلك:هو أنّ الصلاة إنّما هي مأمور بها بعرضها العريض،لا بمرتبتها الخاصة وهي المرتبة العليا المعبّر عنها بصلاة المختار،وعلى هذا فكما أنّ المكلف لو لم يتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الطهارة الترابية،فكذلك لو لم يتمكن من الصلاة في الثوب أو البدن الطاهر،أو مع الركوع والسجود،أو في تمام الوقت،أو مع قراءة فاتحة الكتاب،أو غير ذلك،فتنتقل وظيفته إلى الصلاة في بدل هذه الاُمور،وهو في المثال الأوّل الصلاة عارياً على المشهور،وفي الثوب النجس على المختار.وفي الثاني الصلاة مع الايماء والاشارة.وفي الثالث إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت،فانّه بدل لادراك تمام الركعات فيه.وفي الرابع الصلاة مع التكبيرة والتسبيح،وهكذا.
وعلى الجملة:فبما أنّ الصلاة واجبة بتمام مراتبها بمقتضى الروايات العامة والخاصة،فلا محالة لو سقطت مرتبة منها تجب مرتبة اخرى،وهكذا.
ونتيجة هذا لا محالة عدم الفرق بين الطهارة المائية وغيرها من الأجزاء والشرائط،لفرض أ نّه قد ثبت لكل منها بدل بدليل خاص،كما دلّ على
وجوب الصلاة مع الايماء عند تعذّر الركوع والسجود،أو مع الركوع قاعداً عند تعذّر الركوع قائماً،وما دلّ على وجوبها قاعداً عند تعذّر القيام،وما دلّ على وجوبها مع التكبيرة والتسبيح عند تعذّر القراءة،وما دلّ على وجوبها مع إدراك ركعة منها في الوقت عند تعذّر إدراك تمام ركعاتها فيه وهكذا،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:المفروض أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة شرعاً،لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا وجه لتقديم غير الطهارة المائية من الأجزاء والشرائط عليها في مقام المزاحمة،لا من ناحية أنّ لها بدلاً، ولا من ناحية اشتراطها بالقدرة شرعاً،لما عرفت من أنّ البقية جميعاً تشترك معها في هاتين الناحيتين على نسبة واحدة.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أنّ ما أفاده (قدس سره) من الكبرى الكلّية وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل،وإن كان تاماً إلّاأ نّه لا ينطبق على المقام.
ويجب علينا أن ندرس هذا الفرع من جهات:
الاُولى:فيما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط خصوص السورة في الصلاة.
الثانية:فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط الأركان.
الثالثة:فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط بقية الأجزاء أو الشرائط.
أمّا الجهة الاُولى: فالظاهر أ نّه لا شبهة في تقديم الطهارة المائية على السورة،وذلك لما دلّ على أ نّها تسقط بالاستعجال والخوف،وهو صحيحة
محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:«سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته،قال:لا صلاة إلّاأن يقرأ بها في جهر أو إخفات.
قلت:أ يّما أحبّ إليك إذا كان خائفاً أو مستعجلاً،يقرأ سورةً أو فاتحة الكتاب؟ قال:فاتحة الكتاب» 1فانّها تدل على سقوطها بالاستعجال والخوف من ناحية فوت جزء أو شرط آخر،فانّ موردها وإن كان خصوص دوران الأمر بينها وبين فاتحة الكتاب،إلّاأ نّه من الواضح جداً عدم خصوصية لها،فإذن لا يفرق بينها وبين غيرها من الأجزاء والشرائط منها الطهارة المائية،ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بتحقق الخوف والاستعجال.
وقد تحصّل من ذلك أنّ هذا التقديم لا يستند إلى إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض،بل هو مستند إلى النص المتقدِّم.
وأمّا الجهة الثانية: فلا شبهة في تقديم الأركان على الطهارة المائية،بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في أمثال المقام، وذلك لأنّ ملاك التقديم هنا أمر آخر،لا إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ليختلف باختلاف النظرين.
بيان ذلك على وجه الاجمال:هو أنّ الصلاة-كما حققناه في محلّه 2– اسم للأركان خاصة،وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي خارجة عن حقيقتها،فلذا لا تنتفي بانتفائها،كما تنتفي بانتفاء الأركان،وعليه فاذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ…» 3بضميمة أنّ الصلاة
لا تسقط بحال،فالنتيجة هي أنّ الصلاة المفروغ عنها في الخارج التي هي عبارة عن الأركان قد أمر الشارع في هذه الآية الكريمة باتيانها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء،ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه.
وعلى الجملة:فالصلاة حيث إنّها كانت اسماً للأركان،والبقية قيود خارجية قد اعتبرت فيها في ظرف متأخر،وإن قلنا إنّها عند وجودها داخلة في المسمى،إلّاأنّ دخولها فيه ليس بمعنى دخلها فيه بحيث ينتفي بانتفائها،بل بمعنى أنّ المسمى قد اخذ لا بشرط بالاضافة إلى الزيادة،فلا محالة لا تنتفي بانتفائها.
وعلى ذلك فاذا ضممنا هذا إلى ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،وإلى أدلة الأجزاء والشرائط منها هذه الآية المباركة،فالنتيجة هي أنّ الاتيان بالأركان واجب على كل تقدير،وأ نّها لا تسقط مطلقاً-أي سواء أكان المكلف متمكناً من البقية أم لم يكن متمكناً-ضرورة أنّ في صورة العكس أي تقديم الأجزاء أو الشرائط على الأركان فلا يصدق على العمل المأتي به صلاة ليتمسك بما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،فاذن لا موضوع للتعارض ولا التزاحم هنا،كما هو واضح.
هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين ترك ركن بعرضه العريض وترك الطهارة المائية أو غيرها من القيود.
وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من الركن وسقوط الطهارة المائية،فهل الأمر كما تقدّم أم لا ؟ وجهان:
الظاهر هو الوجه الثاني،وذلك لأنّ ما ذكرناه في وجه تقديم الركن عليها
لا يجري في هذا الفرض،والوجه فيه ما حققناه في بحث الصحيح والأعم 1من أنّ لفظة الصلاة موضوعة للأركان بعرضها العريض،لا لخصوص المرتبة العليا منها،وعلى هذا يترتب أنّ الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة،وإنّما تنتفي بانتفاء جميع مراتبها،فإذن يكون المراد من الصلاة في الآية المباركة وهي قوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ…» 2هو الأركان بعرضها العريض،لا خصوص مرتبة منها،غاية الأمر يجب الاتيان بالمرتبة العليا في فرض التمكن منها عقلاً وشرعاً،والمرتبة الاُخرى دونها في فرض عدم التمكن من الاُولى وهكذا،وكذا الحال في الطهور حيث إنّه يجب على المكلف الطهارة المائية في فرض وجدان الماء،والطهارة الترابية في فرض فقدانه.
وعلى ضوء هذا،فالآية الكريمة تدل على أنّ الصلاة المفروغ عنها في الخارج-وهي الجامع بين مراتبها-واجبة على المكلف مع الوضوء أو الغسل في فرض كونه واجداً للماء،ومع التيمم في فرض كونه فاقداً له،ولا تدل على وجوب كل مرتبة من مراتبها كذلك،فإذا دار الأمر بين الاتيان بالمرتبة العالية منها مع الطهارة الترابية،والمرتبة الدانية منها مع الطهارة المائية،فالآية لا تدل على وجوب الاتيان بالاُولى دون الثانية أصلاً،بل ولا إشعار في الآية بذلك،
لفرض أنّ الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة.وقد عرفت أنّ الآية تدل على وجوب الصلاة وهي الجامع بين هذه المراتب بالكيفية المزبورة،فعندئذ الحكم بوجوب تلك المرتبة ومشروعيتها في هذا الحال وسقوط الطهارة المائية يحتاج إلى دليل آخر،ولا يمكن إثبات مشروعيتها بالآية المباركة،لاستلزامه الدور، فانّ مشروعيتها في هذا الحال تتوقف على دلالة الآية،وهي تتوقف على مشروعيتها في هذا الحال.
وعلى الجملة: فلو دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر، فلا إشكال في سقوط المرتبة،بل لا دوران في الحقيقة بمقتضى الآية الكريمة، لفرض أنّ اعتبار الأركان بعرضها العريض مفروغ عنه دون اعتبار كل مرتبة من مراتبها،ولذا قلنا إنّ الأركان مشروطة بالقدرة عقلاً دون كل مرتبة منها، فانّها مشروطة بالقدرة شرعاً،وهذا واضح.
وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر – كما في مفروض الكلام-فلا دلالة للآية على تقديم بعضها على بعضها الآخر أبداً،ضرورة أنّ دلالتها في محل الكلام تبتني على نقطة واحدة،وهي أن يكون الداخل في مسمى الصلاة المرتبة العليا من الأركان مع الطهور الجامع بين المائية والترابية فحسب،وعلى هذا فإذا دار الأمر بين سقوط تلك المرتبة وسقوط الطهارة المائية تسقط الطهارة المائية،لفرض أنّ اعتبارها عندئذ متفرّع على ثبوتها،لا في عرضها،لدلالة الآية الكريمة وقتئذ على وجوب الاتيان بها مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء،ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه،إلّا أ نّك عرفت أنّ تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع،وأنّ الصلاة موضوعة للجامع بين مراتبها لا غير.
وعليه ففي مسألتنا هذه وما شاكلها على وجهة نظر من يرى أ نّها داخلة في كبرى باب التعارض،فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب على ما تقدّم بصورة مفصّلة،وعلى وجهة نظر من يرى أ نّها داخلة في كبرى باب التزاحم،
فلابدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد ذلك الباب،كالسبق الزماني والأهمّية ونحوهما.
أمّا الأوّل، وهو السبق الزماني فإن كان موجوداً،بأن يكون أحدهما سابقاً على الآخر زماناً فلا مانع من الترجيح به،وذلك لما ذكرناه 1من أنّ السبق الزماني مرجح في الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،والمفروض أنّ كل مرتبة من مراتب الأركان مشروطة بالقدرة شرعاً، وإن كانت الأركان بتمام مراتبها مشروطة بها عقلاً،فإذن يقدّم ما هو الأسبق زماناً على الاُخرى.
وأمّا الثاني، وهو الأهمّية،فالظاهر أ نّه مفقود في المقام،وذلك لأنّا لم نحرز أنّ المرتبة العالية من الركوع مثلاً أهم من المرتبة العالية من الطهور وبالعكس، كما هو واضح،نعم احتمال كون المرتبة العالية منه أهم منها موجود،ولا مناص عنه،ولا سيّما بالاضافة إلى المرتبة العالية من الركوع والسجود،وذلك لأنّا نستكشف من جعل الشارع التراب أحد الطهورين أنّ المصلحة القائمة بالطهارة الترابية ليست أدون بكثير من المصلحة القائمة بالطهارة المائية،وهذا بخلاف المرتبة الدانية من الركوع والسجود،وهي الايماء،فانّ المصلحة الموجودة فيه أدون بكثير من المصلحة الموجودة فيهما،كما لا يخفى.وعليه فلا بدّ من تقديمها على الطهارة المائية،لما تقدّم مفصّلاً 2من أنّ محتمل الأهمّية من المرجحات، فلا مناص من تقديمه على الآخر في مقام المزاحمة.
وأمّا الثالث، وهو أنّ المشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم على المشروط بها شرعاً،
فهو مفقود في المقام،لما عرفت من أنّ كلتيهما مشروطة بالقدرة شرعاً.
ونتيجة ما ذكرناه عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا يعقل دوران الأمر بين سقوط ركن وسقوط ركن آخر، لانتفاء الصلاة عندئذ على كل تقدير.
الثانية: أ نّه إذا دار الأمر بين ترك ركن وترك مرتبة من ركن آخر فلا إشكال في تعيّن ترك المرتبة،بل قد عرفت أ نّه لا دوران في مثله ولا موضوع للتعارض ولا التزاحم،فيقدّم الركن على مرتبة من الركن الآخر بمقتضى لا تسقط الصلاة بحال،وبمقتضى الآية الكريمة كما سبق.
الثالثة: أنّ في فرض دوران الأمر بين سقوط مرتبة من ركن كالركوع أو السجود،وسقوط مرتبة من آخر كالطهور،لا تدل الآية ولا تسقط الصلاة بحال على سقوط الثانية دون الاُولى،بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قواعد باب التعارض أو التزاحم على ما عرفت.
وأمّا الجهة الثالثة: وهي ما إذا دار الأمر بين الطهارة المائية وبقية الأجزاء أو الشرائط،فالصحيح أ نّه لا وجه لتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية،وذلك لأنّ ما ذكرناه في وجه تقديم الأركان عليها لا يجري هنا، والوجه فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة اسم للأركان خاصة ووجوب تلك الأركان مفروغ عنه في الخارج مطلقاً،أي سواء أكان المكلف متمكناً من بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم يتمكن من ذلك،لفرض أنّ اعتبار البقية متفرع على ثبوتها وفي ظرف متأخر عنها لا مطلقاً،كما هو الحال فيها.
ومن هنا قلنا إنّ المراد من الصلاة في الآية الكريمة هو الأركان،فانّها حقيقة
الصلاة ومسمّاها،كانت معها بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم تكن،وكذا المراد من الصلاة في قوله (عليه السلام):«لا تسقط الصلاة بحال» 1،ولذلك ذكرنا أنّ الآية تدل على وجوب الاتيان بها مطلقاً،سواء أكانت معها البقية أم لم تكن.
وعلى هذا الأصل فلا تدل الآية على تقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أصلاً،لفرض أ نّها غير دخيلة في المسمى من ناحية،وعدم تفرع اعتبار الطهارة المائية على اعتبارها من ناحية اخرى،بل هو في عرض اعتبار تلك.
ودعوى أنّ المراد من الصلاة في الآية المباركة بضميمة ما استفدنا من أدلة اعتبار الأجزاء والشرائط هو الواجدة للجميع لا خصوص الأركان،هذا من جانب،ومن جانب آخر:أ نّا قد ذكرنا في بحث الصحيح والأعم 2أنّ البقية عند وجودها داخلة في المسمى،وعدمها لايضر به على تفصيل هناك،فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي أنّ الآية تدل على وجوب الاتيان بالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء،ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه،وهذا معنى دلالتها على تقديم البقية عليها.
مدفوعة بأنّ اعتبارها في هذا الحال ودخولها في المسمى أوّل الكلام، ضرورة أنّ اعتبارها يتوقف على دخولها فيه،والمفروض أنّ دخولها فيه يتوقف على اعتبارها في هذا الحال.
فإذن لا دلالة للآية بضميمة قوله (عليه السلام):«لا تسقط الصلاة بحال» على تقديم بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية،وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض في المقام بناءً على دخوله في هذا الباب،وإلى قواعد باب التزاحم بناءً على دخوله فيه،والثاني هو مختاره (قدس سره) هنا.
أمّا الأوّل،فقد تقدّم ضابطه فلا نعيد.
وأمّا الثاني،وهو بناءً على دخوله في باب التزاحم فتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط عليها يبتني على أحد امور:
الأوّل: دعوى أنّ للطهارة المائية بدلاً دون غيرها،فيقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل.ولكن قد عرفت فساد تلك الدعوى بشكل واضح.
الثاني: دعوى أنّ الطهارة المائية مشروطة بالقدرة شرعاً بمقتضى الآية الكريمة دون البقية،وقد تقدّم أنّ ما هو مشروط بالقدرة عقلاً يتقدّم على ما هو مشروط بها شرعاً.ويردّها:ما ذكرناه من أنّ أجزاء الصلاة وشرائطها جميعاً مشروطة بالقدرة شرعاً،لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،فلا فرق من هذه الناحية بين الطهارة المائية وغيرها أصلاً.
الثالث: دعوى أنّ بقية الأجزاء والشرائط أهم من الطهارة المائية.وفيه:
أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز كونها أهم منها أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك:أ نّه لا وجه لتقديم بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية أبداً في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما،بل يمكن القول بتقديم الطهارة المائية على غيرها من الأجزاء،باعتبار أ نّها سابقة عليها زماناً، كما إذا فرض دوران الأمر بين ترك الوضوء أو الغسل فعلاً وسقوط جزء في ظرفه،بأن لايتمكن المكلف من الجمع بينهما،فلامانع من الحكم بتقديم الوضوء
أو الغسل عليه،لفرض أنّ التكليف بالاضافة إليه فعلي ولا مانع منه أصلاً.
وقد تقدّم 1أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،وما نحن فيه كذلك.فما أفاده (قدس سره) من أ نّه يقدّم على الطهارة المائية كل قيد من قيود الصلاة،لا يمكن المساعدة عليه.
وأمّا الفرع الثالث: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط قيد آخر غير الطهور،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط ذلك القيد.
أقول: أمّا استثناء الطهور من ذلك وإن كان صحيحاً ولا مناص عنه،إلّا أ نّه لا معنى للاقتصار عليه،بل لا بدّ من استثناء جميع الأركان من ذلك،لما تقدّم من أ نّه في فرض دوران الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط ركن آخر كذلك تسقط الصلاة يقيناً،لفرض أ نّها تنتفي بانتفاء كل منهما.فإذن لا موضوع للتمسك ب«لا تسقط الصلاة بحال»والاجماع القطعي على ذلك،ضرورة أ نّه لا صلاة في هذا الحال ليقال إنّها لا تسقط،وعليه فإذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط الطهور رأساً،تسقط الصلاة عندئذ لا محالة،لفرض أ نّها كما تسقط بسقوط الطهور،كذلك تسقط بعدم إدراك ركعة في الوقت،هذا إذا كان غرضه من الاستثناء ذلك.
وأمّا إذا كان غرضه منه هو أنّ الطهور يقدّم على الوقت في هذا الحال – أعني ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة في الوقت وسقوط الطهور رأساً-فقد عرفت فساده الآن،وهو ما مرّ من أ نّه لا صلاة في هذا الحال ليقال بتقديمه عليه،لفرض أ نّها تنتفي بانتفاء كل منهما،وأمّا وجوبها في خارج الوقت فهو بدليل آخر أجنبي عن الأمر في الوقت.
وأمّا تقديم إدراك ركعة من الوقت على غيره من الأجزاء أو الشرائط فواضح، لما عرفت من أ نّه إذا دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط قيد آخر يسقط ذلك القيد،وحيث إنّ الوقت من الأركان فإذا دار الأمر بين سقوطه وسقوط غيره يسقط غيره لا محالة.
وبتعبير أوضح:هو أ نّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» 1بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها 2وما يستفاد من الروايات الدالة على أنّ الصلاة لا تسقط بحال 3،إلى قوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا…» إلخ 4فالنتيجة هي وجوب الاتيان بالأركان-التي هي حقيقة الصلاة-في الوقت مطلقاً،أي سواء أكان المكلف متمكناً من الاتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن من ذلك،فلا يمكن أن تزاحم بقية الأجزاء والشرائط الأركان في الوقت،لا في تمامه ولا في جزئه،ضرورة أنّ في صورة العكس أعني تقديم البقية على الوقت لا صلاة لنتمسك بدليل لا تسقط الصلاة بحال أو نحوه.ومن هنا قلنا إنّه لا موضوع للتعارض أو التزاحم في مثل هذا الفرض،وأنّ التقديم فيه لا يكون مبتنياً على كون هذه الموارد من موارد التزاحم أو التعارض،بل هو بملاك آخر لا بملاك إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض،ولذا لا بدّ من الالتزام بهذا التقديم على كل من القولين.
وبذلك يظهر أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام من جعل
التقديم فيه مبتنياً على إعمال قواعد التزاحم غير صحيح.
وأمّا الفرع الرابع: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت وسقوط قيد آخر،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت،إلّاالسورة فانّها تسقط بالاستعجال والخوف.
أقول: الأمر بالاضافة إلى السورة كذلك،لما عرفت من أنّ دليلها من الأوّل مقيّد بغير صورة الاستعجال والخوف،فلا تكون واجبة في هذه الصورة.
هذا لو قلنا بوجوبها،وإلّا فهي خارجة عن محل الكلام رأساً.وأمّا بالاضافة إلى غيرها من الأجزاء أو الشرائط فلا يمكن المساعدة عليه،والوجه في ذلك ما أشرنا إليه من أنّ الركن هو الوقت الذي يسع لفعل الأركان خاصة،وأ نّه مقوّم لحقيقة الصلاة فتنتفي الصلاة بانتفائه،وأمّا الزائد عليه الذي يسع لبقية الأجزاء والشرائط فليس بركن،وقد استفدنا ذلك من ضم هذه الآية أعني قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ…» إلخ،إلى قوله تعالى «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ…» إلخ بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
وعلى ذلك فإذا دار الأمر بين سقوط تمام الوقت الذي يسع للأركان، وسقوط جزء أو شرط آخر،فالحال فيه كما تقدّم،يعني أ نّه يسقط ذلك الجزء أو الشرط لا محالة،سواء أقلنا بالتعارض في أمثال المورد أم بالتزاحم.
وأمّا إذا دار الأمر بين سقوط بعض ذلك الوقت وسقوط قيد آخر،فأيضاً يسقط ذلك القيد،والوجه في ذلك:هو أ نّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى:
«أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» إلى قوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا…» إلخ،وإلى أدلة بقية الأجزاء والشرائط مع أدلة بدليتها،
بضميمة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،فالنتيجة هي وجوب الاتيان بالصلاة في الوقت المحدد لها،وأ نّها لا تسقط،سواء أكان المكلف متمكناً من الاتيان ببقية الأجزاء والشرائط فيه أم لم يتمكن من ذلك،غاية الأمر مع التمكن منها يجب الاتيان بها فيه أيضاً،وإلّا فتسقط.مثلاً مع التمكن من الطهارة المائية يجب الاتيان بالصلاة في الوقت المزبور معها،ومع عدم التمكن منها ولو من جهة ضيق الوقت يجب الاتيان بها فيه مع الطهارة الترابية،وكذا مع التمكن من طهارة الثوب أو البدن يجب الاتيان بالصلاة في وقتها معها،ومع عدم التمكن منها ولو من ناحية ضيق الوقت يجب الاتيان بها فيه عارياً أو في الثوب المتنجس على الخلاف في المسألة.
وعلى الجملة: فقد استفدنا من ضم بعض تلك الأدلة إلى بعضها الآخر على الشكل المتقدِّم أنّ وجوب الاتيان بالصلاة التي هي عبارة عن الأركان في الوقت المعيّن لها أمر مفروغ عنه وأ نّه لا يسقط،كان المكلف متمكناً من الاتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن،فلا يمكن أن تزاحم البقية وقت الأركان،لاتمامه كما عرفت ولا بعضه.
وأمّا ما ورد في موثقة عمار من أنّ من صلّى ركعة في الوقت فليتم وقد جازت صلاته 1فلا يدل إلّاعلى بدلية إدراك ركعة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه،فيما إذا لم يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه أصلاً،بمعنى أ نّه لا يتمكن منه،لا مع الطهارة المائية ولا مع الطهارة الترابية ولا مع طهارة البدن أو الثوب ولا مع نجاسته أو عارياً.وأمّا من تمكن من إدراك التمام فيه في الثوب
النجس أو عارياً،أو مع الطهارة الترابية،فلا يكون مشمولاً للحديث.
ومن هنا قلنا إنّ الحديث يختص بالمضطر وبمن لم يتمكن من إدراك تمامها في الوقت أصلاً،فالشارع جعل له إدراك ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات فيه إرفاقاً وتوسعةً له،فلا يشمل المختار والمتمكن من إدراك تمام الركعات فيه كما فيما نحن فيه.نعم،لو أخّر الصلاة باختياره إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلّابمقدار إتيان ركعة واحدة فيه فيشمله الحديث باطلاقه، وإن كان عاصياً من جهة تأخير مقدار من الصلاة عن الوقت،ضرورة أ نّه لم يكن في مقام بيان التوسعة والترخيص للمكلفين في تأخير صلواتهم اختياراً إلى أن لا يبقى من الوقت إلّابمقدار إدراك ركعة واحدة فيه،وجعل إدراك تلك الركعة الواحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات،وقد ذكرنا أنّ الحديث ظاهر في هذا المعنى بمقتضى الفهم العرفي.
فالنتيجة من ذلك:هي أنّ الموثقة لا تدل على بدلية إدراك ركعة واحدة في الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه على الاطلاق،بل تدل على بدلية ذلك عنه لخصوص المضطر وغير المتمكن مطلقاً،وبما أنّ في المقام يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه،فلا يكون مشمولاً لها،فإذن يتعين ما ذكرناه وهو تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على بقية الأجزاء أو الشرائط في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما،ولا يفرق في ذلك بين القول بالتعارض في هذه الموارد والقول بالتزاحم فيها،لفرض أنّ هذا التقديم غير مستند إلى إعمال قواعد هذا الباب أو ذاك،بل هو بملاك آخر كما عرفت،ولا يفرق فيه بين القولين أصلاً.
فما أفاده (قدس سره) من أ نّه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد الآخر،لا يمكن المساعدة عليه.
ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الأدلة المتقدمة لا تدل على ما ذكرناه،
وأ نّه لا يستفاد من مجموعها ذلك،فإذن على القول بالتعارض في تلك الموارد تقع المعارضة بين الدليل الدال على وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت، والدليل الدال على وجوب ذلك القيد المزاحم له،فيرجع إلى قواعد بابها.
ولكن قد ذكرنا في محلّه 1أنّ التعارض إذا كان بين إطلاق الكتاب وإطلاق غيره،فيقدّم إطلاق الكتاب عليه،وذلك لما استظهرناه من شمول الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة ما إذا كانت المخالفة بين إطلاقه وإطلاق غيره على نحو العموم والخصوص من وجه،فلا تختص الروايات بالمخالفة بينهما على وجه التباين،أو المخالفة بين العامين منهما على نحو العموم والخصوص من وجه،بل تعمّ المخالفة بينهما على نحو الاطلاق،بأن يكون إطلاق أحدهما مخالفاً لاطلاق الآخر،وبما أنّ فيما نحن فيه تقع المعارضة بين إطلاق الكتاب وهو قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» 2وإطلاق غيره،وهو أدلة سائر الأجزاء أو الشرائط،فيقدّم إطلاق الكتاب عليه.
فالنتيجة:هي تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على إدراك جزء أو شرط آخر.
وعلى القول بالتزاحم فيها تقع المزاحمة بينهما،أي بين وجوب هذا ووجوب ذاك،فيرجع إلى مرجحاته من الأهمّية والأسبقية ونحوهما.
أمّا الأهمّية،فالظاهر أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز أنّ وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت أهم من إدراك هذا القيد،لما عرفت من أ نّه إذا دار الأمر بين
سقوط جزء أو شرط وسقوط المرتبة الاختيارية من الركن،فلا يمكن الحكم بتقديم تلك المرتبة عليه،بدعوى كونها أهم منه،ضرورة أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ذلك،ولا دليل على كونها أهم منه،والأهم إنّما هو طبيعي الركن الجامع بين جميع المراتب،لا كل مرتبة منه،وفي المقام الركن هو طبيعي الوقت الجامع بين البعض والتمام،وأمّا تمامه فهو مرتبته الاختيارية،فلا دليل على كون تلك المرتبة أهم من الجزء أو الشرط الآخر،والأهم إنّما هو الجامع بينها وبين غيرها من المراتب.
وأمّا الأسبقية،فلا مانع من الترجيح بها في أمثال المقام،وذلك لما تقدّم 1من أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره،فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،والمفروض أنّ ما نحن فيه كذلك،فإذن لو دار الأمر بين إدراك جزء سابق كفاتحة الكتاب مثلاً،وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت،بأن لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما،فلو أتى بفاتحة الكتاب فلا يتمكن من إدراك تلك الركعة في الوقت،ففي مثله لا مانع من تقديم فاتحة الكتاب عليه من جهة سبقها زماناً،وقد عرفت أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره في مقام المزاحمة في أمثال المقام أيضاً،وكذا إذا دار الأمر بين تطهير البدن أو الثوب مثلاً وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت،أو بين الطهارة المائية وإدراك تلك الركعة فيه،بحيث لو غسل ثوبه أو بدنه،أو لو توضأ أو اغتسل فلا يتمكن من إدراكها في الوقت،فيقدّم الصلاة في البدن أو الثوب الطاهر عليه،لما عرفت من أنّ الأسبق زماناً يتقدّم على غيره،وكذا الصلاة مع الطهارة المائية.
نعم،إذا لم يكن القيد المزاحم له سابقاً عليه زماناً،كما لو دار الأمر بين
التسبيحات الأربع والأذكار الواجبة في الركعة الأخيرة،وبين إدراك تلك الركعة في الوقت،بحيث لو أتى بالاُولى فقد فات عنه وقتها،ولا يتمكن من إدراكها فيه،ففي مثله لا وجه لتقديمها عليه،كما هو واضح.فإذن ما أفاده (قدس سره) من سقوط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد المزاحم له لا يتم على إطلاقه كما عرفت.
وأمّا الفرع الخامس: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط الأجزاء وسقوط الشرائط،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه تسقط الشرائط لتأخر رتبتها عن الأجزاء.
أقول: إنّ الشرط بمعنى ما تقيد الواجب به وإن كان متأخراً عنه رتبةً، ضرورة أنّ تقيد شيء بشيء فرع ثبوته،إلّاأ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا أثر للتقدّم أو التأخر الرتبي في باب الأحكام الشرعية أصلاً،فانّها تتعلق بالموجودات الزمانية لا بالرتب العقلية،بل لو تعلقت بها فأيضاً لا يكون الأسبق رتبة كالأسبق زماناً مقدّماً على غيره في مقام المزاحمة،لأنّ ملاك تقديم الأسبق على غيره-وهو كون التكليف المتعلق به فعلياً دون التكليف المتعلق بغيره-غير موجود هنا،لفرض أنّ التكليف المتعلق بالمتقدم والمتأخر الرتبيين كليهما فعلي في زمان واحد،فلا موجب عندئذ لتقديم أحدهما على الآخر،كما هو واضح.
وأمّا اعتبار شيء شرطاً فلا يكون متأخراً عن اعتبار شيء جزءاً ومتفرعاً على ثبوته.
نعم،اعتبار الجميع متأخر عن اعتبار الأركان ومتفرع على ثبوته كما سبق.
وأمّا اعتبار الشرطية بالاضافة إلى اعتبار الجزئية فلا تقدّم ولا تأخّر بينهما،بل هما في عرض واحد،والسر فيه ما تقدّم من أنّ الصلاة اسم للأركان،والبقية من الأجزاء والشرائط قد اعتبرت فيها بأدلتها الخاصة في ظرف متأخر عنها،
ولذا لا تسقط الأركان بسقوطها،وليست حال الشرائط بالاضافة إلى الأجزاء كحالها بالاضافة إلى الأركان،ومن هنا تسقط الشرائط بسقوط الأركان،ولا تسقط بسقوط سائر الأجزاء.
فما ذكره (قدس سره) من كون الشرائط متأخرة عن الأجزاء يبتني على نقطة واحدة،وهي كون الصلاة اسماً لجميع الأجزاء فقط،والشرائط جميعاً خارجة عنها وقد اعتبرت فيها،فعندئذ لا محالة يكون اعتبارها في ظرف متأخر عن اعتبار تلك ومتفرّعاً عليه،إلّاأ نّك عرفت أنّ تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع،وأنّ الصلاة موضوعة للأركان فقط،والبقية جميعاً خارجة عن حقيقتها ومعتبرة فيها بدليل خارجي،من دون فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط أصلاً،فلا يكون اعتبارها متفرّعاً على اعتبار الأجزاء،بل هو في عرض اعتبارها،غاية الأمر اعتبار الأجزاء في الأركان بنحو الجزئية واعتبارها فيها بنحو القيدية.
فإذن لا وجه لما أفاده (قدس سره) من تقديم الأجزاء على الشرائط أصلاً، بل لا بدّ على هذا القول-أي القول بالتزاحم-من الرجوع إلى مرجحاته من الأهمّية والأسبقية،فما كان أهم يتقدّم على غيره،فلا فرق بين كونه جزءاً أو شرطاً،وكذا ما كان سابقاً زماناً يتقدّم على غيره ولو كان شرطاً،مثلاً الطهارة المائية من جهة السبق الزماني تتقدّم على فاتحة الكتاب مثلاً أو على الركوع الاختياري أو نحو ذلك في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، وكذا طهارة البدن أو الثوب تتقدّم عليها بعين ذلك المرجّح والملاك.
وأمّا على القول بالتعارض فيها،فإن كان التعارض بين دليلي الجزء والشرط بالعموم،فيرجع إلى مرجّحات الباب من موافقة الكتاب أو السنّة ومخالفة العامة،إلّاإذا كان أحدهما من الكتاب أو السنّة فيقدّم على الآخر،
وأمّا إذا كان التعارض بينهما بالاطلاق كما هو الغالب،فإن كان أحدهما من الكتاب أو السنّة والآخر من غيره،فيقدّم الأوّل على الثاني على بيان تقدّم، وإلّا فيسقط كلا الاطلاقين معاً فيرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك،فالنتيجة هي اعتبار أحدهما،وقد سبق الكلام من هذه الناحية بشكل واضح فلاحظ 1.
وأمّا الفرع السادس: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده،كما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الساتر في الصلاة وسقوط قيده وهو الطهارة،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط قيده،لتأخر رتبته.
أقول: ينبغي لنا أن نستعرض هذا المورد وما شاكله على نحو ضابط كلّي، بيان ذلك:هو أنّ القيد-سواء أكان قيداً للشرط أو للجزء أو للمرتبة الاختيارية من الركن أو له بتمام مراتبه-لا يخلو من أن يكون مقوّماً للمقيد بحيث ينتفي بانتفائه،وأن يكون غير مقوّم له،مثال الأوّل القيام المتصل بالركوع،فانّه مقوّم للمرتبة الاختيارية منه،مثال الثاني اعتبار الطهارة في الستر،والطمأنينة في الركوع والسجود والأذكار والقراءة وما شاكل ذلك،فانّ شيئاً منها لا ينتفي بانتفاء هذا القيد،فلا ينتفي الستر بانتفاء الطهارة،ولا الركوع والسجود بانتفاء الطمأنينة وهكذا،وبعد ذلك نقول:
أمّا القسم الأوّل، فلا شبهة في أنّ انتفاءه يوجب انتفاء المقيد،فلا وجه لدعوى كون الساقط هو خصوص القيد،ضرورة أ نّه مقوّم له،فكيف يعقل بقاؤه مع انتفائه،كما هو واضح.وعليه فإذا كان المتعذر هو خصوص هذا القيد،كالقيام المتصل بالركوع مثلاً،فلا محالة يسقط المقيد به.وأمّا إذا كان
الأمر دائراً بين سقوطه وسقوط جزء أو شرط آخر أو قيد مقوّم له،فتجري فيه الأقسام المتقدمة بعينها،لفرض أنّ الأمر في هذه الصور في الحقيقة دائر بين سقوط جزء وجزء آخر أو شرط كذلك وهكذا،فلا حاجة إلى الاعادة.
وأمّا القسم الثاني، وهو ما إذا كان القيد غير مقوّم،فلا وجه لسقوط المقيد أصلاً،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ معنى«لا تسقط الصلاة بحال»هو أنّ الأجزاء والشرائط المقدورة للمكلف لاتسقط عنه بسقوط ما هو المتعذر،فيجب عليه الاتيان بهما،والمفروض أنّ المقيد في محل الكلام مقدور له،فلا يسقط بمقتضى ما ذكرناه،والساقط إنّما هو قيده،لتعذره.
وعلى الجملة: فمقتضى القاعدة وإن كان السقوط،إلّاأ نّه بعد ما دلّ الدليل على أنّ الصلاة لا تسقط بحال،فلا وجه لسقوطه أصلاً،ضرورة أنّ المستفاد منه هو أنّ الأجزاء والشرائط الباقية المقدورة لا تسقط بتعذّر قيد من قيودهما.
وعليه ففي الفرع المزبور لا وجه لسقوط أصل الساتر أصلاً،والساقط إنّما هو قيده،وهو كونه طاهراً.وهذا هو وجه عدم سقوط أصل الساتر،لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من التعليل بكون قيده متأخراً عنه رتبة، وذلك لما عرفت من أ نّه لا أثر للتأخر الرتبي ولا لتقدّمه أصلاً،ولا سيّما في المقام كما سبق بشكل واضح فلا نعيد،وكيف كان،فلا إشكال في عدم السقوط، ومن هنا قوّينا في هذا الفرع 2وجوب الصلاة في الثوب المتنجس لا عارياً، على خلاف المشهور.هذا مضافاً إلى أ نّه مقتضى النصوص الواردة في المقام، وتمام الكلام في محلّه.
وأمّا الفرع السابع: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد اعتبر في الركن، وسقوط قيد اعتبر في غيره،كما إذا دار الأمر بين سقوط الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن وسقوطها في الأذكار أو القراءة،أو دار الأمر بين سقوط القيام حال التكبيرة وسقوطه حال القراءة وهكذا،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط قيد غير الركن.
أقول: قد ظهر فساده مما تقدّم،وبيان وجه الظهور:هو أ نّه على القول بالتعارض في أمثال هذه الموارد يرجع إلى قواعده،وبما أ نّه لا ترجيح في البين فالمتعيّن هو التخيير في المقام وقيدية الجامع،لدفع اعتبار خصوصية كل منهما بأصالة البراءة.
وعلى القول بالتزاحم فيها المرجع هو مرجحاته من الأهمّية والأسبقية.
والأهمّية مفقودة في المقام،ضرورة أنّ وجوب الطمأنينة في المرتبة الاختيارية من الركن ليس أهم من وجوبها في الأذكار أو القراءة وما شاكل ذلك،لما عرفت من أنّ نفس تلك المرتبة ليست أهم من تلك الأجزاء،فضلاً عن قيدها غير المقوّم لها،فانّ الأهم إنّما هو الركن بعرضه العريض لا بكل مرتبته.مع أ نّه لو سلّمنا أنّ تلك المرتبة أهم منها،إلّاأنّ ذلك لا يلازم أن يكون قيدها المزبور أهم من قيد تلك الأجزاء،كما هو واضح.
وأمّا الأسبقية،فإن كانت موجودة فلا بأس بالترجيح بها في هذه الموارد وعليه فتتقدّم الطمأنينة في حال القراءة على الطمأنينة في حال الركوع من جهة سبقها عليها زماناً،وكذا يتقدّم القيام حال التكبيرة على القيام حال القراءة،بل قد ذكرنا أنّ تقديم القيام في الجزء السابق على القيام في الجزء اللّاحق مقتضى النص الخاص كما سبق 1،فلا يحتاج إلى إعمال قواعد باب التزاحم ومرجحاته.
وأمّا الفرع الثامن: وهو ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال القراءة،فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يسقط القيام حال القراءة، وعلّل ذلك بكون القيام قبل الركوع بنفسه ركناً ومقوّماً للركوع،فيتقدّم على القيام فيها لا محالة،ولذا ذكر أ نّه يقدّم القيام قبل الركوع على القيام في حال التكبيرة،فانّه فيها شرط وفي الركوع مقوّم.
أقول: ما أفاده (قدس سره) بناءً على وجهة نظره من أنّ القيام المتصل بالركوع ركن بنفسه متين جداً،بمعنى أ نّه لا بدّ من تقديمه على غيره،لفرض أ نّه ليس له مرتبة اخرى لينتقل الأمر من مرتبته الاختيارية إلى تلك المرتبة، بل هو بعنوانه ركن،وقد ذكرنا 1أ نّه إذا دار الأمر بين سقوط ركن رأساً وسقوط قيد آخر مهما كان لونه يسقط ذلك القيد لا محالة،ضرورة أنّ في صورة العكس لا صلاة ليدل على عدم سقوطها رواية أو اجماع.
ولكن هذا المبنى فاسد جداً،وقد حققنا في محلّه 2أنّ القيام المتصل بالركوع ليس بركن،وأنّ الأركان منحصرة بالركوع والسجود والطهور والتكبيرة والوقت،وعليه فمجرد كونه مقوّماً للمرتبة الاختيارية من الركن لا يكون موجباً لتقديمه على غيره أصلاً.أمّا على القول بالتعارض بين دليله ودليل غيره فواضح،ضرورة أ نّه على هذا لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض وأحكامه على الشكل الذي تقدّم.وأمّا على القول بالتزاحم فلا نحرز أنّ القيام
المتصل بالركوع أهم من القيام حال القراءة أو القيام حال التكبيرة ليحكم بتقديمه عليه،بل الأمر على هذا القول بالعكس،لما ذكرناه من أنّ الأسبق زماناً في أمثال هذه الموارد مرجح،وبما أنّ القيام حال التكبيرة أو القيام حال القراءة أسبق زماناً من القيام المتصل بالركوع،فيتقدّم عليه لا محالة،بل قد عرفت أنّ ذلك مقتضى النص الخاص،فلا يحتاج إلى إعمال مرجح أصلاً.
الاُولى: أنّ الفرق بين التزاحم في الملاكات والتزاحم في الأحكام من وجهين:
الأوّل:أنّ الترجيح في التزاحم بين الملاكات بيد المولى،وليس من وظيفة العبد في شيء،ولو علم بأهمّية الملاك في أحد فعلين دون الآخر،فان وظيفته امتثال الحكم المجعول من قبل المولى.هذا مضافاً إلى أ نّه لا طريق له إلى الملاك.وأمّا الترجيح في التزاحم بين الأحكام فهو من ظيفة العبد لا غير.
الثاني:أنّ مقتضى القاعدة في التزاحم بين الأحكام التخيير،وأمّا في التزاحم بين الملاكات فلا يعقل فيه التخيير،ضرورة أ نّه لا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعل الحكم على طبق ذاك،لفرض أنّ الملاكين متزاحمان فلايصلح شيء منهما لأن يكون منشأً لجعل حكم شرعي،فانّ الملاك المزاحم لا يصلح لذلك.
الثانية: أنّ التنافي بين الحكمين المتزاحمين إنّما هو في مقام الامتثال الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الخارج اتفاقاً،ولا تنافي بينهما بالذات أبداً،لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى،وهذا بخلاف باب التعارض،فانّ التنافي بين الحكمين في هذا الباب بالذات،وقد ذكرنا أنّ ملاك أحد البابين أجنبي عن ملاك الباب الآخر بالكلّية.
الثالثة: أنّ ملاك التعارض والتزاحم لا يختص بوجهة نظر مذهب العدلية،
بل يعم جميع المذاهب والآراء كما تقدّم.
الرابعة: أنّ منشأ التزاحم بين الحكمين بجميع أشكاله إنّما هو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال،وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التزاحم بين الحكمين قد ينشأ من جهة اخرى،لا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما،فقد تقدّم أ نّه غير داخل في باب التزاحم أصلاً،بل هو داخل في باب التعارض.
الخامسة: أنّ مقتضى القاعدة في مسألة التعارض هو تساقط الدليلين المتعارضين عن الحجية والاعتبار.
السادسة: أنّ مرجحات هذه المسألة تنحصر بموافقة الكتاب أو السنّة وبمخالفة العامة،وليس غيرهما بمرجح،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما.ومن ناحية ثالثة:
أنّ المراد بالمخالفة للكتاب أو السنّة في روايات الترجيح ليس المخالفة على وجه التباين أو العموم من وجه،ضرورة أنّ المخالفة على هذا الشكل لم تصدر عنهم (عليهم السلام) أبداً،بل المراد منها المخالفة على نحو العموم والخصوص المطلق.
السابعة: أنّ مقتضى القاعدة في التزاحم بين الحكمين هو التخيير،غاية الأمر على القول بجواز الترتب التخيير عقلي،فانّه نتيجة اشتراط التكليف من الأوّل بالقدرة وليس أمراً حادثاً،وعلى القول بعدم جوازه التخيير شرعي، بمعنى أنّ الشارع قد حكم بوجوب أحدهما في هذا الحال كما سبق.
الثامنة: قد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ ما لا بدل له يتقدّم على ما له بدل في مقام المزاحمة،وطبّق هذه الكبرى على فروع ثلاثة:1-أنّ الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدّم التعييني عليه وإن كان
الواجب التخييري أهم منه.2-ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في تطهير البدن أو في الوضوء أو الغسل،وبما أنّ للثاني بدلاً فيقدّم الأوّل عليه.3-ما إذا دار الأمر بين إدراك ركعة في الوقت مع الطهارة المائية وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية فيقدّم الثاني على الأوّل باعتبار أنّ له بدلاً.
ولكن ناقشنا في جميع هذه الفروع،وأ نّه ليس شيء منها داخلاً في تلك الكبرى.أمّا الأوّل:فهو ليس من باب التزاحم في شيء،لقدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معاً،ومعه لا مزاحمة بينهما أصلاً.وأمّا الثاني:فلفرض أنّ لكل منهما بدلاً،فكما أنّ للصلاة مع الطهارة المائية بدلاً،فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب.هذا مضافاً إلى ما ذكرناه 1من أ نّه لا يعقل التزاحم بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط لواجب واحد كما تقدّم.وأمّا الثالث:
فيرد عليه عين ما أوردناه من الايرادين على الفرع الثاني.
ولكن مع ذلك يمكن الحكم بتقديم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية بملاك آخر،وهو أ نّا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» 2بضميمة الروايات 3الواردة في تفسيره إلى قوله تعالى: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ…» إلخ 4،فالنتيجة هي أنّ المكلف إذا تمكن في الوقت من استعمال الماء فوظيفته الوضوء أو الغسل،وإن لم يتمكن من استعماله
فوظيفته التيمم وإتيان الصلاة به،كما سبق.وقد تحصّل من ذلك أنّ ما أفاده (قدس سره) من الكبرى،وهي تقديم ما ليس له بدل على ما له بدل متين جداً،إلّاأ نّها لا تنطبق على شيء من تلك الفروع.
التاسعة: أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلاً،فيتقدّم ما هو المشروط بالقدرة عقلاً على ما هو المشروط بها شرعاً،من دون فرق بين أن يكون متقدماً عليه زماناً أو متقارناً معه أو متأخراً عنه.
العاشرة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد أنكر جريان الترتب فيما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة عقلاً والآخر مشروطاً بها شرعاً،بعد ما سلّم تقديم الأوّل على الثاني،وقد ذكرنا أنّ ما أفاده (قدس سره) يرتكز على أصل خاطئ،وهو توهم أنّ الترتب إنّما يجري فيما إذا احرز أنّ في كل من المتزاحمين ملاكاً في هذا الحال،وفي مثل المقام بما أ نّه لا يمكن إحراز أنّ ما هو مشروط بالقدرة شرعاً واجد للملاك،فلا يمكن إثبات الأمر له بالترتب.
ولكنّه توهّم فاسد،والوجه فيه هو أنّ جريان الترتب في موردٍ لا يتوقف على إحراز الملاك فيه،لعدم الطريق إليه أصلاً مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، بل ملاك جريانه هو أ نّه لا يلزم من اجتماع الأمرين على نحو الترتب في زمان واحد طلب الضدّين،وعليه فالمتعيّن هو رفع اليد عن إطلاق كليهما في فرض التساوي،وعن إطلاق أحدهما في فرض كون الآخر أهم.
الحادية عشرة: أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً يتقدّم ما هو أسبق زماناً على غيره،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ السبق الزماني إنّما يكون من المرجحات فيهما خاصة،لا فيما كان مشروطاً بالقدرة عقلاً،فانّه لا أثر للسبق الزماني فيه أصلاً.
الثانية عشرة: أنّ التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر لايكون من صغريات التزاحم بين الواجبين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،فانّ كونه من صغريات تلك الكبرى يبتني على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً كما هو المشهور،ولكن قد ذكرنا أنّ هذا التفسير خاطئ بحسب الروايات،فانّ الاستطاعة قد فسّرت فيها بالزاد الكافي لحجه ولقوت عياله إلى زمان الرجوع،والراحلة مع أمن الطريق.
الثالثة عشرة: أنّ وجوب النذر لا يكون مقدّماً على وجوب الحج زماناً، سواء أقلنا بامكان الوجوب التعليقي أو استحالته،والمقدّم إنّما هو سببه ولا عبرة به،فإذن لا وجه لتقديم وجوب النذر على وجوب الحج،وإن قلنا بكونه مشروطاً بالقدرة شرعاً.
الرابعة عشرة: أنّ اشتراط وجوب النذر وما شاكله بالقدرة شرعاً مستفاد من نفس الروايات الدالة على عدم نفوذ ذلك فيما إذا كان مخالفاً للكتاب أو السنّة.
الخامسة عشرة: أنّ الواجبات المجعولة في الشريعة المقدّسة بالعناوين الثانوية كالنذر والشرط في ضمن عقد والعهد واليمين وما شابه ذلك،لا تصلح أن تزاحم الواجبات المجعولة فيها بالعناوين الأوّلية كالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك.
السادسة عشرة: أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً إذا كانا عرضيين،فيجري فيهما ما يجري في المتزاحمين العرضيين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً،من جريان الترتب فيهما والترجيح بالأهمّية أو احتمالها،وكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً..
السابعة عشرة: أنّ الواجبين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً
بالقدرة عقلاً،فإن كان أحدهما أهم من الآخر فلا إشكال في تقديمه على غيره وإن كان متأخراً عنه زماناً،وكذا إذا كان محتمل الأهمّية من جهة أنّ إطلاق الطرف الآخر ساقط يقيناً،وأمّا إطلاق هذا الطرف فسقوطه مشكوك فيه، فنأخذ به وإن كانا متساويين فالحكم فيهما التخيير،بمعنى تقييد وجوب كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر.وأمّا بناءً على عدم إمكان الترتب فيدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في مقام الامتثال،وقد ذكرنا أنّ المرجع فيه التعيين.نعم،إذا كان الشك فيهما في مقام الجعل بأن كان المجعول غير معلوم،فتجري أصالة البراءة عن احتمال التعيين.
الثامنة عشرة: أنّ إحراز كون الواجب المتأخر ذو ملاك ملزم في ظرفه بناءً على وجهة نظرنا من إمكان الواجب التعليقي واضح،فانّ ثبوت الوجوب فعلاً كاشف عنه لا محالة،وأمّا بناءً على عدم إمكانه،فإن علم من الخارج أ نّه واجد للملاك الملزم في ظرفه فهو،وإلّا فلا نحكم بتقديمه على الواجب الفعلي، لعدم إحراز أ نّه ذو ملاك ملزم في زمانه.
التاسعة عشرة: أنّ القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر إن كانت قدرة خاصة،وهي القدرة في ظرف العمل،فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي وإن كان أهم منه،بل الأمر بالعكس،لفرض عدم وجوب حفظ القدرة له في ظرفه،وقد رتّبنا على تلك الكبرى عدّة من الفروع التي تقدّمت.
العشرون: أ نّه لا فرق في جريان الترتب بين الواجبين العرضيين،والواجبين الطوليين،فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد أنكر جريانه في الواجبين الطوليين.
الحادية والعشرون: أنّ موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين جزأين أو شرطين أو جزء وشرط،داخلة في كبرى باب التعارض،فيرجع إلى قواعد
ذلك الباب.
الثانية والعشرون: أنّ إطلاق الكتاب يتقدّم على إطلاق غيره في مقام المعارضة إذا لم يكن إطلاق غيره قطعياً،كما إذا كان الدليل الدال على أحد الجزأين أو الشرطين إطلاقاً من الكتاب،والدليل الدال على الآخر إطلاقاً من غيره،فيتقدّم الأوّل على الثاني في هذه الموارد،أعني موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما،بناءً على القول بالتعارض فيها دون القول بالتزاحم.
الثالثة والعشرون: أنّ موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما تتصور على صور:
1- عدم تمكنه من الجمع بين ركنين،فيدور الأمر بين سقوط هذا الركن وسقوط الركن الآخر،وقد عرفت أنّ المتعيّن في هذه الصورة سقوط الصلاة، ولا موضوع لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
2- عدم تمكنه من الجمع بين ركن بتمام مراتبه وبين مرتبة اختيارية لآخر، وقد سبق أنّ المتعيّن في هذه الصورة سقوط تلك المرتبة.
3- عدم تمكنه من الجمع بين مرتبة اختيارية لركن ومرتبة اختيارية لآخر.
وقد تقدّم أ نّه تقع المعارضة بين دليليهما،فالمرجع هو قواعد بابها.
4- عدم تمكنه من الجمع بين المرتبة الاختيارية من الركن وبين سائر الأجزاء أو الشرائط.وقد عرفت أنّ في هذه الصورة أيضاً تقع المعارضة بين دليليهما،فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحاتها على تفصيل قد تقدّم.
5- عدم تمكنه من الجمع بين ركن بعرضه العريض وبين بقية الأجزاء أو الشرائط.وقد سبق أنّ في هذه الصورة لا بدّ من تقديم الركن عليها من جهة ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال.
6- عدم تمكنه من الجمع بين الجزء والشرط.وقد عرفت أنّ الصحيح في هذه الصورة أيضاً وقوع المعارضة بين دليليهما،لا تقدّم الجزء على الشرط.
الرابعة والعشرون: أ نّه إذا تعذّر قيد شرط أو جزء،فإن كان مقوّماً له، فسقوطه لا محالة يوجب سقوط ذلك الشرط أو الجزء،وإن لم يكن مقوّماً له، فسقوطه لا يوجب سقوط ذلك أصلاً،فإذن الساقط هو خصوص القيد دون المقيد.
الخامسة والعشرون: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من تطبيق كبرى باب التزاحم على تلك الفروع غير تام.وعلى تقدير التنزّل وتسليمه،فما أفاده (قدس سره) من المرجحات لتقديم بعض الأجزاء أو الشرائط على بعضها الآخر لا يتم على إطلاقه،كما سبق بصورة مفصّلة.
تذييل
وهو أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1قد قسّم التزاحم إلى سبعة أقسام:
الأوّل: التزاحم بين الحكمين من غير ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال.وقد تقدّم الكلام فيه مفصّلاً،وقلنا هناك إنّه ليس من التزاحم في شيء،بل هو من التعارض فلاحظ.
الثاني: التزاحم في الملاكات بعضها مع بعضها الآخر،كأن يكون في الفعل جهة مصلحة تقتضي إيجابه،وجهة مفسدة تقتضي حرمته وهكذا.وقد سبق الكلام فيه أيضاً 2،وذكرنا هناك أنّ هذا النوع من التزاحم خارج عن محل
الكلام بالكلّية،وأنّ الأمر فيه بيد المولى،وعليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد،فيجعل الحكم على طبق ما هو الأقوى والأهم منها دون غيره،وأمّا إذا لم يكن أحدهما أقوى من الآخر بل كانا متساويين،فليس الحكم في هذه الصورة التخيير،كما هو الحال في التزاحم بين الأحكام بعضها مع بعضها الآخر،ضرورة أنّ التخيير فيها غير معقول،فلا معنى لتخيير المولى بين جعل الحكم على طبق هذا وجعله على طبق ذاك،فانّ جعله على طبق كليهما غير معقول،وعلى وفق أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح،مع أ نّه بلا مقتض،فإذن يسقطان معاً،لأنّ الملاك المزاحم بالملاك الآخر لا أثر له أصلاً،فعندئذ يمكن للمولى أن يجعل له الاباحة،وكيف كان فهذا التزاحم خارج عما نحن فيه،ولذا لا يمكن البحث عن جريان الترتب فيه وعدم جريانه،كما أنّ في فرض التساوي بينهما ليس الحكم فيه التخيير.مع أ نّه مقتضى القاعدة في التزاحم بين حكمين مجعولين،وفي فرض عدم التساوي الترجيح يكون بيد المولى دون العبد،وهذا بخلاف التزاحم المبحوث عنه هنا.
الثالث: التزاحم الناشئ من عدم قدرة المكلف اتفاقاً،كما هو الحال في التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر،فيما إذا لم يكن المكلف قادراً على امتثال كليهما معاً.
الرابع: التزاحم الناشئ من جهة وقوع المضادة بين الواجبين اتفاقاً،فانّ المضادة بينهما إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليليهما،لوقوع المصادمة عندئذ في مرحلة الجعل،لا في مرحلة الامتثال والفعلية.
الخامس: التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان
متعددتان،ولم نقل بسراية الحكم من إحداهما إلى الاُخرى،بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها الخارجية،فتقع المزاحمة بينهما،وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة،أو كانت ماهيتان متعددتان،ولكن قلنا بالسراية،فعندئذ تقع المعارضة بين دليليهما.
السادس: التزاحم في موارد التلازم الاتفاقي بين الفعلين،كما إذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة،كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقاً،فإذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة تقع المزاحمة بينهما،وهذا بخلاف ما إذا كان التلازم بينهما دائمياً،فانّه عندئذ يدخل في باب التعارض.
السابع: التزاحم بين الحرام والواجب فيما إذا كان الحرام مقدّمة له كما إذا توقف إنقاذ الغريق مثلاً على التصرف في مال الغير،هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائمياً وإلّا فيدخل في باب التعارض.
ولكن قد أشرنا فيما تقدّم 1أنّ تقسيمه (قدس سره) التزاحم في موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين المتزاحمين إلى هذه الأقسام غير صحيح.
أمّا أوّلاً:فلأ نّه لا أثر لهذا التقسيم أصلاً،ولا تترتب عليه أيّة ثمرة،وإلّا لأمكن تقسيمه إلى أزيد من ذلك كما سبق.
وأمّا ثانياً:فلأنّ أصل هذا التقسيم غير صحيح،وذلك لأنّ القسم الثاني وهو ما إذا كان التزاحم ناشئاً عن المضادة بين الواجبين اتفاقاً داخل في القسم الأوّل،وهو ما إذا كان التزاحم فيه ناشئاً عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما اتفاقاً،بداهة أنّ التضاد بين فعلين من باب الاتفاق غير معقول إلّامن ناحية عدم قدرة المكلف عليهما معاً،ولذا لا مضادة بينهما بالاضافة إلى من
كان قادراً عليهما كذلك،فإذن لا معنى لجعله قسماً آخر في مقابل القسم الأوّل.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليل حكميهما،فهو إنّما يتم في الضدّين اللذين لا ثالث لهما،وأمّا الضدّين اللذين لهما ثالث فلا يتم،وقد تقدّم ذلك بشكل واضح فلا نعيد.
وأمّا القسم الثالث:وهو التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي على القول بالجواز مع فرض عدم المندوحة في البين،فهو داخل في القسم الرابع،وهو ما إذا كان التزاحم من جهة التلازم الاتفاقي بين الفعلين في الخارج،ضرورة أنّ التزاحم في موارد الاجتماع على هذا القول أيضاً من ناحية التلازم بين متعلق الأمر ومتعلق النهي في الوجود الخارجي،فإذن لا معنى لجعله قسماً على حدة.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الصحيح تقسيم التزاحم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل:ما إذا كان التزاحم ناشئاً من عدم قدرة المكلف اتفاقاً.
الثاني:ما إذا كان الحرام مقدّمة لواجب.
الثالث:ما إذا كان ناشئاً من التلازم الاتفاقي بين فعلين في الخارج.
أمّا القسم الأوّل: فقد تقدّم الكلام فيه بصورة مفصّلة 1.
بقي شيء قد تعرّض له شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2وهو أنّ التزاحم إذا كان بين واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً،فإن لم يكن الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يتقدّم الواجب المتقدم على المتأخر،فلا وجه للتخيير أصلاً.
ولكن قد ذكرنا سابقاً أ نّه لا وجه لما افاده (قدس سره) هنا،بل المتعيّن فيه
التخيير،فانّ التقدم زماناً إنّما يكون مرجحاً إذا كان كل منهما مشروطاً بالقدرة شرعاً،لا فيما إذا كان مشروطاً بها عقلاً،فانّه لا فرق فيه بين أن يكون التزاحم بين واجبين عرضيين أو طوليين أصلاً،وأمّا إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذكر (قدس سره) 1أنّ في هذه الصورة تقع المزاحمة بين وجوب الواجب المتقدم ووجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر في ظرفه،وبما أنّ الثاني أهم من الأوّل فيتقدّم عليه،وهذا ظاهر.
وإنّما الكلام والاشكال في أ نّه هل يمكن الالتزام بالترتب في هذا الفرض، أعني جواز تعلق الأمر بالواجب المتقدم مترتباً على عصيان الأمر المتعلق بالواجب المتأخر أم لا ؟ وجهان بل قولان:
فقد اختار (قدس سره) 2القول الثاني،وأفاد في وجه ذلك [ اموراً ]:
[ الأوّل ] هو أنّ القول بامكان الترتب هنا يبتني على جواز الشرط المتأخر، بأن يكون العصيان المتأخر شرطاً لتعلق الأمر بالمتقدم،وقد ذكرنا استحالته وأ نّه غير معقول. ودعوى أ نّه لا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب،كما التزمنا بذلك في اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية كالصلاة وما شاكلها،وعليه فلا يلزم الالتزام بالشرط المتأخر يدفعها بأنّ جعل عنوان التعقب شرطاً يحتاج إلى قيام دليل عليه،ولا دليل في المقام.وأمّا في الواجبات التدريجية فقد دلّ الدليل على ذلك.
الثاني: أنّ العمدة في جواز تعلق الأمر بالضدّين على نحو الترتب هي أنّ الواجب المهم مقدور للمكلف في ظرف عصيان الأمر بالواجب الأهم،وقابل
لتعلق التكليف به عندئذ،من دون أن يستلزم ذلك محذور طلب الجمع كما عرفت،نعم المهم إنّما لا يكون مقدوراً في ظرف امتثال الأمر بالأهم،وهذا لا يضر بعد ما كان مقدوراً في ظرف عصيانه.وهذا الوجه غير جارٍ فيما نحن فيه،ضرورة أنّ عصيان الواجب المتأخر في ظرفه لا يوجب قدرة المكلف على الواجب المتقدم وجواز صرفها في امتثاله،والمفروض أنّ الخطاب بحفظ القدرة على الواجب المتأخر فعلي من ناحية،وأهم من ناحية اخرى،ومن المعلوم أ نّه مع هذا الحال مانع من صرف القدرة في الواجب المتقدم،ولا يكون المكلف في هذا الحال قادراً عليه،لأنّه معجّز عنه،فلا يعقل تعلق الأمر به عندئذ، لاستلزامه طلب المحال،لفرض أ نّه مأمور فعلاً بحفظ القدرة في هذا الحال،فلو كان مع ذلك مأموراً باتيان الواجب المتقدم،للزم المحذور المزبور.
وعلى الجملة: فملاك إمكان الترتب-وهو كون المهم مقدوراً في ظرف عصيان الأهم-غير موجود هنا،وذلك لأنّه في ظرف تحقق عصيان الواجب المتأخر ووجوده ينتفي الواجب المتقدم بانتفاء موضوعه،فلا يعقل كونه مقدوراً عندئذ،ضرورة أنّ القدرة لا تتعلق بأمر متقدم منصرم زمانه،وأمّا في ظرف الواجب المتقدم وقبل مجيء زمان عصيان الواجب المتأخر فهو مأمور بحفظ القدرة له فعلاً،ومعه-أي مع حفظ القدرة-لا يكون الواجب المتقدم مقدوراً ليكون قابلاً لتعلق الأمر به.
وتخيّل أنّ الشرط إنّما هو العزم والبناء على عصيان المتأخر في ظرفه،لا نفس العصيان،وعليه فلا يلزم المحذور المزبور فاسد، وذلك لأنّ الشرط لو كان هو العزم والبناء على العصيان لا نفسه،للزم طلب الجمع بين الضدّين، لفرض أنّ كلا الأمرين في هذا الآن فعلي،أمّا الأمر بالأهم فلفرض عدم تحقق عصيانه بعد،فلا موجب لسقوطه،وأمّا الأمر بالمهم فلفرض تحقق شرطه وهو العزم والبناء على العصيان.
فقد تحصّل مما ذكرناه أ نّه كما لا يمكن أن يكون عصيان الواجب المتأخر في ظرفه شرطاً،كذلك لا يمكن أن يكون العزم عليه شرطاً.
الثالث: أنّ توهّم كون الشرط لتعلق الأمر بالمتقدم إنّما هو عصيان الأمر بحفظ القدرة للمتأخر،أو العزم على عصيانه،وعلى هذا فلا محذور في البين، وأنّ المحذور إنّما هو على أساس كون الشرط له عصيان الأمر بالمتأخر،لا أصل له أبداً،والوجه فيه،أمّا العزم على عصيانه،فقد عرفت أنّ شرطيته تستلزم طلب الجمع بين الضدّين،ولا يعقل أن يكون شرطاً،لأنّه خلاف مفروض القول بالترتب.وأمّا عصيانه المتحقق باعمال القدرة في غير الأهم فشرطيته غير معقولة،وذلك لأنّ المكلف في ظرف ترك التحفظ بقدرته للواجب المتأخر، لا يخلو أمره من أن يصرفها في المهم أو أن يصرفها في فعل آخر،ضرورة أنّ عصيان الأمر به لا يتحقق إلّابصرفها في أحدهما،وعليه فيستحيل اشتراط الأمر بالمهم به على كلا التقديرين.
أمّا على الأوّل:وهو اشتراطه بالعصيان المتحقق بفعل المهم،فلأ نّه يستلزم اشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج،وهو محال لأنّه طلب الحاصل.
وأمّا على الثاني:وهو اشتراطه بالعصيان المتحقق بفعل آخر،فلأ نّه يستلزم تعلق الأمر بالمحال،لأنّ في فرض صرف المكلف قدرته في فعل آخر يستحيل له الاتيان بالمهم،لفرض أ نّه ليس له إلّاقدرة واحدة،فلو صرف تلك القدرة في غيره،فلا محالة لا يقدر عليه،مع أ نّه لا معنى لاشتراط الأمر بالمهم بصرف القدرة فيما هو أجنبي عن الأهم والمهم معاً.
ونتيجة ما ذكرناه هي أ نّه لا يمكن الترتب في أمثال هذا المورد،بل يتعيّن حفظ القدرة للواجب المتأخر.
وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع.
أمّا ما أفاده أوّلاً من أنّ القول بالترتب هنا يرتكز على القول بجواز الشرط المتأخر وهو محال،فيردّه ما حققناه في بحث الواجب المطلق والمشروط من أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر،وأ نّه بمكان من الامكان،غاية الأمر أنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل،والمفروض أنّ الدليل عليه في المقام موجود، وهو أنّ العقل مستقل بلزوم التحفظ بخطاب المولى بالمقدار الممكن،ولا يجوز رفع اليد عنه بوجه من الوجوه،أي لا عن أصله ولا عن إطلاقه ما لم تقتضه الضرورة.وعليه فإذا وقعت المزاحمة بين تكليفين لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال،لا مناص له من الالتزام بالأخذ بأحدهما معيناً إذا كان واجداً للترجيح كما إذا كان أهم ورفع اليد عن الآخر،ولكن حينئذ يدور الأمر بين أن يرفع اليد عن أصله أو عن إطلاقه،وبما أ نّا قد حققنا إمكان الترتب، وقد ذكرنا أنّ معناه عند التحليل عبارة عن تقييد إطلاق الأمر بالمهم بترك امتثال الأمر بالأهم،وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج،وقد قلنا إنّ هذا التقييد ليس تقييداً حادثاً بحكم العقل،بل هو نتيجة اشتراط التكليف بالقدرة،فلا محالة يكون المرفوع هو إطلاقه لا أصله،ضرورة أنّ رفع اليد عنه عندئذ بلا موجب ومقتض،وهو غير جائز،وهذا معنى الدليل على وقوع هذا الشرط.
أو فقل: إنّ اشتراط التكليف بالمتقدم بعصيان الواجب المتأخر،وعدم الاتيان بمتعلقه على نحو الشرط المتأخر أمر ممكن في نفسه،ولكن وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل،والدليل على وقوعه في المقام هو نفس البناء على إمكان الترتب وجوازه،لما عرفت من أنّ حقيقة الترتب ذلك الاشتراط والتقييد،ولا نعني به غير ذلك،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا أنّ إمكان الترتب يكفي لوقوعه،فلا يحتاج
وقوعه في الخارج إلى دليل خاص،وعليه فيلتزم بوقوع ذلك الاشتراط لا محالة،وهذا واضح.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا استحالة الشرط المتأخر،فلا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب،وذلك لأنّه إذا بنينا على إمكان الترتب وأنّ الساقط إنّما هو إطلاق الخطاب دون أصله،فلا بدّ من التحفظ عليه بحكم العقل بشكل من الأشكال،فإذا فرض انّه لم يمكن تقييد إطلاقه بعصيان التكليف بالمتأخر،فلا مناص من الالتزام بتقييده بعنوان التعقب،أو بالعزم على عصيانه، فما ذكره (قدس سره) من أنّ اشتراط التكليف به يحتاج إلى دليل خاص لا يرجع إلى معنى محصّل،ضرورة أ نّه بعد البناء على أنّ الساقط هو إطلاق الخطاب لا أصله من ناحية،وعدم امكان اشتراطه وتقييده بعصيان التكليف بالمتأخر من ناحية اخرى،لم يكن مناص من الالتزام بتقييده بعنوان التعقب أو العزم على عصيانه،لأنّه المقدار الممكن،ومن المعلوم أنّ هذا لا يحتاج إلى دليل خاص في المقام.
وبكلمة اخرى: أ نّا قد ذكرنا سابقاً أنّ كون أحد الخطابين مشروطاً بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج لم يرد في لسان دليل من الأدلة، لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره،بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين،إلّاعلى هذا الفرض والتقدير، ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما مطلقاً وفي عرض الآخر.وعليه فإذا لم يمكن تقييد إطلاق الخطاب بالمهم بترك امتثال خطاب الأهم وعصيانه من جهة استلزامه جواز الشرط المتأخر-وهو ممتنع على الفرض-يستقل العقل بتقييده بالعزم عليه أو بعنوان التعقب بعين هذا الملاك،وهو أنّ الساقط إطلاقه دون أصله،ضرورة أنّ هذا يقتضي تقييده بشيء ما،ولا فرق بين أن يكون التقييد
بهذا أو بذاك بنظر العقل أبداً،فإذن لا موجب لرفع اليد عن أصل الأمر بالمهم، ضرورة أ نّه بلا مقتضٍ،بل لابدّ من تقييده بشيء كالعزم على المعصية،أو عنوان التعقب بها أو نحو ذلك.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ شرطية العزم تستلزم طلب الجمع بين الضدّين فلا يمكن المساعدة عليه،والوجه فيه هو أنّ ذلك يبتني على نقطة واحدة،وهي أن يكون العزم بحدوثه شرطاً لفعلية الأمر بالمهم،فوقتئذ لا محالة يلزم طلب الجمع بينهما،ضرورة أنّ بعد حدوثه يصير الأمر بالمهم فعلياً ومطلقاً كالأمر بالأهم،فيقتضي كل منهما إيجاد متعلقه في الخارج في عرض الآخر وعلى نحو الاطلاق،وهو معنى طلب الجمع،إلّاأنّ تلك النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع،وذلك لأنّ الشرط ليس هو حدوث العزم آناً ما،بل الشرط هو العزم على المعصية على نحو الدوام والاستمرار،بمعنى أنّ حدوثه شرط لحدوث الأمر بالمهم وبقاؤه شرط لبقائه.
وبكلمة اخرى: أ نّه لا فرق بين كون الأمر بالمهم مشروطاً بالعزم على العصيان أو بنفس العصيان من هذه الناحية أصلاً،لما ذكرناه سابقاً من أنّ الشرط لفعلية الأمر بالمهم ليس حدوث العصيان آناً ما،وإلّا لزم المحذور المزبور وهو طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث وهكذا،لفرض أنّ الأمر بالمهم في هذا الآن ولو مع ارتفاع العصيان فيه باقٍ على حاله،والمفروض أنّ الأمر بالأهم أيضاً موجود في هذا الآن،فإذن يجتمع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان واحد على نحو الاطلاق،وهو غير معقول،فإذن لا فرق بين كون الشرط هو العزم على عصيان الأمر بالأهم أو نفس عصيانه في النقطة المزبورة،فانّ الالتزام بتلك النقطة في شرطية كلا الأمرين يستلزم محذور طلب الجمع،من دون فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.
ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أ نّه كيف التزم بتلك النقطة في شرطية العزم،ولأجلها قال بعدم إمكان كونه شرطاً لاستلزامه المحذور المذكور غافلاً عن أنّ الالتزام بهذه النقطة في شرطية نفس العصيان أيضاً يستلزم ذلك،فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً.
ولكن بما أنّ تلك النقطة خاطئة كما عرفت فلا مانع من الالتزام بكون العزم شرطاً على الشكل المتقدم،ولا يلزم معه طلب الجمع،وذلك لما تقدّم بصورة مفصّلة من أنّ الأمر بالمهم بما أ نّه مشروط بعصيان الأمر بالأهم أو بالعزم على عصيانه،فلا يلزم من اجتماعهما في زمان واحد طلب الجمع،بل هو منافٍ ومضاد له كما سبق.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) ثانياً من أنّ الترتب إنّما يجري فيما إذا كان المهم مقدوراً في ظرف عصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه،وفي المقام بما أنّ الأمر ليس كذلك،فلا يمكن الالتزام بالترتب فيه،فقد ظهر فساده مما ذكرناه من أ نّه لا مانع من الالتزام بكون عصيان الواجب المتأخر في ظرفه شرطاً لوجوب الواجب المتقدم على نحو الشرط المتأخر،بناءً على ما حققناه من إمكانه،غاية الأمر وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل،وفي المقام الدليل على وقوعه موجود،وهو عدم جواز رفع اليد عن أصل التكليف ما دام يمكن التحفظ عليه بنحو من الأنحاء،وهنا يمكن التحفظ عليه على نحو الالتزام بالشرط المتأخر.
ودعوى أنّ المعتبر في جريان الترتب أن يكون المهم مقدوراً في ظرف عصيان الواجب الأهم،وفي المقام بما أ نّه لا يكون مقدوراً في ظرف عصيانه، فلا يجري فيه الترتب.
مدفوعة بأنّ المهم وإن لم يكن مقدوراً في ظرف عصيان الأهم،ضرورة
استحالة تعلق القدرة بأمر متقدم منصرم زمانه،إلّاأ نّه مقدور في ظرفه عقلاً وشرعاً.أمّا عقلاً فواضح،وأمّا شرعاً فلفرض أ نّه في نفسه أمر سائغ ومشروع، وعليه فلا مانع من تعلق الأمر به على تقدير عصيان الأمر بالأهم في ظرفه.
وتخيّل أنّ وجوب حفظ القدرة له معجّز عن الاتيان بالمهم،فلا يكون معه قادراً عليه شرعاً فاسد جداً، وذلك لأنّ وجوب حفظ القدرة له لو كان مانعاً عن تعلق الأمر بالمهم وموجباً لخروجه عن القدرة،لكان وجوب الأهم فيما إذا كان في عرض المهم أيضاً كذلك،ضرورة أنّ الأمر بالأهم لا يسقط بمجرد عصيانه،ولذا قلنا إنّ لازم القول بالترتب هو اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد،وعليه فاذا فرض أنّ وجوب حفظ القدرة للواجب الأهم فيما إذا كان متأخراً عن المهم زماناً مانع عن تعلق الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً، لكان وجوب الأهم فيما إذا كان مقارناً معه زماناً أولى بالمنع والتعجيز عنه،مع أ نّه (قدس سره) 1قد التزم بالترتب في هذا الفرض،أعني ما إذا كان الواجب الأهم مقارناً مع المهم زماناً،وبذلك نعلم أنّ الأمر بالأهم في ظرف عصيانه لا يكون مانعاً عن تعلق الأمر بالمهم ولا يوجب عجز المكلف عنه شرعاً.
والسر في ذلك واضح،وهو أنّ الأمر بالأهم إنّما يمنع عن تعلق الأمر بالمهم إذا كان في عرضه وعلى الاطلاق،لا فيما إذا كان في طوله وعلى نحو الترتب،لما عرفت من عدم التنافي بين مقتضى الأمرين كذلك.وعليه فلا يكون الأمر بالأهم معجّزاً مولوياً عن الاتيان بالمهم على الشكل المزبور،ليكون مانعاً عن تعلق الأمر به.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ العمدة في القول بجواز الترتب هو كون المهم
مقدوراً في ظرف عصيان الأمر بالأهم،إن أراد بذلك أنّ الأمر بالأهم قد سقط في هذا الظرف وعليه فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم،فهو خلاف فرض القول بالترتب،فان لازم هذا القول كما عرفت هو اجتماع كلا الأمرين في زمان واحد، وعدم سقوط الأمر بالأهم بالعصيان،لما تقدّم من أنّ الأمر به مطلق بالاضافة إلى حالتي امتثاله وعصيانه،وحالتي الاتيان بالمهم وعدم إتيانه،فالالتزام بسقوط الأمر بالأهم في ظرف عصيانه والاتيان بالمهم منافٍ للالتزام بالقول بالترتب،ضرورة أنّ تعلق الأمر بالمهم في ظرف سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل الكلام في جواز الترتب وعدم جوازه،كما تقدّم ذلك بصورة مفصّلة، فلاحظ.
وإن أراد أنّ الأمر بالأهم باقٍ في هذا الحال كما هو المفروض ومع ذلك لا مانع من تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب،وأنّ الأمر بالأهم لا يكون مانعاً منه،ولا يوجب عجز المكلف عنه،فنقول:إنّ وجوب حفظ القدرة أيضاً كذلك،بمعنى أ نّه لا يكون مانعاً منه،لفرض أ نّه لا تنافي بين الأمر بالمهم ووجوب حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم في ظرفه على هذا التقدير،أي على تقدير عصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه في زمانه.نعم،لو كان الأمر به في عرضه وعلى نحو الاطلاق لكان مانعاً منه وغير جائز قطعاً.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل أصلاً.
وثانياً:لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الشرط المتأخر غير جائز،إلّاأ نّه لا مانع من الالتزام بكون الشرط لتعلق الأمر بالمهم هو عنوان تعقّبه بعصيان الأهم في ظرفه،أو بالعزم على عصيانه،ضرورة أ نّه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله-دليل وجوب المهم-بالاضافة إلى هذا الحال،أعني حال تعقبه
بعصيان الأهم أو بالعزم عليه،فاللّازم إنّما هو رفع اليد عن إطلاقه بمقدارٍ تقتضيه الضرورة،ومن المعلوم أ نّها لا تقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاقه بالاضافة إلى حال امتثال الواجب الأهم في ظرفه لا مطلقاً.
فالنتيجة هي لزوم التحفظ على أصل الدليل والخطاب ورفع اليد عن إطلاقه، فانّ إطلاقه منشأ التزاحم دون أصله،فرفع اليد عنه بلا موجب،وهو غير جائز.
وأمّا ما ذكره ثالثاً من أنّ الأمر بالمهم لا يمكن أن يكون مشروطاً بعصيان الأمر بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم،لأنّ ترك التحفظ على القدرة له إمّا بصرفها في الواجب المهم،أو بصرفها في شيء آخر،فعلى الأوّل يلزم اشتراط وجوب الشيء بوجوده في الخارج وهو محال،وعلى الثاني يلزم التكليف بالمحال،ضرورة أنّ مع صرف القدرة في غير المهم يستحيل المهم.
فيرد عليه: أنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم بناءً على الالتزام بنقطة واحدة، وهي أن يكون ترك التحفظ على القدرة للواجب المتأخر عين صرفها في الواجب المتقدم المهم،أو صرفها في شيء آخر،فعندئذ يلزم المحذور الذي أفاده (قدس سره) إلّاأنّ تلك النقطة خاطئة جداً وبعيدة عن الواقع بمراحل، وذلك ضرورة أنّ ترك التحفظ على القدرة ليس عين فعل المهم أو فعل آخر، فانّ معنى التحفظ هو إبقاء القدرة على حالها وعدم إعمالها في شيء،وهو ملازم هنا لترك المهم وعدم الاتيان به في الخارج،ومعنى ترك التحفظ بها عدم إبقائها على حالها وهو ملازم في المقام لفعل المهم أو لفعل آخر،لا أ نّه عينه كما هو واضح.
وعليه فلا يلزم من اشتراط وجوب المهم بترك التحفظ اشتراط وجوب الشيء بوجوده وتحققه ليقال إنّه محال،بل الحال هنا عندئذ كالحال في بقية
موارد التزاحم.مثلاً إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصلاة في آخر الوقت ووجوب الازالة،فكما أنّ ترك الصلاة في الخارج ملازم إمّا لفعل الازالة فيه أو لفعل غيرها،فكذلك ترك التحفظ على القدرة ملازم في الخارج إمّا لفعل المهم أو لفعل غيره،فكما أ نّه لا مانع من اشتراط وجوب الازالة بترك الصلاة، فكذلك لا مانع من اشتراط وجوب المهم بترك التحفظ.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ عصيان وجوب حفظ القدرة إمّا أن يتحقق بصرف القدرة في المهم أو بصرفها في فعل آخر،وعلى كلا التقديرين لا يعقل اشتراط الأمر بالمهم به،لا يرجع إلى معنىً صحيح،وذلك لأنّ عصيانه يتحقق بتركه،أي بترك التحفظ،غاية الأمر أ نّه في الخارج ملازم إمّا لفعل المهم أو لفعل غيره،كما هو الحال في بقية موارد التزاحم من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،لا أنّ عصيانه عين فعل المهم في الخارج أو عين فعل آخر،لئلّا يمكن اشتراط وجوبه به،وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية، فإذن لا مانع من الاشتراط المزبور من ناحية ما أفاده (قدس سره).
ولكن يمكن منعه من ناحية اخرى،وهي أنّ وجوب حفظ القدرة ليس وجوباً شرعياً مولوياً،بل وجوبه وجوب عقلي.وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين وجوب المهم،ضرورة أ نّه لا شأن للوجوب العقلي،إلّا إدراكه حفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم،فإذن لا محالة تكون المزاحمة بين وجوب المهم ووجوب الأهم في ظرفه،ومعه يكون وجوب المهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج،ولا معنى لاشتراط وجوبه بعصيان وجوب حفظ القدرة،لما عرفت من أنّ وجوبه عقلي ولا واقع موضوعي له ما عدا إدراك العقل،ولا يكون في مخالفته عصيان.
نعم،لو قلنا باستحالة الشرط المتأخر فلا مانع من الالتزام بكون وجوبه
مشروطاً بترك حفظ القدرة خارجاً،كما أ نّه لا مانع من الالتزام بكونه مشروطاً بعنوان التعقب أو العزم على العصيان.
وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها،فقد تقدّم الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب بصورة مفصّلة 1فلا حاجة إلى الاعادة فلاحظ.
وأمّا القسم الثالث: وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين فعلين متلازمين في الخارج اتفاقاً،كما إذا كان أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقاً، فلا بدّ فيه أيضاً من الرجوع إلى قواعد ومرجحات بابها،فإن كان أحدهما أهم من الآخر فيقدّم عليه،وإن كانا متساويين فيحكم بالتخيير بينهما،ولا إشكال فيه من هذه الناحية أصلاً،وإنّما الكلام فيه من ناحية اخرى،وهي أ نّه هل يمكن الالتزام بالترتب فيه أم لا ؟
فنقول: إنّه لا يمكن الالتزام به أصلاً،والوجه في ذلك واضح،وهو أ نّه لايعقل أن تكون حرمة استدبار الجدي مشروطة بعصيان الأمر باستقبال القبلة وعدم الاتيان بمتعلقه،ضرورة أنّ ترك استدبار الجدي في هذا الحال قهري ومعه لا معنى للنهي عنه،فانّه لغو محض وطلب للحاصل،فلا يصدر من الحكيم، وكذا لا يعقل أن يكون وجوب استقبال القبلة مشروطاً بعصيان النهي عن استدبار الجدي والاتيان بمتعلقه،بداهة أ نّه ضروري الوجود عند عصيان النهي عن الاستدبار،ومعه لا يمكن تعلق الأمر به،لأنّه لغو وطلب للحاصل.
فالنتيجة هي أ نّه لا يمكن الالتزام بالترتب في خصوص هذا الصنف من
المتلازمين،لا من جانب واحد ولا من جانبين،وهذا واضح.
بقي هنا شيء، وهو أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1قد أنكر جريان الترتب في موارد اجتماع الأمر والنهي بناءً على القول بالجواز ووقوع المزاحمة بينهما،وبيان ذلك:هو أ نّه لو قلنا بأنّ التركيب بينهما اتحادي كما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2بدعوى أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون،فتدخل المسألة في كبرى باب التعارض،فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب.
وأمّا إن قلنا بأنّ التركيب بينهما انضمامي،بأن تكون هناك ماهيتان متعددتان ذاتاً وحقيقة،ولكن بنينا على سراية الحكم من إحداهما إلى الاُخرى، فأيضاً تدخل في ذلك الباب،وتقع المعارضة بين دليليهما،فلا بدّ من الرجوع إلى قواعدها.وأمّا إذا بنينا على عدم السراية كما هو الصحيح،فعندئذ إن كانت هناك مندوحة فلا تزاحم أيضاً،لفرض قدرة المكلف على امتثال كلا الحكمين معاً،وأمّا إذا لم تكن مندوحة في البين فتقع المزاحمة بينهما،فإذن لابدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد بابها،وهذا لا كلام فيه،وإنّما الكلام في ناحية اخرى، وهي أ نّه هل يمكن الالتزام بالترتب فيه أم لا ؟
فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أ نّه لا يمكن الالتزام بالترتب فيه، ببيان أنّ عصيان النهي في مورد الاجتماع إمّا أن يكون باتيان فعل مضاد للمأمور به في الخارج وهو الصلاة مثلاً،كأن يشتغل بالأكل أو الشرب أو ما شاكل ذلك،وإمّا أن يكون بنفس الاتيان بالصلاة،وعلى كلا التقديرين
لا يمكن أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً به.أمّا على التقدير الأوّل،فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بأحد الضدّين مشروطاً بوجود الضد الآخر،وهذا غير معقول،لأنّ مردّه إلى طلب الجمع بين الضدّين في الخارج،لفرض أ نّه أمر بايجاد ضد على تقدير وجود ضد آخر،وأمّا على التقدير الثاني،فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بالشيء مشروطاً بوجوده في الخارج،وهو غير معقول،لأنّه طلب الحاصل،كما لا يخفى.
ولكن للمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع،وهي أنّ المنهي عنه في المقام إنّما هو الكون في الأرض المغصوبة،لأنّه تصرف في مال الغير حقيقةً ومصداق للغصب،ومن الواضح جداً أ نّه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة على عصيان النهي عنه،كأن يقول المولى لا تكن في أرض الغير وإن كنت فيها فتجب عليك الصلاة،فيكون الأمر بالصلاة معلقاً على عصيان النهي عن الكون فيها،ولا يلزم من اشتراط أمرها بعصيانه أحد المحذورين المذكورين، أعني بهما لزوم طلب الجمع بين الضدّين،واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج.
والوجه في ذلك:هو أنّ لزوم المحذور الأوّل يبتني على ركيزة واحدة،وهي أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً بتحقق أحد الأفعال الخاصة فيها كالأكل والنوم والشرب وما شاكل ذلك،فانّ اشتراط أمرها به لا محالة يستلزم المحذور المزبور وهو طلب الجمع بين الضدّين،ضرورة أنّ مردّ هذا الاشتراط إلى تعلق الأمر بالصلاة على تقدير تحقق أحد تلك الأفعال الخاصة المضادة لها،إلّاأنّ تلك الركيزة خاطئة جداً وليس لها واقع موضوعي،وذلك لما عرفت من أنّ الأمر بالصلاة مشروط بالكون في الأرض المغصوبة،لا بأحد تلك الأفعال الخاصة الوجودية،ولذا لو فرض خلوّ المكلف عن جميع تلك الأفعال الخاصة،
فمع ذلك كونه فيها تصرّف في مال الغير ومصداق للغصب.
وعلى ضوء هذا الأصل فلا مانع من تعلق الأمر بالصلاة على تقدير تحقق عصيان النهي عن الكون فيها،فاذا تحقق،تحقق الأمر بها لا محالة.
وبعبارة اخرى:المفروض أنّ المكلف قادر على الصلاة عند كونه في الأرض المغصوبة وإن فرض كونه في ضمن أحد الأفعال المزبورة،لفرض أ نّه قادر على تركه والاشتغال بالصلاة،ومع القدرة عليها لا مانع من الأمر بها.
ومن ذلك يظهر الفرق بين اشتراط الأمر بالصلاة بالكون في الأرض المغصوبة واشتراطه بأحد الأفعال الخاصة الوجودية فيها كالأكل والشرب وما شاكلهما،وهو أنّ الأمر بالصلاة لو كان مشروطاً بأحد تلك الأفعال الخاصة المضادة لها فلا محالة يلزم محذور طلب الجمع بين الضدّين،وذلك لفرض أنّ الأمر بالصلاة عندئذ تابع لتحقق ذلك الفعل المضاد لها في الخارج حدوثاً وبقاءً، بمعنى أنّ حدوثه موجب لحدوث الأمر بها وبقاؤه موجب لبقاء الأمر بها، وعليه فلا محالة يلزم طلب الجمع بين الضدّين،وهذا بخلاف ما إذا كان مشروطاً بالكون فيها،لفرض أ نّه ليس مضاداً لها،فانّه كما يتحقق في ضمنها كذلك يتحقق في ضمن غيرها من الأفعال الوجودية،فإذن لا يلزم من اشتراط الأمر بالصلاة به المحذور المتقدم.
وسرّه ما أشرنا إليه من أ نّه إذا تحقق الكون في الأرض المغصوبة تحقق الأمر بها،ومع تحقق الأمر بها لا محالة يجب إتيانها وترك غيرها من الأفعال الخاصة، وذلك لفرض أنّ فعلية أمرها تدور مدار تحقق الكون فيها حدوثاً وبقاءً.
ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فانّه كيف غفل عن هذه النقطة وقال:إنّ اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان النهي عن الكون في الأرض
المغصوبة المتحقق في ضمن أحد الأفعال الخاصة يرجع إلى طلب الجمع بين الضدّين،مع أ نّه فرق واضح بين اشتراط الأمر بها بعصيان النهي عن الكون فيها،واشتراط الأمر بها بعصيان النهي عن أحد تلك الأفعال الوجودية،فانّ الأوّل لا يستلزم طلب الجمع دون الثاني،كما هو واضح.
وأمّا لزوم المحذور الثاني،فهو يبتني على أن يكون الكون في الأرض المغصوبة عين الصلاة خارجاً ومتحداً معها،وهذا خلاف مفروض الكلام، فانّه فيما إذا كان لكل منهما وجود مستقل،غاية الأمر أنّ وجود أحدهما وهو الصلاة في الخارج ملازم لوجود الآخر فيه وهو الغصب،ولأجل ذلك تقع المزاحمة بينهما،وقد تقدّم أنّ مورد الاجتماع على القول بالاتحاد داخل في كبرى باب التعارض دون التزاحم.وأمّا على القول بالجواز وتعدد المجمع فحيث إنّ الكون والصلاة في مورد الاجتماع من المتلازمين اللذين لهما ثالث،فلا مانع من أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً بعصيان النهي عن الكون فيها،ضرورة أنّ المكلف عند الكون فيها قادر على إتيان الصلاة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:المفروض أنّ الصلاة سائغة في نفسها وليست مبغوضة ومصداقاً للمحرّم.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أ نّه لا مانع من تعلق الأمر بالصلاة مترتباً على عصيان النهي عن الكون فيها بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وأ نّه لا مناص من الالتزام به.وأمّا محذور اشتراط الأمر بالشيء بتحققه ووجوده في الخارج،إنّما يلزم في المقام بناءً على أن يكون الأمر بالصلاة فيها مشروطاً بالصلاة فيها،وهو من الفساد بمكان من الوضوح.نعم،لو فرض أنّ الكون في الأرض المغصوبة ملازم للصلاة خارجاً،بحيث لا يمكن تحققه فيها بدونها أصلاً،لكان مرد اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان النهي عنه إلى ذلك لا
محالة،إلّاأ نّه فرض خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً.
ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وفرضنا عدم إمكان الترتب من هذا الطرف-أعني ترتب الأمر بالصلاة على عصيان النهي عن الكون في الأرض المغصوبة-إلّا أ نّه لا مانع من الالتزام به من الطرف الآخر،وهو ترتب حرمة الكون فيها على عصيان الأمر بالصلاة وعدم الاتيان بمتعلقه في الخارج،فيما إذا كان أهم منها أو مساوياً لها،ضرورة أ نّه لا يلزم من الالتزام بالترتب في هذا الطرف أيّ محذور توهّم لزومه من الالتزام به في ذاك الطرف،وهذا واضح.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه:أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب في موارد الاجتماع على القول بالجواز،بناءً على وقوع التزاحم بين الحكمين،ولكن قد ذكرنا 1أنّ هذا ليس قسماً آخر للتزاحم،بل هو داخل في التزاحم بين الفعلين المتلازمين اتفاقاً.
نلخّص نتيجة ما ذكرناه في عدّة نقاط:
الاُولى:أنّ تقسيم التزاحم إلى سبعة أقسام كما عن شيخنا الاُستاذ غير صحيح.
الثانية:أنّ الصحيح تقسيمه إلى ثلاثة أقسام كما تقدّم منّا.
الثالثة:لا فرق في جريان الترتب في الواجبين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً،بين أن يكونا عرضيين أو طوليين،وعلى التقدير الثاني لا يفرق بين أن يكون الواجب المتأخر أهم من المتقدم أو يكون مساوياً له، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد منع عن جريان الترتب فيهما
مطلقاً،وقد استدلّ على ذلك بوجوه وقد تقدّمت المناقشة في جميع تلك الوجوه، فلاحظ.
الرابعة:أنّ الترتب لا يجري في المتلازمين اللذين يكون أحدهما محكوماً بالحرمة والآخر محكوماً بالوجوب،وكانا مما لا ثالث لهما كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما سامته من البلاد.
الخامسة:أنّ الترتب يجري في المتلازمين اللذين يكون بينهما ثالث،كما في موارد اجتماع الأمر والنهي على القول بالجواز مع فرض عدم وجود مندوحة في البين،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قد أنكر جريان الترتب فيهما كما سبق،هذا آخر ما أوردناه في بحث الضد.
إلى هنا قد تمّ بعون اللّٰه تعالى وتوفيقه الجزء الثالث 1من كتاب محاضرات في اصول الفقه وستتلوه الأجزاء التالية إن شاء اللّٰه تعالى.
لا يخفى أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1قد ذكر أنّ هذه المسألة باطلة من رأسها،وليس فيها معنىً معقول ليبحث عنه،لا في القضايا الحقيقية التي كان الحكم فيها مجعولاً للموضوع المفروض الوجود خارجاً ولا في القضايا الخارجية.
أمّا في الاُولى: فلما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ الحكم في القضية الحقيقية مجعول للموضوع المقدر وجوده بجميع قيوده وشرائطه،مثلاً وجوب الحج في الآية المباركة: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 2مجعول لعنوان المستطيع على نحو مفروض الوجود في الخارج.
ومن الطبيعي أنّ فعلية مثل هذا الحكم مشروطة بفعلية موضوعه ووجوده خارجاً ويستحيل تخلّفها عنه،وعليه فعلم الآمر بوجود الموضوع أو بعدم وجوده أجنبي عن فعلية الحكم بفعلية موضوعه وعدم فعليته بعدم فعلية موضوعه بالكلّية،وليس له أيّ دخل في ذلك،ضرورة أنّ الحكم في مثل هذه
القضايا لم يجعل من الأوّل لفاقد الشرط والموضوع،مثلاً وجوب الحج في المثال المزبور لم يجعل من الابتداء لفاقد الاستطاعة،فإذن لا معنى للنزاع في أ نّه هل تعقل فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء فعلية موضوعه في الخارج أم لا، ضرورة أنّ علم الحاكم به أجنبي عن ذلك رأساً،فانّ الملاك في فعلية الحكم إنّما هو فعلية موضوعه خارجاً ووجوده،ضرورة استحالة تخلّفها عنه،وعليه فلا تعقل صحّة توجيه هذا التكليف فعلاً إلى فاقد الشرط والموضوع،بداهة أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي،فعندئذ لو وجّه إليه تكليف فهو لا محالة يكون تكليفاً آخر غير الأوّل،وهو خلاف مفروض الكلام.
وأمّا في الثانية: وهي القضايا الخارجية،فلأنّ جعل الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم بوجود شرائط الحكم،وأمّا وجود هذه الشرائط في الخارج أو عدم وجودها فيه أجنبي عنه رأساً وليس له أيّ دخل فيه،فإذن لا معنى للبحث عن جوازه مع علمه بانتفاء تلك الشرائط خارجاً وعدم جوازه،ضرورة أنّ البحث على هذا الشكل أجنبي عمّا هو دخيل في هذا الحكم بالكلّية،وعليه فلا معنى له أصلاً كما لا يخفى.
ومن هنا قال 1:إنّ ما ذكروه من الثمرة لتلك المسألة-وهي وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط الوجوب له إلى الليل – ليست ثمرة لها،بل هي ثمرة مترتبة على مسألة فقهية وهي أنّ التكليف بالصوم هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد آنات اليوم،أو هو تكليف واحد مشروط بشرط متأخر وهو بقاؤه على شرائط الوجوب إلى الليل.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أ نّه لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه،وإن نسب ذلك إلى الأشاعرة حيث إنّهم يجوّزون التكليف بالمحال،ولا يرون فيه قبحاً أصلاً،وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه:وهو أنّ الشرط بما أ نّه كان من أجزاء العلة التامة فيستحيل أن يوجد الشيء بدونه، ضرورة استحالة وجود المعلول بدون وجود علته والمشروط بدون وجود شرطه،فانّ المركب ينحل بانحلال بعض أجزائه،وبما أنّ العلة التامة مركبة من المقتضي والشرط والمانع فلا محالة تنتفي بانتفاء كل منها،وعليه فلا يعقل أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه،إلّاأن يكون المراد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه وهو مرتبة الانشاء،ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاُخر وهو مرتبة الفعلية،بأن يكون النزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرط فعليته وعدم بلوغه تلك المرتبة،فإذن لا إشكال في جوازه بل في وقوع ذلك في الشرعيات والعرفيات،ضرورة أنّ الأمر الصوري إذا كان الداعي له الامتحان أو نحوه لا البعث والتحريك حقيقةً واقع في العرف والشرع،ولا مانع من وقوعه أصلاً.
الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة:هو أنّ الكلام فيها مرّةً يقع في شرائط الجعل،ومرّةً اخرى في شرائط المجعول،لما ذكرناه من أنّ لكل حكم مرتبتين:
مرتبة الجعل،ومرتبة المجعول.
أمّا الكلام في الاُولى: فلا شبهة في انتفاء الجعل بانتفاء شرطه،وذلك لأنّ الجعل فعل اختياري للمولى كبقية أفعاله الاختيارية،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ كل فعل اختياري مسبوق بالمبادئ النفسانية وهي الارادة بمقدّماتها من التصور والتصديق ونحوهما.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا يمكن جعل الحكم من المولى مع انتفاء شيء من تلك المبادئ والمقدّمات،ضرورة أ نّه معلول لها ومشروط بها،ومن الطبيعي استحالة وجود المعلول بدون وجود علّته،ووجود المشروط بدون تحقق شرطه،وهذا من الواضحات الأوّلية وغير قابل لأن يكون ذلك محل البحث والأنظار.
ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الكفاية (قدس سره) حيث جعل هذا محل الكلام والنزاع هنا،ولأجل ذلك حكم بعدم الجواز،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:أنّ ما ذكره (قدس سره) من الجواز فيما إذا لم يكن الأمر بداعي البعث والتحريك واقعاً بل كان بداعي الامتحان أو نحوه أيضاً خارج عن محل البحث،ضرورة أنّ محل البحث في الجواز وعدمه إنّما هو في الأوامر الحقيقية التي يكون الداعي فيها البعث والتحريك نحو إيجاد متعلقاتها في الخارج حقيقة،أمّا في الأوامر الصورية التي ليس الداعي فيها البعث نحو إيجاد متعلقاتها في شيء،بل الداعي لها الامتحان أو غيره،فلا إشكال في جوازها مع علم الآمر بانتفاء شروط فعليتها،بل لا إشكال في وقوعها في العرف والشرع كما هو ظاهر.
فالنتيجة: أ نّه لا مجال للنزاع في الأوامر التي لم يكن الداعي فيها وقوع متعلقاتها في الخارج،بل الداعي لها مجرد الامتحان أو الاستهزاء أو شيء آخر، كما أ نّه لا مجال للنزاع في شرائط الجعل،ولكن في الأوّل من ناحية أ نّه لا إشكال في جواز تلك الأوامر بل في وقوعها خارجاً،وفي الثاني من ناحية أ نّه لا إشكال في عدم جوازه،بل في امتناعه مع انتفاء شرطه،كما عرفت.
وأمّا الكلام في الثانية: وهي شرائط المجعول،فقد ذكرنا في بحث الواجب المطلق والمشروط أنّ كل شرط اخذ مفروض الوجود في مقام الجعل تستحيل
فعلية الحكم بدون فعليته ووجوده في الخارج،لما ذكرناه هناك من أنّ فعلية الحكم في القضية الحقيقية تدور مدار فعلية موضوعه ووجوده ويستحيل تخلّفها عنه،مثلاً وجوب الحج مشروط بوجود الاستطاعة بمقتضى الآية الكريمة:
«وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»
1
فتستحيل فعليته بدون فعلية الاستطاعة في الخارج،وكذا وجوب الزكاة مشروط ببلوغ المال حدّ النصاب،فإذا بلغ المال ذلك الحد تجب الزكاة عليه فعلاً،وإلّا فلا وجوب لها أصلاً.ووجوب الغسل مشروط بوجود الجنابة،ووجوب الصوم مشروط بدخول شهر رمضان،ووجوب الصلاة مشروط بدخول الوقت…وهكذا، فهذه الأحكام جميعاً تدور فعليتها خارجاً مدار فعلية موضوعها وتحققه فيه.
ومن هنا قلنا إنّ كل قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له.
وعلى هذا الأصل،فإذا علم الآمر بانتفاء شرط فعلية الحكم وأ نّه لو جعل فلا يصير فعلياً أبداً من ناحية عدم تحقق موضوعه في الخارج،فهل يجوز له جعله أم لا ؟
قد يقال بعدم إمكانه،لأنّه لغو محض فلا يصدر من الحكيم،وكذا الحال في القضية الخارجية فلا يجوز للمولى أن يأمر بزيارة الحسين (عليه السلام) مثلاً على تقدير السفر إلى كربلاء مع علمه بأ نّه لا يسافر…وهكذا.
ولكنّ الصحيح في المقام هو التفصيل بين ما إذا كان انتفاء الشرط مستنداً إلى نفس جعل الحكم وكان هو الموجب له،وما إذا كان مستنداً إلى عدم قدرة المكلف أو إلى جهة اخرى.
فعلى الأوّل: لا مانع من جعله أصلاً إذا كان الغرض منه عدم تحقق الشرط والموضوع في الخارج،من دون فرق بين أن يكون الجعل على نحو القضية الحقيقية أو الخارجية،كما إذا قال المولى لعبده أو الأب لابنه:إن كذبت مثلاً فعليك دينار،مع علمه بأنّ جعل وجوب الدينار عليه على تقدير كذبه موجب لعدم صدور الكذب منه،فيكون غرضه من جعله ذلك.
وكما إذا فرض أنّ جعل الكفارات في الشريعة المقدّسة على ارتكاب عدّة من المحرمات يوجب عدم تحققها في الخارج،كوجوب القصاص المترتب على القتل الاختياري إذا فرض أ نّه موجب لعدم تحقق القتل خارجاً،ووجوب الحد للزاني وقطع اليد للسارق وما شاكل ذلك،إذا فرض أنّ جعل هذه الاُمور أوجب عدم تحقق ما هو الموضوع والشرط لها وهو الزنا في المثال الأوّل والسرقة في المثال الثاني ونحوهما،ومن المعلوم أ نّه لا مانع من مثل هذا الجعل أصلاً،بل هو مما تقتضيه المصلحة العامة كما في القضايا الحقيقية،والمصلحة الخاصة كما في القضايا الخارجية،ضرورة أنّ الغرض من جعل هذه الاُمور هو عدم تحقق موضوعها في الخارج،فإذا فرض أنّ المولى علم بأنّ جعلها يوجب عدم تحقق موضوعها فيه مطلقاً فهو أولى بالجعل مما لم يعلم المولى أ نّه يوجبه.فالنتيجة:
أ نّه لا شبهة في إمكان ذلك،بل في وقوعه خارجاً في العرف والشرع.
وعلى الثاني: وهو ما إذا كان انتفاء الشرط من غير ناحية اقتضاء الجعل له،فهو لغو محض فلا يصدر من المولى الحكيم،مثل أن يأمر بركعتين من الصلاة مثلاً على تقدير الصعود إلى السماء أو على تقدير اجتماع الضدّين أو نحو ذلك،أو أن يأمر بوجوب الحج على تقدير الاستطاعة في الخارج مع علمه فرضاً بعدم تحققها فيه أصلاً…وهكذا،فانّه لا شبهة في أنّ جعل مثل هذا الحكم لغو صرف فلا يترتب عليه أيّ أثر شرعي،ومعه يستحيل صدوره منه.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ هذه المسألة باطلة من رأسها وليس فيها معنىً معقول ليبحث عنه،لا يتم وذلك لأنّ النزاع في هذه المسألة لو كان في دخل علم الآمر بوجود الموضوع أو بعدم وجوده في فعلية الحكم وعدم فعليته لكان ما أفاده (قدس سره) في غاية الصحّة والمتانة،وذلك لما عرفت من أنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه في الخارج،ولا دخل لعلم الآمر بوجوده أو بعدمه في ذلك أصلاً،فإذن لا معنى للنزاع فيه كما هو واضح،إلّاأ نّك عرفت أنّ النزاع في المسألة ليس في هذا بل هو فيما ذكرناه من أنّ جعل الحكم في القضية الحقيقية للموضوع المقدّر وجوده مع علم الجاعل بعدم تحقق الموضوع في الخارج أصلاً هل يجوز أم لا ؟
ومن الظاهر أنّ النزاع في هذا نزاع في معنى معقول،غاية الأمر أنّ جعل الحكم عندئذ لغو محض فلا يترتب عليه أثر،ولكن من المعلوم أنّ هذا لا يوجب عدم كون النزاع في معنى معقول.
وبكلمة اخرى:أنّ النزاع في المقام ليس في معقولية فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء موضوعه في الخارج وعدم معقوليتها،ليقال إنّ علم الآمر بوجود الموضوع خارجاً وعدمه أجنبي عن ذلك بالكلّية،ضرورة أنّ الملاك في فعلية الحكم واقعاً فعلية موضوعه كذلك،بل النزاع في جواز أصل جعل الحكم مع العلم بانتفاء شرط فعليته وعدم جوازه،ومن الواضح أنّ هذا النزاع نزاع في أمر معقول.
ومن هنا يتبيّن أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الحكم في القضية الخارجية
يدور مدار علم الحاكم بوجود شروط الحكم،وأمّا نفس وجودها في الخارج أو عدمها فيه فهو أجنبي عن الحكم بالكلّية،لا يتم أيضاً وذلك لأنّ علم الحاكم الذي له دخل في جعل هذا الحكم ليس علمه بما هو صفة نفسانية قائمة بها مع قطع النظر عمّا تعلق به من الموجودات الخارجية،ضرورة أنّ علمه بوجود شرطه في الخارج يدعو إلى جعل هذا الحكم،كما أنّ علمه بعدم وجوده فيه داعٍ لعدم جعله،فيما إذا لم يكن الغرض منه عدم تحقق شرطه وموضوعه كالأمثلة المتقدمة.فإذن يقع الكلام في أ نّه هل يجوز للمولى أن يأمر عبده بفعلٍ مشروطاً بشيء مع علمه بانتفاء ذلك الشيء في الخارج وعدم تحققه فيه أصلاً أم لا،ومن المعلوم أنّ النزاع فيه نزاع في أمر معقول.
وقد تحصّل مما ذكرناه امور:
الأوّل: أ نّه لا فرق فيه بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية،فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.
الثاني: أنّ الصحيح في المسألة هو التفصيل بين ما إذا كان انتفاء الشرط مستنداً إلى نفس الجعل،وما إذا كان مستنداً إلى عجز المكلف أو نحوه،كما سبق بشكل واضح.
الثالث: أ نّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً،ولا تترتب على البحث عنها أيّة فائدة عملية ما عدا فائدة علمية.وأمّا ما ذكر من الثمرة لها من وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط الوجوب له إلى الليل،كما إذا أفطر أوّلاً ثمّ سافر أو وجد مانع آخر من الصوم كالمرض أو نحوه،فليس ثمرة لتلك المسألة اصلاً،وذلك لأنّ عروض المانع من الصوم في أثناء اليوم وإن كان يكشف عن عدم وجوبه عليه من الأوّل،ضرورة أ نّه واجب واحد ارتباطي،ولذا لو طرأ على الصائم مانع من الصوم واضطرّ إلى
الإفطار في بعض آنات اليوم لم يلتزم أحد من الفقهاء بوجوب الامساك في باقي آنات هذا اليوم وهذا معنى ارتباطية وجوبه.
وأمّا وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان متعمداً فلا يدور مدار وجوب الصوم عليه ولو مع انتفاء شرائطه ليكون ذلك ثمرةً لهذه المسألة، بل هو على ما يستفاد من روايات الباب مترتب على الإفطار في نهار شهر رمضان عالماً وعامداً بلا عذر مسوّغ له،وذلك لأنّ جواز الإفطار في الروايات معلّق على خروج المكلف عن حدّ الترخص،فما دام لم يخرج عنه حرم عليه الافطار وإن علم بأ نّه يسافر بعد ساعة،كما أنّ وجوب القصر في الروايات معلّق على ذلك ولذا يجب عليه التمام ما دام هو دون حدّ الترخص.
وبتعبير أوضح:أنّ المستفاد من الروايات الواردة في المقام هو ثبوت الملازمة بين وجوب القصر وجواز الإفطار،وبين وجوب التمام وعدم جوازه، ففي كل موردٍ وجب القصر جاز الإفطار وفي كل موردٍ وجب التمام حرم الإفطار.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أنّ وجوب الكفارة مترتب على الإفطار العمدي في نهار شهر رمضان بلا عذر مسوّغ له،سواء أطرأ عليه مانع من الصوم بعد ذلك أم لم يطرأ،وذلك لاطلاق الروايات الدالة عليه.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1– من ابتناء وجوب الكفارة في هذا الفرض على أنّ التكليف بالصوم هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد آنات اليوم،أو هو تكليف واحد متعلق بمجموع الآنات،فعلى الأوّل تجب الكفارة عليه دون الثاني،إلّاإذا فرض قيام دليل على وجوب
الامساك في بعض اليوم أيضاً-لا يمكن تصديقه بوجه،وذلك لما عرفت من أنّ موضوع وجوب الكفارة هو الإفطار العمدي في شهر رمضان من دون عذر شرعي له على ما يستفاد من الروايات،وعليه فكون التكليف بالصوم تكليفاً واحداً أو متعدداً أجنبي عن ذلك بالكلّية ولا دخل له في وجوب الكفارة أو عدم وجوبها أصلاً،ضرورة أنّ المناط في وجوبها صدق العنوان المزبور،ومن الواضح أ نّه لا يفرق فيه بين كون التكليف واحداً أو متعدداً بتعدد الآنات.
ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ محل النزاع فيها الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض منها إيجاد الداعي للمكلف للاتيان بمتعلقاتها في الخارج،وأمّا الأوامر الصورية التي ليس الغرض منها ذلك بل الغرض منها مجرد الامتحان أو نحوه،فهي خارجة عن محل النزاع ولا إشكال في جوازها مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها.
الثانية: أنّ محل الكلام في المسألة ليس في شرائط الجعل،كما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ضرورة استحالة الجعل بدون تلك الشرائط،هذا من جهة.ومن جهة اخرى:أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ فعلية الحكم في القضية الحقيقية بفعلية موضوعه وعلم الآمر بوجود الموضوع في الخارج أو عدم علمه به أجنبي عن ذلك،ولذا قال:إنّه ليس في المسألة معنىً معقول ليبحث عنه،أيضاً ليس من محل الكلام في شيء كما عرفت.
الثالثة: أنّ محل النزاع فيها إنّما هو في تحقق أصل الأمر بداعي إيجاد متعلقه في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته،ومن الواضح أنّ النزاع فيه نزاع في أمر معقول،ولا يفرق فيه بين أن تكون القضية حقيقية أو خارجية كما سبق.
الرابعة: أنّ ما ذكروه من الثمرة لهذه المسألة-وهي أنّ من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط وجوب الصوم له إلى الليل،كما إذا أفطر في حين أ نّه علم بأ نّه يسافر بعد ساعة أو يوجد مانع آخر منه،فعلى القول بالجواز تجب الكفارة عليه،وعلى القول بعدمه فلا-ليس ثمرةً لها أصلاً،وذلك لما ذكرناه من أ نّها تدور مدار أنّ المستفاد من الروايات هو ترتب الكفارة على مطلق الإفطار العمدي ولو علم بطروء مانع عن الصوم بعده ولا يتمكن من إتمامه،أو أ نّها مترتبة على الإفطار العمدي الخاص وهو ما لم يطرأ عليه مانع عنه أصلاً،فعلى الأوّل تجب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان ثمّ سافر، وعلى الثاني فلا.
غير خفي أنّ هذا النزاع بظاهره مما لا معنى له،وذلك لأنّه لا شبهة في أنّ مراد القائلين بتعلق الأوامر بالأفراد ليس تعلقها بالموجودات الخارجية،ضرورة أنّ الموجود الخارجي مسقط للأمر فلا يعقل تعلق الأمر به،كما أنّ مراد القائلين بتعلقها بالطبائع ليس تعلقها بالطبائع الصرفة ومن حيث هي مع قطع النظر عن حيثية انطباقها على ما في الخارج،ضرورة أنّ مثل هذه الطبيعة غير قابل لأن يتعلق بها الأمر.
ولكنّ الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة هو أ نّه يمكن تقرير النزاع فيها من ناحيتين:
الاُولى: من جهة ابتناء ذلك على القول بوجود الكلّي الطبيعي في الخارج والقول بعدم وجوده،فعلى الأوّل يتعلق الأمر بالطبيعة،وعلى الثاني بالفرد، بيان ذلك:هو أ نّه لا شبهة في أنّ كل وجود في الخارج بذاته وشخصه يمتاز عن وجود آخر ويباينه،ويستحيل اتحاد وجود فيه مع وجود آخر،ضرورة أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى وكل وجود يباين وجوداً آخر ويأبى عن الاتحاد معه.
وبعد ذلك نقول:إنّه لا إشكال في أنّ الوجود بواقعه وحقيقته-لا بمفهومه
الانتزاعي-وجود للفرد حقيقةً وذاتاً،بداهة أنّ إسناد الوجود إليه إسناد واقعي حقيقي،مثلاً زيد موجود حقيقةً وعمرو موجود كذلك…وهكذا،وهذا مما لا إشكال فيه،سواء فيه القول بوجود الطبيعي في الخارج أو القول بعدم وجوده.
وبكلمة أوضح:أنّ كل حصة في الخارج تباين حصة اخرى منها وتمتاز عنها بهويتها الشخصية ووجودها الخاص،مثلاً الحصة المتقررة من الانسانية في ذات زيد تباين الحصة المتقررة في ذات عمرو…وهكذا،وتمتاز عنها بنفس هويتها ووجودها،ولكن من الطبيعي أنّ امتياز أيّة حصة عن حصة اخرى ليس بالذات والحقيقة وإنّما هو بالوجود،ضرورة أنّ امتياز كل شيء به بقانون أنّ الشيء ما لم يوجد لم يتشخص،وقد عرفت أنّ الوجود هو نفس التشخص،فلذا قلنا إنّ امتياز وجود عن وجود آخر إنّما هو بنفس ذاته وتشخصه،وعليه فلا محالة يكون امتياز حصة عن اخرى أو فرد عن آخر باضافة الوجود الحقيقي إليها،فانّ الحصة بالتحليل العقلي تنحل إلى ماهية وإضافة،أعني إضافتها إلى الوجود،وتلك الاضافة توجب صيرورتها حصةً وفرداً بحيث لو لم تكن تلك الاضافة فلاحصة في الخارج ولا فرد،فملاك فردية زيد مثلاً وكونه حصة من الانسان إنّما هو إضافة الوجود الواقعي إليه إضافةً حقيقيةً.
ومن هنا قلنا إنّ امتياز الحصة عن الاُخرى بالوجود،ولكن امتياز وجودها عن وجود الاُخرى بالذات والحقيقة بقانون أنّ كل ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات.أو فقل:إنّ تشخص الحصة وتفرّدها بالوجود لا غيره،وأمّا تشخص الوجود وتفرّده فهو بنفس ذاته لا بشيء آخر،وإلّا لدار أو تسلسل كما لا يخفى.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الحصص والأفراد موجودة في الخارج حقيقةً
بوجوداتها الواقعية،وهذا مما لا كلام فيه على كلا القولين،أي سواء فيه القول بوجود الطبيعي خارجاً أو القول بعدم وجوده،وإنّما الكلام في أنّ هذا الوجود المضاف إلى الفرد ويكون وجوداً له هل هو وجود للطبيعي أيضاً،بأن يكون له إضافتان:إضافة إلى الحصة،وبتلك الاضافة يكون وجوداً للفرد،وإضافة إلى الطبيعي،وبها يكون وجوداً له،أو هو ليس وجوداً للطبيعي إلّابالعرض والمجاز،ولا يصح إسناده إليه على نحو الحقيقة،فالقائل بوجود الطبيعي في الخارج يدّعي الأوّل وأنّ كل وجود مضاف إلى الفرد فهو وجود للطبيعي على نحو الحقيقة،مثلاً وجود زيد كما أ نّه وجود له حقيقةً وجود للانسان كذلك…
وهكذا،غاية الأمر أنّ هذا الوجود الواحد باعتبار إضافته إلى الفرد متشخص وممتاز عن غيره في الخارج،وباعتبار إضافته إلى الطبيعي لا امتياز ولا تشخص له بالنسبة إلى غيره أصلاً كما هو واضح،والقائل بعدم وجوده يدّعي الثاني وأ نّه لا تصح إضافة هذا الوجود-أعني الوجود المضاف إلى الفرد-إلى الطبيعي حقيقةً،وأ نّه ليس وجوداً له بل هو وجود للفرد فحسب.
وعلى الجملة، فبالتحليل العقلي النزاع المعقول في وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده فيه ليس إلّاالنزاع في هذه النقطة وهي ما ذكرناه،ضرورة أ نّه لم يدّع أحد أ نّه موجود في الخارج بوجود مباين لوجود فرده،كما أنّ القول بأ نّه موجود بوجود واحد لا بعينه باطل من رأسه،ضرورة أنّ الواحد لا بعينه لا مصداق له في الخارج ولا تعيّن له،والوجود له تعيّن ومصداق فيه،ففرض وجوده خارجاً يناقض فرض عدم تعيّنه فيه فلا يجتمعان.
وعليه فالنزاع المعقول ينحصر بتلك النقطة،فالمنكر لوجوده يدّعي أ نّه لا يصح إسناد الوجود إليه حقيقةً،والقائل به يدّعي أ نّه يصح ذلك بمعنى أنّ
الوجود في الخارج وإن كان واحداً،إلّاأنّ له نسبتين نسبة إلى الفرد ونسبة إلى الطبيعي،وكلتا النسبتين حقيقية،ومن المعلوم أنّ تعدد النسبة لا يوجب تعدد الوجود،وهذا واضح.
والصحيح في المسألة:أنّ الطبيعي موجود في الخارج حقيقةً،وذلك لصحة حمل الوجود عليه،فلا فرق بين قولنا:زيد موجود،وقولنا:الانسان موجود، فكما أنّ الأوّل على نحو الحقيقة فكذلك الثاني،ولذا لا يصح سلبه عنه،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا شبهة في صحة حمله على الفرد،فيقال:زيد انسان،ومن المعلوم أ نّه يعتبر في صحة الحمل الاتحاد في الوجود الخارجي وإلّا فالحمل غير صحيح،وهذا لعلّه من الواضحات.
وبعد ذلك نقول:إنّه على القول بوجود الطبيعي في الخارج يتعلق الأمر به، وعلى القول بعدم وجوده فيه يتعلق بالحصة والفرد،ولكن بإحدى الحصص الخارجية لا بالمعيّن منها.فالنتيجة على كلا القولين هي التخيير بين تلك الحصص والأفراد عقلاً.أمّا على القول الأوّل فواضح.وأمّا على القول الثاني فلفرض أنّ الأمر لم يتعلق بالحصة الخاصة،بل تعلق بواحدة منها لا بعينها،ومن المعلوم أنّ تطبيقها على هذه وتلك بيد المكلف،ولا نعني بالتخيير العقلي إلّاهذا.
ومن هنا يظهر أ نّه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلاً،ولا تترتب عليها أيّة ثمرة عملية،ضرورة أ نّه على كلا القولين لا بدّ من الاتيان بالفرد والحصة في الخارج،سواء أكان الأمر متعلقاً بالطبيعي أم بالفرد،وذلك لاستحالة إيجاد الطبيعي في الخارج معرىً عن جميع الخصوصيات والتشخّصات لتظهر الثمرة بين القولين.نعم،لو أمكن ذلك فرضاً فعلى القول الأوّل يسقط لا محالة الأمر دون القول الثاني،إلّاأ نّه مجرد فرض لا واقع له أبداً،فإذن لا ثمرة لتلك المسألة
أصلاً.
وإن كان الصحيح هو تعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد،وتشهد على ذلك مراجعة الوجدان،فانّ الانسان إذا راجع وجدانه يرى أ نّه إذا أراد شيئاً تعلقت إرادته بطبيعي ذلك الشيء لا بحصة متشخصة منه،فلو طلب الماء مثلاً يرى أنّ متعلق طلبه هو الطبيعي من دون ملاحظة خصوصية خارجية فيه ككونه في إناء خاص أو من ماء مخصوص أو ما شابه ذلك مما لا دخل له في مطلوبه.
وقد تحصّل من ذلك امور:
الأوّل:أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود فرده.
الثاني:أنّ الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد.
الثالث:أ نّه لا ثمرة لهذا البحث أصلاً بل هو بحث علمي فلسفي.
الناحية الثانية: ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أنّ مردّ النزاع في هذه المسألة إلى أنّ الأوامر هل تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها ولوازم وجوداتها في الخارج،بحيث تكون تلك اللوازم والمشخصات خارجةً عن دائرة متعلقاتها،وإنّما هي موجودة معها قهراً، لاستحالة كون الشيء موجوداً بلا تشخص،أو تتعلق بالأفراد مع تلك المشخصات،بحيث تكون المشخصات مقوّمةً للمطلوب والمراد،وداخلة في دائرة المتعلقات.
فالقائل بتعلق الأمر بالطبيعة أراد تعلقه بذات الشيء مع قطع النظر عن مشخصاته،بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج بدون أيّ مشخص وأوجده لسقط الأمر وحصل الغرض،لفرض أ نّه أتى بالمأمور به وما هو
متعلق الأمر.والقائل بتعلقه بالفرد أراد تعلقه بالشيء مع مشخصاته فتكون مشخصاته أيضاً مأموراً بها.
وعلى هذا فتظهر الثمرة بين القولين في باب اجتماع الأمر والنهي،وذلك لأنّه على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالطبائع دون الأفراد،ففي مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة مثلاً لا يسري الأمر من متعلقه وهو طبيعة الصلاة إلى متعلق النهي وهو الغصب ولا العكس،لفرض أ نّهما طبيعتان مستقلتان غاية الأمر أنّ كل واحدة منهما مشخصة للاُخرى في مورد الاجتماع،وقد عرفت أنّ الأمر والنهي لايسريان على هذا القول إلى مشخصات متعلقهما.فإذن لا مناص من القول بالجواز في تلك المسألة.
وأمّا على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد دون الطبائع فلا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع في تلك المسألة،وذلك لفرض أنّ الأمر على هذا القول متعلق بالصلاة مع مشخصاتها،والمفروض أنّ الغصب في مورد الاجتماع مشخّص لها،فإذن يكون متعلقاً للأمر،والحال أ نّه متعلق للنهي أيضاً،فيلزم عندئذ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو محال،ضرورة استحالة كون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً.
وعلى الجملة:فعلى القول الأوّل بما أنّ متعلق كلٍّ من الأمر والنهي هو الطبيعة دون مشخصاتها،فلا محالة لا يلزم في مورد الاجتماع كون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه،لفرض أنّ متعلق أحدهما غير متعلق الآخر فلا يتحدان في الخارج،غاية الأمر أ نّهما متلازمان في الوجود الخارجي وأنّ كلاً منهما مشخص للآخر.وعلى القول الثاني بما أنّ المشخصات أيضاً متعلقة للأمر والنهي، فلا مناص من الالتزام بالامتناع في مورد الاجتماع لفرض أنّ متعلق كل منهما عندئذ مشخص للآخر،وعليه فلا محالة يسري كل منهما من متعلقه إلى متعلق
الآخر،فيلزم اجتماعهما في شيء واحد وهو محال.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أنّ هذه الفرضية التي فرضها شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لو تمّت لأصبحت المسألة ذات ثمرة مهمة،ولكنها فرضية خاطئة وغير مطابقة للواقع،وذلك لما أشرنا إليه سابقاً على نحو الاجمال وإليك تفصيله:
وهو أنّ كل وجود سواء أكان جوهراً أم عرضاً متشخص في الخارج بذاته،فلا يعقل أن يكون متشخصاً بوجود آخر،وذلك لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخص وأنّ تشخص كل شيء به،فلا يعقل أن يكون تشخصه بشيء آخر أو بوجود ثانٍ،وإلّا لدار أو تسلسل،وعليه فتشخصه بمقتضى قانون أنّ كل ما بالغير وجب أن ينتهي إلى ما بالذات بنفس ذاته،ولذا قلنا إنّ كل وجود في ذاته مباين لوجود آخر،وكل فعلية بنفسها تأبى عن الاتحاد مع فعلية اخرى وتمتاز عنها بنفس ذاتها،وهذا بخلاف الماهية فان تشخصها إنّما يكون بالوجود وامتيازها عن ماهية اخرى به لا بذاتها،وهذا معنى قولنا:الشيء ما لم يوجد لم يتشخص.فالنتيجة هي أنّ تشخص الوجود بنفسه والماهية بتبع عروض الوجود لها.
وعلى ضوء هذه النتيجة أنّ الاُمور الملازمة للوجود الجوهري خارجاً التي لا تنفك عنه كأعراضه من الكمّ والكيف والأين والاضافة والوضع وغيرها، موجودات اخرى في قبال ذلك الموجود ومباينة له ذاتاً وحقيقةً،ومتشخصات بنفس ذواتها وأفراد لطبائع شتّى مختلفة لكل منها وجود وماهية،فلا يعقل أن تكون مشخصات لذلك الوجود،لما عرفت من أنّ الوجود هو نفس التشخص فلا يعقل أن يكون تشخصه بكمّه وكيفه وأينه ووضعه وما شابه ذلك،ضرورة أنّ لهذه الأعراض وجودات مباينة بأنفسها لذلك الوجود وإن كانت قائمة به، كما هو شأن وجود العرض،وقد عرفت أنّ تشخص الوجود بنفس ذاته
فيستحيل أن يكون بوجود آخر.
وتوهم أنّ وجود العرض بما أ نّه متقوّم بوجود الجوهر خارجاً فلأجل ذلك يكون متشخصاً به توهم خاطئ جداً،ضرورة أنّ قيامه به في مرتبة متأخرة عن وجوده،وعليه فلا يعقل أن يكون مشخصاً له.مثلاً تشخص زيد بنفس وجوده الخارجي لا ببياضه ولا بسواده ولا بكمّه ولا بأينه ولا بوضعه،وإن كان كل وجود في الخارج لا ينفك عن هذه الاُمور،ضرورة أنّ لكل منها وجوداً في قبال وجوده وكل وجود متشخص بنفس ذاته وفرد من أفراد إحدى المقولات التسع العرضية.
وعلى الجملة: فالوجود لا يعقل أن يكون متشخصاً بوجود آخر،من دون فرق فيه بين أن يكون الوجودان من طبيعة واحدة أو من طبيعتين كما هو ظاهر.ومن هنا لم يتوهم أحد ولا يتوهم أنّ وجود جوهر مشخص لوجود جوهر آخر،أو أنّ وجود عرض مشخص لوجود عرض آخر،والسر فيه ما ذكرناه من أنّ كل وجود متشخص بذاته وممتاز بنفسه عن غيره،ومن الواضح جداً أنّ هذا الملاك بعينه موجود بين وجود الجوهر ووجود العرض المتقوّم به، فلا يعقل أن يكون وجود العرض القائم به مشخصاً له،كما هو واضح.ومن ذلك يتبيّن أنّ إطلاق المشخصات على تلك الأعراض الملازمة له خارجاً مسامحة جداً،لما عرفت من أ نّها لا تعقل أن تكون مشخصات لوجود الجوهر أصلاً،بل هي وجودات ملازمة له في الخارج فلا تنفك عنه.
وبعد بيان ذلك نقول: إنّ تلك اللوازم والأعراض كما أ نّها خارجة عن متعلق الأمر على القول بتعلقه بالطبيعة،كذلك هي خارجة عن متعلقه على القول بتعلقه بالفرد،ضرورة أنّ محل الكلام في المسألة إنّما هو في تعلق الأمر
بالطبيعة أو بفردٍ ما من أفراد تلك الطبيعة،وأمّا الطبائع الاُخرى وأفرادها فجميعاً خارجة عن متعلق الأمر على كلا القولين،بداهة أ نّه لم يرد من القول بتعلقه بالفرد تعلقه بفردٍ ما من هذه الطبيعة وفردٍ ما من الطبائع الاُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي.
ولنأخذ مثالاً لذلك كالصلاة مثلاً فانّ القائل بتعلق الأوامر بالطبائع يدعي أنّ الأمر تعلق بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أيّة خصوصية من الخصوصيات، والقائل بتعلقها بالأفراد يدّعي أ نّه تعلق بفردٍ ما من أفرادها،ولا يدّعي أ نّه تعلق بفردٍ ما من أفرادها وأفراد الطبائع الاُخرى كالغصب أو نحوه،ضرورة أ نّه لا معنى لهذه الدعوى أبداً،كيف فانّ الأمر على الفرض متعلق بالصلاة على كلا التقديرين،وليس هو متعلقاً بها وبغيرها مما هو ملازم لها وجوداً وخارجاً،وقد عرفت أنّ تلك الأعراض واللوازم وجودات اخرى وأفراد لطبائع غيرها ومقولات مختلفة لكلٍّ منها وجود وماهية مباين لوجود المأمور به وماهيته.
نعم،لو بني النزاع في المقام على أنّ المتلازمين هل يجوز اختلافهما في الحكم أم لا،تظهر الثمرة هنا،فانّه لو بنينا على عدم جواز اختلافهما في الحكم،وأنّ الحكم المتعلق بأحدهما يسري إلى الآخر،فلا بدّ من الالتزام بالقول بالامتناع في مورد الاجتماع.وأمّا إذا بنينا على جواز اختلافهما في الحكم وعدم سرايته من أحدهما إلى الآخر،فلا مناص من القول بالجواز فيه،وهذه نعمت الثمرة، إلّا أنّ البناء على كون المتلازمين في الوجود لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم وأ نّه يسري من أحدهما إلى الآخر،خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً، ضرورة أنّ الثابت إنّما هو عدم جواز اختلافهما في الحكم،بأن يكون أحدهما