آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة هو كونه أراد الاخبار عن مجيء فردٍ مّا من الرجل وصرف وجوده،فهذه الخصوصية أوجبت كون نتيجة المقدّمات فيه بدلياً.
وأمّا في المثال الثاني،فباعتبار أ نّه لا يمكن أن يريد منه الإخبار عن عدم وجود رجل واحد في الدار ووجود البقية فيها،بداهة أنّ هذا المعنى في نفسه غير معقول،كيف ولا يعقل وجود جميع رجال العالم في دار واحدة،هذا من جانب،ومن جانب آخر أ نّه لم يقيده بحصة خاصة دون اخرى،فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي أنّ المتكلم أراد الإخبار بنفي وجود كل فرد من أفراد الرجل عن الدار،ضرورة أ نّه لو كان واحد من أفراده فيها لا يصدق قوله:لا رجل في الدار،ولصدق نقيضه.
ومن هذا القبيل أيضاً قولنا:لا أملك شيئاً،فانّ كلمة«شيء»وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعي الجامع بين جميع الأشياء،إلّاأنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصةٍ خاصةٍ هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء،لا نفي فردٍ مّا منه ووجود البقية عنده،فانّ هذا المعنى باطل في نفسه،فلا يمكن إرادته منه.
ومن هذا القبيل أيضاً قوله (عليه السلام):«لا ضرر ولا ضرار في الاسلام» 1وما شاكل ذلك،فانّه لا يمكن أن يراد منه نفي ضررٍ مّا في الشريعة المقدّسة لأنّه لغو محض،فلا يصدر من الحكيم.فإذن لا محالة إمّا أن يراد نفي جميع أفراده أو نفي بعضها الخاصة،وحيث إنّ الثاني يحتاج إلى قرينة تدل عليه،فمقتضى الاطلاق هو الأوّل وهو إرادة نفي الجميع.
وكذا قوله تعالى: «فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي الْحَجِّ» 1وقوله (عليه السلام):«لا صلاة إلّابطهور» 2وقوله (عليه السلام):«لا سهو للإمام إذا حفظ عليه مَن خلفه،ولا سهو للمأموم إذا حفظ عليهم الإمام» 3وغير ذلك من الجملات،سواء أكانت في مقام الإخبار أو الإنشاء-أي سواء أكانت كلمة لا النافية بمعناها أو بمعنى النهي-فانّه على كلا التقديرين مقتضى الاطلاق فيها هو العموم الشمولي دون البدلي،وذلك ضرورة أ نّه لا يمكن أن يريد المولى من النفي أو النهي نفي فردٍ مّا أو النهي عنه،لأنّه لغو محض فلا يصدر من الحكيم.فإذن لا محالة يدور الأمر بين أن يراد منه نفي جميع أفراد الطبيعة،أو النهي عن جميعها،أو نفي بعضها المعيّن،أو النهي عنه كذلك،وحيث إنّ إرادة الثاني تحتاج إلى قرينة،فإذا لم تكن قرينة في البين يتعيّن إرادة الأوّل لا محالة.
وهذا معنى كون نتيجة مقدّمات الحكمة فيها شمولياً،وأ نّها تكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت.
عدّة خطوط فيما ذكرناه.
الأوّل: أنّ النهي موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى حرمان المكلف عن الفعل في الخارج،كما أنّ الأمر موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف،ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة والأمر بالوجوب، باعتبار دلالة الأوّل على حرمان المكلف عن الفعل،والثاني على ثبوته في ذمّته.
الثاني: أنّ حقيقة النهي هو ذلك الأمر الاعتباري،كما أنّ حقيقة الأمر
كذلك وأ نّهما اسمان للمؤلف من ذلك الأمر الاعتباري وإبرازه في الخارج بمبرز.
الثالث: أنّ متعلق النهي بعينه هو ما تعلق به الأمر،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.وأمّا ما هو المعروف من أنّ متعلق النهي الترك ونفس أن لا تفعل فلا أصل له كما سبق.
الرابع: أنّ النقطة الأساسية للفرق بين الأمر والنهي هي أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة في طرف الأمر الاطلاق البدلي وصرف الوجود،وفي طرف النهي الاطلاق الشمولي وتمام الوجود.
الخامس: أ نّه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع على وجهتي كلا النظرين-أعني وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور-وذلك لأنّهما لا يخلوان بحسب الواقع من أن يكونا مجعولين للطبيعة على نحو العموم البدلي أو الاستغراقي أو المجموعي فلا رابع في البين،ومن المعلوم أ نّه لا فرق بينهما من هذه النواحي أصلاً كما تقدّم.
السادس: أنّ النهي يختلف مع الأمر في المعنى الموضوع له،ويتّحد معه بحسب المتعلق على وجهة نظرنا،وأمّا على وجهة نظر المشهور فمتعلق الطلب في النهي الترك وفي الأمر الوجود.نعم،متعلق نفس الأمر والنهي معاً الفعل والوجود.
السابع: أ نّه لا فرق بين عدم الطبيعة ووجودها،فكما أنّ عدمها على نحو القضية الكلّية يتوقف على عدم جميع ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج،فكذلك وجودها على هذا النحو يتوقف على وجود جميع ما يمكن انطباق تلك الطبيعة عليه،فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً.وأمّا وجودها على نحو القضية الجزئية فهو وإن تحقق بوجود فرد ما منها،إلّاأنّ عدمها
كذلك أيضاً يتحقق بعدم فردٍ مّا منها،فلا خصوصية من هذه الجهة للوجود، بل هما من هذه الناحية على نسبة واحدة،ومن هنا قلنا إنّ مقابل كل وجود من وجودات الطبيعة عدم من أعدامها وهو بديله ونقيضه،ولذا ذكرنا أ نّه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي تنتفي بانتفاء جميع أفرادها.
الثامن: أنّ نتيجة جريان مقدّمات الحكمة تختلف باختلاف خصوصيات الموارد،فانّ نتيجتها في الأوامر المتعلقة بالطبائع الاطلاق البدلي وصرف الوجود،وفي النواهي المتعلقة بها الاطلاق الشمولي وتمام الوجود.وفي الأحكام الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلّية أيضاً ذلك،أعني الاطلاق الشمولي والانحلال.
الجهة الثانية: أنّ الأمر كما يتعلق بالفعل من ناحية اشتماله على مصلحة لزومية قد يتعلق بالترك كذلك،وكما أ نّه على الأوّل يتصور على صور كذلك على الثاني.
بيان ذلك:هو أنّ المصلحة القائمة بالفعل لا تخلو من أن تقوم بصرف وجوده في الخارج أو بتمام وجوداته،على نحو العموم الاستغراقي أو على نحو العموم المجموعي أو بعنوان بسيط متحصل من الوجودات الخارجية.
فعلى الأوّل يكون المطلوب هو صرف وجود الطبيعة المتحقق بأوّل وجوداتها.
وعلى الثاني يكون المطلوب هو جميع وجوداتها على نحو الانحلال.
وعلى الثالث يكون المطلوب هو مجموع تلك الوجودات بطلب واحد شخصي.
وعلى الرابع يكون المطلوب هو ذلك العنوان البسيط،وأمّا الوجودات الخارجية فهي محصّلة له.
وكذا الحال في المصلحة القائمة بالترك،فانّها لا تخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من أن تكون قائمةً بصرف ترك الطبيعة،أو بتمام تروكها على نحو العام الاستغراقي،أو بتمامها على نحو العام المجموعي،أو بعنوان بسيط متولّد من هذه التروك الخارجية،ولا خامس لها.
فعلى الأوّل المطلوب هو صرف الترك،وهو يحصل بترك فرد ما من الطبيعة في الخارج،فيكون حاله حال ما إذا كان المطلوب هو صرف الوجود.
وعلى الثاني المطلوب هو كل ترك من تروكها على نحو الاستقلال،بحيث يكون كل منها متعلقاً للحكم مستقلاً مع قطع النظر عن تعلق الحكم بالآخر، فحاله من هذه الناحية حال ما إذا كان المطلوب هو إيجاد الطبيعة على نحو الاطلاق والانحلال.
وعلى الثالث المطلوب هو مجموع التروك من حيث هو بطلب واحد شخصي، بحيث يكون تعلق الحكم بكل منها مربوطاً بتعلقه بالآخر،فيكون حاله حال الصورة الثالثة من هذه الناحية.
وعلى الرابع المطلوب هو ذلك العنوان البسيط،وأمّا التروك الخارجية فهي محصّلة له،فيكون حاله من هذه الجهة حال الصورة الرابعة.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ مردّ هذه الصور الأربع جميعاً إلى إيجاب الترك،كما أنّ مردّ الصور الأربع الاُولى إلى إيجاب الفعل،ولا يرجع شيء من تلك الصور إلى المنع عن الفعل وحرمته واقعاً،وإن فرض ورود الدليل عليه بصورة النهي،والوجه في ذلك واضح،وهو ما ذكرناه من أنّ النهي عن شيء ينشأ عن اشتماله على مفسدة لزومية وهي تدعو المولى إلى اعتبار حرمان المكلف عنه،ولا ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه،وإلّا لزم أن يكون تركه واجباً لا أن يكون فعله
حراماً،ضرورة أ نّه لا مقتضي لاعتبار حرمان المكلف عنه أصلاً بعد ما لم تكن فيه مفسدة أصلاً،بل اللّازم عندئذ هو اعتبار تركه في ذمته من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة.وهذا بخلاف النهي الوارد في المقام،فانّه غير ناشٍ عن مفسدة في الفعل،بداهة أ نّه لا مفسدة فيه أصلاً،بل نشأ عن قيام مصلحة في تركه،وهي داعية إلى إيجابه واعتباره في ذمّة المكلف.
وبكلمة واضحة: أنّ المولى كما يعتبر الفعل على ذمّة المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية ويبرزه في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها،قد يعتبر الترك على ذمته باعتبار قيام مصلحة لزومية فيه ويبرزه في الخارج بمبرز ما،سواء أكان إبرازه بقول أم بفعل،وسواء أكان بصيغة الأمر وما شابهها أم بصيغة النهي،ضرورة أنّ اختلاف أنحاء المبرز-بالكسر-لا يوجب الاختلاف في المبرز-بالفتح-أصلاً فانّه واحد-وهو اعتبار المولى الترك في ذمته-كان مبرزه قولاً أو فعلاً،كان بصيغة الأمر أو النهي،وهذا واضح.
ونتيجة ذلك هي أنّ الأمر ناشٍ عن قيام مصلحة إلزامية في متعلقه،سواء أكان متعلقه فعل شيء أم تركه،كما أنّ النهي ناشٍ عن قيام مفسدة إلزامية في متعلقه كذلك،والسر فيه ما عرفت من أنّ حقيقة الأمر هو اعتبار المولى الشيء على ذمّة المكلف من جهة وجود مصلحة ملزمة فيه،ومن المعلوم أ نّه لا يفرق بين اعتباره فعل شيء على ذمته أو تركه،كما أ نّه لا يفرق بين أن يكون مبرز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج فعلاً أو قولاً.وحقيقة النهي اعتباره حرمان المكلف عن الشيء باعتبار وجود مفسدة ملزمة فيه،ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق بين اعتباره حرمانه عن فعل شيء أو اعتباره حرمانه عن ترك شيء.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ هذا هو الميزان الأساسي لتمييز حقيقة النهي عن
حقيقة الأمر،وليست العبرة في ذلك بالمبرز-بالكسر-أصلاً،ضرورة أ نّه لا شأن له ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي ولا خصوصية له أبداً.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال النواهي الواردة في أبواب العبادات،منها ما ورد في خصوص باب الصلاة كموثقة سماعة قال:«سئل أبو عبداللّٰه (عليه السلام) عن جلود السباع،فقال:اركبوها ولا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه» 1وما شاكلها من الروايات الدالة على ذلك.وصحيحة محمّد بن مسلم قال:
«سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ ؟ قال (عليه السلام):لا ولو دبغ سبعين مرّة» 2وصحيحة محمّد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام):«في الميتة قال:لا تصلّ في شيء منه حتّى في شسع» 3وقوله (عليه السلام):«لاتصلّ فيه حتّى تغسله» 4وما شاكل ذلك من الروايات، فانّ هذه الروايات وإن كانت واردة بصورة النهي،إلّاأ نّها في الحقيقة إرشاد إلى مانعية تلك الاُمور عن الصلاة وتقيد الصلاة بعدمها،لأجل مصلحة كانت في هذا التقييد،لا لأجل مفسدة في نفس تلك الاُمور حال الصلاة،ضرورة أ نّه ليس لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في الصلاة من المحرّمات في الشريعة المقدّسة.
نعم،الاتيان بالصلاة عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرّم،وهذا خارج عن محل الكلام،فانّ الكلام في حرمة هذه القيود،لا في حرمة الصلاة.على أنّ
الكلام في الحرمة الذاتية لا في الحرمة التشريعية،والفرض أنّ هذه الحرمة حرمة تشريعية.فإذن لا يمكن أن تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها.
وعلى الجملة: ففي أمثال هذه الموارد ليس في الواقع وعند التحليل العلمي إلّا اعتبار الشارع تقييد الصلاة بعدم تلك الاُمور،من جهة اشتمال هذا التقييد على مصلحة ملزمة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز،كهذه النواهي أو غيرها.ومن هنا تدل تلك النواهي على مطلوبية هذا التقييد ومانعية تلك الاُمور عن الصلاة،ضرورة أ نّا لا نعني بالمانع إلّاما كان لعدمه دخل في المأمور به،وهذا معنى كون هذه النواهي إرشاداً إلى مانعية هذه الاُمور وتقيّد الصلاة بعدمها،هذا كلّه فيما إذا كان الترك مأموراً به بالأمر الضمني.
وقد يكون الترك مأموراً به بالأمر الاستقلالي،بأن يعتبره المولى على ذمّة المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة ملزمة،ويبرزه في الخارج بمبرز،سواء أكان ذلك المبرز صيغة أمر أم نهي،لما عرفت من أ نّه لا شأن للمبرز-بالكسر – أصلاً ما عدا إبرازه ذلك الأمر الاعتباري في الخارج،والعبرة إنّما هي للمبرز – بالفتح-فانّه إذا كان ناشئاً عن مصلحة في متعلقه سواء أكان متعلقه فعلاً أم تركاً،فهو أمر حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة النهي،وإذا كان ناشئاً عن مفسدة في متعلقه كذلك،فهو نهي حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أو ما يشبهها.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الأمر المتعلق بالترك على قسمين:
أحدهما:أ نّه أمر ضمني متعلق بعدم إيجاد شيء في العبادات أو المعاملات.
وثانيهما:أ نّه أمر استقلالي متعلق بعدم إيجاد شيء مستقلاً.
أمّا القسم الأوّل:فهو بمكان من الكثرة في أبواب العبادات والمعاملات.
وأمّا القسم الثاني:فهو قليل جداً.نعم،يمكن أن يكون الصوم من هذا القبيل،باعتبار أنّ حقيقته عبارة عن ترك عدّة امور كالأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء ونحو ذلك،وليست عبارة عن عنوان وجودي بسيط متولد من هذه التروك في الخارج،فإذن الأمر بالصوم ناشٍ عن قيام مصلحة ملزمة في هذه التروك،ولم ينشأ عن قيام مفسدة كذلك في فعل هذه الاُمور،ولذا يقال إنّ الصوم واجب،ولا يقال إنّ فعل المفطرات محرّم.وعليه فلا محالة يكون مردّ النهي عن كل من الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء في نهار شهر رمضان إلى اعتبار تروك هذه الاُمور على ذمّة المكلف باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيها.فالنهي عن كل واحد منها إرشاد إلى دخل تركه في حقيقة الصوم، وأ نّه مأمور به بالأمر الضمني.
فالنتيجة هي أنّ مجموع هذه التروك مأمور به بالأمر الاستقلالي،وكل منها مأمور به بالأمر الضمني.
ومن هذا الباب أيضاً تروك الإحرام في الحج،فانّ كلاً منها واجب على المكلف وثابت في ذمته وليس بمحرّم،ضرورة أنّ النهي عنه غير ناشٍ عن قيام مفسدة إلزامية في فعله،بل هو ناشٍ عن قيام مصلحة ملزمة في نفسه،بمعنى أنّ الشارع قد اعتبر ترك كل من محرمات الإحرام على ذمّة المكلف،وأبرزه في الخارج بمبرز،كصيغة النهي أو ما شاكلها،ومن الواضح جداً أ نّه ليس هنا نهي حقيقةً،بل أمر في الحقيقة والواقع تعلق بترك عدّة من الأفعال في حال الإحرام، فيكون ترك كل منها واجباً مستقلاً على المكلف،وقد تقدّم ما هو ملاك افتراق الأمر والنهي وأ نّه ليس في المبرز-بالكسر-لما عرفت من أ نّه لا شأن له أصلاً
ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي-وهما اعتبار الشارع فعل شيء أو تركه في ذمّة المكلف،واعتباره حرمانه عن فعل شيء أو تركه-فالأوّل أمر، سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة أمر أم صيغة نهي،والثاني نهي كذلك،أي سواء أكان مبرزه فيه صيغة نهي أم أمر.
نعم،فيما إذا كان مبرز الأمر خارجاً صيغة النهي يصح أن يقال إنّه أمر واقعاً وحقيقةً،ونهي صورةً وشكلاً.
ومن هنا يظهر أنّ تعبير الفقهاء عن تلك الأفعال بمحرّمات الإحرام مبني على ضرب من المسامحة والعناية،وإلّا فقد عرفت أ نّها ليست بمحرمة بل تركها واجب،وكيف كان فلا إشكال في أنّ هذا القسم قليل جداً في أبواب العبادات والمعاملات،دون القسم الأوّل وهو ما إذا كان الترك متعلقاً للأمر الضمني.
وبتعبير آخر:أنّ الواجبات الضمنية على ثلاثة أقسام:
الأوّل:ما يكون بنفسه متعلقاً للأمر.
الثاني:ما يكون التقيد بوجوده متعلقاً له.
الثالث:ما يكون التقيد بعدمه متعلقاً له،ولا رابع لها.والأوّل هو الأجزاء، لفرض أنّ الأمر متعلق بأنفسها.والثاني هو الشرائط،فانّ الأمر متعلق بتقيد تلك الأجزاء بها لا بنفسها،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث إنّه قد ذهب إلى أنّ الشرائط كالأجزاء متعلقة للأوامر الضمنية بنفسها،ولكن قد ذكرنا بطلان ذلك في بحث الواجب المطلق والمشروط 1فلا نعيد.والثالث هو الموانع،
فانّ الأمر متعلق بتقيد هذه الأجزاء بعدمها.
وبعد ذلك نقول:الكلام هنا يقع في مقامين:
الأوّل:في مقام الثبوت والواقع.
الثاني:في مقام الاثبات والدلالة.
أمّا المقام الأوّل: فيقع الكلام فيه في موردين:
الأوّل:في بيان ظهور الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقاً للأمر مستقلاً.
الثاني:في بيان ظهورها بين تلك الصور في فرض كونه متعلقاً للأمر ضمناً.
أمّا الكلام في المورد الأوّل: فتظهر الثمرة بين تلك الصور في موضعين:
الأوّل: فيما إذا فرض أنّ المكلف قد اضطرّ إلى إيجاد بعض أفراد الطبيعة في الخارج [ التي ] كان المطلوب تركها فيه،كأن اضطرّ إلى إيجاد بعض محرّمات الإحرام في الخارج،أو اضطرّ إلى ترك الصوم في بعض آنات اليوم.
فعلى الصورة الاُولى، وهي ما كانت المصلحة قائمة بصرف تركها،فإن تمكن المكلف من صرف الترك في هذا الحال وجب عليه ذلك،وإلّا فيسقط الأمر المتعلق به لا محالة،لفرض أ نّه غير مقدور له.
وبكلمة واضحة:أنّ الاضطرار المزبور لا يخلو من أن يكون مستوعباً لتمام وقت الواجب،كما إذا اضطرّ إلى إيجاد بعض تلك المحرّمات إلى آخر وقته،أو لا يكون مستوعباً له.
فعلى الأوّل،لا محالة يسقط الأمر المتعلق بصرف الترك،لعدم قدرته عليه، فهو نظير ما إذا اضطرّ المكلف إلى ترك الصلاة مثلاً في تمام وقتها،فانّه لا إشكال عندئذ في سقوط الصلاة عنه.
وعلى الثاني،لا يسقط الأمر عنه بالضرورة،لفرض أنّ الواجب هو الجامع، لا خصوص الفرد المضطر إليه،والمفروض أ نّه مقدور للمكلف،ومعه لا محالة لا يسقط عنه،فيكون نظير ما لو اضطرّ المكلف إلى ترك الصلاة في بعض أوقاتها،فانّه لا إشكال في أنّ ذلك لا يوجب سقوط الأمر بالصلاة عنه،لفرض أنّ الواجب هو الجامع بين المبدأ والمنتهى،لا خصوص هذا الفرد المضطر إليه أو ذاك،وهذا واضح.
وعلى الصورة الثانية، وهي ما كانت المصلحة قائمةً بتمام تروك الطبيعة على نحو الانحلال والعموم الاستغراقي،فلا بدّ من الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه،ولا يجوز ارتكاب فرد آخر زائداً على هذا الفرد،والوجه فيه واضح،وهو أنّ المجعول في هذه الصورة على الفرض أحكام متعددة بعدد تروك أفراد هذه الطبيعة في الخارج،فيكون ترك كل واحد منها واجباً مستقلاً ومناطاً للاطاعة والمعصية،ومن الظاهر أنّ الاضطرار إلى ترك واجب لا يوجب جواز ترك واجب آخر،وفي المقام الاضطرار إلى إيجاد فردٍ منها في الخارج لا يوجب جواز إيجاد فرد آخر منها…وهكذا،ضرورة أنّ سقوط التكليف عن بعض منها-لأجل اضطرار أو نحوه-لا يوجب سقوطه عن آخر،وجواز عصيانه بعد ما كان التكليف المتعلق بكل منهما تكليفاً مستقلاً غير مربوط بالآخر،فانّه بلا موجب،ومن المعلوم أنّ سقوط التكليف بلا موجب وسبب محال.
وعلى الصورة الثالثة، وهي ما كانت المصلحة قائمةً بمجموع التروك الخارجية على نحو العموم المجموعي،لا محالة يسقط التكليف المتعلق بالمجموع المركب من هذه التروك،لفرض أ نّه تكليف واحد شخصي متعلق به،فإذا فرض أنّ المكلف لا يقدر عليه لاضطراره إلى إيجاد بعض أفراد هذه الطبيعة في الخارج،ومعه لا يتمكن من ترك هذه الطبيعة فيه بجميع أفرادها،وإذا لم يتمكن منه فلا محالة
يسقط التكليف عنه،فيكون كما إذا تعلق التكليف بمجموع أفراد هذه الطبيعة على نحو العموم المجموعي،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،ضرورة أ نّه لا فرق في الأحكام المترتبة على العموم المجموعي بين أن يكون هذا العموم ملحوظاً بين تروك الطبيعة في الخارج،وأن يكون ملحوظاً بين وجوداتها وأفرادها فيه،وهذا واضح.
وعلى ضوء ذلك لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه بل يجوز له إيجاد فردٍ ثانٍ وثالثٍ…وهكذا،لفرض أنّ الأمر المتعلق بمجموع تروكها قد سقط،ومعه لا مانع من إيجاد البقية في الخارج أصلاً،إلّاإذا فرض قيام الدليل على وجوب الباقي.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ مقتضى القاعدة في أمثال المقام هو سقوط التكليف عن المجموع المركب بسقوط جزء منه أو قيده،ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل خارجي،فإن دلّ دليل من الخارج على وجوبه فهو،وإلّا فلا نلتزم به.
وعلى الصورة الرابعة، وهي ما كانت المصلحة قائمة بعنوان وجودي بسيط متولد من تروك هذه الطبيعة في الخارج،أيضاً يسقط التكليف المتعلق به، وذلك لفرض أنّ هذا العنوان مسبب عن ترك جميع أفراد هذه الطبيعة خارجاً، فإذا فرض اضطرار المكلف إلى إيجاد بعض أفرادها في الخارج،لا محالة لا يتحقق ذلك العنوان المعلول لترك جميعها،لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علّته التامة.
فالنتيجة من ذلك:هي أنّ الثمرة تظهر بين الوجه الأوّل والثاني،كما أ نّها تظهر بينهما وبين الوجهين الأخيرين،وأمّا بينهما-أي بين الوجهين الأخيرين – فلا تظهر كما عرفت.
الثاني: فيما لو شككنا في فرد أ نّه من أفراد الطبيعة التي كان المطلوب تركها أم لا.
فعلى الصورة الاُولى: لا يجب تركه،لفرض أنّ المطلوب في هذه الصورة صرف تركها،والمفروض أ نّه يتحقق بتركها آناً ما،ومعه-أي مع تركها آناً ما – يجوز له إيجادها في الخارج في ضمن أفرادها المتيقنة في بقية الآنات والأزمنة فضلاً عن أفرادها المشكوكة،وهذا ظاهر.
وعلى الصورة الثانية: فبما أنّ مردّ الشك في كون هذا الموجود فرداً له أو ليس بفرد له،إلى الشك في تعلق التكليف به،فلا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه،لفرض أ نّه شك في تكليف مستقل،وهو القدر المتيقن من موارد الرجوع إليها.
وعلى الصورة الثالثة: فبما أنّ المورد داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،فلا محالة يرتكز جريان البراءة فيه وعدم جريانها على القول بجريان البراءة وعدمه في تلك المسألة،فإن قلنا فيها بجريان أصالة البراءة عن وجوب الأكثر العقلية والنقلية،فنقول بها كذلك في المقام أيضاً،وإن لم نقل به فيها فلا نقول هنا أيضاً،وحيث إنّا قد اخترنا في تلك المسألة جريان أصالة البراءة عن وجوبه عقلاً وشرعاً،فلا مناص من الالتزام به في المقام.
وقد ذكرنا هناك 1أ نّه لا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل بين البراءة الشرعية والعقلية،فالتزم بجريان الاُولى دون الثانية، وذلك لأنّ ما توهّم من المانع عن جريان البراءة العقلية هنا منحصر في أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما:دعوى أنّ العلم الاجمالي هنا غير منحل.
ثانيهما:دعوى وجوب تحصيل الغرض في المقام،ومن الواضح جداً أنّ كلاً منهما لو تمّ،فكما أ نّه مانع عن جريان البراءة العقلية،فكذلك مانع عن جريان البراءة الشرعية،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
بيان ذلك ملخصاً: هو أ نّه لو بنينا على أنّ انحلال العلم الاجمالي في المقام يبتني على أن يُثبت جريان البراءة الشرعية عن جزئية المشكوك فيه تعلق التكليف بالأقل على نحو الاطلاق وعدم دخل الجزء المشكوك فيه في الواجب،لم يمكن إثباته باجراء أصالة البراءة الشرعية عنها،وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الاطلاق كالتقييد أمر وجودي،فانّ الأوّل عبارة عن لحاظ الطبيعة لا بشرط،والثاني عبارة عن لحاظها بشرط شيء،ومن المعلوم أ نّهما أمران متضادان،فإذا دار أمر التكليف بين تعلقه بالطبيعة على النحو الأوّل، وتعلقه بها على النحو الثاني،فأصالة البراءة عن تعلقه بها على النحو الثاني لا تثبت تعلقه بها على النحو الأوّل-وهو الاطلاق-إلّاعلى القول بالأصل المثبت.
نعم،لو كان الاطلاق أمراً عدمياً عبارة عن عدم التقييد،فأصالة البراءة عن التقييد تثبت الاطلاق،إلّاأنّ هذا الفرض خاطئ وغير مطابق للواقع.
فالنتيجة: هي أنّ البراءة الشرعية كالعقلية غير جارية.
وكذا لو بنينا على وجوب تحصيل الغرض في المقام،فانّه عندئذ لا أثر لجريان أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه،لفرض أ نّها لاتثبت كون الغرض المعلوم مترتباً على الأقل إلّاعلى القول بالأصل المثبت،ومعه لا محالة نشك في حصوله باتيانه.فإذن لا بدّ من الالتزام باتيان الأكثر ليعلم بحصوله وتحققه في الخارج.
ونتيجة ذلك هي عدم جريان البراءة الشرعية كالعقلية من دون فرق بينهما
من هذه الناحية أصلاً.
ولكن قد ذكرنا في محلّه 1أنّ شيئاً من الأمرين لا يكون مانعاً عن إجراء البراءة الشرعية والعقلية.
أمّا العلم الاجمالي، فقد ذكرنا هناك أنّ انحلاله لايتوقف على إثبات الاطلاق ليقال إنّ البراءة عن التقييد لا تثبت الاطلاق،بل يكفي في انحلاله جريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض،لعدم جريانها في الطرف الآخر،والمفروض أنّ الأمر في المقام كذلك،وذلك لأنّ البراءة لا تجري عن الاطلاق،لفرض أ نّه توسعة للمكلف ولا ضيق فيه أصلاً،ومن المعلوم أنّ البراءة سواء أكانت شرعية أم عقلية إنّما ترفع الضيق عن المكلف والكلفة عنه ليكون في رفعه منّةً عليه،والفرض أ نّه لا كلفة ولا ضيق في طرف الاطلاق أصلاً،فإذن تجري البراءة عن التقييد بلا معارض.
ومن المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين البراءة الشرعية والعقلية،بل كلتاهما تجري بملاك واحد،وهو أنّ التقييد بما أنّ فيه كلفةً زائدةً ولم يقم بيان عليها من قبل الشارع،والاطلاق لا كلفة فيه،فلذا لا مانع من جريان البراءة عنه مطلقاً، أمّا البراءة الشرعية فواضح.وأمّا البراءة العقلية فلتحقق موضوعها هنا-وهو عدم البيان-ومعه لا محالة تجري كما هو ظاهر.فإذن لا وجه للتفرقة بينهما أصلاً.
وأمّا الغرض، فلفرض أ نّه لا يزيد عن التكليف بل حاله حاله،وذلك لما ذكرناه مراراً من أ نّه لا طريق لنا إلى إحرازه في موردٍ مع قطع النظر عن ثبوت التكليف فيه،وعليه فلا محالة تدور سعة إحراز الغرض وضيقه مدار سعة
التكليف وضيقه،فلا يعقل أن يكون الغرض أوسع منه.
وعلى هذا فبما أنّ التكليف المتعلق بالأكثر غير واصل إلى المكلف،لما عرفت من انحلال العلم الاجمالي،فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه في الواقع أيضاً غير واصل،لفرض أنّ وصوله تابع لوصول التكليف،فإذا فرض أنّ التكليف لم يصل فالغرض أيضاً كذلك،ومن الظاهر أ نّه لا يجب تحصيل مثل هذا الغرض لا بحكم العقل ولا بحكم الشرع،لفرض أ نّه لا يزيد عن التكليف،والمفروض في المقام أ نّه لا يجب امتثال هذا التكليف من جهة عدم تنجّزه ووصوله،فإذن لا مانع من قبل وجوب تحصيل الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الأكثر شرعاً وعقلاً كما هو واضح.
وأمّا التكليف المتعلق بالأقل،فبما أ نّه واصل إلى المكلف ومنجّز،فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه واصلاً أيضاً،ومعه يجب تحصيله،كما يجب امتثال التكليف المتعلق به.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أنّ الغرض المترتب على الأكثر بما أ نّه مشكوك فيه من جهة،ولم يقم برهان عليه من جهة اخرى،فلا محالة لا يمنع عن جريان البراءة عن وجوبه.
ومن ذلك يظهر أ نّه لا فرق بين البراءة الشرعية والعقلية،فانّه كما لا يمنع عن جريان الاُولى،كذلك لا يمنع عن جريان الثانية،ضرورة أنّ مانعيته إنّما هي في فرض كون تحصيله واجباً بحكم العقل،وقد عرفت أنّ العقل لا يحكم بوجوب تحصيله،إلّافيما إذا وصل إلى المكلف لا مطلقاً.
فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من التفكيك بين البراءة
الشرعية والعقلية في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،لا يمكن المساعدة عليه بوجه،وتمام الكلام هناك.
وأمّا الكلام في المورد الثاني، وهو بيان الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقاً للوجوب الضمني،فأيضاً تظهر الثمرة بينها في موردين:
الأوّل: فيما إذا اضطر المكلف إلى إيجاد بعض أفراد الطبيعة [ التي ] كان المطلوب تركها في الخارج في ضمن واجب كالصلاة مثلاً أو نحوها،كما إذا اضطرّ إلى لبس الثوب المتنجس أو الميتة أو ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.
فعلى الصورة الاُولى، بما أنّ المطلوب هو صرف ترك هذه الطبائع في ضمنها وأ نّها متقيدة به،فلا محالة يحصل المطلوب بترك فردٍ مّا منها في الخارج،ولا يجب عليه ترك بقية أفرادها،وذلك لما عرفت من أنّ صرف الترك كصرف الوجود فكما أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجودات،فكذلك صرف الترك يتحقق بأوّل التروك،فإذا حصل صرف الترك بأوّل الترك حصل الغرض، ومعه يسقط الأمر،فإذن لا أمر بترك بقية أفرادها،بل لا مقتضي له،لفرض أ نّه قائم بصرف الترك لا بمطلقه،كما أنّ عصيانه يتحقق بايجاد أوّل فرد منها في الخارج في ضمن الصلاة ولو في آن.
وعلى الجملة:فعلى هذه الصورة يكفي في صحة الصلاة ترك هذه الطبائع فيها آناً ما،ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بالصلاة،بل لا مقتضي له.
ويترتب على ذلك أنّ المانع عنها في هذه الصورة إنّما هو وجود هذه الطبائع في تمام آنات الاشتغال بها،ولا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات أصلاً،والسر فيه واضح،وهو أنّ المطلوب حيث كان صرف ترك هذه الطبائع في الصلاة، فمن المعلوم أ نّه يتحقق بترك لبسها آناً ما فيها،وإن لم يترك في بقية آنات
الاشتغال بها،لصدق صرف الترك عليه،ومعه يحصل المطلوب ويسقط الأمر لا محالة،ولازم ذلك هو أنّ المانع لبس هذه الاُمور في جميع آنات الصلاة، وهذا واضح.
وعلى الصورة الثانية، وهي كون المطلوب ترك جميع أفراد هذه الطبائع في الصلاة على نحو الانحلال والعام الاستغراقي،وجب الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه،وذلك لفرض أنّ الصلاة على هذا متقيدة بترك كل فرد من أفرادها في الخارج على نحو الاستقلال،ولازم ذلك هو أنّ وجود كل منها مانع مستقل عنها،فلا تكون مانعيته مربوطة بمانعية فرد آخر…وهكذا.
وبكلمة اخرى:حيث إنّ المفروض في هذه الصورة هو أنّ ترك كل واحد من أفراد هذه الطبائع مطلوب على نحو الاستقلال،فلا محالة يكون وجود كل منها مانعاً مستقلاً،ضرورة أ نّا لا نعني بالمانع إلّاما يكون عدمه دخيلاً في الواجب.وعلى هدى ذلك فإذا فرض أنّ المكلف اضطرّ إلى إيجاد فردٍ من أفرادها،وجب عليه الاقتصار على خصوص هذا الفرد المضطر إليه ولا يسوغ له إيجاد فردٍ آخر منها،فلو أوجده لبطلت صلاته،لفرض أنّ ترك كلٍّ منها مطلوب مستقلاً وأ نّه زيادة في المانع.
ويترتب على ما ذكرناه أ نّه يجب التقليل في أفراد تلك الطبائع بالمقدار الممكن،ويلزم الاقتصار على قدر الضرورة،ولا يجوز ارتكاب الزائد،وذلك كما إذا فرض نجاسة طرفي ثوب المكلف مثلاً،وفرض أ نّه متمكن من إزالة النجاسة عن أحد طرفيه دون الطرف الآخر،كما إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي لازالة النجاسة عنه دون الآخر،ففي مثل ذلك يجب عليه تقليل النجاسة وإزالتها عن أحد طرفي ثوبه،لفرض أنّ كل فرد منها مانع مستقل،وترك كل فرد منها مطلوب كذلك،فإذا فرض أنّ المكلف اضطرّ إلى إيجاد مانع فلا يجوز له إيجاد مانع آخر…وهكذا،فانّ الضرورة تتقدّر بقدرها،فلو أوجد فرداً
آخر زائداً عليه لكان موجباً لبطلان صلاته.
وكذا إذا فرض نجاسة ثوبه وبدنه معاً،فعندئذ إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي لازالة النجاسة عن أحدهما وجبت الازالة بالمقدار الممكن.
وكذا إذا فرض نجاسة مواضع من بدنه وفرض أ نّه متمكن من إزالة النجاسة عن بعضها وجبت الازالة الممكنة.
وكذا الأمر فيما إذا فرض نجاسة مواضع من بدنه أو ثوبه،ولكنّه متمكن من تقليله بحسب الكم،وجب تقليله…وهكذا.
وعلى الجملة:فالاضطرار إلى إيجاد مانع في الخارج لا يوجب سقوط الصلاة،لفرض أ نّها لا تسقط بحال،كذلك لا يوجب سقوط مانعية فرد آخر، لفرض أنّ كلاً منها مانع مستقل.
ونتيجة ما ذكرناه:هي وجوب التقليل في أفراد النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة من الأفراد العرضية والطولية بالمقدار الممكن،ولزوم الاقتصار على قدر الضرورة.
بل إنّ السيِّد العلّامة الطباطبائي (قدس سره) 1قد أفتى في العروة بوجوب التقليل حكماً،فضلاً عن التقليل موضوعاً،كما إذا فرض تنجس الثوب بملاقاة البول المعتبر في طهارته تعدد الغسل،ولكن كان عنده ماء بمقدار يكفي لغسلة واحدة،أو كان هناك مانع عن الغسلة الثانية،فيجب غسله مرّة واحدةً،لأنّه يوجب تخفيف النجاسة وزوال المرتبة الشديدة.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) من وجوب تقليل النجاسة حكماً لا يتم صغرى وكبرى.
أمّا بحسب الصغرى، فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية-بشتّى أنواعها وأشكالها-اُمور اعتبارية محضة،وليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،ومن الطبيعي أنّ الاُمور الاعتبارية لا تتصف بالشدّة مرّة وبالضعف مرّة اخرى،ضرورة أ نّهما من الصفات العارضة على الاُمور الخارجية والموجودات التكوينية،كالسواد والبياض وما شاكلهما.وأمّا الاُمور الاعتبارية فالمفروض أ نّه ليس لها واقع خارجي ووجود إلّافي عالم الاعتبار، فهي لا تتصف في ذلك العالم إلّابالوجود والعدم،إذ أ نّها عند اعتبار من له الاعتبار موجودة وعند عدم اعتباره معدومة.
وبعد ذلك نقول:إنّ النجاسة بما أ نّها حكم شرعي فليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار الشارع لها للأشياء بالذات،كما في الأعيان النجسة،أو بالعرض كما في الأعيان المتنجسة،لحكمة دعت إلى ذلك الاعتبار،ومن المعلوم أنّ هذا الاعتبار لا يتّصف بالشدّة والضعف،فلا يقال إنّ اعتبار نجاسة شيء عند ملاقاته للبول شديد واعتبار نجاسته عند ملاقاته للدم مثلاً ضعيف،ضرورة أ نّه لا فرق بين الاعتبارين من هذه الناحية أصلاً،ولا يعقل اتصافهما بالشدّة تارةً وبالضعف اخرى.
وعلى الجملة: فليس في المقام عند التحليل إلّااعتبار الشارع نجاسة الثوب مثلاً عند ملاقاته للبول،واعتبار طهارته عند غسله في الماء مرّتين مطلقاً،أو في خصوص الماء القليل على الخلاف في المسألة،فتكون ملاقاته للبول موضوعاً لحكم الشارع بنجاسته،وغسله في الماء مرّتين موضوعاً لحكمه بطهارته،ومن الواضح أنّ الموضوع ما لم يتحقق في الخارج لا يترتب عليه حكمه.
وعلى ضوء ذلك فلا أثر لتحقق الغسلة الواحدة بالاضافة إلى الحكم بالطهارة ما لم تتحقق الغسلة الثانية،لفرض أ نّها جزء الموضوع،ولا أثر له ما لم يتحقق
جزؤه الآخر أيضاً،وعند تحقق الغسلة الثانية يتحقق الموضوع،فيترتب عليه حكمه وهو الطهارة في المثال.كما أ نّه ربّما اعتبر الشارع في حصول الطهارة لشيء خصوصية اخرى زائداً على غسله بالماء،وهي المسح بالتراب أو نحوه، ولكن من المعلوم أنّ كل ذلك لمصلحة يراها الشارع وليس أمراً جزافاً،لاستحالة صدور الجزاف منه،كما أنّ من الضروري أ نّها لا توجب كون اعتبار النجاسة في مثل هذه الموارد أشد من اعتبارها في غيره من الموارد،لما عرفت من أنّ الاعتبار بما هو لا يمكن أن يتّصف بالشدّة والضعف،ضرورة أ نّهما من صفات وعوارض الاُمور الخارجية،لا الاُمور الاعتبارية التي لا واقع لها في الخارج.
نعم،يمكن اختلاف المعتبر في الشدّة والضعف،فيكون المعتبر نجاسة شديدة لشيء ونجاسة ضعيفة لشيء آخر،كما ورد ذلك في الناصب أ نّه أنجس من الكلب والخنزير 1إلّاأنّ ذلك أجنبي عن محل البحث وحصول ضعف في نجاسة المتنجس بغسله مرّة واحدة.
وإن شئت فقل:إنّ الاعتبار-بما هو-وإن كان غير قابل للاتصاف بالشدّة تارةً والضعف اخرى،إلّاأ نّه لا مانع من اعتبار الشارع نجاسة شديدة لشيء ونجاسة ضعيفة لآخر بملاك يقتضي ذلك،فانّ هذا بمكان من الوضوح،ولكن هذا غير ما نحن بصدده كما لا يخفى.
وقد يتخيل في المقام أ نّه لا شبهة في تفاوت الأحكام الشرعية من حيث القوّة والضعف والأهمّية وعدمها،ضرورة أ نّها ليست في رتبة واحدة وعلى نسبة فاردة كما هو ظاهر،وعليه فكيف يمكن نفي التفاوت بينها وعدم اتصافها بالشدّة والضعف.
ولكن هذا الخيال خاطئ وغير مطابق للواقع،وذلك لأنّ مركز نفي الشدّة والضعف عن الأحكام الشرعية إنّما هو نفس الاعتبار الشرعي بما هو اعتبار، ومن المعلوم أ نّه غير قابل للاتصاف بهما أبداً كما مرّ.وأمّا اتّصاف الحكم بكونه أهم من آخر وأقوى منه،فانّما هو باعتبار الملاك المقتضي له،بمعنى أنّ ملاكه أقوى من ملاكه وأهم منه لا باعتبار نفسه،ضرورة أنّ الأحكام الشرعية بملاحظة أنفسها في رتبة واحدة وعلى نسبة فاردة،فليس هذا الاعتبار بما هو اعتبار أقوى وأهم من اعتبار آخر وهكذا…فإذن يكون اتصافها بالأقوائية والأهمّية إنّما هو بالعرض والمجاز،لا بالذات والحقيقة،والمتصف بهما بالذات والحقيقة إنّما هو ملاكات تلك الأحكام كما لا يخفى.
وأمّا بحسب الكبرى، فعلى تقدير تسليم الصغرى-وهي قبول النجاسة لوصف الشدّة تارةً ولوصف الضعف تارة اخرى-فلأ نّه لا دليل على وجوب تقليل النجاسة عن البدن أو الثواب بحسب الكيف،وذلك لأنّ الأدلة ناظرة إلى مانعية الأفراد بحسب الكم،وأنّ كل فرد من أفراد النجس إذا كان في بدن الانسان أو ثوبه مانع عن الصلاة،ولا تكون ناظرةً إلى مانعيتها بحسب الكيف، وأنّ شدّتها زيادة في المانع.
وبتعبير آخر:أنّ الأدلة تدل على الانحلال الكمّي،وأنّ كل فرد من أفراد هذه الطبيعة مانع،ولا تدل على أنّ شدّته مانع آخر زائداً على أصله ليجب رفعها عند الامكان.وعليه فلا فرق بين الفرد الشديد والضعيف في المانعية بالنظر إلى الأدلة،ولاتكون شدّته زيادةً في المانع بعد ما كان موجوداً في الخارج بوجود واحد.وعليه فالعبرة في وحدة المانع وتعدده إنّما هي بوحدة الوجود خارجاً وتعدده،فإن كان في الخارج موجوداً بوجود واحد فهو فرد واحد من المانع وإن كان وجوده شديداً،وإن كان موجوداً بوجودين فهو فردان من المانع
وهكذا…
فالنتيجة:هي أ نّه لا دليل على وجوب التخفيف الحكمي والكيفي.
وعلى الصورة الثالثة: وهي ما كان المطلوب مجموع تروك الطبيعة على نحو العموم المجموعي،فلا يجب التقليل والاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه، والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ المطلوب في هذه الصورة تقيد الصلاة بترك مجموع أفراد هذه الطبائع في الخارج على نحو العام المجموعي،وليس ترك كلٍّ منها مطلوباً مستقلاً،بل المجموع مطلوب بطلب واحد شخصي.
وعلى هذا فإذا فرض أنّ المكلف اضطرّ إلى إيجاد بعض أفراد تلك الطبائع في الصلاة،لا يقدر على إتيان الصلاة مقيدةً بالقيد المزبور.وعليه فلا أثر لايجاد فردٍ آخر غير هذا الفرد المضطر إليه،ضرورة أ نّه سواء أوجد فرداً آخر غيره أم لم يوجد،فلا يقدر على الصلاة مع ذلك القيد.
وإن شئت قلت: إنّ مردّ هذه الصورة إلى أنّ المانع عن الصلاة إنّما هو الوجود الأوّل،ضرورة أنّ معه ينتفي القيد المذكور.ومن المعلوم أ نّه مع انتفائه لا أثر للوجود الثاني والثالث وهكذا…ولا يتصف شيء منهما بالمانعية،لعدم المقتضي لهذا الاتصاف أصلاً،كما هو ظاهر.وعلى هذا يجوز له إيجاد فرد آخر بارادته واختياره.
ويترتب على ذلك:أ نّه في الأمثلة المتقدمة لا يجب عليه التقليل،بل له أن يصلّي مع نجاسة ثوبه وبدنه مع فرض تمكنه من تطهير أحدهما وإزالة النجاسة عنه،بل لو كان عنده ثوبان متنجسان يجوز له أن يصلّي فيهما معاً عند اضطراره إلى الصلاة في أحدهما،ولا يجب عليه الاقتصار فيها على أحدهما،والسر فيه:
ما ذكرناه من أنّ الصلاة متقيّدة بمجموع تروك أفراد النجس أو الميتة أو ما لا يؤكل أو نحو ذلك على نحو العموم المجموعي،ففيها تقييد واحد بالاضافة إلى
مجموع التروك،لا تقييدات متعددة.
وعليه فإذا اضطرّ المكلف إلى الصلاة في شيء من أفراد هذه الطبائع،كأن اضطرّ إلى الصلاة في الثوب المتنجس أو فيما لا يؤكل أو غير ذلك،فلا محالة ينتفي ذلك القيد،لعدم القدرة على إتيانها معه.ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق في ذلك بين أن يقتصر المكلف على خصوص الفرد المضطر إليه أو يأتي بفرد آخر أيضاً،كأن يلبس ثوباً متنجساً آخر زائداً على الفرد المضطر إليه باختياره وإرادته،بداهة أ نّه لا دخل للفرد الثاني أصلاً،فيكون وجوده وعدمه سيّان، لفرض أنّ عدمه بالخصوص غير دخيل في الواجب،والدخيل فيه إنّما هو عدم المجموع،والمفروض أنّ المكلف لا يقدر عليه.فإذن يستحيل أن يتّصف الفرد الثاني أو الثالث بالمانعية،ومعه لا مانع من أن يأتي به باختياره وإرادته أصلاً.
كما أنّ المطلوب لو كان هو صرف الوجود يستحيل أن يتّصف الفرد الثاني أو الثالث بالمطلوبية،وهذا من الواضحات الأوّلية.
وعلى الصورة الرابعة: وهي ما كانت الصلاة متقيدة بعنوان وجودي بسيط متحصل من مجموع تروك هذه الطبائع،فالحال فيها هي الحال في الصورة الثالثة،بمعنى أنّ المكلف إذا اضطرّ إلى الصلاة في شيء من أفراد هذه الطبائع في الخارج،كأن اضطرّ إلى الصلاة في الثوب المتنجس أو الميتة أو ما لا يؤكل،فلا محالة لا يتحقق العنوان المزبور،ولا يقدر المكلف على الصلاة مع هذا القيد، ضرورة أ نّه مسبب عن مجموع تروك الطبيعة ومعلول لها،ومع الاخلال بواحد منها لا محالة لا يوجد،بداهة استحالة وجود المعلول بدون وجود علّته التامة.
وعلى الجملة:فالصلاة لم تكن متقيدةً بنفس تروك تلك الطبائع على الفرض، بل هي متقيدة بعنوان متولد من تلك التروك في الخارج،فلا شأن لهذه التروك إلّا كونها محصّلة لقيد الواجب-وهو الصلاة في مفروض الكلام-ومقدّمةً
لحصوله،وإلّا فهي أجنبية عمّا هو مراد الشارع وليست بمطلوبة له،فإذا فرض أنّ لمجموع هذه التروك دخلاً في تحقق هذا العنوان،بحيث يكون دخل كل منها فيه بنحو جزء السبب والمؤثر لاتمامه،فلا محالة ينتفي ذلك القيد بانتفاء واحد منها وانقلابه إلى الوجود باضطرار أو نحوه.
وعليه فلا أثر لانقلاب ترك الفرد الثاني أو الثالث وهكذا…إلى الوجود أصلاً،وذلك لفرض أنّ ترك كل منها ليس مطلوباً،والمطلوب إنّما هو تقيد الصلاة بالعنوان المذكور،وهو منتفٍ في هذا الحال،سواء أوجد المكلف فرداً آخر زائداً على هذا الفرد المضطر إليه أم لا،فإذن لا يجب الاقتصار على خصوص هذا الفرد،ويجوز له إيجاد فرد آخر باختياره.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لا فرق بين هذه الصورة والصورة الثالثة بحسب النتيجة،وهي عدم وجوب الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه.
نعم،بينهما فرق في نقطة اخرى:وهي أنّ في الصورة الثالثة كانت الصلاة متقيدة بنفس التروك الخارجية بعنوان العموم المجموعي،وفي هذه الصورة متقيدة بعنوان وجودي متحصل منها.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ:
في الصورة الاُولى:لا يجب على المكلف إلّاترك هذه الطبائع،أعني ترك لبس النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة آناً ما،ولا يلزم تركها في جميع آنات الاشتغال بها،وذلك لما عرفت من أنّ المطلوب في هذه الصورة هو صرف تركها وهو على الفرض يتحقق بتركها آناً ما،كما هو واضح.
وفي الصورة الثانية:يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه، ولا يجوز له إيجاد فرد آخر زائداً عليه،وإلّا لبطلت صلاته لفرض أ نّه مانع
مستقل ولم يضطر إليه.
وفي الصورة الثالثة والرابعة:لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه،بل يجوز له إيجاد الفرد الثاني والثالث وهكذا…باختياره.
الثاني: ما إذا شككنا في مانعية شيء عن الصلاة مثلاً لشبهة موضوعية، فإن كان هناك أصل موضوعي يمكن أن تحرز به المانعية أو عدمها،كما إذا شككنا في طهارة ثوب أو نجاسته،وجرى فيه استصحاب النجاسة أو قاعدة الطهارة،فلا كلام فيه ولا إشكال.
وأمّا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي،كما لو شككنا في مانعية ثوب عن الصلاة مثلاً من جهة الشك في أ نّه متخذ من أجزاء ما لا يؤكل لحمه أو غير متخذ منه،ففي مثل ذلك لا أصل موضوعي يحرز به أحد الأمرين مع قطع النظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي فيه،أو العدم النعتي المحرز لعدم كونه متخذاً من أجزاء ما لا يؤكل.
بيان ذلك:هو أ نّا إذا بنينا في تلك المسألة-أعني مسألة اللباس المشكوك فيه-على جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتي فيها بالتقريب الآتي، كما هو مختارنا في هذه المسألة فهي خارجة عن مفروض كلامنا،إذ بهذا الاستصحاب نحرز أنّ هذا اللباس غير متخذ من أجزاء ما لا يؤكل لحمه،فلا يبقى لنا شك عندئذ في مانعيته أصلاً.
أمّا تقريب جريانه على النحو الأوّل في هذه المسألة:هو أنّ مادة هذا الثوب في زمانٍ لم تكن موجودةً يقيناً،ضرورة أ نّها ليست أزلية،وكذا اتصافها بكونها من أجزاء ما لايؤكل،لوضوح أ نّه أمر حادث مسبوق بالعدم،ثمّ وجدت مادته،وبعد وجودها لا محالة نشك في اتصافها بالوصف المزبور وأنّ هذا
الاتصاف تحقق في الخارج أم لا،فعندئذ لا مانع من استصحاب عدم اتصافها به،وبذلك نحرز أنّ مادة هذا الثوب ليست من أجزاء ما لا يؤكل لحمه،فإذن لا مانع من الصلاة فيه،إذ المفروض جواز الصلاة في ثوب لم يكن من أجزاء ما لا يؤكل،وهذا ثوب لم يكن منها،أمّا كونه ثوباً فبالوجدان،وأمّا أ نّه ليس من أجزاء ما لا يؤكل فبالتعبد،فبضمّ الوجدان إلى الأصل يلتئم موضوع الأثر.
وعلى الجملة:فهنا أمران كلاهما مسبوق بالعدم،أحدهما:مادة هذا الثوب وأجزاؤه الأصلية.ثانيهما:اتصافها بكونها من أجزاء ما لا يؤكل.أمّا الأمر الأوّل:فقد تحقق في الخارج ووجدت مادة هذا الثوب.وأمّا الأمر الثاني:فهو مشكوك فيه،فإنّا نشك في أنّ تلك المادة والأجزاء هل وجدت متصفةً بهذه الصفة أو لم توجد كذلك،فالذي نتيقّن به هو وجود تلك المادة في الخارج، وأمّا اتصافها بهذه الصفة فهو مشكوك فيه،فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدمه،للشك في انتقاض هذا العدم إلى الوجود،فنستصحب بقاءه على حاله، وبذلك نحرز أنّ مادة هذا الثوب لم تؤخذ من أجزاء ما لا يؤكل،فلا مانع عندئذ من إيقاع الصلاة فيه.وتمام الكلام في محلّه.
وأمّا تقريب جريانه على النحو الثاني في هذه المسألة:هو أنّ مادة هذا الثوب في زمان كانت موجودة،ولم تكن في ذلك الزمان جزءاً لما لا يؤكل وهو زمان كونها نباتاً مثلاً،ثمّ نعلم بانتقالها من الصورة النباتية وصيرورتها جزءاً للحيوان،ولكن لا نعلم أ نّها صارت جزءاً للحيوان غير المأكول أم لا،وحيث إنّا نعلم بعدم كونها جزءاً له في حال كونها نباتاً،ثمّ بعد ذلك نشك في أ نّها صارت جزءاً له أم لا،فعندئذ لا مانع من استصحاب عدم صيرورتها جزءاً له وبذلك نحرز أنّ مادة هذا الثوب ليست من أجزاء ما لا يؤكل.
ودعوى أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم انتقالها من الصورة النباتية وصيرورتها جزءاً للحيوان المأكول خاطئة جداً، وذلك لأنّ هذا الاستصحاب غير جارٍ في نفسه،ليعارض الاستصحاب المزبور،لعدم ترتب أثر شرعي عليه إلّاعلى القول بالأصل المثبت،فانّ الأثر الشرعي-وهو صحة الصلاة-إنّما يترتب على عدم كونها جزءاً من غير المأكول،لا على كونها جزءاً من المأكول،كما أنّ بطلانها إنّما يترتب على كونها جزءاً من غير المأكول لا على عدم كونها جزءاً من المأكول وهذا واضح،فإذن لا وجه لهذه الدعوى أصلاً.
فالنتيجة هي أ نّه بناءً على ما حققناه في تلك المسألة 1من جريان استصحاب العدم الأزلي فيها أو العدم النعتي بالتقريب المزبور،لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي من أصالة البراءة أو الاشتغال،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه قد مرّ أنّ محل الكلام في المقام إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي،ويترتب على ضوئهما أنّ هذه المسألة-بناءً على هذه النظرية-خارجة عن محل الكلام.نعم،لو بنينا فيها على عدم جريان هذا الاستصحاب-أعني استصحاب العدم الأزلي والعدم النعتي معاً-فتدخل المسألة في محل الكلام،ولا بدّ عندئذ من الرجوع إلى الأصل الحكمي من أصالة البراءة أو الاحتياط،ومن الواضح أ نّه يختلف باختلاف الصور المتقدمة،بيان ذلك:
أمّا على الصورة الاُولى: فبما أنّ المطلوب هو صِرف ترك لبس النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة،والمفروض حصوله بترك فردٍ مّا من
هذه الطبائع في الخارج آناً ما حال الصلاة،فعندئذ إن تمكن المكلف من ترك هذه الطبائع آناً ما فيها فلا مانع بعد ذلك من إيجاد أفرادها المتيقنة فيها فضلاً عن الأفراد المشكوك فيها،وإن لم يتمكن من تركها آناً ما فيها فلا محالة تبطل صلاته،لما مرّ من أنّ المانع على هذه الصورة إنّما هو وجود هذه الطبائع في تمام آنات الاشتغال بها-أي بالصلاة-وعليه فإذا صلّى في هذا الثوب المشكوك فيه،بأن لبسه في تمام آنات الاشتغال بها كما هو مفروض الكلام،فحينئذ إن كان هذا الثوب نجساً في الواقع فهو مانع عنها لا محالة،وإن لم يكن نجساً فلا يكون مانعاً،وحيث إنّا لا نعلم أ نّه نجس أو ليس بنجس،فطبعاً نشك في مانعيته،ولا مانع عندئذ من الرجوع إلى البراءة عنها الشرعية والعقلية بناءً على ما هو الصحيح من جريان البراءة في مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وأمّا على الصورة الثانية: وهي ما كان ترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع مطلوباً في الصلاة على نحو الاستقلال،فالمقام داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،وذلك لأنّ مردّ الشك فيها عندئذ إلى الشك في انطباق الواجب وهو الصلاة المقيدة بعدم إيقاعها فيما لا يؤكل والميتة والنجس وما شابه ذلك على الصلاة المأتي بها في هذا الثوب في الخارج،وعدم انطباقه إلّاعلى خصوص المقيدة بعدم وقوعها في هذا الثوب المشتبه،فعلى الأوّل يكون الواجب هو الأقل،وهو المطلق من حيث تقيده بعدم وقوعه في هذا الثوب وعدم تقيده به.وعلى الثاني يكون هو الأكثر،وهو المقيد بعدم وقوعه في هذا الثوب المشكوك فيه،وبما أ نّا لا نعلم أنّ الواجب في المقام هو الأقل أو الأكثر فيدخل في تلك المسألة،ويبتني القول بالرجوع إلى البراءة أو الاحتياط فيه على القول بالرجوع إلى البراءة أو الاحتياط فيها،وحيث إنّا قد اخترنا في تلك المسألة
جريان أصالة البراءة عن وجوب الأكثر الشرعية والعقلية،فنقول بها في المقام أيضاً.
وقد تقدّم 1ملخصاً أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل بين البراءة الشرعية والعقلية لا يرجع إلى معنىً صحيح.
ويترتب على ما ذكرناه:أ نّه لا مانع من الصلاة في هذا الثوب المشتبه المردد بين كونه من المأكول أو غيره.ومن هنا يظهر الحال في:
الصورة الثالثة أيضاً، لأنّ مرجع الشك فيها أيضاً عندئذ إلى الشك في انطباق الواجب-وهو الصلاة في مفروض الكلام-على هذا الفرد المأتي به في الخارج-وهو الصلاة في هذا الثوب المشتبه-وعدم انطباقه عليه،فعلى الأوّل يكون الواجب هو الأقل يعني الطبيعي اللّا بشرط.وعلى الثاني يكون هو الأكثر يعني الطبيعي بشرط شيء،وحيث إنّا لا نعلم أنّ الواجب هو الأقل أو الأكثر،فيدخل في كبرى تلك المسألة،وقد عرفت أنّ المختار فيها على وجهة نظرنا هو جريان أصالة البراءة عن التقييد،لأنّه كلفة زائدة،ولم يقم برهان عليها،فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه العقلية والشرعية، وكذا الحال فيما نحن فيه.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لا فرق بين الصورة الثانية والصورة الثالثة من هذه الناحية أصلاً،فانّ المقام على كلتا الصورتين داخل في كبرى تلك المسألة ويكون من صغرياتها.
نعم،فرق بينهما من ناحية اخرى:وهي أنّ الصلاة بناءً على الصورة الثانية
متقيدة بترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع في الخارج على نحو الاستقلال،وبناءً على الصورة الثالثة متقيدة بمجموع تروك أفراد هذه الطبائع في الخارج بنحو الارتباط،وعليه فيكون ترك هذا الفرد المشتبه على تقدير كونه نجساً مثلاً في الواقع تركاً لمانع مستقل على الصورة الثانية،وجزءٍ من التروك المطلوبة على الصورة الثالثة.
ومن هنا يظهر أ نّه لا ثمرة بين هاتين الصورتين من هذه الناحية أصلاً.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أ نّه مع قطع النظر عما ذكرناه من الأصل الموضوعي في مسألة اللباس المشكوك فيه،يرتكز جواز الصلاة فيه على القول بجريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،فإن قلنا بالبراءة فيها-كما هو الصحيح-تجوز الصلاة فيه،سواء أكانت مانعية ما لا يؤكل لحمه انحلالية أم غير انحلالية،وإن لم نقل بالبراءة فيها فلا تجوز الصلاة فيه كذلك،أي سواء أكانت مانعيته انحلالية أم لم تكن.
ومن ذلك يظهر فساد ما قد يتوهّم أنّ جواز الصلاة في اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل يبتني على أن تكون مانعيته انحلالية،وأمّا إذا لم تكن انحلالية فلا تجوز الصلاة فيه،ووجه الظهور ما عرفت من أنّ مانعيته سواء أكانت انحلالية أم لم تكن،فعلى كلا التقديرين تدخل هذه المسألة-أعني مسألة اللباس المشكوك-في كبرى تلك المسألة،أي مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،فلا فرق بين الصورتين من هذه الناحية أصلاً.وعليه فيبتني جريان البراءة أو الاحتياط فيها على جريان البراءة أو الاحتياط في تلك المسألة،لا على الانحلالية وعدمها،فلا أثر لهما في المقام أصلاً.
نعم،إنّما يكون أثر لهما-أي للانحلال وعدمه-في التكاليف الاستقلالية لا
في التكاليف الضمنية كما في المقام،فانّه لا أثر لكون تروك هذه الطبيعة ملحوظةً على نحو الانحلال في مقام جعل الحكم أو على نحو العموم المجموعي،فانّها على كلا الفرضين داخلة في كبرى تلك المسألة كما مرّ.وهذا بخلاف التكاليف الاستقلالية فانّها على تقدير كونها مجعولة على نحو الانحلال والاستغراق بالاضافة إلى أفراد متعلقاتها،فلا إشكال في جريان أصالة البراءة في موارد الشك في كون شيء فرداً لها أو لا.وأمّا على تقدير كونها مجعولةً على نحو الارتباط والعموم المجموعي بالاضافة إلى أفراد متعلقاتها،فيقع جريان البراءة عن كون شيء جزءاً لها مورداً للكلام والاشكال بين الأصحاب،وإن كان الصحيح أيضاً عدم الفرق بينهما بحسب النتيجة بناءً على ما اخترناه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من جريان البراءة عن وجوب الأكثر،إلّاأنّ هذا المقدار من الفرق-وهو كون جريان البراءة على التقدير الأوّل محل الوفاق بينهم، وعلى التقدير الثاني محل الخلاف-كافٍ في المقام.
ومن هنا يظهر الفرق بين التروك المتعلقة للأمر الاستقلالي والتروك المتعلقة للأمر الضمني،فانّها على التقدير الأوّل يفرق بين ما كانت مأخوذةً في متعلق الأمر على نحو الانحلال والعام الاستغراقي،وما كانت مأخوذةً فيه على نحو الارتباط والعام المجموعي.
ويترتب على هذا الافتراق أنّ مورد الشك على الفرض الأوّل غير داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،ولا يبتني القول بالرجوع إلى البراءة فيه على القول بالرجوع إلى البراءة في تلك المسألة،بل ولو قلنا بالاحتياط فيها،فمع ذلك نقول بالبراءة فيه،لفرض أنّ الشك فيه شك في تكليف مستقل، ومعه لا مانع من الرجوع إلى البراءة.وأمّا المشكوك فيه على الفرض الثاني فهو داخل في كبرى تلك المسألة،وعليه فيبتني جواز الرجوع إلى البراءة فيه
وعدمه على القول بجواز الرجوع إلى البراءة وعدمه في تلك المسألة.
وأمّا على التقدير الثاني فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،فانّها على كلا التقديرين داخلة في كبرى تلك المسألة وتكون من صغرياتها.
نعم،بحسب النتيجة بناءً على ما ذكرناه-من أ نّه لا مانع من الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر في تلك المسألة-لا فرق في التروك المأخوذة في متعلق الوجوب على نحو الاستقلال بين كونها مأخوذةً على نحو العموم الاستغراقي أو العموم المجموعي،فانّ النتيجة واحدة على كلا التقديرين وهي البراءة عن وجوب المشكوك فيه،ولا فرق بينهما من هذه الجهة،وإن كان فرق بينهما من جهة اخرى كما تقدّم.
وعلى الصورة الرابعة: وهي ما كان المطلوب عنواناً بسيطاً متحصّلاً من التروك الخارجية،فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال دون البراءة على عكس الصورتين المتقدمتين،والوجه في ذلك:هو أنّ الصلاة مثلاً في هذه الصورة ليست متقيدةً بنفس تروك الطبائع المزبورة في الخارج على الفرض،بل هي متقيدة بعنوان وجودي بسيط متولد من هذه التروك في الخارج،فتكون تلك التروك محصّلةً للمطلوب ومقدّمةً لوجوده وتحققه فيه،وليست بنفسها مطلوبة.
وعلى هذا فإذا شكّ في ثوب أ نّه من أجزاء ما لا يؤكل أو لا،يرجع الشك فيه لا محالة إلى الشك في تحقق المطلوب وعدمه،فيكون أمر المحصّل عندئذ دائراً بين الأقل والأكثر،ومن المعلوم أنّ البراءة لا تجري هنا عن الأكثر،لفرض أ نّه لا أثر له شرعاً،والأثر الشرعي إنّما يترتب على ذلك العنوان البسيط المشكوك وجوده،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ ذمّة المكلف قد اشتغلت بذلك العنوان يقيناً،والمفروض أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين:هي أ نّه لابدّ من الاتيان بالأكثر ليحصل القطع بحصول ذلك العنوان البسيط في الخارج،ويقطع ببراءة ذمته عن التكليف المعلوم،وهذا بخلاف ما إذا اقتصر على إتيان خصوص الأقل في الخارج،فانّه لا يعلم عندئذ بحصول ذلك العنوان البسيط فيه،ولا يقطع ببراءة ذمته عنه.
ومن هنا تظهر الثمرة بين هذه الصورة والصورتين المتقدمتين بناءً على ما هو الصحيح من جريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
نعم،لو بنينا في تلك المسألة على عدم جريان البراءة وأنّ المرجع فيها هو قاعدة الاشتغال لا غيرها،فلا تظهر الثمرة وقتئذ بين هذه الصورة وهاتين الصورتين،إلّاأنّ هذا الفرض خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً كما تقدّم، فإذن تظهر الثمرة بينهما،كما تظهر الثمرة بين هذه الصورة والصورة الاُولى،كما هو ظاهر،هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.
أمّا الكلام في مقام الاثبات والدلالة:فلا بدّ من ملاحظة أدلة مانعية هذه الاُمور وما شاكلها،هل المستفاد منها مانعيتها على النحو الأوّل أو الثاني أو الثالث أو الرابع ؟
أقول: ينبغي لنا أوّلاً ذكر جملة من الروايات الواردة في باب العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم ثمّ نبحث عن أنّ المستفاد من تلك الروايات ما هو.
أمّا الروايات الواردة في باب العبادات فنكتفي بذكر خصوص الروايات الواردة في باب الصلاة فحسب وهي كثيرة:
منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال:«سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ ؟ قال (عليه السلام):لا،ولو دبغ سبعين مرّة» 1.
ومنها: صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام) «في الميتة،قال (عليه السلام):لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع» 1.
ومنها: موثقة سماعة قال:«سألته عن لحوم السباع وجلودها،فقال (عليه السلام):أمّا لحومها فمن الطير والدواب فأنا أكرهه،وأمّا الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه» 2.
ومنها: موثقة ابن بكير قال:«سأل زرارة أبا عبداللّٰه (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر،فأخرج كتاباً زعم أ نّه إملاء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه وآله) إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد،لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلي في غيره مما أحلّ اللّٰه أكله.ثمّ قال:يا زرارة،هذا عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه وآله) فاحفظ ذلك يا زرارة،فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أ نّه ذكي وقد ذكّاه الذابح،وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله،فالصلاة في كل شيء منه فاسد،ذكّاه الذابح أو لم يذكه» 3.
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مسكان«يغسلها ويعيد صلاته» 4.
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن مسلم«إذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصليت فيه صلاةً كثيرة فأعد ما
صليت فيه» 1.
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن جعفر«وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله» 2.
ومنها: صحيحة اسماعيل بن سعد الأحوص في حديث قال:«سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) هل يصلي الرجل في ثوب إبريسم ؟ فقال (عليه السلام):لا» 3.
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن عبدالجبار«لا تحلّ الصلاة في حرير محض» 4.
ومنها: قوله (عليه السلام) في موثقة عمار بن موسى«لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلي فيه» 5ونحوها من الروايات الواردة في هذه الأبواب الدالة على مانعية هذه الاُمور عن الصلاة،وأنّ الصلاة المأمور بها هي الحصة الخاصة منها وهي الحصة المتقيدة بعدم إيقاعها فيها.
وأمّا الروايات الواردة في باب المعاملات فأيضاً كثيرة:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام)«قال:ما كان من طعام سميت فيه كيلاً فلا يصلح بيعه مجازفة» 6.
ومنها: توقيعه (عليه السلام) في مكاتبة الصفار«لا يجوز بيع ما ليس يملك» 1.
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن مسلم«لا تشترها إلّا برضا أهلها» 2.
ومنها: قوله (عليه السلام) في موثقة سماعة«لا يصلح إلّاأن يشتري معه – العبد الآبق-شيئاً آخر» 3.
وغيرها من الروايات الدالة على المنع عن بيع الخمر،والبيع الربوي،والبيع الغرري،وبيع النقدين بدون التقابض في المجلس،وبيع المجهول،وبيع آلات القمار والغناء،وبيع غير البالغ وما شاكل ذلك مما يعتبر عدمه في صحة المعاملة،سواء أكان من أوصاف العوضين أم كان من أوصاف المتعاملين أم كان من غيرهما.
والحري بنا أن نقول في هذا المقام:هو أنّ هذه النواهي جميعاً نواهي إرشادية فتكون إرشاداً إلى مانعية هذه الاُمور عن صحة العبادات والمعاملات ومبرزةً لاعتبار عدمها فيهما،وهذا معنى إرشادية تلك النواهي،ضرورة أنّ إرشاديتها ليست كارشادية الأوامر والنواهي الواردتين في باب الاطاعة والمعصية،فانّه لا أثر لهما ما عدا الارشاد إلى ما استقلّ به العقل،وهذا بخلاف تلك النواهي فانّها إرشاد إلى حكم مولوي ومبرزة له،وهو تقيد العبادة أو المعاملة بعدم هذا الشيء أو ذاك،فيكون مردّ ذلك إلى أنّ المطلوب هو حصة خاصة من العبادة
أو أنّ الممضاة من المعاملة هي الحصة المتقيدة بعدم ما تعلق به النهي،وتسمية هذه النواهي بالنواهي الارشادية إنّما هي من جهة أ نّها ليست بنواهي حقيقية، وهي اعتبار حرمان المكلف عن متعلقاتها،باعتبار اشتمالها على مفسدة ملزمة لينتزع منها الزجر عنها،ولتكون تلك النواهي عندئذ مصداقاً له،لفرض أ نّه لا مفسدة فيها فلا شأن لها ما عدا كونها مبرزةً لتقييد العبادة أو المعاملة بعدم شيء وإرشاداً إلى مانعيته.
كما أنّ الأوامر الواردة في هذه الأبواب سميت بأوامر إرشادية من ناحية أ نّها ليست بأوامر حقيقية،وأ نّها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية،ولا يترتب عليها ما عدا ذلك،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى: أ نّه لا شبهة في ظهور تلك النواهي في الانحلال،وأنّ مانعية هذه الاُمور تنحل بانحلال أفرادها ومصاديقها في الخارج،فيكون كل فرد منها مانعاً مستقلاً،بمعنى أنّ عدم كل منها مأخوذ في عبادة أو معاملة على نحو الاستقلال،والوجه في ذلك:هو أ نّه لا إشكال في أنّ مانعية هذه الاُمور على النحو الأوّل-بأن يكون المطلوب صرف تركها في الصلاة أو نحوها ولو آناً ما،ليكون لازمه هو كون المانع وجودها وتحققها في تمام آنات الاشتغال بها،فلا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات دون بعضها الآخر-تحتاج إلى نصب قرينة تدل على إرادة مانعيتها على هذا الشكل وعناية زائدة،وإلّا فاطلاقات الأدلة لا تتكفل لارادة المانعية على هذا النحو أصلاً،بل هي لا تخرج عن مجرد الفرض.
وكذا إرادة مانعية هذه الاُمور على النحو الثالث تحتاج إلى عناية زائدة، ضرورة أنّ الاطلاقات لا تتكفل لبيان تقييد الواجب بمجموع تروك هذه الطبائع على نحو العموم المجموعي،ليكون لازم ذلك هو كون المانع صرف
وجود هذه الطبائع في الخارج،كيف فانّ مقتضى الاطلاق عدم الفرق في المانعية بين الوجود الأوّل والثاني والثالث وهكذا…
وكذا إرادة الصورة الرابعة،ضرورة أ نّها خلاف ظواهر الأدلة،فانّ الظاهر منها هو كون تروك هذه الطبائع بنفسها قيداً،لا أ نّها مقدّمة لحصول القيد في الخارج،فانّ إرادة ذلك تحتاج إلى عناية اخرى وبيان من المتكلم.
ومن ناحية ثالثة: المفروض أنّ المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على إرادة الصورة الاُولى،ولا على إرادة الصورة الثالثة،ولا على إرادة الصورة الرابعة،لما عرفت من أنّ إرادة كل واحدة من هذه الصور تحتاج إلى قرينة ومؤونة زائدة.
ومن ناحية رابعة: أ نّه لم يعقل أن يراد من هذه النواهي ترك هذه الطبائع في ضمن فردٍ ما من أفرادها العرضية والطولية حال الصلاة،ضرورة أ نّه حاصل قهراً،فلا يمكن إرادته،لأنّها إرادة ما هو حاصل بالفعل،وهي مستحيلة من الحكيم،فإذن تنتج مقدّمات الحكمة الاطلاق.
ومن ناحية خامسة: قد ذكرنا سابقاً 1أ نّه لا يترتب على مقدّمات الحكمة ما عدا الاطلاق وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات،وأمّا كون الاطلاق بدلياً أو شمولياً أو غير ذلك،فهو خارج عن مقتضى المقدّمات،ضرورة أنّ كون المتكلم في مقام البيان وورود الحكم على المقسم،وعدم نصب قرينة على التقييد بصنف خاص دون آخر لا يقتضي إلّاإطلاق الحكم وعدم تقييده بحصة خاصة،وأمّا اختلاف الاطلاق من حيث الشمول والبدل والتعيين وما شاكل ذلك،فهو من جهة القرائن الخارجية وخصوصيات المورد فانّها تقتضي كون
الاطلاق بدلياً في مورد،وشمولياً في مورد آخر،ومقتضياً للتعيين في مورد ثالث.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أنّ الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في المقام شمولي لا بدلي،وذلك لقرينة خارجية وخصوصية المورد،وتلك القرينة الخارجية هي فهم العرف،ضرورة أنّ المرتكز في أذهانهم من مثل هذه النواهي هو الانحلال والشمول،ومنشأ فهم العرف ذلك وكون هذا من مرتكزاتهم هو ما ذكرنا من أنّ إرادة بقية الصور من تلك النواهي تحتاج إلى مؤونة اخرى خارجة عن عهدة الاطلاق،هذا من جهة.ومن جهة اخرى:أنّ إرادة ترك فردٍ ما من أفرادها العرضية أو الطولية غير ممكنة،كما عرفت.ومن جهة ثالثة:أنّ القرينة لم تنصب على إرادة حصة خاصة منها.
فالنتيجة على ضوئها:هي كون الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في هذه الموارد شمولياً،وأنّ كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع مستقل،فلا تكون مانعية هذا مربوطة بمانعية ذاك،وعدم كل واحد منها مأخوذ في العبادة أو المعاملة على نحو الاستقلال والانحلال،وهذا هو المتفاهم العرفي من هذه الروايات،ضرورة أ نّه لا فرق في نظر العرف بين الفرد الأوّل من النجس والفرد الثاني والثالث…وهكذا في المانعية.وكذا لا فرق بين الفرد الأوّل من الميتة والفرد الثاني،والفرد الأوّل مما لا يؤكل أو الحرير والفرد الثاني…وهكذا.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ المستفاد عرفاً من إطلاق قوله (عليه السلام) «لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع» 1وقوله (عليه السلام)«لا تحلّ الصلاة في
حرير محض» 1ونحوهما هو الانحلال،وأنّ لبس كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع عن الصلاة مستقلاً،وعدم الفرق بين الوجود الأوّل والثاني من هذه الناحية أصلاً،وهذا ظاهر.
وبكلمة اخرى: أنّ حال هذه النواهي من هذه الجهة حال النواهي الحقيقية الاستقلالية،فكما أنّ المتفاهم عرفاً من إطلاق تلك النواهي هو العموم والشمول بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية ما لم تنصب قرينة على الخلاف، فكذلك المتفاهم عرفاً من إطلاق هذه النواهي هو العموم والشمول.
والسر في ذلك واضح،وهو أنّ الأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية لا محالة تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج،ومن الواضح أ نّه لا فرق في ذلك بين الأحكام التحريمية والوجوبية،فكما أنّ الاُولى تنحل بانحلال موضوعها فيما إذا لم تنصب قرينة على خلافه،فكذلك الثانية،مثلاً وجوب الحج المجعول للمستطيع في قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 2على نحو القضية الحقيقية لا محالة ينحل بانحلال أفراد المستطيع في الخارج، فيثبت لكل منها حكم مستقل.وكذا وجوب الصلاة المجعول للمكلف البالغ العاقل القادر الداخل عليه الوقت على نحو القضية الحقيقية،فانّه لا محالة ينحل بانحلال أفراده.وكذا وجوب الزكاة المجعول لمن بلغ ماله حدّ النصاب على نحو القضية الحقيقية،وهكذا.
فلا فرق من هذه الناحية بين الأحكام التحريمية والأحكام الوجوبية أصلاً، وإنّما الفرق بينهما في نقطة اخرى:وهي أنّ الأحكام التحريمية كما تنحل بانحلال موضوعها في الخارج فيما إذا كان لها موضوع،كذلك تنحل بانحلال أفراد متعلقها فيه،فالنهي عن سبّ المؤمن مثلاً كما ينحل بتعدد أفراد المؤمن في الخارج، كذلك ينحل بانحلال أفراد السب،ويكون كل فرد منه محرّماً.
نعم،قد يكون انحلال النهي بانحلال متعلقه وتعدده من ناحية تعدد موضوعه وانحلاله في الخارج لا في نفسه،وذلك كشرب الخمر مثلاً أو شرب النجس أو ما شاكل ذلك،فانّه يتعدد بتعدد أفراد الخمر أو النجس خارجاً لا في ذاته، ضرورة أنّ فرداً واحداً منه غير قابل لأن يتعدد شربه،بل له شرب واحد، نعم يتعدد باعتبار تعدد الحالات والأزمنة لا في نفسه،والمكلف في اعتبار الشارع محروم عن جميع أفراد شربه في الخارج من العرضية والطولية.
وهذا بخلاف الأحكام الوجوبية،فانّها لا تنحل بانحلال أفراد متعلقها في الخارج أصلاً،إلّافيما إذا قامت قرينة من الخارج على الانحلال.
فالنتيجة: هي أنّ الأوامر تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج فحسب، ولا تنحل بانحلال متعلقاتها فيه،وهذا بخلاف النواهي فانّها تنحل بانحلال موضوعاتها ومتعلقاتها معاً،وفيما نحن فيه حيث إنّ مانعية لبس ما لا يؤكل والميتة والحرير والذهب والنجس وما شاكل ذلك في الصلاة جعلت لها على نحو القضية الحقيقية،فمن الطبيعي هو أ نّها تنحل بانحلال أفراد هذه الطبائع في الخارج،فيكون لبس كل فردٍ منها مانعاً مستقلاً،ولا تكون مانعيته مربوطة بمانعية الآخر…وهكذا،وهذا هو المتفاهم العرفي من كل قضية حقيقية من دون شبهة وخلاف.
وكذا لا شبهة في ظهور تلك النواهي في باب المعاملات-بالمعنى الأعم-في
الانحلال،ضرورة أنّ مانعية الغرر مثلاً تنحل بانحلال أفراد البيع في الخارج، وكذا الجهل بالعوضين أو بأحدهما وما شاكل ذلك بعين الملاك المتقدِّم.
وقد يتخيّل في المقام أنّ المفروض أنّ هذه النواهي ليست بنواهٍ حقيقية،بل هي نواه بحسب الصورة والشكل،وفي الحقيقة أوامر غاية الأمر أنّ المولى أبرز تلك الأوامر بصورة النهي،وقد تقدّم أ نّه لا عبرة بالمبرز-بالكسر-أصلاً، والعبرة إنّما هي بالمبرز-بالفتح-هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد سبق 1أنّ نتيجة الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف الأوامر هي العموم البدلي وصرف الوجود،لا العموم الشمولي ومطلق الوجود.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أ نّه لا بدّ أن يكون المطلوب في أمثال هذه الموارد هو تقيّد العبادة أو المعاملة بصرف ترك هذه الاُمور في الخارج،وهو يتحقق بتركها آناً ما،فإذن المتعيّن في هذه الموارد وما شاكلها هو إرادة الصورة الاُولى من الصور المتقدمة لا غيرها،وهي ما كان المطلوب تقييد الواجب بصرف ترك تلك الاُمور خارجاً.
وعلى الجملة:فقد مرّ أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف الأمر هو العموم البدلي وصرف الوجود بمقتضى الفهم العرفي،ومن المعلوم أ نّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر متعلقاً بالفعل أو بالترك،فإذن مقتضى الاطلاق في أمثال تلك الموارد أيضاً ذلك.
ولكن هذا الخيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،والوجه في ذلك:
ما تقدّم من أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة ليست إلّاثبوت الاطلاق،وأمّا كونه
شمولياً أو بدلياً فلا تدل مقدّمات الحكمة على شيء من ذلك،فإذن إثبات كون الاطلاق في المقام على النحو الأوّل أو الثاني يحتاج إلى قرينة خارجية تدل عليه،هذا من جانب.
ومن جانب آخر: قد مرّ أنّ القرينة الخارجية قد دلّت على أنّ الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في موارد الأمر المتعلق بالفعل والوجود بدلي وفي موارد النهي شمولي.
ومن جانب ثالث: أنّ الأمر إذا تعلق بترك طبيعة في الخارج،فلا محالة لا يخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من أنّ المولى إمّا أن يريد ترك جميع أفرادها في الخارج من العرضية والطولية-سواء أكانت على نحو العموم المجموعي أو الاستغراقي-أو أن يريد ترك فردٍ ما منها،أو أن يريد ترك حصة خاصة منها دون اخرى،أو أن يريد صرف تركها،ولا خامس في البين.
ومن جانب رابع: أ نّه لا شبهة في أ نّه لا يمكن أن يراد من ذلك الفرض الثاني وهو ترك فردٍ ما منها،لأنّه حاصل وطلبه تحصيل للحاصل،فلا يمكن أن يصدر من الحكيم،وكذا لا يمكن أن يراد منه الفرض الثالث وهو ترك حصة خاصة منها،لأنّ إرادته تحتاج إلى قرينة تدل عليها،والمفروض أ نّه لا قرينة هنا،فإذن يدور الأمر بين أن يراد منه الفرض الأوّل،وهو أن يكون المطلوب ترك جميع أفرادها العرضية والطولية،وأن يراد منه الفرض الرابع وهو أن يكون المطلوب صرف تركها المتحقق بتركها آناً ما،ومن الواضح جداً أنّ إرادة الفرض الرابع خلاف المتفاهم العرفي المرتكز في أذهانهم،ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله (عليه السلام):«لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع» 1هو
تركه في جميع آنات الاشتغال بها،ولا يختلج في بالهم أن يكون المراد منه تركه حال الاشتغال بالصلاة آناً ما،ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بها،ومن المعلوم أنّ إرادة مثل هذا المعنى البعيد عن أذهان العرف تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليه،وإلّا فلا يمكن إرادته من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة.
فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الأربعة:هي أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة – وهي الاطلاق-يختلف مقتضاها باختلاف موارد الأمر،ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاها الاطلاق البدلي وصرف الوجود من جهة القرينة الخارجية-وهي فهم العرف من إطلاقه ذلك بعد ضميمة عدم إمكان إرادة إيجاد الطبيعة بجميع أفرادها العرضية والطولية في الخارج-وفي موارد تعلقه بالترك كان مقتضاها الاطلاق الشمولي ومطلق الترك من جهة الفهم العرفي والقرينة الخارجية.
وعلى الجملة: فقد عرفت أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي ثبوت الاطلاق فحسب،وأنّ مراد المولى مطلق من ناحية تبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت، ولكن المتفاهم العرفي من هذا الاطلاق في موارد تعلق الأمر بالفعل هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود،لأجل خصوصية فيه،والمتفاهم العرفي من الاطلاق في موارد تعلقه بالترك هو الاطلاق الشمولي وعموم الترك كذلك أي من جهة خصوصية فيه،ولأجل ذلك تفترق موارد تعلق الأمر بالفعل عن موارد تعلقه بالترك.
ثمّ إنّه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالفعل بين أن تكون أوامر استقلالية كالأمر بالصلاة والصوم وما شاكلهما،وأن تكون أوامر ضمنية كالأوامر المتعلقة بأجزاء العبادات والمعاملات وشرائطهما،مثل الأمر بالركوع والسجود والتكبيرة
واستقبال القبلة والقيام والطهارة وما شاكلها،فكما أنّ المتفاهم العرفي من الاطلاق في موارد الأوامر الاستقلالية هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود، فكذلك المتفاهم العرفي منه في موارد الأوامر الضمنية هو ذلك،ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من إطلاق قوله (عليه السلام):«اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» 1هو كون المطلوب صرف وجود الغسل وتحققه في الخارج، واعتبار خصوصية اخرى يحتاج إلى دليل خاص كاعتبار التعداد والمسح بالتراب ونحو ذلك،فإن كل هذا خارج عن الاطلاق،فلا يستفاد منه،فإن قام دليل من الخارج على اعتباره بالخصوص نأخذ به،وإلّا فلا نقول به،وكذا الحال في مثل الأمر بالركوع والسجود ونحوهما،فانّ المتفاهم منه عرفاً هو كون المطلوب صرف الوجود لا مطلق الوجود وهذا واضح،كما أ نّه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالترك بين أن تكون استقلالية أو ضمنية من هذه الناحية أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك امور:
الأوّل: أنّ كون الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في موردٍ بدلياً وفي موردٍ آخر شمولياً ليس ما تقتضيه نفس المقدّمات،فانّ ما تقتضيه المقدّمات هو ثبوت الاطلاق في مقام الاثبات الكاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت،وأمّا كونه بدلياً أو شمولياً فخارج عما تقتضيه المقدّمات بالكلّية،بل هو تابع لخصوصيات الموارد ويختلف باختلافها.
الثاني: أنّ مقتضى الاطلاق في طرف الأمر ليس هو الاطلاق البدلي مطلقاً وفي تمام موارده،بل هو يختلف باختلاف تلك الموارد،ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاه بدلياً إلّاإذا قامت قرينة من الخارج على خلافه،وفي موارد تعلقه بالترك كان شمولياً.
الثالث: أ نّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر المتعلق بالترك أمراً ضمنياً، وأن يكون أمراً استقلالياً،فكما أنّ مقتضى الاطلاق في الأوّل من جهة الفهم العرفي هو العموم والشمول،فكذلك مقتضى الاطلاق في الثاني،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،كما أ نّه لا فرق في الأمر المتعلق بالفعل بين أن يكون أمراً استقلالياً كالأمر بالصلاة والصوم وما شابه ذلك،وأن يكون أمراً ضمنياً كالأوامر المتعلقة بالعبادات والمعاملات بالمعنى الأعم،فكما أنّ المتفاهم عرفاً من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في الأوّل هو العموم البدلي وصرف الوجود، فكذلك المتفاهم عرفاً من الاطلاق الثابت بها في الثاني،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.
الرابع: أنّ نتيجة الاطلاق عرفاً في هذه الموارد-أعني موارد النهي عن العبادات والمعاملات-هو العموم الانحلالي دون العموم المجموعي،لأنّ إرادته تحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يتكفل الاطلاق لبيانه.
فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن:أنّ مقتضى إطلاق هذه النواهي هو تقييد العبادات كالصلاة مثلاً والمعاملات بترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع في الخارج من العرضية والطولية.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتّضح أ نّه لا شبهة في وجوب التقليل في أفراد هذه الموانع والاقتصار على مقدار الضرورة.
نعم،لو كان المستفاد من تلك الأدلة هو الصورة الثالثة أو الرابعة لم يجب التقليل والاقتصار على قدر الضرورة كما مرّ،ولكن عرفت أنّ المستفاد منها عرفاً هو الصورة الثانية مطلقاً،أي في العبادات والمعاملات من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،بل الحال في المعاملات أوضح،ضرورة أ نّه
لا يحتمل أن يكون الجهل مثلاً بأحد العوضين أو بهما معاً مانعاً عن صحة المعاملة في مورد واحد…وهكذا.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده السيِّد العلّامة الطباطبائي (قدس سره) في العروة 1من وجوب التقليل بالمقدار الممكن والاقتصار على ما تقتضيه الضرورة هو الصحيح ولا مناص عنه،إلّاأنّ ما أفاده (قدس سره) من لزوم التقليل حكماً فضلاً عن التقليل موضوعاً لا يتم صغرى وكبرى،كما تقدّم بشكل واضح فلا نعيد.
نعم،لو قلنا بالتزاحم في أمثال هذه الموارد دون التعارض من ناحية، وسلّمنا اتصاف النجاسة من هذه الجهة بالشدّة والضعف من ناحية اخرى،فعندئذ لو دار الأمر بين إزالة الفرد الشديد وإزالة الفرد الضعيف،لكان اللّازم هو تقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف،لأنّ إزالته أهم من إزالته،ولا أقل من احتمال كونها أهم منها،وهذا يكفي للتقديم في مقام المزاحمة.
وهذا بخلاف ما إذا قلنا بكون هذه الموارد داخلة في كبرى باب التعارض، فانّه عندئذ لا وجه لتقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف في مقام المعارضة أصلاً،وذلك لفرض أ نّه لا فرق بينهما في أصل المانعية بالنظر إلى الأدلة ولا تكون شدّته زيادة فيها،وعليه ففي مثل هذا الفرض نعلم إجمالاً بجعل الشارع أحدهما مانعاً،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة، فإن كان الدليل على أحدهما لفظياً والدليل على الآخر لبياً يتقدّم الأوّل على الثاني،لفرض أنّ المتيقن من الثاني هو غير هذا المورد،فلا يشمل مثله.
وإن كان كلاهما لفظياً،فإن كان التعارض بينهما بالاطلاق يسقطان معاً،
فلا بدّ عندئذ من الرجوع في هذا المورد إلى الأصل فيه،إلّاإذا كان إطلاق أحدهما من الكتاب أو السنّة،وإطلاق الآخر من غيرهما،فيتقدّم الأوّل على الثاني،وذلك لما استظهرناه من أنّ الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة تشمل المخالفة بالاطلاق أيضاً،فإذن لا يكون هذا الاطلاق حجّة في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة في مقابل إطلاق الكتاب أو السنّة.
وإن كان التعارض بينهما بالعموم فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى قواعد ومرجّحات باب المعارضة،وإن كان أحد الدليلين مطلقاً والآخر عاماً فيتقدّم العام على المطلق،لأنّه يصلح أن يكون بياناً للأوّل دون العكس.وإن كان كلاهما لبياً فلا بدّ وقتئذ من الرجوع إلى دليل آخر من أصل لفظي أو عملي، لفرض أنّ المتيقن منهما غير هذا الفرض،فلا إجماع فيه لا على مانعية هذا ولا على مانعية ذاك،كما هو ظاهر.
نتائج ما ذكرناه لحدّ الآن عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ النهي عن فعل غالباً ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيه،ولا ينشأ عن مصلحة إلزامية في تركه وإلّا لكان تركه واجباً لا فعله محرّماً وهذا خلف.
والأمر به ينشأ غالباً عن قيام مصلحة ملزمة في فعله،لا عن قيام مفسدة كذلك في تركه،وإلّا لكان تركه محرّماً لا فعله واجباً.
الثانية: أنّ الأمر كما يتعلق بالفعل باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيه فيكون ذلك الفعل واجباً سواء أكان وجوبه ضمنياً أم استقلالياً،قد يتعلق بالترك كذلك أي باعتبار وجود مصلحة ملزمة فيه فيكون ذلك الترك واجباً،سواء أكان وجوبه استقلالياً أم ضمنياً.
الثالثة: أنّ النواهي الواردة في أبواب العبادات جميعاً نواه إرشادية فتكون
إرشاداً إلى مانعية أشياء كالقهقهة والحدث والتكلم ولبس ما لا يؤكل والنجس والميتة والحرير والذهب وما شاكل ذلك،وليست تلك النواهي نواهٍ حقيقية ناشئة عن قيام مفسدة ملزمة فيها،ضرورة أ نّه لا مفسدة فيها أبداً،بل مصلحة ملزمة في تقيد الصلاة بعدم هذه الاُمور.
ولعل النكتة في التعبير عن هذا التقييد بالنهي في مقام الاثبات لا بالأمر،إنّما هي اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن هذه الاُمور حال الصلاة ولأجل ذلك أبرزه بالنهي الدال على ذلك،ولكن بما أنّ هذا الاعتبار لم ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيها،بل هو ناشئ عن قيام مصلحة ملزمة في هذا التقييد ومن ثمّ يكون مردّه إلى اعتبار حصة خاصة من الصلاة،وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الاُمور في ذمّة المكلف،فلأجل ذلك يكون هذا نهياً بحسب الصورة والشكل، لا بحسب الواقع والحقيقة.
ومما يدل على كون هذه النواهي إرشادية لا حقيقية وجود هذه النواهي في المعاملات بالمعنى الأعم،ولا شبهة في كون تلك النواهي هناك نواهي إرشادية إلى مانعية ما تعلق به النهي كالغرر ونحوه،وليست هي بنواهٍ حقيقية،ضرورة أنّ بيع الغرر وما شاكل ذلك ليس من المحرّمات في الشريعة المقدّسة،فالنهي عنه إرشاد إلى فساده.
نعم،قد تكون المعاملة محرّمةً بنفسها كالمعاملة الربوية،ولكن من المعلوم أنّ حرمتها ليست من ناحية هذا النهي،بل هي من جهة دليل آخر يدل عليها، ولذا قلنا إنّ حرمتها لا تستلزم فسادها،ففسادها إنّما هو من ناحية هذا النهي، لا من ناحية النهي الدال على حرمتها.ونظير ذلك في العبادات أيضاً موجود وهو لبس الحرير،فانّه حرام على الرجال مطلقاً-أي سواء أكان في حال الصلاة أم كان في غيره-ومانع عن الصلاة أيضاً،ولكن من الواضح جداً أنّ
حرمته الذاتية غير مستفادة من النهي عن لبسه حال الصلاة،ضرورة أنّ هذا النهي لا يكون إلّاإرشاداً إلى مانعيته عنها،ولا يدل على حرمته أصلاً،وحاله من هذه الناحية حال النهي عن بقية الموانع حال الصلاة،بل لا بدّ من استفادتها من دليل آخر أو من قرينة خارجية،كما هو ظاهر.
ومن ذلك يظهر حال الأوامر الواردة في أبواب العبادات بشتّى أشكالها، أ نّها أوامر إرشادية،فتكون إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية،كالأمر بالركوع والسجود والقيام واستقبال القبلة والطهور وما شاكلها،فانّها إرشاد إلى جزئية الركوع والسجود للصلاة،وشرطية القيام والاستقبال والطهور لها.
ومما يؤكّد ذلك: وجود هذه الأوامر في أبواب المعاملات،فانّه لا إشكال في كون تلك الأوامر هناك إرشادية،ضرورة أنّ مثل قوله (عليه السلام):
«اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل» 1أو نحوه،لا يحتمل فيه غير الارشاد إلى نجاسة الأبوال،وأنّ المطهر للثوب المتنجس بها هو الغسل،وهكذا الحال في بقية الأوامر الواردة فيها.
الرابعة: أنّ التروك المأخوذة في متعلق الأمر مرّةً تكون مأخوذة على نحو الاستقلال بأن تكون تلك التروك واجبة بوجوب استقلالي،ومرّة اخرى تكون مأخوذة على نحو القيدية بأن تكون واجبة بوجوب ضمني،فالقسم الأوّل وقوعه في الشريعة في غاية القلّة،وأمّا القسم الثاني فهو في غاية الكثرة في باب العبادات والمعاملات،كما أنّ الوجودات المأخوذة في متعلق الأمر مرّةً تكون على نحو الاستقلال،واُخرى على نحو القيدية والجزئية،والأوّل كالصلاة والصوم وما شاكلها،والثاني كالركوع والسجود والقيام والطهور ونحوها،وكلا
هذين القسمين كثير في الشريعة في باب العبادات والمعاملات،كما هو واضح.
الخامسة: أنّ هذا الترك مأمور به سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أم صيغة النهي،لما عرفت من أ نّه لا شأن للمبرز-بالكسر-أصلاً،وإنّما العبرة بالمبرز-بالفتح-.
السادسة: أنّ التروك المأخوذة في متعلق الأمر بكلا قسميها من الاستقلالي والضمني تتصور في مقام الثبوت والواقع على صور أربع،وقد تقدّم أنّ الثمرة تظهر بين هذه الصور في موردين:أحدهما في مورد الاضطرار والاكراه.الثاني في مورد الشك كما سبق.
السابعة: أنّ وجوب التقليل في أفراد المانع بالمقدار الممكن والاقتصار على قدر الضرورة يرتكز على القول بالانحلال في المسألة دون بقية الأقوال،كما أ نّه على هذا القول إنّما يجب التقليل فيها بحسب الكم دون الكيف على تقدير تسليم اختلافها فيه،كما تقدّم.
الثامنة: أنّ الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال في موارد التروك المتعلقة للأمر الضمني عند الشك،يبتني على أن لايكون هناك أصل موضوعي، مثلاً جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في مسألة اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل أو الحرير أو الذهب،يبتني على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتي بالتقريب المتقدِّم،وإلّا فلا موضوع له.
التاسعة: أنّ جواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه مع قطع النظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي أو النعتي يرتكز على القول بجريان أصالة البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،لا على انحلال المانعية أو عدم انحلالها.
العاشرة: أنّ المستفاد من الأدلة في مقام الاثبات في باب العبادات
والمعاملات هو الصورة الثانية وهي انحلال مانعية هذه الطبائع بانحلال أفرادها في الخارج،وأنّ تلك الأدلة إرشاد إلى مانعية كل فرد من أفرادها العرضية والطولية،فانّ إرادة بقية الصور منها تحتاج إلى بيان زائد من المتكلم وقرينة اخرى،وفي فرض عدمها كانت إرادة هذه الصورة متعيّنة.
الجهة الثالثة: قد تقدّم سابقاً أنّ الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف النهي كما أ نّه يستدعي بمقتضى الفهم العرفي العموم بالاضافة إلى الأفراد العرضية،كذلك يستدعي العموم بالاضافة إلى الأفراد الطولية،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،ضرورة أنّ إطلاق النهي في مقام الاثبات وعدم تقييد المنهي عنه بحصة خاصة دون اخرى وبزمان معيّن دون آخر،كما أ نّه كاشف عن الاطلاق والعموم في مقام الثبوت والواقع بالاضافة إلى الأفراد العرضية، كذلك هو كاشف عنه فيه بالاضافة إلى الأفراد الطولية،لتبعية مقام الاثبات للثبوت،إلّاأنّ العموم في متعلق الأمر يكون بدلياً كما عرفت،وقد يكون مجموعياً،كما أ نّه في طرف الحكم الوضعي يكون مجموعياً من جهة.
ومثال الأوّل:قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 1ومثال الثاني:قوله تعالى:
«وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ»
2
و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 3ونحوهما مما دلّ على حكم وضعي كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها،فانّ المستفاد عرفاً من إطلاق الآية الاُولى وإن كان هو العموم الاستغراقي بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية من العقد،ضرورة أ نّه يثبت لكل فرد من أفراد العقد وجوب الوفاء
على نحو الاستقلال،فلا يكون وجوب الوفاء بهذا الفرد من العقد مربوطاً بفرد آخر…وهكذا،وهذا واضح،ولكن المستفاد منه عرفاً بالاضافة إلى الوفاء الذي تعلق به الأمر هو العموم المجموعي،لا الاستغراقي،لوضوح أنّ الوجوب الثابت للوفاء بكل فرد من أفراد العقد في جميع الآنات والأزمنة وجوب واحد مستمر،وليس الثابت في كل آنٍ وزمان وجوباً غير وجوب الوفاء الثابت له في زمان آخر.
وكذا المستفاد عرفاً من إطلاق الآية الثانية والثالثة وإن كان هو العموم الاستغراقي بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية من البيع والتجارة،إلّاأنّ الحلية الثابتة لكل فردٍ من أفراد البيع في جميع الآنات والأزمنة حلية واحدة مستمرة،وليس الثابت له في كل آن وزمان حلية غير الحلية الثابتة له في آن آخر وزمان ثانٍ…وهكذا،ضرورة أنّ ثبوت الحلية له في كل آن وزمان لغو محض،وكذا الحال في الطهارة والنجاسة ونحوهما،فانّ الطهارة الثابتة لشيء في جميع الآنات والأزمنة طهارة واحدة مستمرة وليس الثابت له في كل آن طهارة واحدة،وهكذا الأمر في النجاسة وغيرها.
وهذا بخلاف الاطلاق في طرف النهي فانّ المتفاهم العرفي منه كما أ نّه ثبوت الحرمة لكل فرد من أفراد المنهي عنه،كذلك ثبوت الحرمة له في كل زمان من الأزمنة وآن من الآنات،كما تقدّم بشكل واضح.
ولكن لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام كلام،وهو أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد العرضية إنّما هو من جهة أخذ ترك الطبيعة حال تعلق الطلب به فانياً في معنوناته التي هي عبارة عن ترك كل واحد من تلك الأفراد
الخارجية،وأمّا انحلاله بالاضافة إلى الأفراد الطولية فهو إنّما يمكن بأحد وجهين:
الأوّل:أن يكون الزمان مأخوذاً في ناحية المتعلق بأن يكون شرب الخمر في كل زمان محكوماً بالحرمة.
الثاني:أن يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بأن يكون الحكم المتعلق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة اللّاحقة،وبما أ نّه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية المتعلق من جهة،ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما من جهة اخرى، فلا محالة يكون دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللّاحقة.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة صور:
الاُولى: أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد العرضية إنّما هو من ناحية أخذ ترك الطبيعة فانياً في معنوناته حين تعلق الطلب به،ولازم ذلك هو أنّ متعلق الطلب في الحقيقة هو ترك كل فرد من أفراد هذه الطبيعة في الخارج، فانّ الطلب المتعلق به لا محالة يسري إلى جميع أفراده ومعنوناته،لفرض أ نّه اخذ فانياً في تلك المعنونات،وهذا معنى انحلال النهي بانحلال ترك أفراد الطبيعة.
الثانية: أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد الطولية إنّما هو من جهة أحد الأمرين:إمّا أخذ الزمان في ناحية المتعلق،أو أخذه في ناحية الحكم،ولا ثالث،ضرورة أنّ النهي لا يدل على الانحلال بالاضافة إلى تلك الأفراد،وإنّما يدل عليه بالاضافة إلى الأفراد العرضية فحسب.
والسر في ذلك:هو أنّ الملحوظ حال تعلق الطلب بترك الطبيعة هو فناؤه في ترك كل فرد من أفرادها فحسب،لافناؤه في ترك كل فرد منها في كل آن من الآنات وزمان من الأزمنة،ولأجل ذلك يدل على الانحلال من الناحية الاُولى
دون الثانية.
الثالثة: أنّ أخذ الزمان في ناحية المتعلق يحتاج إلى دليل،وحيث إنّه لا دليل عليه في المقام،فدليل الحكمة يعيّن أخذه في ناحية الحكم فيدل على استمراره وبقائه في الآنات اللّاحقة والأزمنة المتأخرة.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه الصور:
أمّا الصورة الاُولى: فيردّها ما تقدّم منّا 1بشكل واضح،وملخّصه:
أمّا أوّلاً:فلأنّ أصل هذه النظرية فاسد،لما سبق من أنّ النهي ليس عبارة عن طلب ترك الطبيعة،ولا عبارة عن الزجر عنها،بل هو عبارة عن اعتبار المولى حرمان المكلف عن الطبيعة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرزٍ ما من قول أو فعل.
وأمّا ثانياً:فلما عرفت من أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية على جميع المذاهب والآراء إنّما هو مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة،فانّ المتفاهم منه عرفاً ذلك بالاضافة إلى كلتيهما،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
وأمّا الصورة الثانية: فيرد عليها ما عرفت من أنّ استفادة العموم بالاضافة إلى الأفراد الطولية أيضاً بالاطلاق،فانّ إطلاق المتعلق وعدم تقييده بحصة خاصة كما يقتضي العموم بالاضافة إلى الأفراد العرضية،كذلك إطلاقه وعدم تقييده بزمان معيّن يقتضي العموم بالاضافة إلى الأفراد الطولية،فما أفاده (قدس سره) من أنّ انحلال النهي بالاضافة إلى الأفراد الطولية يتوقف على أحد
أمرين:إمّا أخذ الزمان في ناحية المتعلق،أو أخذه في ناحية الحكم،لايمكن المساعدة عليه بوجه،لما مرّ من أ نّه لا يتوقف على شيء منهما،بل هو يتوقف على ثبوت الاطلاق،فإذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على التقييد بزمان خاص دون آخر،لا محالة كان مقتضى الاطلاق هو ثبوت الحكم لكل فرد من أفراد الطبيعة في كل آن وزمان.
أضف إلى ذلك:أ نّه لا معنى لأخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم في أمثال هذه الموارد،فانّ الزمان كالمكان بنفسه ظرف،فلا يحتاج كونه كذلك إلى لحاظ زائد،وعليه فإذا لم يقيد المولى الحكم بزمان خاص،فطبعاً يكون الحكم ثابتاً في تمام الأزمنة والآنات.
ومن الواضح جداً أنّ هذا لا يحتاج إلى لحاظ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم وأخذه فيه كما هو ظاهر،غاية الأمر قد يكون المتفاهم العرفي من ذلك هو استمرار الحكم على نحو العموم المجموعي،وقد يكون المتفاهم منه هو استمراره على نحو العموم الاستغراقي،كما هو الحال في أمثال هذه الموارد.
وأمّا الصورة الثالثة: فعلى تقدير تسليم أ نّه لا بدّ من أخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم لأجل استفادة العموم باضافةٍ إلى الأفراد الطولية،فيرد عليها:أنّ دليل الحكمة يعيّن أخذه في ناحية المتعلق دون ناحية الحكم،وذلك لأن إطلاق المتعلق وعدم تقييده بزمان مخصوص يقتضي ثبوت الحكم له في كل زمان على نحو العموم الاستغراقي،بأن يثبت له في كل زمان حكم مغاير لثبوت حكم له في زمان ثان…وهكذا،وهذا هو المتفاهم منه عرفاً،ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من النهي عن شرب الخمر مثلاً وسبّ المؤمن وما شاكلهما، هو انحلال النهي بانحلال أفرادها بحسب الأزمنة،فيكون النهي الثابت لسب
المؤمن في هذا الزمان مغايراً للنهي الثابت له في زمان آخر…وهكذا.
نعم،إطلاق المتعلق في بعض الموارد يعيّن أخذه في ناحية الحكم كما في مثل قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 1وما شاكله كما عرفت.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ دليل الحكمة يعيّن أخذه في ناحية الحكم لا يتم على إطلاقه،بل الغالب هو العكس.
هذا تمام الكلام في معنى النهي ونقطة الامتياز بينه وبين الأمر.
ها هنا جهات من البحث:
الاُولى: أنّ عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبروياً،بمعنى أنّ موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ومحمولها الجواز أو الامتناع،بمعنى أنّ القائلين بجواز الاجتماع يدّعون أ نّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد،بدعوى أ نّه لا مضادة بينهما ومعه لا مانع من اجتماعهما فيه.والقائلين بالامتناع يدّعون استحالة اجتماعهما فيه،بدعوى وجود المضادة بينهما،وعليه فمردّ النزاع في المسألة إلى دعوى المضادة بين الأحكام الشرعية بعضها مع بعض وعدم المضادة،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع،وعلى الثاني لا بدّ من القول بالجواز.
والتحقيق: أنّ النزاع في هذه المسألة لا يعقل أن يكون كبروياً،بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد مطلقاً،حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري،وذلك لأنّ اجتماعهما في نفسه محال،لا أ نّه من التكليف بالمحال،ضرورة استحالة كون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنّك بغيره.
وعلى الجملة: فلا شبهة في استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، حتّى عند القائل بجواز الاجتماع في المسألة،فانّه إنّما يقول به بملاك أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون،وأمّا مع فرض وحدته فلا يقول بالجواز أصلاً.
فإذن لا نزاع في الكبرى،والنزاع في المسألة إنّما هو في الصغرى.
وبيان ذلك:هو أنّ الأمر إذا تعلق بطبيعةٍ كالصلاة مثلاً،والنهي تعلق بطبيعةٍ اخرى كالغصب مثلاً وقد اتّفق في الخارج انطباق الطبيعتين على شيء واحد – وهو الصلاة في الأرض المغصوبة-فعندئذ يقع الكلام في أنّ النهي المتعلق بطبيعة الغصب،هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصلاة المأمور بها في الخارج أم لا ؟ ومن الواضح جداً أنّ سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ترتكز على نقطة واحدة،وهي اتحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد،كما أنّ عدم السراية ترتكز على تعدد المجمع وكونه موجوداً بوجودين.
فالنتيجة: هي أنّ مركز النزاع في هذه المسألة ونقطة الخلاف فيها بين الأعلام والمحققين إنّما هي في أنّ المجمع لمتعلقي الأمر والنهي كالصلاة في الأرض المغصوبة مثلاً في مورد التصادق والاجتماع،هل هو موجود واحد حقيقةً وبالذات وأنّ التركيب بينهما اتحادي،أو هو متعدد كذلك وأنّ التركيب بينهما انضمامي ؟ فمردّ القول بالامتناع في المسألة إلى القول باتحاد المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع،إذ على هذا لا محالة يسرى النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به في الخارج،فإذن يلزم انطباق المأمور به على المنهي عنه فعلاً، وهذا محال.ومردّ القول بالجواز فيها إلى القول بعدم اتحاد المجمع،وعليه فلا يسري النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
وقد تحصّل من ذلك بوضوح أنّ النزاع في مسألتنا هذه صغروي،ولا يعقل أن يكون كبروياً.
الثانية: قد ظهر مما ذكرناه نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية، وهي مسألة النهي في العبادات،وهي أنّ النزاع في تلك المسألة كبروي،فإنّ
المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة،بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى،وهي تعلق النهي بالعبادة، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه فقد عرفت أ نّه صغروي،لفرض أنّ المبحوث عنه فيها هو سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر،وعدم سرايته.
وعلى ضوء هذا فالبحث في هذه المسألة بحث عن إثبات الصغرى للمسألة الآتية،فانّها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به،تكون من إحدى صغرياتها ومصاديقها دون القول الآخر.
فالنتيجة: أنّ النقطة الرئيسية لامتياز إحدى المسألتين عن الاُخرى هي أنّ جهة البحث في إحداهما صغروية وفي الاُخرى كبروية.
ومن هنا يظهر فساد ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره) 1من الفرق بين المسألتين،وحاصل ما أفاده:هو أنّ هذه المسألة تمتاز عن المسألة الآتية في أنّ النزاع في هذه المسألة فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة والذات،وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كما إذا أمر المولى عبده بالحركة ونهاه عن القرب في مكان مخصوص،فانّ عنوان الحركة وعنوان القرب عنوانان متغايران بالذات،مع أنّ النسبة بينهما بحسب الخارج عموم مطلق،ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بتغاير ما تعلق به الأمر وما تعلق به النهي،لا بكون النسبة بينهما عموماً من وجه،وإن كان الغالب أنّ النسبة بين الطبيعتين المتغايرتين كذلك عموم من وجه،وقلّما يتّفق أن تكون النسبة بينهما عموماً مطلقاً.والنزاع في تلك المسألة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدان بحسب الذات والحقيقة،ومختلفان بمجرد الاطلاق والتقييد،بأن تعلق الأمر بالطبيعة
المطلقة كالصلاة مثلاً،والنهي تعلق بحصة خاصة منها،وهي الصلاة في الدار المغصوبة.
وتوضيح فساده: هو أنّ مجرد اختلاف متعلقي الأمر والنهي في هذه المسألة واتحادهما في تلك المسألة،لا يكون ملاكاً لامتياز إحداهما عن الاُخرى ما لم تكن هناك جهة اخرى للامتياز،ضرورة أ نّه لا يفرق في البحث عن تلك المسألة،أعني البحث عن أنّ تعلق النهي بعبادة هل يستلزم فسادها أم لا،بين أن يكون النهي متعلقاً بعبادة بعنوانها،كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوه،وأن يكون متعلقاً بعنوان آخر منطبق عليها في الخارج،كالنهي عن الغصب مثلاً إذا فرض انطباقه على الصلاة فيها خارجاً،فإذن لا محالة تكون الصلاة منهياً عنها ومتعلقاً للنهي.
ومن الواضح جداً أنّ مجرد تعلق النهي بها بعنوان آخر لا يوجب عقد ذلك مسألة اخرى في قبال تلك المسألة،بعد ما كان ملاك البحث في تلك المسألة موجوداً فيه،وكان الغرض المترتب عليها مترتباً على ذلك أيضاً،وهو فساد العبادة.وعليه فلا أثر لمجرد الاختلاف في المتعلق،وعدم الاختلاف فيه،فانّ ميزان تعدد المسألة ووحدتها في أمثال هذا العلم إنّما هو بتعدد الغرض وجهة البحث ووحدتهما،لا باختلاف الموضوع والمحمول وعدم اختلافهما،كما هو واضح.
وبكلمة اخرى:أنّ صِرف تعلق الأمر والنهي بطبيعتين مختلفتين على نحو العموم من وجه أو المطلق في هذه المسألة،وعلى نحو الاطلاق والتقييد في تلك المسألة،لا يوجب الامتياز بينهما إذا فرض عدم اختلافهما من جهة البحث، ضرورة أ نّه إذا فرض أنّ جهة البحث فيهما ترجع إلى نقطة واحدة،فلا معنى عندئذ لجعل هذه المسألة مسألة اخرى في قبال تلك،كما هو ظاهر.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الضابط لامتياز هذه المسألة عن تلك،هو ما
ذكرناه،من أنّ جهة البحث في هذه المسألة غير جهة البحث في تلك المسألة، فإذن لا بدّ من عقدها مسألة اخرى في قبالها،كما تقدّم بصورة مفصّلة.
وقد يتخيّل أنّ نقطة الفرق بين هاتين المسألتين هي أنّ البحث في مسألتنا هذه عقلي،فانّ الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنّما هو العقل،بملاك تعدد المجمع في مورد التصادق والاجتماع ووحدته فيه،وليست للفظ أيّة صلة في البحث عنها،والبحث في المسألة الآتية لفظي،بمعنى أنّ النهي المتعلق بعبادة، هل يدل على فسادها أم لا.
ولكن هذا الخيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،والوجه في ذلك:
أمّا أوّلاً: فلأن هذه المسألة تغاير تلك المسألة ذاتاً،فلا اشتراك لهما،لا في الموضوع ولا في المحمول ولا في الجهة ولا في الغرض،وهذا معنى الامتياز الذاتي،ومعه لا نحتاج إلى امتياز عرضي بينهما،وهو أنّ البحث في إحداهما عقلي وفي الاُخرى لفظي،فانّ الحاجة إلى مثل هذا الامتياز إنّما هو في فرض الاشتراك بينهما ذاتاً،وأمّا إذا فرض أ نّه لا اشتراك بينهما أصلاً فلا معنى لجعل هذا جهة امتياز بينهما،كما هو واضح.
وأمّا ثانياً: فلما سيجيء عن قريب إن شاء اللّٰه تعالى 1من أنّ البحث في تلك المسألة أيضاً عقلي،ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً،ضرورة أنّ الجهة المبحوث عنها فيها إنّما هي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة،ومن الواضح جداً أنّ البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي،بل يعمّ الجميع،بداهة أنّ المبحوث عنه في تلك المسألة والمهم فيها إنّما هو البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه،ومن
المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين أن تكون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره، وإن كان عنوان البحث فيها على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم اختصاص محل النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي،إلّاأنّ هذا من جهة الغلبة،حيث إنّ الحرمة غالباً مستفادة من اللفظ دون غيره،كما هو ظاهر.
الثالثة: قد تقدّم أنّ متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية التي يمكن انطباقها على الأفراد والمصاديق الخارجية بشتّى ألوانها وأشكالها،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى: أنّ تلك الطبائع الكلّية قد قيّدت بقيودات كثيرة وجودية وعدمية،مثلاً الصلاة مقيدة بقيودات وجودية،كالطهور والقيام واستقبال القبلة والاستقرار وما شاكل ذلك،وقيودات عدمية،كترك لبس ما لا يؤكل والحرير والذهب والميتة والنجس،وترك القهقهة والتكلم ونحو ذلك.
ومن ناحية ثالثة: أنّ تلك القيودات لا توجب إلّاتضييق دائرة انطباقها على أفرادها في الخارج ولا توجب خروجها عن الكلّية.
وعلى الجملة:فانّ للطبائع الكلّية عرضاً عريضاً،ولكل حصة منها نحو سعة وكلّية،وأنّ التقييد مهما بلغ عدده لا يوجب إلّاتضييق دائرة الانطباق على ما في الخارج،إلّاإذا فرض بلوغ التقييد إلى حد يوجب انحصار المقيد في الخارج بفرد واحد،ولكنّه مجرد فرض لعلّه غير واقع أصلاً.
ومن هنا تكون التقييدات الواردة على الصلاة من نواح عديدة:1-من ناحية الزمان حيث إنّها واجبة في زمان خاص لا مطلقاً.2-من ناحية المكان حيث إنّه يشترط في صحتها أن تقع في مكان مباح.3-من ناحية المصلي فلا تصح من كل شخص كالحائض ونحوها.4-من ناحية نفسها حيث إنّها مقيدة
بقيودات عديدة كثيرة وجودية وعدمية،لا توجب إلّاتضييق دائرة انطباقها على ما في الخارج،ولا توجب خروجها عن الكلّية وإمكان انطباقها على الأفراد الكثيرة في الخارج.
ومن ناحية رابعة: أنّ المراد من الواحد في محل الكلام هو مقابل المتعدد لا في مقابل الكلّي،بمعنى أنّ المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد وليس بمتعدد، بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهي عنه وإلّا لخرج عن محل الكلام ولا إشكال عندئذ أصلاً.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أنّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق كلّي قابل للانطباق على كثيرين وليس واحداً شخصياً،ضرورة أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة ليست واحدة شخصاً بل هي واحدة نوعاً ولها أفراد عرضية وطولية تصدق عليها،لما عرفت من أنّ التقييد لا يوجب إلّاتضييق دائرة الانطباق،فتقييد الصلاة بكونها في الدار المغصوبة لايوجب خروجها عن الكلّية، وإنّما يوجب تضييق دائرة انطباقها على خصوص الأفراد الممكنة التحقق فيها من العرضية والطولية،فانّها كما تصدق على الصلاة قائماً فيها،تصدق على الصلاة قاعداً وعلى الصلاة مع فتح العينين ومع غمضهما وفي هذه الدار وتلك…
وهكذا،وعلى الصلاة في هذا الآن،وفي الآن الثاني والثالث…وهكذا.
وبكلمة اخرى: أنّ الواحد قد يطلق ويراد منه ما لا يكون متعدداً،فيقال إنّ الصلاة في الأرض المغصوبة واحدة فلا تكون متعددة،بمعنى أ نّه ليس في الدار شيئان أحدهما كان متعلق الأمر والثاني متعلق النهي،بل فيها شيء واحد-وهو الصلاة-يكون مجمعاً لمتعلقيهما،فالغرض من التقييد بكون المجمع لهما واحداً،في مقابل ذلك،أي في مقابل ما ينطبق المأمور به على شيء والمنهي عنه على شيء آخر،لا في مقابل الكلّي كما ربّما يتوهّم.
وقد يطلق الواحد ويراد منه ما لا يكون كلّياً فيقال هذا واحد ليس بكلّي قابل للانطباق على كثيرين،والنسبة بين الواحد بهذا المعنى والواحد بالمعنى الأوّل هي عموم مطلق،فانّ الأوّل أعم من هذا لشموله الواحد بالشخص والواحد بالنوع والواحد بالجنس،دون هذا فانّه خاص بالأوّل فحسب.وبعد ذلك نقول:إنّ المراد من الواحد في محل الكلام هو الواحد بالمعنى الأوّل دون الثاني،بمعنى أنّ هذه الحصة من الصلاة مثلاً وهي الصلاة في الأرض المغصوبة مجمع لمتعلقي الأمر والنهي ومورد لتصادقهما،وإن كانت في نفسها كلّياً قابلاً للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج العرضية والطولية،كما عرفت.
فالنتيجة: أنّ هذه الحصة بما لها من الأفراد مجمع لهما ومحل للتصادق والاجتماع في مقابل ما إذا لم يكن كذلك،بأن يكون مصداق المأمور به حصة، ومصداق المنهي عنه حصة اخرى مباينة للاُولى بما لها من الأفراد الدفعية والتدريجية.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل السجدة والقتل والكذب وما شاكلها من الطبائع الكلّية التي يتعلق الأمر بحصة منها والنهي بحصة اخرى منها عن محل الكلام في المسألة،فانّ هذه الطبائع وإن كانت واحدةً بالنوع أو الجنس،إلّاأ نّها ليست مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي معاً،فانّ الأمر تعلق بحصة منها وهي السجود للّٰهتعالى،والنهي تعلق بحصة اخرى منها وهي السجود لغيره تعالى،وهاتان الحصتان متباينتان فلا تجتمعان في موردٍ واحد،ولا تنطبق إحداهما على ما تنطبق عليه الاُخرى،وليس هنا شيء يكون مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي،ومحلاً لاجتماعهما فيه،ضرورة أنّ طبيعي السجود بما هو ليس مجمعاً للأمر والنهي ليكون داخلاً في محل البحث في هذه المسألة،بل الأمر كما عرفت تعلق بحصة،والنهي تعلق بحصة مباينة لها،فلا تجتمعان في مورد أصلاً.
وكذا الحال في القتل،فانّ الأمر تعلق بحصة خاصة منه-وهي قتل الكافر أو غيره ممن وجب قتله-والنهي تعلق بحصة اخرى منه-وهي قتل المؤمن – ومن الواضح أ نّهما لا تتصادقان على شيء واحد،ولا تجتمعان في محل فارد فإذن ليس هنا شيء واحد اجتمع فيه الأمر والنهي،بل الأمر تعلق بحصة يمكن انطباقها على أفرادها الكثيرة في الخارج العرضية والطولية،والنهي تعلق بحصة اخرى كذلك.وكذا الحال في الكذب ونحوه.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أنّ الغرض من تقييد المجمع بكونه واحداً إنّما هو التحرز عن مثل هذه الموارد التي لا يتوهّم اجتماع الأمر والنهي فيها في شيء واحد،لا التحرز عن مطلق الواحد النوعي أو الجنسي كما عرفت.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل: أ نّه إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه في الخارج ومبايناً له،فهو خارج عن مفروض الكلام في المسألة،ولا كلام ولا إشكال فيه أبداً.
الثاني: أنّ محل الكلام فيها ما إذا كان مصداق المأمور به والمنهي عنه واحداً،وذلك الواحد يكون مجمعاً لهما،سواء أكانت وحدته شخصية أو صنفية أو نوعية أو جنسية،لما مرّ من أنّ المراد من الواحد في مقابل المتعدد – وهو ما إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه خارجاً-لا في مقابل الكلّي،وسواء أكانت وحدته حقيقية أم انضمامية.
الجهة الرابعة، التي أهمّ الجهات في مسألتنا هذه:قد تقدّم أنّ القول بالامتناع في المسألة يرتكز على سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به،وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليلي الحكمين كالوجوب
والحرمة مثلاً،لما عرفت من أنّ مردّ هذا القول إمّا إلى القول باتحاد المجمع حقيقةً، أو القول بسراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر.وعلى كلا التقديرين لا محالة يكون أحد الدليلين كاذباً في مورد الاجتماع،وذلك لاستحالة أن يكون المجمع عندئذ مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً،فإذن الأخذ بمدلول كل منهما في ذلك المورد يستلزم رفع اليد عن مدلول الآخر فيه مع بقاء موضوعه.
ومن هنا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح 1أنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات والحقيقة أو بالعرض والمجاز،بمعنى أنّ كل واحد من الدليلين يدل على نفي مدلول الدليل الآخر بالمطابقة أو بالالتزام،فيكون مدلول الدليل الآخر منتفياً مع بقاء موضوعه بحاله لا بانتفائه.وهذا هو الضابط الرئيسي لمسألة التعارض وواقعه الموضوعي،ومن المعلوم أ نّه ينطبق في هذه المسألة على القول بالامتناع،فانّ المجمع على هذا يكون واحداً،كما هو المفروض.
وعليه فلا محالة يدل كل من دليلي الأمر والنهي على نفي مدلول الدليل الآخر مع بقاء موضوعه بحاله.فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة،فإن كان التعارض بينهما بالاطلاق كما هو الغالب يسقطان معاً،فيرجع إلى الأصل في المسألة من أصل لفظي إن كان،وإلّا فإلى أصل عملي.وإن كان بالعموم يرجع إلى أخبار الترجيح إذا كان التعارض بين الخبرين،وإلّا فإلى قواعد اخر على تفصيل في محلّه.وإن كان أحدهما مطلقاً والآخر عاماً فيتقدّم العام على المطلق،لأنّه يصلح أن يكون بياناً له دون العكس،وإن كان أحدهما لبياً والآخر لفظياً،فيتقدّم الدليل اللفظي على الدليل اللبي،كما هو واضح.وإن كان
كلاهما لبياً فلا بدّ من الرجوع في المسألة إلى الأصل من أصل لفظي أو عملي.
والقول بالجواز يرتكز على عدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به،لما سبق من أنّ مردّ هذا القول إلى تعدد المجمع حقيقة في مورد الاجتماع والتصادق،وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين إطلاقي الدليلين في مقام الامتثال والفعلية،وقد تقدّم 1في بحث الضد بشكل واضح أنّ نقطة انبثاق التزاحم بين الحكمين تنحصر في عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال،فإن صرف قدرته في امتثال هذا يعجز عن امتثال ذاك،وإن عكس فبالعكس،فيكون انتفاء كل منهما عند إعمال المكلف قدرته في امتثال الآخر بانتفاء موضوعه-وهو القدرة-لا بانتفائه مع بقاء موضوعه على حاله،وإلّا لكان بينهما تعارض وتعاند في مقام الجعل،ولذا قلنا إنّه لا تنافي بين الحكمين المتزاحمين بحسب مقام الجعل أصلاً،فكل منهما مجعول لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون أيّة منافاة ومعاندة بينهما في هذا المقام أبداً،والمنافاة بينهما إنّما طرأت في مقام الامتثال من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً.
ومن هنا قلنا إنّه لا منافاة بينهما ذاتاً وحقيقة،والمنافاة إنّما هي بالعرض والمجاز،ولأجل ذلك اختصت المزاحمة والمنافاة بينهما بالاضافة إلى العاجز،فلا مزاحمة بينهما بالاضافة إلى القادر أصلاً.
وهذا بخلاف باب التعارض،فانّه تنافي الحكمين بحسب مقام الجعل مع قطع النظر عن وجود أيّ شيء في الخارج وعدمه فيه،ولذا لا يختص التعارض بين الحكمين بالاضافة إلى شخص دون آخر.وقد تقدّم الكلام في تمام هذه النقاط في بحث الضد بصورة مفصّلة فلا نعيد.هذا إذا لم تكن مندوحة للمكلف في
مقام الامتثال،وأمّا إذا كانت مندوحة له بأن يتمكن من امتثال كلا التكليفين معاً،غاية الأمر أحدهما بنفسه والآخر ببدله،فهل يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أم لا ؟ وجهان.
فقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1الوجه الأوّل،بدعوى أ نّه لا فرق في تحقق المزاحمة بين حكمين بين أن تكون هناك مندوحة للمكلف أم لم تكن،ومن هنا قال (قدس سره) إنّ أوّل مرجحات باب التزاحم هو ما إذا كان لأحد الحكمين المتزاحمين بدل دون الحكم الآخر،فيتقدّم ما ليس له بدل على ما له بدل في مقام المزاحمة،وهذا إنّما يتحقق في أحد موردين:
الأوّل: ما إذا زاحم بعض أفراد الواجب التخييري الواجب التعييني،كما إذا وقعت المزاحمة بين صرف المال الموجود عنده في نفقة عياله وصرفه في إطعام ستّين مسكيناً مثلاً بعد فرض أ نّه لا يكفي إلّالأحدهما فحسب،وحيث إنّ للثاني بدلاً في عرضه-وهو صوم شهرين متتابعين-فيتقدّم الأوّل عليه في صورة المزاحمة مطلقاً ولو كان ما له البدل أهم منه.
الثاني: ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالوضوء أو الغسل،والأمر بغسل الثوب أو البدن للصلاة،وبما أنّ للوضوء أو الغسل بدلاً في طوله-وهو التيمم-فيتقدّم الأوّل عليه،فتنتقل الوظيفة إلى التيمم.
أقول:أمّا المورد الأوّل: فقد تقدّم الكلام فيه 2بشكل واضح في بحث الضد عند التكلم عن مرجحات باب التزاحم،وقلنا هناك إنّه خارج عن كبرى هذا الباب،وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب التخييري من أنّ الواجب هو
الجامع بين الفعلين أو الأفعال،لا كل واحد منهما،مثلاً الواجب في خصال الكفارة هو الواحد لا بعينه،لا كل واحد منها خاصة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا أنّ منشأ التزاحم بين الحكمين إنّما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أ نّه لا تزاحم في أمثال هذا المورد،لفرض أنّ المكلف قادر على امتثال كلا الواجبين معاً،ومعه لا مزاحمة بينهما أبداً،ضرورة أ نّه كما يكون قادراً على امتثال الأمر بالنفقة والاتيان بمتعلقه في الخارج،كذلك يكون قادراً على امتثال الأمر بالجامع بين الخصال والاتيان بمتعلقه فيه،فما هو واجب-وهو الجامع بينها-لا يكون مزاحماً للأمر بصرف هذا المال في النفقة ومانعاً عنه،وما هو مزاحم له ومانع عنه-وهو إطعام ستّين مسكيناً-ليس بواجب،فإذن لا يعقل التزاحم في هذه الموارد.
نعم،التزاحم إنّما يكون في تطبيق هذا الجامع على خصوص هذا الفرد – وهو الاطعام-ولكن التطبيق بما أ نّه باختيار المكلف وإرادته،ولا يكون ملزماً في تطبيقه على هذا الفرد،لا من قبل الشرع،ولا من قبل العقل،فله الخيار في التطبيق على هذا أو ذاك،ولكن حيث إنّ تطبيقه على خصوص هذا الفرد في المقام مزاحم لامتثال الواجب الآخر ومستلزم لتركه فلا يجوز بحكم العقل،بل هو ملزم بتطبيقه على غيره لئلّا يزاحم الواجب،كما هو واضح.وتمام الكلام في ذلك قد تقدّم في بحث الضد فلاحظ.
وأمّا المورد الثاني: فقد تقدّم الكلام فيه 1أيضاً بصورة واضحة في بحث الضد،وقلنا هناك إنّ أمثال هذا المورد داخلة في كبرى باب التعارض دون
باب التزاحم،فراجع ولا حاجة إلى الاعادة.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به تدخل في كبرى باب التعارض وتكون من إحدى صغرياتها،فلا بدّ عندئذ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب.
وعلى القول بالجواز وعدم السراية تدخل في كبرى باب التزاحم،إذا لم تكن للمكلف مندوحة في البين بأن لا يتمكن من الاتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة،وأمّا إذا كانت له مندوحة بأن كان متمكناً من الاتيان بها في الخارج فلا تزاحم أبداً.
الخامسة: هل إنّ مسألتنا هذه من المسائل الاُصولية،أو من المسائل الفقهية،أو من المسائل الكلامية،أو من المبادئ التصديقية ؟ وجوه وأقوال.
قيل: إنّها من المسائل الفقهية،بدعوى أنّ البحث في هذه المسألة في الحقيقة عن عوارض فعل المكلف وهي صحة العبادة في المكان المغصوب وفسادها فيه،وهذا هو الضابط لكون المسألة فقهية لا غيرها.
ويردّه: ما تقدّم من أنّ البحث فيها ليس عن صحة العبادة وفسادها ابتداءً، بل البحث فيها متمحض في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته،ومن الواضح جداً أنّ البحث من هذه الناحية لايرتبط بعوارض فعل المكلف أبداً،ولا يكون بحثاً عنها أصلاً،بل الصحة التي هي من عوارض فعله تترتب على القول بعدم السراية،ونتيجة لهذا القول،وهذا ملاك كون هذه المسألة مسألة اصولية لا غيرها،وذلك لما تقدّم من أنّ الميزان في كون المسألة اصولية ترتب نتيجة فقهية عليها،ولو باعتبار أحد طرفيها من دون ضم كبرى مسألة اصولية اخرى،وكيف كان فعدم كون هذه المسألة من المسائل الفقهية من الواضحات الأوّلية.
الثاني: أ نّها من المسائل الكلامية،بتقريب أنّ البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه عقلاً.ومن الظاهر أنّ البحث عن هذه الجهة-أعني الاستحالة والامكان-يناسب المسائل الكلامية دون المسائل الاُصولية،ضرورة أنّ الاُصولي لا بدّ أن يبحث عما يترتب عليه أثر شرعي، وليس المناسب له البحث عن إمكان الأشياء واستحالتها.
وغير خفي أنّ البحث في هذه المسألة وإن كان عقلياً ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً،إلّاأ نّه مع ذلك ليس من المسائل الكلامية،والوجه فيه هو أنّ الضابط في كون المسألة كلامية هو أن يكون البحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد، ومسألتنا هذه وإن كانت مسألة عقلية،إلّاأنّ البحث فيها ليس بحثاً عن أحوال المبدأ والمعاد في شيء،بل البحث فيها-كما عرفت-إنّما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم السراية،ومن المعلوم أ نّه لا مساس لها على كلا القولين بالعقائد الدينية والمباحث الكلامية.
وبكلمة اخرى:أنّ المسائل الكلامية وإن كانت مسائل عقلية،إلّاأ نّه ليس كل مسألة عقلية مسألة كلامية،بل هي طائفة خاصة منها،وهي ما يترتب على البحث عنها معرفة المبدأ والمعاد،وبذلك نميّز المسائل الكلامية عن غيرها، فكل مسألة يترتب على البحث عنها هذا الغرض فهي من المسائل الكلامية، وإلّا فلا،وحيث إنّ هذا الغرض لا يترتب على البحث عن مسألتنا هذه فلا تكون منها.
نعم،يمكن إرجاع البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أحوال المبدأ والمعاد، بتقريب أن يجعل البحث فيها عن قبح صدور الأمر والنهي منه تعالى بالاضافة إلى شيء واحد وعدم قبح ذلك منه تعالى،وبهذه العناية وإن كانت من المسائل الكلامية،إلّاأنّ البحث فيها ليس عن هذه الجهة في شيء،بل قد عرفت أنّ
البحث فيها عن السراية وعدمها بعد ما تعلق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة اخرى واتّفق انطباقهما على شيء،فعندئذ يقع الكلام في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا أنّ الضابط لكون المسألة اصولية أو كلامية أو غيرهما إنّما هو جهة البحث في تلك المسألة،فإن كانت الجهة مما يترتب عليه الغرض الاُصولي تكون المسألة اصولية،وإن كانت مما يترتب عليه الغرض الكلامي تكون كلامية…وهكذا،كما هو واضح.وحيث إنّه يترتب على البحث عن هذه المسألة غرض اصولي،فهي من المسائل الاُصولية،لا غيرها.
الثالث: أ نّها من المبادئ الأحكامية،والمراد بها ما يكون البحث فيه عن حال الحكم،كالبحث عن أنّ وجوب شيء هل يستلزم وجوب مقدّمته،أو حرمة ضدّه أم لا،والبحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الأحكام من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء واحد وعدم إمكانه.وعليه فتكون المسألة من المبادئ الأحكامية،كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.
ويردّه: أنّ المبادئ لاتخلو من أن تكون مبادئ تصورية أو مبادئ تصديقية فلا ثالث لهما،والمبادئ التصورية عبارة عن تصور نفس الموضوع والمحمول بذاتهما وذاتياتهما،والمبادئ التصديقية هي التي تكون مبدأ للتصديق بالنتيجة، فانّها عبارة عن الصغرى والكبرى المؤلف منهما القياس المنتج للعلم بالنتيجة.
ومن تلك المبادئ المسائل الاُصولية بالاضافة إلى المسائل الفقهية باعتبار أ نّها تكون مبدأً للتصديق بثبوت تلك المسائل،وتقع في كبرى القياس الواقع في طريق استنباطها،وبهذا الاعتبار تكون المسائل الاُصولية مبادئ تصديقية لعلم الفقه،لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها المسائل الفقهية.
ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية،بداهة أ نّه إن اريد من المبادئ الأحكامية تصور نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما،فهو من المبادئ التصورية،إذ لا نعني بها إلّاتصور الموضوع والمحمول كما مرّ.وإن اريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه-ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلق الأمر في محل الكلام-فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه،كما هو الحال في سائر المسائل الاُصولية.
الرابع: أ نّها من المبادئ التصديقية لعلم الاُصول،وليست من مسائله.وقد اختار هذا القول شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1وأفاد في وجه ذلك ما حاصله:
هو أنّ هذه المسألة على كلا القولين لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضم كبرى اصولية،وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة،والمفروض أنّ هذه المسألة ليست كذلك،فانّ فساد العبادة لا يترتب على القول بالامتناع فحسب،بل لا بدّ من ضم كبرى اصولية إليه وهي قواعد كبرى مسألة التعارض،فانّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة،وتكون من إحدى صغرياتها.وعليه ففساد العبادة إنّما يترتب بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً،وهذا شأن كون المسألة من المبادئ التصديقية دون المسائل الاُصولية،كما أ نّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم.
ويرد عليه: ما ذكرناه غير مرّة من أ نّه يكفي في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط،وتعيين الوظيفة بأحد طرفيها وإن كانت لا تقع بطرفها الآخر،ضرورة أ نّه لو لم يكن ذلك كافياً في اتّصاف المسألة بكونها
اصولية،بل يعتبر فيه وقوعها في طريق الاستنباط بطرفها الآخر أيضاً،للزم خروج عدّة من المسائل الاُصولية عن كونها اصولية،منها:مسألة حجية خبر الواحد فانّها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته ولا يترتب عليها أيّ أثر شرعي على هذا القول.ومنها:حجية ظواهر الكتاب،فانّه على القول بعدمها لا يترتب عليها أيّ أثر شرعي،وغيرهما من المسائل،مع أ نّه لا شبهة في كونها من المسائل الاُصولية،بل هي من أهمّها.
نتيجة ذلك: هي أنّ الملاك في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها،في مقابل ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة،كمسائل بقية العلوم،والمفروض أنّ مسألتنا هذه كذلك،فانّه يترتب عليها أثر شرعي،وهو صحة العبادة على القول بالجواز وتعدد المجمع وإن لم يترتب أثر شرعي عليها على القول بالامتناع،وهذا يكفي في كونها مسألة اصولية.
وقد تبيّن لحدّ الآن:أنّ هذه المسألة كما أ نّها ليست مسألة فقهية،كذلك ليست مسألة كلامية،ولا من المبادئ الأحكامية،ولا من المبادئ التصديقية.
الخامس: أ نّها من المسائل الاُصولية العقلية،وهذا هو الصحيح.
فلنا دعويان:
الاُولى:أ نّها مسألة عقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.
الثانية:أ نّها مسألة اصولية تترتب عليها نتيجة فقهية بلا واسطة.
أمّا الدعوى الاُولى: فهي واضحة،ضرورة أنّ الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه إنّما هو العقل،فانّه يدرك استحالة الاجتماع فيما إذا كان المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً،وجوازه فيما إذا كان
المجمع فيه متعدداً.
وبتعبير آخر:أنّ القضايا العقلية على ضربين:
أحدهما: القضايا المستقلة العقلية،بمعنى أنّ في ترتب النتيجة على تلك القضايا لانحتاج إلى ضم مقدّمة خارجية،بل هي تتكفل لاثبات النتيجة بأنفسها، وهذا معنى استقلالها،وهي مباحث التحسين والتقبيح العقليين التي يبحث فيها عن حكم العقل بحسن شيء أو قبحه،في مقابل الأشاعرة حيث إنّهم ينكرون تلك القضايا ويدّعون أنّ العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها أصلاً.
وثانيهما: القضايا العقلية غير المستقلة،بمعنى أنّ في ترتب النتيجة عليها نحتاج إلى ضم مقدّمة خارجية،وإلّا فلا تترتب عليها بأنفسها أيّة نتيجة فقهية،وهي كمباحث الاستلزامات العقلية،كمبحث مقدّمة الواجب ومبحث الضد ونحوهما،فانّ الحاكم في هذه المسائل هو العقل لا غيره،ضرورة أ نّه يدرك وجود الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته وبين وجوبه وحرمة ضدّه…وهكذا.وليس المراد من عدم استقلال تلك القضايا أنّ العقل في إدراكه غير مستقل،فانّه لا معنى لعدم استقلاله في إدراكه،بداهة أ نّه لا يتوقف في إدراكه الملازمة بينهما أو الاستحالة والامكان-كما في مسألتنا هذه-على أيّة مقدّمة خارجية،بل المراد من عدم استقلالها ما عرفت من أ نّها تحتاج في ترتب نتيجة فعلية عليها إلى ضم مقدّمة شرعية،كما هو واضح.
وأمّا الدعوى الثانية: فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ المسألة الاُصولية ترتكز على ركيزتين:
الاُولى: أن تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية الإلهٰية،وتكون الاستفادة من باب الاستنباط والتوسيط،لا من باب الانطباق،وبهذه الركيزة تمتاز
المسائل الاُصولية عن القواعد الفقهية،فانّ استفادة الأحكام منها من باب التطبيق لا التوسيط.هذا مضافاً إلى أنّ الأحكام المستفادة منها أحكام شخصية لا كلّية.
الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الاستفادة بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى،وبهذه الركيزة تمتاز عن مسائل بقية العلوم،فانّها وإن كانت دخيلةً في استنباط الأحكام وواقعةً في طريق استفادتها،إلّاأ نّها لا بنفسها،بل بضميمة مسألة اصولية.
وبعد ذلك نقول:إنّ في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين،فانّها تقع في طريق الاستنباط بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى،لما عرفت من أ نّه تترتب عليها صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد المجمع بلا ضميمة مسألة اخرى،وإن لم يترتب عليها أثر شرعي على القول بالامتناع،ولكنّك عرفت أنّ ترتب الأثر الشرعي على أحد طرفيها يكفي في كونها مسألة اصولية.
السادسة: قد سبق أنّ مسألتنا هذه من المسائل العقلية باعتبار أنّ الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي أو إمكانه إنّما هو العقل ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.
ومن هنا يظهر أنّ النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الايجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي من كتاب أو سنّة،بل يعمّ الجميع-أي سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا-وإن كان عنوان المسألة يوهم اختصاص النزاع بما إذا كانا مستفادين من اللفظ،إلّاأ نّه من ناحية الغلبة،حيث إنّ الدليل عليهما في الغالب هو اللفظ دون غيره.
وعلى ضوء ذلك قد تبيّن أ نّه لا معنى لأن يقال إنّ القول بالامتناع في المسألة يرتكز على نظر العرف والقول بالجواز فيها يرتكز على نظر العقل، والوجه فيه هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ نظر العرف إنّما يكون متبعاً في مقام تعيين مفاهيم الألفاظ سعةً وضيقاً،لا في مثل مسألتنا هذه حيث إنّه لا صلة لها بعالم اللفظ أبداً،وليس البحث فيها عن تعيين مفهوم الأمر ومفهوم النهي، والبحث فيها إنّما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته.
وقد تقدّم أ نّهما ترتكزان على وحدة المجمع في مورد التصادق والاجتماع وتعدده فيه،فإن كان واحداً بحسب الواقع والحقيقة فلا مناص من القول بالامتناع والسراية،وإن كان متعدداً في الواقع،فعندئذ لو قلنا بأنّ الحكم الثابت لأحد المتلازمين يسري إلى الملازم الآخر،فأيضاً لا مناص من القول بالامتناع، ولكن هذا مجرد فرض لا واقع له أصلاً.
وأمّا إذا قلنا بأ نّه لا يسري إلى الملازم الآخر كما هو الصحيح،فلا بدّ من الالتزام بالقول بالجواز وعدم السراية،ومن الطبيعي أنّ الملاك في السراية وعدمها وهو وحدة المجمع وتعدده إنّما هو بنظر العقل،ضرورة أنّ اللفظ لا يدل على أ نّه واحد في مورد الاجتماع والتصادق أو متعدد،فانّ إدراك ذلك إنّما هو بنظر العقل،فإن أدرك أ نّه متعدد واقعاً كان المتعين هو القول بالجواز،فلا معنى لحكم العرف بالامتناع في هذا الفرض،وإن أدرك أ نّه واحد واقعاً لم يكن مناص من القول بالامتناع،لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً،فإذن لايعقل الحكم بالجواز،وكيف كان فلا أصل لهذا التفصيل أصلاً.
وقد يوجّه ذلك: بأنّ نظر العرف حيث كان يبتني على المسامحة،فيرون المجمع في مورد الاجتماع والتصادق واحداً ويحكمون بامتناع الاجتماع،وأمّا نظر العقل حيث إنّه كان مبنياً على الدقّة فيرى المجمع متعدداً،ولذا يحكم بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
ويردّه: ما ذكرناه غير مرّة من أنّ نظر العرف لا يكون حجّة في موارد تطبيق المفاهيم على مصاديقها،بداهة أنّ المجمع إذا كان متعدداً في الواقع فلا أثر لنظر العرف بكونه واحداً أصلاً،ولا سيّما نظره المسامحي،فالعبرة إنّما هي بوحدة المجمع وتعدده بحسب الواقع والحقيقة عند العقل،كما هو ظاهر.
وقد يوجّه بتوجيه ثانٍ وملخّصه:هو دعوى أنّ العرف لا يفهم من قوله تعالى مثلاً: «أَقِمِ الصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» 1إلّاوجوب حصة منها-وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة-فلا تنطبق على الصلاة فيها،وعليه فلا ينطبق المأمور به على المنهي عنه أصلاً،وهذا معنى امتناع اجتماعهما في شيء واحد عرفاً.
وبتعبير آخر:أنّ المتفاهم العرفي من الأدلة الدالة على وجوب الصلاة أو نحوها بعد ملاحظة النهي عن التصرف في مال الغير،هو وجوب حصة خاصة منها،وهي الحصة التي لا تقع في مال الغير،وعليه فالحصة الواقعة فيه ليست مصداقاً للصلاة المأمور بها،بل هي منهي عنها فحسب،فإذن يستحيل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد،ومردّ هذا إلى تخصيص أدلة وجوب الصلاة مثلاً
بغير موارد النهي عن التصرف في أرض الغير،وهذا معنى امتناع اجتماعهما على شيء واحد.
ولنأخذ بالمناقشة عليه، أمّا أوّلاً: فلأ نّه لا صلة لهذا الفرض بمحل البحث أبداً،وذلك لأنّ محل البحث في المسألة إنّما هو فيما إذا كان لكل من متعلقي الأمر والنهي إطلاق يشمل مورد التصادق والاجتماع،بأن يكون المجمع فيه مصداقاً للمأمور به من ناحية،وللمنهي عنه من ناحية اخرى،غاية الأمر إذا فرض أنّ المجمع واحد بالذات والحقيقة،فيقع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة، فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه،وإذا فرض أ نّه متعدد واقعاً وخارجاً،فيقع التزاحم بينهما،فلا بدّ عندئذ من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه.
وأمّا إذا فرض أنّ الأمر من الأوّل تعلق بحصة خاصة من الصلاة،وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة،فلا موضوع وقتئذ للنزاع في المسألة عن جواز الاجتماع وعدم جوازه،وسراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته أصلاً،إذ على هذا لا يعقل توهّم اجتماعهما في مورد واحد، لفرض تقييد دليل الوجوب من الأوّل بغير موارد الحرمة،ومن الواضح جداً أ نّه لو كان المتفاهم العرفي من أدلة وجوب الصلاة أو نحوها ذلك لم يكن مجال وموضوع لهذه المسألة أصلاً كما لا يخفى.
وأمّا ثانياً: فلأنّ أصل هذه الدعوى فاسدة،وذلك لأنّ المتفاهم العرفي من الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة ليس ذلك التقييد والتضييق،ضرورة أنّ التقييد بحصة خاصة يحتاج إلى دليل يدل عليه،وحيث إنّه لا دليل عليه فلا يمكن الحكم بالتقييد.
ومن ناحية اخرى:أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في أرض الغير لا يصلح أن يكون مقيداً له،ضرورة أنّ نسبته إليه ليست كنسبة الخاص إلى العام والمقيد إلى المطلق ليكون المتفاهم العرفي منه ذلك التقييد،بل المتفاهم عرفاً من كل منهما هو الاطلاق أو العموم بنحو يكون مورد الاجتماع داخلاً فيهما معاً، ولا يصلح شيء منهما لأن يكون مقيداً للآخر فيه كما هو واضح،وعليه فلا محالة تقع المعارضة بينهما في ذلك المورد إذا كان المجمع فيه واحداً بالذات والحقيقة.وأمّا إذا كان متعدداً ذاتاً وحقيقةً،فعندئذ لو قلنا بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أيضاً تقع المعارضة بينهما،وأمّا إذا لم نقل بها كما هو كذلك فتقع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين.
ومن هنا يكون مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن نقطتين:
الاُولى:هل المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد بالذات والحقيقة أو أ نّه متعدد كذلك ؟
الثانية:أ نّه على تقدير كونه متعدداً هل يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر أم لا ؟ وسيأتي البحث عن هاتين النقطتين فيما بعد إن شاء اللّٰه تعالى 1بصورة واضحة.
فالنتيجة هي أ نّه لا أصل لهذا التفصيل أبداً.
السابعة: قد حققنا فيما تقدّم أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:
الأوّل:أن يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع واحداً.
الثاني:أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين بحسب الوجود إلى الملازم
الآخر.
والقول بالجواز يرتكز على أمرين:
الأوّل:أن يكون المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع متعدداً.
الثاني:أن لا يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
وعلى ضوء هذا فيدخل في محل النزاع جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين،فلنا دعويان:
الاُولى:جريان النزاع في جميع أنواعهما ما عدا التخييريين منهما،سواء أكانا نفسيين أم غيريين أم تعيينيين أم عينيين أم كفائيين.
الثانية:عدم جريانه في خصوص التخيريين منهما.
أمّا الدعوى الاُولى: فلضرورة استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد، سواء أكانا من نوع واحد أو من نوعين،لوضوح أ نّه إذا فرض كون المجمع واحداً،فكما أ نّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيين فيه-كما عرفت – فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريين،بداهة أ نّه لا يعقل أن يكون شيء واحد واجباً غيرياً وحراماً كذلك على القول بهما،فانّ مردّ الأوّل إلى أمر الشارع باتيانه مقدّمة لواجب نفسي،ومردّ الثاني إلى نهي الشارع عن فعله مقدّمة للاجتناب عن فعل حرام كذلك،ومن الواضح جداً أ نّه لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد،ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ولو كانا غيريين.
وإن شئت فقل: إنّ اجتماع الوجوب والحرمة الغيريين كما أ نّه مستحيل من ناحية المنتهى مستحيل من ناحية المبدأ أيضاً،فانّ كون شيء مقدّمة لواجب يقتضي محبوبيته،كما أنّ كونه مقدّمة لحرام يقتضي مبغوضيته،ومن المعلوم
أ نّه لا يمكن تأثير كل منهما في مقتضاه،كما أ نّه لا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة في تحريم شيء واحد ووجوبه معاً.
وكذا لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيين،لوضوح أ نّه لا يمكن أن يكون في فعل واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثر كل منهما في مقتضاه من دون فرق بين أن يكون المكلف بهما آحاد المكلفين كما في التكاليف العينية،أو الطبيعي الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائية.
وأمّا الدعوى الثانية: فلعدم إمكان اجتماع الوجوب والحرمة التخييريين في شيء واحد ليقع التنافي بينهما،والوجه فيه:هو أنّ الحرمة التخييرية تمتاز عن الوجوب التخييري في نقطة واحدة،وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شيء واحد،وهي:أنّ مردّ الحرمة التخييرية إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع،لا بالجامع بينهما،وإلّا لكان كل من الفعلين محرّماً تعييناً،لفرض أنّ النهي المتعلق بالجامع ينحل بانحلال أفراده،فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل.وفي المقام إذا فرض أنّ المفسدة قائمة بالطبيعي الجامع فلا محالة تسري إلى أفراده وتثبت لكل فرد منها،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد تقدّم أنّ المتفاهم العرفي من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف النهي هو الانحلال وتعلق النهي بكل فرد من أفراد متعلقه العرضية والطولية.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ النهي لو تعلق بالجامع بينهما لا بالمجموع لكان كل منهما حراماً تعييناً لاتخييراً كما هو ظاهر،فإذن مرجع النهي التخييري إلى النهي عن الجمع بين الفعلين،ومردّ الوجوب التخييري إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء،لا إلى إيجاب كل منهما بخصوصه كما تقدّم بيان ذلك في بحث الواجب التخييري بشكل واضح.
وبعد ذلك نقول: إنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما،لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى.أمّا بحسب المبدأ فلأ نّه لا مانع من قيام مصلحة ملزمة بالجامع بينهما وقيام مفسدة ملزمة بالمجموع منهما،ضرورة أنّ المانع إنّما هو قيام كلتيهما في شيء واحد،لا قيام إحداهما بشيء والاُخرى بشيء آخر وهذا واضح.وأمّا بحسب المنتهى فلفرض أنّ المكلف قادر على امتثال كلا التكليفين معاً،لأنّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر فامتثل كليهما.وعليه فلا تنافي بينهما أصلاً،أي لا في المبدأ ولا في المنتهى.هذا بناءً على ما حققناه في بحث الواجب التخييري من أنّ الواجب هو الجامع بين فعلين أو أفعال.
وأمّا بناءً على أن يكون الواجب هو كل واحد منهما بخصوصه،غاية الأمر عند الاتيان بأحدهما يسقط الآخر،فأيضاً لا تنافي بينهما،أعني بين الواجب التخييري كذلك والحرام التخييري.أمّا بحسب المنتهى فواضح،وأمّا بحسب المبدأ فلأ نّه لا منافاة بين قيام مصلحة في كل واحد منهما خاصة بحيث مع استيفاء تلك المصلحة في ضمن الاتيان بأحدهما لا يمكن استيفاء الاُخرى في ضمن الاتيان بالآخر،وقيام مفسدة بالجمع بينهما في الخارج كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أنّ ملاك النزاع في المسألة يعم جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين.
الثامنة: قد يتوهّم أ نّه لا بدّ من اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع في هذه المسألة،ضرورة أ نّه بدونه يلزم التكليف بالمحال،بيان ذلك:هو أ نّه لا إشكال في اعتبار القدرة في متعلق التكليف واستحالة توجيهه نحو العاجز،غاية الأمر أنّ اعتبارها على وجهة نظرنا إنّما هو من ناحية حكم العقل في ظرف الامتثال فحسب لا مطلقاً،وأنّ المكلف في هذا الظرف لا بدّ أن يكون قادراً،ولا يحكم باعتبار قدرته مطلقاً حتّى في ظرف الجعل،كما أ نّه لا يحكم باعتبار القدرة في
متعلقه بأن يكون المتعلق حصة خاصة منه وهي الحصة المقدورة،وعلى وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّما هو من ناحية اقتضاء نفس التكليف ذلك، ومن هنا يكون متعلقه على وجهة نظره خصوص الحصة المقدورة،دون الأعم منها ومن غير المقدورة،كما تقدّم تفصيل ذلك في بحث الضد بشكلٍ واضح 1.
وعلى كلا هذين المسلكين،فإن كان المكلف قادراً على إيجاد متعلق التكليف في ضمن فردٍ ما خارجاً،كما إذا فرض أ نّه قادر على الاتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة،فعندئذ لا مانع من توجيه التكليف بالصلاة إليه، ولا يكون هذا من التكليف بالمحال.وأمّا إذا فرض أ نّه غير قادر على الاتيان بالصلاة مثلاً لا في خارج الدار المغصوبة،لعدم المندوحة له،ولا فيها لأنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي،فإذن لا يمكن توجيه التكليف بالصلاة إليه، لأ نّه من التكليف بالمحال،وعليه فلا معنى للنزاع في المسألة عن جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه،ضرورة أنّ الأمر على هذا الفرض غير معقول ليقع النزاع في ذلك.
ولكن هذا التوهّم خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وبالعكس،وعدم سرايته،وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:
الأوّل:كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً.
الثاني:الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.كما أنّ القول بالجواز يرتكز على أمرين هما:تعدد المجمع،وعدم سراية الحكم من
أحدهما إلى الآخر،كما هو الصحيح،ومن الواضح جداً أ نّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً.
وبكلمة اخرى:أنّ اعتبار وجود المندوحة في مقام الامتثال أجنبي عما هو محل النزاع في المسألة،فانّ محل النزاع فيها-كما عرفت-في السراية وعدمها، وهما لا يبتنيان على وجود المندوحة أبداً،بل يبتنيان على أمر آخر كما مرّ، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد ذكرنا أ نّه يترتب على القول بالامتناع والسراية وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع والتكاذب بينهما فيه بحسب مرحلة الجعل،بحيث لا يمكن أن يكون كل منهما مجعولاً على نحو يشمل مورد الاجتماع،فانّ ثبوت كل منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها،وهذا معنى التعارض بينهما،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن الصادق،وقد تقدّم بيان ذلك بشكل واضح.
وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن مندوحة في البين،لما عرفت من أ نّه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلاً، لفرض تمكن المكلف عندئذ من امتثال كليهما معاً ومعه لا مزاحمة بينهما.نعم، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما،لعدم تمكن المكلف وقتئذ من امتثال كليهما معاً،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أ نّه على القول بالامتناع يترتب وقوع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع،سواء أكانت هناك مندوحة أم لم تكن،فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالاضافة إلى هذا القول أصلاً.
وعلى القول بالجواز يترتب وقوع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين لا مطلقاً،كما عرفت.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه إذا كانت مندوحة للمكلف في مقام الامتثال وجب عليه امتثال كلا التكليفين معاً،لفرض أنّ كليهما فعلي في حقّه عندئذ بلا أيّة مزاحمة،وأمّا إذا لم تكن مندوحة فتقع المزاحمة بينهما،وعندئذ لا يمكن توجيه كلا التكليفين معاً إليه،لأنّه من التكليف بالمحال،فلا بدّ إذن من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة،فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح إن كان،وإلّا فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وأن يصرف قدرته في امتثال ذاك، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أ نّه يوجب عدم صحة النزاع فيها،كما هو ظاهر.
التاسعة: قد يتخيّل أنّ النزاع في المسألة في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد،بتقريب أ نّه على القول بتعلق الأحكام بالأفراد والمصاديق لا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع،ضرورة أ نّه لا يعقل أن يكون المجمع وهو الفرد الواحد الخارجي مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً،ولم يقل أحد بجواز ذلك حتّى القائل بجواز الاجتماع،وذلك لأ نّه إنّما يقول به بدعوى أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون لا مطلقاً،فإذن لا يعقل النزاع في المسألة على هذا القول،وهذا بخلاف ما إذا كان متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية،فانّه يبقى حينئذ مجال للبحث،فانّ الأمر إذا تعلق بطبيعة،والنهي تعلق بطبيعة اخرى ولكن اتّفق انطباقهما في الخارج على شيء،فعندئذ يقع النزاع في سراية كل من الأمر والنهي من متعلقه إلى متعلق الآخر وعدم سرايته،وقد تقدّم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ تعدد متعلقي الأمر والنهي هل يوجب تعدد المجمع في مورد الاجتماع والتصادق أو لا يوجب، فالقائل بالامتناع يدعي الثاني وأنّ تعدده لا يوجب تعدد المعنون في الخارج، والقائل بالجواز يدّعي الأوّل وأنّ تعدده يوجب تعدد المعنون فيه.
ولنأخذ بالمناقشة فيه: وهي أنّ هذا الخيال يرتكز على نقطة واحدة،وهي أنّ معنى تعلق الأمر بالأفراد هو تعلقه بها بما لها من المشخّصات الخارجية واللوازم المفرّدة للطبيعة،بحيث تكون تلك اللوازم داخلةً في متعلق الأمر لا أ نّها ملازمة له،وعليه فالغصب حيث إنّه من مقولة الأين مشخّص للصلاة في المكان المغصوب ومفرّد لها،وقد عرفت أنّ المشخّص والمفرّد مقوّم لها وداخل في حيّز أمرها،فإذن يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي في الخارج-وهو الصلاة المتشخّصة بالغصب-ومن البديهي أ نّه يستحيل أن يتعلق الأمر والنهي بشيء واحد في آن واحد،وأن يكون ذلك الشيء الواحد محبوباً ومبغوضاً معاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري فضلاً عن غيره،لأنّ نفس هذا التكليف محال،لا أ نّه من التكليف بالمحال،وعليه فلا يعقل النزاع.
وهذا بخلاف ما إذا تعلق الأمر بالطبيعة،فانّ الغصب خارجاً وإن كان مشخّصاً لها،إلّاأ نّه غير داخل في المطلوب وخارج عما تعلق به الأمر وعليه فالنزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه في المسألة عندئذ أمر معقول،فانّه يرجع إلى النزاع في أ نّه هل يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أم لا، فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع،وعلى الثاني من القول بالجواز.
ولكن قد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد 1أنّ تلك النقطة خاطئة جداً وليس لها واقع موضوعي أبداً،وذلك لما حققناه هناك وملخّصه:
هو أنّ تشخّص كل وجود بنفس ذاته وهويّته الشخصية لا بوجود آخر،بداهة أنّ كل وجود يباين وجوداً آخر وكل فعلية تأبى عن فعلية اخرى ويستحيل اتحاد إحداهما مع الاُخرى،وأمّا الأعراض الملازمة لهذا الوجود فلا يعقل أن
تكون مشخّصة له،ضرورة أنّ تلك الأعراض واللوازم أفراد لطبائع شتّى لكل منها وجود وماهية،فيستحيل أن تكون من مشخّصاته،وإطلاق المشخّص عليها مبني على ضرب من المسامحة.
وعلى الجملة:فكل وجود جوهري في الخارج ملازم لوجودات عديدة فيه،وتلك الوجودات من أعراضه ككمّه وكيفه وأينه ووضعه ونحو ذلك،ومن المعلوم أنّ لتلك الأعراض وجودات اخرى في مقابل ذلك الوجود الجوهري ومباينة له،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ كل وجود متشخّص بنفسه فلايحتاج في تشخّصه إلى شيء آخر،ومن هنا قالوا إنّ تشخّص الماهية بالوجود، وأمّا تشخّص الوجود فهو بنفس ذاته لا بشيء آخر وإلّا لدار أو ذهب الأمر إلى ما لا نهاية له،كما هو واضح،وهذا معنى قولهم:الشيء ما لم يوجد لم يتشخص.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أ نّه لا يعقل أن تكون تلك الوجودات من مشخّصات ذلك الوجود الجوهري،لما عرفت من أنّ تشخّص كل منها في نفسه، بل هي وجودات في قباله وملازمة له في الخارج.
وعلى هدى هذا البيان يظهر أ نّه لا فرق بين تعلق الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد أصلاً،وذلك لأنّ وجودات تلك الأعراض كما أ نّه على القول بتعلق الأمر بالطبيعة خارجة عن متعلقه وغير داخلة فيه،غاية الأمر أ نّها ملازمة لوجود الطبيعة في الخارج،كذلك على القول بتعلقه بالفرد،لما مرّ من أنّ تشخّص الفرد بوجوده لا بوجودات تلك الأعراض الملازمة له خارجاً،فانّها وجودات في قبال وجود ذلك الفرد ومباينة له،غاية الأمر أ نّها ملازمة له في الخارج، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الأمر على الفرض تعلق بالفرد فحسب، لا به وبما هو ملازم له في الوجود الخارجي كما هو واضح،إلّاعلى القول بسراية
الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر،ولكنّه مجرد فرض لا واقع له.
وعلى ذلك يترتب أنّ تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلق الأمر وغير داخلة فيه،فإذن لا فرق بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أبداً.وقد تبيّن لحدّ الآن:أ نّه لا وقع لهذا التفصيل أصلاً،ولا يرجع إلى معنىً محصّل.
وقد يتخيّل في المقام: أنّ القول بالامتناع يرتكز على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد،والقول بالجواز يرتكز على القول بتعلقها بالطبائع،بدعوى أنّ متعلق الأمر والنهي إذا كان هو الطبيعة فكل من متعلقي الأمر والنهي يغاير الآخر في مرحلة تعلق الحكم به،فلم يجتمع الأمر والنهي في واحد،وإنّما الاجتماع في مرحلة اخرى غير مرحلة تعلق الأمر والنهي بشيء.وأمّا على القول الآخر-وهو القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد-فبما أنّ متعلقهما هو الفرد فلا يمكن اجتماعهما على فرد واحد وتعلقهما به.فالنتيجة هي أ نّه لا بدّ من الالتزام بهذا التفصيل.
ولكن هذا الخيال فاسد جداً وغير مطابق للواقع قطعاً،والوجه في ذلك:
هو أنّ هذا التفصيل بظاهره لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،إذ لا فرق بين تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع وتعلقهما بالأفراد من هذه الناحية أبداً،ضرورة أنّ تعلقهما بالطبائع لا يقتضي تعدد المجمع في مورد الاجتماع كذلك،كما أنّ تعلقهما بالأفراد لا يقتضي وحدة المجمع فيه،فانّ وحدة المجمع في مورد الاجتماع ترتكز على كون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي تركيباً حقيقياً،وأمّا إذا لم يكن التركيب بينهما حقيقياً،كما إذا تعلق الأمر بمقولة والنهي بمقولة اخرى،فلا مناص من الالتزام بتعدده فيه،ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق في ذلك بين تعلق الأمر بطبيعي هذه المقولة أو بأفرادها.وكذا الحال في النهي،ضرورة أ نّه
كما لا يمكن التركيب بين هذه المقولة وتلك واندراجهما تحت مقولة ثالثة،كذلك لا يمكن التركيب بين فرد من هذه المقولة وفرد من تلك وكونهما موجودين بوجود واحد،فإذن لا فرق بين تعلق الأحكام بالطبيعة وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أصلاً.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ ملاك وحدة المجمع في مورد الاجتماع أو تعدده فيه أمر آخر،ولا صلة له بتعلق الأمر والنهي بالطبيعة أو بالفرد.
على أ نّك عرفت سابقاً أنّ النواهي جميعاً متعلقة بالأفراد بحسب الواقع والحقيقة دون الطبائع بما هي،لما ذكرناه من أنّ النهي المتعلق بطبيعة ينحل بانحلال أفراد تلك،فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل مغاير للنهي الثابت لفرد آخر وهكذا…
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ملاك تعدد المجمع هو انطباق عنوانين متغايرين عليه،بتخيل أنّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون،ولكن من الواضح جداً أ نّه لا فرق في ذلك بين أن يكون العنوانان كلّيين أو جزئيين، ضرورة أنّ انطباق طبيعتين كلّيتين إذا اقتضى تعدد المجمع في الخارج كذلك اقتضى تعدده فيه انطباق حصتين جزئيتين،لما ذكرناه من أنّ الفرد حصة من الطبيعة،وتلك الحصة بالنظر العقلي تنحل إلى ماهية وتقيّد بقيد خاص،وهذا التقيد يوجب صيرورتها حصة في مقابل سائر الحصص.مثلاً الحصة المتقررة في ذات زيد تمتاز عن الحصة المتقررة في ذات عمرو،والموجود بكل من الوجودين غير الموجود بالوجود الآخر ضرورةً،وإلّا لم يكن بينهما امتياز، وهو باطل بالبداهة،وعلى ذلك فانطباق الطبيعتين المتغايرتين على شيء لو كان مقتضياً لتعدده في الخارج لكان انطباق الحصتين المتغايرتين عليه واجتماعهما فيه أيضاً مقتضياً له لا محالة،فما توهّم من أنّ الأوّل مقتضٍ له دون
الثاني باطل جزماً.
وعلى الجملة:فلو كان صدق الطبيعتين الكلّيتين كالصلاة والغصب مثلاً على شيء مجدياً في رفع محذور استحالة اجتماع الوجوب والحرمة وموجباً لتعدده،لكان صدق الطبيعتين الجزئيتين عليه مجدياً في ذلك وموجباً لتعدده، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً،ضرورة أنّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت متحدة مع الغصب خارجاً فلا مناص من القول بالامتناع،من دون فرق بين تعلّق الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد،غاية الأمر على الأوّل يكون الفرد مصداقاً للمأمور به،وعلى الثاني يكون بنفسه مأموراً به،وهذا لا تعلّق له بما نحن بصدد إثباته،وإذا فرض أ نّها غير متحدة معه في الخارج بأن يكون التركيب بينهما انضمامياً لا اتحادياً فلا مناص من القول بالجواز،من دون فرق في ذلك بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد.
فالنتيجة: أنّ هذا التفصيل بالتحليل العلمي لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً، إلّا أن يوجّه ذلك إلى معنىً معقول،وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ وجود كل فرد يمتاز في الخارج عن وجود فرد آخر ويباينه،ولهذا الوجود فيه لوازم ولتلك اللوازم وجودات بأنفسها في قبال وجود ذلك الفرد،ويعبّر عنها مسامحة بالمشخّصات،وهي عبارة عن الأعراض الطارئة على هذا الوجود الجوهري، ككمّه وكيفه وأينه وما شاكل ذلك.
وعلى هذا،فإن قلنا بتعلق الأحكام بالطبائع فتلك الأعراض الملازمة لوجود الفرد خارجة عن حيّز الأمر،فإذن لا مانع من تعلق النهي بها،لفرض أنّ الأمر تعلق بشيء والنهي تعلق بشيء آخر،غاية الأمر أ نّه ملازم لوجود المأمور به في الخارج،فلا يلزم محذور اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.
وعليه فلا مناص من القول بالجواز.
وإن قلنا بتعلقها بالأفراد فتكون تلك الأعراض الملازمة لها في الخارج داخلة في متعلق الأمر،بمعنى أنّ الأمر لم يتعلق بها فحسب،بل تعلق بها مع لوازمها وأعراضها،وعليه فإذا فرض تعلق النهي بتلك الأعراض،فيلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد،مثلاً الصلاة في الدار المغصوبة ملازمة للغصب فيها والتصرف في مال الغير،فعندئذ إن قلنا بكون متعلق الأمر هو طبيعي الصلاة فلا يسري الأمر منه إلى الغصب الملازم لوجود ذلك الطبيعي في الخارج، لفرض أنّ الأمر متعلق بالطبيعة فحسب،وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.وإن قلنا بكون متعلقه هو الفرد دون الطبيعي فحيث إنّه لم يتعلق به فحسب على الفرض،بل تعلق به وبلوازمه،فلا محالة يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد،وهو محال.
ولكن قد عرفت فساد ذلك وملخّصه:هو أ نّه لا فرق في ذلك بين تعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد أصلاً،فكما أ نّه على تقدير تعلقها بالطبائع تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلقها،فكذلك على تقدير تعلقها بالأفراد، لما عرفت من أنّ تلك الوجودات ليست من مشخّصاتها،ضرورة أنّ تشخص كل وجود بنفسه،بل هي من عوارضها التي تعرّض عليها في الخارج وملازمة لوجوداتها فيه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ الأوامر متعلقة بنفس الأفراد على القول به،لا بها وبلوازمها الخارجية،ضرورة أنّ القائلين بتعلقها بالأفراد لا يقولون بذلك كما هو المفروض،وعليه فلا مجال لدعوى أ نّه على القول بتعلق الأمر بالأفراد هو أ نّه متعلق بها وبأعراضها معاً فيلزم عندئذ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو محال،فإذن يبقى دعوى أنّ النهي المتعلق بهذا الفرد من الغصب يسري إلى لازمه-وهو الصلاة في مفروض الكلام-باعتبار أ نّها لازمة لوجود الغصب
في الخارج.
ولكن هذه الدعوى فاسدة،وذلك لعدم الدليل على سراية الحكم المتعلق بالملزوم إلى لازمه،كما أ نّه لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر،ضرورة أنّ المستفاد من الدليل هو ثبوت الحكم للملزوم فحسب، وأمّا ثبوته للازمه فهو يحتاج إلى دليل آخر،ومجرد كون شيء لازماً لشيء آخر لا يكون دليلاً على وجوب اتحادهما في الحكم،لوضوح أنّ غاية ما يقتضي ذلك هو عدم إمكان اختلافهما فيه.
وعلى الجملة:فهذا التفصيل يبتني على أحد أمرين:
الأوّل: دعوى أنّ تلك الأعراض من مشخّصات الأفراد ومقوّماتها،وعليه فلا محالة الأمر المتعلق بالأفراد متعلق بها أيضاً.
الثاني: دعوى سراية النهي المتعلق بالأفراد إلى ما ينطبق عليه المأمور به.
ولكن قد عرفت أنّ كلتا الدعويين خاطئة وغير مطابقة للواقع،فإذن لا مجال لهذا التفصيل أصلاً.
وقد يتوهّم أنّ النزاع في المسألة يبتني على النزاع في مسألة أصالة الوجود أو الماهية،فإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الوجود فلا مناص في هذه المسألة من القول بالامتناع،وإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الماهية فلا مانع من الالتزام بالقول بالجواز،بيان ذلك:هو أنّ القائل بأصالة الوجود يدّعي أنّ ما في الخارج هو الوجود،والماهية منتزعة من حدوده،وليس لها ما بازاء فيه أصلاً.والقائل بأصالة الماهية يدّعي أنّ ما في الخارج هو الماهية،والوجود منتزع من إضافة الماهية إلى الموجد،وليس له ما بازاء.
وبعد ذلك نقول:إنّه بناءً على أصالة الوجود في تلك المسألة،وأنّ الصادر
من الموجد هو الوجود لا غيره،فلا محالة يكون هو متعلق الأمر والنهي دون الماهية،لفرض أ نّه لا عين ولا أثر لها في الخارج،وعليه فبما أنّ الوجود في مورد الاجتماع واحد فلايعقل تعلق الأمر والنهي به،ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً في آن واحد،فإذن لا مناص من القول بالامتناع.
وأمّا بناءً على أصالة الماهية فلا محالة يكون متعلق الأمر والنهي هو الماهية لفرض انّه على هذا لا عين ولا أثر للوجود،وعليه فبما أنّ الماهية المتعلقة للأمر كالصلاة مثلاً في مورد الاجتماع غير الماهية المتعلقة للنهي كالغصب فلا مانع من القول بالجواز،واجتماع الأمر والنهي،وذلك لأنّ الماهيات متباينات بالذات والحقيقة،فلا يمكن اتحاد ماهية مع ماهية اخرى،ولا يمكن اندراج ماهيتين متباينتين تحت ماهية واحدة،فإذن في الحقيقة لا اجتماع للأمر والنهي في شيء واحد.
ولكن هذا التوهم خاطئ جداً،والوجه في ذلك:هو أ نّه على القول بأصالة الوجود وإن كانت حقيقة الوجود واحدة،إلّاأنّ لها مراتب عديدة وتتفاوت تلك المراتب بالشدّة والضعف،وكل مرتبة منها تباين مرتبة اخرى.ومن ناحية اخرى:أنّ لكل مرتبة منها عرض عريض وأفراد كثيرة.ومن ناحية ثالثة:أنّ لكل وجود ماهية واحدة وحدّ فارد،ويستحيل أن يكون لوجود واحد ماهيتان وحدّان.نعم،وإن أمكن أن يكون لوجود واحد عنوانان أو عناوين متعددة،إلّاأ نّه لا يمكن أن يكون له ماهيتان وحدّان،ضرورة أنّ لكل ماهية وجوداً واحداً ولا يعقل أن يكون للماهيتين وجود،وهذا واضح.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث:هي أنّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا كان وجوداً واحداً فلا محالة يكون له ماهية واحدة،وعليه فلا
فرق بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية،فكما أ نّه على الأوّل يستحيل اجتماع الأمر والنهي،فكذلك على الثاني،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.
نتائج ما ذكرناه عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ محل النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته،لا ما يوهم عنوان المسألة في كلمات الأصحاب قديماً وحديثاً من كون النزاع فيها كبروياً،لما عرفت من عدم تعقل كون النزاع فيها كذلك.
الثانية: أ نّه قد تقدّم أنّ القول بالامتناع يبتني على أحد أمرين:
الأوّل:أن يكون المجمع في مورد الاجتماع واحداً،فإذا كان واحداً وجوداً وماهيةً لا مناص من القول بالامتناع.
الثاني:أ نّه على تقدير كون المجمع متعدداً أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر،وعند منع أحدهما ينتفي القول بالامتناع.
والقول بالجواز يرتكز على أمرين:
الأوّل:أ نّه أن لا يكون المجمع واحداً وإلّا فلا مجال له.
الثاني:أ نّه على تقدير كونه متعدداً لانقول بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر،وعند انتفاء أحد الأمرين ينتفي القول بالجواز.
الثالثة: أنّ المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض فتقع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد بابه وإجراء أحكامه كما تقدّم،وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى باب التزاحم، فتقع المزاحمة بينها إذا لم تكن مندوحة في البين،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى
قواعد باب المزاحمة وإجراء أحكامه.
الرابعة: أنّ نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية-وهي مسألة النهي في العبادات-هي أنّ البحث في مسألتنا هذه بحث عن تنقيح الصغرى لتلك المسألة باعتبار أ نّها على القول بالامتناع تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها.
الخامسة: أنّ المراد من الواحد في محل الكلام في مقابل المتعدد،بأن لايكون ما تعلق به الأمر غير ما تعلق به النهي،لا في مقابل الكلّي.
السادسة: قد تقدّم أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاُصولية العقلية،لتوفر شروط المسألة الاُصولية فيها،وليست من المسائل الكلامية أو الفقهية أو من المبادئ الأحكامية أو التصديقية كما مرّ.
السابعة: أنّ النزاع في المسألة في جواز الاجتماع أو امتناعه لا يبتني على وجود المندوحة في البين،لما عرفت من أنّ كلاً من القول بالجواز والامتناع يرتكز على ركيزة أجنبية عن وجود المندوحة وعدم وجودها بالكلّية-وهي وحدة المجمع وتعدده-فانّ المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا فرض أ نّه واحد حقيقة فلا مناص من القول بالامتناع،كانت هناك مندوحة أم لم تكن، وإذا فرض أ نّه متعدد كذلك فلا مناص من القول بالجواز،بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم وهو متعلق النهي إلى لازمه،وهو ما ينطبق عليه متعلق الأمر.
الثامنة: قد سبق أنّ النزاع يعمّ جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين،فلا فرق بين كونهما نفسيين أو غيريين أو كفائيين،فانّ ملاك استحالة الاجتماع في شيء واحد موجود في الجميع.وأمّا خروج الايجاب والتحريم التخييريين عن محل النزاع فلعدم إمكان اجتماعهما في
شيء واحد،كما عرفت فتكون السالبة بانتفاء الموضوع.
التاسعة: أنّ النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الايجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي،ضرورة أ نّه يعمّ جميع أقسام الايجاب والتحريم،سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا.
العاشرة: أنّ مسألتنا هذه من المسائل العقلية،فانّ الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنّما هو العقل،ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً،غاية الأمر أ نّها من العقليات غير المستقلة،وليست من العقليات المستقلة،كما تقدّم.
الحادية عشرة: أ نّه لا فرق في جريان النزاع في المسألة بين القول بتعلق الأحكام بالطبائع وتعلقها بالأفراد،وتوهّم أ نّه على تقدير تعلقها بالأفراد لا مناص من القول بالامتناع فاسد،لما سبق بشكل واضح.
قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في الأمر الثامن ما هذا نصّه:أ نّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّاإذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقاً حتّى في مورد التصادق والاجتماع،كي يحكم على الجواز بكونه فعلاً محكوماً بالحكمين،وعلى الامتناع بكونه محكوماً بأقوى المناطين،أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى،كما يأتي تفصيله.وأمّا إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من هذا الباب،ولا يكون مورد الاجتماع محكوماً إلّابحكم واحد منهما إذا كان له مناطه،أو حكم آخر غيرهما فيما لم يكن لواحد منهما،قيل بالجواز أو الامتناع،هذا بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الدلالة والاثبات،فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان إذا احرز أنّ المناط من قبيل الثاني،فلا بدّ من عمل المعارضة بينهما