آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة،وأمّا كونهما لابدّ أن يكونا متوافقين فيه فهو لم يثبت قطعاً لعدم الدليل عليه أصلاً،فإذن لا يمكن ابتناء النزاع في المسألة على هذا،كما أ نّه لايمكن ابتناؤه على ماذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وكيف كان فالعجب منه (قدس سره) كيف غفل عن هذه النقطة الواضحة، وهي أنّ هذه الأعراض واللوازم ليست متعلقة للأمر على كلا القولين كما عرفت بشكل واضح.ولعل منشأ غفلته عنها تخيل كون تلك اللوازم والأعراض من مشخصات المأمور به في الخارج،ولكنّك عرفت أنّ هذا مجرد خيال لا واقع له،وأنّ مثل هذا الخيال عن مثله (قدس سره) غريب،وذلك لما سبق من أنّ تلك الأعراض لاتعقل أن تكون من مشخصات الوجود خارجاً،فانّ تشخص الوجود كما مرّ بنفسه لا بشيء آخر،بل إنّها وجودات اخرى في قبال ذلك الوجود وملازمة له في الخارج.
فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت:أنّ النزاع المعقول في هذه المسألة هو ما ذكرناه،لا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وعلى هذا فلا ثمرة للمسألة أصلاً كما عرفت.
نلخص نتيجة البحث عن هذه المسألة في عدّة خطوط:
الأوّل: أنّ النزاع المعقول في هذه المسألة إنّما هو ابتناء ذلك على وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده فيه،وإلّا فقد عرفت أنّ النزاع فيها بظاهره لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
الثاني: أنّ الصحيح هو وجود الطبيعي في الخارج،وذلك لأجل أنّ إسناد الوجود إلى الفرد كما أ نّه حقيقي،كذلك إسناده إلى الطبيعي،ضرورة أ نّه لا فرق بين قولنا زيد موجود وقولنا الانسان موجود،ولا نعني بوجود الطبيعي في
الخارج إلّاذلك،بل لا نعقل لوجوده فيه معنىً محصّلاً ما عدا كون إضافة الوجود الخارجي إليه حقيقية،كما أنّ إضافته إلى الفرد كذلك.
الثالث: أنّ الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد،وتكفي شاهداً على ذلك مراجعة الوجدان في هذا الباب.
الرابع: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في هذه المسألة من أنّ مردّ القول بتعلق الأمر بالطبيعة هو أنّ المأمور به نفس الطبيعي ومشخصاته تماماً خارجة عنه،ومردّ القول بتعلقه بالفرد هو أنّ المأمور به الفرد مع مشخصاته فتكون مشخصاته داخلة فيه،وعلى هذا رتّب ثمرة مهمّة في مسألة اجتماع الأمر والنهي،لا يمكن المساعدة عليه،وذلك لما عرفت من أنّ تشخص كل وجود بنفسه لا بوجود آخر،ومجرد كون وجودٍ ملازماً لوجود آخر في الخارج لا يوجب أن يكون تشخصه به.وعليه فلوازم وجود المأمور به خارجاً غير داخلة فيه وخارجة عن متعلق الأمر على كلا القولين كما سبق.
الخامس: أ نّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً ولا يترتب على البحث عنها ما عدا ثمرة علمية.
غير خفي أنّ الوجوب إذا نسخ فلا دلالة فيه على بقاء الجواز،لا بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ ما توهم دلالته عليه لا يخلو من أن يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ،وشيء منهما لا يدل على هذا.أمّا الأوّل فلأنّ مفاده إنّما هو رفع الوجوب الثابت بدليل المنسوخ، فلا يدل على أزيد من ذلك أصلاً.وأمّا الثاني فلأنّ مفاده ثبوت الوجوب وقد ارتفع على الفرض ولا دلالة له على غيره.
ودعوى أنّ الوجوب ينحل إلى جواز الفعل مع المنع من الترك،فالمرفوع بدليل الناسخ إنّما هو المنع من الترك،وأمّا الجواز الذي هو بمنزلة الجنس فلا دليل على ارتفاعه أصلاً،فإذن لا محالة يكون باقياً، خاطئة جداً غير مطابقة للواقع في شيء،وذلك لأنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فانّما تتم في المركبات الحقيقية كالانسان والحيوان وما شاكلهما،وأمّا في البسائط الخارجية فلا تتم أصلاً،ولا سيّما في الأحكام الشرعية التي هي امور اعتبارية محضة وتكون من أبسط البسائط،ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلّااعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلف أو محروميته عنه.
ومن هنا قلنا إنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شيء منها مجعولاً شرعياً،فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار،غاية الأمر إن نصب الشارع قرينةً على الترخيص في
الترك فينتزع العقل منه الاستحباب،وإن لم ينصب قرينةً عليه فينتزع منه الوجوب.
وعلى ضوء هذا،فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه،ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله،بل المجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار،ومن الواضح جداً أ نّه لا جنس ولا فصل له،بل هو بسيط في غاية البساطة، ولأجل ذلك فلا يتصف إلّابالوجود مرّة وبالعدم مرّة اخرى،ولا ثالث لهما، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ حقيقة النسخ بحسب مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده،بمعنى أنّ سعة الجعل من الأوّل ليست بأزيد من ذلك،ومن هنا كان النسخ في الحقيقة تخصيصاً بحسب الأزمان في مقابل التخصيص بحسب الأفراد،فلا يكون في الواقع رفع بل فيه دفع وانتهاء الحكم بانتهاء مقتضيه.
نعم،بحسب مقام الاثبات وظاهر الدليل يكون رفعاً.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ معنى النسخ انتهاء اعتبار المجعول بانتهاء أمده،والكاشف عن ذلك في مقام الاثبات إنّما هو دليل الناسخ، وعليه فلا موضوع للبحث عن أ نّه بعد نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا،ضرورة أنّ الوجوب والجواز بكلا معنييه ليسا من المجعولات الشرعية ليقع البحث عن أ نّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز أم لا،بل هما أمران منتزعان بحكم العقل كما عرفت.
وقد تحصّل من هذا البيان امور:
الأوّل: أ نّه لا موضوع لما اشتهر بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أ نّه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا،لما عرفت من
أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً ليقع الكلام في ذلك.
الثاني: أ نّه لا موضوع لدعوى ابتناء النزاع في المسألة على إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل،لما مرّ من أنّ الاعتبار بسيط في غاية البساطة فلا جنس ولا فصل له.
الثالث: أ نّه لا مجال لدعوى استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب، ضرورة أنّ هذه الدعوى ترتكز على أن يكون كل من الوجوب والجواز مجعولاً شرعياً،وقد عرفت خلافه وأ نّهما أمران انتزاعيان،والمجعول الشرعي إنّما هو اعتبار المولى لا غيره،والمفروض أ نّه قد ارتفع بدليل الناسخ،فإذن لا موضوع للاستصحاب.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً،فمع ذلك لا دليل لنا على بقاء الجواز،والوجه في ذلك أمّا أوّلاً:فلأنّ الوجوب أمر بسيط وليس مركباً من جواز الفعل مع المنع من الترك،وتفسيره بذلك تفسير بما هو لازم له لا تفسير لنفسه،وهذا واضح.وأمّا ثانياً:فلو سلّمنا أنّ الوجوب مركب إلّاأنّ النزاع هنا في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب وعدم بقائه ليس مبتنياً على النزاع في تلك المسألة،أعني مسألة إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم امكانه،وذلك لأنّ النزاع في تلك المسألة إنّما هو في الامكان والاستحالة العقليين،وأمّا النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو في الوقوع الخارجي وعدم وقوعه بعد الفراغ عن أصل إمكانه،وكيف كان فإحدى المسألتين أجنبية عن المسألة الاُخرى بالكلّية.
وأمّا دعوى جريان الاستصحاب في هذا الفرض،بتقريب أنّ الجواز قبل نسخ الوجوب متيقن،وبعد نسخه نشك في بقائه فنستصحب فمدفوعة، فانّه مضافاً إلى أ نّه من الاستصحاب في الأحكام الكلّية،وقد ذكرنا غير مرّة أ نّه
لا يجري فيها على وجهة نظرنا،غير جارٍ في نفسه في المقام،وذلك لأنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي،لأنّ المتيقن لنا وهو الجواز في ضمن الوجوب قد ارتفع يقيناً بارتفاع الوجوب،والفرد الآخر منه مشكوك الحدوث، فإذن قد اختلّت أركان الاستصحاب فلا يجري.
وقد تحصّل مما ذكرناه:أ نّه بعد نسخ الوجوب لا دليل على ثبوت شيء من الأحكام غيره،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى العموم أو الاطلاق لو كان،وإلّا فإلى الأصل العملي وهو يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى.
ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدّة امور:
الأوّل: أنّ الوجوب إذا نسخ فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص،بل قد عرفت أنّ الوجوب ليس مجعولاً شرعياً،والمجعول الشرعي إنّما هو نفس الاعتبار القائم بالمعتبر،ومعنى نسخه هو انتهاء ذلك الاعتبار بانتهاء أمده،فإذن لا معنى للبحث عن هذا ولا موضوع له.
الثاني: أنّ ابتناء النزاع في المسألة على النزاع في إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه باطل،فانّ الحكم حيث إنّه أمر اعتباري بسيط في غاية البساطة فلا جنس له ولا فصل.
الثالث: أ نّه بناءً على ما ذكرناه فلا مجال للتمسك بالاستصحاب في المقام، مضافاً إلى أ نّه من الاستصحاب في الحكم الكلّي من ناحية،ومن القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي من ناحية اخرى.
قد اختلف العلماء فيه إلى عدّة آراء ومذاهب:
المذهب الأوّل: أنّ الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال،مثلاً في موارد التخيير بين القصر والاتمام لو اختار المكلف القصر مثلاً فهو الواجب عليه ولو عكس فبالعكس.وهذا المذهب لسخافته تبرأ منه كل من نسب إليه، ولذا ذكر صاحب المعالم (قدس سره) 1أنّ كلاً من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا المذهب إلى الآخر وتبرأ منه،وكيف كان فلازم هذه النظرية هو أنّ الواجب يختلف باختلاف المكلفين،بل باختلاف حالاتهم،فلو اختار أحدهم في المثال المزبور القصر في مقام الامتثال والآخر التمام،فالواجب على الأوّل هو القصر واقعاً وعلى الثاني هو التمام كذلك،أو لو اختار أحدهم القصر في يوم والتمام في يوم آخر فالواجب عليه في اليوم الأوّل هو القصر وفي اليوم الثاني التمام،وكذا الحال في كفارة شهر رمضان وما شاكلها.
فالنتيجة:هي أنّ وجوب الواجب في هذا الفرض واقعاً تابع لاختيار المكلف في مقام الامتثال،بحيث لا وجوب له قبل اختياره في الواقع ونفس الأمر.
ويردّه أوّلاً: أ نّه مخالف لظواهر الأدلة الدالة على وجوب فعلين أو أفعال على نحو التخيير،ولا تعيّن لما هو الواجب على المكلف في الواقع ونفس الأمر،
فما يختاره مصداق للواجب لا أ نّه الواجب بعينه.
وثانياً: أ نّه منافٍ لقاعدة الاشتراك في التكليف،ضرورة أنّ لازم هذا القول كما عرفت هو اختلاف التكليف باختلاف المكلفين،بل باختلاف حالاتهم،ففي المثال المتقدم لو اختار أحدهم القصر مثلاً والآخر التمام،فيكون تكليف الأوّل واقعاً هو القصر والثاني هو التمام،أو لو اختار أحدهم صوم شهرين متتابعين مثلاً والآخر عتق الرقبة والثالث إطعام ستّين مسكيناً،فيكون الواجب على الأوّل واقعاً هو الصوم وعلى الثاني العتق وعلى الثالث الاطعام،ومن الواضح جداً أنّ هذا منافٍ صريح لقاعدة الاشتراك في التكليف التي هي من القواعد الضرورية،فإذن لا يمكن الالتزام بهذه النظرية أبداً.
وثالثاً: أنّ لازم هذا القول أن لا يكون وجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما وترك امتثاله وعصيانه،ضرورة أنّ الوجوب إنّما يتحقق باختيار المكلف إيّاه في مقام الامتثال كما هو المفروض،وأمّا قبل اختياره فلا وجوب واقعاً ليصدق عليه أ نّه تركه وعصاه فيستحقّ العقوبة.
وإن شئت فقل: إنّ لازم هذه النظرية هو أنّ وجوب كل منهما في الواقع مشروط باختيار المكلف إيّاه في ظرف الامتثال،ولازمه هو أ نّه لا وجوب له قبل اختياره،ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه،كما هو واضح،فإذن لا موضوع للعصيان واستحقاق العقوبة عند ترك المكلف الاتيان بالجميع، ضرورة أنّ إيجاد الشرط غير واجب عليه،وهذا بديهي البطلان.
ورابعاً: أ نّه إذا لم يكن شيء منهما واجباً في حال العصيان فلا يكون واجباً في حال الامتثال أيضاً،والوجه في ذلك:هو أنّ كلاً من العصيان والامتثال وارد على موضوع واحد،فيتحقق العصيان فيه مرّةً والامتثال مرّة اخرى،فإذا فرض أ نّه لم يكن واجباً في حال العصيان فلا يعقل أن يكون واجباً في حال
الامتثال،مثلاً الصلاة قصراً إذا لم تكن واجبة في حال عصيانها،فلا محالة لا تكون واجبةً في حال امتثالها أيضاً،ضرورة أ نّها إمّا أن تكون في الواقع واجبة أو ليست بواجبة فيه فلا ثالث لهما.وعلى الأوّل فهي واجبة في كلتا الحالتين،وعلى الثاني فهي غير واجبة كذلك،لوضوح أ نّه لا يعقل أن يكون وجوبها مشروطاً بامتثالها والاتيان بها في الخارج،فانّ مردّه إلى طلب الحاصل واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وهو غير معقول،فالنتيجة أنّ هذه النظرية لا ترجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
المذهب الثاني: هو أن يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجباً تعييناً ومتعلقاً للارادة،ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر،فيكون مردّ هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الاتيان بالآخر.
وقد صحح هذه النظرية بعض مشايخنا المحققين (قدس سرهم) 1بأحد نحوين:
الأوّل: أن يفرض أنّ لكل واحد منها مصلحة ملزمة قائمة به،مثلاً للصوم مصلحة إلزامية قائمة بنفسه وتقتضي إيجابه،وكذا للعتق والاطعام،فالقائم بها مصالح متباينة لا متقابلة بحيث لا يمكن الجمع بينها،وبما أنّ تلك المصالح لزومية فلذا أوجب الشارع الجميع،ولكن مصلحة التسهيل والارفاق تقتضي تجويز الشارع ترك كل منها إلى بدل،فلذا أجاز ترك كل منها عند الاتيان بالآخر وامتثال أمره،ونتيجة ذلك هي أ نّه إذا ترك الكل فلا يعاقب إلّاعلى ترك ما لا يجوز تركه،وهو ليس إلّاالواحد منها،وإذا فعل الكل دفعة واحدة كان ممتثلاً بالاضافة إلى الجميع،واستشهد على ذلك بأ نّه ربّما لا يكون إرفاق
في البين فلذا أوجب الجمع بين الخصال كما في كفارة الإفطار بالحرام.
الثاني: أن يفرض أنّ الغرض المترتب على الخصال-أعني الصوم والعتق والاطعام-وإن كان واحداً نوعياً وواحداً بالسنخ،إلّاأنّ الالزامي من ذلك الغرض وجود واحد منه،وبما أنّ نسبة كل منها إلى ذلك الوجود الواحد على السوية،فلذا يجب الجميع،لأنّ وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول، ووجوب أحدها المعيّن ترجيح بلا مرجّح،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:حيث إنّ وجوداً واحداً من ذلك الغرض لازم،فلأجل ذلك يجوز ترك كل منها عند الاتيان بالآخر.
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية بكلا تفسيريها.
أمّا تفسيرها الأوّل: فيرد عليه:
أوّلاً: أ نّه مخالف لظاهر الدليل،حيث إنّ ظاهر العطف فيه بكلمة (أو) هو وجوب أحدهما أو أحدها لا وجوب الجميع،كما هو واضح.
وثانياً: أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في شيء ما عدا تعلق الأمر به،وحيث إنّ الأمر فيما نحن تعلق بأحد الطرفين أو الأطراف، فلا محالة لا نستكشف إلّاقيام الغرض به،فإذن لا طريق لنا إلى كشف تعدد الملاك أصلاً،فيحتاج الحكم بتعدده وقيامه بكل منها إلى دعوى علم الغيب.
وثالثاً: أ نّه لا طريق لنا إلى أنّ مصلحة التسهيل والارفاق على حد توجب جواز ترك الواجب،وعلى فرض تسليم أ نّها تكون بهذا الحد فهي عندئذ تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع،ضرورة أنّ مصلحة ما عدا واحداً منها مزاحمة بتلك المصلحة،أعني مصلحة التسهيل والارفاق،ومن الواضح جداً أنّ المصلحة المزاحمة بمصلحة اخرى لا تدعو إلى جعل حكم شرعي أصلاً،
وغير قابلة لأن تكون منشأً له،فإذن إيجاب الجميع بلا مقتض.
وعلى الجملة:فمصلحة التسهيل والارفاق لو كانت الزامية فتمنع عن أصل جعل الوجوب لجميع الأطراف أو الطرفين،لا أ نّها توجب جواز ترك الواجب، ضرورة أ نّه لا أثر للمصلحة المزاحمة بمصلحة اخرى،ويكون وجودها وعدمها سيّان،فإذن يكون إيجاب الجميع بلا داعٍ وهو يستحيل أن يصدر من الحكيم.
فالنتيجة هي أنّ الواجب أحدها لا الجميع.
ثمّ إنّه على فرض إيجاب الجميع وعدم كون مصلحة التسهيل والارفاق مانعة منه،فلا موجب لسقوط وجوب بعضها بفعل الآخر،ضرورة أ نّه بلا مقتضٍ وسبب،فانّ سقوط وجوب الواجب بأحد امور لا رابع لها،الأوّل:
امتثاله والاتيان بمتعلقه خارجاً،الموجب لحصول غرضه فانّه مسقط له لا محالة.
الثاني:العجز عن امتثاله وعدم القدرة على الاتيان بمتعلقه في الخارج،سواء أكان من ناحية العصيان أو غيره.الثالث:النسخ،والمفروض أنّ الاتيان بالواجب الآخر ليس شيئاً من هذه الاُمور.
ودعوى أ نّه إذا فرض أنّ وجوب كل منها مشروط بعدم الاتيان بالآخر فلا محالة يكون إتيانه مسقطاً له،مدفوعة بأنّ الأمر وإن كان كذلك على فرض ثبوت تلك الدعوى،إلّاأ نّها غير ثابتة،فانّه مضافاً إلى عدم الدليل عليها، إنّها مخالفة لظواهر الأدلة في المقام،حيث إنّ الظاهر منها وجوب أحد الأطراف أو الطرفين لا وجوب الجميع بنحو الاشتراط،أي اشتراط وجوب كلٍ بعدم الاتيان بالآخر.
ورابعاً: لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مصلحة التسهيل والارفاق إلزامية، وسلّمنا أيضاً أ نّها لا تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع وإنّما توجب جواز ترك الواجب إلى بدل،الذي يكون مردّه إلى تقييد وجوب كل منها بعدم
الاتيان بالآخر،ولكن لازم ذلك هو الالتزام في صورة المخالفة وعدم الاتيان بشيء منها باستحقاق العقاب على ترك كل منها،ضرورة أ نّه لا يجوز ترك الواجب بدون الاتيان ببدله،وإنّما يجوز الترك إلى بدل لا مطلقاً،فإذا فرض أنّ المكلف ترك الصوم بلا بدل وترك العتق والاطعام كذلك،فلا محالة يستحقّ العقاب على ترك كل منها.
فما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أ نّه في هذا الفرض يستحق عقاباً واحداً،وهو العقاب على ما لا يجوز تركه وهو الواحد منها،لا يرجع إلى معنىً محصّل،وذلك لأنّ عدم استحقاقه العقاب على ترك البقية عند الاتيان بواحد منها من جهة أنّ تركها إلى بدل،وقد عرفت أ نّه جائز وإنّما لا يجوز تركها بلا بدل،والمفروض أنّ عند ترك الجميع يكون ترك كل منها بلا بدل فيستحقّ العقاب عليه.
وبكلمة اخرى:أنّ ترك كل واحد منها مقتضٍ لاستحقاق العقاب،لفرض أ نّه ترك الواجب،والمانع منه إنّما هو الاتيان بالآخر،فإذا فرض أ نّه لم يأت به أيضاً وتركه فلا مانع من استحقاقه العقاب أصلاً،فيكون العقاب عندئذ على الجمع بين التركين أو التروك،وقد مرّ نظير ذلك في بحث الترتب 1وقلنا هناك إنّ المكلف إذا ترك الأهم والمهم معاً فيستحق عقابين،ويكون العقابان على الجمع بين ترك هذا وترك ذاك،مع أنّ من الواضح جداً أ نّه لا يمكن الالتزام بتعدد العقاب في المقام أبداً ولم يلتزم به أحد فيما نعلم.
وأمّا تفسيرها الثاني، فيردّه:
أوّلاً: أ نّه خلاف ظاهر الدليل،فانّ الظاهر كما عرفت وجوب أحد الأطراف أو الطرفين لا وجوب الجميع.
وثانياً: أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز أنّ الغرض المترتب على الخصال واحد بالسنخ والنوع وأنّ الالزامي منه وجود واحد،فانّه يحتاج إلى علم الغيب.
وثالثاً: على تقدير تسليم ذلك إلّاأنّ لازمه وجوب أحد تلك الخصال لا وجوب الجميع.
ودعوى أنّ وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول،ووجوب أحدها المعيّن ترجيح بلا مرجح،فلا محالة وجب الجميع فاسدة،وذلك لأنّا لا نقول بوجوب أحدهما المردد في الواقع ليقال إنّه غير معقول،ولا بوجوب أحدهما المعيّن ليكون ترجيحاً من غير مرجح،بل نقول بوجوب أحدهما لا بعينه وهو غير أحدهما المردد في الواقع المعبّر عنه بأحدهما المصداقي،ضرورة أنّ الأوّل قابل لتعلق التكليف به دون هذا.
فها هنا دعويان:الاُولى:أنّ أحدهما لا بعينه المعبّر عنه بالجامع الانتزاعي قابل لتعلق التكليف به.الثانية:أنّ أحدهما المردد في الواقع غير قابل له.
أمّا الدعوى الاُولى:فلأنّه لا يعتبر في متعلق التكليف الذي هو أمر اعتباري أن يكون جامعاً ذاتياً،بل يجوز أن يكون جامعاً انتزاعياً،وهو عنوان أحد الفعلين أو الأفعال،كما سيأتي بيانه بشكل واضح 1.
وأمّا الدعوى الثانية:فلأنّ المردد في الواقع والخارج محال في ذاته،ضرورة أ نّه لا ثبوت ولا وجود له فيه،فإذن كيف يتعلق الأمر به،وهذا واضح.فما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أنّ الأمر في المقام لا يخلو من أن يتعلق بأحدهما المردد في الواقع وأن يتعلق بأحدهما المعيّن فيه أو بالجميع،وحيث إنّ
الأوّل والثاني غير معقول فيتعين الثالث،غير صحيح،لما عرفت من أنّ هنا شقاً رابعاً وهو تعلق الأمر بأحدهما لا بعينه المعبّر عنه بالجامع الانتزاعي، وهو قابل لتعلق التكليف به كما سنتعرّض له عن قريب إن شاء اللّٰه،غاية الأمر أنّ المكلف مخيّر في تطبيقه على هذا الفرد أو ذاك.
ورابعاً: على تقدير تسليم أنّ الواجب هو الجميع،إلّاأنّ لازم ذلك هو تعدد العقاب عند ترك الجميع وعدم الاتيان بشيء منها،ضرورة أنّ الجائز هو ترك كل منها إلى بدل لا مطلقاً،كما مرّ آنفاً.
فالنتيجة أنّ هذا القول بكلا تفسيريه لا يرجع إلى معنىً صحيح.
المذهب الثالث: هو ما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نص كلامه:والتحقيق أن يقال إنّه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أ نّه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما،بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض،ولذا يسقط به الأمر،كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما،وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقلياً لا شرعياً،وذلك لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين،لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول،وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.
وإن كان بملاك أ نّه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر باتيانه،كان كل واحد واجباً بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلّاإلى الآخر،وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما،فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقاً ولا مفهوماً كما هو واضح،إلّاأن يرجع إلى ما
ذكرناه فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل،من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينهما،ولا أحدهما معيّناً،مع كون كل واحد منهما مثل الآخر في أ نّه وافٍ بالغرض 1.
أقول: ما أفاده (قدس سره) يرجع إلى عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الغرض في المقام إذا كان واحداً بالذات والحقيقة فلا محالة يكشف عن وجود جامع وحداني ذاتي بين الفعلين أو الأفعال،بقاعدة أنّ الاُمور المتباينة لا يمكن أن تؤثّر أثراً واحداً بالسنخ،فوحدة الغرض هنا تكشف عن جهة جامعة حقيقية بينها،فيكون ذلك الجامع هو متعلق الوجوب بحسب الواقع والحقيقة،وإن كان متعلقه بحسب الظاهر هو كل واحد منها، وعليه فيكون التخيير بينها عقلياً لا شرعياً،فالنتيجة أنّ مردّ هذه الفرضية إلى انكار التخييري الشرعي كما لا يخفى.
الثانية: ما إذا كان الغرض متعدداً في الواقع،وكان كل واحد منه قائماً بفعل،إلّاأنّ حصول واحد من الغرض مضاد لحصول الآخر،فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج،فعندئذ لا مناص من الالتزام بوجوب كل منهما بنحو يجوز تركه إلى بدل لا مطلقاً،ضرورة أ نّه بلا موجب ومقتضٍ بعد فرض أنّ الغرضين المترتبين عليهما متضادان فلا يمكن تحصيل كليهما معاً،وعليه فيكون التخيير بينهما شرعياً،ضرورة أنّ مردّ هذه الفرضية إلى وجوب هذا أو ذاك، ولا نعني بالتخيير الشرعي إلّاهذا.
الثالثة: أنّ الواجب ليس هو أحدهما لا بعينه،لا مصداقاً أعني به الفرد
المردد بحسب الواقع والخارج،ولا مفهوماً أعني به الجامع الانتزاعي المنتزع منهما.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط،فنقول:إنّ هذه النقاط جميعاً خاطئة وغير مطابقة للواقع.
أمّا النقطة الاُولى: فقد ذكرنا في أوّل الكتاب 1عند البحث عن موضوع العلم أنّ هذه القاعدة،أعني قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير إنّما تتم في الواحد الشخصي من تمام الجهات دون الواحد النوعي،ضرورة أ نّه قد برهن في محلّه أنّ هذه القاعدة وقاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد إنّما تتمان في الواحد بالشخص دون الواحد بالنوع.
والوجه في ذلك ملخّصاً:هو أنّ كل معلول طبيعي يتعيّن في مرتبة ذات علّته،بقانون أنّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد،والمراد من التشخص هو تشخصه في مرتبة ذات علّته،ففي تلك المرتبة ما لم يتشخص لم يوجد في الخارج،والمراد من التشخص في تلك المرتبة هو أنّ المعلول الطبيعي بما أ نّه مرتبة نازلة من وجود علّته فلا محالة يتشخص في مرتبة وجود علّته بملاك أ نّه كامن في ذاتها ومرتبة من مراتب وجودها،وفي مرتبة نفسه يتشخص بوجوده الخاص،وهذا هو المراد من تشخصه السابق واللّاحق،كما أنّ المراد من وجوبه السابق في قولهم الشيء ما لم يجب لم يوجد هو التشخص السابق وهو التشخص في مرتبة ذات العلّة ووجودها،كما أنّ المراد من وجوبه اللّاحق هو تشخصه بوجوده الخاص.
وعلى ضوء هذا الأساس لا يعقل تشخص معلول واحد شخصي في مرتبة
ذات علّتين مستقلّتين،فان مردّ ذلك إلى تعدد الواحد الشخصي،لفرض أنّ وجوده في مرتبة ذات هذه العلّة يباين وجوده في مرتبة ذات العلّة الاُخرى، وهو محال.
وبهذا البيان قد ظهر حال القاعدة الثانية أيضاً،وذلك لأنّ لازم صدور معلولين من علّة واحدة شخصية هو أن تكون في مرتبة ذاتها جهتان متباينتان لتؤثر بإحداهما في معلولٍ وبالاُخرى في آخر،لما عرفت من أنّ كل معلول يتعين في مرتبة ذات علّته وأ نّه من مراتب وجودها،فإذا فرض أنّ العلة واحدة شخصية من جميع الجهات،امتنع تعيّن معلولين متباينين في مرتبة ذاتها ووجودها،ضرورة أ نّه لا يعقل أن يكون كلاهما من مراتب وجودها ومتعيناً في ذاتها،مثلاً إذا كانت الحرارة من مراتب وجود النار فلا يعقل أن تكون البرودة من مراتب وجودها…وهكذا.
وبكلمة اخرى: أنّ لازم فرض تعيّن معلولين متباينين في مرتبة ذات العلّة، أ نّه لا بدّ من فرض جهتين متباينتين فيها لا اشتراك بينهما أصلاً،ليكون المؤثر في أحدهما جهة وفي الآخر جهة اخرى،بملاك قاعدة السنخية التي هي معتبرة بين العلل والمعاليل الطبيعية،بداهة أ نّه يستحيل أن يكون المؤثر فيهما جهة واحدة شخصية،وهذا خلف.
وبعد ذلك نقول: إنّ ما ذكرناه من البرهان على استحالة صدور الواحد عن الكثير واستحالة صدور الكثير عن الواحد لا يجري في الواحد النوعي، ضرورة أ نّه لا مانع من صدور الكثير عن الواحد بالنوع،فان مردّه بحسب التحليل والواقع إلى صدور كل معلول شخصي عن فرد منه،وإسناد صدوره إلى الجامع باعتبار ذلك،كما هو واضح.ومن المعلوم أنّ البرهان المزبور لا يمنع عن ذلك أصلاً،كما أ نّه لا يمنع عن صدور الواحد النوعي عن الكثير،فانّه
خارج عن موضوع تلك القاعدة،حيث إنّ مردّه إلى استناد كل فرد إلى علّة أو كل مرتبة منه إليها،كالحرارة المستندة إلى إشراق الشمس مرّة،وإلى النار مرّة اخرى وإلى الغضب مرّة ثالثة،وإلى الحركة مرّة رابعة،وإلى القوّة الكهربائية مرّة خامسة…وهكذا،كما أ نّه عند اجتماع تلك الأسباب والعلل على شيء يكون المؤثر في إيجاد الحرارة فيه هو المجموع لا كل واحد منها،ولذا لو كان واحد منها لم يوجد فيه إلّامرتبة ضعيفة منها والمفروض أنّ المجموع قد أوجد فيه مرتبة شديدة تنحل إلى مراتب متعددة،يستند كل مرتبة منها إلى واحد منها لا الجميع،ومن الواضح أنّ هذا خارج عن موضوع القاعدة المذكورة، لاختصاصها كما عرفت بالواحد الشخصي من تمام الجهات،وهذه الحرارة المستندة إلى الجميع ليست واحدة من تمام الجهات،بل هي ذات مراتب متعددة وكل مرتبة منها يستند إلى علّة.
أو فقل: إنّها واحدة بالنوع من هذه الناحية لا واحدة بالشخص.فإذن لا يمكن دعوى أنّ المؤثر فيها هو الجامع بين تلك الأسباب لا كل واحد واحد منها،فانّ هذه الدعوى مضافاً إلى أ نّها خلاف الوجدان غير ممكنة في نفسها، بداهة أ نّه لايعقل وجود جامع ذاتي بين هذه الأسباب،لأنّها مقولات متعددة، فانّ النار من مقولة الجوهر،والقوّة الكهربائية مثلاً من مقولة الأعراض…
وهكذا،وقد حقق في محلّه أ نّه لا يمكن اندراج المقولات تحت مقولة اخرى، فانّها أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها،فلا يعقل وجود جامع ماهوي بينها وإلّا لم يمكن حصر المقولات في شيء.
فالنتيجة: أنّ الواحد النوعي لا يكشف عن وجود جامع وحداني أصلاً، وبما أنّ الغرض المترتب على الواجب التخييري ليس واحداً شخصياً،بل هو واحد بالنوع،فلا يكشف عن وجود جامع ماهوي بين الفعلين أو الأفعال،
هذا مضافاً إلى أنّ سنخ هذا الغرض غير معلوم لنا وأ نّه واحد بالذات والحقيقة أو واحد بالعنوان،ومن الواضح جداً أنّ الكاشف عن الواحد بالذات ليس إلّا الواحد بالذات،وأمّا الواحد بالعنوان فلا يكشف إلّاعن واحد كذلك،وحيث إنّا لا نعلم بسنخ الغرض في المقام على فرض كونه واحداً،فلا نعلم سنخ الجامع المستكشف منه أ نّه واحد بالذات أو بالعنوان،فإذن لا يثبت ما ادّعاه من وجود جامع ذاتي بينهما [ هذا أوّلاً ].
وثانياً: أنّ ما أفاده (قدس سره) لو تمّ فانّما يتمّ فيما يمكن وجود جامع حقيقي بينهما،كأن يكونا فردين أو نوعين من طبيعة واحدة،وأمّا فيما إذا لم يمكن وجود جامع كذلك كما إذا كان كل منهما من مقولة على حدة فلا يتم أصلاً،ومن الواضح أنّ التخيير بين فعلين أو أفعال لا يختص بما إذا كانا من مقولة واحدة،بل كما يمكن أن يكونا كذلك يمكن أن يكون أحدهما من مقولة والآخر من مقولة اخرى،أو أن يكون أحدهما أمراً وجودياً والآخر أمراً عدمياً،ومن المعلوم أ نّه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينهما في أمثال ذلك كما هو واضح.
وثالثاً: لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ما أفاده (قدس سره) صحيح،إلّاأنّ الجامع المزبور مما لا يصلح أن يكون متعلقاً للأمر،ضرورة أنّ متعلق الأمر لا بدّ أن يكون أمراً عرفياً قابلاً للالقاء إليهم،وأمّا هذا الجامع المستكشف بالبرهان العقلي فهو خارج عن أذهانهم وغير قابل لأن يتعلق به الخطاب، لوضوح أنّ الخطابات الشرعية المتوجهة إلى المكلفين على طبق المتفاهم العرفي، ولا يعقل تعلق الخطاب بما هو خارج عن متفاهمهم،وحيث إنّ هذا خارج عنه فلا يعقل تعلق الخطاب به.
وأمّا النقطة الثانية: فيرد عليها:
أوّلاً: أ نّها مخالفة لظواهر الأدلة،فانّ الظاهر من العطف بكلمة (أو) هو أنّ الواجب أحدهما لا كلاهما.
وثانياً: أنّ فرض كون الغرضين متضادين فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج مع فرض كون المكلف قادراً على إيجاد كلا الفعلين فيه بعيد جداً،بل هو ملحق بأنياب الأغوال،ضرورة أ نّا لا نعقل التضاد بين الغرضين مع عدم المضادّة بين الفعلين،فإذا فرض أنّ المكلف متمكن من الجمع بينهما خارجاً فلا مانع من إيجابهما معاً عندئذ.
وثالثاً: أ نّا لو سلّمنا ذلك فرضاً وقلنا بالمضادة بين الغرضين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج،إلّاأنّ من الواضح جداً أ نّه لا مضادة بين تركيهما معاً، فيتمكن المكلف من ترك كليهما بترك الاتيان بكلا الفعلين خارجاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ العقل مستقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم،ولا يفرق بينه وبين تفويت الواجب الفعلي.ومن ناحية ثالثة:
أنّ فيما نحن فيه وإن لم يستحقّ العقاب على ترك تحصيل أحد الغرضين عند تحصيل الآخر من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في الخارج،إلّاأ نّه لا مانع من استحقاق العقاب عليه عند تركه تحصيل الآخر.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أ نّه يستحقّ العقابين عند جمعه بين التركين،لفرض أ نّه مقدور له فلا يكون العقاب عليه عقاباً على ما ليس بالاختيار.هذا نظير ما ذكرناه في بحث الترتب 1وقلنا هناك إنّ المكلف يستحق عقابين عند جمعه بين ترك الأهم والمهم معاً،وأ نّه ليس عقاباً على ما لا يكون بالاختيار،لفرض أنّ الجمع بينهما مقدور له،وفيما نحن فيه كذلك،إذ
لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب فيه أصلاً،فانّ المانع من العقاب على ترك أحدهما عند الاتيان بالآخر هو عدم إمكان تحصيله بعد الاتيان به،لفرض المضادة بينهما.وأمّا العقاب على ترك كل منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر فلا مانع منه أصلاً،لما عرفت من استقلال العقل باستحقاق العقاب على ترك الملاك الملزم،والمفروض في المقام أنّ كلاً من الملاكين ملزم في نفسه،وعليه فلا محالة إذا ترك المكلف كليهما معاً يستحق عقابين:عقاباً على ترك هذا،وعقاباً على ترك ذاك.
وبكلمة اخرى: أنّ مقتضى كون كل من الغرضين ملزماً في نفسه هو وجوب كلٍّ من الفعلين،غاية الأمر من جهة المضادة بين الغرضين وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج لا محالة يكون وجوب كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا يمكن أن يكون الواجب في هذا الفرض هو أحدهما المعيّن،لاستلزامه الترجيح بلا مرجح،فانّه بعد فرض كون كل منهما مشتملاً على الملاك الملزم في نفسه،وأ نّهما من هذه الناحية على نسبة واحدة،فتخصيص الوجوب بأحدهما خاصة دون الآخر لا يمكن.وكذا لا يمكن أن يكون الواجب هو أحدهما لا بعينه،وذلك لأنّه بعد فرض كون الغرض في المقام متعدداً لا موجب لأن يكون الواجب واحداً،مع أ نّه خلاف مفروض كلامه (قدس سره).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين قد أصبحت:أ نّه لا مناص من الالتزام بما ذكرناه،وهو وجوب كل من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، غاية الأمر أنّ إطلاق وجوب كل منهما يقيّد بعدم الاتيان بالآخر،ولازم هذا هو أنّ المكلف إذا ترك كليهما معاً يستحق عقابين:عقاباً على ترك هذا وعقاباً على ترك ذاك،لفرض أنّ وجوب كل منهما عندئذ فعلي من جهة تحقق شرطه
وهو عدم الاتيان بالآخر،وهذا مما لم يلتزم به أحد.
ورابعاً: أنّ الغرضين المزبورين لا يخلوان من أن يمكن اجتماعهما في زمان واحد،بأن تكون المضادة بين وجود أحدهما مترتباً على وجود الآخر لا مطلقاً، وأن لا يمكن اجتماعهما فيه أصلاً.فعلى الأوّل لا بدّ من الالتزام بايجاب الشارع الجمع بين الفعلين أو الأفعال في زمان واحد فيما إذا تمكن المكلف منه،وإلّا لفوّت عليه الملاك الملزم،وهو قبيح منه.ومن الواضح أنّ هذا خلاف مفروض الكلام في المسألة،ومخالف لظواهر الأدلة،فلا يمكن الالتزام به أصلاً.
وعلى الثاني فلازمه هو أنّ المكلف إذا أتى بهما معاً في الخارج وفي زمان واحد،أن لا يقع شيء منهما على صفة المطلوبية،إذ وقوع أحدهما على هذه الصفة دون الآخر ترجيح من دون مرجّح،ووقوع كليهما على تلك الصفة لا يمكن لوجود المضادة بينهما،مع أ نّه من الواضح البديهي أنّ المكلف إذا أتى بهما في زمان واحد يقع أحدهما على صفة المطلوبية،ضرورة أ نّه إذا جمع بين طرفي الواجب التخييري أو أطرافه وأتى بها دفعةً واحدة امتثل الواجب وحصل الغرض منه لا محالة،وهذا ظاهر.فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن أنّ ما ذكروه من الوجوه لتصوير الواجب التخييري لا يرجع شيء منها إلى معنىً صحيح.
[
]
الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظاً على ظواهر الأدلة:هو أنّ الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه،وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية،غاية الأمر أنّ متعلق الوجوب في
الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة والجامع الحقيقي،وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني،فهذا هو نقطة انطلاق الفرق بينهما.
وتخيّل أ نّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما في المقام ضرورة أ نّه ليس له واقع موضوعي غير تحققه في عالم الانتزاع والنفس، فلا يمكن أن يتعدّى عن افق النفس إلى ما في الخارج،ومن الواضح أنّ مثله لا يصلح أن يتعلق به الأمر.
خيال خاطئ جداً، بداهة أ نّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً بل تتعلق به الصفات الحقيقية كالعلم والارادة وما شاكلهما،فما ظنّك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض،وقد تقدّم منّا غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية سواء أكانت وضعية أو تكليفية امور اعتبارية،وليس لها واقع ما عدا اعتبار الشارع،ومن المعلوم أنّ الأمر الاعتباري كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي،فلا مانع من اعتبار الشارع ملكية أحد المالين للمشتري عند قول البائع بعت أحدهما،بل وقع ذلك في الشريعة المقدّسة كما في باب الوصية،فانّه إذا أوصى الميت بملكية أحد المالين لشخصٍ بعد موته فلا محالة يكون ملكاً له بعد موته،وتكون وصيته بذلك نافذة،وكذا لا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال في ذمّة المكلف.
وعلى الجملة: فلا شبهة في صحّة تعلق الأمر بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما،ومجرد أ نّه لا واقع موضوعي له لا يمنع عن تعلقه به،ضرورة أنّ الأمر لا يتعلق بواقع الشيء،بل بالطبيعي الجامع،ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون متأصلاً أو غير متأصل أصلاً.
وتخيّل أنّ الجامع الانتزاعي لا يصلح أن يكون متعلقاً للتكليف،ضرورة أنّ التكليف تابع لما فيه المصلحة أو المفسدة،ومن الواضح جداً أ نّه لا مصلحة
في ذلك المفهوم الانتزاعي،والمصلحة إنّما هي في فعل المكلف الصادر منه في الخارج،فإذن لا محالة يكون التكليف متعلقاً به لا بالعنوان المزبور،وعليه فلا بدّ من الالتزام بأحد الوجوه المزبورة خاطئ جداً وغير مطابق للواقع، وذلك لعدم الطريق لنا إلى معرفة سنخ الغرض الداعي إلى إيجاب شيء أو تحريمه،ولا نعلم ما هو سنخه.
نعم،نعلم من أمر الشارع بشيء أو نهيه عن آخر أنّ في الأوّل مصلحة تقتضي إيجابه،وفي الثاني مفسدة تقتضي تحريمه،ولكن لا نعلم سنخ تلك المصلحة وسنخ تلك المفسدة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه يجب علينا التحفظ على ظواهر الأدلة،وتعيين الحكم ومتعلقه بها.ومن ناحية ثالثة:
أ نّا نعلم أنّ الاتيان بمتعلق الوجوب في الخارج محصّل للمصلحة الداعية إلى إيجابه،ولا يبقى مجال لها بعده.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أ نّه لا بدّ من الالتزام بأنّ متعلق الوجوب في موارد الواجبات التخييرية هو العنوان الانتزاعي من جهة ظهور الأدلة في ذلك،ضرورة أنّ الظاهر من العطف بكلمة«أو»هو وجوب أحد الفعلين أو الأفعال،وعلى هدى ذلك نعلم أنّ الغرض الداعي إلى إيجابه قائم به، لفرض أ نّه لا طريق لنا إلى إحرازه ما عداه،كما أ نّا نعلم بحصول هذا الغرض وتحققه في الخارج باتيانه في ضمن أيّ من هذين الفعلين أو الأفعال شاء المكلف إتيانه فيه.
وبكلمة اخرى: أنّ المستفاد من الأدلة بحسب المتفاهم العرفي هو أنّ متعلق الوجوب الجامع الانتزاعي،ومن الواضح أنّ مردّ ذلك بحسب التحليل العلمي إلى عدم دخل شيء من خصوصية الطرفين أو الأطراف فيه،ولتوضيح ذلك نأخذ مثالاً:وهو ما إذا أوجب المولى إطعام ستّين مسكيناً أو صوم شهرين
متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة كما في كفارة صوم شهر رمضان،فلا محالة يكون مردّ هذا إلى عدم دخل شيء من خصوصياتها في غرض المولى الداعي إلى الأمر بأحدها،لفرض أ نّه يحصل باتيان كل منها في الخارج،هذا من جانب.
ومن جانب آخر:المفروض أنّ الغرض لم يقم بكل واحد منها،وإلّا لكان كل منها واجباً تعيينياً.ومن جانب ثالث:أنّ وجوب أحدها المعيّن في الواقع لا يمكن بعد ما كان الجميع في الوفاء بغرض المولى على نسبة واحدة.
ونتيجة ذلك لا محالة هي وجوب الجامع بين هذه الاُمور،وأنّ الغرض الداعي له يحصل باتيانه في ضمن إيجاد أيّ فرد منها شاء المكلف إيجاده، لوضوح أنّ مردّ وجوب الجامع بالتحليل إلى عدم دخل شيء من خصوصيات هذه الاُمور،وأنّ الغرض المزبور يترتب على فعل كلٍ منها في الخارج من دون خصوصية لهذا وذاك أصلاً،وهذا أمر معقول في نفسه،بل واقع في العرف والشرع،فانّ غرض المولى إذا تعلق بأحد الفعلين أو الأفعال فلا محالة يأمر بالجامع بينهما وهو أحدهما لا بعينه،مع عدم ملاحظة خصوصية شيء منها.
ومن هنا يظهر أنّ مرادنا من تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلقه به بما هو موجود في النفس ولا يتعدى عن افقها إلى افق الخارج،ضرورة أ نّه غير قابل لأن يتعلق به الأمر أصلاً وأن يقوم به الغرض،بل مرادنا من تعلق الأمر به بما هو منطبق على كل واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج،ويكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلف،فله أن يطبّق على هذا،وله أن يطبّق على ذاك.ولعل منشأ تخيل أ نّه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي هو تعلقه به على النحو الأوّل دون الثاني.
وقد تحصّل من ذلك أ نّه لا مانع من أن يكون المأمور به هو العنوان الانتزاعي على النحو المزبور،لا من ناحية الأمر ولا من ناحية الغرض كما عرفت.
أضف إلى ما ذكرناه:أ نّه يمكن تعلق الصفة الحقيقية بأحد أمرين أو امور، فما ظنّك بالأمر الاعتباري،وذلك كما إذا علمنا إجمالاً بعدالة أحد شخصين مع احتمال أن يكون الآخر أيضاً عادلاً ولكن كان في الواقع كلاهما عادلاً،ففي مثل ذلك لا تعيّن للمعلوم بالاجمال حتّى في علم اللّٰه،ضرورة أ نّه لا واقع له غير هذا المفهوم المنتزع،فلا يمكن أن يقال إنّ المعلوم بالاجمال عدالة هذا دون عدالة ذاك أو بالعكس،لفرض أنّ نسبة المعلوم بالاجمال إلى كل واحد منهما على حد سواء.
وبكلمة واضحة: أ نّا قد ذكرنا في محلّه أ نّه لا واقع ولا تعيّن للمعلوم بالاجمال مطلقاً،أمّا في مثل المثال المزبور فواضح.وأمّا فيما إذا فرض أنّ أحدهما عادل في الواقع وعلم اللّٰه دون الآخر،ففي مثل ذلك أيضاً لا تعيّن له، ضرورة أنّ العلم الاجمالي لم يتعلق بعدالة خصوص هذا العادل في الواقع،وإلّا لكان علماً تفصيلياً وهذا خلف،بل تعلق بعدالة أحدهما،ومن الواضح جداً أ نّه ليس لعنوان أحدهما واقع موضوعي وتعيّن في عالم الخارج،بل هو مفهوم انتزاعي في عالم النفس،ولا يتعدى عن افق النفس إلى ما في الخارج،وله تعيّن في ذلك العالم لا في عالم الواقع والخارج،ومن المعلوم أنّ متعلق العلم هو ذلك المفهوم الانتزاعي لا ما ينطبق عليه هذا المفهوم،لفرض أ نّه متعيّن في الواقع وعلم اللّٰه،والعلم لم يتعلق به وإلّا لكان علماً تفصيلياً لا إجمالياً.
فالنتيجة قد أصبحت من ذلك:أ نّه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية كالعلم والارادة وما شاكلهما بالجامع الانتزاعي الذي ليس له واقع ما عدا نفسه، فضلاً عن الأمر الاعتباري.
ومن هنا يتبين أ نّه لا فرق بين الواجب التعييني والواجب التخييري إلّافي
نقطة واحدة،وهي أنّ متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة كالصلاة والصوم والحج وما شاكلها،وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة كعنوان أحدهما،وأمّا من نقاط اخرى فلا فرق بينهما أصلاً،فكما أنّ التطبيق في الواجبات التعيينية بيد المكلف،فكذلك التطبيق في الواجبات التخييرية، وكما أنّ متعلق الأمر في الواجبات التعيينية ليس هو الأفراد كذلك متعلق الأمر في الواجبات التخييرية.
[
]
بقى هنا شيء: وهو أ نّه هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر أم لا ؟ وجهان، فذهب بعضهم إلى عدم إمكانه،بدعوى أ نّه مع تحقق الأقل في الخارج وحصوله يحصل الغرض،فإذن يكون الأمر بالأكثر لغواً فلا يصدر من الحكيم.
وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نص كلامه:
لكنّه ليس كذلك،فانّه إذا فرض أنّ المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه،بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله،وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافياً به أيضاً،فلا محيص عن التخيير بينهما،إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص،فانّ الأكثر بحدّه يكون مثله على الفرض،مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطويل إذا رسم بما له من الحد لا على القصير في ضمنه، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه،ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الامكان.
إن قلت: هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل في ضمنه وجود على حدة،كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين، لكنّه ممنوع فيما إذا كان له في ضمنه وجود كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه،فانّ الأقل قد وجد بحدّه وبه يحصل الغرض على الفرض،ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله،فيكون زائداً على الواجب لا من أجزائه.
قلت: لا يكاد يختلف الحال بذاك،فانّه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر،وإنّما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام،ومعه كان مترتباً على الأكثر بالتمام.وبالجملة إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحدّه مما يترتب عليه الغرض،فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما عقلياً إن كان هناك غرض واحد،وتخييراً شرعياً فيما كان هناك غرضان على ما عرفت.نعم،لو كان الغرض مترتباً على الأقل من دون دخل للزائد،لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلاً له،بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره، مستحباً كان أو غيره حسب اختلاف الموارد فتدبر جيداً 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا مانع من الالتزام بالتخيير بين الأقل والأكثر فيما إذا كان كل منهما بحدّه محصلاً للغرض،وعليه فلا يكون الأقل في ضمن الأكثر محصّلاً له، ومعه لا مانع من الالتزام بالتخيير بينهما.وبكلمة اخرى:أنّ الغرض إذا كان مترتباً على حصة خاصة من الأقل،وهي الحصة التي لا تكون في ضمن الأكثر (بشرط لا) لا على الأقل مطلقاً،فلا مناص عندئذ من الالتزام بالتخيير بينهما
أصلاً،ولا يفرق في ذلك بين أن يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر كتسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاث،وأن لا يكون له وجود كذلك كالخط القصير في ضمن الخط الطويل،والوجه فيه ما عرفت من أنّ الغرض إنّما يترتب على حصة خاصة من الأقل،وعليه فكما أ نّه لا أثر لوجود الخط القصير في ضمن الخط الطويل ولا يكون محصّلاً للغرض،فكذلك لا أثر لوجود تسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاث،لفرض أنّ الغرض إنّما يترتب عليها فيما إذا لم تكن في ضمنها لا مطلقاً،وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بالتخيير بينهما.
الثانية: أنّ الغرض إذا كان واحداً فيكون الواجب هو الجامع بينهما،لفرض أنّ المؤثر في الواحد لا يكون إلّاالواحد بالسنخ،وحيث إنّ الغرض واحد على الفرض،فالمؤثر فيه لا بدّ أن يكون واحداً،لاستحالة تأثير الكثير في الواحد، وذلك الواحد هو الجامع بينهما،فإذن لا محالة يكون الواجب هو ذلك الجامع لا غيره،وعليه فيكون التخيير بينهما عقلياً لا شرعياً،وأمّا إذا كان متعدداً فالتخيير بينهما شرعي كما تقدّم.
الثالثة: أنّ الغرض إذا كان مترتباً على خصوص الأقل من دون دخل للزائد فيه أصلاً،فلا يكون الأكثر عدلاً له،بل كان فيه اجتماع الوجوب وغيره،سواء أكان ذلك الغير استحباباً أو غيره.
ولنأخذ بدرس هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي وإن كانت في غاية الصحة والمتانة في نفسها،إلّا أ نّها خاطئة بالاضافة إلى مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقل والأكثر، وذلك لأنّ ما فرضه صاحب الكفاية (قدس سره) وإن كان تخييراً بينهما صورةً،إلّاأنّ من الواضح جداً أ نّه بحسب الواقع والحقيقة تخيير بين المتباينين،
وذلك لفرض أنّ الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء،فإذا فرض أنّ الأقل مأخوذ بشرط لا كما هو مفروض كلامه،لا محالة يكون مبايناً للأكثر المأخوذ بشرط شيء،ضرورة أنّ الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر بحسب الواقع والدقّة العقلية،بل هو من التخيير بين المتباينين،وعليه فما فرضه (قدس سره) من التخيير بينهما خارج عن محل الكلام ولا إشكال في إمكانه بل وقوعه خارجاً في العرف والشرع،ومحل الكلام إنّما هو فيما إذا كان الغرض مترتباً على وجود الأقل مطلقاً،أي ولو كان في ضمن الأكثر،بأن يكون مأخوذاً لا بشرط، ومن الواضح جداً أنّ التخيير بينهما في هذا الفرض غير معقول،ضرورة أ نّه كلّما تحقق الأقل يحصل به الغرض،ومعه يكون الأمر بالزائد لغواً محضاً.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه:أنّ الأقل إن كان مأخوذاً بشرط لا، فالتخيير بينه وبين الأكثر وإن كان أمراً معقولاً إلّاأ نّه بحسب الواقع داخل في كبرى التخيير بين المتباينين لا الأقل والأكثر كما عرفت،وإن كان مأخوذاً لا بشرط فلا يعقل التخيير بينه وبين الأكثر،ضرورة أ نّه بمجرد تحقق الأقل ولو في ضمن الأكثر يحصل الغرض،ومعه لا يبقى مجال للاتيان بالأكثر أصلاً،فإذن جعله في أحد طرفي التخيير يصبح لغواً محضاً فلا يصدر من الحكيم.وعلى ضوء هذا البيان إن أراد القائل باستحالة التخيير بينهما التخيير على النحو الأوّل الذي هو تخيير شكلي بينهما لا واقعي موضوعي،فيردّه ما ذكرناه من أ نّه لا شبهة في إمكانه بل وقوعه خارجاً،لما عرفت من أ نّه ليس تخييراً بين الأقل والأكثر،بل هو تخيير في الحقيقة بين المتباينين.وإن أراد باستحالة التخيير بينهما التخيير على النحو الثاني فالأمر كما ذكره.
ومن هنا يظهر أنّ التخيير بين القصر والتمام في الأمكنة الأربعة ليس تخييراً
بين الأقل والأكثر واقعاً وحقيقةً،وإن كان كذلك بحسب الشكل،وذلك لأنّ صلاة القصر مشروطة شرعاً بالتسليمة في الركعة الثانية وعدم زيادة ركعة اخرى عليها،وصلاة التمام مشروطة شرعاً بالتسليمة في الركعة الرابعة وعدم الاقتصار بها،فهما من هذه الناحية-أي من ناحية اعتبار الشارع-ماهيتان متباينتان،فالتخيير بينهما لا محالة يكون من التخيير بين أمرين متباينين لا الأقل والأكثر،ضرورة أنّ الأثر لا يترتب على الركعتين مطلقاً ولو كانتا في ضمن أربع ركعات،وإنّما يترتب عليهما بشرط لا وهذا واضح.وأمّا التسبيحات الأربع فالمستفاد من الروايات هو وجوب إحداها لا جميعها،فإذن لا يعقل التخيير بين الواحدة والثلاث،ضرورة أنّ الغرض مترتب على واحدة منها، فإذا تحققت تحقق الغرض،ومعه لا يبقى مجال للاتيان بالبقية أصلاً.نعم، الاتيان بها مستحب،فإذا أتى المكلف بثلاث فقد أتى بواجب ومستحب.
وعلى الجملة فحال التسبيحتين الأخيرتين حال القنوت وبقية الأذكار المستحبة في الصلاة.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه:أنّ التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول،وما نراه من التخيير بينهما في العرف والشرع تخيير شكلي لا واقعي موضوعي،فانّ بحسب الواقع ليس التخيير بينهما،بل بين أمرين متباينين كما مرّ.
وأمّا النقطة الثانية: فقد تقدّم الكلام فيها وفي النقد عليها بشكل واضح 1فلا نعيد.
وأمّا النقطة الثالثة: فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره) إلّاأنّ مردّها
إلى عدم تعقل التخيير بين الأقل والأكثر على ما ذكرناه،كما هو واضح.
ونتيجة هذا البحث في عدّة خطوط:
الأوّل: أنّ القول في المسألة بأنّ الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال دون غيره،باطل جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،وقد دلّت على بطلانه وجوه أربعة:1-أ نّه مخالف لظاهر الدليل.2-أ نّه منافٍ لقاعدة الاشتراك في التكليف.3-أ نّه يستلزم عدم الوجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما في مقام الامتثال.4-أ نّه إذا لم يكن شيء واجباً حال عدم الامتثال لم يكن واجباً حال الامتثال أيضاً.
الثاني: أنّ شيخنا المحقق (قدس سره) 1قد وجّه القول بأنّ كلاً منهما واجب تعييناً،غاية الأمر أنّ وجوب كل منهما يسقط باتيان الآخر بتوجيهين:
1-أن يفرض قيام مصلحة لزومية بكل منهما،ولأجل ذلك أوجب الشارع الجميع،ولكن مصلحة التسهيل تقتضي جواز ترك كل منهما إلى بدل.2-أن يفرض أنّ المصلحة المترتبة على كل منهما وإن كانت واحدة بالنوع،إلّاأنّ الالزامي من تلك المصلحة وجود واحد،وبما أنّ نسبته إلى الجميع على حد سواء،فلذا أوجب الجميع،وقد ناقشنا في كلا هذين التوجيهين بشكل واضح وقدّمنا ما يدل على عدم صحّتهما كما سبق.
الثالث: أنّ ما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الغرض إن كان واحداً فالواجب هو الجامع بين الفعلين أو الأفعال،ويكون التخيير بينهما عقلياً،وإن كان متعدداً فالواجب هو كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر،لا يمكن المساعدة عليه،فانّ الفرض الأوّل يرتكز على أن يكون المقام
من صغرى قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير،وقد مرّت المناقشة فيه من وجوه:
1-اختصاص تلك القاعدة بالواحد الشخصي وعدم جريانها في الواحد النوعي،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الغرض في المقام واحد نوعي لا شخصي،فالنتيجة على ضوئهما هي عدم جريان القاعدة في المقام.2-أنّ الدليل أخص من المدّعى لعدم تعقل الجامع الذاتي في جميع موارد الواجبات التخييرية كما سبق.3-أنّ مثل هذا الجامع لا يصلح أن يتعلق به التكليف، لأنّ متعلقه لا بدّ أن يكون جامعاً عرفياً.
وأمّا الفرض الثاني فهو يرتكز على أن يكون الغرضان المفروضان متضادين.
وقد عرفت المناقشة فيه أيضاً من وجوه:1-أ نّه خلاف ظاهر الدليل.2-أنّ كون الغرضين متضادين مع عدم التضاد بين الفعلين ملحق بأنياب الأغوال.
3-أ نّه يستلزم استحقاق المكلف عقابين عند ترك الفعلين معاً،وهذا مما لا يمكن الالتزام به،كما سبق.
الرابع: أنّ الواجب في موارد الواجبات التخييرية هو أحد الفعلين أو الأفعال،والوجه فيه هو أنّ الأدلة بمقتضى العطف بكلمة«أو»ظاهرة في ذلك ولا بدّ من التحفظ على هذا الظهور.
الخامس: أ نّه لا مانع من تعلق الأمر بعنوان أحدهما،بل قد تقدّم أ نّه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية به كالعلم والارادة وما شاكلهما فضلاً عن الأمر الاعتباري.
السادس: أنّ الغرض قائم بهذا العنوان الانتزاعي،ولا مانع منه أصلاً، وذلك لفرض أ نّه لا طريق لنا إلى إحرازه في شيء ما عدا تعلق الأمر به،كما أ نّه لا طريق لنا إلى معرفة سنخه.
السابع: أ نّه لا فرق بين الواجب التخييري والواجب التعييني إلّافي نقطة واحدة،وهي أنّ متعلق الوجوب في الأوّل الجامع الانتزاعي،وفي الثاني الجامع الذاتي،وأمّا من نقاط اخر فلا فرق بينهما أصلاً.
الثامن: أنّ التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول،وما نراه من التخيير بين القصر والتمام وما شاكلهما تخيير شكلي وصوري لا واقعي وحقيقي،فانّه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين،لفرض أنّ القصر في اعتبار الشارع مباين للتمام،فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر،بل هو من التخيير بين المتباينين…وهكذا.
التاسع: أ نّه لا فرق في جواز التخيير بين الأقل والأكثر وامتناعه،بين أن يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر أم لا.
لا يخفى أنّ الأمر الوارد من قبل الشرع كما أ نّه بحاجة إلى المتعلق،كذلك هو بحاجة إلى الموضوع،فكما أ نّه لا يمكن تحققه ووجوده بدون الأوّل،فكذلك لا يمكن بدون الثاني،ولا فرق في ذلك بين وجهة نظر ووجهة نظر آخر،فانّ حقيقة الأمر سواء أكانت عبارة عن الارادة التشريعية،أم كانت عبارة عن الطلب الانشائي كما هو المشهور،أم كانت عبارة عن البعث والتحريك كما عن جماعة،أم كانت عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو نحوها كما هو المختار عندنا،على جميع هذه التقادير بحاجة إلى الموضوع كحاجته إلى المتعلق.
أمّا على الأوّل فواضح،وذلك لأنّ الارادة لا توجد في افق النفس بدون المتعلق،لأنّها من الصفات الحقيقية ذات الاضافة،فلا يعقل أن توجد بدونه، فالمتعلق إذا كان فعل نفسه فهي توجب تحريك عضلاته نحوه،وإن كان فعل غيره فلا محالة يكون المراد منه ذلك الغير،بمعنى أنّ المولى أراد صدور هذا الفعل منه في الخارج.
وأمّا على الثاني فأيضاً كذلك،ضرورة أنّ الطلب كما لا يمكن وجوده بدون المطلوب،كذلك لايمكن وجوده بدون المطلوب منه،لأنّه في الحقيقة نسبة بينهما، وهذا واضح.
وأمّا على الثالث،فلأنّ البعث نحو شيء لا يمكن أن يوجد بدون بعث أحد
نحوه،والتحريك نحو فعل لايمكن أن يتحقق بدون متحرك،ضرورة أنّ التحريك لا بدّ فيه من محرّك ومتحرك وما إليه الحركة،من دون فرق في ذلك بين أن تكون الحركة حركة خارجية وأن تكون اعتبارية،كما هو واضح.
وأمّا على الرابع فأيضاً الأمر كذلك،لما عرفت من أنّ معنى الأمر هو اعتبار الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز.ومن المعلوم أنّه كما لا يمكن أن يتحقق في الخارج بدون متعلق،كذلك لا يمكن أن يتحقق بدون فرض وجود المكلف فيه كما هو واضح،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الواجبات الكفائية تمتاز عن الواجبات العينية في نقطة،وهي أنّ المطلوب في الواجبات العينية يتعدد بتعدد أفراد المكلف وينحل بانحلاله،فيكون لكل مكلف تكليف مستقل فلا يسقط عنه بامتثال الآخر…وهكذا،من دون فرق بين أن يكون الفعل في الواقع ومقام الثبوت ملحوظاً على نحو الاطلاق والسريان أو ملحوظاً على نحو الاطلاق والعموم البدلي الذي يعبّر عنه بصرف الوجود،أو ملحوظاً على نحو الاطلاق والعموم المجموعي،ضرورة أنّ التكليف في جميع هذه الصور ينحل بانحلال أفراد المكلف ويتعدد بتعددها،فلا فرق بينها من هذه الناحية أبداً،فالجميع من هذه الجهة على صعيد واحد.نعم،فرق بينها من ناحية اخرى،وهي أنّ التكليف ينحل بانحلال متعلقه أيضاً مع الأوّل دون الثاني والثالث.وسيجيء تفصيل ذلك بشكل واضح في مبحث النواهي إن شاء اللّٰه تعالى 1فلاحظ.وهذا بخلاف الواجبات الكفائية فانّ المطلوب فيها واحد ولا يتعدد بتعدد أفراد المكلف في الخارج،ولأجل ذلك وقع الكلام في تصوير ذلك وأ نّه كيف يعقل أن يكون الفعل الواحد مطلوباً بطلب واحد من الجميع.
وما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه:
الأوّل: أن يقال إنّ التكليف متوجه إلى واحد معيّن عند اللّٰه،ولكنّه يسقط عنه بفعل غيره لفرض أنّ الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.
ويردّه أوّلاً: أنّ هذا خلاف ظواهر الأدلة،فانّ الظاهر منها هو أنّ التكليف متوجه إلى طبيعي المكلف لا إلى فرد واحد منه المعيّن في علم اللّٰه،كما هو واضح.
وثانياً: لو كان الأمر كذلك فلا معنى لسقوط الواجب عنه بفعل غيره،فانّه على خلاف القاعدة فيحتاج إلى دليل،وإذا لم يكن دليل فمقتضى القاعدة عدم السقوط.ودعوى أنّ الدليل في المقام موجود،لفرض أنّ التكليف يسقط باتيان بعض أفراد المكلف وإن كانت صحيحة من هذه الناحية،إلّاأ نّه من المعلوم أنّ ذلك من ناحية أنّ التكليف متوجه إليه ويعمّه،ولذا يستحقّ الثواب عليه،لا من ناحية أ نّه يوجب سقوط التكليف عن غيره كما هو ظاهر.
وثالثاً: أنّ مثل هذا التكليف غير معقول،وذلك لأنّ المفروض أنّ توجه هذا التكليف إلى كل واحد من أفراد المكلف غير معلوم،فيكون كل منهم شاكّاً في ذلك،ومعه لا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه عقلاً وشرعاً،لفرض أنّ الشك في أصل ثبوت التكليف،وهذا هو القدر المتيقن من موارد جريان البراءة.
وعلى هذا فلا يمكن أن يصل هذا التكليف إلى المكلف أصلاً،لما ذكرناه من أنّ وصول التكليف يتوقف على وصول الكبرى والصغرى له معاً،والمفروض في المقام أنّ الصغرى غير واصلة،ضرورة أنّ من كان مكلفاً بهذا التكليف في الواقع غير معلوم وأ نّه من هو.
ومن الطبيعي أنّ جعل تكليف غير قابل للوصول إلى المكلف أصلاً لغو محض فلا يترتب عليه أيّ أثر،ومن المعلوم أنّ صدور اللغو من الحكيم مستحيل، فإذن يستحيل أن يكون موضوعه هو الواحد المعيّن عند اللّٰه،كما أ نّه لا يمكن
أن يكون موضوعه هو الواحد المعيّن مطلقاً حتّى عند المكلفين،وذلك لأنّه مضافاً إلى كونه مفروض العدم هنا،يلزم التخصيص بلا مخصص والترجيح من غير مرجح،فانّ نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع المكلفين على صعيد واحد، وعليه فتخصيص الواحد المعيّن منهم بتحصيله لا محالة يكون بلا مخصص.
الثاني: أن يقال التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع،بدعوى أ نّه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الاُمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً،كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي.
ويرد على ذلك أوّلاً: أنّ لازم هذا هو عدم حصول الغرض وعدم سقوط التكليف بفعل البعض،لفرض أنّ الفعل مطلوب من مجموع المكلف على نحو العموم المجموعي،والغرض مترتب على صدوره من مجموعهم على نحو الاشتراك،وعليه فمن الطبيعي أ نّه لا يسقط بفعل البعض ولا يحصل الغرض به، وهذا ضروري الفساد ولم يتوهّم أحد ولا يتوهّم ذلك.
وثانياً: أنّ هذا لو تمّ فانّما يتمّ فيما إذا كان التكليف متوجهاً إلى صرف وجود مجموع أفراد المكلف الصادق على القليل والكثير،دون مجموع أفراده المتمكنين من الاتيان به،ضرورة أنّ بعض الواجبات الكفائية غير قابل لأن يصدر من المجموع،فإذن كيف يمكن توجيه التكليف به إلى المجموع،وعلى كل فهذا الوجه واضح الفساد.
الثالث: أن يقال إنّ التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي،فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان،غاية الأمر أنّ وجوبه على كلٍ مشروط بترك الآخر.
ويردّه: مضافاً إلى أ نّه بعيد في نفسه-فانّ الالتزام بوجوبه أوّلاً واشتراطه بالترك ثانياً تبعيد للمسافة فلا يمكن استفادته من الأدلة-أنّ الشرط لو كان هو الترك في الجملة فلازمه هو أنّ المكلف لو ترك في برهة من الزمان ولو بمقدار دقيقة واحدة فقد حصل الشرط وتحقق،ومن المعلوم أ نّه إذا تحقق يجب على جميع المكلفين عيناً،وهذا خلف.ولو كان الشرط هو الترك المطلق فلازمه هو أ نّه لو أتى به جميع المكلفين لم يحصل الشرط-وهو الترك المطلق – وإذا لم يحصل فلا وجوب لانتفائه بانتفاء شرطه على الفرض،فإذن لا معنى للامتثال وحصول الغرض،ضرورة أ نّه على هذا الفرض لا وجوب في البين ليكون الاتيان بمتعلقه امتثالاً وموجباً لحصول الغرض في الخارج،على أ نّه لا مقتضي لذلك،والوجه فيه:هو أنّ الغرض بما أ نّه واحد وقائم بصرف وجود الواجب في الخارج،فلا بدّ أن يكون الخطاب أيضاً كذلك،وإلّا لكان بلا داعٍ وغرض.وهو محال.
نعم،لو كانت هناك أغراض متعددة بعدد أفعال المكلفين ولم يمكن الجمع بينها واستيفاؤها معاً لتضادها،فعندئذ لا محالة يكون التكليف بكل منها مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر على نحو الترتب،وقد ذكرنا في بحث الضدّ 1أنّ الترتب كما يمكن بين الحكمين في مقام الفعلية والامتثال،كذلك يمكن بين الحكمين في مقام الجعل والتشريع،فلا مانع من أن يكون جعل الحكم لأحد الأمرين مترتباً على عدم الاتيان بالآخر.
وغير خفي أنّ هذا مجرد فرض لا واقع له أصلاً.
أمّا أوّلاً: فلأنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام،فانّ المفروض في محل
الكلام هو ما إذا كان الغرض واحداً بالذات،وفرض تعدد الغرض بتعدد أفعال المكلفين فرض خارج عن مفروض الكلام.
وأمّا ثانياً: فلأنّ فرض التضاد بين الملاكات مع عدم التضاد بين الأفعال يكاد يلحق بأنياب الأغوال،بداهة أ نّه لا واقع لهذا الفرض أصلاً.على أ نّه لو كان له واقع فلا طريق لنا إلى إحراز تضادها وعدم إمكان الجمع بينها مع عدم التضاد بين الأفعال.
وأمّا ثالثاً: فلأنّ فرض تعدد الغرض إنّما يمكن فيما إذا كان الواجب متعدداً خارجاً،وأمّا إذا كان الواجب واحداً كما هو المفروض في المقام كدفن الميت وكفنه وغسله وصلاته ونحو ذلك،فلا معنى لأن تترتب عليه أغراض متعددة، فلا محالة يكون المترتب عليه غرضاً واحداً،بداهة أ نّه لا يعقل أن يكون المترتب على واجب واحد غرضين أو أغراض كما هو واضح،فالنتيجة أنّ هذا الوجه أيضاً فاسد.
الرابع: أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبّر عنه بصرف الوجود،وهذا الوجه هو الصحيح،بيان ذلك:هو أنّ غرض المولى كما يتعلق تارةً بصرف وجود الطبيعة،واُخرى بمطلق وجودها،كذلك يتعلق تارةً بصدوره عن جميع المكلفين واُخرى بصدوره عن صرف وجودهم،فعلى الأوّل الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر…وهكذا،وعلى الثاني فالواجب كفائي،بمعنى أ نّه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد واحد منهم،ويسقط بفعل بعض عن الباقي،وهذا واقع في العرف والشرع،ولا مانع منه أصلاً.
أمّا في العرف،فلأ نّه لا مانع من أن يأمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بايجاد فعلٍ ما في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدور هذا الفعل من خصوص
هذا وذاك،ولذا أيّ واحد منهم أتى به وأوجده فقد حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة،كما إذا أمر أحدهم باتيان ماء مثلاً ليشربه،فانّه من المعلوم أنّ أيّ واحد منهم قام به فقد وفى بغرض المولى.
وأمّا في الشرع فأيضاً كذلك،ضرورة أ نّه لا مانع من أن يأمر الشارع المكلفين بايجاد فعل في الخارج كدفن الميت مثلاً أو كفنه أو ما شاكل ذلك،من دون أن يتعلق غرضه بصدوره عن خصوص واحد منهم،بل المطلوب وجوده في الخارج من أيّ واحد منهم كان،فانّ نسبة ذلك الغرض الواحد إلى كل من المكلفين على السوية،فعندئذ تخصيص الواحد المعيّن منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح،وتخصيص المجموع منهم بتحصيل ذلك مع أ نّه بلا مقتضٍ وموجب باطل بالضرورة كما عرفت،وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتضٍ وموجب،إذ بعد كون الغرض واحداً يحصل بفعل واحد منهم،فوجوب تحصيله على الجميع لا محالة يكون بلا مقتضٍ وسبب،فإذن يتعين وجوبه على الواحد لا بعينه المعبّر عنه بصرف الوجود، ويترتب على ذلك أ نّه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض لا محالة وسقط الأمر،لفرض أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجود ولو أتى به جميعهم،كما إذا صلّوا على الميت مثلاً دفعةً واحدة كان الجميع مستحقاً للثواب،لفرض أنّ صرف الوجود في هذا الفرض يتحقق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا أو ذاك،وأمّا لو تركه الجميع لكان كل منهم مستحقاً للعقاب،فانّ صرف الوجود يصدق على وجود كل منهم من ناحية،والمفروض أنّ كلاً منهم قادر على إتيانه من ناحية اخرى.
فالنتيجة: هي أنّ الواجب الكفائي ثابت في اعتبار الشارع على ذمّة واحد من المكلفين لا بعينه،الصادق على هذا وذاك،نظير ما ذكرناه في بحث الواجب
التخييري من أنّ الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك لا خصوص أحدهما المعيّن،فلا فرق بين الواجب التخييري والواجب الكفائي إلّا من ناحية أنّ الواحد لا بعينه في الواجب التخييري متعلق الحكم،وفي الواجب الكفائي موضوعه.
بقي هنا فرع ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1هو أ نّه إذا فرضنا شخصين فاقدي الماء فتيمّما،ثمّ بعد ذلك وجدا ماءً لا يكفي إلّالوضوء أحدهما، فهل يبطل تيمم كل منهما أو لا يبطل شيء منهما أو يبطل واحد منهما لا بعينه دون الآخر ؟ وجوه.
قد اختار (قدس سره) الوجه الأوّل،وأفاد في وجه ذلك:أنّ في المقام اموراً ثلاثة:الأوّل:الأمر بالوضوء،الثاني:الأمر بالحيازة،الثالث:القدرة على الحيازة.لا إشكال في أنّ وجوب الوضوء مترتب على الحيازة الخارجية وكون الماء في تصرف المكلف،ليصدق عليه أ نّه واجد له فعلاً،وأمّا وجوب الحيازة على كل منهما فمشروط بعدم سبق الآخر وحيازته،وإلّا فلا وجوب،كما هو واضح،وعلى هذا فلا يمكن وجوب الوضوء على كل منهما فعلاً،لفرض أنّ الماء لا يكفي إلّالوضوء أحدهما،ولكن بطلان تيممهما لا يترتب على وجوب الوضوء لهما فعلاً،بل هو مترتب على تمكن المكلف من استعمال الماء وقدرته عليه عقلاً وشرعاً،والمفروض أنّ القدرة على الحيازة بالاضافة إلى كليهما موجودة فعلاً،ضرورة أنّ كلاً منهما متمكن فعلاً من حيازة هذا الماء في نفسه مع قطع النظر عن الآخر،وعدم كفاية الماء إلّالوضوء واحد إنّما يكون منشأً لوقوع التزاحم بين فعلية حيازة هذا وذاك خارجاً،لا بين القدرة على الحيازة، لما عرفت من أ نّها فعلية بالاضافة إلى كليهما معاً من دون أيّ تنافٍ في البين.
وعلى الجملة،فبما أنّ بطلان التيمم في الآية المباركة أو نحوها منوط بوجدان الماء،وقد ذكرنا أنّ المراد منه القدرة على استعماله عقلاً وشرعاً،فلا محالة يبطل تيمم كل منهما،لفرض أ نّه واجد للماء ومتمكن من استعماله كذلك،وهذا لا ينافي وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء خارجاً،وذلك لفرض أنّ تيمم كل مكلف مشروط بعدم الوجدان،فإذا كان واجداً وقادراً على الاستعمال لا محالة يفسد تيممه،ولا فرق فيه بين وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء وعدم وقوعه أصلاً،كما هو واضح.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) وهي أنّ هذين الشخصين لا يخلوان من أن يتسابقا إلى أخذ هذا الماء المفروض وجوده أم لا،فعلى الأوّل إن كان كل منهما مانعاً عن الآخر،كما إذا فرض كون قوّة أحدهما مساويةً لقوّة الآخر،فتقع الممانعة بينهما والمزاحمة إلى أن يضيق الوقت،فلا يتمكن واحد منهما من الوصول إلى الماء،فعندئذ لا وجه لبطلان تيممهما أصلاً ولا لبطلان تيمم أحدهما،لفرض عدم تمكنهما من استعمال الماء،وإذا كان أحدهما أقوى من الآخر فالباطل هو تيمم الأقوى دون الآخر،أمّا بطلان تيمم الأقوى،فلفرض أ نّه واجد للماء فعلاً،وأمّا عدم بطلان تيمم الآخر،فلكشف ذلك عن عدم قدرته على الوضوء أو الغسل،وأ نّه باقٍ على ما كان عليه من عدم الوجدان.
وعلى الثاني فيبطل كلا التيممين معاً،والوجه في ذلك:هو أنّ كلاً منهما قادر على حيازة هذا الماء واستعماله في الوضوء أو الغسل من دون مانع من الآخر، لفرض عدم تسابقهما إلى أخذه وحيازته ولو لأجل عدم المبالاة بالدين،وعليه فيصدق على كل منهما أ نّه واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً،ومعه لا محالة يبطل كلا التيممين معاً،وقد ذكرنا في محلّه أنّ وجوب الوضوء وبطلان التيمم في الآية المباركة مترتبان على وجدان الماء،فإذا كان المكلف واجداً له
وجب الوضوء وبطل تيممه وإلّا فلا،وهذا واضح،ولكن العجب من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كيف فصّل بين بطلان التيمم ووجوب الوضوء،مع أنّ وجوب الوضوء لا ينفك عن بطلان التيمم كما هو مقتضى الآية الكريمة،كما أ نّه لا وجه لما ذكره (قدس سره) من بطلان تيمم كليهما معاً،لما عرفت من أ نّه لا بدّ من التفصيل في ذلك.
ونتيجة هذا البحث عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الأمر كما أ نّه لا يمكن تحققه بدون متعلق،كذلك لا يمكن تحققه بدون موضوع على جميع المذاهب والآراء.
الثانية: أ نّه كما يمكن لحاظ متعلق الحكم تارةً على نحو العموم الاستغراقي واُخرى على نحو العموم المجموعي،وثالثة على نحو صرف الوجود،يمكن لحاظ الموضوع أيضاً كذلك،بأن يلحظ تارةً على نحو العموم الاستغراقي،واُخرى على نحو العموم المجموعي،وثالثة على نحو صرف الوجود.
الثالثة: أنّ الواجب الكفائي ثابت على ذمّة أحد المكلفين لا بعينه الذي عبّر عنه بصرف الوجود،لا على ذمّة جميع المكلفين ولا على ذمّة مجموعهم ولا على ذمّة الواحد المعيّن كما عرفت.
الرابعة: أنّ فرض تعدد الملاك فرض خارج عن محل الكلام،مع أ نّه لا شاهد عليه أصلاً كما مرّ.
الخامسة: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من بطلان تيمم شخصين كانا فاقدي الماء،ثمّ وجدا ماءً لا يكفي إلّالوضوء أحدهما فحسب،مطلقاً لا وجه له أصلاً كما سبق،كما أ نّه لا أصل لما ذكره (قدس سره) من التفصيل بين بطلان التيمم ووجوب الوضوء.
ينقسم الواجب باعتبار تحديده بزمان خاص وعدم تحديده به إلى موقّت وغير موقّت،وينقسم الموقّت باعتبار زيادة الزمان المحدّد له على الزمان الوافي باتيان الواجب فيه وعدم زيادته عليه إلى موسّع ومضيّق،والأوّل كالصلوات اليومية فانّ وقتها زائد على زمان فعلها فيتمكن المكلف من الاتيان بها في وقتها مرّات عديدة كما هو واضح،والثاني كصوم شهر رمضان أو نحوه فانّ الزمان المحدد له مساوٍ لزمان الاتيان به بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة.
قد يشكل في إمكان الواجب الموسّع تارةً،وفي المضيّق اخرى.
أمّا في الأوّل: فبدعوى أ نّه يستلزم جواز ترك الواجب في أوّل الوقت وهو ينافي وجوبه،كيف فانّ الواجب ما لا يجوز تركه،فإذا فرض أ نّه واجب في أوّل الوقت كيف يجوز تركه.
وغير خفي ما فيه من المغالطة،وذلك لأنّ الواجب هو الجامع بين المبدأ والمنتهى المعرى عنه جميع خصوصيات الأفراد من العرضية والطولية،والواجب على المكلف هو الاتيان بهذا الجامع بين هذين الحدّين لا في كل آنٍ ووقت ليكون تركه أوّل الوقت تركاً للواجب ولو اتي به في آخر الوقت،بل تركه فيه ترك لفرده وهو ليس بواجب على الفرض،ولذا لو ترك المكلف الصلاة في أوّل الوقت وأتى بها في آخر الوقت فلا يقال إنّه ترك الواجب،وقد تقدّم نظير هذا
الاشكال في الواجب التخييري أيضاً فيما إذا فرض أنّ كل واحد من الفعلين واجب فكيف يجوز تركه مع الاتيان بالآخر،مع أ نّه لا يجوز ترك الواجب، وقد أجبنا عنه بعين هذا الجواب،وقلنا بأنّ الواجب هو الجامع بينهما لا خصوص هذا وذاك،فإذن لو أتى المكلف بأحدهما وترك الآخر فلا يكون تاركاً للواجب.
وعلى الجملة: فلا فرق بين الأفراد العرضية والطولية من هذه الناحية أصلاً،فكما أنّ الواجب هو الجامع بين الأفراد العرضية،فكذلك هو الجامع بين الأفراد الطولية،فكما أنّ المكلف مخيّر في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده العرضية،فكذلك هو مخيّر في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده الطولية،ولا يكون تركه في ضمن فرد والاتيان به ضمن فرد آخر تركاً للواجب،من دون فرق في ذلك بين الأفراد العرضية والطولية أصلاً،فإذن لا وجه لهذا الاشكال أبداً.
وأمّا في الثاني: وهو الاشكال في إمكان وجود المضيّق،فبدعوى أنّ الانبعاث لا بدّ وأن يتأخّر عن البعث ولو آناً ما،وعليه فلا بدّ من فرض زمان يسع البعث والانبعاث معاً،أعني الوجوب وفعل الواجب،ولازم ذلك هو زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب،مثلاً إذا فرض تحقق وجوب الصوم حين الفجر فلا بدّ وأن يتأخر الانبعاث عنه آناً ما وهو خلاف المطلوب، ضرورة أنّ لازم ذلك هو خلوّ بعض الآنات من الواجب،وإذا فرض تحقق وجوب الصوم قبل الفجر يلزم تقدّم المشروط على الشرط وهو محال،وعليه فلا بدّ من الالتزام بعدم اشتراطه بدخول الفجر لئلّا يلزم تقدّم المعلول على علّته،ولازم ذلك هو عدم إمكان وجود الواجب المضيّق.
ويرد على ذلك أوّلاً: أنّ الملاك في كون الواجب مضيّقاً هو ما كان الزمان
المحدد له وقتاً مساوياً لزمان الاتيان بالواجب،بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة،وأمّا كون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب أو مساوياً له فهو أجنبي عمّا هو الملاك في كون الواجب مضيّقاً،ومن هنا لا شبهة في تصوير الواجب المضيّق والموسّع على القول بالواجب المعلق، مع أنّ زمان الوجوب فيه أوسع من زمان الواجب،ولم يتوهّم أحد ولا يتوهّم أ نّه لا يتصور المضيّق على هذه النظرية كما هو واضح.
وثانياً: أنّ تأخّر الانبعاث عن البعث ليس بالزمان ليلزم المحذور المزبور، بل هو بالرتبة كما لايخفى.نعم،العلم بالحكم وإن كان غالباً متقدماً على حدوثه، أي حدوث الحكم زماناً،إلّاأ نّه ليس مما لا بدّ منه،بداهة أنّ توقف الانبعاث عند تحقق موضوع البعث كالفجر في المثال المزبور مثلاً على العلم به-أي بالبعث-رتبي،وليس زمانياً كما هو واضح،كتقدّم العلم بالموضوع على العلم بالحكم.
[
]
ثمّ إنّ مقتضي القاعدة هل هو وجوب الاتيان بالموقّت في خارج الوقت إذا فات في الوقت اختياراً أو لعذر أم لا،مع قطع النظر عن الدليل الخاص الدال على ذلك كما في الصلاة والصوم ؟ هذه هي المسألة المعروفة بين الأصحاب قديماً وحديثاً في أنّ القضاء تابع للأداء أو هو بأمر جديد ؟ فيها وجوه بل أقوال:
الأوّل:وجوب الاتيان به مطلقاً.الثاني:عدم وجوبه كذلك.الثالث:التفصيل بين ما إذا كانت القرينة على التقيد متصلة وما إذا كانت منفصلة،فعلى الأوّل إن كانت القرينة بصورة قضية شرطية فتدل على عدم وجوب إتيانه في خارج الوقت،بناءً على ما هو المشهور من دلالة القضية الشرطية على المفهوم،وأمّا
إذا كانت بصورة قضية وصفية فدلالتها على ذلك تبتنيان على دلالة القضية الوصفية على المفهوم وعدم دلالتها عليه.وعلى الثاني-وهو كون القرينة منفصلة-فلا تمنع عن إطلاق الدليل الأوّل الدال على وجوبه مطلقاً في الوقت وفي خارجه،ضرورة أنّ القرينة المنفصلة لا توجب انقلاب ظهور الدليل الأوّل في الاطلاق إلى التقييد،بل غاية ما في الباب أ نّها تدل على كونه مطلوباً في الوقت أيضاً.فإذن النتيجة في المقام هي تعدد المطلوب،بمعنى كون الفعل مطلوباً في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة،ومطلوباً في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأوّل،وعليه فإذا لم يأت المكلف به في الوقت،فعليه أن يأتي به في خارج الوقت،وهذا معنى تبعية القضاء للأداء.
ولنأخذ بالنقد على هذا التفصيل وملخّصه:هو أ نّه لا فرق فيما نحن فيه بين القرينة المتصلة والمنفصلة،بيان ذلك:أنّ القرينة المتصلة كما هي تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان،كذلك القرينة المنفصلة فانّها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد هو المقيد من الأوّل،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.نعم،فرق بينهما من ناحية اخرى،وهي أنّ القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الاطلاق،ومعها لاينعقد له ظهور، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجّية ظهوره في الاطلاق دون أصله،ولكن من المعلوم أنّ مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في مفروض الكلام،ضرورة أ نّه لايجوز التمسك بالاطلاق بعد سقوطه عن الحجّية والاعتبار،سواء أكان سقوطه عنها بسقوط موضوعها وهو الظهور،كما إذا كانت القرينة متصلة،أم كان سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها،كما إذا كانت القرينة منفصلة، فالجامع بينهما هو أ نّه لا يجوز التمسك بهذا الاطلاق.
وعلى الجملة: فالقرينة المنفصلة وإن لم تضر بظهور المطلق في الاطلاق،
إلّا أ نّها مضرّة بحجّيته،فلا يكون هذا الظهور حجةً معها،لفرض أ نّها تكشف عن أنّ مراد المولى هو المقيد من الأوّل،فإذن لا أثر لهذا الاطلاق أصلاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّها لا تدل على أ نّه مطلوب في الوقت بنحو كمال المطلوب،ليكون من قبيل الواجب في الواجب،وإلّا لانسدّ باب حمل المطلق على المقيد في تمام موارد القيود الثابتة بقرينة منفصلة،سواء أكانت زماناً أو زمانيةً،إذ على هذا لا بدّ من الالتزام بتعدد التكليف وأنّ التكليف المتعلق بالمقيد غير التكليف المتعلق بالمطلق،غاية الأمر أنّ المقيد أكمل الأفراد.
مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية أو مع طهارة البدن أو اللباس أو مستقبلاً إلى القبلة أو ما شاكل ذلك غير الأمر المتعلق بها على إطلاقها، وعليه فلو أتى بالصلاة مثلاً فاقدةً لهذه القيود،فقد أتى بالواجب وإن ترك واجباً آخر وهو الصلاة المقيدة بهذه القيود،ومن المعلوم أنّ فساد هذا من الواضحات الأوّلية عند الفقهاء،ولن يتوهّم ذلك في تلك القيود،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق بين كون القيد زماناً أو زمانياً من هذه الناحية أصلاً،ولذا لو ورد:
اعتق رقبةً مطلقاً وورد في دليل آخر اعتق رقبةً مؤمنةً،لا يتأمل أحد في حمل الأوّل على الثاني،وأنّ مراد المولى هو المقيد دون المطلق،ولأجل ذلك لا يجزئ الاتيان به.وكيف كان،فلا شبهة في أنّ ما دلّ على تقييد الواجب بوقت خاص كالصلاة أو نحوها لا محالة يوجب تقييد إطلاق الدليل الأوّل ويكشف عن أنّ مراد المولى هو المقيد بهذا الوقت دون المطلق،ولا فرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التوقيت متصلاً أو منفصلاً،وهذا واضح.
فالنتيجة: أ نّه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة،فكما أنّ الاُولى تدل على تقييد الأمر الأوّل،وأنّ مراد المولى هو الأمر بالصلاة مثلاً في هذا الوقت لا مطلقاً،فكذلك الثانية تدل على ذلك،فإذن ليس هنا أمر آخر متعلق
بالصلاة على إطلاقها ليكون باقياً بعد عدم الاتيان بها في الوقت على الفرض.
ولصاحب الكفاية (قدس سره) في المقام تفصيل آخر وإليك نص كلامه:ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت،لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به.نعم،لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت،وكان لدليل الواجب إطلاق،لكان قضية إطلاقه ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت،وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة:التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب،كذلك ربّما يكون بنحو تعدد المطلوب بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب،إلّاأ نّه لا بدّ في إثبات أ نّه بهذا النحو من دلالة،ولا يكفي الدليل على الوقت إلّافيما عرفت،ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت،ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت،فتدبّر جيّداً 1.
توضيح ما أفاده (قدس سره) هو أنّ التقييد بالوقت لا يخلو من أن يكون بدليل متصل أو منفصل ولا ثالث لهما.
أمّا على الأوّل-وهو ما إذا كان التقييد بدليل متصل-فلا يدل الأمر بالموقّت على وجوب الاتيان به في خارج الوقت،إذ على هذا يكون الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل وهي الحصة الواقعة في هذا الوقت الخاص، وعليه فإذا لم يأت به المكلف في ذلك الوقت فلا دليل على وجوب الاتيان به في خارجه،وهذا واضح.
وأمّا على الثاني-وهو ما إذا كان التقييد بدليل منفصل-فلا يخلو من أن يكون له إطلاق بالاضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه،أو لا إطلاق له.
فعلى الأوّل لا يدل على وجوب الاتيان به في خارج الوقت،لفرض أنّ ما دلّ على تقييده بزمان خاص ووقت مخصوص مطلق،وباطلاقه يشمل حال تمكن المكلف من الاتيان به في الوقت وعدم تمكنه منه،ولازم هذا لا محالة سقوط الواجب عنه عند مضي الوقت،وعدم ما يدل على وجوبه في خارج الوقت،ولا فرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأوّل إطلاق بالاضافة إلى الوقت وخارجه أم لم يكن له إطلاق،كما لو كان الدليل الدال عليه لبياً من إجماع أو نحوه أو كان لفظياً،ولكنّه لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية،والوجه في ذلك واضح على كلا التقديرين،أمّا على تقدير عدم الاطلاق له فالأمر ظاهر، إذ لا إطلاق له ليتمسك به،فإذن المحكّم هو إطلاق الدليل المقيّد،وأمّا على تقدير أن يكون له إطلاق فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ ظهور القرينة في الاطلاق يتقدّم على ظهور ذي القرينة فيه فلا تعارض بينهما بنظر العرف أصلاً.
وعلى الثاني -وهو ما إذا لم يكن له إطلاق بالاضافة إلى كلتا الحالتين – فالمقدار المتيقن من دلالته هو تقييد الأمر الأوّل بخصوص حال الاختيار والتمكن لا مطلقاً،بداهة أ نّه لا يدل على أزيد من ذلك،لفرض عدم الاطلاق له،وعليه فلا بدّ من النظر إلى الدليل الأوّل هل يكون له إطلاق أم لا،فإن كان له إطلاق فلا مانع من الأخذ به لاثبات وجوب الاتيان به في خارج الوقت.
وبكلمة اخرى: أنّ مقتضى إطلاق الدليل الأوّل هو وجوب الاتيان بهذا الفعل كالصلاة مثلاً أو نحوها مطلقاً-أي في الوقت وخارجه-ولكن الدليل قد دلّ على تقييده بالوقت في خصوص حال الاختيار،ومن الطبيعي أ نّه لا بدّ من الأخذ بمقدار دلالة الدليل،وبما أنّ مقدار دلالته هو تقييده بخصوص حال
الاختيار والتمكن من الاتيان به في الوقت،فلا مانع من التمسك باطلاقه عند عدم التمكن من ذلك لاثبات وجوبه في خارج الوقت،ضرورة أ نّه لا وجه لرفع اليد عن إطلاقه من هذه الناحية أصلاً،كما هو واضح.
ثمّ إنّ هذا الكلام لا يختص بالتقييد بالوقت خاصة،بل يعم جميع القيود المأخوذة في الواجب بدليل منفصل،فانّ ما دلّ على اعتبار تلك القيود لا يخلو من أن يكون له إطلاق بالاضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه أو لا يكون له إطلاق كذلك.
والأوّل كالطهارة مثلاً،فانّ ما دلّ على اعتبارها في الصلاة واشتراطها بها كقوله (عليه السلام):«لا صلاة إلّابطهور» 1ونحوه مطلق،وباطلاقه يشمل صورة تمكن المكلف من الاتيان بالصلاة معها وعدم تمكنه من ذلك،وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الأمر بالصلاة عند عدم تمكن المكلف من الاتيان بها معها،بل قد ذكرنا أنّ الطهارة من الحدث مقوّمة لها،ولذا ورد في بعض الروايات أ نّها ثلث الصلاة 2ومن هنا قوّينا سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وعدم وجوبها عليه.ولا يفرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأوّل أيضاً إطلاق أو لا،وذلك لأنّ إطلاق دليل المقيد حاكم على إطلاق دليل المطلق فيقدّم عليه كما هو واضح.
والثاني كالطمأنينة مثلاً وما شاكل ذلك،فانّ ما دلّ على اعتبارها في الصلاة لا إطلاق له بالاضافة إلى حالة عدم تمكن المكلف من الاتيان بها معها،وذلك لأنّ الدليل على اعتبارها هو الاجماع،ومن المعلوم أنّ القدر المتيقن منه هو
تحققه وثبوته في حال تمكن المكلف من ذلك لا مطلقاً كما هو ظاهر.وعليه فلا بدّ من أن ننظر إلى دليل الواجب،فإن كان له إطلاق فنأخذ به ونقتصر في تقييده بالمقدار المتيقن وهو صورة تمكن المكلف من الاتيان به لا مطلقاً،ولازم هذا هو لزوم الاتيان به فاقداً لهذا القيد،لعدم الدليل على تقييده به في هذا الحال،ومعه لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات وجوبه فاقداً له.وهذا الذي ذكرناه لا يختص بباب دون باب،بل يعم جميع أبواب الواجبات من العبادات ونحوها.وخلاصة ما ذكرناه هي أ نّه لا فرق بين كون القيد زماناً وزمانياً من هذه الناحية أصلاً كما هو واضح،هذا ما أفاده (قدس سره) مع توضيح منّي.
والانصاف أ نّه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص من الالتزام به.نعم، بعض عباراته لا يخلو عن مناقشة وهو قوله (قدس سره):وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك يكون بنحو تعدد المطلوب…إلخ، وذلك لما عرفت من أنّ الدليل الدال على التقييد ظاهر في تقييد الواجب من الأوّل،سواء أكان الدليل الدال عليه متصلاً أم كان منفصلاً،فلا فرق بين المتصل والمنفصل من هذه الناحية أصلاً،وأمّا دلالته على كمال المطلوب في الوقت فهو يحتاج إلى عناية زائدة،وإلّا فهو في نفسه ظاهر في تقييد أصل المطلوب لا كماله،ومن هنا لم يتوهّم أحد ولا يتوهّم ذلك في بقية القيود،بأن يكون أصل الصلاة مثلاً مطلوباً على الاطلاق وتقييدها بهذه القيود مطلوباً آخر على نحو كمال المطلوب،كيف فانّ لازم ذلك هو جواز الاتيان بالصلاة فاقدة لتلك القيود اختياراً،وهذا كما ترى.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه:أنّ الدليل المقيد ظاهر في تقييد دليل الواجب من الابتداء،ويدل على أنّ مراد المولى بحسب اللب والواقع هو المقيد دون المطلق،ولا يفرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التقييد متصلاً أو
منفصلاً،وكون القيد زماناً أو زمانياً،غاية الأمر إذا كان منفصلاً ولم يكن له إطلاق وكان لدليل الواجب إطلاق،فيدل على تقييده بحال دون آخر وبزمان دون زمان آخر،وهكذا.
فالنتيجة في المقام هي:أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن الموقّت بانقضاء وقته،وعدم وجوب الاتيان به في خارج الوقت إلّافيما قامت قرينة على ذلك.
ثمّ إنّ فيما ثبت فيه القضاء لو ترك المكلف الواجب في الوقت،فإن أحرزنا ذلك وجداناً أو تعبداً بأصل أو أمارة فلا إشكال في وجوب قضائه والاتيان به في خارج الوقت،بلا فرق في ذلك بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد،وهذا واضح ولا كلام فيه،والكلام إنّما هو فيما إذا لم يحرز ذلك لا وجداناً ولا تعبداً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا بدّ من فرض الكلام فيما إذا لم تجر قاعدة الحيلولة المقتضية لعدم الاعتبار بالشك بعد خروج الوقت،فان مقتضاها عدم وجوب الاتيان به في خارج الوقت،أو قاعدة الفراغ فيما إذا فرض كون الشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده وتحقّقه في الوقت،فانّ في مثله يحكم بصحته من ناحية تلك القاعدة،وإلّا فلا يجب الاتيان به في خارج الوقت.
فإذن لا بدّ من فرض الكلام فيما نحن فيه إمّا مع قطع النظر عن جريانهما،أو فيما إذا لم تجريا،كما إذا فرض أنّ شخصاً توضّأ بمائع معيّن فصلّى،ثمّ بعد مضي الوقت حصل له الشك في أنّ هذا المائع الذي توضّأ به هل كان ماءً ليكون وضوءه صحيحاً،أو لم يكن ماءً ليكون وضوءه فاسداً،أو فرض أ نّه صلّى إلى جهة ثمّ بعد خروج الوقت شكّ في أنّ القبلة هي الجهة التي صلّى إليها،أو جهة اخرى وهكذا،ففي أمثال ذلك لا يجري شيء منهما.
أمّا قاعدة الحيلولة،فلأنّ موردها الشك في أصل وجود العمل في الخارج
وتحققه،لا فيما إذا كان الشك في صحته وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده، فإذن لا يكون مثل هذين المثالين من موارد تلك القاعدة.
وأمّا قاعدة الفراغ،فلما حققناه في محلّه 1من أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة،كما إذا شكّ في صحة الصلاة مثلاً بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في ترك جزء أو شرط منها،ففي مثل ذلك تجري القاعدة، لأنّ صورة العمل غير محفوظة،بمعنى أنّ المكلف لا يعلم أ نّه أتى بالصلاة مع القراءة مثلاً أو بدونها أو مع الطمأنينة أو بدونها وهكذا،وهذا هو مرادنا من أنّ صورة العمل غير محفوظة.
وأمّا إذا كانت محفوظة وكان الشك في مطابقة العمل للواقع وعدم مطابقته له،كما في مثل هذين المثالين فلا تجري القاعدة،لفرض أنّ المكلف يعلم أ نّه أتى بالصلاة إلى هذه الجهة المعيّنة أو مع الوضوء من هذا المائع ولا يشك في ذلك أصلاً،والشك إنّما هو في أمر آخر وهو أنّ هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة أو ليست بقبلة،وهذا المائع الذي توضأ به ماء أو ليس بماء،ومن المعلوم أنّ قاعدة الفراغ لا تثبت أنّ هذه الجهة قبلة وأنّ ما أتى به وقع إلى القبلة ومطابق للواقع،لما عرفت من اختصاص القاعدة بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة، وأمّا إذا كانت كذلك وإنّما الشك كان في مصادفته للواقع وعدم مصادفته،فلا يكون مشمولاً لتلك القاعدة،وبما أنّ صورة العمل في هذين المثالين محفوظة كما عرفت،وأنّ ما أتى به المكلف في الخارج معلوم كمّاً وكيفاً ولا يشك فيه أصلاً، والشك إنّما هو في مصادفته للواقع وعدم مصادفته له،وقاعدة الفراغ لا تثبت المصادفة،فعندئذ يقع الكلام في هذين المثالين وما شاكلهما،وأ نّه هل يجب
قضاء تلك الصلوات خارج الوقت أم لا،فإذن تظهر الثمرة بين القولين.
وذلك لأنّه لو قلنا بكون القضاء تابعاً للأداء ومطابقاً للقاعدة فيجب قضاء تلك الصلوات،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ التكليف المتعلق بها معلوم ولا يشك في ذلك أصلاً،والشك إنّما هو في سقوطه وفراغ ذمّة المكلف عنه،ومعه لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال،لحكم العقل بأنّ الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.نعم،المعلوم سقوطه إنّما هو التكليف عن المقيد لاستحالة بقائه بعد خروج الوقت من ناحية استلزامه التكليف بالمحال،وأمّا سقوط التكليف عن المطلق فغير معلوم،لفرض أنّ ما أتى به المكلف لا نعلم بصحته ليكون مسقطاً له،فإذن يدخل المقام في كبرى موارد الشك في فراغ الذمّة بعد العلم باشتغالها بالتكليف،ومن المعلوم أنّ المرجع في تلك الكبرى هو قاعدة الاشتغال.
وأمّا إذا قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد كما هو الصحيح،لما ذكرناه من أنّ القرينة على التقييد سواء أكانت متصلة أم كانت منفصلة توجب تقييد الواجب من الأوّل،فلا يمكن عندئذ التمسك باطلاقه إلّافي صورة واحدة،كما تقدّمت 1بشكل واضح،وعلى هذا فلا يجب الاتيان بها في خارج الوقت،وذلك لأنّ المكلف شاك عندئذ في أصل حدوث التكليف بعد خروج الوقت،لفرض أنّ التكليف بالموقت قد سقط يقيناً،إمّا من ناحية امتثاله في وقته وحصول غرضه،وإمّا من ناحية عدم القدرة عليه فعلاً،فإذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه.
فالنتيجة: أنّ الثمرة تظهر بين القولين في المثالين المزبورين وما شاكلهما،فانّه على القول الأوّل-أي القول بكون القضاء تابعاً للأداء-فالمرجع فيهما وفي ما
شاكلهما قاعدة الاشتغال،كما تقدّم بشكل واضح،وعلى القول الثاني-أي القول بكونه أمر جديد-فالمرجع في أمثالهما قاعدة البراءة،كما عرفت الآن.
وقد تحصّل مما ذكرناه عدّة امور:
الأوّل: أنّ التقييد-سواء أكان بمتصل أم بمنفصل-ظاهر في التقييد من الأوّل،وأنّ مراد المولى هو المقيد لا غيره،وحمله على تعدد المطلوب لا يمكن بلا قرينة تدل عليه من داخلية أو خارجية.
الثاني: أنّ لازم ذلك هو كون مقتضى القاعدة سقوط الواجب بسقوط وقته.
الثالث: أنّ نتيجة هذين الأمرين هو كون القضاء بأمر جديد،وليس تابعاً للأداء،كما هو واضح.
ثمّ إنّه فيما ثبت فيه وجوب القضاء كالصلاة والصوم ونحوهما إذا خرج الوقت وشكّ المكلف في الاتيان بالمأمور به في وقته،فهل يمكن إثبات الفوت باستصحاب عدم الاتيان به أم لا ؟
وجهان مبنيان على أنّ المتفاهم العرفي من هذه الكلمة-أعني كلمة الفوت – هل هو أمر عدمي،الذي هو عبارة عن عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت،أو أمر وجودي ملازم لهذا الأمر العدمي لا أ نّه عينه ؟ فعلى الأوّل يجري استصحاب عدم الاتيان به في الوقت،إذ به يثبت ذلك العنوان ويترتب عليه حكمه وهو وجوب القضاء في خارج الوقت،وعلى الثاني فلا يجري إلّاعلى القول بالأصل المثبت،لفرض أنّ الأثر غير مترتب على عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت،بل هو مترتب على عنوان وجودي ملازم له في الواقع وهو عنوان الفوت،ومن المعلوم أنّ إثبات ذلك العنوان باستصحاب عدم الاتيان به من أوضح أنحاء الأصل المثبت ولا نقول به.
وعلى الجملة: فمنشأ الإشكال في المقام الاشكال في أنّ عنوان الفوت الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب القضاء هل هو أمر وجودي عبارة عن خلوّ الوقت عن الواجب،أو هو أمر عدمي عبارة عن عدم الاتيان به في الوقت ؟
والصحيح هو أ نّه عنوان وجودي،وذلك للمتفاهم العرفي،ضرورة أ نّه بنظرهم ليس عين الترك،بل هو بنظرهم عبارة عن خلوّ الوقت عن الفعل وذهاب الواجب من كيس المكلف،مثلاً المتفاهم عرفاً من قولنا:فات شيء من زيد،هو الأمر الوجودي-أعني ذهاب شيء من كيسه-لا الأمر العدمي وهذا واضح،فعلى هذا الضوء لا يمكن إثباته بالاستصحاب المزبور ولا أثر له بالاضافة إليه أصلاً،وعليه فيرجع إلى أصالة البراءة.هذا فيما إذا احرز أنّ عنوان الفوت أمر وجودي أو عدمي.وأمّا إذا لم يعلم ذلك وشكّ في أ نّه أمر وجودي ملازم لعدم الفعل في الوقت أو أ نّه نفس عدم الفعل،فهل يمكن التمسك بالاستصحاب المزبور لاثبات وجوب القضاء في خارج الوقت أم لا ؟
الصحيح بل المقطوع به عدم إمكان التمسك به،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ المكلف لم يعلم أنّ المتيقن-وهو عدم الاتيان بالواجب في الوقت-هو الموضوع للأثر في ظرف الشك،أو الموضوع للأثر شيء آخر ملازم له خارجاً،فإذن لم يحرز أنّ رفع اليد عنه-أي عن المتيقن السابق-من نقض اليقين بالشك،ومعه لا يمكن التمسك باطلاق قوله (عليه السلام):«لا تنقض اليقين بالشك» 1لكون الشبهة مصداقية.
بقي هنا شيء، وهو أنّ المكلف لو شكّ في أثناء الوقت أ نّه صلّى في أوّل الوقت أم لا،فمقتضى قاعدة الاشتغال هو لزوم الاتيان بالصلاة،لأنّ الاشتغال
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني،ولكنّ المكلف إذا لم يأت بها إلى أن خرج الوقت ففي هذا الفرض اتّفق الفقهاء على وجوب قضائها في خارج الوقت،مع أنّ مقتضى ما ذكرناه من أنّ استصحاب عدم الاتيان بها في الوقت لا يثبت عنوان الفوت،عدم وجوب القضاء،لفرض أنّ عنوان الفوت في نفسه غير محرز هنا، واستصحاب عدم الاتيان بها في الوقت لا يجدي.
والجواب عن هذا ظاهر،وهو أنّ الشك في المقام بما أ نّه كان قبل خروج الوقت،فلا محالة يكون مقتضى قاعدة الاشتغال والاستصحاب وجوب الاتيان بها،وعلى ذلك فلا محالة إذا لم يأت المكلف به في الوقت فقد فوّت الواجب،ومعه لا محالة يجب قضاؤه لتحقق موضوعه وهو عنوان الفوت، وهذا بخلاف ما إذا شكّ المكلف في خارج الوقت أ نّه أتى بالواجب في وقته أم لا،ففي مثل ذلك لم يحرز أ نّه ترك الواجب فيه ليصدق عليه عنوان الفوت، والمفروض أنّ استصحاب عدم الاتيان به غير مجدٍ،وهذا هو نقطة الفرق بين ما إذا شكّ المكلف في إتيان الواجب في الوقت وما إذا شكّ في إتيانه في خارج الوقت.
نتائج هذا البحث عدّة امور:
الأوّل: أ نّه لا إشكال في إمكان الواجب الموسّع والمضيّق،بل في وقوعهما خارجاً،وما ذكر من الاشكال على الواجب الموسّع تارةً وعلى المضيّق تارة اخرى مما لا مجال له،كما تقدّم بشكل واضح.
الثاني: أنّ ما ذكر من التفصيل بين ما كان الدليل على التوقيت متصلاً وما كان منفصلاً،فقد عرفت أ نّه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،وقد ذكرنا أ نّه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة من هذه الناحية أبداً،فكما أنّ الاُولى تدل على التقييد من الأوّل وعلى وحدة المطلوب،فكذلك الثانية كما سبق.
الثالث: أنّ الصحيح ما ذكرناه من أنّ التقييد بالوقت إذا كان بدليل متصل فيدل على أنّ الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل،وهي الحصة الواقعة في زمان خاص،وأمّا إذا كان بدليل منفصل،فإن كان له إطلاق بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه،فيقيّد به إطلاق دليل الواجب مطلقاً،لحكومة إطلاق دليل المقيد على إطلاق دليل المطلق،وإن لم يكن له إطلاق،فيقيد دليله في حال التمكن فحسب،وفي حال عدمه نتمسّك باطلاق دليل الواجب لاثبات وجوبه في خارج الوقت.
الرابع: أنّ مقتضى القاعدة هو سقوط الواجب بسقوط وقته،إلّافيما قامت قرينة على خلاف ذلك.
الخامس: أنّ الثمرة تظهر بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد فيما إذا شكّ بعد خروج الوقت في الاتيان بالمأمور به وعدمه،أو في صحة المأتي به في الوقت وعدم صحته إذا لم يكن هناك أصل مقتضٍ للصحة كقاعدة الفراغ أو نحوها،فانّه على الأوّل المرجع قاعدة الاشتغال وعلى الثاني قاعدة البراءة،كما تقدّم.
السادس: أنّ الصحيح هو القول بكون القضاء بأمر جديد وليس تابعاً للأداء،فانّه خلاف ظاهر دليل التقييد،فلا يمكن الالتزام به إلّافيما قامت قرينة عليه.
السابع: أ نّه لا يمكن إثبات الفوت الذي علّق عليه وجوب القضاء باستصحاب عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت إلّاعلى القول بالأصل المثبت كما سبق.
توضيح ذلك أ نّه بحسب مقام الثبوت والواقع يتصوّر على وجوه:
الأوّل: أن يكون غرض المولى قائماً بخصوص الأمر الثاني باعتبار أ نّه فعل اختياري للمكلف،فلا مانع من أن يقوم غرض المولى به وكونه متعلقاً لأمره كسائر أفعاله الاختيارية مثل الصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك.وعلى الجملة فلا مانع من أن يأمر الشارع بايجاد أمر بشيء أو إيجاد نهي عن آخر كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: أن يكون قائماً بالفعل الصادر من المأمور الثاني،فيكون الأمر الثاني ملحوظاً على نحو الطريقية،من دون أن يكون له دخل في غرض المولى أصلاً، ولذا لو صدر الفعل من المأمور الثاني من دون توسط أمر من المأمور الأوّل لحصل الغرض ولا يتوقف حصوله على صدور الأمر منه.فإذن ليس له شأن ما عدا كونه واقعاً في طريق إيصال أمر المولى إلى هذا الشخص،فهذا القسم في طرفي النقيض مع القسم الأوّل،فانّ غرض المولى في القسم الأوّل متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأوّل دون الفعل الصادر من الثاني،فيكون المأمور به هو الأمر فقط،وفي هذا القسم متعلق بالفعل دون الأمر،بمعنى أنّ المأمور به هو
الفعل،والأمر طريق إلى إيصال أمر المولى إلى المكلف بهذا الفعل،وهذا القسم هو الغالب والمتعارف من الأمر بالأمر بشيء لا القسم الأوّل.
الثالث: أن يكون الغرض قائماً بهما معاً،بمعنى أنّ الفعل مطلوب من المأمور الثاني بالأمر من المأمور الأوّل لا مطلقاً،بحيث لو اطّلع المكلف من طريق آخر على أمر المولى من دون واسطة أمره لم يجب عليه إتيانه،فوجوب إتيانه عليه منوط بأن يكون اطلاعه على أمر المولى بواسطة أمره لا مطلقاً، فإذن هذا القسم يكون واسطةً بين القسم الأوّل والثاني.
ونقطة الفرق بين هذه الوجوه:هي أ نّه على الوجه الأوّل لا يجب الفعل على الثاني،لفرض أنّ غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأوّل،سواء صدر الفعل من الثاني أيضاً أم لا،فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرض.وعلى الوجه الثاني يجب الفعل عليه ولو فرض أ نّه اطّلع على أمر المولى به من طريق آخر غير الأمر من المأمور الأوّل.وعلى الوجه الثالث يجب عليه الاتيان به إذا أمر به المأمور الأوّل لا مطلقاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الظاهر من الأمر بالأمر بشيء هو القسم الثاني دون القسم الأوّل والثالث،ضرورة أ نّه المتفاهم من ذلك عرفاً،فلو أمر المولى أحداً بأن يأمر زيداً مثلاً بفعل كذا، الظاهر منه هو هذا القسم دون غيره.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أ نّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر بشيء على كونه أمراً به،بل لا بدّ للدلالة عليه من قرينة،لا يمكن المساعدة عليه بوجه،لما عرفت من أ نّه دال على ذلك بمقتضى الفهم العرفي،ولا حاجة في الدلالة عليه من نصب قرينة.
ثمّ إنّ الثمرة المترتبة على هذا النزاع هي شرعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد في الروايات من قوله (عليه السلام):«مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» 1ونحوه مما ورد في أمر الولي للصبي،فانّه بناءً على ما ذكرناه من أنّ الأمر بالأمر بشيء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشيء،تدل تلك الروايات على شرعية عبادة الصبي،لفرض عدم قصور فيها،لا من حيث الدلالة كما عرفت،ولا من حيث السند،لفرض أنّ فيها روايات معتبرة.
قد يقال كما قيل:إنّه يمكن إثبات شرعية عبادة الصبي بعموم أدلة التشريع كقوله تعالى: «وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ» 2وقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» 3وما شاكلهما،ببيان أنّ تلك الأدلة باطلاقها تعمّ البالغ وغيره،فانّها كما تدل على تشريع هذه الأحكام للبالغين،كذلك تدل على تشريعها لغيرهم،فلا فرق بينهما من هذه الناحية.وحديث«رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» 4لا يقتضي أزيد من رفع الالزام،لفرض أنّ هذا الحديث ورد في مورد الامتنان،ومن المعلوم أنّ المنّة إنّما هي في رفع الحكم الالزامي،وأمّا رفع الحكم غير الالزامي فلا منة فيه أبداً.فإذن هذا الحديث يرفع الالزام عن عبادة الصبي فحسب لا أصل المحبوبية عنها،وعلى هذا فتكون عباداته مشروعة لا محالة.فالنتيجة أ نّه مع قطع النظر عن تلك الروايات يمكن إثبات مشروعية عباداته 5.
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية وملخصها:أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الوجوب عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ من لفظ أو نحوه،ولا نعقل له معنىً ما عدا ذلك،وعلى هذا فليس في مورد تلك العمومات إلّااعتبار الشارع الصلاة والصوم والحج وما شاكلها على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بها،أي بتلك العمومات،غاية الأمر إن قامت قرينة من الخارج على الترخيص فينتزع منه الاستحباب وإلّا فينتزع منه الوجوب،وحيث إنّه لا قرينة على الترخيص في موارد هذه العمومات،فلا محالة ينتزع منه الوجوب،وقد عرفت أ نّه لا شأن له ما عدا ذلك.
وعلى هذا الضوء فحديث الرفع وهو قوله (عليه السلام):«رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم»يكون رافعاً لذاك الاعتبار-أي اعتبار الشارع هذه الأفعال على ذمّة المكلف-فيدل على أنّ الشارع لم يعتبر تلك الأفعال على ذمّة الصبي،وعليه فكيف يمكن إثبات مشروعية عباداته بهذه العمومات،لفرض أنّ مفاده هو أنّ قلم الاعتبار والتشريع مرفوع عنه في مقابل وضعه واعتباره في ذمّته.فإذن تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على مشروعية عباداته بالكلّية.
وبكلمة اخرى: أنّ الأمر سواء أكان عبارة عن الارادة أو عن الطلب أو عن الوجوب أو عن الاعتبار النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما،بسيط في غاية البساطة،وعلى هذا فمدلول هذه العمومات سواء أكان طلب هذه الأفعال أو وجوبها أو إرادتها أو اعتبارها في ذمّة المكلف،لا محالة يقيّد بغير الصبي والمجنون وما شاكلهما بمقتضى حديث الرفع،لفرض أنّ مفاد الحديث هو عدم تشريع مدلول تلك العمومات للصبي ونحوه،فإذن كيف تكون هذه العمومات
دالة على مشروعية عبادته من الصوم والصلاة وما شاكلهما.
وتوهّم أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك،والمرفوع بحديث الرفع هو المنع من الترك لا أصل الطلب بل هو باقٍ،وعليه فتدلّ العمومات على مشروعيتها خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،والوجه في ذلك:
أمّا أوّلاً: فلأ نّه على تقدير تسليم كون الوجوب هو المجعول في موارد هذه العمومات،إلّاأ نّه لا شبهة في أ نّه أمر بسيط،وليس هو بمركب من طلب الفعل مع المنع من الترك،وإلّا لكان تركه محرّماً وممنوعاً شرعاً،مع أنّ الأمر ليس كذلك،ضرورة أنّ تركه ليس بمحرّم،بل فعله واجب،والعقاب إنّما هو على تركه لا على ارتكاب محرّم.أو فقل:إنّ لازم ذلك هو انحلال وجوب كل واجب إلى حكمين:أحدهما متعلق بفعله والآخر متعلق بتركه،وهذا باطل جزماً،كما ذكرناه غير مرّة.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ هذا مرفوع عن الصبي بمقتضى حديث الرفع، ومن المعلوم أ نّه بعد رفعه لا دلالة لتلك العمومات على مشروعية عباداته كما هو واضح.
وأمّا ثانياً: فلأ نّه على فرض تسليم أنّ الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك،مع ذلك لا تتم هذه النظرية،وذلك لأنّها ترتكز على أن يبقى الجنس بعد ارتفاع الفصل وهو خلاف التحقيق،بل لا يعقل بقاؤه بعد ارتفاعه، كيف فانّ الفصل مقوّم له،وعلى هذا فلا محالة يرتفع طلب الفعل بارتفاع المنع من الترك المقوّم له،وأمّا إثبات الطلب الآخر فهو يحتاج إلى دليل،فالعمومات لا تدل على ذلك كما هو ظاهر،ومن هنا قد ذكرنا 1أنّ نسخ الوجوب لا يدل
على بقاء الجواز أو الرجحان.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ هذه النظرية إنّما تتم فيما إذا كان الدليل على مشروعية هذه العبادات على نحو الاطلاق شيء،والدليل على وجوبها ولزومها شيء آخر،ليكون حديث الرفع ناظراً إلى الدليل الثاني ومقيّداً لمدلوله دون الدليل الأوّل،ولكن الأمر هنا ليس كذلك كما هو واضح.لحدّ الآن قد تبيّن أ نّه لا يمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بتلك العمومات أصلاً.
فالصحيح أنّ الدليل على مشروعيتها إنّما هو تلك الروايات فحسب،ومع قطع النظر عنها أو مع المناقشة فيها كما عن بعض،فلا يمكن إثبات مشروعيتها أصلاً كما عرفت.
ونتائج هذا البحث عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الأمر بالأمر بشيء يتصوّر بحسب مقام الثبوت على وجوه ثلاثة كما تقدّم.
الثانية: أنّ الظاهر من هذه الوجوه بحسب مقام الاثبات الوجه الثاني،وهو ما كان الغرض قائماً بالفعل لا بالأمر الصادر من المأمور الأوّل.
الثالثة: أنّ الثمرة المترتبة على هذا البحث هي مشروعية عبادات الصبيان على تقدير ظهور تلك الروايات في الوجه الثاني أو الثالث كما عرفت.
الرابعة: أنّ ما توهّم من إمكان إثبات شرعية عباداتهم بالعمومات الأوّلية خاطئ جداً،لما عرفت من أنّ تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على ذلك بالكلّية بعد تقييدها بحديث الرفع بالبالغين.
الخامسة: أنّ الدليل على شرعية عبادات الصبي إنّما هو الروايات المتقدمة أعني قوله (عليه السلام):«مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين»ونحوه.
لا إشكال في أنّ الأمر بشيء في نفسه ظاهر في التأسيس،وإنّما الاشكال فيما إذا كان مسبوقاً بأمر آخر،فهل هو عندئذ ظاهر في التأسيس أو التأكيد-إذا كانا مطلقين بأن لم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد-أم لا ؟ وجوه.
الظاهر هو الوجه الثاني،ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من مثل قول المولى:صلّ ثمّ قال:صلّ هو التأكيد،بمعنى أنّ الأمر الثاني تأكيد للأمر الأوّل،وهذا واضح.
نعم،لو قيّد الأمر الثاني بالمرّة الاُخرى ونحوها،لكان دالّاً على التأسيس لا محالة،فيكون المراد وقتئذ من الأمر الأوّل صِرف وجود الطبيعة ومن الثاني الوجود الثاني منها.
ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام،فانّ محل الكلام فيما إذا كان الأمر الثاني متعلقاً بعين ما تعلق به الأمر الأوّل من دون تقييده بالمرّة الاُخرى أو نحوها،وإلّا فلا إشكال في دلالته على التأسيس،وأمّا إذا لم يكونا مطلقين،بأن ذكر سببهما كقولنا:إن ظاهرت فأعتق رقبة،وإن أفطرت فأعتق رقبة،أو قولنا:إن نمت فتوضأ،وإن بلت فتوضأ،وهكذا،فهل الأمر الثاني ظاهر في التأكيد أو التأسيس ؟ فيه كلام سيأتي بيانه في بحث المفاهيم إن شاء اللّٰه
تعالى 1بصورة مفصّلة وخارج عن محل كلامنا هنا.
وعلى الجملة:فمحل الكلام في المقام فيما إذا كان الأمران مطلقين ولم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد،ففي مثل ذلك قد عرفت أنّ الظاهر من الأمر الثاني هو التأكيد دون التأسيس،فانّه قضية إطلاق المادة وعدم تقييدها بشيء.
وفيه جهات من البحث:
الاُولى: أنّ المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً أنّ النهي بمادته وصيغته، كالأمر بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب،غير أنّ متعلق النهي ترك الفعل ونفس أن لا تفعل،ومتعلق الأمر إيجاد الفعل.
وبكلمة واضحة:أنّ المعروف بينهم هو أنّ النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له وهو الدلالة على الطلب،ومن هنا أ نّهم يعتبرون في دلالة النهي عليه ما اعتبروه في دلالة الأمر من كونه صادراً عن العالي،فلو صدر عن السافل أو المساوي فلا يكون نهياً حقيقةً،وغير ذلك مما قدّمناه في بحث الأوامر بشكل واضح وبصورة مفصّلة،فلا فرق بينهما من هذه النواحي أصلاً.
نعم،فرق بينهما في نقطة اخرى،وهي أنّ متعلق الطلب في طرف النهي الترك وفي طرف الأمر الفعل.
وقد اشكل عليه: بأنّ الترك أمر أزلي خارج عن القدرة والاختيار وسابق عليها،ومن الواضح جداً أ نّه لا تأثير للقدرة في الأمر السابق،ضرورة أنّ القدرة إنّما تتعلق بالأمر الحالي،ولا يعقل تعلقها بالأمر السابق المنصرم زمانه فضلاً عن الأمر الأزلي،وعليه فلا يمكن أن يتعلق النهي به،ضرورة استحالة تعلقه بما هو خارج عن الاختيار والقدرة.
ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنّ المطلوب في النواهي هو كفّ النفس عن الفعل في الخارج،دون الترك ونفس أن لا تفعل.
وغير خفي أنّ هذا الاشكال يرتكز على نقطة واحدة،وهي أن يكون متعلق النهي العدم السابق،فانّ هذا العدم أمر خارج عن القدرة والاختيار،فلا يعقل تعلقها به،إلّاأنّ تلك النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع،وذلك لأنّ متعلقه الترك اللّاحق،ومن المعلوم أ نّه مقدور على حد مقدورية الفعل، لوضوح استحالة تعلّق القدرة بأحد طرفي النقيض،فإذا كان الفعل مقدوراً للمكلف كما هو المفروض فلا محالة يكون تركه مقدوراً بعين تلك المقدورية، وإلّا فلا يكون الفعل مقدوراً وهذا خلف.
فالنتيجة: هي أنّ النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له وهو الطلب ويمتاز عنه في المتعلق،فانّه في الأوّل هو الترك وفي الثاني الفعل،فيدل الأوّل على طلب الترك وإعدام المادة في الخارج،والثاني على طلب الفعل وإيجاد المادة فيه.
ثمّ إنّهم قد رتّبوا على ضوء هذه النظرية-أعني دلالة النهي على طلب ترك الطبيعة ودلالة الأمر على طلب إيجادها-أنّ متعلق الطلب في طرف الأمر حيث إنّه صِرف إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يقتضي عقلاً إلّاإيجادها في ضمن فردٍ مّا،ضرورة أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل وجودها،وبه يتحقق الامتثال ويحصل الغرض،ومعه لا يبقى مجال لايجادها في ضمن فرد ثان وهكذا كما هو واضح.
وأمّا في طرف النهي فبما أ نّه صِرف ترك الطبيعة،فلا محالة لا يمكن تركها إلّا بترك جميع أفرادها في الخارج العرضية والطولية،ضرورة أنّ الطبيعة في
الخارج تتحقق بتحقق فرد منها،فلو أوجد المكلف فرداً منها فقد أوجد الطبيعة فلم تترك.
وإلى ذلك أشار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بما حاصله:هو أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي في الدلالة الوضعية،فكما أنّ صيغة الأمر تدل وضعاً على طلب إيجاد الطبيعة من دون دلالة لها على الدوام والتكرار،فكذلك صيغة النهي تدل وضعاً على طلب ترك الطبيعة بلا دلالة لها على الدوام والاستمرار.
نعم،تختلف قضيتهما عقلاً ولو مع وحدة المتعلق،بأن تكون طبيعة واحدة متعلقة للأمر مرّةً وللنهي مرّة اخرى،ضرورة أنّ وجودها بوجود فردٍ واحد من أفرادها،وعدمها لا يمكن إلّابعدم الجميع.
ومن هنا قال (قدس سره):إنّ الدوام والاستمرار إنّما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال،فانّه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومةً إلّابعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.وبالجملة قضية النهي ليس إلّاترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له،كانت مقيدة أو مطلقة،وقضية تركها عقلاً إنّما هو ترك جميع أفرادها.
أقول: إنّ كلامه (قدس سره) هذا صريح فيما ذكرناه من أنّ النهي لا يدل وضعاً إلّاعلى ترك الطبيعة،سواء أكانت مطلقة أم مقيدة.نعم،لو كانت الطبيعة مقيدة بزمان خاص أو حال مخصوص لم يعقل فيها الدوام والاستمرار، وكيف كان،فالنهي لا يدل إلّاعلى ذلك،ولكن العقل يحكم بأنّ ترك الطبيعة في الخارج لا يمكن إلّابترك جميع أفرادها العرضية والطولية.
وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ النقطة الرئيسية لنظريتهم أمران:
الأوّل: أنّ النهي يشترك مع الأمر في الدلالة على الطلب،فكما أنّ الأمر يدل عليه بهيئته فكذلك النهي.نعم،يمتاز النهي عن الأمر في أنّ متعلق الطلب في النهي صرف ترك الطبيعة،وفي الأمر صِرف وجودها.
الثاني: أنّ قضية النهي عقلاً من ناحية متعلقه تختلف عن قضية الأمر كذلك، باعتبار أنّ متعلق النهي حيث إنّه صِرف الترك فلا يمكن تحققه إلّاباعدام جميع أفراد تلك الطبيعة في الخارج عرضاً وطولاً،ضرورة أ نّه مع الاتيان بواحدٍ منها لا يتحقق صِرف تركها خارجاً،ومتعلق الأمر حيث إنّه صِرف الوجود فيتحقق بايجاد فرد منها،وبعده لا يبقى مقتضٍ لايجاد فردٍ آخر وهكذا.
ولنأخذ بالمناقشة في كلا هذين الأمرين معاً،أعني المبنى والبناء.
فلا اشتراك بينهما في شيء أصلاً.وهذا لا من ناحية ما ذكره جماعة من المحققين من أنّ النهي موضوع للدلالة على الزجر والمنع عن الفعل باعتبار اشتمال متعلقه على مفسدة إلزامية،والأمر موضوع للدلالة على البعث والتحريك نحو الفعل باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية،وذكروا في وجه ذلك هو أنّ النهي لا ينشأ من مصلحة لزومية في الترك ليقال إنّ مفاده طلبه،بل هو ناشئ من مفسدة لزومية في الفعل،وعليه فلا محالة يكون مفاده الزجر والمنع عنه،فإذن لا وجه للقول بأنّ مفاده طلب الترك أصلاً.
فما ذكرناه من أنّ النهي بما له من المعنى يباين الأمر كذلك ليس من هذه الناحية،بل من ناحية اخرى.
فلنا دعويان:
الاُولى:أنّ التباين بين الأمر والنهي في المعنى ليس من هذه الناحية.
الثانية:أ نّه من ناحية اخرى.
أمّا الدعوى الاُولى: فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ تفسير الأمر مرّةً بالطلب ومرّة اخرى بالبعث والتحريك،ومرّة ثالثة بالارادة،وكذا تفسير النهي تارةً بالطلب،وتارة اخرى بالزجر والمنع،وتارة ثالثة بالكراهة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل،ضرورة أنّ هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير وليس لها واقع موضوعي أبداً.
نعم،إنّ صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك لا أ نّهما معناها،كما أ نّها مصداق للطلب والتصدي،وكذلك صيغة النهي مصداق للزجر والمنع،وليس الزجر والمنع معناها،وأمّا الارادة والكراهة فليستا معنى الأمر والنهي بالضرورة،لاستحالة تعلق الارادة بمعنى الاختيار،وكذلك ما يقابلها من الكراهة بفعل الغير.نعم،يتعلق الشوق ومقابله بفعل الغير،ولا يحتمل أن يكونا معنى الأمر والنهي،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا في محلّه أ نّه لا معنى للارادة أو الكراهة التشريعية في مقابل التكوينية،ولا نعقل لها معنىً محصّلاً ما عدا الأمر أو النهي.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه لا معنى لتفسير الأمر بالارادة والنهي بالكراهة.
وخلاصة الكلام:كما أ نّه لا أصل لما هو المشهور من تفسير الأمر بطلب الفعل وتفسير النهي بطلب الترك،كذلك لا أصل لما عن جماعة من تفسير الأوّل بالبعث والتحريك،والثاني بالزجر والمنع.
وأمّا الدعوى الثانية: فيقع الكلام فيها مرّةً في معنى الأمر،ومرّةً اخرى في
معنى النهي.
أمّا الكلام في الأوّل: فقد تقدّم في بحث الأوامر بشكل واضح أ نّه إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً فلا نعقل فيه ما عدا شيئين:
أحدهما:اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة.
وثانيهما:إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما يشبهها،فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني،لا للبعث والتحريك ولا للطلب.نعم،قد عرفت أنّ الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصدٍّ إلى الفعل،فانّ البعث والطلب قد يكونان خارجيين وقد يكونان اعتباريين،فصيغة الأمر أو ما شاكلها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي،ضرورة أ نّها تصدٍّ في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه،لا تكويناً وخارجاً كما هو واضح.
ونتيجة ما ذكرناه أمران:
الأوّل:أنّ صيغة الأمر وما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني،وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف،ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.
الثاني:أ نّها مصداق للبعث والطلب لا أ نّهما معناها.
وأمّا الكلام في الثاني: فالأمر أيضاً كذلك عند النقد والتحليل،وذلك ضرورة أ نّا إذا حلّلنا النهي المتعلق بشيء تحليلاً علمياً لا نعقل له معنىً محصّلاً ما عدا شيئين:
أحدهما:اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن ذلك الشيء باعتبار
اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده عنه.
ثانيهما:إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة النهي أو ما يضاهيها،وعليه فالصيغة أو ما يشاكلها موضوعة للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني،لا للزجر والمنع،نعم هي مصداق لهما.
ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة باعتبار دلالته على حرمان المكلف عن الفعل في الخارج،كما أ نّه يصح تفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار دلالته على ثبوت الفعل على ذمّة المكلف،بل هما معناهما لغةً وعرفاً،غاية الأمر الحرمة مرّة حرمة تكوينية خارجية كقولك:الجنّة مثلاً محرّمة على الكفار ونحو ذلك،فانّ استعمالها في هذا المعنى كثير عند العرف،بل هو أمر متعارف بينهم،ومرّة اخرى حرمة تشريعية كاعتبار المولى الفعل محرّماً على المكلف في عالم التشريع وإبراز ذلك بقوله:لا تفعل أو ما يشابه ذلك،فيكون قوله هذا مبرزاً لذلك ودالّاً عليه،وكذا الثبوت مرّة ثبوت تكويني خارجي،ومرّة اخرى ثبوت تشريعي،فصيغة الأمر أو ما شاكلها تدل على الثبوت التشريعي وتبرزه.
وعلى الجملة: فالأمر والنهي لايدلّان إلّاعلى ما ذكرناه لا على الزجر والمنع والبعث والتحريك.نعم،المولى في مقام الزجر عن فعلٍ باعتبار اشتماله على مفسدة لزومية يزجر عنه بنفس قوله:لا تفعل أو ما شاكله،غاية الأمر الزجر قد يكون خارجياً،كما إذا منع أحد آخر عن فعل في الخارج،وقد يكون بقوله:لا تفعل أو ما يشبه ذلك،فيكون قوله لا تفعل عندئذ مصداقاً للزجر والمنع،لا أ نّه وضع بازائه،كما أنّ الطلب قد يكون طلباً خارجياً وتصدياً نحو الفعل في الخارج كطالب ضالة أو طالب العلم أو نحو ذلك،وقد يكون طلباً وتصدياً في عالم الاعتبار نحو الفعل فيه بقوله:افعل أو ما يشبه ذلك،فيكون قوله:افعل وقتئذ مصداقاً للطلب والتصدي،لا أ نّه وضع بازائه.
وعلى ضوء بياننا هذا قد ظهر أنّ الأمر والنهي مختلفان بحسب المعنى،فانّ الأمر معناه الدلالة على ثبوت شيء في ذمّة المكلف،والنهي معناه الدلالة على حرمانه عنه،ومتحدان بحسب المتعلق،فانّ ما تعلق به الأمر بعينه هو متعلق النهي،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
والوجه في ذلك واضح،وهو أ نّه بناءً على وجهة نظر العدلية من أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها،فلا محالة يكون النهي كالأمر متعلقاً بالفعل،ضرورة أنّ النهي عن شيء ينشأ عن مفسدة لزومية فيه وهي الداعي إلى تحريمه والنهي عنه،ولم ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه، لتدعو إلى طلبه،وهذا واضح.فإذن لا مجال للقول بأنّ المطلوب في النواهي هو ترك الفعل ونفس أن لا تفعل،إلّاأن يدّعى أنّ غرضهم من ذلك هو أ نّه مطلوب بالعرض وقد اخذ مكان ما بالذات،ولكن من الواضح أنّ إثبات هذه الدعوى في غاية الاشكال.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لا شبهة في أنّ متعلق الأمر بعينه هو ما تعلق به النهي،فلا فرق بينهما من ناحية المتعلق أبداً،والفرق بينهما إنّما هو من ناحية المعنى الموضوع له،كما مضى.
عدّة نقاط فيما ذكرناه:
الاُولى: أنّ كلاً من الأمر والنهي اسم لمجموع المركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه في الخارج،فلا يصدق على كل منهما،ضرورة أ نّه لا يصدق على مجرد اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف بدون إبرازه في الخارج،كما أ نّه لا يصدق على مجرّد إبرازه بدون اعتباره شيئاً كذلك،وكذا الحال في النهي، وهذا ظاهر.ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الانشاء والاخبار من أنّ العقود والايقاعات كالبيع والاجارة والطلاق والنكاح وما شاكل ذلك أسامٍ لمجموع
المركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبراز ذلك في الخارج بمبرز،فلا يصدق البيع مثلاً على مجرّد ذلك الأمر الاعتباري،أو على مجرد ذلك الابراز الخارجي، كما تقدّم هناك بشكل واضح.
الثانية: أنّ النزاع المعروف بين الأصحاب من أنّ متعلق النهي هل هو ترك الفعل ونفس أن لا تفعل،أو الكف عنه،باطل من أصله،ولا أساس له أبداً.
الثالثة: أنّ نقطتي الاشتراك والامتياز بين الأمر والنهي على وجهة نظرنا ونقطتي الاشتراك والامتياز بينهما على وجهة نظر المشهور متعاكستان،فانّ الأمر والنهي على وجهة نظر المشهور كما عرفت مختلفان بحسب المعنى ومتفقان في المتعلق.وعلى وجهة نظرنا مختلفان في المعنى،ومتفقان في المتعلق،كما مرّ.
الرابعة: أنّ الأمر والنهي مصداق للبعث والتحريك والزجر والمنع،لا أ نّهما موضوعان بازائهما،كما سبق.
وأمّا الأمر الثاني: وهو البناء،فعلى فرض تسليم الأمر الأوّل-وهو المبنى-وأنّ متعلق الطلب في طرف الأمر صرف وجود الطبيعة،وفي طرف النهي صرف تركها،فيمكن نقده على النحو التالي،وهو أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي لا تنعدم إلّابعدم جميع أفرادها،والوجه في ذلك:هو أ نّه إن اريد من الطبيعة الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب،فهي كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنعدم بعدم مثلها-أعني الطبيعة الموجودة كذلك-لأنّه بديلها ونقيضها، لا عدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها،ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد،فنقيض الطبيعة الموجودة بوجود واحد لا محالة يكون عدم مثل تلك الطبيعة،كما هو واضح.
وإن اريد منها الطبيعة السارية إلى تمام أفرادها ومصاديقها،فهي وإن كان يتوقف عدمها كلّياً في الخارج على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية،إلّا أنّ هذا من ناحية ملاحظة وجود تلك الطبيعة على نحو الانحلال والسريان إلى جميع أفرادها،ومن الواضح جداً أنّ عدم مثل هذه الطبيعة الذي هو بديلها ونقيضها لا يمكن إلّابعدم تمام أفرادها في الخارج،ولكن أين هذا من الطبيعة التي توجد في الخارج بوجود فرد منها،فانّ المقابل لهذه الطبيعة ليس إلّا الطبيعة التي تنعدم بعدم ذلك الفرد،ضرورة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون نقيضاً لعدم الطبيعة بتمام أفرادها،بل له عدم واحد وهو بديله ونقيضه.
وأمّا المقابل للطبيعة التي يتوقف عدمها على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية،هو الطبيعة الملحوظة على نحو الاطلاق والسريان إلى تمام أفرادها كذلك،لا الطبيعة المهملة التي توجد في ضمن فرد واحد.
وهذا بيان إجمالي لعدم كون الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بايجاد فرد واحد مقابلاً للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها،وسيأتي بيانه التفصيلي فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى.
وعلى هدى ذلك البيان الاجمالي قد ظهر أ نّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطبيعة يتحقق بأوّل الوجود،وصرف تركها لا يمكن إلّابترك جميع أفرادها،والوجه في ذلك:هو أنّ صِرف ترك الطبيعة كصِرف وجودها، فكما أنّ صِرف وجودها يتحقق بأوّل وجود،فكذلك صرف تركها يتحقق بأوّل ترك،ضرورة أنّ المكلف إذا ترك الطبيعة في آنٍ مّا لا محالة يتحقق صرف الترك،كما أ نّه لو أوجدها في ضمن فردٍ مّا يتحقق صرف الوجود،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية.
نعم،لو كان المطلوب في النواهي هو ترك الطبيعة مطلقاً،لا يمكن تحققه إلّا
بترك جميع أفرادها في جميع الآنات والأزمنة،إلّاأنّ الأمر كذلك في طرف الأوامر أيضاً فيما إذا كان المطلوب منها مطلق وجود الطبيعة،لا صرف وجودها، ضرورة أنّ مطلق وجودها لا يتحقق بايجاد فرد منها،بل يتوقف على إيجاد جميع أفرادها في الخارج،والسر فيه ظاهر،وهو وضوح الفرق بين أن يكون المطلوب في النهي صرف ترك الطبيعة وفي الأمر صرف وجودها،وأن يكون المطلوب في الأوّل مطلق ترك الطبيعة وفي الثاني مطلق وجودها،فانّ صرف الترك وصرف الوجود يتحقق بأوّل ترك وأوّل وجود كما هو واضح.
وهذا بخلاف مطلق الترك ومطلق الوجود،فانّهما لا يتحققان بأوّل ترك وأوّل وجود،بل الأوّل يتوقف على ترك أفراد الطبيعة تماماً،والثاني يتوقف على إيجاد أفرادها كذلك.
وبكلمة اخرى:أنّ متعلق الترك ومتعلق الوجود إن كان الطبيعة المهملة فطبعاً يكون المطلوب في النهي هو صرف تركها وفي الأمر صرف وجودها، وقد عرفت أنّ الأوّل يتحقق بأوّل ترك والثاني بأوّل وجود،وإن كان المتعلق الطبيعة المطلقة السارية فلا محالة يكون المطلوب في الأوّل هو مطلق تركها وفي الثاني مطلق وجودها،وعليه فلا محالة ينحل المطلوب بحسب الواقع ونفس الأمر إلى مطلوبات متعددة بانحلال أفراد تلك الطبيعة،فيكون ترك كل فرد منها مطلوباً مستقلاً،كما أنّ وجود كل فرد منها كذلك،فإذن لا محالة حصول المطلوب على الأوّل يتوقف على ترك جميع أفرادها العرضية والطولية،وعلى الثاني يتوقف على إيجاد جميعها كذلك.
فالنتيجة قد أصبحت من ذلك:أنّ المقابل لصرف الوجود هو صرف الترك وهو عدمه البديل له ونقيضه،لا مطلق الترك فانّه ليس عدمه البديل له ونقيضه،ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد لا اثنان،والمقابل لمطلق الوجود هو
مطلق الترك،فانّه عدمه البديل له ونقيضه لا صرف الترك،ضرورة أنّ الواحد لا يعقل أن يكون نقيضاً للمتعدد،وهذا ظاهر.
وعلى ضوء هذا البيان نسأل المشهور عن سبب اكتفائهم في طرف الأمر بايجاد فرد واحد من الطبيعة،بدعوى أنّ المطلوب فيه هو صرف الوجود وهو يتحقق بأوّل وجود،وعدم اكتفائهم في طرف النهي بأوّل ترك،مع أ نّهم التزموا بأنّ المطلوب فيه هو صرف الترك،فانّ سبب ذلك ليس هو الوضع لما تقدّم من أنّ مقتضاه في كل من الأمر والنهي على نسبة واحدة،فلا مقتضي لأجل ذلك أن يفرق بينهما،فانّ مفادهما عندهم بحسب الوضع ليس إلّاالدلالة على الطلب،غاية الأمر أنّ متعلقه في الأمر الوجود وفي النهي الترك،ولذا قالوا باشتراكهما في المعنى الموضوع له من هذه الجهة.وأمّا العقل فقد عرفت أ نّه يحكم بخلاف ذلك،فانّه كما يحكم بأنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل وجود كذلك يحكم بأنّ صرف الترك يتحقق بأوّل ترك،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
نعم،الذي لا يمكن تحققه بأوّل الترك هو مطلق الترك،إلّاأ نّك عرفت أ نّهم لا يقولون بأنّ المطلوب في النواهي مطلق الترك،بل يقولون بأنّ المطلوب فيها هو صرف الترك،وقد مرّ أنّ العقل يحكم بأ نّه لا مقابلة بين مطلق الترك وصرف الوجود،والمقابلة إنّما هي بينه وبين مطلق الوجود لا صرفه،فانّ المقابل له-صرف الوجود-صرف الترك،فإذن لا يرجع ما هو المشهور إلى معنىً محصّل أصلاً.
ولعل منشأ تخيّلهم ذلك الغفلة عن تحليل نقطة واحدة،وهي الفرق بين صرف الترك ومطلق الترك،ولكن بعد تحليل تلك النقطة على ضوء ما بيّناه قد ظهر بوضوح خطأ نظريتهم،وأ نّه لا مبرّر لها أبداً.
إلى هنا قد تبيّن بطلان المبنى والبناء معاً،وأ نّه لا يمكن الالتزام بشيء منهما، هذا.
الذي ينبغي أن يقال في هذا المقام هو:أنّ سبب اقتضاء النهي حرمة جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها الدفعية والتدريجية وعدم صحة الاكتفاء في امتثاله بترك فردٍ مّا منها،وسبب اقتضاء الأمر إيجاد فردٍ مّا من الطبيعة المأمور بها دون الزائد،إحدى نقطتين:
الاُولى:اختلاف الأمر والنهي من ناحية المبدأ.
الثانية:اختلافهما من ناحية المنتهى.
أمّا النقطة الاُولى: فلأنّ النهي بما أ نّه ينشأ عن مفسدة لزومية في متعلقه وهي داعية إلى إنشائه واعتباره،فهي غالباً تترتب على كل فرد من أفرادها في الخارج،ويكون كل منها مشتملاً على مفسدة مغايرة لمفسدة اخرى،ومن الواضح جداً أنّ لازم هذا هو انحلال النهي بانحلال أفراد الطبيعة المنهي عنها، وذلك على وفق ما هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء والفهم العرفي من النواهي،وهذا بخلاف ما إذا فرض أنّ المفسدة قائمة بصرف وجودها أو بمجموع وجوداتها،أو بعنوان بسيط متحصّل من هذه الوجودات في الخارج، فإن فهم ذلك يحتاج إلى بيان من المولى ونصب قرينة تدل عليه،وأمّا إذا لم تكن قرينة على قيامها بأحد هذه الوجوه،فالاطلاق في مقام الاثبات كما عرفت قرينة عامة على قيامها بكل فرد من أفراد تلك الطبيعة.
وعلى هدى ذلك فإذا نهى المولى عن طبيعة ولم ينصب قرينةً على أنّ المفسدة قائمة بصرف وجودها حتّى لا تكون مفسدة في وجودها الثاني والثالث وهكذا،أو قائمة بمجموع وجوداتها وأفرادها على نحو العموم المجموعي،أو
بعنوان بسيط متحصّل منها،كان الارتكاز العرفي ولو من ناحية الغلبة المزبورة قرينة على أنّ النهي تعلق بكل فرد من أفرادها،وأنّ المفسدة قائمة بتلك الطبيعة على نحو السريان والانحلال،فيكون كل واحد منها مشتملاً عليها.
وبكلمة واضحة:أنّ قيام مفسدة بطبيعة يتصوّر في مقام الثبوت على أقسام:
الأوّل: أن تكون قائمة بصرف وجود الطبيعة،ولازم ذلك هو أنّ المنهي عنه صرف الوجود فحسب،فلو عصى المكلف وأوجد الطبيعة في ضمن فردٍ مّا،فلا يكون وجودها الثاني والثالث وهكذا منهياً عنه أصلاً.
الثاني: أن تكون قائمة بمجموع أفرادها على نحو العموم المجموعي،فيكون المجموع محرّماً بحرمة واحدة شخصية،ولازم ذلك هو أنّ المبغوض ارتكاب المجموع،فلا أثر لارتكاب البعض.
الثالث: أن تكون قائمة بعنوان بسيط مسبب من تلك الأفراد في الخارج.
الرابع: أن تكون قائمة بكل واحد من أفرادها العرضية والطولية،هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات،فلا شبهة في أنّ إرادة كل واحد من الأقسام الثلاثة الاُولى تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها وعناية زائدة،وأمّا إذا لم تكن قرينة في البين على أنّ المراد من النهي المتعلق بطبيعة النهي عن مجموع أفرادها بنحو العموم المجموعي أو عن صرف وجودها في الخارج أو عن عنوان بسيط متولد عنها،كان المرتكز منه في أذهان العرف والعقلاء هو النهي عن جميع أفرادها بنحو العموم الاستغراقي،وعليه فيكون كل فرد منها منهياً عنه باستقلاله مع قطع النظر عن الآخر.
وعلى الجملة: فلا إشكال في أنّ إرادة كل من الأقسام المزبورة تحتاج إلى
عناية زائدة فلا يتكفلها الاطلاق في مقام البيان،وهذا بخلاف القسم الأخير، فانّ إرادته لا تحتاج إلى عناية زائدة،فيكفي الاطلاق المزبور في إرادته.
ومن هنا لا شبهة في ظهور النواهي الواردة في الشريعة المقدّسة بمقتضى الفهم العرفي في الانحلال،كالنهي عن شرب الخمر والزنا والغيبة والكذب والغصب وسبّ المؤمن وما شاكل ذلك،ولأجل هذا قلنا إنّ التكاليف التحريمية غالباً بل دائماً تكاليف انحلالية،فتنحل بانحلال موضوعها مرّةً كما في النهي عن شرب الخمر مثلاً أو نحوه،فانّه ينحل بانحلال موضوعه في الخارج وهو الخمر ويتعدد بتعدده،وبانحلال متعلقها مرّةً اخرى كما في النهي عن الكذب مثلاً أو الغيبة أو ما شاكل ذلك مما لا موضوع له،فانّه ينحل بانحلال متعلقه في الخارج،وبانحلال كليهما معاً كما في مثل النهي عن سبّ المؤمن أو نحوه،فانّه كما ينحل بانحلال موضوعه وهو المؤمن كذلك ينحل بانحلال متعلقه وهو السب ولو مع وحدة موضوعه.
فالنتيجة:هي أنّ النهي حيث إنّه ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة في متعلقه، فالظاهر منه بمقتضى الفهم العرفي هو ترتب تلك المفسدة على كل فرد من أفراده، وبذلك ينحل النهي إلى نواهٍ متعددة بانحلال موضوعه أو متعلقه.
هذا تمام الكلام في النهي وفي منشأ انحلاله.وأمّا الأمر فهو على عكس النهي،والوجه فيه:هو أنّ الأمر بما أ نّه ينشأ عن قيام مصلحة ملزمة في متعلقه – وهي داعية إلى انشائه واعتباره-فلا محالة مقتضى الاطلاق فيه في مقام الاثبات وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات هو أنّ المصلحة قائمة بصرف وجوده لا بمطلق وجوده أينما سرى.
وبتعبير أوضح:أنّ قيام مصلحةٍ بطبيعة في مقام الثبوت والواقع يتصور على صور:
الاُولى:أن تكون المصلحة قائمة بصرف الوجود.
الثانية:أن تكون قائمة بمطلق الوجود على نحو العموم الاستغراقي.
الثالثة:أن تكون قائمة بمجموع الوجودات على نحو العموم المجموعي.
الرابعة:أن تكون قائمة بعنوان بسيط متولد من هذه الوجودات الخارجية، هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات،فلا شبهة في أنّ إرادة كل من الصور الثلاث الأخيرة من الأمر المتعلق بطبيعة تحتاج إلى عناية زائدة ونصب قرينة تدل على إرادته،وأمّا إذا لم تكن قرينة على إرادة إحدى هذه الصور فاطلاقه في مقام الاثبات بمقتضى الفهم العرفي وارتكازهم كان قرينةً عامةً على أنّ المراد منه هو الصورة الاُولى،وأنّ المصلحة قائمة بصرف الوجود.
والسر في ذلك:هو أنّ متعلق الأمر بما أ نّه كان الطبيعة المهملة،فلا محالة لايدل إلّاعلى إيجادها في الخارج،ومن المعلوم أنّ إيجادها يتحقق بأوّل وجودها، إلّا أن تقوم قرينة على إرادة المتعدد منها أو خصوصية اخرى.وأمّا متعلق النهي فهو وإن كان تلك الطبيعة المهملة،إلّاأ نّه لما كان يدل على مبغوضية وجودها في الخارج بلا قرينة على التقييد بالوجود الأوّل،أو بمجموع الوجودات،فلا محالة مقتضى الاطلاق هو مبغوضية كل وجود منها،فهذا هو السر في افتراق كل من الأمر والنهي عن الآخر.
فالنتيجة هي أنّ الأمر لا يدل إلّاعلى اعتبار صرف وجود الطبيعة في ذمّة المكلف،من دون الدلالة على خصوصية زائدة عليه.
ومن هنا قلنا في بحث المرّة والتكرار 1أ نّهما خارجان عن مفاد الأمر مادةً
وهيئةً،فهو كما لايدل عليهما في الأفراد الطولية كذلك لايدل على الوحدة والتعدد في الأفراد العرضية.وأمّا سبب الاكتفاء بالمرّة في مقام الامتثال فهو من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها عليها لا من جهة دلالة الأمر على المرّة وهذا واضح.
وخلاصة هذا الفرق بين الأمر والنهي،هي أنّ المصلحة في طرف الأمر قائمة بصرف وجود الطبيعة ما لم تقم قرينة على الخلاف،ولأجل ذلك لا ينحل الأمر بانحلال أفراد الطبيعة في الواقع.وأمّا المصلحة ففي طرف النهي قائمة بمطلق وجودها،إلّاإذا قامت قرينة على أ نّها قائمة بصرف وجودها مثلاً أو بمجموع وجوداتها وهكذا،ولذلك ينحل في الواقع بانحلالها فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل.
ولنا أن نأخذ بالنقد على هذا الفرق من ناحيتين:
الاُولى: أنّ هذا الفرق أخص من المدّعى،فانّه لا يثبت التفرقة بين الأمر والنهي مطلقاً وعلى وجهة نظر جميع المذاهب،حيث إنّه يرتكز على وجهة نظر مذهب من يرى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها،ولا يجري على وجهة نظر مذهب من لا يرى التبعية كالأشاعرة،فإذن لا يجدي مثل هذا الفرق أصلاً.
الثانية: أنّ هذا الفرق وإن كان صحيحاً في نفسه،إلّاأ نّه لا طريق لنا إلى إحرازه مع قطع النظر عما هو مقتضى إطلاق الأمر والنهي بحسب المتفاهم العرفي ومرتكزاتهم،وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام مع قطع النظر عن ثبوتها،وعلى هذا الضوء فلا يمكننا إحراز أنّ المفسدة في المنهي عنه قائمة بمطلق وجوده،والمصلحة في المأمور به قائمة بصرف وجوده، مع قطع النظر عن تعلق النهي بمطلق وجوده وتعلق الأمر بصرف وجوده،
فإذن لا أثر لهذا الفرق مع قطع النظر عن الفرق الآتي،وهو أنّ قضية الاطلاق في النواهي هي الانحلال وتعلق الحكم بمطلق الوجود،وفي الأوامر هي عدم الانحلال وتعلق الحكم بصرف الوجود.هذا تمام كلامنا في النقطة الاُولى.
وأمّا النقطة الثانية: وهي الفرق بينهما من ناحية المنتهى فيقع الكلام فيها في مقامين:
الأوّل:في مقام الثبوت.
والثاني:في مقام الاثبات.
أمّا المقام الأوّل: فالصحيح هو أ نّه لا فرق فيه بين الأمر والنهي، ولتوضيحه ينبغي لنا أن نقدّم مقدّمة:وهي أنّ أسماء الأجناس كما ذكرناها في بحث الوضع 1وضعت للدلالة على الماهية المهملة،وهي الماهية من حيث هي هي التي لم يلحظ فيها أي اعتبار زائد على ذاتها وذاتياتها،فيكون النظر مقصوراً على ذاتها من دون نظر إلى أمر خارج عنها،ولأجل ذلك تكون الماهية المهملة فوق الماهية اللّا بشرط المقسمي في الابهام والاهمال،فانّها مندمجة فيهما غاية الاندماج دون تلك الماهية-أعني الماهية اللّا بشرط المقسمي-ضرورة أنّ النظر فيها ليس مقصوراً على ذاتها وذاتياتها،بل تلحظ فيها حيثية زائدة على ذاتها،وهي حيثية ورود الاعتبارات الثلاثة عليها – أعني اللّا بشرط القسمي وبشرط لا وبشرط شيء-باعتبار أ نّها مجمع لتلك الاعتبارات ومقسم لها،فهذه الحيثية ملحوظة فيها ولم تلحظ في الماهية المهملة.
ثمّ إنّ لتلك الطبيعة المهملة أفراداً ومصاديق في الخارج،وهي كل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى: أنّ لكل وجود عدماً مضافاً إليه وهو بديله ونقيضه، وقد برهن في محلّه أنّ نقيض الواحد واحد،فلا يعقل أن يكون الاثنان بما هما اثنان نقيضاً للواحد،ضرورة أنّ نقيض كل شيء رفع ذلك الشيء لا رفعه ورفع شيء آخر وهكذا،مثلاً نقيض الانسان رفع الانسان لا رفعه ورفع شيء آخر،فانّ رفع ذلك الشيء نقيض له لا للانسان.
نعم،قد ثبت في المنطق أنّ نقيض الموجبة الكلّية السالبة الجزئية وبالعكس، ونقيض السالبة الكلّية الموجبة الجزئية كذلك،ولكن من المعلوم أنّ هذا التناقض ملحوظ بين القضيتين والكلامين بحسب مقام الاثبات والصدق،بمعنى أنّ صدق كل منهما يستلزم كذب الآخر،مثلاً صدق الموجبة الكلّية يستلزم كذب السالبة الجزئية وبالعكس،وكذا صدق السالبة الكلية يستلزم كذب الموجبة الجزئية وبالعكس،فهما متناقضان بحسب الصدق،فلا يمكن فرض صدق كليهما معاً،كما أ نّه لا يمكن فرض كذب كليهما كذلك.وهذا هو المراد بالتناقض بينهما،ويسمّى هذا التناقض بالتناقض الكلامي.
ومن الواضح جداً أنّ هذا أجنبي عن التناقض فيما نحن فيه-وهو التناقض بين الوجود والعدم بحسب مقام الثبوت والواقع الموضوعي-ضرورة أ نّه لا يمكن أن يكون نقيض الوجود الواحد أعداماً متعددة،ونقيض العدم الواحد وجودات متعددة،وإلّا لزم ارتفاع النقيضين،وهذا من الواضحات الأوّلية.
ومن ناحية ثالثة: أنّ وجود الطبيعي عين وجود فرده في الخارج،لوضوح أ نّه ليس للطبيعي وجود آخر في قبال وجود فرده،وقد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع 1أنّ معنى وجود الطبيعي في الخارج هو أنّ هذا الوجود الواحد الخارجي كما أ نّه مضاف إلى الفرد ووجود له حقيقةً وواقعاً،كذلك مضاف إلى
الطبيعي ووجود له كذلك،وقد قلنا هناك إنّ كل وجود متشخص بنفس ذاته وهويته لا بوجود آخر،بداهة أنّ الوجود عين التشخص لا شيء وراءه.
وأمّا الأعراض الملازمة له في الوجود فهي وجودات مستقلّة في قباله،فليست من مشخصاته،وفي إطلاق المشخص عليها مسامحة واضحة،كما تقدّم ذلك بشكل واضح،فهذا الوجود كما أ نّه وجود للفرد حقيقةً وجود للطبيعي كذلك، فلا فرق بينهما إلّافي الاعتبار وجهة الاضافة،ومن هنا صحّ القول بانّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد،لا نسبة أبٍ واحدٍ إلى الأولاد.
ومن ناحية رابعة: أ نّه إذا كان وجود الطبيعي في الخارج عين وجود فرده، فلا محالة يكون عدمه فيه عين عدم فرده،وهذا واضح.
ومن ناحية خامسة: كما أنّ للطبيعي وجودات متعددة بعدد وجودات أفراده،كذلك له أعدام متعددة بعدد أعدامها،لما عرفت من أنّ عدم الطبيعي عين عدم فرده وبالعكس.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فردٍ منها،والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها،ضرورة أنّ نقيض الوجود الواحد واحد وهو عدمه البديل له، لا عدمه وعدم الفرد الثاني والثالث…وهكذا،فأوّل وجود هذه الطبيعة أوّل ناقض لعدمها،ونقيضه البديل له عدم هذا الوجود الأوّل،وهو وإن كان يستلزم بقاء أعدام بقية الأفراد على حالها،إلّاأ نّه ليس عينها لتثبت المقابلة بين الطبيعتين المذكورتين وهذا ظاهر.وقد عرفت أنّ وجود كل فرد وجود للطبيعة وعدمه عدم لها،غاية الأمر أنّ عدمه عدم لها بنحو القضية الجزئية،فانّ عدمها بنحو القضية الكلّية بفرض عدم جميع أفرادها،وهو مقابل وجودها بهذا النحو،لا مقابل وجودها بوجود فردٍ منها كما لا يخفى.
وبكلمة واضحة: الوجود قد يضاف إلى الطبيعة المهملة وهي التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها،ولم يلحظ معها حيثية زائدة على ذاتها أصلاً، وقد يضاف إلى الطبيعة المطلقة السارية إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج.وقد يضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والاحاطة والوحدة في الكثرة.
أمّا الصورة الاُولى: فقد تقدّم أنّ الطبيعة المهملة كما تتحقق بتحقق فردٍ مّا، كذلك تنتفي بانتفاء ذلك،ضرورة أنّ المقابل لهذه الطبيعة هو عدم مضاف إلى مثلها،ومن الواضح جداً أنّ عدم مثلها يتحقق بانتفاء ذلك،لوضوح أنّ كل وجود يطرد عدمه البديل له،لا عدمه وعدم غيره،فأوّل وجودٍ لهذه الطبيعة أوّل طاردٍ لعدمها،ومن المعلوم أنّ نقيضه وهو العدم البديل له عدم هذا الوجود الأوّل،لا عدمه وعدم سائر وجوداتها،وإن استلزم عدمه-أي عدم هذا الوجود الأوّل-بقاء أعدام سائر وجوداتها على حالها،إلّاأ نّه ليس عينها، لاستحالة أن يكون نقيض الوجود الواحد أعدام متعددة،كما هو ظاهر.
ومن هذا البيان يظهر: فساد ما قيل من أنّ الوجود الناقض للعدم الكلّي وطارد العدم الأزلي ينطبق على أوّل الوجودات،ضرورة أ نّه أوّل ناقض للعدم الأزلي ونقيضه-وهو العدم البديل له-عدم ناقض العدم الكلّي،وهو عين بقاء العدم الكلّي على حاله،ولازم هذا هو وجود الطبيعة بوجود فردٍ منها،وانتفاؤها بانتفاء جميع أفرادها.
وجه الظهور:هو أنّ الطارد للعدم الأزلي المعبّر عنه بالعدم الكلّي هو الوجود الأوّل على الفرض،ومن المعلوم أنّ عدم هذا الطارد-أي الطارد للعدم الكلّي – هو عدم ذلك الوجود الأوّل،لا عدمه وعدم الوجود الثاني والثالث والرابع…
وهكذا،ضرورة أنّ نقيض الواحد واحد،فلا يعقل أن يكون نقيض الواحد متعدداً،نعم عدم الوجود الأوّل يستلزم بقاء أعدام سائر الوجودات على حالها
لا أ نّه عينها.
ولعل منشأ هذا التوهم الغفلة عن تحليل هذه النقطة،وهي أنّ عدم الوجود الأوّل-الذي هو أوّل ناقض للعدم الأزلي-يستلزم بقاء أعدام سائر الوجودات على حالها،لا أنّ عدمه عين أعدام تلك الوجودات ليكون لازمه التقابل بين الطبيعة الموجودة بوجود واحد والطبيعة المنتفية بانتفاء جميع وجوداتها،وقد مرّ استحالة ذلك،فانّ لازم ذلك هو أن يكون نقيض الواحد متعدداً وهو محال.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت:أ نّه لا أصل لما اشتهر في الألسنة من جعل الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فردٍ منها مقابلاً للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها،لما عرفت من استحالة المقابلة بينهما،فانّ وجود الواحد طارد لعدم الطبيعة الموجودة في ضمنه،لا له ولعدم الطبيعة الموجودة في ضمن غيره،بداهة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون طارداً لعدم الطبيعة المطلقة السارية إلى تمام أفرادها،كما هو واضح.
قد يقال: إنّ صرف الوجود الذي يتحقق بوجود واحد،وصرف الترك الذي لا يمكن إلّابانعدام الطبيعة بجميع أفرادها،إنّما هو من جهة أنّ بين الأفراد وحدة سنخية،وتلك الوحدة السنخية هي الجامع بين الوجودات والكثرات، ولا شك في حصول ذلك الجامع بحصول كل واحد من الأفراد والوجودات.
أو فقل:إنّ الوجود السعي بين الوجودات كالطبيعة اللّا بشرط بين المفاهيم، فكما أنّ تلك الطبيعة تصدق وتنطبق على كل فرد من أفرادها،فكذلك ذلك الوجود السعي فانّه ينطبق على كل وجودٍ من الوجودات.وهذا بخلاف ما في طرف العدم فانّ العدم الجامع عبارة عن مجموع الأعدام باضافة العدم إلى الطبيعة،لأنّ على مجموعها يصدق أ نّه عدم الطبيعة،لا على كل واحد واحد،
ضرورة أ نّه ليس هنا شيء واقعي يكون جامعاً بين تلك الأعدام ومنطبقاً على كل واحد منها.
وغير خفي أنّ هذا التوجيه لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،وذلك لأنّه إن اريد بالوحدة السنخية بين الوجودات الوحدة الحقيقية والذاتية فهي غير معقولة،وذلك لأنّ كل وجود مباين لوجود آخر وكل فعلية تابى عن فعلية اخرى،ومع ذلك كيف تعقل وحدة وجودية حقيقية بينهما،وكيف يعقل اشتراك الفعليتين بالذات في فعلية ثالثة.
وإن اريد بها الوجود السِعي الذي هو عبارة عن الوجود المضاف إلى الطبيعة مع قطع النظر عن جميع الخصوصيات والتشخصات الخارجية،فهو أمر معقول، إلّا أنّ مثل هذا الجامع موجود بين الأعدام أيضاً وهو العدم السِعي،فانّه عدم مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من الخصوصيات،وينطبق على كل واحد من الأعدام كانطباق الوجود السِعي على كل واحد من الوجودات،وليست وحدة الوجود السِعي وحدة حقيقية ليقال إنّه ليس بين الأعدام جامع حقيقي، لما عرفت من أنّ الجامع الحقيقي الوجودي بين الوجودات غير معقول،فلا محالة تكون وحدته وحدة بالعنوان،ولا تتعدى عن افق النفس إلى الخارج.
إذن تصوير هذا النحو من الجامع بين الأعدام بمكان من الوضوح كما عرفت.
وعلى هذا الضوء لا فرق بين أن يكون المطلوب الوجود السِعي،وبين أن يكون المطلوب العدم السِعي،فانّ الأوّل كما ينطبق على كل فرد من الأفراد كذلك الثاني ينطبق على كل عدم من الأعدام،ولا يتوقف صدق الثاني على مجموع الأعدام كما توهّم،كيف فانّه كما يصدق على وجود كل فرد أ نّه وجود الطبيعة،كذلك يصدق على عدم كل منه أ نّه عدم الطبيعة،بداهة أنّ الوجود إذا كان وجود الطبيعة،فكيف لا يكون عدمه البديل له عدماً لها،إذن كيف يتوقف صدق عدم الطبيعة على عدم مجموع الأفراد.
أو فقل: إنّ عدم الطبيعة بما هو ليس عدماً آخر في مقابل الأعدام الخاصة ليقال إنّ صدق هذا العدم يتوقف على تحقق مجموع تلك الأعدام،بداهة أنّ عدم الطبيعة عين تلك الأعدام ولا مطابق له غيرها،كما أنّ وجودها ليس وجوداً آخر في مقابل الوجودات الخاصة،بل هو عين تلك الوجودات.وعلى هذا فإذا كان للطبيعة وجود واحد كان لها عدم واحد،وإذا كان لها وجودات متعددة كان لها أعدام كذلك،فالتفرقة بين وجود الطبيعة وعدمها مما لا أصل له أصلاً،وهي وإن كانت مشهورة إلّاأ نّها مبنية على ضرب من المسامحة.
وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا لوحظ الوجود مضافاً إلى الطبيعة المطلقة، فقد ظهر مما تقدّم أنّ لها أعداماً متعددة بعدد وجودات أفرادها،وكل عدم منها طارد لوجوده،لا له ولوجود غيره،وكل وجود منها طارد لعدمه،لا له ولعدم غيره،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ وجود الفرد كما أ نّه عين وجود الطبيعي في الخارج،كذلك عدمه عين عدمه فيه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ الطبيعة كما توجد بوجود فردٍ منها كذلك تنتفي بانتفائه،لفرض أنّ انتفاء الفرد عين انتفاء الطبيعة،ولا يتوقف انتفاؤها على انتفاء جميع أفرادها.نعم،إنّ انتفاء الطبيعة المطلقة يتوقف على انتفاء جميع أفرادها،لفرض أنّ المقابل لها هو عدم مثلها،لا عدم فرد واحد منها،كما هو ظاهر.
وأمّا الصورة الثالثة: وهي الوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والاحاطة والوحدة في الكثرة،فقد تبيّن مما تقدّم أنّ المقابل للوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة لا بنحو الكثرة والانحلال عدم مثله-أي العدم المضاف إلى الطبيعة كذلك-والمراد من الوجود السعي كما عرفت هو عدم ملاحظة خصوصية وجود فردٍ دون آخر فيه،بل هو مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من
الخصوصيات،ولذا لا يغيب ولا يشذ عنه أيّ وجود من وجودات هذه الطبيعة وينطبق على كل وجود من وجوداتها بلا خصوصية في البين،ومن هنا يعبّر عنه بالوحدة في الكثرة،باعتبار أ نّه يلاحظ فيه جهة السعة والوحدة في هذه الكثرات.
ومقابل هذا الوجود السعي العدم السعي،وهو العدم المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من الخصوصيات فيه،ولأجل ذلك هذا عدم لا يغيب ولا يشذ عنه أيّ عدم من أعدام هذه الطبيعة،وينطبق على كل عدم منها من دون جهة خصوصية في البين،ومن الواضح أ نّه لا يكون في مقابل هذا العدم وجود فرد منها،كما أ نّه لا يكون في مقابل هذا الوجود عدم فرد منها.
ونتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها على ضوء جميع الصور المتقدمة.
الثانية: أنّ الطبيعة الملحوظة على نحو الاطلاق والسريان في نقطة مقابلة للطبيعة الملحوظة على نحو تنعدم بانعدام جميع أفرادها،كما هو ظاهر.
الثالثة: أنّ الوجود السعي المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء الخصوصيات في نقطة مقابلة للعدم السعي المضاف إليها كذلك.
وبعد ذلك نقول: إنّ الطبيعة التي يتعلق بها الحكم لا تخلو أن تكون ملحوظةً على نحو الاطلاق والسريان،أو أن تكون ملحوظةً على نحو الاطلاق والعموم البدلي،أو أن تكون ملحوظةً على نحو العموم المجموعي.
فعلى الأوّل،لا محالة ينحل الحكم بانحلال أفرادها في الواقع،فيثبت لكل
فردٍ منها حكم مستقل،ولا يفرق في ذلك بين أن يكون هذا الحكم إيجابياً أو تحريمياً،كما هو واضح.
وعلى الثاني،فالحكم متعلق بفردٍ ما من الطبيعة المعبّر عنه بصرف الوجود ومن المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون ذلك الحكم وجوبياً أو تحريمياً، ضرورة أنّ الملاك إذا كان قائماً بصرف الوجود-كما هو المفروض-فلا محالة يكون الحكم المجعول على طبقه متعلقاً به،من دون فرق بين أن يكون ذلك الملاك مصلحة أو مفسدة،غاية الأمر إن كان الحكم المزبور تحريمياً فلا يكون ارتكاب الفرد الثاني والثالث…وهكذا بعد ارتكاب الفرد الأوّل محرّماً،وهذا ظاهر.
وعلى الثالث،فالحكم متعلق بمجموع الأفراد على نحو العموم المجموعي، ولايفرق فيه أيضاً بين أن يكون ذلك حكماً وجوبياً أو تحريمياً،كما هو واضح.
وعلى الجملة:فالألفاظ وإن كانت موضوعةً للطبيعة المهملة من تمام الجهات ما عدا النظر إلى ذاتها وذاتياتها،إلّاأنّ الشارع في مقام جعل الحكم عليها لا بدّ أن يلاحظها على أحد الأنحاء المذكور،لاستحالة الاهمال في الواقع،فلا محالة إمّا أن يلاحظها على نحو الاطلاق والسريان،أو على نحو العموم البدلي،أو المجموعي،فلا رابع لها.وعلى جميع هذه التقادير والفروض لا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبي أصلاً.
ومن هنا يظهر أنّ الحال كذلك على وجهة نظر المشهور من أنّ المطلوب من النهي هو ترك الطبيعة،فانّه في مقام جعل الحكم عليه إمّا أن يلاحظ على نحو الاطلاق والسريان،أو على نحو العموم المجموعي،أو على نحو العموم البدلي، فلا رابع.وكذا الحال على وجهة نظر من يرى أنّ المطلوب من النهي الزجر عن الفعل.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت:أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع من هذه الناحية مطلقاً،بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور،هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: وهو مقام الاثبات والدلالة،فهو نقطة أساسية للفرق بين الأمر والنهي،والسبب النهائي لجواز الاكتفاء في الأوّل بصِرف إيجاد الطبيعة في الخارج،وعدم الاكتفاء في الثاني بصرف تركها.
بيان ذلك:هو أ نّه لا شبهة في أنّ الأمر إذا تعلق بطبيعة كالصلاة مثلاً أو نحوها،فلا يعقل أن يراد من المكلف إيجاد تلك الطبيعة بكل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج،بداهة استحالة ذلك على المكلف وأ نّه لا يقدر على إيجادها كذلك،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الأمر المتعلق بها مطلق وغير مقيد بحصة خاصة من مرّة أو تكرار أو غيرهما.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو جواز الاكتفاء في مقام الامتثال بايجاد فردٍ من أفرادها أراد المكلف إيجاده في الخارج،وذلك لأنّه بعد استحالة أن يكون المطلوب منه هو إيجاد جميع أفرادها في الخارج من العرضية والطولية،ضرورة عدم تمكن المكلف من ذلك،وتقييده بحصة خاصة منها دون اخرى يحتاج إلى دليل يدل عليه،وحيث لا دليل في البين فلا مناص من الالتزام بأنّ قضية الاطلاق هي أنّ المطلوب صرف وجودها في الخارج.
أو فقل:إنّ المطلوب لا يمكن أن يكون جميع وجودات الطبيعة،وبعضها دون بعضها الآخر يحتاج إلى دليل،وعند فرض عدمه لا محالة كان المطلوب هو إيجادها في ضمن فردٍ مّا المنطبق في الخارج على أوّل وجوداتها،غاية الأمر
يتخير المكلف في مقام الامتثال في تطبيقها على هذا أو ذاك.
وهذا بخلاف النهي فانّه إذا ورد على طبيعة ليس المراد منه حرمان المكلف عن فرد ما منها،ضرورة أنّ الحرمان منه حاصل قهراً،فالنهي عنه تحصيل للحاصل وهو محال،هذا من جانب.ومن جانب آخر:أ نّه لم يقيد النهي عنه بحصة خاصة منها بحسب الأفراد العرضية أو الطولية.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت فيه بمقدّمات الحكمة هو منع المكلف وحرمانه عن جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.
وعلى أساس هذا البيان قد تبيّن أنّ هذا الاختلاف-أعني الاختلاف في نتيجة مقدّمات الحكمة بين الأمر والنهي-ليس من ناحية اختلافهما في المتعلق، لما عرفت من أنّ متعلقهما واحد وهو نفس طبيعي الفعل،فانّه كما يكون متعلقاً للأمر كذلك يكون متعلقاً للنهي،بل إنّ ذلك إنّما كان من جهة خصوصية في تعلق الأمر والنهي به،وهذه الخصوصية هي أنّ المطلوب من الأمر بما أ نّه إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يمكن أن يريد المولى منه إيجادها بكل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة،لفرض عدم تمكن المكلف منه كذلك،فهذه الخصوصية أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب إيجادها في ضمن فردٍ مّا المعبّر عنه بصرف الوجود.والمطلوب من النهي بما أ نّه حرمان المكلف فلا يمكن أن يراد منه حرمانه عن بعض أفرادها،لفرض أ نّه حاصل قهراً،والنهي عنه تحصيل للحاصل،فهذه الخصوصية أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب حرمان المكلف عن جميع أفرادها.
وبكلمة واضحة:أنّ السبب الموضوعي لاختلاف نتيجة مقدمات الحكمة إنّما هو اختلاف خصوصيات الموارد،ففي موردٍ لخصوصية فيه تنتج مقدّمات
الحكمة الاطلاق الشمولي،وفي موردٍ آخر لخصوصية فيه تنتج الاطلاق البدلي،مع أنّ الموردين يكونان متحدين بحسب الموضوع والمتعلق،مثلاً في مثل قوله تعالى: «وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً» 1تنتج المقدّمات الاطلاق الشمولي،ببيان أنّ جعل الطهور لفردٍ مّا من الماء في العالم لغو محض فلا يصدر من الحكيم،فإذن لا محالة يدور الأمر بين جعله لكل ما يمكن أن ينطبق عليه هذا الطبيعي في الخارج،وجعله لخصوص حصة منه كالماء الكر مثلاً أو الجاري أو نحو ذلك،وحيث إنّه لا قرينة على تقييده بخصوص حصة خاصة فلا محالة قضية الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هي إرادة الجميع،فانّ الاطلاق في مقام الاثبات كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت بقانون تبعية المقام الأوّل للثاني.
وأمّا في مثل قولنا:جئني بماء فتنتج المقدّمات الاطلاق البدلي،مع أنّ كلمة الماء في كلا الموردين قد استعملت في معنى واحد،وهو الطبيعي الجامع،ولكن خصوصية تعلق الحكم بهذا الطبيعي على الأوّل تقتضي كون نتيجة الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة شمولياً،وخصوصية تعلقه به على الثاني تقتضي كون نتيجته بدلياً.
وكذا نتيجة مقدّمات الحكمة في مثل قوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 2، «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 3، «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 4وما شابه ذلك شمولياً،باعتبار
أنّ جعل الحكم لفردٍ مّا من البيع أو التجارة أو العقد في الخارج لغو محض،فلا يترتب عليه أيّ أثر.ومن المعلوم أ نّه يستحيل صدور مثله عن الحكيم،فإذن لا محالة إمّا أن يكون الحكم مجعولاً لجميع أفراد تلك الطبائع في الخارج من دون ملاحظة خصوصية في البين،وإمّا أن يكون مجعولاً لحصة خاصة منها دون اخرى،وبما أنّ إرادة الثاني تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها،والمفروض أ نّه لا قرينة في البين،فإذن مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو إرادة جميع أفراد ومصاديق هذه الطبائع.
وهذا بخلاف نتيجة تلك المقدّمات في مثل قولنا:بع دارك مثلاً أو ثوبك،أو ما شاكل ذلك،فانّها في مثل هذا المثال بدلي لا شمولي،مع أنّ كلمة البيع في هذا المثال والآية الكريمة قد استعملت في معنى واحد،وهو الطبيعي الجامع، ولا تدل في كلا الموردين إلّاعلى إرادة تفهيم هذا الجامع،ولكن لخصوصيةٍ في هذا المثال كان مقتضى الاطلاق فيه بدلياً،وهذه الخصوصية هي عدم إمكان أن يراد من بيع الدار بيعها من كل أحد وبكلّ شيء،ضرورة أنّ العين الواحدة الشخصية غير قابلة لأن يبيعها من كل شخص وبكل صيغة في زمان واحد، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ المفروض عدم تقييد بيعها من شخص خاص وفي زمان مخصوص.
فالنتيجة على ضوئهما:هي جواز بيعها من أيّ شخص أراد بيعها منه،وهذا معنى الاطلاق البدلي وكون المطلوب هو صرف الوجود.
ومن ذلك يظهر حال الأوامر المتعلقة بالطبائع،كالأمر المتعلق بالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك،فانّ قضية الاطلاق الثابت فيها بمقدّمات الحكمة الاطلاق البدلي وصرف الوجود،وذلك لما عرفت من أ نّه لا يمكن أن يراد من
المكلف كل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبائع في الخارج،لاستحالة إرادة ذلك لأنّه تكليف بالمحال،وإرادة بعض أفرادها دون بعضها الآخر تحتاج إلى دليل،فإذا لم يكن دليل في البين فمقتضى الاطلاق هو أنّ المطلوب واحد منها وصرف وجودها المتحقق بأوّل الوجودات.وأمّا تكرار الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة فهو من جهة الأدلة الخاصة،لا من ناحية دلالة الأمر عليه.
وهذا بخلاف ما إذا فرض تعلق النهي بتلك الطبائع،فانّ مقتضى الاطلاق الثابت فيها بمقدّمات الحكمة هو الاطلاق الشمولي لخصوصية في تعلق النهي بها،وهي أ نّه لا يمكن أن يريد المولى حرمان المكلف عن بعض أفرادها لأنّه حاصل ولا معنى للنهي عنه،وإرادة حصة خاصة منها بحسب الأفراد العرضية أو الطولية تحتاج إلى دليل،وحيث إنّه لا دليل عليها فقضية الاطلاق لا محالة هي العموم الشمولي.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ مقتضى الاطلاق في الأوامر سواء أكان الاطلاق من تمام الجهات-أعني بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية-أو من بعض الجهات،كما إذا كان لها إطلاق بالاضافة إلى الأفراد العرضية دون الطولية أو بالعكس،هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود،وفي النواهي كذلك الاطلاق الشمولي.
كما أنّ الأمر كذلك في الأحكام الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلّية كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد وحلية البيع وما شاكل ذلك،فانّ مقتضى جريان مقدّمات الحكمة فيها هو الاطلاق الشمولي وانحلال تلك الأحكام بانحلال متعلقاتها وموضوعاتها في الخارج.
عدّة نقاط فيما ذكرناه:
الاُولى:أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع كما مرّ.
الثانية:أ نّه لا فرق بينهما بحسب المتعلق،فما تعلق به النهي بعينه هو متعلق الأمر كما عرفت.
الثالثة:أنّ الأساس الرئيسي لامتياز النهي عن الأمر إنّما هو في مقام الاثبات والدلالة،حيث إنّ نتيجة مقدّمات الحكمة في طرف الأمر الاطلاق البدلي وصرف الوجود،وفي طرف النهي الاطلاق الشمولي.
الرابعة:أنّ مبدأ انبثاق هذا الامتياز إنّما هو خصوصية في نفس الأمر المتعلق بشيء والنهي المتعلق به كما سبق.
ثمّ إنّ ما ذكرناه من الاختلاف في نتيجة مقدّمات الحكمة باختلاف الخصوصيات جارٍ في الجمل الخبرية أيضاً،فانّ نتيجة مقدّمات الحكمة فيها أيضاً تختلف باختلاف خصوصيات المورد،مثلاً في مثل قولنا:جاء رجل نتيجة تلك المقدّمات الاطلاق البدلي،وفي مثل قولنا:لا رجل في الدار نتيجتها الاطلاق الشمولي،مع أنّ كلمة الرجل في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد وهو الطبيعي الجامع،ولكن في كل منهما خصوصية تقتضي كون الاطلاق في أحدهما بدلياً وفي الآخر شمولياً،وبتلك الخصوصية يمتاز أحدهما عن الآخر.
وبيان ذلك:أمّا كون النتيجة في المثال الأوّل بدلياً،فلأجل أ نّه لا يمكن أن يريد المتكلم الإخبار عن مجيء كل من ينطبق عليه عنوان الرجل،لأنّه خلاف الواقع،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لم ينصب قرينةً على الإخبار عن مجيء شخص خاص.