آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۳
جلد
3
من الترجيح والتخيير،وإلّا فلا تعارض في البين،بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين،فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلاً،لكونه أقوى مناطاً، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلاً،بل لا بدّ من مرجحات المقتضيات المتزاحمات،كما تأتي الاشارة إليها.نعم،لو كان كل منهما متكفلاً للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض،فلابدّ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة فتفطن 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ مسألتنا هذه ترتكز على ركيزة واحدة وتدور مدارها وجوداً وعدماً،وهي أن يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع والتصادق مشتملاً على ملاك كلا الحكمين معاً،مثلاً الصلاة في الدار المغصوبة التي تكون مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي إنّما تكون من أفراد هذه المسألة إذا كانت مشتملة على ملاك كلا الحكمين،وعليه فالمجمع-على القول بالجواز-يكون محكوماً بكلا الحكمين معاً،لفرض وجود الملاك لهما من ناحية،وعدم التنافي بينهما من ناحية اخرى.وعلى القول بالامتناع يكون محكوماً بأقوى الملاكين إذا كان أحدهما أقوى من الآخر،وأمّا إذا كانا متساويين فهو محكوم بحكم آخر غير هذين الحكمين بمقتضى أصل لفظي أو أصل عملي،لفرض أ نّه لا أثر لملاكهما عندئذ.وأمّا إذا فرض أنّ المجمع لم يكن مشتملاً على ملاك كلا الحكمين معاً، فلا يكون من هذا الباب-أي باب الاجتماع-من دون فرق في ذلك بين أن يكون مشتملاً على ملاك أحدهما أم لا.
الثانية: أ نّا لو أحرزنا من الخارج بأنّ المجمع لمتعلقي الأمر والنهي مشتمل على ملاك واحد من الحكمين دون الآخر،فتقع المعارضة بين دليليهما الدالين عليهما،لعدم إمكان ثبوت كليهما معاً في الواقع،فإذن لابدّ من الرجوع إلى قواعد باب التعارض من الترجيح أو التخيير،فالنتيجة أنّ ملاك التعارض بين الدليلين في مقام الاثبات هو أن يكون مورد الاجتماع مشتملاً على مناط أحد الحكمين دون الحكم الآخر.وأمّا إذا كان مورد الاجتماع مشتملاً على مناط كليهما معاً فتقع المزاحمة بين المقتضيين،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم من الأهمّية ونحوها،ولا وجه للرجوع إلى مرجحات باب التعارض،لانتفائه على الفرض.
الثالثة: لو كان كل من الدليلين متكفلاً للحكم الفعلي لوقع التعارض بينهما فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة،إلّاإذا جمع بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى فيردّها:أنّ النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر مذهب الإمامية القائلين بتبعية الأحكام للملاكات الواقعية والجهات النفس الأمرية،بل يعمّ وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للجهات الواقعية،ضرورة أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامتناعهما لا يختص بمذهب دون آخر كما هو ظاهر،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد تقدّم أنّ النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته،وقد عرفت أنّ القول بالسراية يبتني على أحد أمرين:
الأوّل:أن يكون المجمع واحداً وجوداً وماهية.
الثاني:أن لا يتخلف اللّازم عن الملزوم في الحكم،بأن يثبت الحكم الثابت للملزوم له أيضاً.
والقول بعدمها يبتني على أمرين معاً.
الأوّل:أن يكون المجمع متعدداً وجوداً وماهية.
الثاني:أن يتخلف اللّازم عن الملزوم في الحكم بمعنى أنّ الحكم الثابت له لا يسري إلى لازمه،وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ النزاع في مسألتنا هذه لا يبتني على مسألة تبعية الأحكام الواقعية لجهات المصالح والمفاسد أصلاً،ضرورة أنّ إحدى المسألتين أجنبية عن المسألة الاُخرى بالكلّية،ولا صلة لإحداهما بالاُخرى أبداً.
وعلى الجملة:فها هنا مسألتان:إحداهما مسألتنا هذه،والاُخرى مسألة تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد الواقعية،وقد عرفت أنّ نقطة انطلاق الخلاف في إحداهما غير نقطة انطلاق الخلاف في الاُخرى.
أمّا في الاُولى: فهي أنّ المجمع لمتعلقي الأمر والنهي إن كان واحداً وجوداً وماهيةً في مورد الاجتماع والتصادق،فلا مناص من القول بالامتناع والسراية حتّى على مذهب الأشعري المنكر للتبعية من ناحية،المجوّز للتكليف بالمحال من ناحية اخرى،فانّ هذا-أعني اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذاتاً وحقيقة – ليس من التكليف بالمحال،بل نفس هذا التكليف محال،كما هو واضح.وإن كان متعدداً وجوداً وماهيةً من جانب،وقلنا بعدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر من جانب آخر،فلا مناص من القول بالجواز، بلا فرق بين تبعية الأحكام للملاكات الواقعية وعدم تبعيتها لها،وهذا ظاهر.
فما أفاده (قدّس اللّٰه سرّه) من ابتناء النزاع في المسألة على القول بالتبعية لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
وأمّا في الثانية: فهي أنّ الأشاعرة حيث إنّهم قد أنكروا مسألة التحسين والتقبيح العقليين،وقالوا بأنّ العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها،وأنّ كل ما أمر الشارع به حسن،وكل ما نهى الشارع عنه قبيح،وأنّ أفعاله تعالى لا تتصف بالقبح أبداً،فلأجل ذلك قد التزموا بعدم تبعية الأحكام الواقعية للملاكات،لا في متعلقاتها ولا في أنفسها،لفرض أنّ عندهم لا مانع من صدور اللغو من الشارع الحكيم.وأمّا الإمامية فحيث إنّهم قد التزموا بتلك المسألة، وأنّ أفعاله تعالى تتصف بالحسن مرّةً وبالقبح مرّةً اخرى،فلذلك التزموا بالتبعية المزبورة،وإلّا لكان التكليف لغواً محضاً وصدور اللغو من الشارع الحكيم قبيح.
فهذه النقطة هي منشأ الخلاف في تلك المسألة أعني مسألة تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد وعدم تبعيتها لها.
فالنتيجة:أ نّه لا مساس لمسألتنا هذه بتلك المسألة أصلاً.
وأمّا النقطة الثانية: فيردّها ما تقدّم بصورة مفصّلة في بحث الضد 1من أنّ مسألة التعارض لا ترتكز على وجهة نظر مذهب دون آخر،بل تعمّ جميع المذاهب والآراء،حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات مطلقاً، وذلك لما ذكرناه هناك من أنّ مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين هو عدم إمكان ثبوت الحكمين في مقام الجعل،وأنّ ثبوت كل منهما في هذا المقام ينفي الآخر ويكذّبه،ومن المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح
والمفاسد والقول بعدمها،وكون مورد الاجتماع مشتملاً على مناط أحد الحكمين أم لا.وقد تقدّم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح في بحث الضد،فلا نعيد.
وعليه فما أفاده (قدس سره) من الضابط للتعارض بين الدليلين وهو كون مورد الاجتماع بينهما مشتملاً على مناط أحدهما لا أصل له،بل صدوره من مثله (قدس سره) غريب جداً.
ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا هناك أنّ التزاحم على نوعين:
الأوّل:التزاحم بين الملاكات بعضها ببعض.
الثاني:التزاحم بين الأحكام كذلك.
أمّا النوع الأوّل:فقد ذكرنا سابقاً أ نّه خارج عن محل الكلام،فانّ محل الكلام إنّما هو في النوع الثاني،ولذا قلنا إنّ الترجيح فيه بيد المولى،فله أن يلاحظ الجهات الواقعية ويرجح بعضها على بعضها الآخر،وليس ذلك من وظيفة العبد،فانّ وظيفته امتثال الأحكام المجعولة من قبل المولى.على أ نّه ليس للعبد طريق إلى معرفة تلك الجهات ليرجح بعضها على بعضها الآخر مع قطع النظر عن الأحكام المجعولة على طبقها.
وبعد ذلك نقول: إنّه (قدس سره) إن أراد من التزاحم بين المقتضيين ذلك، فقد عرفت أنّ هذا النوع من التزاحم خارج عن محل الكلام،وأنّ الترجيح فيه بيد المولى دون العبد،ولذا لا يرجع فيه إلى مرجحات النوع الثاني من التزاحم.
وإن أراد منه التزاحم بين الدليلين في مرتبة الاقتضاء،فقد تقدّم أنّ التزاحم هو تنافي الحكمين في مرتبة الفعلية الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون أيّ تنافٍ بينهما في مقام الانشاء والجعل،كما مرّ بشكل واضح.وعليه فلا يرجع قوله (قدس سره):بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين،إلى معنىً محصّل أصلاً.
وأضف إلى ذلك:ما ذكرناه هناك من أنّ مسألة التزاحم أيضاً لا تبتني على وجهة نظر مذهب دون آخر،بل تعمّ جميع المذاهب والآراء،حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات مطلقاً،ضرورة أنّ مسألة التزاحم كمسألة التعارض،فانّها ترتكز على ركيزة واحدة،وتدور مدار تلك الركيزة وجوداً وعدماً،وهي عدم تمكن المكلف من الجمع بين المتزاحمين في مقام الامتثال،ومن المعلوم أنّ مسألة التبعية أجنبية عن تلك الركيزة بالكلّية،فإذن ما أفاده (قدس سره) من الضابط لمسألة التزاحم-وهو كون المجمع مشتملاً على مناط كلا الحكمين-لا يرجع إلى أصل صحيح.
وأمّا النقطة الثالثة فيمكن المناقشة فيها بوجوه:
الأوّل: أنّ موارد التوفيق العرفي غير موارد التعارض،فإذا فرض التعارض بين الدليلين فمعناه أ نّه لا يمكن الجمع العرفي بينهما،وفيما إذا أمكن ذلك فلا تعارض،ففرض التعارض مع فرض إمكان الجمع العرفي لا يجتمعان،كما هو واضح.
الثاني: أنّ التوفيق العرفي بين الدليلين إنّما يكون بملاحظة مرجحات باب الدلالة،كأن يكون أحدهما أظهر من الآخر أو نحو ذلك،لا بملاحظة مرجحات باب المزاحمة،لوضوح الفرق بين البابين،وأنّ أحدهما أجنبي عن الآخر بالكلّية، ضرورة أنّ مرجحات باب المزاحمة توجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، وهو القدرة،ولا توجب التصرف بالحمل على الاقتضاء أو نحوه كما هو ظاهر.
الثالث: أنّ هذا الحمل-أي حمل الأمر والنهي على بيان المقتضي في متعلقه – خارج عن الفهم العرفي،ولا يساعد عليه العرف أبداً.
الرابع: أنّ هذا الحمل لا يجدي في دفع المحذور اللّازم من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد،وذلك لأنّ اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد في
نفسه وإن كان لا مانع منه،إلّاأنّ ذلك لا يمكن من جهة تاثير المصلحة في محبوبيته وتأثير المفسدة في مبغوضيته،لاستحالة أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً معاً.
قال (قدس سره) في الأمر التاسع، ما هذا لفظه:أ نّه قد عرفت أنّ المعتبر في هذا الباب أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملاً على مناط الحكم مطلقاً حتّى في حال الاجتماع،فلو كان هناك ما دلّ على ذلك من إجماع أو غيره فلا إشكال،ولو لم يكن إلّاإطلاق دليلي الحكمين ففيه تفصيل،وهو أنّ الاطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي لكان دليلاً على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع،فيكون من هذا الباب،ولو كان بصدد الحكم الفعلي فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز،إلّاإذا علم إجمالاً بكذب أحد الدليلين،فيعامل معهما معاملة المتعارضين.وأمّا على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلاً،فانّ انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له،يمكن أن يكون لأجل انتفائه،إلّاأن يقال:إنّ قضية التوفيق بينهما هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما أظهر وإلّا فخصوص الظاهر منهما.
فتلخّص: أ نّه كلّما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع،وكلّما لم تكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقاً،إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلّا فعلى الامتناع 1.
ونلخّص هذا الأمر في عدّة خطوط:
الأوّل: أنّ غرضه (قدس سره) من هذه المقدّمة بيان ما يمكن أن يحرز به كون المجمع في مورد الاجتماع مشتملاً على ملاك كلا الحكمين معاً من قيام دليل من الخارج ليكون بذلك داخلاً في هذا الباب-أي باب الاجتماع-كالاجماع أو نحوه في دخوله في المسألة.
الثاني: أ نّه إذا لم يكن من الخارج دليل،فهل هناك قرينة اخرى تدل عليه أم لا،فقد ذكر (قدس سره) أنّ إطلاق كل من دليلي الحكمين إن كان في مقام بيان الحكم الاقتضائي لكان قرينة على ثبوت المقتضي والمناط لكلا الحكمين في مورد الاجتماع،من دون فرق في ذلك بين القول بالجواز والقول بالامتناع.وأمّا إذا كان في مقام بيان الحكم الفعلي،فإن قلنا بالجواز كان إطلاق كل منهما أيضاً قرينةً على ثبوت المقتضي والمناط لكليهما معاً في محل الاجتماع والتصادق،إلّا إذا علم من الخارج بكذب أحدهما وعدم جعله في الواقع،فعندئذ تقع المعارضة بينهما فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد بابها.وأمّا إذا قلنا بالامتناع فتقع المعارضة بين دليليهما،ولا بدّ عندئذ من رفع اليد عن أحدهما،وعليه فلا دلالة على ثبوت المقتضي والمناط لهما في مورد الاجتماع،ضرورة أنّ انتفاء أحدهما كما يمكن أن يكون لوجود المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون من جهة انتفاء المقتضي.
ولعلّ الوجه في ذلك ما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام ومقتضياتها مع قطع النظر عن ثبوت نفس هذه الأحكام.
وعلى ضوء هذا فإذا فرض انتفاء حكم في مورد فلا يمكن الحكم بأنّ انتفاءه من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له،ضرورة أ نّه كما يحتمل أن يكون
انتفاؤه من هذه الناحية يحتمل أن يكون من ناحية عدم المقتضي له في هذا الحال،بل قد ذكرنا أنّ الأمر كذلك حتّى فيما إذا كان انتفاء الحكم من جهة عجز المكلف عن امتثاله وعدم قدرته عليه،فانّ انتفاءه في هذا الحال كما يمكن أن يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي،يمكن أن يكون من ناحية عدم المقتضي له،بداهة أ نّه لا طريق لنا إلى ثبوت المقتضي له في هذا الحال،كما هو ظاهر.
الثالث: أ نّه يمكن رفع التعارض بحمل كل من الاطلاقين على الحكم الاقتضائي إذا لم يكن في البين أظهر،وإلّا فيحمل خصوص الظاهر منهما على ذلك،وعليه فهما دالّان على ثبوت المقتضي والمناط في المورد،أعني مورد الاجتماع والتصادق، وذلك لأنّ المانع من دلالتهما عليه إنّما هو تعارضهما وتنافيهما بحسب مقام الاثبات والدلالة،وأمّا بعد علاجه بالجمع بينهما عرفاً فلا مانع من دلالتهما عليه أصلاً.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه الخطوط:
أمّا الخط الأوّل: فلأ نّه يبتني على تسليم أن يكون المعتبر في باب الاجتماع هو كون المجمع مشتملاً على مناط كلا الحكمين معاً في مورد الاجتماع،لتستدعي الحاجة إلى إثبات ذلك في الخارج بدليل،ولكن قد عرفت منع ذلك في الأمر الثامن 1وقلنا هناك إنّ مسألة الاجتماع لا ترتكز على وجهة نظر مذهب دون آخر،بل تجري على وجهة نظر جميع المذاهب والآراء،وذلك لما تقدّم من أنّ المسألة تبتني على ركيزة اخرى وتدور مدار تلك الركيزة،وهي أنّ المجمع إذا كان واحداً وجوداً وماهيةً فلا بدّ من الالتزام بالامتناع،سواء فيه القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدمها،وسواء أكان المجمع مشتملاً على
ملاك أم لم يكن،وإن كان متعدداً كذلك من ناحية،ولم نقل بسراية الحكم من الملزوم إلى اللّازم من ناحية اخرى،فلا بدّ من الالتزام بالجواز كذلك،ومن الواضح جداً أنّ تلك الركيزة لا تختص بمذهب دون آخر وبحالة دون اخرى، وأجنبية عن القول بالتبعية بالكلّية،ضرورة أ نّه لا فرق في استحالة اجتماع الضدّين بين وجهة نظر دون آخر،كما هو ظاهر.
وأمّا الخط الثاني: فيقع الكلام فيه من ناحيتين:
الاُولى:في بيان مراده (قدس سره) من الحكم الفعلي.
الثانية:في بيان مراده من الحكم الاقتضائي.
أمّا الناحية الاُولى: فإن أراد (قدس سره) من الحكم الفعلي الحكم الذي بلغ إلى مرتبة البعث أو الزجر فقد ذكرنا غير مرّة أنّ بلوغ الحكم إلى تلك المرتبة يتوقف على وجود موضوعه بجميع شرائطه وقيوده في الخارج،ضرورة استحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه كذلك،فما لم يتحقق موضوعه خارجاً يستحيل أن يكون الحكم فعلياً،فتتبع فعلية الحكم فعلية موضوعه حدوثاً وبقاءً،ومن هنا لا يلزم أن تكون فعليته حين جعله وإبرازه في الخارج، بل هي غالباً متأخرة عنه،بل ربّما تتأخر عنه بآلاف سنين.
والسر فيه:هو أنّ الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، أعني للموضوعات المقدّر وجودها في الخارج،ولا يتوقف جعلها على وجودها فيه أبداً،ضرورة أ نّه يصح جعلها لها من دون أن يتوقف على وجود شيء منها في الخارج،مثلاً وجوب الحج مجعول للعاقل البالغ القادر المستطيع مع بقية الشرائط،ووجوب الصوم مجعول للبالغ العاقل القادر الداخل عليه شهر رمضان مع سائر الشرائط وهكذا…ولا يتوقف جعلها على وجود موضوعها خارجاً،ولكن فعلية تلك الأحكام وتحققها في الخارج تتوقف على
فعلية موضوعاتها،فمتى تحقق موضوعها تحقق الحكم.ومن ذلك قد ظهر أنّ فعلية الحكم خارجة عن مفاد الدليل وأجنبية عنه رأساً وتابعة لفعلية موضوعه،ضرورة أنّ مفاد الدليل هو ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية، ولا يدل على أزيد من ذلك،فلا نظر له إلى فعليته بفعلية موضوعه أبداً، لوضوح أنّ كل قضية حقيقية غير ناظرة إلى وجود موضوعها في الخارج وتحققه فيه،بل مفادها ثبوت الحكم على تقدير وجود موضوعها فيه من دون تعرّض لحاله وجوداً وعدماً.
وعليه فلا معنى لما أفاده (قدس سره) من أنّ إطلاق كل من الدليلين قد يكون لبيان الحكم الفعلي،وذلك لما عرفت من أنّ فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه في الخارج وأجنبية عن مفاد الدليل بالكلّية،فلا يكون الدليل متكفلاً لفعليته أبداً.
وإن أراد منه الحكم الانشائي وهو الحكم المبرز في الخارج بمبرزٍ ما،بأن يكون إطلاق كل من الدليلين في مقام بيان إبراز ما اعتبره المولى،غاية الأمر دليل النهي في مقام بيان اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل،ودليل الأمر في مقام بيان اعتباره الفعل على ذمته،وقد يطلق عليه الحكم الفعلي باعتبار أ نّه فعلي من قبل الشارع وتام،فيرد عليه:أنّ اجتماع الحكمين كذلك في شيء واحد محال،سواء فيه القول بالجواز والقول بالامتناع،ضرورة أ نّه لا يمكن الجمع بين اعتبار ثبوت فعل على ذمّة المكلف واعتبار محروميته عنه.
وعلى الجملة:فالمجمع إذا كان واحداً يستحيل جعل الوجوب والحرمة له معاً،سواء فيه القول بالجواز والقول بالامتناع،وإن كان متعدداً فلا مانع من جعلهما معاً،لفرض أنّ الوجوب مجعول لشيء،والحرمة مجعولة لشيء آخر، ولا مانع من ذلك أبداً،بلا فرق بين القول بالامتناع والقول بالجواز،فالعبرة
إنّما هي بوحدة المجمع وتعدده،لا بكون الدليلين متكفلين للحكم الفعلي أو الاقتضائي،كما هو واضح.
وأمّا الناحية الثانية: فلا نعقل للحكم الاقتضائي معنىً محصّلاً ما عدا كون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة،ويكون إطلاق كل من دليلي الأمر والنهي في مقام بيان ذلك،وإرشاد إلى أنّ فيه جهةً تقتضي وجوبه وجهةً تقتضي حرمته،وهذا هو مراده (قدس سره) من الحكم الاقتضائي.
ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ هذا خارج عن محل الكلام،فانّ محل البحث في المسألة كما عرفت في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته،ومن المعلوم أ نّه لا بدّ من فرض وجود الأمر ووجود النهي، ليبحث في مورد اجتماعهما عن سراية أحدهما من متعلقه إلى ما تعلق به الآخر وعدم السراية،والمفروض أ نّه بناءً على هذا ليس أمر ولا نهي ما عدا كون الفعل مشتملاً على مصلحة ومفسدة،لنبحث عن سراية أحدهما إلى الآخر وعدمها.
فالنتيجة: هي أنّ مردّ الاطلاقين على ذلك في الحقيقة إلى إخبار الشارع بوجود المصلحة والمفسدة في مورد الاجتماع لا إلى جعل حكم تكليفي.
وبكلمة اخرى:أنّ حمل الأمر والنهي على ذلك،أي على الاخبار عن وجود مصلحة في فعل ووجود مفسدة فيه،بأن يقال إنّ المولى في مقام بيان الاخبار عنه لا يمكن،وذلك لأنّ هذا خارج عن وظيفة الشارع،فانّ وظيفته بيان الأحكام الشرعية،لا الاخبار عن وجود المصالح والمفاسد في الأفعال، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ هذا الحمل خارج عن المتفاهم العرفي وبعيد عنه جداً،بل غير واقع في الشريعة المقدّسة أصلاً،كيف فانّ حمل الأمر الوارد في الشريعة المقدّسة على الاخبار عن وجود مصلحة في الفعل،وحمل
النهي الوارد فيها على الاخبار عن وجود مفسدة فيه لا يمكن بحسب المتفاهم العرفي أبداً.
وثانياً: لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ هذا الحمل ممكن عرفاً إلّاأ نّه عندئذ وإن كان لا مانع من اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد في نفسه مع قطع النظر عن تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية،ضرورة أ نّه لا مانع من أن يكون شيء واحد مشتملاً على مصلحة من جهة وعلى مفسدة من جهة اخرى، ولكن لا يمكن تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية معاً،بداهة استحالة أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً في آن واحد،وعليه فإذا فرض أنّ المجمع واحد وجوداً وماهية فلايعقل تأثير المصلحة في محبوبيته وتأثير المفسدة في مبغوضيته، وتأثير الاُولى في جعل الوجوب له وتأثير الثانية في جعل الحرمة له،وإن كان لا مضادة بين نفس الوجوب والحرمة من جهة أ نّهما أمران اعتباريان،وقد ذكرنا أ نّه لا مضادة بين الاُمور الاعتبارية أصلاً،إلّاأ نّه لا يمكن جعلهما لشيء واحد من ناحية أنّ جعل الحكم الأوّل كاشف عن محبوبية هذا الشيء،وجعل الثاني كاشف عن مبغوضيته،ولا يمكن أن تجتمع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد،هذا من جهة.
ومن جهة اخرى:أ نّه لا يمكن امتثالهما في الخارج،ومن المعلوم أنّ جعل مثل هذا الحكم لغو وصدور اللغو عن الشارع الحكيم مستحيل.
وعلى الجملة:فعلى تقدير كون المجمع واحداً وإن كان لا مانع من اجتماع المصلحة والمفسدة فيه بنفسه،إلّاأ نّه لا يمكن ذلك من ناحية تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية،فإذن لا يمكن أن يكون الاطلاقان كاشفين عن وجود مصلحة فيه كذلك ومفسدة،فعلى هذا لا محالة تقع المعارضة بينهما لكذب أحدهما في الواقع على الفرض،وعدم إمكان صدق كليهما معاً،فيرجع عندئذ
إلى أحكامها وقواعدها.
ودعوى أ نّهما كاشفان عن وجودهما في المجمع في نفسه-من دون تأثيرهما في شيء،وقد مرّ أ نّه لا مانع من اجتماعهما في شيء في ذاته- خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً،وذلك لأنّها مخالفة للوجدان والضرورة،بداهة أنّ المجمع كالصلاة في الدار المغصوبة إذا كان واحداً فلا محالة إمّا أن يكون محبوباً أو مبغوضاً ولا ثالث لهما،ضرورة أ نّه لا يعقل أن لا يكون محبوباً ولا مبغوضاً، بأن لا تؤثر المفسدة فيه ولا المصلحة،أضف إلى ذلك:أنّ هذا الفرض لغو محض،فلا يترتب عليه أيّ أثر،فإذن لا يمكن حمل إطلاقي الأمر والنهي على ذلك أصلاً،لعدم أثر شرعي مترتب عليه.
وأمّا إذا كان المجمع متعدداً فلا مانع من تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية معاً أصلاً وفي جعل الوجوب والحرمة،من دون أيّة منافاة ومضادة في البين وهذا واضح.
وأمّا الخط الثالث: فيردّه ما تقدّم من أنّ هذا الجمع،أي الجمع بين الدليلين بالحمل على الاقتضاء خارج عن المتفاهم العرفي،ولا يساعد عليه العرف،كما مرّ بشكل واضح.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه عدّة امور:
الأوّل: أنّ أساس مسألة إمكان الاجتماع واستحالته يبتني على وحدة المجمع وجوداً وماهية في مورد الاجتماع وتعدده كذلك،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع والاستحالة،قلنا بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أم لا، قلنا بكون المجمع مشتملاً على الملاك أم غير مشتمل،ضرورة أنّ كل ذلك لا دخل له فيما هو ملاك هذا القول في المسألة.وعلى الثاني إذا لم نقل بسراية
الحكم من الملزوم إلى اللّازم كما هو الصحيح،فلا مناص من القول بالجواز كذلك،ومن هنا قلنا إنّ هذه المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض،وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى باب التزاحم إذا لم تكن مندوحة في البين كما سبق.
الثاني: أنّ أساس مسألة التعارض يرتكز على تنافي الحكمين في مقام الجعل، بحيث لا يمكن جعل كليهما معاً،سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد وعدمه،وكون مورد التعارض مشتملاً على ملاك أحد الحكمين أم لا،بداهة أنّ كل ذلك أجنبي عما هو ملاك التعارض.
وأساس مسألة التزاحم بين الحكمين يرتكز على عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال،سواء أقلنا بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أم لا،وسواء أكان المجمع مشتملاً على مناط كلا الحكمين أم لم يكن.
الثالث: أنّ ما أفاده (قدس سره) في هاتين المقدّمتين،أعني المقدّمة الثامنة والتاسعة جميعاً لا يبتني على أصل صحيح كما تقدّم بشكل واضح.
المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو أنّ العبادة صحيحة على القول بالجواز وتعدد المجمع مطلقاً ولو كان عالماً بحرمة ما هو ملازم للواجب في مورد الاجتماع،فضلاً عما إذا كان جاهلاً بها أو ناسياً لها.وعليه فتصحّ الصلاة في المكان المغصوب،ومجرد ملازمتها لارتكاب الحرام خارجاً لا يمنع عن صحتها بعد فرض أنّ متعلق الأمر غير متعلق النهي،وفاسدة على القول
بالامتناع ووحدة المجمع كذلك،ولو كان جاهلاً بالحرمة فضلاً عما إذا كان عالماً بها،هذا هو المشهور.
ولكن خالف في ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1وذهب إلى بطلان الصلاة على القول بالجواز وتعدد المجمع فيما إذا كان المكلف عالماً بالحرمة لا فيما إذا كان جاهلاً بها أو ناسياً لها،فله (قدس سره) هناك دعويان:
الاُولى:بطلان الصلاة على هذا القول في صورة العلم بالحرمة.
الثانية:صحة الصلاة في صورة الجهل والنسيان.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأ نّها تبتني على ما أفاده (قدس سره) في بحث الضد 2وملخّصه:هو أنّ منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك،لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز،والوجه في ذلك:هو أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه كان جعل الداعي للمكلف نحو الفعل،فمن الواضح أنّ هذا بنفسه يقتضي كون متعلقه مقدوراً،ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلاً وشرعاً،ونتيجة ذلك هي أنّ متعلقه حصة خاصة من الطبيعة-وهي الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً-وأمّا الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقه،وإن كانت حصة من الطبيعة على نحو الاطلاق،إلّاأ نّها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ومتعلقة للتكليف.
وعلى ذلك فبما أنّ الأمر متعلق بخصوص الحصة المقدورة عقلاً وشرعاً، وهي الصلاة في غير المكان المغصوب مثلاً،فلا محالة لا تكون الصلاة في المكان المغصوب مصداقاً للمأمور به وفرداً له،فانّها وإن لم تكن متحدة مع الحرام في
الخارج،إلّاأ نّها ملازمة له خارجاً،فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعاً وإن كانت مقدورة عقلاً،والمفروض أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي،فإذن لا محالة يختص الأمر بالحصة الخاصة من الصلاة وهي الحصة المقدورة،فلا تنطبق على الحصة غير المقدورة،وهي الصلاة في المكان المغصوب.
فالنتيجة:هي أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول – أي القول بالجواز من ناحية الأمر-لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليها.
مثلاً الصلاة المأمور بها لا تنطبق على الصلاة في الدار المغصوبة،لفرض أ نّها ليست مصداقاً وفرداً لها،ومن الواضح أ نّه مع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بالصحة،لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الصحة منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به في الخارج،فإذا فرضنا أنّ المأمور به لا ينطبق عليه وأ نّه ليس مصداقاً وفرداً له فلا يمكن الحكم بصحته.
وقد تحصل من ذلك:أنّ المأمور به على هذا بما أ نّه حصة خاصة-وهي الحصة المقدورة فحسب-لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع والتصادق على القول بالجواز وتغاير متعلق الأمر والنهي فضلاً عن غيره،لعدم انطباق المأمور به عليها،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى: أ نّه لا يمكن تصحيح تلك العبادة في مورد الاجتماع بالترتب،بتقريب أ نّها وإن لم تكن مأموراً بها بالأمر الأوّل،إلّاأ نّه لا مانع من تعلق الأمر بها مترتباً على عصيان النهي،وذلك لأنّه (قدس سره) وإن التزم بالترتب في بحث الضد،وقلنا هناك إنّ إمكانه يكفي في وقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل،لما ذكرناه هناك من أنّ حقيقة الترتب هو رفع اليد عن إطلاق كل من الحكمين بمقدار تقتضيه الضرورة لا مطلقاً،والمقدار الذي تقتضيه الضرورة هو تقييد إطلاق كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر دون الزائد عليه،إلّاأ نّه
(قدس سره) قد أنكر جريانه في المقام،أي في مسألة الاجتماع،وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه:
أنّ عصيان النهي في مورد الاجتماع لا يخلو من أن يتحقق باتيان فعل مضاد للمأمور به في الخارج وهو الصلاة مثلاً،كأن يشتغل بالأكل أو الشرب أو النوم أو ما شاكل ذلك،وأن يكون بنفس الاتيان بالصلاة،ولا ثالث لهما،ومن الواضح أ نّه على كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الأمر بالصلاة مشروطاً به.
أمّا على التقدير الأوّل فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بأحد الضدّين مشروطاً بوجود الضدّ الآخر،وهذا غير معقول،ضرورة أنّ مردّ هذا إلى طلب الجمع بين الضدّين في الخارج،لفرض أ نّه أمر بايجاد ضد على فرض وجود ضد آخر،وهو محال،لأنّه تكليف بالمحال.
وأمّا على التقدير الثاني فلأ نّه يلزم أن يكون الأمر بالشيء مشروطاً بوجوده في الخارج،وهو محال لأنّه طلب الحاصل،ضرورة أ نّه لا يعقل أن يكون الأمر بالشيء كالصلاة مثلاً مشروطاً بوجوده،كما هو واضح.
فالنتيجة: هي أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز وتعدد المجمع بالترتب.
ومن ناحية ثالثة: أ نّه لا يمكن تصحيحها في هذا المورد بالملاك،بيان ذلك:
هو أ نّه (قدس سره) وإن التزم بتصحيح الفرد المزاحم من العبادة بالملاك كما تقدّم في بحث الضد،إلّاأ نّه قال بعدم إمكان تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بالملاك،وذلك لأنّ ملاك الأمر إنّما يصلح للتقرب به فيما إذا لم يكن مزاحماً بالقبح الفاعلي،وإلّا فلا يكون صالحاً للتقرب،فانّ صحة العبادة كما هي مشروطة بالحسن الفعلي،بمعنى أن يكون الفعل في نفسه محبوباً وحسناً ليكون صالحاً للتقرب به إلى المولى،كذلك هي مشروطة بالحسن الفاعلي،بمعنى أن يكون
إيجادها من الفاعل أيضاً حسناً وإلّا لم تقع صحيحة،والمفروض فيما نحن فيه أنّ إيجادها من الفاعل ليس كذلك،لأنّ الصلاة والغصب بما أ نّهما ممتزجان في الخارج بحيث لا تمكن الاشارة إلى أنّ هذه صلاة وذاك غصب،فلا محالة يكونان متحدين في مقام الايجاد والتأثير وموجودين بايجاد واحد،ضرورة أنّ المكلف بايجاد الصلاة في الأرض المغصوبة أوجد أمرين أحدهما الصلاة والآخر الغصب،لا أ نّه أوجد الصلاة فحسب،وعليه فلا محالة يكون موجدهما مرتكباً للقبيح في إيجاده،ومعه يستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقرّباً له.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع،لا من ناحية الأمر لما عرفت من عدم انطباق المأمور به على هذا الفرد من جهة اختصاصه بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً،وعدم انطباقه على الحصة غير المقدورة كما مرّ.ولا من ناحية الترتب لما عرفت من عدم جريانه في المقام.
ولا من ناحية الملاك لما عرفت من القبح الفاعلي المانع من التقرب.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما ذكره من أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هي باقتضاء نفس التكليف ذلك لا من ناحية حكم العقل،فقد ذكرنا في بحث الضد 1أ نّه غير تام وملخّصه:هو أنّ ذلك مبني على وجهة نظر المشهور من أنّ المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنّما هو الطلب والبعث نحو الفعل الارادي،وحيث إنّ الطلب والبعث التشريعيين عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بارادته واختياره وجعل الداعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده،فمن الطبيعي أنّ جعل الداعي لا يمكن إلّابالاضافة إلى خصوص الفعل الاختياري،إذن نفس التكليف مقتضٍ لاعتبار القدرة في متعلقه من دون حاجة إلى حكم العقل في ذلك.
ولكن قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر،وكذا في بحث الانشاء والاخبار أنّ ما هو المشهور من أنّ الانشاء إيجاد المعنى باللفظ،وأنّ المنشأ بالصيغة هو الطلب والبعث لا أساس له أصلاً،وقد تقدّم الكلام هناك من هذه الناحية بشكل واضح فلا نعيد.
فالصحيح هو ما ذكرناه من أنّ حقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف أو اعتباره محروماً عن الفعل وإبرازه في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو النهي أو ما شاكلها،ولا نعقل للتكليف معنىً ما عدا ذلك، ومن الواضح جدّاً أنّ هذا الاعتبار لا يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم،ضرورة أ نّه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدورة وغير المقدورة على ذمّة المكلف أصلاً،كما أنّ إبرازه في الخارج لا يقتضي ذلك،بداهة أ نّه ليس إلّامجرد إبراز اعتبار كون المادة على ذمّة المكلف،وهذا أجنبي تماماً عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.
فالنتيجة:أ نّه لا مقتضي من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه.
وأمّا العقل فقد ذكرنا أ نّه لا يقتضي اعتبار القدرة إلّافي ظرف الامتثال،ولا يحكم باعتبارها في ظرف الجعل،فانّه لا وجه لتخصيص متعلق التكليف بخصوص الحصة المقدورة،بل مقتضى إطلاقه هو الجامع بين المقدورة وغير المقدورة،وعليه فلا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع،لفرض انطباق الطبيعة المأمور بها عليها عندئذ.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو باقتضاء نفس التكليف،ولكن من الواضح أ نّه لايقتضي إلّاكون متعلقه مقدوراً في الجملة،ولو باعتبار القدرة على بعض أفراده،لئلّا يكون طلبه طلباً للمحال، ولئلّا يكون البعث نحوه بعثاً نحو الممتنع،ضرورة أ نّه إذا كان مقدوراً كذلك
صحّ البعث نحوه وصحّ طلبه،ولا يكون بعثاً نحو الممتنع وطلباً له.وقد تقدّم الكلام من هذه الناحية في بحث الضد بصورة مفصّلة 1.
ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أنّ التكليف يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة دون الأعم،فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره) من عدم انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد،وذلك لفرض أنّ الصلاة في الدار المغصوبة غير متحدة مع الغصب خارجاً،وأنّ التركيب بينهما انضمامي لا اتحادي،كما هو أساس هذا القول،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّها مقدورة عقلاً وشرعاً.أمّا عقلاً فواضح.وأمّا شرعاً فلفرض عدم انطباق كبرى«الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي»على المقام،وذلك لفرض أنّ الصلاة ليست ممنوعة شرعاً وأ نّها سائغة في نفسها ومقدورة تشريعاً،والممنوع الشرعي هو ما إذا كان الشيء في نفسه ممنوعاً ومنهياً عنه شرعاً،أو كانت له مقدّمة محرّمة وإن لم يكن في نفسه محرّماً،وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا مانع من كونه مصداقاً للمأمور به وفرداً له،وبما أنّ الصلاة في الدار المغصوبة على هذا القول-أي القول بالجواز-ليست بمحرمة على الفرض ولا لها مقدّمة محرمة،غاية الأمر أنّ إيجادها فيها ملازم لايجاد الحرام،فلا مانع من كونها مصداقاً للمأمور به،ولا مانع من انطباق الصلاة المأمور بها بما هي عليها، ومجرد ملازمة وجودها في الخارج لوجود الحرام لا يمنع عن ذلك،بعد فرض أنّ وجودها مغاير لوجود الحرام خارجاً.
فالنتيجة: أ نّه لو سلّمنا اختصاص التكليف بخصوص الحصة المقدورة،فمع ذلك لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع،لفرض أ نّها مقدورة عقلاً وشرعاً،ومعه لا محالة تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها.وما ذكره (قدس
سره) من الكبرى وهي أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي لا ينطبق على ما نحن فيه.
ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع من هذه الناحية-أي من ناحية انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد-ولكن يمكن تصحيحها من ناحية الالتزام بالترتب.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ الترتب لا يعقل في المقام،بدعوى أنّ عصيان النهي الذي هو شرط للأمر بالصلاة إمّا أن يتحقق في ضمن نفسها، وإمّا أن يتحقق في ضمن ضدّها،فعلى الأوّل يلزم اشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج وهو محال،وعلى الثاني يلزم اشتراط الأمر بالشيء بوجود ضدّه وتحققه فيه،وهذا غير معقول.
فيرد عليه: ما ذكرناه في بحث الضد 1وملخّصه:هو أنّ المنهي عنه في المقام هو الكون في الأرض المغصوبة،لأنّه تصرف فيها حقيقة ومصداق للغصب كذلك،لا الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك،ضرورة أنّ شيئاً منها لا يكون مصداقاً للغصب وتصرفاً في مال الغير،فالتصرف فيه إنّما هو الكون فيها،ومن الواضح جداً أ نّه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة على عصيان النهي عنه،كأن يقول المولى:لا تكن في أرض الغير وإن كنت فيها فتجب عليك الصلاة،فيكون الأمر بالصلاة معلّقاً على عصيان النهي عن الكون فيها،ومن المعلوم أ نّه لا يلزم من اشتراط الأمر بالصلاة به أحد المحذورين المزبورين،أعني بهما طلب الجمع بين الضدّين،واشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج.
والوجه في ذلك ظاهر،وهو أنّ ما يتحقق به الغصب هو الكون فيها الذي هو من مقولة الأين،وأمّا الأفعال الخاصة كالأكل والنوم والشرب وما شاكل ذلك فليست مصداقاً للغصب،ضرورة أنّ الأكل ليس مما يتحقق به الغصب وكذا النوم والشرب وما شابه ذلك في مفروض الكلام،بل الغصب يتحقق بالكون فيها،ومن الواضح أ نّه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة به،ولا يلزم شيء من المحذورين المذكورين.أمّا عدم لزوم محذور طلب الجمع بين الضدّين فلفرض أنّ الكون فيها ليس مضاداً لها،بل هو ملازم معها وجوداً ويجتمع معها خارجاً.وأمّا عدم لزوم محذور اشتراط الأمر بالشيء بوجوده وتحققه في الخارج،فلأ نّه مبني على أنّ الكون فيها متحد مع الصلاة خارجاً ويكون عينها فيه،ولكنّك عرفت أ نّه خلاف مفروض الكلام في المقام،فانّ المفروض هو أ نّه مغاير لها وجوداً،فانّ الكلام في المقام مبني على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية،فإذن لا محذور أبداً.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أ نّه لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع من ناحية الترتب.
ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة هنا بالترتب، إلّا أ نّه لا مانع من الحكم بصحتها من ناحية الملاك على وجهة نظره (قدس سره) من تسليم اشتمالها على الملاك،وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الملاك في المقام لايكون مقرّباً من جهة القبح الفاعلي غير تام،والوجه فيه ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الايجاد عين الوجود في الخارج ذاتاً وحقيقة،والاختلاف بينهما إنّما هو في الاضافة،فالشيء الواحد باعتبار إضافته إلى الفعل وجود،وباعتبار إضافته إلى الفاعل إيجاد،ويترتب على ذلك أنّ الوجود إذا كان متعدداً في الخارج فلا محالة يكون الايجاد أيضاً متعدداً فيه،ولا يعقل أن يكون واحداً،
وبما أنّ الوجود في مورد الاجتماع متعدد خارجاً كما هو المفروض في المقام فلا محالة يكون الايجاد أيضاً كذلك،بمعنى أنّ المأمور به كما أ نّه مغاير للمنهي عنه وجوداً،كذلك مغاير له إيجاداً،وعليه فيكون إيجاد المأمور به بما هو محبوباً للمولى،وليس فيه أيّ قبح أصلاً،والقبيح إنّما هو إيجاد المنهي عنه فحسب، والمفروض أنّ قبحه لا يسري إليه،فإذن لا مانع من التقرب به من ناحية اشتماله على الملاك،وإن كان إيجاده في الخارج ملازماً لايجاد قبيح ومبغوض فيه،إلّاأ نّه لا يمنع من التقرب به أصلاً،لفرض أنّ الفعل في نفسه صالح للتقرب به من جهة اشتماله على الملاك،وإيجاده في الخارج لا يكون قبيحاً ومبغوضاً، والقبيح إنّما هو إيجاد أمر آخر مغاير له-وهو إيجاد المنهي عنه-غاية الأمر أ نّه ملازم له خارجاً،ومن المعلوم أنّ مجرد ملازمته له لا يمنع عن الصحة،وعلى هذا فلا قبح فعلي ولا فاعلي.
فالنتيجة: أ نّه بناءً على ما يراه (قدس سره) من اشتماله على الملاك لا مناص من الحكم بالصحة أصلاً.
نعم،بناءً على وجهة نظرنا من أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك،فالحكم بالصحة في المقام يبتني على الالتزام بأحد الأمرين الأوّلين:هما انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي على هذا الفرد في مورد الاجتماع،والقول بالترتب فيه.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي صحة العبادة في مورد الاجتماع في صورة الجهل والنسيان على القول بالجواز وتعدد المجمع ماهيةً ووجوداً،فلأنّ المفروض أ نّه لا تنافي بين الحكمين في مقام الجعل،والتنافي بينهما إنّما هو في مقام الامتثال من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً،فلو صرف قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة، وعليه فإذا فرض كون أحد الحكمين أهم من الآخر تعيّن صرف القدرة في
امتثاله،وبذلك عجز عن امتثال الآخر.
ولكن من المعلوم أنّ تعجيزه عنه إنّما هو في ظرف وصوله إلى المكلف وكونه منجّزاً عليه ليحكم العقل بلزوم امتثاله،وأمّا في ظرف كون المكلف جاهلاً به فحيث إنّ العقل لا يحكم بلزوم امتثاله،ولا يكون شاغلاً للمكلف بامتثاله، لا يكون معجّزاً له عن امتثال الآخر،لفرض أ نّه مع الجهل به قادر على امتثاله، والمفروض أ نّه مع القدرة عليه فعلي،لأنّ المانع عن فعليته عدم القدرة على امتثاله،ومع التمكن منه لا محالة يكون فعلياً بفعلية موضوعه وهو القدرة.
وإن شئت فقل:إنّه لا تنافي بين الحكمين في مقام الجعل على الفرض،والتنافي بينهما إنّما هو في مقام الفعلية والامتثال،فإذا فرض جهل المكلف بأحدهما فلا مانع من فعلية الآخر بفعلية موضوعه وهو القدرة،هذا في صورة الجهل.
وأمّا في صورة النسيان فالأمر أوضح من ذلك،لفرض أ نّه لا حرمة واقعاً في هذه الصورة،هذا على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).وأمّا على وجهة نظرنا فقد عرفت أنّ العبادة صحيحة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد المجمع واقعاً في صورة العلم بالحرمة فضلاً عن صورة الجهل بها أو النسيان لها.
قال [ صاحب الكفاية ] في الأمر العاشر ما إليك لفظه:أ نّه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقاً ولو في العبادات وإن كان معصية للنهي أيضاً،وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر،إلّاأ نّه لا معصية عليه.
وأمّا عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر مطلقاً في غير العبادات، لحصول الغرض الموجب له،وأمّا فيها فلا،مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه
تقصيراً،فانّه وإن كان متمكناً مع عدم الالتفات من قصد القربة وقد قصدها، إلّا أ نّه مع التقصير لا يصلح أن يتقرب به أصلاً فلا يقع مقرّباً،وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة كما لا يخفى.
وأمّا إذا لم يلتفت إليها قصوراً وقد قصد القربة باتيانه،فالأمر يسقط لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به،لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسناً،لأجل الجهل بحرمته قصوراً،فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعاً وإن لم يكن امتثالاً،بناءً على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً،لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح،لكونهما تابعين لما علم منهما،كما حقق في محلّه.مع أ نّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فانّ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها،وإن لم تعمه بما هي مأمور بها،لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
ومن هنا انقدح أ نّه يجزئ ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية،كما يكون كذلك في ضدّ الواجب حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلاً.وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حكماً يكون الاتيان بالمجمع امتثالاً وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة،غاية الأمر أ نّه لا يكون مما يسعه بما هي مأمور بها،لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية،وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلّافي مقام فعلية الأحكام لكان مما يسعه وامتثالاً لأمرها بلا كلام.
وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين وقدّم دليل الحرمة تخييراً أو ترجيحاً،حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلاً، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع،وقيل بالامتناع وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحاً في غير مورد من موارد الجهل والنسيان،لموافقته للغرض
بل للأمر.ومن هنا علم أنّ الثواب عليه من قبيل الثواب على الاطاعة لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالموضوع،بل أو الحكم إذا كان عن قصور،مع أنّ الجل لولا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة،ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر فلتكن من ذلك على ذكر 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في هذا الأمر في عدّة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض باتيان المجمع بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة على القول بالجواز مطلقاً في العبادات والتوصليات، أمّا في التوصليات فواضح،لأنّ الغرض منها على الفرض صِرف وجودها وتحققها في الخارج،ولا يعتبر فيها كيفية زائدة.وأمّا في العبادات فلأجل انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد المأتي به في الخارج-وهو المجمع – وإن استلزم ذلك معصيةً للنهي أيضاً،وذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة فانّها تستلزم التصرف فيها وهو محرّم،إلّاأ نّها حيث لم تكن متحدةً مع الحرام على الفرض فلا يكون ارتكابه موجباً لفسادها،فيكون كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة،فكما أ نّه لا يوجب بطلانها باعتبار أ نّه غير متحد معها خارجاً، فكذلك الكون في الأرض المغصوبة لا يوجب فساد الصلاة فيها من جهة أ نّه غير متحد معها.
الثانية: أ نّه بناءً على القول بالامتناع فعلى تقدير تقديم جانب الوجوب على جانب الحرمة،فلا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض باتيان المجمع
عندئذ،وذلك لأنّه على هذا الفرض متمحض في كونه مصداقاً للمأمور به دون المنهي عنه،ولذا لا يكون الاتيان به وقتئذ معصيةً أيضاً.وأمّا على تقدير تقديم جانب الحرمة على الوجوب فبما أنّ المجمع لا يكون حينئذ مصداقاً للمأمور به،ضرورة أنّ الحرام لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب،فلا يحصل الامتثال باتيانه إذا كان الواجب عبادياً،ضرورة أ نّه مع الالتفات إلى الحرمة لا يمكن قصد التقرب به المعتبر في صحته.وأمّا إذا كان توصلياً فيسقط أمره باتيانه،لفرض أنّ الغرض منه يحصل بمجرد وجوده وتحققه في الخارج ولو كان في ضمن فعل محرّم،هذا إذا كان عالماً بالحرمة.
وأمّا إذا كان جاهلاً بها فمرّة يكون جهله عن تقصير،واُخرى عن قصور.
أمّا على الأوّل، فتكون عبادته فاسدة،والوجه في ذلك:هو أنّ صحة العبادة ترتكز على ركائز:1-أن يكون الفعل في نفسه قابلاً للتقرب.2-أن يقصد المكلف التقرب به.3-أن لا يكون صدوره منه قبيحاً ومبغوضاً.
ثمّ إنّ الركيزة الاُولى والثانية وإن كانتا موجودتين هنا،باعتبار أنّ المكلف بما أ نّه كان جاهلاً بالحرمة فيتمشّى منه قصد القربة،والمفروض أنّ الفعل لاشتماله على الملاك قابل لأن يتقرب به في نفسه،إلّاأنّ الركيزة الثالثة غير موجودة هنا،وذلك لأنّ الفعل وإن كان في نفسه قابلاً للتقرب من ناحية اشتماله على الملاك،إلّاأ نّه حيث كان فعلاً مبغوضاً للمولى كما هو المفروض من ناحية، وجهله كان عن تقصير من ناحية اخرى،فلا يكون صدوره منه حسناً،بل يكون قبيحاً ومبغوضاً،فإذن لايمكن الحكم بصحة العبادة الفاقدة لتلك الركيزة.
وأمّا على الثاني، فتكون صحيحة وذلك لتوفر تلك الركائز فيه.
أمّا الركيزة الاُولى،فلأنّ الفعل من ناحية اشتماله على الملاك قابل للتقرب
به،والجهل بالحرمة بما أ نّه كان عن قصور فهو مانع عن فعلية الحرمة،ومن الواضح أنّ الحرمة غير الفعلية لا تمنع عن صحة العبادة وقابليتها للتقرب.
وأمّا الركيزة الثانية،فالمفروض أنّ المكلف متمكن من قصد القربة في هذا الحال.
وأمّا الركيزة الثالثة،فبما أنّ جهله كان عن قصور فلا محالة لا يكون صدور الفعل منه قبيحاً،فإذن لا مانع من الحكم بصحة العبادة في هذا الفرض،وإن لم يتحقق عنوان الامتثال،فانّ عنوان الامتثال إنّما يصدق فيما إذا كان المأتي به مما تعلق به الأمر لا فيما إذا كان الحكم بصحته من جهة محبوبيتها،كما في المقام.
وقد ذكرنا أنّ سقوط الأمر لا يدور مدار حصول الامتثال،بل هو يدور مدار حصول الغرض،ومن هنا ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي أنّ صحة العبادة لا تتوقف على قصد الأمر فحسب،بل يكفي في صحتها إتيانها بقصد محبوبيتها، أو اشتمالها على الملاك أو نحو ذلك.
الثالثة: أ نّه يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتّى بناءً على تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في الواقع،لا للجهات المؤثرة فيها فعلاً،وذلك لأنّ العقل لا يرى تفاوتاً بين هذا الفرد وبقية الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها،فكما أ نّه يحصل الامتثال باتيان غيره من أفراد هذه الطبيعة فكذلك يحصل باتيانه،فلا فرق بينهما بنظر العقل من هذه الناحية أصلاً.
الرابعة: أنّ عدم انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي على هذا الفرد يرتكز على تزاحم جهات المصالح والمفاسد في مقام تأثيرها في الأحكام الواقعية،فانّه على هذا حيث كانت جهة الحرمة أقوى من جهة الوجوب في الواقع ونفس الأمر،فلا محالة تكون هي المؤثرة فيها دون تلك،وعليه فلا يكون المجمع
مصداقاً للواجب.وأمّا إذا فرض عدم المزاحمة بين تلك الجهات في الواقع، وأ نّه لا أثر لها،والمزاحمة إنّما هي بين الجهات الواصلة في مقام فعلية الأحكام لكان المجمع بنفسه مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي،ولكان الاتيان به امتثالاً لأمرها،وذلك لأنّ جهة الوجوب بما أ نّها كانت واصلة إلى المكلف لفرض أ نّها ملتفت إليها،فهي المؤثرة دون جهة الحرمة،لعدم الالتفات إليها.
وعلى الجملة:فلا أثر للملاك الواقعي ولا تأثير له في الحكم الشرعي أبداً، فالمؤثر إنّما هو الملاك الواصل والفعلي-وهو ما كان ملتفتاً إليه-هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ المجمع على الفرض مشتمل على مناط كلا الحكمين معاً،غاية الأمر أنّ ملاك الحرمة بحسب الواقع أقوى من ملاك الوجوب،ولكن عرفت أ نّه لا أثر لأقوائية الملاك بحسب وجوده الواقعي.ومن ناحية ثالثة:أنّ الملاك الواصل إلى المكلف هو ملاك الوجوب،فانّه ملتفَت إليه دون ملاك الحرمة.
فالنتيجة على ضوئها هي أنّ المؤثر ملاك الوجوب دون غيره،ولازمه هو أنّ المجمع عندئذ يكون مصداقاً للمأمور به فعلاً،من دون أن يكون محرّماً كذلك.
الخامسة: قد تقدّم أنّ هذه المسألة تبتني على أن يكون لكل من متعلقي الأمر والنهي ملاك حكمه على كل من القولين،وبذلك تمتاز هذه المسألة عن مسألة التعارض باعتبار أنّ مسألة التعارض تبتني على أن يكون لأحدهما مناط دون الآخر.وعلى هذا يترتب أنّ دليلي الوجوب والحرمة إذا كانا متعارضين وقدّمنا دليل الحرمة على دليل الوجوب تخييراً أو ترجيحاً،فلا مجال
وقتئذ للصحة أصلاً،وإن فرض أنّ جهله بالحرمة كان عن قصور،وذلك لفرض أ نّه لا مقتضي للوجوب عندئذ في مورد الاجتماع أصلاً،ومعه يستحيل أن تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها،ضرورة استحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب.وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب،فانّه على هذا يقع المجمع صحيحاً في موارد الجهل عن قصور وموارد النسيان،وذلك لما عرفت من أنّ المجمع على هذا مشتمل على ملاك الوجوب، فلا مانع من التقرب به إذا كان جاهلاً بالحرمة عن قصور.
ومن هنا حكم الفقهاء بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور،مع أنّ المشهور بينهم هو القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فما أفاده (قدس سره) من صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً لا يمكن المساعدة عليه باطلاقه،وذلك لما تقدّم من أنّ المسألة على هذا القول تدخل في كبرى باب التزاحم مطلقاً على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وفيما إذا لم تكن مندوحة في البين على وجهة نظرنا،وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب ومرجحاته،فإن كان الوجوب أهم من الحرمة أو محتمل الأهمّية فيقدّم عليها،وإذن فلا إشكال في صحة العبادة والاتيان بها بداعي أمرها.وكذا إذا كان الوجوب مساوياً لها ولكن أخذنا بجانب الوجوب دون الحرمة.وإن كانت الحرمة أهم من الوجوب أو محتمل الأهمّية فتقدّم عليه.
فإذن تبتني صحة العبادة في محل الكلام على الالتزام بأحد أمرين:
الأوّل:أن يقول بالترتب.
الثاني:باشتمال المجمع في هذا الحال على الملاك.
أمّا الأوّل:وهو الترتب،فقد أنكره (قدس سره) وأصرّ على استحالته وعدم إمكانه،وعليه فلا يمكن تصحيح العبادة به على وجهة نظره.
وأمّا الثاني:فهو وإن اعترف به،وقد صحح العبادة بذلك في أمثال المورد، إلّا أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك في هذا الحال، وذلك لما عرفت من أ نّه لا طريق لنا إلى ثبوت الملاك ومعرفته في مورد بعد سقوط الحكم عنه،فانّه كما يمكن أن يكون سقوطه من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له،يمكن أن يكون من ناحية عدم المقتضي والملاك له في هذا الحال،ولا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر،بداهة أنّ الطريق إلى إحرازه منحصر في ثبوت الحكم وبعد سقوطه فلا طريق لنا إلى إحرازه أصلاً.
نعم،لو لم تكن مزاحمة بين الاطلاقين كما إذا كانت في البين مندوحة، فعندئذ تصحّ العبادة باتيان المجمع بداعي الأمر بالطبيعة،لفرض أنّ الطبيعة المأمور بها على هذا لم تكن مزاحمة مع الحرام،والمزاحم له إنّما هو فردها.
وعليه فلا مانع من الاتيان بهذا الفرد بداعي أمرها أصلاً.ولعل ما ذكره (قدس سره) بقوله:لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال باتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز…إلخ ناظر إلى هذا الفرض،ولكن يردّه أ نّه لا وجه للاقتصار على هذا الفرض أصلاً.
فالنتيجة: أنّ ما أفاده (قدس سره) من صحة العبادة لا يتم فيما إذا لم تكن مندوحة في البين وتقع المزاحمة بين الواجب والحرام،وكان الحرام أهم أو محتمل الأهمّية بناءً على وجهة نظره (قدس سره) من استحالة الترتب،وذلك
لفرض أ نّه لا أمر به في هذا الحال ليمكن الاتيان به بداعي أمره،ولا طريق لنا إلى اشتماله على الملاك ليمكن التقرب به من هذه الجهة،مع أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه،لأنّ المفروض في كلامه هو صحة العبادة بالأمر على الجواز لا بالملاك.وكيف كان فما أفاده (قدس سره) لا يتم على إطلاقه،فلا بدّ من التفصيل.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده (قدس سره) بقوله:إنّه معصية للنهي أيضاً، لا يتمّ مطلقاً،فانّه إنّما يتم فيما إذا لم تكن مزاحمة بين الحكمين،أو كانت مزاحمة ولكن كان الحرام أهم من الواجب أو محتمل الأهمّية.وأمّا إذا كان الواجب أهم منه أو محتمل الأهمّية،فلا معصية أصلاً.
وأمّا النقطة الثانية: فقد تقدّم أنّ أساس القول بالامتناع في هذه المسألة هو اتحاد متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع،وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليليهما،لاستحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد ومرجحات باب المعارضة،وعليه فان قدّمنا دليل الأمر على دليل النهي ترجيحاً أو تخييراً على القول به،فلا إشكال في صحة العبادة باتيان المجمع،فانّه على هذا مصداق للمأمور به فحسب،ولا يكون بمنهي عنه في شيء.
وإن قدّمنا دليل النهي على دليل الأمر فلا يصحّ الاتيان بالمجمع عندئذ، لفرض أ نّه منهي عنه فعلاً،ويستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به،ضرورة أنّ الحرام لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب فيقيد إطلاق دليل الواجب بغير ذلك الفرد.
من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصلياً أو تعبدياً،ضرورة
استحالة أن يكون المحرّم مصداقاً له مطلقاً،فانّ الفرق بينهما في نقطة واحدة وهي اعتبار قصد القربة في الواجب العبادي دون التوصلي،فإذن لا يصحّ الاتيان بالمجمع في مورد الاجتماع في التوصليات فضلاً عن العباديات،لفرض تقييد المأمور به بغير هذا الفرد فلا يكون هذا الفرد مصداقاً له ليكون الاتيان به مجزئاً،فانّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل،وإلّا فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء.ولا فرق من هذه الناحية بين التوصلي والتعبدي أصلاً.
نعم،قد يعلم من الخارج أنّ الغرض من الواجب التوصلي يحصل بمطلق وجوده في الخارج ولو في ضمن فرد محرّم،وذلك كازالة النجاسة عن البدن أو الثوب فانّ الغرض من وجوبها حصولها في الخارج وتحققها فيه ولو كان بماء مغصوب.
وأمّا فيما إذا لم يعلم ذلك من الخارج فلا يحكم بصحة الواجب وسقوط الأمر عنه وحصول الغرض،وذلك كتكفين الميت مثلاً فانّه واجب توصلي فمع ذلك لا يحصل الغرض منه بتكفينه بالكفن المغصوب ولا يحكم بسقوط الأمر عنه، بل هو من موارد اجتماع الأمر والنهي،ومن هنا ذكرنا في بحث الواجب التوصلي والتعبدي 1أنّ الواجب التوصلي على أقسام،منها:ما لا يترتب الغرض على مطلق وجوده في الخارج،بل يترتب على وجوده الخاص،وهو ما إذا لم يكن في ضمن فرد محرّم أو لم يصدر من المجنون أو الصبي وإلّا فلا يحصل الغرض منه،وذلك كتحنيط الميت مثلاً فانّه واجب توصلي ومع ذلك لو أتى به الصبي أو المجنون لم يكن مجزئاً.فما أفاده (قدس سره) من أنّ الواجب إذا
كان توصلياً يحصل الغرض منه باتيان المجمع لا يمكن تصديقه بوجه.
وبكلمة اخرى: قد سبق منّا غير مرّة أنّ القول بالامتناع يرتكز على وحدة المجمع وجوداً وماهية،وعليه فحيث تقع المعارضة بين إطلاق دليلي الأمر والنهي فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحاتها،وبعد ملاحظة المرجحات إذا قدّمنا إطلاق دليل النهي على إطلاق دليل الأمر،فمعناه أنّ المجمع مبغوض للمولى ومحرّم في الواقع فحسب،وليس مصداقاً للواجب واقعاً وفي نفس الأمر.هذا فيما إذا علمت الحرمة واضح،وكذلك مع الجهل عن تقصير أو قصور فانّ الأحكام الواقعية ثابتة لمتعلقاتها في الواقع،ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها أبداً،ضرورة أ نّها لا تتغير بواسطة جهل المكلف بها،فلو كان شيء حراماً في الواقع وكان المكلف جاهلاً بحرمته فلا تتغير حرمته بواسطة جهله بها وهذا واضح.ومن ناحية اخرى،أنّ الحرام لا يعقل يكون مصداقاً للواجب وإن فرض كون المكلف جاهلاً بحرمته بل معتقداً بوجوبه،ضرورة أنّ الواقع لا ينقلب عما هو عليه.
فالنتيجة على ضوء ذلك:هي أ نّه لا إشكال في أ نّه لا ينطبق الواجب على المجمع بناءً على تقديم جانب الحرمة،فلا يسقط الأمر به باتيان المجمع،حتّى إذا كان توصلياً مع العلم بحرمته أو مع الجهل بها،إلّاإذا علم من الخارج وفاؤه بالغرض،وعلى ذلك يترتب فساد الاتيان بالمجمع كالصلاة في الدار المغصوبة مع العلم بمبغوضيته وحرمته،بل مع الجهل بها ولو كان عن قصور،ضرورة استحالة أن يكون الحرام مصداقاً للواجب،والمفروض أنّ الجهل بالحرمة لا يوجب تغيير الواقع وإن كان عن قصور،والعلم بوجوبه لا يوجب الأمر به في الواقع وارتفاع حرمته،فإذن كيف يمكن الحكم بالصحة في فرض الجهل بها عن قصور.
وإن شئت فقل: إنّ صحة العبادة ترتكز على ركيزتين:
الاُولى:تحقق قصد القربة.
الثانية:كون الفعل في نفسه محبوباً وقابلاً للتقرب به.
ومع انتفاء إحدى هاتين الركيزتين لا تقع العبادة صحيحة،ضرورة أنّ الفعل إذا لم يكن محبوباً في نفسه،فلا يمكن التقرب به فضلاً عن كونه مبغوضاً في الواقع،أو لو كان محبوباً كذلك ولكن المكلف لم يقصد القربة،فحينئذ تقع العبادة فاسدة،وفيما نحن فيه وإن أمكن تحقق قصد القربة من المكلف باعتبار أ نّه جاهل بالحرمة،إلّاأنّ المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع كالصلاة في الأرض المغصوبة على القول بالامتناع ووحدة المجمع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب لا يكون محبوباً في نفسه وصالحاً للتقرب به،لتمحّضه في الحرمة والمبغوضية في الواقع.
ومن المعلوم أنّ الحرام لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب،كما هو الحال في بقية موارد التعارض بالعموم من وجه،مثل ما إذا فرض قيام الدليل على وجوب إكرام العالم،وفرض قيامه أيضاً على حرمة إكرام الفاسق،فتقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق،حيث إنّ مقتضى إطلاق الدليل الأوّل وجوب إكرامه،ومقتضى إطلاق الدليل الثاني حرمة إكرامه، فعندئذ لو قدّمنا دليل الحرمة على دليل الوجوب في مورد الاجتماع لخرج مورد الاجتماع-وهو إكرام العالم الفاسق-عن كونه مصداقاً للواجب واقعاً،سواء أكان المكلف عالماً بالحرمة أو بموضوعها أم كان جاهلاً بها كذلك عن قصور أو تقصير،ضرورة أنّ الواقع لايتغير بواسطة جهل المكلف به والاعتقاد بخلافه، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ فعلية الأحكام في الواقع تابعة لفعلية موضوعاتها، ولا دخل لعلم المكلف بها وجهله،وهذا واضح.
وكذا الحال فيما نحن فيه،فانّه بناءً على تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب في مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة مثلاً فالمجمع متمحض عندئذ في الحرمة والمبغوضية بحسب الواقع،ولا يعقل حينئذ أن يكون مصداقاً للمأمور به والواجب،وإن فرض أنّ المكلف جاهل بحرمته جهلاً عن قصور، غاية الأمر أنّ جهله بها كذلك يوجب كونه معذوراً وغير مستحق للعقاب على ارتكاب الحرام في الواقع،هذا بناءً على وجهة نظرنا من أنّ هذه المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض،فتجري عليه أحكامه.
ولكن يمكن لنا المناقشة فيه على وجهة نظره (قدس سره) أيضاً،ببيان أنّ قصد الملاك إنّما يكون مقرّباً فيما إذا لم يكن مزاحماً بشيء،ولا سيما إذا كان أقوى منه،كما هو المفروض في المقام،وأمّا الملاك المزاحم فلا يترتب عليه أيّ أثر، ولا يكون قصده مقرّباً،بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام للجهات الواقعية لا للجهات الواصلة،وبما أنّ في مفروض الكلام ملاك الوجوب مزاحم بملاك الحرمة في مورد الاجتماع فلا يكون صالحاً للتقرب به.
وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول – أي القول بالامتناع-لا من ناحية الأمر وانطباق المأمور به بما هو على المأتي به في الخارج،ولا من ناحية الملاك لفرض أ نّه مزاحم بما هو أقوى منه.
وأمّا النقطة الثالثة: فيردّها أنّ العقل يرى التفاوت بين هذا الفرد وبقية الأفراد من ناحية أنّ هذا الفرد بما أ نّه ليس مصداقاً للطبيعة المأمور بها بما هي ولا تنطبق تلك الطبيعة عليه،فلا يمكن إحراز أ نّه وافٍ بغرض الطبيعة المأمور بها، ضرورة أنّ طريق إحراز وفائه بغرضها منحصر بانطباقها عليه،ومع عدم الانطباق لا طريق لنا إلى ذلك أصلاً،لوضوح أنّ عدم الانطباق كما يمكن أن يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له،يمكن أن يكون من ناحية
عدم المقتضي له،ومن الطبيعي أنّ العقل على هذا لايحكم بحصول الامتثال باتيان المجمع وسقوط الأمر.
وأمّا النقطة الرابعة: فيرد عليها أنّ الأحكام الشرعية بناءً على وجهة نظر العدلية تابعة لجهات المصالح والمفاسد الواقعية،وهي مقتضية لجعلها على نحو القضايا الحقيقية،وأمّا فعلية تلك الأحكام فهي تابعة لفعلية موضوعاتها في الخارج،ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها لا في مرحلة الجعل ولا في مرحلة الفعلية أصلاً.
وعلى هذا،فلا معنى لما أفاده (قدس سره) من التزاحم بين الجهات في مقام فعلية الأحكام،بأن يكون المؤثر في الحكم فعلاً هو الجهة الواصلة دون غيرها، ضرورة أنّ لازم ذلك هو دخل علم المكلف في فعلية الأحكام،وهذا غير معقول،لاستلزامه التصويب وانقلاب الواقع،فانّ لازمه هو أنّ المكلف إذا كان عالماً بحرمة المجمع في مورد الاجتماع وأ نّه مشتمل على مفسدة،فالحرمة فعلية، ولا أثر للوجوب عندئذ أصلاً،وإذا كان جاهلاً بحرمته عن قصور وعالماً بوجوبه وأ نّه مشتمل على مصلحة،فالوجوب فعلي،ولا أثر للحرمة،وهذا معنى دخل علم المكلف في فعلية الأحكام.وعليه فلا محالة يلزم التصويب وانقلاب الواقع،ومن الواضح جداً أنّ ذلك مما لم يلتزم به أحد حتّى هو (قدس سره) كيف فانّ لازم ذلك هو خروج المقام عن محل النزاع،ضرورة أ نّه في هذا الحال لا حرمة واقعاً ليقع الكلام في أ نّها تجتمع مع الوجوب في مورد الاجتماع أم لا.
وبكلمة اخرى:أنّ الأمر في الأحكام العقلية العملية كالحسن والقبح وإن كان كما ذكر من أ نّها تابعة للجهات الواصلة،فلا يتصف الشيء بالحسن أو القبح العقلي في الواقع،وإنّما يتصف به فيما إذا علم المكلف بجهة محسّنة أو مقبّحة
له،والسر في ذلك هو أ نّه لا واقع لحكم العقل بالحسن والقبح ما عدا إدراكه استحقاق الفاعل الذم على فعل والمدح على آخر،ومن المعلوم أنّ استحقاق الفاعل المدح أو الذم على صدور فعل منه إنّما يكون في فرض التفاته إلى الجهة المحسّنة أو المقبّحة له،وإلّا فلا يعقل اتصافه بذلك.
ولكن الأمر في الأحكام الشرعية ليس كذلك،ضرورة أ نّها تابعة للجهات الواقعية في مقام الجعل بلا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك المقام أصلاً،وفي مقام الفعلية تابعة لفعلية موضوعها وتحققه في الخارج،ولا دخل لعلم المكلف بالحكم في فعليته أصلاً،كما أ نّه لا يضرّ بها جهله،فلو كانت الأحكام الواقعية تابعة للجهات الواصلة للزم التصويب وانقلاب الواقع لا محالة،فعندئذ يخرج المقام عن محل النزاع،فانّه على هذا ليس في مورد الاجتماع حكمان ليتكلم في جواز اجتماعهما فيه وعدم جوازه،بل حكم واحد فحسب،فانّ المكلف إذا كان جاهلاً بالحرمة جهلاً عن قصور فلا حرمة في مورد الاجتماع واقعاً،بل هو متمحض في الوجوب،وإن كان العكس فبالعكس،كما هو واضح.
ولكنّك عرفت فساد هذا المبنى وأنّ المؤثر في الأحكام إنّما هو الجهات الواقعية لا غيرها،وعليه فمناط الحرمة في مورد الاجتماع بما أ نّه كان أقوى كما هو المفروض،فلا محالة يكون هو المؤثر،ولا أثر لمناط الوجوب عندئذ أصلاً، سواء أكان المكلف عالماً بالحرمة أم كان جاهلاً بها عن تقصير أو قصور،فعلى جميع التقادير لا يكون المجمع واجباً.
أمّا على التقدير الأوّل والثاني فواضح،كما اعترف هو (قدس سره) بذلك.
وأمّا على التقدير الثالث فلأنّ الجهل لا يوجب انقلاب الواقع،فالواقع باقٍ على ما كان عليه،وأنّ ملاك الوجوب بما أ نّه مزاحم بما هو أقوى منه فلا أثر له.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ ما أفاده (قدس سره) في هذه النقطة لا يرجع إلى معنىً محصّل على وجهة نظره (قدس سره) في باب الاجتماع فضلاً عن وجهة نظرنا فيه.
وأمّا النقطة الخامسة: فقد ظهر فسادها مما تقدّم من بيان ملاك باب الاجتماع وملاك باب التعارض وملاك باب التزاحم،فلا حاجة إلى الاعادة.
كما أ نّه قد تبيّن على هدى ما ذكرناه أنّ ما نسب (قدس سره) إلى المشهور من الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور لا يمكن تصديقه بوجه،وذلك لأنّ حكمهم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع مبني على القول بالجواز وتعدد المجمع ولم يعلم من حالهم أ نّهم حكموا بالصحة حتّى على القول بالامتناع ووحدة المجمع،بل المعلوم منهم عكس ذلك،يعني أ نّهم على هذا القول حكموا بالبطلان دون الصحة.هذا تمام الكلام في الجاهل.
وأمّا الكلام في الناسي للحكم أو الموضوع فيقع في مقامين:
الأوّل:فيما إذا كان نسيانه مستنداً إلى سوء اختياره،بأن يكون المكلف مقصّراً في ذلك.
الثاني:فيما لا يكون مستنداً إلى اختياره بل هو قاصر في ذلك ومعذور فيه.
أمّا الكلام في المقام الأوّل:فالظاهر بطلان عبادته وفسادها،وذلك كما إذا فرض أنّ المكلف غصب ثوباً أو داراً ثمّ نسي وصلّى في ذلك الثوب أو الدار، ففي هذا الحال وإن لم يمكن توجيه التكليف بالحرمة إليه،لاستحالة تكليف الناسي في حال نسيانه،إلّاأنّ ملاك الحرمة باقٍ وهو مبغوضية هذا التصرف،
باعتبار أ نّه منتهٍ بالأخرة إلى اختياره،فإذن لا مانع من الحكم باستحقاقه للعقاب من ناحيةٍ باعتبار أ نّه منتهٍ إلى الاختيار،وفساد عبادته من ناحية اخرى باعتبار أنّ هذا التصرف مبغوض للمولى،فلا يمكن التقرب به،وهذا واضح.
وأمّا الكلام في المقام الثاني:فالظاهر بل المقطوع به أنّ عبادته صحيحة، وذلك لفرض أنّ النسيان رافع للحرمة واقعاً،فلا يكون المجمع في هذا الحال محرّماً كذلك،ولا مبغوضاً لفرض أنّ نسيانه كان عن قصور لا عن تقصير، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ المجمع إذا كان جائزاً واقعاً فلا مانع من شمول إطلاق دليل الأمر به،ضرورة أنّ المانع من شموله لهذا الفرد هو دليل الحرمة وتقديمه على دليل الوجوب وبذلك يقيد إطلاق دليله،فإذا فرض سقوط دليله واقعاً كما في المقام،فلا مانع من شمول إطلاقه له أصلاً.
وبتعبير آخر:قد ذكرنا أنّ المعتبر في صحة العبادة أمران أحدهما أن يقصد القربة،والآخر أن يكون الفعل في نفسه قابلاً للتقرب به،والمفروض أنّ كلا الأمرين في المقام موجود.
أمّا الأوّل:فلفرض أنّ المكلف قصد القربة.وأمّا الثاني:فلفرض أنّ الفعل في نفسه سائغ واقعاً،ومعه لا مانع من التقرب به باتيانه بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة،لفرض أ نّها تشمله بعد سقوط دليل المقيّد لها واقعاً،وهذا ظاهر.
ومن هنا حكمنا بصحة الوضوء في الماء المغصوب نسياناً إذا كان عن قصور، وذلك لفرض أنّ التصرف فيه جائز واقعاً،ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له.
فالنتيجة: أنّ ما نسب إلى المشهور من صحة الصلاة في الدار المغصوبة في
حال نسيان الحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور متين جداً ولا مناص عنه، ولكن ما نسب إليهم من صحة الصلاة فيها في حال الجهل فقد عرفت أ نّه غير تام.
لحدّ الآن قد تبيّن أنّ ما أفاده (قدس سره) في هذا الأمر من الثمرة لا يمكن إتمامه بدليل،بل لا يترقب صدوره من مثله (قدس سره).
وبعد ذلك نقول: إنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1قد اختار في المسألة القول بالامتناع،ورتّب ذلك القول على بيان مقدّمات:
الاُولى: ما لفظه:أ نّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر،ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحدٍ في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان،وإن لم يكن بينهما مضادة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة،لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ إليها كما لا يخفى،فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال،بل من جهة أ نّه بنفسه محال،فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً.
ملخّص هذه المقدّمة:هو أنّ المضادة والمعاندة بين الأحكام الخمسة إنّما هي في مرتبة فعليتها وبلوغ تلك الأحكام حدّ البعث والزجر الحقيقيين،فلا مضادة بينها في مرتبة الانشاء فضلاً عن مرتبة الاقتضاء،واستحالة الجمع بين اثنين منها في هذه المرتبة في شيء واحد في زمانٍ من باب استحالة اجتماع الضدّين، فلذا لا تختص بمذهب دون آخر،بل هو محال مطلقاً حتّى على مذهب الأشعري المجوّز للتكليف بالمحال،فانّ هذا في نفسه محال.
الثانية: ما نصّه:أ نّه لا شبهة في أنّ متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله،لا ما هو اسمه،وهو واضح، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه بحيث لولا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً،ويكون خارج المحمول كالملكية والزوجية والرقية والحرّية والمغصوبية إلى غير ذلك من الاعتبارات والاضافات،ضرورة أنّ البعث ليس نحوه والزجر لا يكون عنه،وإنّما يؤخذ في متعلق الأحكام آلةً للحاظ متعلقاتها،والاشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها،لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله.
مردّ هذه المقدّمة إلى أنّ الأحكام الشرعية لم تتعلق بالأسماء والألفاظ،ولا بالعناوين الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلاً،وإنّما تتعلق تلك الأحكام بأفعال المكلفين الصادرة عنهم خارجاً،ضرورة أنّ الغرض سواء أكان مصلحة أو مفسدة أم كان غيرهما لا يترتب على الأسماء والألفاظ المجردة، ولا على العناوين الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها،وإنّما يترتب على تلك الأفعال فحسب،وهذا ظاهر.
الثالثة: ما لفظه:أ نّه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون،ولا تنثلم به وحدته،فانّ المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة،بل بسيط من جميع الجهات، ليس فيه حيث غير حيث وجهة مغايرة لجهته أصلاً،كالواجب (تبارك وتعالى) فهو على بساطته ووحدته وأحديته تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية،له الأسماء الحسنى والأمثال العليا،لكنّها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد: عباراتنا شتّى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
ملخّص هذه المقدّمة:هو أنّ تعدد العنوان بشتّى أنواعه وأشكاله لا يوجب تعدد المعنون في الخارج،ضرورة أ نّه لا مانع من انطباق عناوين متعددة على معنون واحد خارجاً أصلاً،ولا يوجب تعدده أبداً،كانطباق عنوان الأب والابن والأخ والزوج والعالم والقادر وما شاكل ذلك على شخص واحد وذات فاردة كزيد مثلاً،بل تنطبق على ذات واحدة بسيطة من تمام الجهات كذاته تعالى شأنه،فانّ مفاهيم الصفات العليا الذاتية كالعالم والقادر ونحوهما،والصفات الفعلية كالخالق والرازق والمتكلم والمريد وما شاكل ذلك،تنطبق على ذاته الأحدية،مع أ نّها بسيطة في غاية البساطة.نعم،تلك الذات البسيطة باعتبار انكشاف الأشياء لديها عالم،وباعتبار قدرتها على التكوين والايجاد قادر، وباعتبار خلقها الأشياء خالق،وباعتبار رزقها العالم رازق…وهكذا، فالاختلاف والتعدد إنّما هو في الاضافة لا في الذات،كما هو واضح،وكيف كان،فتعدد العنوان لا يستدعي تعدد المعنون بحسب الوجود الخارجي.
الرابعة: ما هذا نصه:أ نّه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلّاماهية واحدة وحقيقة فاردة لايقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلّاتلك الماهية، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقية كانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده،فيكون الواحد وجوداً واحداً ماهيةً وذاتاً لا محالة،فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الأمر والنهي،إلّاأ نّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهيةً وذاتاً،ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة كما توهّم في الفصول،كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدده،ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له،وأنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة كانت لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها،وقعت
جزءاً لصلاة أو لا،كانت تلك الدار مغصوبة أو لا.
ولنأخذ بتوضيح هذه المقدّمة بما يلي:قد يتخيل في المقام كما عن الفصول 1أنّ القول بالامتناع والجواز في مسألتنا هذه يرتكزان على القول بأصالة الوجود وأصالة الماهية،ببيان أ نّه لا شبهة في أنّ ماهية الصلاة غير ماهية الغصب،فهما ماهيتان متباينتان يستحيل اتحادهما في الخارج ودخولهما تحت ماهية اخرى،وعلى هذا فإن قلنا بأصالة الماهية في تلك المسألة،فبما أنّ مناط تأصلها وتحصّلها نفسها في الخارج لا وجودها،لأنّ الفرض أ نّه لا واقع موضوعي له ولا مطابق له في الخارج والمطابق فيه إنّما هو للماهية،فلا محالة يكون متعلق النهي غير متعلق الأمر تحصّلاً،ضرورة استحالة اتحاد الماهيتين المتحصلتين خارجاً ودخولهما تحت ماهية ثالثة،فإذن لا مناص من القول بالجواز.وأمّا إن قلنا بأصالة الوجود في تلك المسألة،فبما أنّ اتحاد الماهيتين في الوجود الخارجي بمكان من الوضوح كاتحاد الماهية الجنسية مع الماهية الفصلية،فلا مناص من القول بالامتناع،وذلك لأنّ ماهية الصلاة وإن كانت مغايرة لماهية الغصب بما هما ماهيتان،إلّاأ نّهما متحدتان في الخارج وتوجدان بوجود فارد،ومن المعلوم أنّ وجوداً واحداً لايعقل أن يكون مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
وإن شئت فقل:إنّ المحقق صاحب الفصول (قدس سره) قد ابتنى القول بالامتناع في المسألة على القول بأصالة الوجود باعتبار أنّ الوجود في مورد الاجتماع واحد،والقول بالجواز على القول بأصالة الماهية باعتبار أنّ الماهية في مورد الاجتماع متعددة.
ولكن هذا الخيال خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،وذلك لأنّ
ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات المتأصلة المقولية لتدخل في محل النزاع في تلك المسألة،أعني مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية،بل هما من الماهيات الانتزاعية والعناوين الاعتبارية التي لا مطابق لها في الخارج ما عدا منشأ انتزاعها،سواء فيه القول بأصالة الوجود أو الماهية،فإذن لا يجري فيهما النزاع في تلك المسألة،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:قد عرفت أ نّه لا مانع من انطباق عناوين متعددة على معنون واحد وجوداً وماهيةً.
ومن ناحية ثالثة:أنّ محل النزاع في تلك المسألة إنّما هو في الماهيات المتأصلة المقولية.
ومن ناحية رابعة:أ نّه لايعقل أن يكون لوجود واحد ماهيتان حقيقيتان أو حدّان كذلك،بداهة أنّ لوجود واحد ماهية واحدة أو حدّ كذلك،وهذا واضح.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أنّ مسألتنا هذه أجنبية عن تلك المسألة بالكلّية ولا تبتني عليها أصلاً،وذلك لأنّ المجمع إذا كان له وجود واحد فلا محالة يكون له ماهية واحدة أو حدّ كذلك،ولا يعقل أن تكون له ماهيتان حقيقيتان أو حدّان كذلك،سواء فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية، ولا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً،ضرورة أنّ الوجود الواحد لا يعقل أن يكون وجوداً لماهيتين متباينتين،كيف فانّه إن كان وجوداً لهذه الماهية،فلا يمكن أن يكون لتلك وبالعكس.
وأمّا إذا فرض أنّ للمجمع في مورد الاجتماع وجودين فلا محالة تكون له ماهيتان،بداهة أنّ لكل وجود ماهية واحدة،فلا يعقل أن تكون الماهية الواحدة ماهية لوجودين،وعليه فلا مناص من القول بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر،ومن
الواضح أ نّه لا فرق في ذلك بين القول بأصالة الوجود في تلك المسألة وأصالة الماهية فيها.
فالنتيجة: أنّ المفروض في المسألة بما أنّ المطابق في مورد الاجتماع واحد، سواء أكان ذلك المطابق مطابقاً للماهية بالذات وللوجود بالعرض،بناءً على أصالة الماهية،أم كان بالعكس بناءً على أصالة الوجود،فلا يعقل فيه اجتماع الأمر والنهي وهذا واضح.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكر في الفصول 1أيضاً من ابتناء القول بالجواز والامتناع على تعدد وجود الجنس والفصل وعدمه،بدعوى أنّ مورد الأمر إذا كان الماهية الجنسية،ومورد النهي الماهية الفصلية،فإن كانت الماهيتان متحدتين في الخارج وموجودتين بوجود واحد،فلا مناص من القول بالامتناع، وإن كانتا متعددتين فيه بحسب الوجود فلا مناص من القول بالجواز.
وجه الظهور: ما عرفت آنفاً من أنّ ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية لتكون إحداهما جنساً والاُخرى فصلاً،بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلاً ليقال إنّهما موجودتان فيه بوجود واحد أو بوجودين.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ ماهية الصلاة وماهية الغصب من الماهيات الحقيقية المقولية،إلّاأنّ من الواضح جداً أنّ ماهية الصلاة ليست جنساً وماهية الغصب ليست فصلاً مقوّماً لها،ضرورة أنّ الماهية الفصلية لا تنفك عن الماهية الجنسية،فانّ نسبتها إليها نسبة الصورة إلى المادة،ومن المعلوم استحالة انفكاك الصورة عن المادة،مع أنّ الغصب ينفك عن الصلاة بكثير،بحيث إنّ
نسبة مادة اجتماعهما إلى مادة افتراقهما نسبة الواحد إلى الاُلوف،وعليه فكيف يكون الغصب فصلاً والصلاة جنساً له،كما أنّ توهم كون الحركة في مورد الاجتماع بما هي حركة جنساً والصلاتية والغصبية فصلان لها واضح الفساد، وذلك لاستحالة أن يكون لشيء واحد فصلان مقوّمان،فانّ فعلية الشيء إنّما هي بفصله وصورته،ومن الواضح أ نّه لا يعقل أن يكون لشيء واحد صورتان.
على أ نّك عرفت أنّ مفهوم الصلاة والغصب من المفاهيم الانتزاعية،ومن الطبيعي أنّ المفهوم الانتزاعي لا يصلح أن يكون فصلاً،كيف فانّ فعلية الشيء ووجوده إنّما هي بفصله،والمفروض أنّ الأمر الانتزاعي لا وجود له في الخارج،ومعه لا يعقل كونه فصلاً.
فالنتيجة:هي أ نّه لا أصل لابتناء القول بالجواز والامتناع في هذه المسألة على كون التركيب بين الجنس والفصل هل هو اتحادي أو انضمامي،ضرورة أ نّه لا صلة لإحدى المسألتين بالاُخرى أبداً.على أ نّه لا إشكال في كون التركيب بينهما اتحادياً.
نعم،قد يقال: إنّ الأمر لو تعلق بالجنس في مقام والنهي تعلق بالفصل، يبتني القول بالجواز والامتناع على كون التركيب بينهما اتحادياً أو انضمامياً،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع،لاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد،وعلى الثاني فلا مانع من القول بالجواز،لفرض أنّ متعلق الأمر عندئذ غير متعلق النهي وإن كانا متلازمين في مورد الاجتماع بحسب الوجود الخارجي،ويحتمل أن يكون غرض المحقق صاحب الفصول (قدس سره) أيضاً ذلك،لا أنّ غرضه هو أنّ الأمر في خصوص الصلاة والغصب كذلك،وكيف كان فهذا أيضاً غير تام،وذلك لأنّ المسألة على هذا الشكل تدخل في كبرى
مسألة المطلق والمقيد،فيجري عليهما أحكامها من حمل المطلق على المقيد.هذا مضافاً إلى أنّ الجنس والفصل متحدان في الخارج وموجودان بوجود واحد، فلا يعقل أن يكونا موجودين بوجودين فيه.
وبعد ذلك نقول: إنّ النتيجة على ضوء هذه هي أ نّه لا مناص من القول بالامتناع،لفرض أنّ الأحكام متضادة فلايمكن اجتماع اثنين منها في شيء واحد بمقتضى المقدّمة الاُولى،ولفرض أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً بمقتضى المقدّمة الثانية والثالثة والرابعة.
ثمّ ذكر أ نّه قد يتوهّم أنّ محذور اجتماع الضدّين في شيء واحد يرتفع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد،ببيان أنّ الطبائع من حيث هي هي التي ليست إلّاذاتها وذاتياتها وإن كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام الشرعية،إلّاأ نّها مقيدة بالوجود الخارجي-على نحو كان القيد وهو الوجود خارجاً والتقيد به داخلاً-قابلة لأن تتعلق بها الأحكام،وعلى هذا فلا يكون متعلقا الأمر والنهي متحدين أصلاً،لا في مقام تعلق الأمر والنهي،ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الأمر باتيان المجمع بسوء الاختيار.
أمّا في المقام الأوّل:فلتعدد متعلقهما بما هما متعلقان وإن كانا متحدين في الوجود،إلّاأ نّك عرفت أنّ الوجود قيد خارج عن المتعلق والتقيد به داخل.
وأمّا في المقام الثاني:فلسقوط أحدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان،إذن فلا اجتماع بين الحكمين في واحد.
ولكن هذا التوهّم خاطئ،وذلك لما سبق 1من أنّ مورد الحكم إنّما هو فعل المكلف بواقعه وحقيقته الصادرة منه،لا بعنوانه العارض عليه،وقد عرفت
أنّ الفعل في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً،وأنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدده،والمفروض أنّ الصلاة والغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية لتكونا متعلقتين للأمر والنهي،بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج،وإنّما تؤخذ في متعلقات الأحكام بما هي حاكيات وإشارات إلى ما هو المتعلق في الواقع،لا بما هي على حيالها واستقلالها،هذا تمام ما أفاده (قدس سره) في وجه القول بالامتناع،ولعلّه أحسن ما قيل في المقام.
ولنأخذ بالنقد على بعض تلك المقدّمات وبذلك تبطل النتيجة التي أخذها (قدس سره) من هذه المقدّمات،وهي القول بالامتناع مطلقاً،بيان ذلك:
أمّا المقدّمة الاُولى: فقد ذكرنا غير مرّة أنّ حديث تضاد الأحكام بعضها مع بعضها الآخر في نفسها وإن كان أمراً معروفاً بين الأصحاب قديماً وحديثاً، إلّا أ نّه مما لا أصل له،وذلك لما حققناه من أنّ الأحكام الشرعية امور اعتبارية فلا واقع لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،ومن الواضح جداً أ نّه لا مضادة بين نفس اعتباري الوجوب والحرمة ذاتاً،بداهة أ نّه لا تنافي بين نفس اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف وبين اعتباره محرومية المكلف عنه بالذات،مع قطع النظر عن مبدئهما ومنتهاهما،فانّ الاعتبار خفيف المؤونة،فلا مانع من اعتبار وجوب شيء وحرمته معاً،والوجه في ذلك:هو أنّ المضادة إنّما تكون طارئة على الموجودات التكوينية الخارجية كالبياض والسواد والحركة والسكون وما شاكل ذلك ومن صفاتها،وأمّا الاُمور الاعتبارية فالمفروض أ نّه لا واقع لها ما عدا اعتبار المعتبر،ليكون بعضها مضاداً مع بعضها الآخر.
نعم،المضادة بين الأحكام من ناحيتين:
الاُولى:من جهة المبدأ،أعني اشتمال الفعل على المحبوبية والمبغوضية.
الثانية:من جهة المنتهى،أعني مرحلة الامتثال والاطاعة.
أمّا من ناحية المبدأ:فلأنّ الوجوب والحرمة بناءً على وجهة نظر مذهب العدلية كاشفان عن المحبوبية والمبغوضية في متعلقه،وعليه فلا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد،وذلك لاستحالة أن يكون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً معاً،فمن هذه الناحية لايمكن اجتماعهما في شيء واحد وفي زمان فارد لا بالذات والحقيقة.
فالنتيجة أنّ المضادة بين الوجوب والحرمة إنّما هي بالعرض والمجاز،فانّها في الحقيقة بين المحبوبية والمبغوضية والمصلحة الملزمة والمفسدة كذلك،كما هو واضح.
وأمّا من ناحية المنتهى:فلأنّ اجتماعهما في شيء واحد يستلزم التكليف بالمحال وبغير المقدور،لفرض أنّ المكلف في هذا الحال غير قادر على امتثال كليهما معاً.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ المضادة بين الأحكام الشرعية إنّما هي في مرتبة فعليتها وبلوغها حدّ البعث والزجر،مبني على نقطة واحدة وهي أن تكون الأحكام من قبيل الأعراض الخارجية،فكما أنّ المضادة بين الأعراض إنّما كانت في مرتبة فعليتها ووجودها في الخارج،لوضوح أ نّه لا مضادة بين السواد والبياض قبل فعليتهما ووجودهما فيه…وهكذا،فكذلك المضادة بين الأحكام الشرعية إنّما تكون في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج،فلا مضادة بين الوجوب والحرمة قبل وجودهما فيه وبلوغهما حدّ البعث والزجر.
ولكن تلك النقطة خاطئة جداً،وذلك لأنّ الأحكام الشرعية ليست من سنخ الأعراض الخارجية لتكون المضادة بينها في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج،لما ذكرناه من أنّ المضادة صفة عارضة على الموجودات الخارجية،
فلا مضادة بينها قبل وجوداتها،بل هي من الاُمور الاعتبارية التي ليس لها واقع موضوعي،وقد تقدّم أ نّه لا مضادة بينها بالذات والحقيقة،والمضادة بينها إمّا من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى.أمّا من ناحية المبدأ،فالمضادة بينها إنّما هي في مرتبة جعلها،فلا يمكن جعل الوجوب والحرمة على شيء واحد، ومن الواضح أنّ المضادة في هذه المرتبة لا تتوقف على فعليتهما وبلوغهما حدّ البعث والزجر،ضرورة أنّ المضادة بين نفس الجعلين،فلا يمكن تحقق كليهما معاً.وأمّا من ناحية المنتهى،فالمضادة بينها وإن كانت في مرتبة فعليتها،إلّا أ نّها بالعرض والمجاز،فانّها ناشئة عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في مقام الامتثال وإلّا فلا مضادة بينها أصلاً.
وعلى الجملة:فجعل الوجوب والحرمة لشيء واحد وجوداً وماهيةً مستحيل على جميع المذاهب والآراء،بداهة أنّ استحالة اجتماع الضدّين في شيء واحد لا تختص بوجهة نظر دون آخر،ولا تتوقف استحالة ذلك على فعليتهما أبداً وهذا ظاهر.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ التضاد بين الأحكام إنّما هو في مرتبة فعليتها دون مرتبة الانشاء لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً كما لا يخفى.
وأمّا المقدّمة الثانية: فالأمر كما أفاده (قدس سره) من أنّ الأحكام لاتتعلق بالعناوين الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج بحيالها واستقلالها.نعم،تؤخذ تلك العناوين في متعلقات الأحكام لا بما هي هي،بل بما هي معرّفة ومشيرة إلى ما هو المتعلق في الواقع،كما أ نّها لا تتعلق بالأسماء والألفاظ كذلك،وإنّما تتعلق بطبيعي الأفعال الصادرة عن المكلفين في الخارج.
وأمّا المقدّمة الرابعة: فالأمر أيضاً كما أفاده (قدس سره) والوجه فيه ما تقدّم من استحالة أن يكون لشيء واحد ماهيتان في عرض واحد أو حدّان
كذلك.نعم،يمكن أن يكون له ماهيات طولاً باعتبار أجناسه العالية والمتوسطة والقريبة،ولكن لا يمكن أن يكون له ماهيتان نوعيتان عرضاً،فانّ لازم ذلك هو أن يكون شيء واحد متفصّلاً بفصلين يكون كل منهما مقوّماً له،ومن الواضح استحالة ذلك كاستحالة دخول شيء تحت مقولتين من المقولات العشرة، ضرورة أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة،فيستحيل اندراج مقولتين منها تحت مقولة واحدة،كما أ نّه يستحيل أن يكون شيء واحد مندرجاً تحت مقولتين منها،فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن:أ نّه كما يستحيل صدق المقولتين على شيء واحد كذلك يستحيل تفصّل شيء واحد بفصلين ولو كانا من مقولة واحدة.
وأمّا المقدّمة الثالثة: وهي أنّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون،فغير تامة،وذلك لأنّ هذه الكبرى لا تصدق إلّاعلى نحو الموجبة الجزئية،ومعها لاتنتج النتيجة المزبورة وهي القول بالامتناع،لفرض أ نّه (قدس سره) لم يبرهن أنّ المعنون واحد في جميع موارد الاجتماع،وغاية ما برهن أنّ تعدد العنوان لايقتضي تعدد المعنون،ومن المعلوم أنّ عدم الاقتضاء أعم من أن يكون واحداً أو متعدداً،فإذن لا بدّ من ملاحظة المجمع في مورد الاجتماع في نفسه،ومجرد تعدد العنوان كما لا يكشف عن تعدد المعنون فيه،كذلك لا يكشف عن وحدته، فلا أثر له بالاضافة إلى تعدده ووحدته أصلاً.
ومن هنا استشكل شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بأ نّها لا تتم على إطلاقها، وذلك لأنّ العنوانين المنطبقين على شيء في الخارج إن كانا من العناوين الانتزاعية والمفاهيم الاعتبارية التي تنتزع من الجهات التعليلية ولا واقع موضوعي لها،فمن الواضح أنّ تعددها لا يوجب تعدد المعنون أبداً،ومن هنا
قال (قدس سره):إنّا قد ذكرنا في بحث المشتق أنّ صدق كل عنوان اشتقاقي على ذات معلول لقيام المبدأ بها بنحو من أنحاء القيام.
وعلى هذا الضوء فلا محالة تكون جهة الصدق والانطباق في صدق العناوين الاشتقاقية على ذات واحدة،وانطباق تلك العناوين عليها تعليلية لا تقييدية، إذ المفروض أنّ المعنون واحد ولا تعدد فيه أصلاً لا وجوداً ولا ماهية،والتعدد إنّما هو في الأعراض القائمة بذلك الموجود الواحد التي توجب انتزاع تلك العناوين في الخارج،فصدق كل عنوان معلول لعرض قائم به،مثلاً صدق عنوان العالم عليه معلول لقيام العلم به،وصدق عنوان العادل عليه معلول لقيام العدل به،وصدق عنوان الشجاع معلول لقيام الشجاعة…وهكذا.وعليه فيكون صدق كل من هذه العناوين على هذا الشخص الواحد معلولاً لعلّة غير ما هو علّة لصدق الآخر،كما هو واضح.
فالنتيجة: هي أنّ الجهات في صدق العناوين الاشتقاقية بما أ نّها جهات تعليلية فتعددها لايوجب تعدد المعنون في الخارج،ومن هنا يكون التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين كالأبيض والحلو والمصلي والغاصب وما شاكلهما في مورد الاجتماع اتحادياً،لفرض أنّ المعنون واحد وجوداً وماهيةً،والتعدد إنّما يكون في العرضين القائمين به.
وأمّا إذا كان العنوانان من العناوين الذاتية كالعلم والشجاعة والقدرة وما شابه ذلك،فمن الطبيعي أنّ تعددها يوجب تعدد المعنون في الخارج،ضرورة أنّ الجهات فيها تقييدية،فلا يعقل اتحاد العنوانين منها خارجاً،ولا يمكن أن يكون التركيب بينهما اتحادياً،بداهة أنّ التركيب الاتحادي إنّما يعقل بين جزأين يكون أحدهما قوّة محضة والآخر فعلية كذلك كالمادة والصورة،وأمّا الاتحاد بين أمرين فعليين فلا يعقل،لوضوح أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى.
وعلى هذا الضوء فلا محالة تكون جهة الصدق في صدق كل من تلك المبادئ جهة تقييدية،ومن الواضح أنّ الجهة التقييدية توجب تعدد المعنون خارجاً، مثلاً ما ينطبق عليه عنوان العلم غير ما ينطبق عليه عنوان العدل في الخارج، لاستحالة اتحادهما فيه،غاية الأمر أ نّهما يكونان متلازمين في الوجود في مورد الاجتماع،والوجه في ذلك:هو أنّ المبدأ المأخوذ بشرط لا بما أ نّه ماهية واحدة وحقيقة فاردة فلا محالة يكون محفوظاً بتمام ماهيته أينما سرى وتحقق،ضرورة أنّ الصلاة الموجودة في الدار المغصوبة متحدة في الماهية والحقيقة مع الصلاة الموجودة في غيرها،وكذا البياض الموجود في الثلج مثلاً في المكان المغصوب متحد في الماهية والحقيقة مع البياض الموجود في العاج أو نحوه،وكذا الحال في بقية المبادئ منها الغصب فانّه ماهية واحدة أينما سرى وتحقق،أي سواء أتحقق في ضمن الصلاة أم في ضمن فعل آخر.
وعلى هذا الأصل فلا محالة يكون التركيب بينهما-أي بين الصلاة والغصب مثلاً-في مورد الاجتماع انضمامياً،نظير التركيب بين الهيولى والصورة، ويستحيل اتحادهما في الخارج،ليكون التركيب بينهما اتحادياً،لما عرفت من استحالة التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين.
وبكلمة اخرى:أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى وهي مقولة الأين،ومن المعلوم أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام الذات والحقيقة فيستحيل اندراج مقولتين منها تحت مقولة،فإذا كانت الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى يستحيل اتحادهما في الوجود الخارجي واندراجهما تحت مقولة ثالثة.
وقد يتخيل في المقام أ نّهما يصدقان على حركة واحدة شخصية،وتلك الحركة الواحدة مصداق للصلاة والغصب معاً،وعلى هذا فيكون التركيب بينهما
في مورد الاجتماع اتحادياً.
ولكن هذا الخيال خاطئ جداً،والوجه فيه:هو أنّ ذلك يستلزم تفصل الجنس الواحد-أعني الحركة-بفصلين في عرض واحد وهو محال،ضرورة أ نّه لا يمكن كون الحركة فيها جنساً لهما وما به اشتراكهما،وإلّا لزم ذلك المحذور.
أضف إلى ذلك:أنّ الأعراض بسائط خارجية،فما به الاشتراك في كل مقولة منها عين ما به الامتياز في تلك المقولة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ الحركة ليست مقولة برأسها في قبال تلك المقولات،بداهة أنّ نسبة الحركة إلى المقولات التي تقبل الحركة نسبة الهيولى إلى الصور،فكما أنّ الهيولى لا توجد في الخارج إلّافي ضمن صورة،فكذلك لا توجد الحركة إلّافي ضمن مقولة،ومن الواضح جداً أنّ الحركة في أيّة مقولة تحققت فهي عين تلك المقولة،وليست أمراً زائداً عليها،سواء أكانت في مقولة الجوهر على القول بالحركة الجوهرية أم كانت في مقولة الكم أو الكيف أو نحو ذلك،ضرورة أنّ الحركة في مقولة الجوهر ليست شيئاً زائداً عليها،بل هي عينها وحقيقتها، وكذا الحركة في الكم والكيف والأين والوضع،فانّها لا تزيد على وجودها،بل هي عينها خارجاً.
وعلى هذا الضوء فالحركة الموجودة في ضمن الصلاة لا محالة تكون مباينة للحركة الموجودة في ضمن الغصب،لفرض أنّ الصلاة من مقولةٍ والغصب من مقولة اخرى،وعليه ففرض كون الحركة الواحدة مصداقاً لهما معاً يستلزم اتحاد المقولتين المتباينتين في الوجود،وهو محال.فإذن لا وجه لدعوى أنّ الحركة الموجودة في الدار المغصوبة كما هي محققة لعنوان الغصب،كذلك هي معروضة للصلاة فيها،فلا تستلزم وحدة الحركة فيها اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة ثالثة،وذلك لما عرفت آنفاً من أنّ الحركة ليست مقولة برأسها،بل
هي توجد في ضمن المقولات وتكون عينها خارجاً،وعليه فوحدتها في مورد الاجتماع وكونها كذلك مصداقاً لهما لا محالة تستلزم اتحاد المقولتين،كما هو واضح.
وبكلمة اخرى:أنّ جهة الصدق في العناوين الاشتقاقية بما أ نّها جهة تعليلية فلا يوجب تعددها تعدد المعنون في الخارج،وجهة الصدق في المبادئ بما أ نّها جهة تقييدية،فلا محالة تعددها يوجب تعدد المعنون فيه،بيان ذلك:
أمّا في الاُولى: فلأنّ معروض المبادئ وموضوعها في الخارج يختلف وجوداً وماهيةً باختلاف الموارد،فكما أنّ وحدة العرض نوعاً لا تقتضي وحدة معروضه كذلك،فالبياض يعرض للثلج والعاج وغيرهما،كذلك تعدد العرض لايقتضي تعدد معروضه،فيمكن قيام أعراض متعددة بمعروض شخصي واحد، مثلاً الذات التي يقوم بها المبدأ في مورد اجتماع الحلاوة والبياض كالسكر ذات، وفي مورد الافتراق من ناحية الحلاوة ذات اخرى كالدبس المغايرة للاُولى، وفي مورد الافتراق من ناحية البياض ذات ثالثة كالعاج…وهكذا.
وعلى الجملة:فالمعروض لايتعدد بتعدد المبادئ القائمة به،ولذا يكون واحداً في مورد اجتماع الحلاوة والبياض ولا يتعدد بتعددهما.
وعلى هذا الضوء فالمجمع للعنوانين الاشتقاقيين اللذين بينهما عموم من وجه لا محالة يكون واحداً كالمجمع لعنواني الحلو والأبيض والمصلي والغاصب والمتحرك والساكن والعالم والعادل وما شاكل ذلك،لفرض أنّ المعنون في مورد الاجتماع واحد والتعدد إنّما هو في العرض القائم به،وقد عرفت أنّ تعدد العرض لا يوجب تعدد المعروض.
وأمّا في الثانية: فلوضوح أنّ كل مبدأ من مبادئ الاشتقاق مباين لمبدأ آخر منها وجوداً وماهيةً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه من الطبيعي
أنّ ذلك المبدأ بتمام ذاته وذاتياته محفوظ في جميع موارد تحققه وسريانه،ضرورة أنّ الحلاوة الموجودة في محل الاجتماع متحدة في الماهية مع الحلاوة الموجودة في محل الافتراق،بداهة أنّ جهة صدق طبيعي الحلاوة على الحصة منه الموجودة في محل الافتراق ليست مغايرةً لجهة صدقه على الحصة منه الموجودة في محل الاجتماع،بل هي واحدة وهي أنّ هذه الحصة كتلك عين الطبيعي في الخارج، لفرض أنّ وجوده فيه عين وجود أفراده وحصصه،وصدقه على جميع أفراده بملاك واحد وبجهة فاردة،من دون فرق في ذلك بين الفرد منه الموجود في محل الافتراق والفرد منه الموجود في محل الاجتماع،وهذا واضح.وكذا الصلاة الموجودة في المكان المغصوب متحدة في الماهية مع الصلاة الموجودة في المكان المباح،والغصب الموجود في ضمن الصلاة متحد في الماهية مع الغصب الموجود في ضمن فعل آخر…وهكذا،لوضوح أنّ الحقيقة الواحدة لا تختلف في الصدق باختلاف وجوداتها ومواردها كما هو ظاهر.
وعلى هذا يترتب أنّ التركيب بين الصلاة والغصب أو البياض والحلاوة في مورد اجتماعهما انضمامي،نظير التركيب بين الهيولى والصورة،لفرض أنّ الصلاة الموجودة في محل الاجتماع بعينها هي الصلاة الموجودة في محل الافتراق،وكذا الحال في الغصب،وعليه فلا يعقل أن تتحد الصلاة مع الغصب،وإلّا لزم أن لا تكون الصلاة الموجودة في محل الاجتماع فرداً لطبيعة الصلاة،وكذا الغصب الموجود فيه ليس فرداً لطبيعته،وهذا خلف.
نعم،يفترق التركيب الانضمامي بين العرضين عن التركيب الانضمامي بين الهيولى والصورة من ناحية أنّ نسبة الهيولى إلى الصورة نسبة القوّة إلى الفعل، فانّ الهيولى قوّة محضة والصورة فعلية محضة،وهذا بخلاف نسبة العرض إلى معروضه،فانّها نسبة الشخص إلى المتشخص،لا نسبة القوّة إلى الفعل،لفرض
أنّ كلاً من العرض ومعروضه فعلي في الخارج وموجود فيه،غاية الأمر أ نّه يتشخص بتشخص معروضه،مثلاً الصلاة كما تتشخص بوقوعها في غير الدار المغصوبة كذلك تتشخص بوقوعها فيها،وكذا الغصب كما يتشخص في ضمن غير الصلاة قد يتشخص في ضمنها.
فالنتيجة قد أصبحت من جميع ما ذكرناه:أنّ التركيب بين عنوانين اشتقاقيين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه في مورد الاجتماع تركيب اتحادي،بمعنى أنّ معروضهما في الخارج واحد وجوداً وماهيةً،وإن كان منشأ انتزاعهما متعدداً فيه باعتبار أ نّه لا يمكن انتزاع مفهومين متباينين من شيء واحد.وأمّا التركيب بين المبدأين اللذين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه في مورد الاجتماع تركيب انضمامي لا محالة،بداهة استحالة انتزاع مفهومين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه من موجود واحد بجهة واحدة،وإلّا لكانا متساويين،فانّ ملاك التساوي هو أن يكون صدق كل منهما على أفراده متحداً مع صدق الآخر على أفراده في ملاك الصدق وجهته،وهذا بخلاف المفهومين اللذين تكون النسبة بينهما عموماً من وجه،فانّ جهة الصدق في كل منهما مغايرة لجهة الصدق في الآخر.
وعلى الجملة:فالمفهومان لا يخلوان من أن تكون جهة الصدق في كل منهما على جميع أفراده واحدة،أو أن تكون متعددة،وعلى الفرض الثاني فامّا أنّ كل ما يصدق عليه أحدهما مندرج في الآخر ومن مصاديقه وأفراده،وإمّا أن لا يكون كذلك،وعلى الأوّل لا محالة تكون النسبة بينهما التساوي،لفرض أ نّه يستحيل صدق أحدهما على شيء بدون صدق الآخر عليه،وعلى الثاني تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق،لفرض عدم مادة الافتراق من جانب أحدهما.وعلى الثالث العموم والخصوص من وجه،لفرض وجود مادة الافتراق
من كلا الجانبين معاً.
ومن هنا يظهر أ نّه لا تعقل النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين،بداهة استحالة اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة،وهذا واضح.
ومن ضوء هذا البيان قد اتّضح أنّ القول بالجواز في المسألة يرتكز على أن تكون الجهتان تقييديتين في مورد الاجتماع،والمفروض أ نّهما كذلك،وعليه فلا محالة يكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه،غاية الأمر أ نّهما متلازمان وجوداً في الخارج،وقد مرّ في غير مورد أنّ الصحيح هو عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر خصوصاً إذا كان التلازم بينهما اتفاقياً كما في المقام،كما أنّ القول بالامتناع فيها يرتكز على أن تكون الجهتان تعليليتين فانّه على هذا لا محالة يكون المجمع واحداً وجوداً وماهية،ومعه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
ولأجل ذلك أشكل (قدس سره) على المحقق صاحب الكفاية بأنّ القول بالامتناع في المسألة يبتني على أن تكون الجهتان في مورد الاجتماع تعليليتين، بأن يكون صدق كل منهما معلولاً لجهة خاصة قائمة بالمجمع،ليكون التركيب بينهما اتحادياً لا انضمامياً،ولكن عرفت أنّ الجهتين في محل الكلام تقييديتان، وعلى هذا فلا مناص من القول بالجواز.
ثمّ إنّ المراد من التقييد في المقام غير التقييد في باب المطلق والمقيد،حيث إنّ التقييد هناك بمعنى تضييق دائرة المطلق وعدم سريان الحكم المتعلق به إلى جميع أفراده،وأمّا التقييد في المقام بمعنى التوسعة في متعلق الحكم واندراجه تحت ماهيتين،ضرورة أنّ معنى كون الجهة في مورد الاجتماع تقييدية هو أ نّها توجب تعدد المجمع فيه واندراجه تحت الماهيتين،فنتيجة التقييد في كل من المقامين على عكس نتيجة التقييد في المقام الآخر،وكيف كان فالجهتان بما أ نّهما
في مورد الكلام تقييديتان،فلا بدّ من الالتزام بجواز الاجتماع بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللّازم.ثمّ قال (قدس سره) والعجب منه أ نّه لم يتعرض لهذه الجهة في كلامه في المقام أصلاً لا نفياً ولا إثباتاً.
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) لحدّ الآن:هي أ نّه لا بدّ من القول بالجواز في المسألة،فانّ لازم كون جهة الصدق في صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد الاجتماع تقييدية هو تعدد المجمع وجوداً وماهية،ومعه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي،ولا يلزم منه اجتماع الضدّين أصلاً،وقد برهن على كون الجهة فيهما تقييدية بأنّ ماهية واحدة لا تختلف باختلاف وجوداتها وافرادها في الخارج،فانّ صدقها على جميعها بملاك واحد،من دون فرق بين الفرد الموجود في مورد الاجتماع والفرد الموجود في مورد الافتراق،كما عرفت.
عدّة نقاط فيما أفاده (قدس سره):
الاُولى: أنّ جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية جهة تعليلية، ولأجل ذلك لا مانع من انطباق عنوانين منها على معنون واحد وجوداً وماهيةً،فلا يقتضي تعددها تعدده أصلاً.نعم،تعددها مقتضٍ لتعدد الأعراض القائمة به،لفرض أنّ كلاً من هذه العناوين منتزع من قيام عرض من تلك الأعراض به.
الثانية: أنّ جهة الصدق في صدق المبادئ جهة تقييدية،ضرورة استحالة صدق مبدأ على مبدأ آخر واتحادهما في الخارج،وعليه فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامياً،لفرض أنّ تعددهما يقتضي تعدد المجمع في الخارج،ومعه لا يمكن فرض اتحادهما فيه أبداً.
الثالثة: أنّ محل الكلام في هذه المسألة في الجواز والامتناع إنّما هو فيما إذا
كان متعلق الأمر والنهي من المبادئ وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه،لا من المفاهيم الاشتقاقية،لفرض أنّ المجمع لعنوانين منها في مورد الاجتماع واحد من ناحية أنّ جهة الصدق فيهما تعليلية،وإذا كان المجمع واحداً وجوداً وماهيةً، فلا يمكن القول بالجواز فيه حتّى من القائل به،فانّه إنّما يقول به بدعوى أنّ المجمع متعدد وجوداً وماهيةً لا مطلقاً،كما هو واضح.
الرابعة: أنّ محل النزاع في مبادئ المشتقات إنّما يكون فيما إذا كانت تلك المبادئ من سنخ الأفعال الاختيارية،لا فيما إذا كانت من سنخ الصفات الجسمانية أو النفسانية،لفرض أنّ محلّ الكلام في اجتماع متعلقي الأمر والنهي في مورد واحد،ومن المعلوم أ نّهما لا يمكن أن يتعلقا إلّابالأفعال الاختيارية.
الخامسة: أنّ ماهيات المبادئ المأخوذة بشرط لا لاتختلف باختلاف الموارد، ففي مورد الاجتماع والافتراق ماهية واحدة،كما عرفت.وهذا بخلاف ماهية معروضها،فانّها تختلف في الخارج بمعنى أنّ وحدة ماهية العرض نوعاً لاتستلزم وحدة ماهية المعروض كذلك،كما أنّ تعددها لايستلزم تعددها،ومن هنا يكون التركيب بين العرضين في مورد الاجتماع انضمامياً نظير التركيب بين الهيولى والصورة،وإن كان التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين اتحادياً.
السادسة: أنّ ملاك التساوي بين المفهومين هو أنّ صدق كل منهما على أفراده بمناط واحد وجهة فاردة،وملاك العموم من وجه بينهما هو أنّ صدق كل منهما على أفراده بمناطين وجهتين لا معاندة بينهما،وإلّا فهما ملاك التباين كما لا يخفى،وملاك العموم المطلق هو أنّ كل ما يصدق عليه أحدهما يكون داخلاً تحت المفهوم الآخر،ومن ذلك يتبين أ نّه لا يمكن أن تكون النسبة بين جوهرين عموماً من وجه،لتباينهما في الخارج وعدم إمكان صدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.
السابعة: أنّ الجهة التقييدية في المقام على عكس الجهة التقييدية في باب المطلق والمقيد،حيث إنّها في المقام توجب توسعة المجمع ودخوله تحت الماهيتين،وهناك توجب تضييق المطلق واختصاص الحكم بحصة خاصة منه دون اخرى كما هو واضح.
الثامنة: أ نّه لا يمكن أن يكون التركيب بين الصلاة والغصب اتحادياً، ضرورة أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى وهي مقولة الأين، ومن المعلوم أنّ المقولات متباينات بالذات،فلا يمكن اتحاد اثنتين منها في الوجود،وعلى هذا فيستحيل صدق كليهما على حركة واحدة في مورد الاجتماع، وإلّا لزم تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد وهو محال،مضافاً إلى ما ذكرناه من أنّ الحركة في كل مقولة من المقولات عين تلك المقولة خارجاً، وليست جنساً لها،لفرض أنّ الأعراض بسائط خارجية وأنّ ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
ولنأخذ بالمناقشة في بعض هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة،وذلك ضرورة أنّ جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية على ذواتها لا محالة جهة تعليلية،بداهة أ نّه لا يمكن تعقل النسبة بالعموم من وجه بين عنوانين منها إلّاإذا كانت الذات في مورد الاجتماع واحدة،وإلّا فليست النسبة بينهما كذلك كما هو واضح.
أمّا النقطة الثانية: فيرد عليها أنّ نظريته (قدس سره) في تلك النقطة إنّما تتمّ في الماهيات المتأصلة والمقولات الحقيقية،فانّ المبادئ إذا كانت من تلك المقولات يستحيل اتحاد اثنين منها في الخارج وصدق أحدهما على الآخر، ضرورة استحالة اتحاد مقولتين خارجاً وصدق إحداهما على الاُخرى،من دون فرق في ذلك بين أن تكونا عرضين أو جوهرين أو إحداهما جوهراً والاُخرى
عرضاً،والسر فيه:ما عرفت غير مرّة من أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة،وليس فوقها جنس آخر لتكون تلك المقولات داخلة فيه.
وعلى هذا الضوء فكما أ نّه لا يمكن صدق مقولة الجوهر على مقولة العرض، فكذلك لا يمكن صدق كل من أقسامهما على الآخر بعين هذا الملاك،فلا تصدق النفس على العقل،والصورة على المادة،والكم على الكيف،والأين على الوضع…وهكذا.
ومن هذا البيان قد تبين حال المبادئ المتأصلة كالبياض والعلم والشجاعة والحلاوة والكرم وما شاكل ذلك،فانّ هذه المبادئ وأمثالها بما أ نّها مبادئ متأصلة وماهيات حقيقية مقولية فلا محالة تعددها يستلزم تعدد المعنون والمطابق في الخارج،لما عرفت الآن من استحالة اتحاد ماهية متأصلة مع ماهية متأصلة اخرى خارجاً،فلايمكن اتحاد الحلاوة مع البياض والعلم مع الشجاعة…وهكذا، وعليه فالتركيب الحقيقي بين اثنين منها غير معقول،لاستلزام ذلك اندراج مقولتين متباينتين تحت مقولة واحدة وهو محال.
فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع تركيب انضمامي لا غيره،إنّما يتم فيما إذا كان متعلقاهما من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية،حيث قد عرفت أنّ التركيب الحقيقي بين تلك المبادئ غير معقول.
وإن شئت فقل: إنّ تعدد العنوان في مورد الاجتماع إنّما يقتضي تعدد المعنون فيه بحسب الخارج إذا كان من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية،ضرورة أ نّه على هذا لا بدّ من الالتزام بتعدده وكون التركيب انضمامياً،وأمّا إذا لم يكن من هذه العناوين أو كان أحد العنوانين منها دون الآخر،ففي مثل ذلك
لايستدعي تعدد العنوان تعدد المعنون والمطابق في الخارج أصلاً،بل لابدّ عندئذ من ملاحظة أنّ المطابق لهما في مورد الاجتماع والتصادق واحد أو متعدد،فإن كان واحداً فلا مناص من القول بالامتناع،وإن كان متعدداً فلا مناص من القول بالجواز،بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللّازم.
وعلى الجملة: فالعنوانان في مورد الاجتماع إذا كانا متأصلين فلا محالة يقتضيان تعدد المجمع فيه وجوداً أو ماهيةً،فإذن يتعين القول بالجواز.وأمّا إذا كانا انتزاعيين أو كان أحدهما انتزاعياً والآخر متأصلاً فلا يقتضيان تعدد المجمع أبداً،بل لا بدّ وقتئذ من تحقيق نقطة واحدة،وهي ملاحظة أنّ منشأ انتزاعهما على الفرض الأوّل-وهو ما إذا كان كلا العنوانين انتزاعياً-هل هو واحد في الخارج وجوداً وماهيةً أو متعدد فيه كذلك،ومنشأ انتزاع العنوان الانتزاعي على الفرض الثاني-وهو ما إذا كان أحدهما انتزاعياً-هل هو متحد مع العنوان الذاتي خارجاً،بأن يكونا موجودين بوجود واحد،أو غير متحد معه بأن يكون منشأ انتزاعه مبايناً للعنوان الذاتي وجوداً وماهيةً،فعلى الأوّل بما أنّ المطابق لهما واحد في مورد الاجتماع والتصادق فلا بدّ من القول بالاستحالة والامتناع في المقام،وعلى الثاني بما أ نّه متعدد فيه فلا مانع من القول بالجواز أصلاً.
وبكلمة واضحة:أنّ العنوانين المتصادقين في مورد لا يخلوان من أن يكونا من العناوين الذاتية والمقولات الحقيقية،وأن يكون أحدهما من العناوين الذاتية والآخر من العناوين الانتزاعية،وأن يكون كلاهما من العناوين الانتزاعية ولا رابع في البين،فالنتيجة أنّ الصور في المقام ثلاثة:
الاُولى: وهي ما إذا كان كلاهما من العناوين المتأصلة،قد تقدّم آنفاً أنّ
تعدد العنوان المقولي في موردٍ لا محالة يوجب تعدد المعنون والمطابق فيه،بداهة أ نّه كما يستحيل اتحاد مقولة مع مقولة اخرى واندراجهما تحت مقولة ثالثة، كذلك يستحيل اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة،أو فرد من هذه المقولة مع فرد آخر منها…وهكذا،وذلك لما برهن في محلّه من أ نّه لا بدّ في المركب الحقيقي من أن تكون له جهة وحدة حقيقية،لوضوح أ نّه لولا تلك الجهة لكان التركيب اعتبارياً،ومن الواضح جداً أنّ جهة الوحدة الحقيقية لاتكون إلّاإذا كان أحد جزأي المركب بالقوّة والآخر بالفعل،ليكونا موجودين بوجود واحد،وأمّا إذا كان كلاهما بنحو الفعلية والتحصل فيستحيل أن تكون بينهما جهة وحدة حقيقية،ضرورة أنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أ نّه لا يمكن اتحاد فردين من مقولة واحدة فضلاً عن مقولتين.أضف إلى ذلك:ما ذكرناه من أنّ المقولات أجناس عاليات فلا يمكن أن يكون فوقها جنس آخر.
الثانية: وهي ما إذا كان أحد العنوانين من العناوين المتأصلة والآخر من العناوين الانتزاعية،قد تقدّم على صفة الاجمال أنّ تعدد العنوان كذلك لا يقتضي تعدد المعنون والمطابق في الخارج،بل لا بدّ من ملاحظة أنّ العنوان الانتزاعي هل ينتزع من مرتبة ذات العنوان المتأصل في الخارج أو من شيء آخر مباين له وجوداً،بمعنى أنّ منشأ انتزاعه مباين للعنوان الذاتي خارجاً.
فعلى الأوّل: لا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً في مورد الاجتماع،بمعنى أنّ المجمع فيه واحد وجوداً وماهية،غاية الأمر يكون صدق أحدهما عليه ذاتياً والآخر عرضياً،ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين:
أحدهما: ما إذا فرض أنّ شرب الماء بما هو مأمور به،وفي هذا الفرض لو شرب أحدٌ الماء المغصوب فلا محالة ينطبق عليه عنوانان:أحدهما العنوان
الذاتي وهو الشرب،والآخر العنوان الانتزاعي وهو الغصب،لما سيجيء إن شاء اللّٰه تعالى من أنّ الغصب ليس من إحدى المقولات التسع العرضية،بل هو عنوان انتزاعي منتزع من التصرف في مال الغير،ومن هنا أمكن انطباقه على الماهيات المتعددة المقولية.وفي المقام بما أ نّه منتزع من نفس العنوان الذاتي في مورد الاجتماع وهو شرب هذا الماء،لا من شيء آخر مباين له وجوداً،فلا محالة يتحد معه خارجاً،ويكون المطابق لهما واحداً وجوداً وماهية.وعليه فلا مناص من القول بالامتناع،بداهة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
فما أفاده (قدس سره) من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر لا يتمّ في هذا المثال وما شاكله.نعم،إنّما يتمّ في المبادئ المتأصلة كما سبق.
وثانيهما: التوضؤ بماء الغير بدون إذنه،فانّه مجمع للعنوان الذاتي والانتزاعي معاً،أمّا العنوان الذاتي فهو عبارة عن نفس التوضؤ الذي له واقع موضوعي في الخارج وينطبق عليه انطباق الطبيعي على أفراده والكلّي على مصاديقه،وأمّا العنوان الانتزاعي فهو عبارة عن الغصب الذي لا واقع له ما عدا منشأ انتزاعه، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه منتزع من نفس هذا العنوان الذاتي في الخارج وهو التوضؤ بهذا الماء.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ العنوانين في المقام منطبقان على شيء واحد وجوداً وماهيةً،وعليه فلا مناص من القول بالامتناع.وعلى الجملة:فالنسبة بين هذين العنوانين وإن كانت بالعموم من وجه،وأنّ لكل منهما ماهية مستقلة في مورد الافتراق،إلّاأ نّهما متحدان في مورد الاجتماع باعتبار أنّ منشأ انتزاع العنوان الانتزاعي هو نفس العنوان الذاتي في الخارج،ولا واقع له ما عداه، والأصل في جميع ذلك هو ما أشرنا إليه من أنّ المبدأ إذا كان من العناوين
الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا منشأ انتزاعها أمكن انطباقه على المقولات المتعددة،لفرض أ نّه تابع لمنشأ انتزاعه،فإن كان منشأ انتزاعه من مقولة الأين فينطبق عليه،وإن كان من مقولة اخرى فكذلك…وهكذا،كما هو الحال في الغصب،فانّه قد ينطبق على مقولة الأين وهي الكون في الأرض المغصوبة، وقد ينطبق على مقولة اخرى غيرها كلبس مال الغير أو أكله أو شربه مع أ نّه لايلزم من ذلك اتحاد المقولتين أو تفصّل الجنس الواحد بفصلين في عرض واحد أصلاً،لاختصاص ذلك بما إذا كان المبدءان كلاهما من المبادئ المتأصلة المقولية، لا فيما إذا كان أحدهما متأصلاً والآخر منتزعاً.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه:أ نّه لايمكن في مثل هذين المثالين أن يكون العنوان الانتزاعي متعلقاً للنهي مثلاً والعنوان الذاتي الذي هو منشأ انتزاعه متعلقاً للأمر.
وعلى الثاني: وهو ما كان منشأ انتزاع العنوان العرضي مغايراً للعنوان الذاتي في الوجود،فالتركيب عندئذ في مورد الاجتماع لا محالة يكون انضمامياً، لفرض عدم اتحاد ما تعلق به الأمر مع ما تعلق به النهي،ويكون مصداق أحدهما في الخارج غير مصداق الآخر وجوداً وماهيةً،غاية الأمر أ نّهما متلازمان في الوجود في مورد الاجتماع،وقد تقدّم غير مرّة أنّ الصحيح هو عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.وعليه فلا مناص من القول بالجواز، ومثاله التكلم في الدار المغصوبة إذا فرض أ نّه مأمور به،فانّ التكلم وإن كان عنواناً متاصلاً لفرض أ نّه من مقولة الكيف المسموع،إلّاأ نّه ليس منشأ لانتزاع عنوان الغصب خارجاً،ضرورة أ نّه ليس تصرفاً في الدار ليكون مصداقاً له ومنشأ لانتزاعه،بل المنشأ له إنّما هو الكون فيها الذي هو من مقولة الأين، ومن الواضح أ نّه مغاير للتكلم بحسب الوجود الخارجي،لفرض أ نّه من مقولة
والتكلم من مقولة اخرى،والمفروض استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة.وعلى هذا فلا مانع من أن يكون العنوان الذاتي متعلقاً للأمر والعنوان الانتزاعي متعلقاً للنهي أصلاً،لفرض أنّ منشأ العنوان الانتزاعي مغاير مع العنوان الذاتي في الخارج وجوداً وماهيةً،ومعه لا يلزم من اجتماعهما في مورد كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.
ومن هذا القبيل الأكل في الأرض المغصوبة،فانّه ليس تصرفاً فيها بنظر العرف ليكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب،بل الغصب منتزع من أمر آخر مغاير له وجوداً وهو الكون فيها،فلا يلزم من فرض تعلق الأمر بالأكل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.
الثالثة: وهي ما إذا كان كلا العنوانين من الماهيات الانتزاعية،أيضاً لا بدّ من ملاحظة أنّ العنوانين المتصادقين في مورد الاجتماع هل ينتزعان من موجود واحد في الخارج،بمعنى أنّ ذلك الموجود الواحد باعتبارٍ منشأ لانتزاع أحدهما،وباعتبار آخر منشأ لانتزاع الآخر،أو ينتزع كل منهما من موجود مباين لما ينتزع منه الآخر،فعلى الأوّل لا محالة يكون التركيب بينهما اتحادياً، لفرض أنّ منشأ انتزاعهما واحد في الخارج وجوداً وماهيةً من ناحية،وعدم تعلق الحكم بالعنوان الانتزاعي بما هو من ناحية اخرى،وعليه فلا مناص من القول بالامتناع،ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً.وعلى الثاني فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامياً،وذلك لاستحالة التركيب الحقيقي بين الموجودين المتباينين،سواء أكانا من مقولة واحدة أم من مقولتين.
وبتعبير آخر:أنّ العنوانين إذا كان كلاهما انتزاعياً فلا يخلوان من أن يكونا منتزعين من شيء واحد في الخارج باعتبارين مختلفين،أو أن يكون كل منهما
منتزعاً من شيء.
أمّا الصورة الاُولى: فلا بدّ من الالتزام باستحالة الاجتماع فيه،وذلك لأنّ متعلق الأمر والنهي في الحقيقة إنّما هو منشأ انتزاعهما،والمفروض أ نّه واحد وجوداً وماهيةً،لا العنوانان المتصادقان عليه لفرض أنّ العنوان الانتزاعي لا يخرج عن افق النفس إلى ما في الخارج ليكون صالحاً لأن يتعلق به الأمر أو النهي.
ولتوضيح ذلك:نأخذ مثالاً وهو الافطار في نهار شهر رمضان بمال الغير، فانّه مجمع لعنوانين أعني عنواني الغصب والافطار ومصداق لهما معاً،ضرورة أنّ هذا الفعل الواحد وجوداً وماهيةً وهو الأكل كما يكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب باعتبار تعلقه بمال الغير بدون إذنه،كذلك يكون منشأ لانتزاع عنوان الافطار في نهار شهر رمضان باعتبار وقوعه فيه،فانتزاع كل من هذين العنوانين من ذلك الفعل الواحد معلول لجهة خاصة مغايرة لجهة اخرى،ومن الواضح جداً أنّ انتزاعهما من شيء واحد وصدقهما عليه بجهتين لا ينافي كون المصداق الخارجي واحداً ذاتاً ووجوداً.
والوجه في ذلك ظاهر،وهو أنّ النسبة بالعموم من وجه لا يمكن أن تتحقق إلّا بين عنوانين انتزاعيين هما من قبيل الخارج المحمول،أو بين عنوان انتزاعي وعنوان مقولي،بداهة أ نّه لا مانع من صدق عنوانين انتزاعيين على موجود واحد في الخارج،وكذا لا مانع من صدق عنوان عرضي على ما يصدق عليه العنوان الذاتي،ومن هنا يستحيل تحقق النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض،وذلك لوضوح أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة،فلا يمكن اتحاد مقولتين منها خارجاً،وعليه فلا يمكن أن يكون شيء واحد مصداقاً للجوهر والعرض معاً،ضرورة أنّ ما
يكون مصداقاً للجوهر يستحيل أن يكون مصداقاً للعرض وبالعكس،كما أنّ ما يكون مصداقاً للكم مثلاً يستحيل أن يكون مصداقاً للكيف…وهكذا.
بل الأمر كذلك بالاضافة إلى أنواع هذه المقولات وأفرادها،فلا يمكن اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة،فانّ الأنواع وإن كانت مشتركة في الجنس،إلّاأ نّها متباينات من ناحية الفصل،لفرض أنّ نوعية الأنواع بواسطة الفصل،فلو فرض اتحاد نوع مع نوع آخر للزم تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد وهو محال،بداهة أنّ فعلية الشيء بفصله فانّه المقوّم والمحصّل له، أو أ نّه منتزع من حدّه الحقيقي،ومن المعلوم أ نّه لا يعقل أن يكون لشيء واحد وجودان ومحصّلان في الخارج،أو حدّان،كما هو واضح.وكذا لا يمكن اتحاد فرد من مقولة مع فرد آخر منها،لما تقدّم من استحالة التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين في الخارج،لأنّ كل فعلية تأبى عن فعلية اخرى،وبما أ نّهما فعليان وموجودان فيه فلا يعقل التركيب الحقيقي بينهما.
وقد تحصّل من ذلك أمران:
الأوّل:أنّ النسبة بالعموم من وجه لا تعقل بين جوهرين وعرضين وجوهر وعرض.
الثاني:أنّ النسبة بالعموم من وجه إنّما تعقل بين عنوانين عرضيين وعنوان عرضي وعنوان ذاتي مقولي،وعليه فلا مانع من انطباق عنوان الغصب والافطار على شيء واحد في مورد الاجتماع،فعندئذ لو تعلق الأمر بأحدهما كالافطار مثلاً والنهي بالآخر كالغصب،فلا محالة تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع،لاستحالة أن يكون شيء واحد مأموراً به ومنهياً عنه معاً.
وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذاكان منشأ انتزاع كل منهما مغايراً لمنشأ
انتزاع الآخر،فلا مانع من القول بالجواز لفرض أنّ التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضمامي،فيكون مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه،ومعه لا مناص من القول به بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته الوجودية.
ومثال ذلك:الافطار في المكان المغصوب بمال مباح أو مملوك له،فانّ عنوان الافطار هنا منتزع من شيء وعنوان الغصب من شيء آخر مباين له،حيث إنّ الأوّل منتزع من الأكل الموجود في الخارج،والمفروض أ نّه ليس تصرّفاً في مال الغير ليكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب ومصداقاً له،والثاني منتزع من الكون في هذا المكان،فانّه مصداق للتصرف في مال الغير ومنشأً لانتزاعه، وعليه فلا يلزم من اجتماع هذين العنوانين في مورد كون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً،لفرض أنّ المأمور به غير المنهي عنه بحسب الوجود الخارجي،فلا يعقل كون التركيب بينهما اتحادياً،غاية الأمر أنّ وجوده في هذا المورد ملازم لوجود المنهي عنه،وقد عرفت غير مرّة أنّ الحكم لا يسري من الملازم إلى الملازم الآخر،وعليه فلا مانع من القول بالجواز في مثل هذا المثال أصلاً.
نعم،عنوان الغاصب والمفطر منطبقان على شخص واحد في مورد الاجتماع، إلّا أ نّهما أجنبيان عن محل الكلام رأساً،فمحل الكلام في عنواني الغصب والافطار والمفروض أ نّهما لا ينطبقان على شيء واحد هنا كما عرفت.
إلى هنا قد تبين أ نّه ليس لنا ضابط كلّي للقول بالامتناع ولا للقول بالجواز في المسألة أصلاً،بل لا بدّ من ملاحظة العنوانين المتعلقين للأمر والنهي في مورد الاجتماع،فإن كانا من المبادئ المتأصلة والمقولات الحقيقية فقد عرفت أنّ تعدد تلك المبادئ يستلزم تعدد المعنون والمطابق في الخارج لا محالة،ضرورة
استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة اخرى أو تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد.
وأمّا إذا كان أحدهما عنواناً انتزاعياً والآخر مقولياً فلا بدّ من النظر في أنّ العنوان الانتزاعي هل ينتزع من مطابق العنوان الذاتي أو من شيء آخر مباين له،وليس لذلك ضابط كلّي،فإن كان منتزعاً من مطابق العنوان الذاتي فلا محالة يكون المجمع في مورد الاجتماع واحداً،ومعه لا مناص من القول بالامتناع،وإن كان منتزعاً من شيء آخر كان المجمع متعدداً،ومعه لا مناص من القول بالجواز.وأمّا إذا كان كلاهما معاً انتزاعياً فأيضاً لا بدّ من النظر إلى أ نّهما منتزعان من شيء واحد في الخارج وجوداً وماهيةً أو من شيئين كذلك، فعلى الأوّل لا بدّ من القول بالامتناع،وعلى الثاني من القول بالجواز.
ومن ضوء هذا البيان يظهر ما في نظرية كل من شيخنا الاُستاذ والمحقق صاحب الكفاية (قدس سرهما) حيث ذهب الأوّل إلى القول بالجواز مطلقاً، والثاني إلى القول بالامتناع كذلك.
أمّا نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) فلما سبق آنفاً 1من أنّ العنوانين إذا كانا من المبادئ المتأصلة والمقولات الواقعية يستحيل اتحادهما في الخارج وانطباقهما على موجود واحد،فلا محالة تعدد مثل هذا العنوان يستلزم تعدد المعنون،وأمّا إذا كان أحدهما انتزاعياً والآخر مقولياً أو كان كلاهما انتزاعياً فيختلف الحال باختلاف الموارد والمقامات،ففي بعض الموارد والمقامات يكون المعنون لهما واحداً،وفي بعضها الآخر يكون متعدداً،فلا ضابط لذلك أصلاً،فتعدد العنوان في هذه الموارد لا يقتضي تعدد المعنون ولا يقتضي وحدته،
فيمكن أن يكون واحداً،ويمكن أن يكون متعدداً.
فما أفاده (قدس سره) من أنّ تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا ينثلم به وحدته،لا كلّية لهذه الكبرى أبداً،كما تقدّم بشكل واضح.
نعم،إنّ لتلك الكبرى كلّية في العناوين الاشتقاقية خاصة،فانّ تعدد تلك العناوين لا يستلزم تعدد المعنون أصلاً،والسر فيه ما عرفت من أنّ صدق كل منها على معروضه معلول لعلّة قائمة بمعروضه وخارجة عن ذاته،مثلاً صدق العالم على شخصٍ معلول لقيام العلم به،ومن الواضح جداً أنّ العلم خارج عن ذات هذا الشخص ومباين له وجوداً،فانّ وجوده وجود جوهري ووجود العلم وجود عرضي،ومن الضروري استحالة اتحاد الجوهر مع العرض خارجاً، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ تعدد العرض لا يستلزم تعدد معروضه، بداهة أنّ قيام أعراض متعددة كالعلم والشجاعة والسخاوة وما شاكل ذلك بذات واحدة ومعروض فارد من الواضحات الأوّلية،فلا حاجة إلى إقامة برهان وزيادة بيان.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ تعدد العناوين الاشتقاقية والمفاهيم الانتزاعية واجتماعها في موردٍ لايوجب تعدد المعنون فيه،بل لا بدّ أن يكون المعنون واحداً وجوداً وماهية في مورد اجتماعهما،وإلّا فلا تعقل النسبة بالعموم من وجه بينهما كما هو واضح،ضرورة أنّ المعنون لو لم يكن واحداً فيه وكان متعدداً وجوداً وماهية لكانت النسبة بينهما التباين،بمعنى أنّ كل عنوان منها مباين لعنوان آخر منها في الصدق،فلا يجتمعان في مورد واحد.
وأمّا نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) فقد ذكرنا أ نّها إنّما تتم في ناحية خاصة،وهي ما إذا كان العنوانان المتصادقان في مورد الاجتماع من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية،وأمّا إذا كان أحدهما انتزاعياً والآخر مقولياً،أو
كان كلاهما انتزاعياً،فلا تتم أصلاً كما تقدّم.
فما جعله (قدس سره) من الضابط لكون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع انضمامياً لا اتحادياً-وهو ما كان العنوانان المنطبقان عليه من المبادئ الاختيارية وبينهما عموم من وجه-لا واقع موضوعي له أصلاً،لما تقدّم من أنّ في كثير من الموارد يكون متعلقا الأمر والنهي من المبادئ الاختيارية، وبينهما عموم من وجه،ومع ذلك يكون مطابقهما في الخارج واحداً،وقد ذكرنا لذلك عدّة أمثلة،منها:التوضؤ بالماء المغصوب،فانّه مجمع لمبدأين اختياريين بينهما عموم من وجه،أعني بهما التوضؤ والغصب،ومع ذلك فهما ينطبقان على موجود واحد في الخارج.ومنها:شرب الماء المغصوب فيما إذا كان الشرب في نفسه مأموراً به،فانّه مجمع لمبدأين:أحدهما الشرب،والآخر الغصب، والمفروض أ نّهما منطبقان على شيء واحد.ومنها:غير ذلك كما تقدّم.
فما أفاده (قدس سره) من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر منقوض بهذه الأمثلة وما شاكلها،فانّ متعلقي الأمر والنهي فيها مبدءان،ومع ذلك فهما متحدان في الخارج ومنطبقان على شيء واحد وجوداً وماهيةً.
ومن هنا التجأ (قدس سره) إلى الالتزام بخروج مثل هذه الأمثلة عن محل الكلام،بدعوى أنّ المعنون في مورد الاجتماع فيها بما أ نّه واحد وجوداً وماهيةً فمع فرض كونه منهياً عنه لا يعقل كونه مصداقاً للمأمور به.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ شيئاً واحداً إذا كان منهياً عنه يستحيل أن يكون مأموراً به وإن كان في غاية الصحة،إلّاأنّ ذلك لا يوجب خروج مثل هذه الأمثلة عن محل الكلام،ضرورة أ نّه لا فرق بين الصلاة والشرب من هذه الناحية أصلاً،وكذا بينهما وبين الوضوء،فكما أنّ الصلاة والغصب داخلان في محل النزاع،فكذلك الشرب والغصب والتوضؤ والغصب،
غاية الأمر أنّ المطابق في المثالين الأخيرين بما أ نّه واحد في الخارج وجوداً وماهية،فلا مناص فيه من القول بالامتناع،وأمّا في الصلاة والغصب،فإن كان الأمر أيضاً كذلك فلا مناص من القول به أيضاً،وإلّا فلا بدّ من القول بالجواز،فوحدة المجمع في مورد الاجتماع توجب القول بالامتناع لا الخروج عن محل الكلام كما لا يخفى.
فالنتيجة: هي أ نّه لا ضابط لكل من القول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة أصلاً،فما جعله شيخنا الاُستاذ والمحقق صاحب الكفاية (قدس سرهما) من الضابط لكل من القولين قد عرفت فساده بشكل واضح وأ نّه لا كلّية له أصلاً،فإن تعدد العنوان كما لا يقتضي تعدد المعنون كذلك لا يقتضي وحدته، فإذن لا أثر لتعدد العنوان،بل لا بدّ من ملاحظة أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد أو متعدد.
ومن هنا قلنا سابقاً إنّ مردّ البحث في المسألة في الحقيقة إلى البحث عن وحدة المجمع في مورد الاجتماع والتصادق وتعدده،وعليه فالحكم بالامتناع أو الجواز في كل مورد منوط بملاحظة ذلك المورد خاصة،فإن كان المجمع فيه واحداً يتعين فيه الحكم بالامتناع،وإن كان متعدداً يتعين فيه الحكم بالجواز.
وأمّا النقطة الثالثة: فالأمر كما أفاده (قدس سره)،وذلك ضرورة أنّ العناوين الاشتقاقية خارجة عن محل الكلام في المسألة،لما تقدّم من أنّ جهة الصدق فيها على معروضاتها جهة تعليلية،بمعنى أنّ الموجب لصدق تلك العناوين عليها أمر خارج عنها ومباين لها وجوداً،وهذا بخلاف جهة الصدق في صدق المبادئ فإنّها تقييدية،يعني أنّ صدقها على الموجود في الخارج صدق الطبيعي على فرده والكلّي على مصداقه،كصدق البياض على البياض الموجود في الخارج والسواد على السواد الموجود فيه…وهكذا،وليست جهة الصدق
فيها أمراً خارجاً عنها ومبايناً لها وجوداً،وهذا معنى كون الجهة تقييدية.
وأمّا العناوين الاشتقاقية فبما أنّ جهة الصدق فيها تعليلية فلا يمكن توهّم اجتماع الأمر والنهي في مورد اجتماع اثنين من هذه العناوين،لفرض أنّ الأمر والنهي لم يتعلقا بالجهتين التعليليتين،بل تعلقا بنفس المعروض لهما،والمفروض أ نّه واحد وجوداً وماهيةً،ومن المعلوم استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد حتّى على مذهب من يرى جواز التكليف بالمحال كالأشعري فضلاً عن غيره، لفرض أنّ نفس هذا التكليف محال،وقد ذكرنا سابقاً أنّ القائل بالجواز إنّما يقول به بدعوى أنّ المجمع متعدد وجوداً وماهيةً،وأنّ ما ينطبق عليه المأمور به غير المنهي عنه خارجاً،وأمّا إذا كان المجمع واحداً كذلك فلا يقول أحد بجواز الاجتماع فيه حتّى القائل بالجواز في المسألة،وبما أنّ المعروض للعنوانين الاشتقاقيين في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً،فلا محالة يخرج عن محل البحث في هذه المسألة،ضرورة أ نّه لم يقل أحد بجواز الاجتماع فيه حتّى القائلين بالجواز،بل يدخل في باب المعارضة،وتقع المعارضة بين إطلاق دليل الأمر وإطلاق دليل النهي،فلابدّ عندئذ من رفع اليد عن إطلاق أحدهما لمرجح إن كان،وإلّا فيسقطان معاً.
ومن هنا لم نر أحداً من الفقهاء-فيما نعلم-ذهب إلى دخول ذلك في محل البحث في هذه المسألة،بأن يبني على جواز اجتماع الأمر والنهي فيه على القول بالجواز فيها،والوجه فيه ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ القائل بالجواز يدعي تعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً،ومع وحدته لا يقول بالجواز أصلاً، ولذا قلنا سابقاً إنّ مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن وحدة المجمع في الواقع والحقيقة وتعدده كذلك.
وعلى الجملة: فلا إشكال في خروج العناوين الاشتقاقية عن محل البحث
والكلام،فانّ جهة الصدق فيها حيث إنّها تعليلية فلا محالة يكون المجمع واحداً في مورد الاجتماع،ومن المعلوم استحالة تعلق الأمر والنهي بشيء واحد،سواء فيه القول بالجواز أو الامتناع في مسألتنا هذه،مثلاً إذا ورد الأمر باكرام العلماء وورد النهي عن إكرام الفسّاق،وفرضنا انطباق هذين العنوانين على شخص واحد كزيد مثلاً،فانّه من جهة كونه عالماً يجب إكرامه،ومن جهة كونه فاسقاً يحرم إكرامه،ومن الظاهر أ نّه لا يمكن أن يكون إكرامه واجباً وحراماً معاً ولا يلتزم به أحد حتّى القائل بالجواز في تلك المسألة،أي مسألة الاجتماع،بل لا بدّ من رفع اليد عن أحدهما لمرجّح من مرجّحات باب التعارض،ومثل هذه المعارضة كثير في أبواب الفقه،ولم يتوهّم أحد دخوله في هذه المسألة ليبني على الجواز فيه،بناءً على القول بالجواز فيها،ولذا يعامل معه معاملة التعارض،سواء أكان من القائلين بالجواز فيها أم الامتناع،وهذا واضح.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1في الأمر الثالث من أنّ الظاهر لحوق تعدد الاضافات بتعدد العناوين،فلو كان تعدد العنوان كافياً مع وحدة المعنون في القول بجواز اجتماع الأمر والنهي،لكان تعدد الاضافات أيضاً كافياً في ذلك،فلا فرق بينهما من هذه الناحية،وعليه فيكون أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من باب الاجتماع لا من باب التعارض، وجه الظهور:ما عرفت من أنّ تعدد الاضافات والجهات التعليلية لا يكفي في القول بالجواز مع كون المجمع واحداً،فانّ القائل بالجواز يدّعي تعدده وجوداً وماهيةً وأنّ ما ينطبق عليه المأمور به غير المنهي عنه في الخارج،وأمّا إذا كان واحداً فلا يقول بالجواز.فإذن مثل هذا المثال خارج عن مسألة الاجتماع
بالكليّة،ولا يقول فيه بالجواز أحد فيما نعلم.
وأمّا النقطة الرابعة: وهي ما كانت المبادئ من الأفعال الاختيارية دون الصفات الجسمانية والنفسانية،فهي من الواضحات،ضرورة أنّ الأمر والنهي لم يتعلقا بالصفات الخارجة عن القدرة،سواء أكانت جسمانية أو نفسانية،وهذا ليس لخصوصية في المقام،بل من ناحية حكم العقل بكون متعلق التكليف لا بدّ أن يكون مقدوراً للمكلف في ظرف الامتثال،وحيث إنّ تلك الصفات خارجة عن قدرته واختياره فلا محالة لا يتعلق التكليف بها،فهذا ليس شرطاً زائداً على أصل اشتراط التكليف بالقدرة.
وأمّا النقطة الخامسة: وهي أنّ ماهية المبادي بما أ نّها ماهية واحدة فهي محفوظة أينما تحققت وسرت،فهي إنّما تتمّ في المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية الحقيقية،ضرورة أ نّها لا تختلف باختلاف وجوداتها في الخارج وتنطبق على تلك الوجودات جميعاً بملاك واحد،ومحفوظة بتمام ذاتها وذاتياتها في ضمن كل واحد منها،لفرض أنّ الطبيعي عين فرده في الخارج،كما سنشير إلى ذلك في النقطة السادسة بشكل واضح.
وأمّا في المبادئ غير المتأصلة والماهيات الانتزاعية فهي لا تتم،وذلك لأنّه لا مانع من انتزاع مفهوم واحد من ماهيات مختلفة ومقولات متعددة،كالغصب مثلاً فانّه قد ينتزع من مقولة الأين-وهو الكون في الأرض المغصوبة-وقد ينتزع من مقولة اخرى كأكل مال الغير أو لبسه أو نحو ذلك،ومن المعلوم أنّ منشأ انتزاعه على الأوّل غير منشأ انتزاعه على الثاني،ضرورة أ نّه على الأوّل من مقولة،وعلى الثاني من مقولة اخرى،فإذن لا يلزم أن يكون منشأ انتزاعه ماهية نوعية واحدة محفوظة في تمام موارد تحققه،لتكون نتيجته استحالة اتحاد
المجمع في مورد اجتماعهما،كما هو الحال فيما إذا كانا من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية.
وعليه فلا بدّ من النظر في أنّ العنوانين منتزعان من ماهية واحدة،أو من ماهيتين متباينتين،هذا إذا كان كلاهما انتزاعياً.وأمّا إذا كان أحدهما انتزاعياً دون الآخر فلا بدّ من النظر في أنّ منشأ انتزاعه متحد مع العنوان الذاتي المقولي خارجاً أم لا،وقد عرفت أ نّه لا ضابط لذلك أصلاً،ولأجل هذا ففي أيّ مورد كان المجمع واحداً نحكم بالامتناع،وفي أيّ مورد كان متعدداً نحكم بالجواز.
فالنتيجة:أنّ هذه النقطة هي الأساس لما اختاره (قدس سره) في المسألة وهو القول بالجواز.
وأمّا ما ذكره (قدس سره) من أنّ التركيب بين الصورة والمادة انضمامي لا يمكن تصديقه بوجه،وذلك لما حققناه في بحث المشتق 1من أنّ التركيب بينهما اتحادي ولأجل ذلك يصح حمل إحداهما على الاُخرى،وحمل المجموع على النوع،بداهة أ نّه لولا اتحادهما في الخارج وكونهما موجودتين بوجود واحد لم يصح حمل إحداهما على الاُخرى أبداً،ولا حمل المجموع على النوع،لما ذكرناه هناك من أنّ ملاك صحة حمل الشائع الصناعي هو اتحاد المحمول والموضوع في الوجود الخارجي،ضرورة أ نّهما متباينان بحسب المفهوم،فلو كانا متباينين بحسب الوجود الخارجي أيضاً لما أمكن حمل أحدهما على الآخر أبداً،لوضوح أنّ المعتبر في صحة الحمل المغايرة بين الموضوع والمحمول من جهة،لبطلان حمل الشيء على نفسه،والوحدة من جهة اخرى لعدم جواز حمل المباين على المباين.
ومن هنا قلنا في ذلك البحث إنّ الذات مأخوذة في مفهوم المشتق،وإلّا فلا يمكن حمله عليها،لفرض تباينهما وجوداً عندئذ،فانّ العرض الذي هو مفهوم المشتق على الفرض موجود بوجود،والجوهر الذي هو موضوعه موجود بوجود آخر،ومن المعلوم استحالة اتحاد وجود مع وجود آخر،ضرورة أنّ كل وجود يأبى عن وجود آخر،ولأجل ذلك قلنا إنّ مجرد لحاظه لا بشرط لا يوجب اتحاده مع موضوعه ليصح حمله عليه الذي ملاكه الاتحاد في الوجود، بداهة أنّ اعتبار اللّا بشرط لا يجعل المتغايرين في الوجود متحدين فيه واقعاً، فانّ تغايرهما ليس بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر،وهذا واضح.
وأمّا النقطة السادسة: فيرد عليها:أنّ مناط التساوي بين المفهومين هو اشتراكهما في الصدق،بمعنى أنّ كل ما يصدق عليه هذا المفهوم يصدق عليه ذاك المفهوم أيضاً،فهما متلازمان من هذه الناحية،وليس مناط التساوي بينهما اتحادهما في جهة الصدق،ضرورة أ نّه مناط الترادف بين المفهومين،كالانسان والبشر،حيث إنّ جهة الصدق فيهما واحدة وهو الحيوان الناطق،بمعنى أ نّهما مشتركان في حقيقة واحدة،ولفظ كل منهما موضوع بازاء تلك الحقيقة باعتبار،مثلاً لفظ الانسان موضوع للحيوان الناطق باعتبار،ولفظ البشر موضوع له باعتبار آخر،وهذا بخلاف المفهومين المتساويين كالضاحك والمتعجب مثلاً فانّ لكل منهما مفهوماً يكون في حد ذاته مبايناً لمفهوم الآخر، ضرورة أنّ مفهوم الضاحك غير مفهوم المتعجب،فلا اشتراك لهما في مفهوم واحد وحقيقة فاردة وإلّا لكانا من المترادفين لا المتساويين،كما أنّ جهة الصدق في أحدهما غير جهة الصدق في الآخر،فانّ جهة صدق الضاحك على هذه الذات مثلاً هي قيام الضحك بها،وجهة صدق المتعجب عليها هي قيام التعجب بها،فلا اشتراك لهما في جهة الصدق أيضاً.
فالنتيجة:أنّ ملاك التساوي بين المفهومين هو عدم إمكان تحقق جهة الصدق في أحدهما في الخارج بدون تحقق جهة الصدق في الآخر،لا أن تكون جهة الصدق فيهما واحدة.
وأمّا ملاك العموم والخصوص من وجه بين المفهومين،فهو أن تكون جهة الصدق في كل منهما أعم من ناحية من جهة الصدق في الآخر،ومتحدة من ناحية اخرى من جهة الصدق فيه،كالحيوان والأبيض مثلاً فانّ طبيعة الحيوان الموجودة في مادة الاجتماع بعينها هي الطبيعة الموجودة في مادة الافتراق، ولا تزيد ولا تنقص،لفرض أنّ الفرد عين الطبيعي في الخارج،فلا فرق بين الحصة الموجودة في مادة الاجتماع والحصة الموجودة في مادة الافتراق،فإن كلتا الحصتين عين الطبيعة بلا زيادة ونقيصة.وكذا البياض الموجود في مادة الاجتماع بعينه هو البياض الموجود في مادة الافتراق وفي موضوع آخر،فإن كلا الفردين عين طبيعته النوعية الواحدة،ضرورة أنّ البياض الموجود في مادة الاجتماع ليس فرداً لطبيعة اخرى،بل هو فرد لتلك الطبيعة وعينها خارجاً كبقية أفرادها،فلا فرق بينه وبينها من هذه الناحية أصلاً.
فالنتيجة على ضوء ذلك:هي أ نّه لا تعقل النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض،بداهة أ نّه لو كانت بين طبيعتين – جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض-النسبة بالعموم من وجه للزم اتحاد مقولتين متباينتين في الخارج،أو اتحاد نوعين من مقولة واحدة،وكلاهما محال، فانّ لازم ذلك هو أن يكون شيء واحد-وهو الموجود في مورد الاجتماع – داخلاً تحت مقولتين أو نوعين من مقولة واحدة،وهذا غير معقول،لاستحالة أن يكون فرد واحد فرداً لمقولتين أو لنوعين،بداهة أنّ فرداً واحداً فرد لمقولة واحدة أو لنوع واحد،وإلّا لزم تفصّله بفصلين في عرض واحد وهو مستحيل
وهذا واضح،فإذن تنحصر النسبة بين طبيعتين جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض بالتساوي أو التباين أو العموم المطلق،فلا رابع لها.
كما أ نّه تنحصر النسبة بالعموم من وجه بين مفهومين عرضيين كالأبيض والحلو والمصلي والغاصب وما شاكلهما،وبين مفهوم عرضي ومفهوم ذاتي مقولي كالحيوان والأبيض ونحوهما.
ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما ذكره (قدس سره) من تخصيص استحالة تحقق النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين،وذلك لأنّها كما يستحيل أن تتحقق بين جوهرين،كذلك يستحيل أن تتحقق بين عرضين أو جوهر وعرض كما عرفت الآن.
وأمّا النقطة السابعة: فقد ظهر مما تقدّم أنّ المراد من الجهة التقييدية في المقام ليس اندراج فرد واحد تحت ماهيتين متباينتين،لما عرفت من استحالة ذلك،بل المراد منها ما ذكرناه من أنّ ملاك صدق كل منهما على الموجود في مورد الاجتماع هو أ نّه فرده أو منشأ انتزاعه،وليس ملاك صدقه عليه جهة خارجية،ولا نعني بالجهة التقييدية إلّاصدق الطبيعي على فرده وحصته والعنوان على نفس منشأ انتزاعه،في مقابل الجهة التعليلية التي هي علّة صدق العنوان على شيء آخر غيرها كالعلم القائم بزيد الموجب لصدق عنوان العالم عليه…وهكذا.
ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ جهة الصدق إذا كانت في صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد الاجتماع تقييدية فلا مناص من الالتزام بكون التركيب فيه انضمامياً لا اتحادياً،وذلك لما عرفت أنّ هذا تام إذا كان كل من المأمور به والمنهي عنه من الماهيات المتأصلة،وأمّا إذا كان من الماهيات الانتزاعية،أو كان أحدهما دون الاُخرى منها فلا يتم،كما
تقدّم بشكل واضح.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة بحسب الكبرى الكلّية،وملخّصه:هو أ نّه لا ضابط فيها للقول بالامتناع،ولا للقول بالجواز أبداً،بل لا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه لنرى أنّ المجمع فيه واحد أو متعدد،وقد عرفت أ نّه في بعض الموارد واحد وفي بعضها الآخر متعدد.
نعم،إذا كان العنوان من العناوين الاشتقاقية فلا محالة يكون المجمع في مورد اجتماع اثنين منها واحداً وجوداً وماهية،كما أ نّه إذا كان من المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية الحقيقية فلا محالة يكون المجمع فيه متعدداً كذلك.وأمّا في غير هذين الموردين فلا ضابط لوحدته ولا لتعدده أصلاً،بل لا بدّ من لحاظه في كل مورد لنحكم بالجواز أو الامتناع.
وأمّا النقطة الثامنة: فالكلام فيها في صغرى تلك الكبرى،وهي ملاحظة أنّ الصلاة هل يمكن أن تتحد مع الغصب خارجاً أو لا،وقد عرفت أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ذهب إلى عدم إمكان اتحادهما،بدعوى أنّ الصلاة من مقولةٍ والغصب من مقولة اخرى،ويستحيل اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة واحدة.ولكنّ الأمر ليس كذلك،فانّ الصلاة وإن كانت مركبة من مقولات متعددة،إلّاأنّ الغصب ليس من المقولات في شيء،بل هو مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة كما أشرنا إليه،وعليه فيمكن اتحاده مع الصلاة.
فلنا دعويان:الاُولى:أنّ الصلاة مركبة من مقولات متعددة والغصب ليس مقولة.الثانية:إمكان اتحادهما في الخارج.
أمّا الاُولى: فلأنّ الصلاة ليست حقيقة مستقلة ومقولة برأسها في قبال بقية
المقولات كما هو واضح،بل هي مركبة من مقولات عديدة،منها:الكيف المسموع كالقراءة والأذكار.ومنها:الكيف النفساني كالقصد والنيّة.ومنها:
الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه قد برهن في محلّه أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها،وعليه فلا يمكن أن يكون المركب من تلك المقولات مقولة برأسها،لاعتبار الوحدة في المقولة ولا وحدة للمركب منها، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة اخرى.فإذن ليست للصلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار،ولذا لا مطابق لها في الخارج ما عدا هذه المقولات المؤلفة الصلاة منها.وأمّا الغصب فلأ نّه ممكن الانطباق على المقولات المتعددة،ومن المعلوم أ نّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة،فلو كان الغصب من الماهيات المقولية لاستحال اتحاده مع مقولة اخرى وانطباقه عليها، لاستلزام ذلك تفصّل شيء واحد بفصلين في عرض واحد واندراجه تحت ماهيتين نوعيتين وهو محال،فإذن لا محالة يكون من المفاهيم الانتزاعية،فقد ينتزع من الكون في الأرض المغصوبة الذي هو من مقولة الأين،وقد ينتزع من أكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة اخرى…وهكذا.
فالنتيجة:أ نّه لا يعقل أن يكون الغصب جامعاً ماهوياً لهذه المقولات فلا محالة يكون جامعاً انتزاعياً لها.
ودعوى أ نّه لا يمكن انتزاع مفهوم واحد من مقولات متعددة وماهيات مختلفة،وعليه فلا يمكن انتزاع مفهوم الغصب من تلك المقولات،وإن كانت صحيحة ولا مناص من الالتزام بها،إلّاأنّ الغصب لم ينتزع من هذه المقولات بأنفسها،بل انتزاعه منها باعتبار عدم إذن المالك في التصرف بها،ضرورة أ نّه
في الحقيقة منشأ لانتزاعه،لا نفس التصرف بها بما هو،والمفروض أ نّه واحد بالعنوان،وهذا ظاهر.
وأمّا الدعوى الثانية: فقد تقدّم 1أنّ العنوان الانتزاعي قد يتّحد مع العنوان الذاتي المقولي،بمعنى أنّ منشأ انتزاعه في الخارج هو ذلك العنوان الذاتي لا غيره،وفي المقام بما أنّ عنوان الغصب انتزاعي فلا مانع من اتحاده مع الصلاة خارجاً أصلاً.
ولكن الكلام في أنّ الأمر في الخارج أيضاً كذلك أم لا،وهذا يتوقف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدّة من المقولات،لنرى أنّ الغصب يتّحد مع هذه المقولات خارجاً أو مع إحداها أو لا.
فنقول: من هذه المقولات مقولة الكيف النفساني وهي النيّة،فانّها أوّل جزء للصلاة بناءً على ما حققناه في بحث الواجب التعبدي والتوصلي من أنّ قصد القربة مأخوذ في متعلق الأمر وليس اعتباره بحكم العقل،ولا يشك أحد في أ نّها ليست تصرفاً في مال الغير عرفاً،لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقاً له،ضرورة أنّ الغصب لا يصدق على الاُمور النفسانية كالنيّة والتفكر في المطالب العلمية أو نحو ذلك من الاُمور الموجودة في افق النفس،وهذا من الواضحات الأوّلية فلا يحتاج إلى البيان.
ومنها: التكبيرة التي هي من مقولة الكيف المسموع،ولا شبهة في أ نّها ليست متحدة مع الغصب خارجاً،ضرورة أ نّه لا يصدق على التكلم في الدار المغصوبة أ نّه تصرف فيها ليكون مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.
ودعوى أنّ التكلم وإن لم يكن تصرفاً في الدار إلّاأ نّه تصرف في الفضاء باعتبار أ نّه يوجب تموّج الهواء فيه،والمفروض أنّ الفضاء ملك للغير كالدار، فكما أنّ التصرف فيها غير جائز ومصداق للغصب،فكذلك التصرف فيه خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً،وذلك لأنّ الفضاء وإن كان ملكاً للغير والتصرف فيه غير جائز بدون إذن صاحبه،إلّاأنّ التكلم كما أ نّه لا يكون تصرفاً في الدار كذلك لا يكون تصرفاً في الفضاء،ضرورة أ نّه لا يصدق عليه أ نّه تصرف فيه وعلى تقدير صدق التصرف عليه عقلاً فلا يصدق عرفاً بلا شبهة،ومن المعلوم أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير منصرفة عن مثل هذا التصرف فلا تشمله أصلاً،لأنّها ناظرة إلى المنع عما يكون تصرفاً عند العرف،وما لا يكون تصرفاً عندهم فلا تشمله وإن كان تصرفاً بنظر العقل،كمسح حائط الغير باليد مثلاً فانّه ليس تصرفاً عند العرف،ولذا لا تشمله الأدلة،فلا يكون محكوماً بالحرمة وإن كان تصرفاً عند العقل.
والحاصل:أنّ التكلم في الدار المغصوبة ليس تصرفاً فيها ولا في فضائها لا عقلاً ولا عرفاً أوّلاً،وعلى فرض كونه تصرفاً فيه عقلاً فلا ريب في أ نّه ليس تصرفاً عرفاً،ومعه لا يكون مشمولاً لتلك الأدلة ثانياً.ومن هنا لو نصب أحد مروحةً في مكان توجب تموّج الهواء في فضاء الغير فلا يقال إنّه تصرّف في ملك الغير،وهذا واضح.
ومن ذلك يظهر حال جميع أذكار الصلاة كالقراءة ونحوها،ضرورة أنّ الغصب لا يصدق عليها.
وبكلمة اخرى:أنّ الغصب هنا منتزع من ماهية مباينة لماهية التكلم في الخارج،فانّ الغصب في المقام منتزع من الكون في الدار،وهو من مقولة الأين،
والتكلم من مقولة الكيف المسموع فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت مقولة واحدة.
فالنتيجة:أنّ التكبيرة وما شاكلها غير متحدة مع الغصب خارجاً.
ومنها: الركوع والسجود والقيام والقعود،والصحيح أ نّها أيضاً غير متحدة مع الغصب خارجاً،والوجه في ذلك:هو أنّ هذه الأفعال من مقولة الوضع، فانّها هيئات حاصلة للمصلي من نسبة بعض أعضائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج،والوضع عبارة عن هيئة حاصلة للجسم من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها الآخر،ونسبة المجموع إلى الخارج وهذه الهيئات هي حقائق تلك الاُمور التي تعتبر في الصلاة،ومن الواضح جداً أنّ تلك الهيئات ليست بأنفسها مصداقاً للغصب ومتحدة معه في الخارج ومنشأ لانتزاعه،ضرورة عدم صدق التصرف عليها بما هي لتكون كذلك،بل يستحيل أن تتحد مع الغصب،لفرض أ نّه في المقام منتزع من الكون في الأرض المغصوبة وهو من مقولة الأين،وتلك الهيئات من مقولة الوضع،وعليه فيستحيل اتحادهما خارجاً.
ونتيجة ذلك:هي أنّ هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها مع قطع النظر عن مقدّماتها من الهوي والنهوض مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.
وقد يتخيّل في المقام أ نّها من مقولة الفعل،وليست من مقولة الوضع،فإذن لا محالة تكون مصداقاً للغصب وتصرّفاً في مال الغير.
ولكنّه تخيّل خاطئ جداً،فانّه ناشٍ من الخلط بين ما يكون من قبيل الفعل الصادر بالارادة والاختيار،وما يكون من مقولة الفعل التي هي من إحدى المقولات التسع العرضية،والهيئات المزبورة وإن كانت من الأفعال الاختيارية
الصادرة بالارادة والاختيار،إلّاأ نّها مع ذلك ليست من مقولة الفعل،ضرورة أ نّه لا منافاة بين أن يكون الشيء من قبيل الفعل الصادر بالاختيار،ولا يكون من مقولته،للفرق بين الأمرين،وهو أنّ الملاك في كون الفعل اختيارياً هو صدوره من الانسان بالارادة والاختيار،والملاك في كون الشيء من مقولته هو أن يكون حصوله بالتأثير على نحو التدريج كتسخين المسخن ما دام يسخن ونحو ذلك،ومن المعلوم أنّ أحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر بالكلّية ولا مساس لأحدهما بالآخر أبداً،ولذا لا يعتبر في كون شيء من مقولة الفعل أن يكون من الأفعال الاختيارية أصلاً كما هو واضح.
وعلى الجملة:فالفعل الاختياري لا يكون مساوقاً لمقولة الفعل،بل النسبة بينهما عموم من وجه،فانّ الشيء قد يكون من مقولته ولا يكون اختيارياً كالهيئات العارضة للأجسام الخارجية،وقد يكون اختيارياً وليس من مقولته، بل من مقولة اخرى كمقولة الوضع أو الكيف أو نحوها.
ونتيجة ما ذكرناه:هي أنّ الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً،لا من ناحية النيّة،ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما،ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود.
الأوّل: أ نّه لا شبهة في أنّ الهوي إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام والجلوس تصرّف في ملك الغير ويكون مصداقاً للغصب،ضرورة أنّ الحركة في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرف فيها،وبما أنّ الهوي والنهوض نحو من الحركة فلا محالة يكونان متحدين مع الغصب خارجاً ومن مصاديقه وأفراده،إلّاأنّ الكلام في أ نّهما من أجزاء الصلاة كبقية أجزائها أو من مقدّماتها،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع،لفرض أنّ الصلاة
عندئذ متحدة مع الغصب في الخارج ومصداق له ولو باعتبار بعض أجزائها، ومعه لا بدّ من القول بالامتناع أي بامتناع [ اجتماع الأمر والنهي في ] الصلاة في الأرض المغصوبة،لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً.وعلى الثاني فلا مناص من القول بالجواز،وذلك لأنّ الهوي والنهوض وإن كانا تصرفاً في ملك الغير،إلّاأ نّهما ليسا من أجزاء المأمور به ليلزم اتحاده مع المنهي عنه،بل هما من مقدّمات وجوده في الخارج.
وقد ذكرنا في بحث مقدّمة الواجب 1أنّ حرمة المقدّمة لا تنافي إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة،وأمّا إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها،كما لو توقف إنقاذ الغريق مثلاً على التصرف في مال الغير،ولم يكن له طريق آخر يمكن إنقاذه منه،فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم وأحكامه.
وعلى الجملة: فالهوي الذي هو مقدّمة للركوع والسجود،والنهوض الذي هو مقدّمة للقيام،إذا كانا من أفعال الصلاة وأجزائها يتعين القول بالامتناع في المسألة،وإذا كانا من المقدّمات يتعين القول بالجواز فيها،ولذا لو فرض تمكن شخص من الركوع والسجود والقيام والجلوس بدونهما،لكان مجزئاً لا محالة، ولا يجب عليه الاتيان بهما،لفرض عدم دخلهما في المأمور به لا جزءاً ولا شرطاً.وعلى هذا الضوء فلا بدّ من أن يدرس ناحية كونهما من أجزاء الصلاة أو من مقدّماتها.
الصحيح هو أ نّهما من المقدّمات،وذلك لأنّ الظاهر من أدلة جزئية الركوع والسجود والقيام والجلوس هو أنّ نفس هذه الهيئات جزء فحسب،لا مع
مقدّماتها من الهوي والنهوض،لفرض أنّ هذه العناوين اسم لتلك الهيئات خاصة لا لها ولمقدّماتها معاً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ المذكور في لسان الأدلة إنّما هو نفس تلك العناوين على الفرض،لا هي مع مقدّماتها.
فالنتيجة على ضوئهما:هي أنّ المستفاد من تلك الأدلة ليس إلّاجزئية هذه العناوين فحسب دون مقدّماتها كما لا يخفى،وتمام الكلام في ذلك في محلّه.
وعلى هدى هذا البيان قد ظهر أ نّه لا شبهة في صحة الصلاة في الدار المغصوبة إذا فرض أ نّها لم تكن مشتملة على الركوع والسجود ذاتاً،كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة،وإن ذكرنا في موضعه أ نّها ليست بصلاة،بل هي دعاء حقيقة،أو عرضاً كما إذا كان المكلف عاجزاً عنهما وكانت وظيفته الصلاة مع الايماء والاشارة بدلاً عنهما،لفرض أنّ الصلاة عندئذ كما أ نّها ليست مصداقاً للتصرف في مال الغير،كذلك ليست متوقفة عليه،وأمّا إذا كانت مشتملة على الركوع والسجود فوقتئذ تقع المزاحمة بين حرمة التصرف في مال الغير ووجوب الصلاة،فلا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة من تقديم الأهم أو محتمل الأهمّية أو نحو ذلك على غيره إن كان،وإلّا فيتعين التخيير.
وعلى الجملة:فعلى ما حققناه من أنّ الهوي والنهوض ليسا من أفعال الصلاة وأجزائها،لا مناص من القول بالجواز من هذه الناحية في المسألة،وعليه فإذا لم تكن مندوحة في البين تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة وحرمة التصرف، كما عرفت.
الثاني: أنّ الظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرّد مماسة الجبهة الأرض،بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها،ومن المعلوم أنّ الاعتماد على أرض الغير نحو تصرف فيها فلا يجوز،وعليه فتتحد الصلاة المأمور بها مع الغصب المنهي عنه في الخارج،فإذن لا مناص من القول بالامتناع،ولا يفرق في ذلك
بين كون ما يصح عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر،ضرورة أ نّه على كلا التقديرين يكون الاعتماد على أرض الغير،وعلى هذا فلا يكفي في القول بالجواز مجرد الالتزام بكون الهوي والنهوض من المقدّمات لا من الأجزاء،بل لا بدّ من فرض عدم كون السجود على أرض الغير أيضاً.
ونتيجة ذلك:هي جواز الاجتماع فيما إذا لم تكن الصلاة مشتملة على السجود ذاتاً كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة،أو عرضاً كما إذا كان المكلف عاجزاً عنه،أو فرض أ نّه متمكن من السجود على أرض مباحة أو مملوكة كما إذا كان في انتهاء الأرض المغصوبة،وفي غير هذه الصور لا بدّ من القول بالامتناع، لفرض أنّ المأمور به فيها-أي في هذه الصور-متحد مع المنهي عنه خارجاً، وكون شيء واحد وهو السجود مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه وهو محال.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أ نّه لا يمكن أن تكون الحركة الواحدة مصداقاً للصلاة والغصب معاً،وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) يرتكز على نقطة واحدة،وهي أنّ الغصب من مقولة برأسها وهي مقولة الأين،وعلى هذا فيستحيل اتحاده مع الصلاة خارجاً.
ولكن قد عرفت أنّ هذه النقطة خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً، ضرورة أنّ الغصب مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة،وليس من المفاهيم المتأصلة والماهيات المقولية،وعليه فلا مانع من اتحاده مع الصلاة في الخارج أبداً،بأن يكون منشأ انتزاعه بعينه ما تصدق عليه الصلاة،بل قد مرّ أ نّه متحد خارجاً مع السجدة فيها،ومع الهوي والنهوض بناءً على كونهما من أجزائها،كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الصادر من المكلف في الدار
المغصوبة حركتان إحداهما مصداق للغصب والاُخرى مصداق للصلاة من الغرائب، بداهة أنّ الصادر من المكلف في الدار ليس إلّاحركة واحدة وهي مصداق للغصب،فلا يعقل أن تكون مصداقاً للصلاة المأمور بها.
على أ نّه لو كانت هناك حركة اخرى تكون مصداقاً لها في نفسها فلا محالة تكون مصداقاً للغصب أيضاً،لوضوح أنّ كل حركة فيها تصرف فيها ومصداق له،فإذن كيف يمكن فرض وجود الحركتين فيها تكون إحداهما مصداقاً للغصب فحسب،والاُخرى مصداقاً للصلاة كذلك.
وخلاصة ما ذكرناه لحدّ الآن:هي أنّ القول بالامتناع في مسألتنا هذه أعني الصلاة في الأرض المغصوبة يتوقف على الالتزام بأحد أمرين:
الأوّل:أن نقول بكون الهوي والنهوض من أفعال الصلاة وأجزائها لا من المقدّمات،وعلى هذا فلا بدّ من القول بالامتناع.
الثاني:أن نقول بأنّ السجود لا يصدق على مجرد وضع الجبهة على الأرض بدون الاعتماد عليها،فانّ الاعتماد عليها مأخوذ في مفهوم السجدة،فلو وضع جبهته عليها بدون اعتماد لم تصدق عليه السجدة،بل هو مماسة لها،لا أ نّه سجدة.
أمّا الأمر الأوّل:فقد عرفت أ نّهما ليسا من الأفعال والأجزاء،بل هما من المقدّمات،فإذن من هذه الناحية لا مانع من القول بالجواز أصلاً.
وأمّا الأمر الثاني:فقد عرفت أنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة فلا تصدق السجدة بدون الاعتماد عليها،وهذا واضح.وعليه فلا تجوز الصلاة المشتملة على السجدة في الأرض المغصوبة،لاستحالة كون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به،كما أ نّها إذا لم تكن مشتملة عليها فلا مانع من جوازها
فيها،أو إذا فرض أنّ المكلف متمكن من السجدة على الأرض المباحة أو المملوكة.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن قد أصبحت:أنّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت مشتملة على السجود فلا مناص من القول بالامتناع،وأمّا إذا لم تكن مشتملة عليه ذاتاً أو عرضاً،أو كان المكلف متمكناً منه على أرض مباحة أو مملوكة فلا مانع من القول بالجواز.
نتائج ما ذكرناه إلى الآن عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ مسألة الاجتماع ترتكز على ركيزة واحدة،وهي أن يكون المجمع مشتملاً على مناط كلا الحكمين معاً خاطئ جداً،وذلك لما حققناه من أنّ البحث في هذه المسألة لا يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر،بل يعم جميع المذاهب والآراء حتّى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد مطلقاً.
والسر فيه ما ذكرناه من أنّ مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أنّ المجمع في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهية أو متعدد كذلك،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع مطلقاً وعلى جميع المذاهب،ضرورة أنّ استحالة اجتماع الضدّين لا تختص بمذهب دون آخر،وعلى الثاني لا بدّ من القول بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى اللّازم.
الثانية: أنّ ما ذكره (قدس سره) من أنّ مسألة التعارض ترتكز على كون المجمع مشتملاً على مناط أحد الحكمين في مورد الاجتماع أيضاً خاطئ،وذلك لأنّ البحث عن هذه المسألة كالبحث عن مسألة الاجتماع لا يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر،ضرورة أنّ ملاك التعارض هو عدم إمكان جعل الحكمين
معاً في مورد الاجتماع،ومن المعلوم أنّ هذا لا يتوقف على وجود ملاك لأحدهما فيه،لوضوح استحالة جعلهما معاً لشيء واحد،سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد والقول بعدمها،فانّ خلاف الأشعري مع الإمامية إنّما هو في العقل العملي،أعني به التحسين والتقبيح العقليين،ولأجل ذلك أنكر مسألة التبعية لابتنائها على تلك المسألة،أعني مسألة التحسين والتقبيح،لا في العقل النظري،أعني به إدراكه إمكان الأشياء واستحالتها،والمفروض أنّ جعل الحكمين المتضادين لشيء واحد محال عقلاً،وكذا الحال في مسألة التزاحم،فانّها لا تختص بوجهة نظر دون آخر،بل تعم جميع المذاهب والآراء حتّى مذهب الأشعري،وذلك لما ذكرناه من أنّ مبدأ انبثاق المزاحمة بين الحكمين مع عدم التنافي بينهما في مقام الجعل إنّما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.
الثالثة: أنّ الدليل لا يكون متكفلاً لفعلية الحكم أصلاً،ضرورة أنّ فعليته تتبع فعلية موضوعه في الخارج وأجنبية عنه بالكلّية،فانّ مفاده-كما ذكرناه غير مرّة-ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية،ولا نظر له إلى فعليته ووجوده في الخارج أصلاً،كما أ نّه لا يمكن أن يكون الدليل متكفلاً للحكم الاقتضائي وهو اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة،ضرورة أنّ بيان ذلك ليس من شأن الشارع ووظيفته،فانّ وظيفته بيان الأحكام الشرعية،لا بيان مصالح الأشياء ومفاسدها ومضارها ومنافعها،وبذلك ظهر ما في كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقدّمة التاسعة فلاحظ.
الرابعة: أنّ ثمرة المسألة على القول بالجواز صحة العبادة في مورد الاجتماع مطلقاً ولو كان عالماً بالحرمة فضلاً عما إذا كان جاهلاً بها،ولكن خالف في ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وقال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة،
وبصحتها في صورة الجهل بها والنسيان،وأفاد في وجه ذلك ما حاصله:أ نّه لايمكن تصحيح العبادة بالأمر،لفرض أنّ متعلق الأمر هو الحصة الخاصة وهي الحصة المقدورة،ولا يمكن بالترتب لعدم جريانه في المقام،ولا يمكن بالملاك لفرض أنّ صدور المجمع منه قبيح،ومع القبح الفاعلي لا تصحّ العبادة،كما أ نّها لا تصح مع القبح الفعلي.
فالنتيجة:أ نّه لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا القول فضلاً عن القول بالامتناع،ولكن قد تقدّم أنّ نظريته (قدس سره) هذه خاطئة جداً ولم تطابق الواقع أصلاً،لما عرفت من أ نّه يمكن الحكم بصحتها من ناحية الأمر،لما عرفت من إطلاق المتعلق وعدم المقتضي لتقييده بخصوص الحصة المقدورة،ومن ناحية الترتب لما ذكرناه هناك من أ نّه لا مانع من الالتزام به في المقام أصلاً ومن ناحية الملاك،لما عرفت من عدم القبح الفاعلي بالاضافة إلى إيجاد ما ينطبق عليه المأمور به.
الخامسة: قد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أ نّه تصحّ العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز مطلقاً،أي في العبادات والتوصليات،وإن كان معصية للنهي أيضاً،وتبطل على القول بالامتناع مع العلم بالحرمة،وكذا مع الجهل بها إذا كان عن تقصير مع ترجيح جانب النهي،وتصح إذا كان عن قصور،ولكن قد ذكرنا سابقاً عدم تمامية جميع ما أفاده (قدس سره) فلاحظ.
السادسة: أنّ الصحيح في المقام هو ما ذكرناه من صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز مطلقاً،أي بلا فرق بين كون المكلف عالماً بالحرمة أو جاهلاً بها أو ناسياً،وكذا بلا فرق بين كون الحرمة أهم من الوجوب أو بالعكس أو كونهما متساويين،وباطلة على القول بالامتناع مع ترجيح جانب النهي مطلقاً،أي من دون فرق بين العلم بالحرمة والجهل بها،كان جهله عن
قصور أو عن تقصير.نعم،صحيحة على هذا الفرض في صورة واحدة وهي صورة النسيان،كما أ نّها صحيحة على هذا القول مع ترجيح جانب الوجوب.
السابعة: أنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد اختار في المسألة القول بالامتناع،بدعوى أنّ تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون،بل المعنون واحد في مورد الاجتماع وجوداً وماهيةً.ولكن قد عرفت أنّ ما أفاده لا يخرج عن مجرد الدعوى لفرض عدم إقامة برهان عليه،ولأجل ذلك قلنا إنّه لا يتم إلّا على نحو الموجبة الجزئية.
الثامنة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد اختار في المسألة القول بالجواز، بدعوى أنّ النسبة بين متعلقي الأمر والنهي إذا كانت عموماً من وجه فلا محالة يكون التركيب بينهما انضمامياً،لفرض أنّ جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الافتراق بعينها هي جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الاجتماع، وعليه فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة،وإلّا لزم أن لا تكون جهة صدقهما في مورد الاجتماع تلك الجهة التي كانت في مورد الافتراق وهذا خلف.وهذا بخلاف ما إذا كانت النسبة بالعموم من وجه بين موضوعي الحكمين كقولنا:أكرم العالم ولا تكرم الفاسق،حيث إنّ النسبة بين العالم والفاسق عموم من وجه،فانّ التركيب بينهما في مورد الاجتماع لا محالة يكون اتحادياً وهو العالم الفاسق،لانطباق كلا العنوانين عليه،فلا يمكن أن يكون إكرامه واجباً وحراماً معاً.
التاسعة: قد تقدّم أنّ نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إنّما تتم في المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية،فانّ تعدد العنوان منها يستلزم تعدد المعنون في الخارج لا محالة،لاستحالة أن يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحادياً، وأمّا إذا كان أحدهما عنواناً عرضياً والآخر ذاتياً أو كان كلاهما عنواناً
انتزاعياً،فلا يستلزم تعددهما تعدد المعنون،بل يمكن أن يكون المعنون واحداً ويمكن أن يكون متعدداً،ومن هنا قلنا إنّه لا ضابط للمسألة لا للقول بالامتناع ولا للقول بالجواز،بل لا بدّ من ملاحظة المجمع في كل مورد لنرى أ نّه واحد وجوداً وماهية أو متعدد كذلك،لنحكم على الأوّل بالامتناع وعلى الثاني بالجواز، ولأجل ذلك الصحيح هو القول بالتفصيل في المسألة في مقابل القول بالامتناع والجواز مطلقاً.
نعم،ما ذكره (قدس سره) من أنّ النسبة بالعموم من وجه إذا كانت بين موضوعي الحكمين،فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحادياً متين جداً،كما سبق بشكل واضح.
العاشرة: أنّ الغصب عنوان انتزاعي وليس من الماهيات المقولية،بداهة أ نّه ينطبق على مقولات متعددة،فلو كان مقولة بنفسه يستحيل أن ينطبق على مقولة اخرى.
الحادية عشرة: قد تقدّم أنّ الصلاة بتمام أجزائها غير متحدة مع الغصب خارجاً،إلّافي السجدة حيث إنّها متحدة معه في الخارج ومصداق له،وعلى هذا الضوء فالصلاة إذا لم تكن مشتملة عليها ذاتاً أو عرضاً أو كانت السجدة على أرض مباحة مثلاً أو مملوكة،فلا مانع من القول بالجواز أصلاً.
الثانية عشرة: قد سبق أنّ الهوي والنهوض من مقدّمات الصلاة لا من أجزائها.
الثالثة عشرة: أنّ الصحيح عدم سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية التي يعبّر عنها بالتشخصات مسامحة.
الرابعة عشرة: أنّ النسبة بالعموم من وجه لاتتصوّر بين جوهرين وعرضين
وجوهر وعرض،لفرض أ نّهما متباينان ماهية ووجوداً فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر،وقد تقدّم أنّ النسبة كذلك إنّما تتصور بين عنوانين عرضيين وعنوان عرضي وذاتي.
الخامسة عشرة: أنّ التركيب بين المادة والصورة حقيقي لا انضمامي،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره)،حيث يرى أنّ التركيب بينهما انضمامي،ولكن قد عرفت أنّ نظره (قدس سره) في ذلك خاطئ ولا يمكن تصديقه بوجه.
الأوّل:التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب.
الثاني:التوضؤ أو الاغتسال من آنية الذهب أو الفضة.
الثالث:التوضؤ أو الاغتسال من الاناء المغصوب.
الرابع:التوضؤ أو الاغتسال في الدار المغصوبة.
الخامس:التوضؤ أو الاغتسال في الفضاء المغصوب.
أمّا الأوّل: فلا شبهة في القول بالامتناع وعدم جواز الوضوء أو الغسل منه،ضرورة استحالة أن يكون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به،ولا يمكن فيه القول بالجواز أبداً،ولا مناص من تقديم دليل حرمة التصرف فيه على دليل وجوب الوضوء أو الغسل،وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ وجوب الوضوء والغسل مشروط بوجدان الماء بمقتضى الآية المباركة،وقد قلنا إنّ المراد منه وجوده الخاص من جهة القرينة الداخلية والخارجية،وهو ما يتمكن المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً،والمفروض في المقام أنّ المكلف لا يتمكن من استعماله شرعاً وإن تمكن عقلاً،ومعه يكون فاقداً له،فوظيفة الفاقد هو التيمم دون الوضوء أو الغسل،وعليه فلا بدّ من الالتزام بفساد الوضوء أو الغسل به
مطلقاً حتّى في حال الجهل،ضرورة أنّ التخصيص واقعي والجهل بالحرمة لايوجب تغيير الواقع وصيرورة الحرام واجباً ولو كان عن قصور،وهذا واضح.
نعم،لو كان المكلف ناسياً لكون هذا الماء مغصوباً فتوضأ أو اغتسل به فلا إشكال في صحة وضوئه أو غسله إذا كان نسيانه عن قصور لا عن تقصير، والوجه في ذلك:هو أنّ النسيان رافع للتكليف واقعاً فلا يكون الناسي مكلفاً في الواقع،وهذا بخلاف الجهل فانّه رافع للتكليف ظاهراً،فيكون الجاهل مكلفاً في الواقع،وعليه فترتفع حرمة التصرف في هذا الماء واقعاً من ناحية النسيان، ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له،فانّ المانع عن شموله هو حرمة التصرف فيه،والمفروض أ نّها قد ارتفعت واقعاً من ناحية النسيان، ومع ارتفاعها لا محالة يشمله لفرض عدم المانع منه حينئذ أصلاً،ومعه لا محالة يكون صحيحاً.نعم،لو كان نسيانه عن تقصير كما هو الحال في أكثر الغاصبين،فلا يمكن الحكم بصحته،وذلك لأنّ الحرمة وإن ارتفعت واقعاً من جهة نسيانه،إلّاأنّ ملاكه باقٍ وهو المبغوضية،ومعه لا يمكن التقرب به.
فالنتيجة: أنّ التوضؤ أو الاغتسال بهذا الماء غير صحيح في صورة الجهل ولو كان عن قصور،وصحيح في صورة النسيان إذا كان كذلك.
ولكن للشيخ الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام كلام،وهو أ نّه (قدس سره) مع التزامه بفساد العبادة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة مطلقاً ذهب إلى صحة الوضوء أو الغسل هنا بهذا الماء في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع عن قصور،ولعلّه (قدس سره) استند في ذلك إلى أحد أمرين:
الأوّل: دعوى أنّ الوضوء أو الغسل مشتمل على الملاك في هذا الحال،هذا