فهرست

پرش به محتوا

آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴

جلد

4

فهرست

فهرست

صفحه اصلی کتابخانه محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴ صفحه 2

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 104)


الخروج عنها لمانع من سدّ باب أو نحوه إلى أن ضاق وقت الصلاة،فعندئذ على القول بالجواز وتعدد المجمع لا إشكال في صحة الصلاة بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه،لفرض أنّ مصداق المأمور به غير متحد مع مصداق المنهي عنه،ومعه لا مانع من التقرب به أصلاً،وإن كان المكلف مستحقاً للعقاب من ناحية أنّ تصرّفه في مال الغير بدون إذنه منتهٍ إلى الاختيار.

والاشكال إنّما هو على القول بالامتناع واتحاد الصلاة مع الحركات الخروجية، وحاصله:أنّ الحرمة في المقام وإن سقطت من ناحية الاضطرار،ضرورة أنّ بقاء الحرمة في هذا الحال مع عدم تمكن المكلف من الترك-أي ترك الحرام – لغو محض وتكليف بما لا يطاق،إلّاأنّ مبغوضيتها باقية،ومن المعلوم أ نّها تمنع عن قصد التقرب،ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض عند المولى،وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة،لفرض أ نّها مبغوضة فيستحيل أن يكون مقرّباً،هذا ما تقتضيه القاعدة الأوّلية،فلو كنّا نحن وهذه القاعدة ولم يكن هنا دليل آخر يدل على وجوب الصلاة وعدم سقوطها بحال،لقلنا بسقوطها وعدم وجوبها في المقام.

ولكن من جهة دليل آخر وأ نّها لا تسقط بحال،نلتزم بوجوبها وعدم سقوطها في هذا الحال أيضاً،ولازم ذلك هو سقوط المبغوضية،بمعنى أنّ الصلاة في هذا الحال ليست بمبغوضة بل هي محبوبة فعلاً وقابلة للتقرب بها، ولكن لا بدّ عندئذ من الالتزام بارتفاع المبغوضية عن هذه الحركات التي تكون مصداقاً للصلاة بمقدار زمان يسع الصلاة دون الزائد على ذلك،فانّ الضرورات تتقدر بقدرها،لوضوح أنّ ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال من ناحية وعدم إمكان الحكم بصحتها هنا مع فرض بقاء المبغوضية من ناحية اخرى

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 105)


أوجب الالتزام بسقوط تلك المبغوضية عن هذه الحركات الصلاتية لا محالة في زمان يسع لها فحسب لا مطلقاً،لعدم المقتضي لارتفاع المبغوضية عنها في الزائد على هذا المقدار من الزمان،بل هي باقية على حالها من المبغوضية.

وإن شئت فقل: إنّ المقتضي للالتزام بسقوط المبغوضية أمران:

الأوّل:وجوب الصلاة في هذا الحال وعدم سقوطها عن المكلف على الفرض.

الثاني:عدم إمكان الحكم بصحة الصلاة مع بقاء المبغوضية،ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض،فعندئذ لو لم نلتزم بسقوط المبغوضية عنها في زمان يسع لفعلها للزم التكليف بما لا يطاق وهو محال،ولأجل ذلك لا بدّ من الالتزام بسقوطها،ومن المعلوم أنّ ذلك لا يقتضي إلّاجواز التصرف بمقدار زمان يسع لفعل الصلاة فحسب،وأمّا الزائد عليه فلا مقتضي للجواز وارتفاع المبغوضية أصلاً،هذا بناءً على وجهة نظر الأصحاب من القول بالجواز أو الامتناع في مسألة الاجتماع.

وأمّا بناءً على ما حققناه هناك من أنّ أجزاء الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً ما عدا السجدة،باعتبار أنّ مجرد مماسة الجبهة الأرض لا يكفي في صدقها بل لا بدّ فيها من الاعتماد على الأرض،وبدونه لا تصدق السجدة،ومن المعلوم أ نّه تصرف في مال الغير بدون إذنه وهو مبغوض للمولى فلا يمكن التقرب به.نعم،نفس هيئة السجود ليست تصرفاً فيه،فانّها من هذه الناحية كهيئة الركوع والقيام والقعود،وقد ذكرنا أنّ هذه الهيئات التي تعتبر في الصلاة ليس شيء منها متحداً مع الكون في الأرض المغصوبة ومصداقاً للغصب.

نعم،الحركات المتخللة بينها كالهوي والنهوض وإن كانت تصرّفاً فيها

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 106)


ومصداقاً له،إلّاأ نّها ليست من أجزاء الصلاة،فما هو من أجزائها غير متحد مع الغصب خارجاً،وما هو متحد معه ليس من أجزائها،وقد سبق الكلام في كل ذلك بشكل واضح،فعندئذ لا مانع من الحكم بصحة الصلاة هنا أصلاً، وإن قلنا بفسادها في غير حال الخروج من ناحية السجدة أو الركوع أو من ناحية مقدماتهما،ومعه لا حاجة إلى التماس دليل آخر يدل على وجوبها في هذا الحال،وذلك لأنّ الصلاة في حال الخروج في مفروض المقام ليست إلّا مشتملة على التكبيرة والقراءة والايماء بدلاً عن الركوع والسجود،ومن الطبيعي أ نّه ليس شيء منها تصرّفاً في مال الغير عرفاً ومصداقاً للغصب.

أمّا التكبيرة والقراءة،فلأ نّهما من مقولة الكيف المسموع،ومن الواضح أ نّه لا صلة لها بالتصرف في مال الغير أصلاً،كما أ نّه من الواضح أ نّه لا يعدّ تموج الهواء وخرقه الناشئ من الصوت تصرّفاً.

وأمّا الايماء للركوع والسجود فأيضاً كذلك،ضرورة أ نّه لا يعدّ تصرفاً في ملك الغير عرفاً ليكون مبغوضاً.نعم،لا تجوز الصلاة في هذا الحال مع الركوع والسجود لاستلزامهما التصرف الزائد وهو غير جائز،فإذن لا محالة تنتقل الوظيفة إلى الايماء كما عرفت.

فالنتيجة: أنّ الصلاة مع الايماء في حال الخروج صحيحة مطلقاً من دون حاجة إلى التماس دليل آخر،ومع الركوع والسجود باطلة.

وأمّا الكلام في المورد الثاني: وهو ما إذا لم يكن المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الأرض المغصوبة إلّامع الايماء للركوع والسجود،فقد ظهر أ نّه على القول بالجواز في المسألة وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية كما حققناه الآن،فلا إشكال في صحة الصلاة حال الخروج،بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه،والوجه في هذا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 107)


واضح،وهو أنّ الصلاة حال الخروج ليست مصداقاً للغصب وتصرّفاً في مال الغير على الفرض،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّها لا تستلزم التصرف الزائد على نفس الخروج،لفرض أ نّها غير مشتملة على الركوع والسجود المستلزمين له.ومن ناحية ثالثة:أنّ المكلف غير قادر على الصلاة التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار،لتكون هذه الصلاة-أعني الصلاة مع الايماء حال الخروج-غير مشروعة في حقّه،لأنّها وظيفة العاجز دون القادر.

فالنتيجة على ضوء ذلك:هي أ نّه لا مناص من الالتزام بصحة هذه الصلاة في هذا الحال أعني حال الخروج.وأمّا بناءً على القول بالامتناع وفرض اتحاد الصلاة مع الغصب خارجاً فلا تجوز الصلاة حال الخروج،بل لا بدّ من الاتيان بها خارج الدار،وذلك لفرض أ نّها مصداق للغصب ومبغوض للمولى،ومعه لا يمكن التقرب بها لاستحالة التقرب بما هو مبغوض.

وأمّا الكلام في المورد الثالث: وهو ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار،فلا إشكال في لزوم إتيانها في الخارج وعدم جواز إتيانها حال الخروج ولو على القول بالجواز في المسألة،والوجه في ذلك ظاهر،وهو أنّ المكلف لو أتى بها في هذا الحال لكان عليه الاقتصار على الايماء للركوع والسجود،ولا يجوز له الاتيان بها معهما،لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة وهو غير جائز،فإذن لا بدّ من الاقتصار على الايماء، ومن الواضح جداً أنّ من يتمكن من المرتبة العالية من الصلاة وهي الصلاة مع الركوع والسجود لا يجوز له الاقتصار على المرتبة الدانية وهي الصلاة مع الايماء،ضرورة أ نّها وظيفة العاجز عن المرتبة الاُولى،وأمّا وظيفة المتمكن منها فهي تلك المرتبة لا غيرها،لوضوح أ نّه لا يجوز الانتقال من هذه المرتبة، أعني المرتبة العالية إلى غيرها من المراتب إلّافي صورة العجز عن الاتيان بها.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 108)


وإن شئت فقل:إنّ الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة الجامع بين المبدأ والمنتهى،والمفروض أنّ المكلف قادر على إتيان هذا الطبيعي بينهما،ومعه لا محالة لا تنتقل وظيفته إلى صلاة العاجز والمضطر وهي الصلاة مع الايماء كما هو واضح،هذا على القول بالجواز.وأمّا على القول بالامتناع فالأمر أوضح من ذلك،لأنّه لو قلنا بجواز الصلاة حال الخروج في هذا الفرض-أي فرض تمكنه من الصلاة المختارة في خارج الدار-على القول بالجواز فلا نقول به على هذا القول،لفرض أنّ الصلاة على هذا متحدة مع الغصب خارجاً ومصداق له، ومعه لا يمكن التقرب بها،بداهة استحالة التقرب بالمبغوض.

وعلى الجملة:فالمانع على القول بالامتناع أمران:أحدهما مشترك فيه بينه وبين القول بالجواز،وهو أنّ الصلاة مع الايماء ليست وظيفة له،وثانيهما مختص به،وهو أنّ الصلاة على هذا القول متحدة مع الحركة الخروجية التي هي مصداق للغصب،ومعه لا يمكن أن تقع مصداقاً للمأمور به.

ثمّ لا يخفى أنّ الصلاة في حال الخروج مع عدم التمكن منها مع الركوع والسجود في الخارج على وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) تقع صحيحة مطلقاً،أي بلا فرق في ذلك بين القول بالامتناع في المسألة والقول بالجواز، وذلك لأنّ الحركات الخروجية على وجهة نظره (قدس سره) 1محبوبة للمولى وواجبة من ناحية انطباق عنوان التخلية عليها،وعلى هذا فلا محالة تقع الصلاة صحيحة،وإن كانت متحدة مع تلك الحركات خارجاً،لفرض أ نّها ليست بمبغوضة لتكون مانعة عن صحتها والتقرب بها،بل هي محبوبة.نعم لو استلزمت الصلاة في هذا الحال تصرّفاً زائداً فلا تجوز،وهذا واضح.


 

1) <page number=”108″ /><nl />أجود التقريرات 2:193.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 109)


فالنتيجة: أنّ نظريتنا تفترق عن نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في الصلاة حال الخروج،فانّ الحركات الخروجية على وجهة نظرنا مبغوضة وموجبة لاستحقاق العقاب عليها،ولذا تقع الصلاة فاسدة في صورة اتحادها معها خارجاً،وعلى وجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) محبوبة وتقع الصلاة في هذا الفرض صحيحة،هذا تمام الكلام في مسألة الاضطرار.

بقي هنا أُمور:

[الأوّل:مرجحات الحرمة على القول بالامتناع]

الأوّل: أ نّا قد ذكرنا أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية من صغريات كبرى باب التعارض،كما أ نّها على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات كبرى باب التزاحم وقد تقدم الكلام في هاتين الناحيتين بصورة واضحة 1فلا نعيد،كما أ نّه تقدم النقد على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في ضمن المقدمة الثامنة والتاسعة والعاشرة فلا حاجة إلى الاعادة.

الثاني:أنّه على القول بالامتناع في المسألة

فهل هناك مرجّح لتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب أو بالعكس،أو لا يكون مرجّح لشيء منهما،هذا فيما إذا لم يكن دليل من الخارج على تقديم أحدهما على الآخر كاجماع أو نحوه وإلّا فلا كلام.

وقد ذكروا لترجيح جانب النهي على جانب الأمر وجوهاً:

منها: أنّ دليل النهي أقوى دلالةً من دليل الأمر،وذلك لأنّ الاطلاق في طرف دليل النهي شمولي،ضرورة أنّ حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه


 

1) <page number=”109″ /><nl />راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 368 الجهة الرابعة.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 110)


بمقتضى قوله (عليه السلام):«لايحل مال امرئ مسلم إلّابطيب نفسه» 1ونحوه، لا تختص بمال دون مال وبتصرف دون آخر،فهي تنحل بحسب الواقع بانحلال موضوعها ومتعلقها في الخارج،ففي الحقيقة تكون نواهٍ متعددة بعدد أفراد الموضوع والمتعلق،فيكون كل تصرف محكوماً بالحرمة على نحو الاستقلال من دون ارتباط حرمته بحرمة تصرف آخر…وهكذا.

[تقدم الاطلاق الشمولي على البدلي]

وهذا بخلاف الاطلاق في طرف دليل الأمر فانّه بدلي،وذلك لأنّ الأمر المتعلق بصرف الطبيعة من دون تقييدها بشيء يقتضي كون المطلوب هو صرف وجودها في الخارج بعد استحالة أن يكون المطلوب هو تمام وجودها،ومن المعلوم أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجود فيكون الوجود الثاني والثالث وهكذا غير مطلوب،وهذا معنى كون الاطلاق في طرف الأمر بدلياً،وقد بينّا السر في أنّ الاطلاق في طرف الأوامر المتعلقة بالطبائع بدلي والاطلاق في طرف النواهي المتعلقة بها شمولي في أوّل بحث النواهي بصورة مفصّلة فلاحظ 2ولذلك-أي لكون الاطلاق في طرف النهي شمولياً،وفي طرف الأمر بدلياً – ذكروا أنّ الاطلاق الشمولي يتقدم على الاطلاق البدلي في مقام المعارضة، وذهب إليه شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 3وتبعه على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 4واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة وقد تقدمت تلك الوجوه


 

1) <page number=”110″ /><nl />الوسائل 5:/120أبواب مكان المصلي ب 3 ح 1،29:/10أبواب القصاص في‌النفس ب 1 ح 3 (مع اختلاف يسير).
2) <nl />المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 295 وما بعدها.
3) <nl />مطارح الأنظار:49.
4) <nl />أجود التقريرات 1:235.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 111)


مع المناقشة عليها بصورة مفصّلة في بحث الواجب المشروط 1وملخصها:

1- أنّ تقديم الاطلاق البدلي على الاطلاق الشمولي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله،وهذا بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي،فانّه لا يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله لفرض أنّ مدلوله واحد وهو محفوظ، غاية الأمر أنّ ذلك يوجب تضييق دائرة انطباقه على أفراده.

2- أنّ ثبوت الاطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة اخرى زائداً على كون المولى في مقام البيان وعدم نصب قرينة على الخلاف،وهي إحراز تساوي أفراد المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها،وهذا بخلاف الاطلاق الشمولي،فانّه لا يحتاج إلى أزيد من المقدمات المعروفة المشهورة، وبتلك المقدمات يتمّ الاطلاق وسريان الحكم إلى جميع أفراده،وإن كانت الأفراد مختلفة من جهة الملاك المقتضي لجعل الحكم عليها،ومن المعلوم أ نّه مع وجود الاطلاق الشمولي لا يمكن إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض، وهذا معنى تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع،لفرض عدم ثبوت الاطلاق له بالاضافة إلى هذا الفرد.

3- أنّ حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأطراف عن حكم العقل بالتخيير،والاطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعاً،فلو توقف عدم مانعيته على وجود الاطلاق البدلي لدار.

ولنأخذ بالمناقشة عليها،أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ العبرة في تقديم أحد الظهورين على الآخر إنّما تكون بقوته،ومجرد


 

1) <page number=”111″ /> في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 158.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 112)


أنّ تقدم أحدهما على الآخر يوجب رفع اليد عن بعض مدلوله دون العكس لا يكون موجباً للتقديم.

وثانياً: أنّ الحكم الالزامي في مورد الاطلاق البدلي وإن كان واحداً متعلقاً بصرف وجود الطبيعة،إلّاأنّ الحكم الترخيصي المستفاد منه ثابت لكل فرد من أفرادها،وذلك لأنّ لازم إطلاقها هو ترخيص الشارع المكلف في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه،فالعموم بالاضافة إلى هذا الحكم – أعني الحكم الترخيصي-شمولي لا محالة،فإذن كما يستلزم تقديم الاطلاق البدلي على الشمولي رفع اليد عن بعض مدلوله،كذلك يستلزم تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي رفع اليد عن بعض مدلوله،وعليه فلا ترجيح لتقديم أحدهما على الآخر.

وأمّا الوجه الثاني: فيردّه أنّ التخيير الثابت في مورد الاطلاق البدلي ليس تخييراً عقلياً،بل هو تخيير شرعي مستفاد من عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد خاص،وبذلك يحرز تساوى الأفراد في الوفاء بالغرض من دون حاجة إلى مقدمة اخرى خارجية،ولذلك لو شك في تعيين بعض الأفراد لاحتمال أنّ الملاك فيه أقوى من الملاك في غيره،يدفع ذلك الاحتمال بالاطلاق،فالاطلاق بنفسه محرز للتساوي بلا حاجة إلى شيء آخر.وعليه فلا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي عليه،بل تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع،فانّ مقتضى الاطلاق البدلي هو تخيير المكلف في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه،وهو يعارض مقتضى الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع.

وعلى الجملة: فالنقطة الرئيسية لهذا الوجه أنّ ثبوت الاطلاق للمطلق البدلي يحتاج إلى مقدمة اخرى زائداً على مقدمات الحكمة،وهي إحراز

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 113)


تساوي أفراده في الوفاء بالغرض،وهذا بخلاف ثبوته في المطلق الشمولي،فانّه لا يحتاج إلى مقدمة زائدة على تلك المقدمات،فإذن هو مانع عن ثبوت الاطلاق له،أي للمطلق البدلي بالاضافة إلى مورد الاجتماع،ضرورة أ نّه بعد كون مورد الاجتماع مشمولاً للمطلق الشمولي لا يمكن إحراز أ نّه وافٍ بغرض الطبيعة المأمور بها كبقية أفرادها،وهذا معنى عدم إحراز تساوي أفرادها مع وجود الاطلاق الشمولي.

ولكن تلك النقطة خاطئة جداً،لأنّها ترتكز على كون التخيير بين تلك الأفراد عقلياً،ولكن عرفت أنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق وعدم تقييد الشارع الطبيعة بحصة خاصة،فإذن نفس الاطلاق كافٍ لاحراز التساوي وإلّا لكان على المولى التقييد ونصب القرينة،والعقل وإن احتمل وجداناً عدم التساوي إلّاأ نّه لا أثر لهذا الاحتمال بعد ثبوت الاطلاق الكاشف عن التساوي.

ومن هذا البيان تظهر المناقشة في:

الوجه الثالث أيضاً،وذلك لأنّ هذا الوجه أيضاً يبتني على كون التخيير عقلياً،ولكن بعد منع ذلك وأنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق،فان مفاده ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه،ومن المعلوم أنّ حجية هذا لا تتوقف على أيّ شيء ما عدا مقدمات الحكمة،فإذن لا محالة يعارض هذا الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع للعلم بكذب أحد هذين الحكمين في الواقع وعدم صدوره من الشارع.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ هذه الوجوه بأجمعها خاطئة ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 114)


فالصحيح: هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أ نّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي،وذلك لأنّ ثبوت كلا الاطلاقين يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها على الفرض،ضرورة أ نّه لا مزية لأحدهما بالاضافة إلى الآخر من هذه الناحية أصلاً،فاذن الحكم بجريان مقدمات الحكمة في طرف المطلق الشمولي دون المطلق البدلي ترجيح من غير مرجح،وعليه فيسقط كلا الاطلاقين معاً،بمعنى أنّ مقدمات الحكمة لا تجري في طرف هذا ولا في طرف ذاك،وهذا معنى سقوطهما بالمعارضة،ومجرد كون الاطلاق في أحدهما شمولياً وفي الآخر بدلياً لا يكون سبباً للترجيح بعد ما كان الاطلاق فيه أيضاً شمولياً بالدلالة الالتزامية كما عرفت.

نعم،العموم الوضعي يتقدم على المطلق سواء أكان شمولياً أو بدلياً،والوجه فيه واضح،وهو أنّ سراية الحكم في العموم الوضعي إلى جميع أفراده لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وأ نّها فعلية،لأنّها معلولة للوضع لا لتلك المقدمات،وهذا بخلاف إطلاق المطلق،فانّه معلول لاجراء تلك المقدمات وبدون إجرائها لا إطلاق له أصلاً.وعلى ذلك فالعام بنفسه صالح لأن يكون قرينة على التقييد،ومعه لا تجري المقدمات،إذ من المقدمات عدم نصب قرينة على الخلاف ومن المعلوم أنّ العام صالح لذلك،ومن هنا قالوا إنّ دلالة العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه:أنّ مجرد كون الاطلاق في طرف النهي شمولياً وفي طرف الأمر بدلياً لا يكون سبباً لتقديمه عليه إذا لم يكن العموم والشمول مستنداً إلى الوضع،فإذن هذا الوجه باطل.


 

1) <page number=”114″ /><nl />كفاية الاُصول:106.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 115)


[قاعدة أولوية دفع المفسدة من جلب المصحلة]

ومنها: أنّ الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة كذلك في متعلقه،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّهم ذكروا أ نّه إذا دار الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة كان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

فالنتيجة على ضوئهما:هي أ نّه لا بدّ في المقام من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب،لكونه من صغريات تلك القاعدة.

وغير خفي أنّ هذا الاستدلال من الغرائب جداً،وذلك لأنّه على فرض تسليم تلك الكبرى فالمقام ليس من صغرياتها جزماً،بداهة أ نّه على القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة،أو بالعكس.فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيه، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه،فليس في مورد الاجتماع مصلحة ومفسدة ليدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة،ولا موضوع عندئذ لتلك القاعدة،وموضوع هذه القاعدة وموردها هو ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ولا يتمكن المكلف من دفع الاُولى وجلب الثانية معاً،فلا محالة تقع المزاحمة بينهما،فيقال إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة،فهذه القاعدة لو تمت فانّما تتم في باب التزاحم،بناءً على وجهة نظر العدلية فحسب لا مطلقاً،وأمّا في باب التعارض فلا تتم أصلاً، وقد تقدم أنّ المسألة-أي مسألة الاجتماع-على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض.على أ نّه لا أصل لهذه القاعدة في نفسها،لعدم الدليل عليها أصلاً،لا من العقل ولا من الشرع،بل يختلف الحال فيها باختلاف الموارد فقد يقدّم جانب المفسدة على جانب المنفعة،وقد يقدم جانب المنفعة على جانب المفسدة،وهكذا.

أضف إلى ذلك: أنّ هذه القاعدة على فرض تماميتها وكون الأولوية فيها

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 116)


أولوية قطعية لا ظنّية،فهي لا صلة لها بالأحكام الشرعية أصلاً،وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرة غالباً،والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة اخرى:أنّ الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار،وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها،ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرة،ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرة مالية كالزكاة والخمس والحج ونحوها،وبدنية كالجهاد وما شاكله،كما أنّ في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية،مع أنّ الاُولى تابعة لمصالح كامنة فيها،والثانية تابعة لمفاسد كذلك،فاذن لا موضوع لهذه القاعدة بالاضافة إلى الأحكام الشرعية أصلاً.

الثاني: أنّ وظيفة المكلف عقلاً إنّما هي الاتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بعد ثبوت التكليف شرعاً،وأمّا دفع المفسدة بما هي أو استيفاء المصلحة كذلك فليس بواجب لا عقلاً ولا شرعاً،فلو علم المكلف بوجود مصلحة في فعل أو بوجود مفسدة في آخر مع عدم العلم بثبوت التكليف من قبل الشارع لا يجب عليه استيفاء الاُولى ولا دفع الثانية،وأمّا مع العلم بثبوته فالواجب عليه هو امتثال ذلك التكليف لا غيره،فالواجب بحكم العقل على كل مكلف إنّما هو أداء الوظيفة وتحصيل الأمن من العقاب،لا إدراك الواقع بما هو واستيفاء المصالح ودفع المفاسد.

وعلى هذا فلا يمكن ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب من ناحية هذه القاعدة،بل لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد اخر لتقديم أحدهما على الآخر إن كانت،وإلّا فيرجع إلى الاُصول العملية.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 117)


ومن الغريب ما صدر عن المحقق القمي (قدس سره) 1في المقام حيث إنّه أجاب عن هذا الدليل بأ نّه مطلقاً ممنوع،لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة، فاذن لا يدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة،بل يدور الأمر بين دفع هذه المفسدة وتلك.

ووجه الغرابة واضح، ضرورة أ نّه لا مفسدة في ترك الواجب كما أ نّه لا مصلحة في ترك الحرام،فالمصلحة في فعل الواجب من دون أن تكون في تركه مفسدة،كما أنّ المفسدة في فعل الحرام من دون أن تكون في تركه مصلحة وإلّا لكان اللازم أن ينحل كل حكم إلى حكمين أحدهما متعلق بالفعل والآخر متعلق بالترك،ولازم هذا أن يستحق عقابين عند ترك الواجب أو فعل الحرام، أحدهما على ترك الواجب والآخر على فعل الحرام،لفرض أنّ ترك الواجب محرّم ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتى هو (قدس سره) كما هو واضح.

ومنها: الاستقراء،بدعوى أ نّا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها،نجد أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب،فمن جملة تلك الموارد حكم الشارع بترك العبادة أيام الاستظهار،فانّ أمر المرأة في هذه الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها،ولكنّ الشارع غلّب جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر بترك الصلاة فيها.ومنها:الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين،فانّ الأمر يدور حينئذ بين حرمة الوضوء أو الغسل منهما ووجوبه،ولكنّ الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر باهراق الماءين والتيمم للصلاة.ومنها:غير ذلك.

ومن مجموع ذلك نستكشف أن تقديم جانب الحرمة أمر مطرد في كل مورد دار


 

1) <page number=”117″ /><nl />قوانين الاُصول 1:153.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 118)


الأمر بينهما بلا اختصاص بمسألة دون اخرى وبباب دون آخر.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص فضلاً عن التام،فانّ الاستقراء الناقص عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات والأفراد وتفحصها ليفيد الظن بثبوت كبرى كلية،في قبال الاستقراء التام الذي هو عبارة عن تتبع تمام الأفراد،ولذلك يفيد القطع بثبوت كبرى كلية،ومن الواضح جداً أنّ الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين.

وثانياً: أنّ الأمر في هذين الموردين أيضاً ليس كذلك،وأنّ الحكم بعدم الجواز فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة،بيان ذلك:

أمّا في مورد الاستظهار، فلأنّ الروايات الواردة فيه في باب الحيض والنفاس مختلفة غاية الاختلاف،ولأجل اختلاف تلك الروايات والنصوص في المسألة اختلفت الأقوال فيها،فذهب بعضهم كالمحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1والسيد العلّامة الطباطبائي (قدس سره) في العروة 2إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه.وجعل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) اختلاف النصوص قرينة على الاستحباب وعدم اهتمام الشارع بالاستظهار،كما جعل (قدس سره) اختلاف النصوص قرينة على عدم الالزام في غير هذا المورد أيضاً،منها:مسألة الكر.وعلى الجملة:فهذا من الأصل المسلّم عنده (قدس سره) ففي كل مسألة كانت النصوص مختلفة غاية الاختلاف كهذه المسألة مثلاً ولم تكن قرينة من الخارج على أنّ الحكم في المسألة إلزامي جعل الاختلاف قرينة على عدم كون الحكم فيها إلزامياً.


 

1) <page number=”118″ /><nl />كتاب في الدماء الثلاثة:39.
2) العروة الوثقىٰ 1:219 المسألة 23 [ 723 ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 119)


واختار جماعة وجوبه في يوم واحد والتخيير في بقية الأيام.وهذا هو الصحيح في نظرنا،وأ نّه مقتضى الجمع العرفي بين هذه الروايات،وقد ذكرنا نظير ذلك في مسألة التسبيحات الأربعة وقلنا في تلك المسألة أيضاً بوجوب واحدة منها والتخيير في التسبيحتين الأخيرتين،بمعنى أنّ للمكلف أن يقتصر على الواحدة وله أن يأتي بالبقية أيضاً وهو الأفضل.وذهب جماعة إلى وجوبه ثلاثة أيام.وذهب جماعة اخرى إلى وجوبه عشرة أيام.

هذه هي الأقوال في المسألة،ومن الواضح جداً أنّ شيئاً من هذه الأقوال لا يرتكز على القاعدة المزبورة،أعني قاعدة وجوب تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بالكلية.

أمّا على القول الأوّل فواضح،لأنّ النصوص على هذا القول محمولة على الاستحباب،أي استحباب الاستظهار لا وجوبه،فلم يقدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب.

وأمّا على القول الثاني فالأمر أيضاً كذلك،لأنّ إيجاب الاستظهار إذا كان من جهة تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لوجب الاستظهار إلى عشرة أيام،ولم يختص بيوم واحد،ضرورة أنّ احتمال الحرمة كما هو موجود في اليوم الأوّل كذلك موجود في اليوم الثاني والثالث وهكذا،فاختصاص وجوبه بيوم واحد منها قرينة على أ نّه أجنبي عن الدلالة على القاعدة المزبورة كما هو واضح.

وأمّا على القول الثالث،فلأنّ حاله حال القول الثاني من هذه الناحية،إذ لو كان وجوب الاستظهار من جهة تلك القاعدة لوجب إلى عشرة أيام،لبقاء احتمال الحرمة بعد ثلاثة أيام أيضاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 120)


وأمّا على القول الرابع،فقد يتوهم أنّ الروايات على هذا القول تدل على تلك القاعدة،ولكنّه من المعلوم أ نّه توهم خاطئ جداً،وذلك لأنّ مجرد مطابقة الروايات للقاعدة لاتكشف عن ثبوت القاعدة وابتناء وجوب الاستظهار عليها، فلعله بملاك آخر مثل قاعدة الامكان ونحوها.على أنّ هذا القول ضعيف في نفسه فكيف يمكن أن يستشهد به على ثبوت قاعدة كلية.

أضف إلى ذلك:أنّ الاستشهاد يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض والنفساء ذاتاً،إذ لو كانت الحرمة تشريعية لم يكن الأمر في أيام الاستظهار مردداً بين الحرمة والوجوب،فايجاب الاستظهار في تلك الأيام يكون أجنبياً عن القاعدة المزبورة بالكلية.

وأمّا المورد الثاني: وهو عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين فقد ظهر حاله مما تقدم،فانّ عدم جواز الوضوء بهما ليس من ناحية ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب،بل هو من ناحية النص الخاص 1الذي ورد فيه الأمر باهراقهما والتيمم،وإلّا فمقتضى القاعدة هو الاحتياط بتكرار الصلاة،إذ بذلك يحرز المكلف أنّ إحدى صلاتيه وقعت مع الطهارة المائية،ومن المعلوم أ نّه مع التمكن من ذلك لا تصل النوبة إلى التيمم على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه 2.

أضف إلى ذلك:أنّ حرمة التوضؤ منهما ليست حرمة ذاتية بالضرورة،بل هي حرمة تشريعية وهي خارجة عن موضوع القاعدة،ضرورة أنّ موضوعها هو دوران الأمر بين الحرمة الذاتية والوجوب،وأمّا الحرمة التشريعية فهي


 

1) <page number=”120″ /><nl />الوسائل 3:/345أبواب التيمم ب 4 ح 1.
2) شرح العروة 2:356 المسألة 7 [ 155 ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 121)


تابعة لقصد المكلف وإلّا فلا حرمة بحسب الواقع،وكيف كان فلا أصل لهذه القاعدة أصلاً.

لحدّ الآن قد تبيّن أ نّه لايرجع شيء من الوجوه التي ذكروها لترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب إلى محصّل.

فالصحيح هو ما حققنا سابقاً من أنّ المسألة على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع تدخل في كبرى باب التعارض،ولا بدّ عندئذ من الرجوع إلى مرجحات ذلك الباب،فإن كان هناك ترجيح لأحدهما على الآخر فلا بدّ من العمل به،وإلّا فالمرجع هو الاُصول العملية.

نعم،قد تكون في بعض الموارد خصوصية تقتضي تقدم الحرمة على الوجوب وإن كان شمول كل منهما لمورد الاجتماع مستفاداً من الاطلاق،وذلك كاطلاق دليل وجوب الصلاة مع إطلاق دليل حرمة الغصب،فانّ عنوان الغصب من العناوين الثانوية،ومقتضى الجمع العرفي بين حرمته وجواز فعلٍ بعنوانه الأوّلي في مورد الاجتماع حمل الجواز على الجواز في نفسه وبطبعه غير المنافي للحرمة الفعلية،وذلك نظير ما دلّ على جواز أكل الرمان بالاضافة إلى دليل حرمة الغصب،فانّ النسبة بينهما وإن كانت نسبة العموم من وجه إلّاأ نّه لا يشك في تقديم حرمة الغصب،لما ذكرناه.

[الثالث:الكلام في صحة الصلاة في مورد الاجتماع على الامتناع و عدم ثبوت ترجيح]

الثالث: أ نّه إذا لم يثبت ترجيح لتقديم جانب الحرمة على الوجوب أو بالعكس،فهل يمكن الحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع على هذا القول، أعني القول بالامتناع أم لا ؟

فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أ نّه لا مانع من الحكم


 

1) <page number=”121″ /><nl />كفاية الاُصول:178.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 122)


بالصحة-أي صحة الصلاة-من ناحية جريان أصالة البراءة عن حرمتها، ومعه لا مانع من الحكم بالصحة أصلاً،ضرورة أنّ المانع عنه إنّما هو الحرمة الفعلية،وبعد ارتفاع تلك الحرمة بأصالة البراءة فهي قابلة للتقرب بها،ومعه لا محالة تقع صحيحة،ولا يتوقف جريان البراءة عنها على جريانها في موارد الشك في الأجزاء والشرائط،بل ولو قلنا بعدم جريانها في تلك الموارد تجري في المقام،والوجه في ذلك:هو أنّ المورد ليس داخلاً في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،لفرض أ نّه ليس هنا شك في مانعية شيء عن المأمور به واعتبار عدمه فيه،بل الشك هنا في أنّ هذه الحركات الصلاتية التي هي مصداق للغصب وتصرف في مال الغير هل هي محرّمة فعلاً أو لا،فالشك إنّما هو في حرمة هذه الحركات فحسب،ومعه لا مانع من جريان البراءة عنها وإن قلنا بالاشتغال في تلك المسألة.

نعم،المانعية في المقام عقلية،ضرورة أنّ مانعية الحرمة عن الصلاة ليست مانعية شرعية ليكون عدم حرمتها قيداً لها،بل مانعيتها من ناحية أنّ صحتها لا تجتمع مع الحرمة،لاستحالة اجتماع المبغوضية والمحبوبية في الخارج،وعلى هذا فالحرمة مانعة عن التقرب بها عقلاً لا شرعاً،فإذن لا يرجع الشك فيها إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين،ليكون داخلاً في كبرى تلك المسألة ويدور جريان البراءة هنا مدار جريانها فيها،بل تجري هنا ولو لم نقل بجريانها هناك،لأنّ الشك هنا شك بدوي.

نعم،لو قلنا بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة هي المؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن محرزة،فأصالة البراءة عندئذ لا تجري،بل لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال ولو قلنا بجريان البراءة في الشك في الأجزاء والشرائط في تلك

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 123)


المسألة،والوجه فيه واضح،وهو أ نّه مع احتمال غلبة المفسدة في الواقع كما هو المفروض لا يمكن قصد القربة كما هو واضح،هذا حاصل ما أفاده (قدس سره) مع توضيح منّا.

ونحلّل ما أفاده (قدس سره) إلى عدة نقاط:

1- جريان أصالة البراءة عن الحرمة.

2- أ نّه يكفي في الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مجرد رفع هذه الحرمة بأصالة البراءة،ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك.

3- أنّ المقام غير داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر.

4- أ نّه لو بنينا على أنّ المؤثر في المبغوضية الفعلية هو المفسدة الواقعية وإن لم تكن محرزة فلا يمكن الحكم بالصحة وقتئذ،لعدم إمكان التقرب بما يحتمل كونه مبغوضاً للمولى.

أمّا النقطة الاُولى: فلا إشكال فيها،لوضوح أنّ البراءة تجري ولا مانع من جريانها أبداً كما هو ظاهر.

وأمّا النقطة الثانية: فلا يمكن تصديقها بوجه،وذلك لأنّه لا يكفي في الحكم بالصحة مجرد رفع الحرمة بأصالة البراءة،بل لا بدّ من إحراز المقتضي له أيضاً،وهو في المقام إطلاق دليل المأمور به بالاضافة إلى هذا الفرد، والمفروض أ نّه قد سقط بالمعارضة،وعليه فلا مقتضي للصحة،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ أصالة البراءة عن الحرمة لاتثبت إطلاق دليل المأمور به واقعاً وحقيقة ليتمسك به لاثبات صحة هذا الفرد وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه،وهو الصلاة في الدار المغصوبة في مفروض الكلام ليقيّد به إطلاق دليل النهي بغير ذلك الفرد،والمفروض أنّ أصالة البراءة لا ترفع إلّاالحرمة ظاهراً

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 124)


لا واقعاً لتثبت لوازمها العقلية أو العادية.وقد ذكرنا في محلّه 1أ نّه لا دليل على حجية الأصل المثبت.فإذن أصالة البراءة عن الحرمة في المقام لا تثبت الاطلاق،أي إطلاق دليل المأمور به ليشمل المورد إلّاعلى القول بالأصل المثبت.

نعم،لو قامت أمارة معتبرة كخبر الثقة أو نحوه على ارتفاعها لكانت مثبتة للاطلاق لا محالة،لما ذكرناه في موضعه 2من أنّ مثبتات الأمارات الحاكية عن الواقع كاخبار الثقة أو ما شاكلها حجة،إلّاأنّ وجود مثل هذه الأمارة في محل الكلام مفروض العدم.

وأمّا النقطة الثالثة: فالمقام وإن لم يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من نقطة النظر في كون الشك في حرمة المجمع وعدم حرمته كما عرفت،إلّاأ نّه داخل في كبرى تلك المسألة من نقطة نظر آخر،وهي أنّ أصل وجوب الصلاة مثلاً على الفرض معلوم لنا،والشك إنّما هو في تقييدها بغير هذا المكان،وعليه فلا محالة يدور الأمر بين أن يكون الواجب هو المطلق أو المقيد، فإذن بناءً على ما حققناه هناك من جريان البراءة عن التقييد الزائد تجري البراءة في المقام أيضاً،فانّ التقييد بما أ نّه كلفة زائدة دون الاطلاق فهو مدفوع بحديث الرفع أو نحوه،وبذلك يثبت الاطلاق الظاهري للمأمور به،إذ المفروض أنّ وجوب بقية أجزائه وشرائطه معلوم لنا والشك إنّما هو في تقييده بأمر زائد، فاذا رفعنا هذا التقييد بأصالة البراءة يثبت الاطلاق الظاهري بضم الأصل إلى أدلة الأجزاء والشرائط المعلومتين وهو كافٍ للحكم بالصحة ظاهراً،لفرض


 

1) <page number=”124″ /><nl />مصباح الاُصول 3:181 وما بعدها.
2) <nl />مصباح الاُصول 3:186.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 125)


انطباق المأمور به عندئذ على الفرد المأتي به في الخارج ولا نعني بالصحة إلّا ذلك.وعليه فنحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع ظاهراً لانطباق الطبيعة المأمور بها عليها في الظاهر بعد رفع تقييدها بغير هذا المكان بأصالة البراءة، لفرض أ نّها بعد رفع ذلك التقييد صارت مصداقاً لها في حكم الشارع،وهذا المقدار كافٍ للحكم بالصحة،وتمام الكلام في محلّه.

وأمّا النقطة الرابعة: وهي أنّ المؤثر في المبغوضية لو كان هو المفسدة الواقعية الغالبة فلا مجال للبراءة،فيردّها:عدم العلم بوجود مفسدة في هذا الحال فضلاً عن كونها غالبة على المصلحة للشك في أصل وجودها وأنّ المجمع في هذا الحال مشتمل على مفسدة أم لا،والوجه في ذلك ما ذكرناه 1من أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض لا باب التزاحم،لفرض أ نّه لا علم لنا بوجود مفسدة في المجمع،فانّ الطريق إلى إحراز اشتماله على المفسدة إنّما هو حرمته،والمفروض أ نّها مشكوك فيها وهي مرفوعة بأصالة البراءة،ومع ارتفاعها كيف يمكن لنا العلم بوجود مفسدة فيه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ المجمع مشتمل على كلا الملاكين كما هو مختاره (قدس سره) في باب الاجتماع،إلّاأنّ كون المفسدة غالبة على المصلحة غير معلومة،ومع عدم العلم بالغلبة كانت الحرمة والمبغوضية مجهولة لا محالة فلا مانع من الرجوع إلى البراءة.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه:أ نّه لا مانع من الحكم بصحة الصلاة أو نحوها في مورد الاجتماع ظاهراً على القول بالامتناع فيما إذا فرض أ نّه لم يكن ترجيح لأحد الجانبين على الآخر.


 

1) <page number=”125″ /><nl />في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 373.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 126)


[الرابع:لحوق تعدد الاضافات بتعدد العناوين في الدخول في النزاع]

الرابع: أنّ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1قد ألحق تعدد الاضافات بتعدد العناوين والجهات،بدعوى أنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه لا يختص بما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة مثلاً،والنهي بعنوان آخر كالغصب،وقد اجتمعا في مورد واحد،بل يعم ما إذا تعلق الأمر بشيء كالاكرام مثلاً بجهة وإضافة،والنهي تعلق به بجهة اخرى وإضافة ثانية،ضرورة أنّ تعدد العنوان لو كان مجدياً في جواز اجتماع الأمر والنهي مع وحدة المعنون وجوداً وماهية لكان تعدد الاضافة أيضاً مجدياً في جوازه،إذ كما أنّ تعدد العنوان يوجب اختلاف المعنون بحسب المصلحة والمفسدة،كذلك تعدد الاضافة يوجب اختلاف المضاف إليه بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلاً والوجوب والحرمة شرعاً.وعلى هذا فكل دليلين متعارضين كانت النسبة بينهما عموماً من وجه مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق يدخلان في باب الاجتماع لا في باب التعارض ليرجع إلى مرجحات ذلك الباب،إلّاإذا علم من الخارج أ نّه لم يكن لأحد الحكمين ملاك في مورد الاجتماع،فعندئذ يدخل في باب التعارض،كما هو الحال أيضاً في تعدد العنوانين.

وعلى الجملة:فلا فرق بين تعدد العنوان وتعدد الاضافة من هذه الناحية أصلاً.وأمّا معاملة الفقهاء (قدس سرهم) مع مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق معاملة التعارض بالعموم من وجه،فهي إمّا مبنية على القول بالامتناع أو لاحراز عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.وأمّا في غير ذلك فلا معارضة بين الدليلين أصلاً.

وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما أفاده (قدس سره) من جهات:


 

1) <page number=”126″ /><nl />كفاية الاُصول:179.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 127)


الاُولى: أنّ فرض إحراز الفقهاء عدم وجود ملاك لأحد الحكمين في مورد الاجتماع بين الدليلين اللذين كانت النسبة بينهما عموماً من وجه في جميع أبواب الفقه أمر غريب،فان هذا يختص بمن كان عالماً بالجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية،ومن هنا قد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام مع قطع النظر عن ثبوتها،فإذن من أين يعلم الفقيه بعدم اشتمال المجمع لأحد الملاكين من أوّل الفقه إلى آخره.

وعلى الجملة:فعلى وجهة نظره (قدس سره) من أنّ المجمع في مورد الاجتماع لا بدّ أن يكون مشتملاً على ملاك كلا الحكمين معاً وإلّا فلا يكون من باب الاجتماع أصلاً،فلا بدّ من فرض جهة وجوب وجهة حرمة في إكرام العالم الفاسق،ليكون داخلاً في هذا الباب،أي باب الاجتماع.

وعلى هذا الأساس يدخل جميع موارد التعارض بالعموم من وجه كهذا المثال في هذا الباب،إلّاإذا علم من الخارج بعدم وجود الملاك لأحد الحكمين في مورد الاجتماع،فوقتئذ يدخل في باب التعارض.وأمّا معاملة الفقهاء (رضوان اللّٰه عليهم) مع هذا المثال وما شاكله معاملة التعارض بالعموم من وجه إنّما يكون لأحد سببين:

الأوّل:من ناحية علمهم بعدم وجود الملاك لأحدهما في مورد الاجتماع في تمام أبواب الفقه.

الثاني:من ناحية التزامهم بالقول بالامتناع في المسألة-أي مسألة الاجتماع-وعدم كفاية تعدد العنوان أو الاضافة للقول بالجواز.

ولنأخذ بالمناقشة في كليهما.

أمّا السبب الأوّل: فلأ نّه يرتكز على كون الفقهاء عالمين بالجهات الواقعية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 128)


والملاكات النفس الأمرية ليكونوا في المقام عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما في مورد الاجتماع،ولأجل ذلك عاملوا معهما معاملة المتعارضين بالعموم من وجه،ومن الضروري أ نّه ليس لهم هذا العلم فانّه يختص باللّٰه تعالى وبالراسخين في العلم.على أ نّه لو كان لهم هذا العلم لكانوا عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما المعيّن،ومعه لا معنى لأن يعامل معهما معاملة التعارض، ضرورة أ نّه عندئذ يكون ملاك الآخر هو المؤثر،وكيف كان فصدور مثل هذا الكلام من مثله (قدس سره) يعدّ من الغرائب جداً.

وأمّا السبب الثاني: فلأ نّه يبتني على أن يكون الفقهاء جميعاً من القائلين بالامتناع في المسألة،وهذا مقطوع البطلان،كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّ هذا المثال وما شاكله خارج عن مسألة الاجتماع رأساً،لا يتوهم ولن يتوهم جواز اجتماع الأمر والنهي فيه،بداهة أ نّه يستحيل أن يكون في المجمع في مورد الاجتماع وهو إكرام العالم الفاسق جهة وجوب وحرمة معاً ومحبوبية ومبغوضية كذلك،فإذن لا محالة يدخل في كبرى باب التعارض كما صنع الفقهاء ذلك فيه وفي أمثاله،وذلك لاستحالة جعل كلا الحكمين معاً للمجمع في مادة الاجتماع بحسب مقام الواقع والثبوت،ونعلم بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع،بداهة أ نّه كيف يعقل أن يكون إكرام زيد العالم الفاسق مثلاً واجباً ومحرّماً معاً.وعليه فلا محالة تقع المعارضة بين مدلولي دليليهما في مقام الاثبات والدلالة،فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات بابها،وهذا هو الملاك في باب التعارض،ومن هنا قد ذكرنا سابقاً أنّ التعارض بين الحكمين لا يتوقف على وجود ملاك لأحدهما دون الآخر،بل الملاك فيه ما ذكرناه من عدم إمكان جعل كلا الحكمين معاً في الواقع ومقام الثبوت،ولذا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 129)


قلنا إنّ مسألة التعارض لا تختص بوجهة نظر مذهب دون آخر،بل تجري على جميع المذاهب والآراء.

الثانية: أنّ ما ذكره (قدس سره) من المثال خارج عن محل الكلام في المسألة،وذلك لأنّ العموم في هذا المثال في كلا الدليلين عموم استغراقي،فلا محالة ينحل الحكم بانحلال موضوعه أو متعلقه فيثبت لكل فرد من أفراده حكم مستقل غير مربوط بحكم ثابت لفرد آخر منها…وهكذا،ولازم ذلك هو أن يكون المجمع في مورد الاجتماع وهو إكرام العالم الفاسق محكوماً بكلا هذين الحكمين على نحو الاستقلال،بأن يكون إكرامه واجباً ومحرماً معاً،ومن الواضح جداً أنّ القائلين بالجواز في المسألة لا يقولون به في مثل هذا المثال، ضرورة أنّ في مثله جعل نفس هذين التكليفين معاً محال لا أ نّه من التكليف بالمحال،فإذن هذا المثال وما شاكله خارج عن محل الكلام.

الثالثة: قد تقدم في مقدمات مسألة الاجتماع أنّ محل الكلام فيها فيما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة مثلاً والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب،ولكنّ المكلف قد جمع بينهما في مورد،فعندئذ يقع الكلام في أنّ التركيب بينهما اتحادي أو انضمامي،بمعنى أنّ المعنون لهما في الخارج هل هو واحد وجوداً وماهية أو متعدد كذلك،فعلى الأوّل لا مناص من القول بالامتناع لاستحالة كون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به.وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بالقول بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.وقد تقدم تفصيل كل ذلك من هذه النواحي بصورة واضحة.

وعلى ضوء هذا الأساس قد ظهر أنّ مجرد تعدد الاضافة مع كون المتعلق واحداً وجوداً وماهيةً لا يجدي للقول بالجواز في مسألة الاجتماع،بل هو خارج عن محل الكلام فيها بالكلية،لما عرفت من أنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 130)


تعلق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر مباين له،ولكن اتفق اجتماعهما في مورد واحد،والمفروض في المقام أنّ الأمر تعلق بعين ما تعلق به النهي وهو إكرام العالم الفاسق،غاية الأمر جهة تعلق الأمر به شيء وهو علمه،وجهة تعلق النهي به شيء آخر وهو فسقه،ومن المعلوم أنّ تعدد الجهة التعليلية لا يوجب تعدد المتعلق،فالمتعلق في المقام واحد وجوداً وماهيةً وهو الاكرام،والموضوع له أيضاً كذلك وهو زيد العالم الفاسق مثلاً،والتعدد إنّما هو في الصفة،فانّ لزيد صفتين:إحداهما العلم وهو يقتضي وجوب إكرامه،والاُخرى الفسق وهو يقتضي حرمة إكرامه،ومن البديهي أن لا يعقل أن يكون إكرام زيد العالم الفاسق واجباً ومحرّماً معاً،لأنّ نفس هذا التكليف محال،لا أ نّه مجرد تكليف بالمحال وبغير المقدور،والمفروض أنّ صفتي العلم والفسق ليستا متعلقتين للتكليف، بل هما جهتان تعليليتان خارجتان عن متعلق التكليف وموضوعه.

فالنتيجة: أنّ مثل هذه الموارد خارج عن محل الكلام في المسألة،والقائل بالجواز فيها لا يقول بالجواز فيه،بل تخيل دخول هذه الموارد في محل النزاع من مثله (قدس سره) من الغرائب جداً.

نتائج ما ذكرناه عدة نقاط:

الاُولى: أنّ المناط في الاستحالة والامكان في الأحكام التكليفية إنّما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده،ولا عبرة بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلاً، فالفعل الواحد في زمان واحد لا يمكن أن يكون واجباً ومحرّماً معاً ولو كان تعلق الوجوب به في زمان وتعلق الحرمة به في زمان آخر،ومن هنا قلنا باستحالة القول بكون الخروج واجباً فعلاً ومنهياً عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 131)


الثانية: أنّ الأحكام الوضعية لا تشترك في مناط الاستحالة والامكان مع الأحكام التكليفية،فانّ تعدد زمان الحكم في الأحكام الوضعية يجدي في رفع الاستحالة ولو كان زمان المتعلق واحداً،ومن هنا قلنا بالكشف في باب الفضولي وأنّ المولى من زمان تحقق الاجازة يحكم بملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي من حين العقد للمشتري إذا كان الفضولي من طرف البائع، وللبائع إذا كان من طرف المشتري،بل قلنا إنّ ذلك مضافاً إلى إمكانه على طبق القاعدة في خصوص المقام.

الثالثة: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من عدم الفرق في الاستحالة والامكان بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية وأ نّهما على صعيد واحد من هذه الناحية،لا يرجع إلى معنىً محصّل كما تقدم.

الرابعة: الصحيح هو أنّ الخروج من الدار المغصوبة داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار،وقد ذكرنا أ نّه لا فرق في الدخول في موضوع هذه القاعدة بين أن يكون الامتناع المنتهي إلى اختيار المكلف تكوينياً أو تشريعياً،كما أ نّه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين التكاليف الوجوبية والتكاليف التحريمية،لما ذكرناه من أنّ هذه القاعدة ترتكز على ركيزة واحدة، وهي أن يكون امتناع امتثال التكليف في الخارج منتهياً إلى اختيار المكلف وإرادته.

الخامسة: أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الحركات الخروجية داخلة في كبرى قاعدة وجوب ردّ المال إلى مالكه ومصداق للتخلية والتخلص لا يمكن المساعدة عليه أصلاً،وما ذكره من الوجوه لاثبات ذلك لا يتم شيء منها،وقد ذكرنا وجه فسادها بشكل واضح فلاحظ.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 132)


السادسة: أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أ نّه لا تعارض بين خطاب صلّ وخطاب لا تغصب على القول بالامتناع غير تام، والوجه فيه ما ذكرناه هناك من أنّ مسألة الاجتماع على هذا القول-أي على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية-تدخل في كبرى باب التعارض لا محالة،لاستحالة كون المنهي عنه مصداقاً للمأمور به، فاذن لا محالة تقع المعارضة بين إطلاق الخطابين.

السابعة: أ نّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي،وما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الوجوه لذلك لا يتم شيء منها كما عرفت،نعم العموم الوضعي يتقدم على الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة سواء أكان بدلياً أو شمولياً كما عرفت.

الثامنة: أ نّه لا أصل لقاعدة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة،على أ نّها لا تنطبق على الأحكام الشرعية أصلاً وأجنبية عنها بالكلية كما سبق.

التاسعة: أنّ الاستقراء الناقص لا يثبت بمورد وموردين فضلاً عن التام، مع أ نّه على تقدير ثبوته لا يكون حجة.أضف إلى ذلك:أنّ ما ذكروه من الموردين خارج عن مورد القاعدة وليس تقديم جانب الحرمة فيهما مستنداً إلى تلك القاعدة.

العاشرة: الصحيح هو أنّ جانب الحرمة يتقدم على جانب الوجوب في مورد الاجتماع فيما إذا كانت الحرمة ثابتة للشيء بعنوان ثانوي،وهو عدم إذن المالك في التصرف فيه،فانّ جواز انطباق الطبيعة المأمور بها على المجمع في مورد الاجتماع بمقتضى الاطلاق عندئذ لا يعارض حرمته كما عرفت.

الحادية عشرة: أ نّه لا شبهة في جريان البراءة عن حرمة المجمع بما هي عند

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 133)


الشك فيها،لفرض أنّ الشبهة بدوية وهي المقدار المتيقن من موارد جريانها.

وأمّا جريانها عن تقييد الواجب بغير هذا المكان فهو يبتني على جريانها في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،ولكن بما أ نّا قد اخترنا جريان البراءة فيها هناك فلا محالة نقول بجريانها في المقام أيضاً.

الثانية عشرة: أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من إلحاق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات في الدخول في محل النزاع في المسألة لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً كما عرفت.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء.

إلى هنا قد تمّ بعون اللّٰه تعالى وتوفيقه الجزء الرابع 1من كتابنا محاضرات في اصول الفقه،وسيتلوه الجزء الخامس إن شاء اللّٰه تعالى.


 

1) <page number=”133″ /><nl />[ حسب التجزئة السابقة ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 134)


النهي في العبادات

يقع البحث فيه عن عدّة جهات:

[الاُولى:الفرق بين هذه المسألة و مسألة اجتماع الأمر و النهي]

الاُولى: ما تقدّم من أنّ نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة – وهي مسألة اجتماع الأمر والنهي-هي أنّ النزاع في هذه المسألة كبروي،فانّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادةٍ وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة،بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى-وهي تعلق النهي بالعبادة – وفي تلك المسألة صغروي حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو سراية النهي في مورد الاجتماع والتطابق عن متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر وعدم سرايته.وعلى ضوء ذلك فالبحث في تلك المسألة في الحقيقة بحث عن إثبات الصغرى لهذه المسألة،حيث إنّها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر تكون من إحدى صغريات هذه المسألة ومصاديقها،فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين المسألتين.

[الثانية:كون هذه المسألة من المسائل الاصولية العقلية]

الثانية: أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاُصولية العقلية،فلنا دعويان:

الاُولى:أ نّها من المسائل الاُصولية.الثانية:أ نّها من المسائل العقلية.

أمّا الدعوى الاُولى: فلما ذكرناه في أوّل بحث الاُصول 1من أنّ المسألة الاُصولية ترتكز على ركيزتين:إحداهما:أن تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الإلهٰي.وثانيتهما:أن يكون ذلك بنفسها،أي بلا ضم مسألة اصولية


 

1) <page number=”134″ /><nl />راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 4-9.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 135)


اخرى،وحيث إنّ في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين فهي من المسائل الاُصولية،فانّها على القول بثبوت الملازمة تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي بلا واسطة ضم مسألة اصولية اخرى.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ الحاكم بثبوت الملازمة بين حرمة عبادةٍ وفسادها وعدمه إنّما هو العقل،ولا صلة له بباب الألفاظ أبداً،ومن هنا لا يختص النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولاً لدليل لفظي،ضرورة أ نّه لا يفرق في إدراك العقل الملازمة أو عدمها بين كون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره.

وبكلمة اخرى:أنّ القضايا العقلية على شكلين:

أحدهما:القضايا المستقلة العقلية،بمعنى أنّ في ترتب النتيجة على تلك القضايا لا نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية،بل هي تتكفل لاثبات النتيجة بنفسها،وهذا معنى استقلالها،وهي كمباحث التحسين والتقبيح العقليين.

وثانيهما:القضايا العقلية غير المستقلة،بمعنى أنّ في ترتب النتيجة عليها نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية،وهذا هو معنى عدم استقلالها،وهي كمباحث الاستلزامات العقلية كمبحث مقدمة الواجب،ومبحث الضد،وما شاكلهما،فانّ الحاكم في هذه المسائل هو العقل لا غيره،ضرورة أ نّه يدرك وجود الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته،وبين وجوب شيء وحرمة ضده،وهكذا، ومسألتنا هذه من هذا القبيل.

[الثالثة:اختصاص محل النزاع بالنواهي المولوية لا الارشادية]

الثالثة: أنّ محل النزاع في المسألة إنّما هو في النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات،وأمّا النواهي الارشادية المتعلقة بهما التي تدل على مانعية شيء لهما كالنهي عن المعاملة الغررية مثلاً وكالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه وما

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 136)


شاكل ذلك فهي خارجة عن محل النزاع جزماً،والسبب فيه ظاهر وهو أ نّه لا إشكال ولا خلاف في دلالة تلك النواهي على الفساد،بداهة أ نّه إذا اخذ عدم شيء في عبادة أو معاملة فبطبيعة الحال تقع تلك العبادة أو المعاملة فاسدةً عند اقترانها بهذا الشيء،لفرض أ نّها توجب تقييد إطلاق أدلة العبادات والمعاملات بغير هذه الحصة فلا تشملها.

وعلى الجملة: فحال هذه النواهي حال الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط في أبواب العبادات والمعاملات،وقد ذكرناه في أوّل بحث النواهي 1بصورة موسعة،وقلنا هناك إنّ الأمر والنهي في نفسهما وإن كانا ظاهرين في المولوية فلا يمكن حملهما على الارشاد من دون قرينة إلّاأنّ هذا الظهور ينقلب في هذه النواهي والأوامر،وعليه فلا محالة يكون مثل هذا النهي إذا تعلق بعبادة أو معاملة مقيداً لاطلاق أدلتهما بغير هذه الحصة المنهي عنها،ومن هنا لم يقع خلاف فيما نعلم في دلالته على الفساد فيهما.

أمّا في الاُولى،فلفرض أ نّها لا تنطبق على تلك الحصة،ومع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بالصحة حيث إنّها تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به خارجاً.وأمّا في الثانية،فلفرض عدم شمول دليل الامضاء لها وبدونه لا يمكن الحكم بالصحة.

[الرابعة:الكلام في دخول النهي التنزيهي و الغيري في محل النزاع]

الرابعة: أ نّه لا إشكال ولا كلام في أنّ النهي النفسي التحريمي داخل في محل النزاع وإنّما الاشكال والكلام في موردين،الأوّل:في النهي التنزيهي وهل هو داخل فيه أم لا ؟ الثاني:في النهي الغيري.

أمّا الأوّل: فالصحيح في المقام أن يقال إنّ النهي التنزيهي المتعلق بالعبادة


 

1) <page number=”136″ /><nl />راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 307.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 137)


تارةً ينشأ من حزازة ومنقصة في تطبيق الطبيعي الواجب على حصة خاصة منه من دون أيّة حزازة ومنقصة في نفس تلك الحصة،ولذا يكون حالها حال سائر حصصه وأفراده في الوفاء بالغرض،وذلك كالنهي المتعلق بالعبادة الفعلية كالصلاة في الحمام مثلاً،والصلاة في مواضع التهمة وما شاكل ذلك.واُخرى ينشأ من حزازة ومنقصة في ذات العبادة.

وبعد ذلك نقول: إنّ النهي التنزيهي على التفسير الأوّل خارج عن مورد النزاع،بداهة أ نّه لا يدل على الفساد،بل هو يدل على الصحة.وعلى التفسير الثاني داخل فيه،ضرورة أنّ الشيء إذا كان مكروهاً في نفسه ومرجوحاً في ذاته لم يمكن التقرب به،فلا فرق عندئذ بينه وبين النهي التحريمي من هذه الناحية أصلاً.

وبكلمة اخرى:أنّ النهي التنزيهي إذا كان متعلقاً بالعبادة الفعلية كالصلاة في الحمام مثلاً يدل على صحتها دون فسادها،نظراً إلى أنّ مدلوله الالتزامي هو ترخيص المكلف في الاتيان بمتعلقه،ومعنى ذلك جواز الامتثال به وعدم تقييد الواجب بغيره،ولا نعني بالصحة إلّاذلك،وهذا بخلاف ما إذا كان متعلقاً بذات العبادة،فانّه يدل على كراهيتها ومبغوضيتها،ومن المعلوم أ نّه لا يمكن التقرب بالمبغوض وإن كانت مبغوضيته ناقصة.فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ النهي التنزيهي على التفسير الأوّل خارج عن محل النزاع،وعلى التفسير الثاني داخل فيه.

وأمّا الثاني: وهو النهي الغيري كالنهي عن الصلاة التي تتوقف على تركها إزالة النجاسة عن المسجد بناءً على ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضده فهو خارج عن مورد الكلام،ولا يدل على الفساد بوجه،والسبب في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 138)


ذلك ما عرفت بشكل موسّع في مبحث الضد 1من أنّ هذا النهي على تقدير القول به لا يكشف عن كون متعلقه مبغوضاً كي لا يمكن التقرب به،فان غاية ما يترتب على هذا النهي إنّما هو منعه عن تعلق الأمر بمتعلقه فعلاً،ومن الطبيعي أنّ صحة العبادة لا تتوقف على وجود الأمر بها بل يكفي في صحتها وجود الملاك والمحبوبية.

نعم،مع فرض عدم الأمر بها لا يمكن كشف الملاك فيها،إلّاأ نّه مع ذلك قلنا بصحتها من ناحية الترتب على ما أوضحناه هناك.نعم،لو لم نقل به فلا مناص من الالتزام بالفساد.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ الداخل في محل النزاع في مسألتنا هذه إنّما هو النهي النفسي التحريمي والنهي التنزيهي المتعلق بذات العبادة،وأمّا بقية أقسام النواهي فهي خارجة عنه.

[الخامسة:المراد بالعبادة في عنوان النزاع]

الخامسة: لا شبهة في أنّ المراد من العبادة في عنوان المسألة ليس العبادة الفعلية،ضرورة استحالة اجتماعها مع الحرمة كذلك،كيف فانّ معنى حرمتها فعلاً هو كونها مبغوضةً للمولى فلا يمكن التقرب بها،ومعنى كونها عبادةً فعلاً هو كونها محبوبةً له ويمكن التقرب بها،ومن المعلوم استحالة اجتماعهما كذلك في شيء واحد،بل المراد منها العبادة الشأنية بمعنى أ نّه إذا افترضنا تعلق الأمر بها لكانت عبادة.

وإن شئت قلت:إنّ المراد منها كل عمل لو امر به لكان عبادياً فمثل هذا العمل لو وقع في حيّز النهي صار مورداً للكلام والنزاع وأنّ هذا النهي هل


 

1) <page number=”138″ /><nl />راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 380.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 139)


يستلزم فساده أم لا ؟

والمراد من المعاملات هو كل أمر اعتباري قصدي يتوقف ترتيب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد اعتباره وإنشائه من ناحية،وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما من ناحية اخرى،ومن الطبيعي أ نّها بهذا المعنى تشمل العقود والايقاعات فلا موجب عندئذ لاختصاصها بالمعاملات المتوقفة على الايجاب والقبول، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ كل ما لا يتوقف ترتيب الأثر على قصده وإنشائه بل يكفي فيه مطلق وجوده في الخارج كتطهير البدن والثياب وما شاكلهما فهو خارج عن محل الكلام ولا صلة له به.

[السادسة:في أنّ الصحة و الفساد واقعيان أم مجعولان]

السادسة: أنّ الصحة والفساد في العبادات والمعاملات هل هما مجعولان شرعاً كسائر الأحكام الشرعية،أو واقعيّان،أو تفصيل بين العبادات والمعاملات فهما مجعولان شرعاً في المعاملات دون العبادات،أو تفصيل في خصوص المعاملات بين المعاملات الكلية والمعاملات الشخصية،فهما في الاُولى مجعولان شرعاً دون الثانية،أو تفصيل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية فالثانية مجعولة دون الاُولى ؟ فيه وجوه بل أقوال.

قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1التفصيل في خصوص المعاملات،واختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2التفصيل الأخير،والصحيح هو التفصيل الأوّل.

وبعد ذلك نقول:إنّه لا شك في أنّ الصحة والفساد من الأوصاف الطارئة


 

1) <page number=”139″ /><nl />كفاية الاُصول:184.
2) <nl />أجود التقريرات 2:209.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 140)


على الموجودات الخارجية،فالشيء الموجود يتصف بالصحة مرةً وبالفساد اخرى.وأمّا الماهيات فهي مع قطع النظر عن طروء الوجود عليها لا يعقل اتصافها بالصحة أو الفساد أبداً،والسبب في ذلك:أنّ الصحة لا تخلو من أن تكون من الاُمور الانتزاعية أو الاُمور المجعولة،فعلى كلا التقديرين لا يعقل عروضها على الماهية المعدومة في الخارج.

أمّا على الأوّل فظاهر،حيث إنّها في العبادات إنّما تنتزع من انطباق الطبيعة المأمور بها على العمل المأتي به في الخارج،كما أنّ الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه.وكذا المعاملات،فانّ الصحة فيها تنتزع من انطباق طبيعة المعاملة الممضاة شرعاً على الفرد الموجود في الخارج،كما انّ الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه،فمورد عروض الصحة والفساد إنّما هو الفرد الخارجي باعتبار الانطباق وعدمه.

وأمّا على الثاني فكذلك،فانّ حكم الشارع بالصحة أو الفساد إنّما هو للعمل الصادر من المكلف في الخارج،وأمّا العمل الذي لم يصدر منه فلا يعقل أن يحكم الشارع بصحته تارةً وبفساده تارة اخرى،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ الصحة والفساد إنّما تعرضان على الشيء المركب ذي الأثر في الخارج دون البسيط فيه،والوجه في هذا واضح،وهو أنّ الشيء إذا كان مركباً وكان ذا أثر فبطبيعة الحال إذا وجد في الخارج جامعاً لجميع الأجزاء والشرائط اتصف بالصحة باعتبار ترتب أثره المترقب منه،وإذا وجد فاقداً لبعض الأجزاء أو الشرائط اتصف بالفساد باعتبار عدم ترتب أثره على الفاقد.

وأمّا إذا كان بسيطاً فهو لا يخلو من أن يكون موجوداً في الخارج أو معدوماً فيه ولا ثالث لهما،ومعه كيف يعقل اتصافه بالصحة مرة وبالفساد مرة اخرى.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 141)


ومن ناحية ثالثة:أنّ الصحة والفساد وصفان إضافيان،فيكون شيء واحد يتصف تارةً بالصحة واُخرى بالفساد،وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في مبحث الصحيح والأعم بشكل موسع 1.

ثمّ إنّنا قد قوّينا في الدورات السابقة ما اختاره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل في المسألة،بيان ذلك:أ نّا قد ذكرنا في تلك الدورات أنّ ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات إنّما هو بالانطباق على الموجود الخارجي وعدم الانطباق عليه.

أمّا في العبادات فظاهر،حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والتشريع،وإنّما تتصف بهما في مقام الامتثال والانطباق،مثلاً إذا جاء المكلف بالصلاة في الخارج،فان انطبقت عليها الصلاة المأمور بها انتزعت الصحة لها وإلّا انتزع الفساد،ومن البديهي أنّ انطباق الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمران تكوينيان وغير قابلين للجعل تشريعاً،من دون فرق في ذلك بين الماهيات الجعلية وغيرها،فانطباق المأمور به الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو الظاهري على الموجود الخارجي وعدم انطباقه عليه كانطباق الماهيات المتأصلة على فردها الموجود في الخارج وعدمه،فكما أنّ الانطباق على ما في الخارج أو عدمه في الماهيات المتأصلة أمر قهري تكويني غير قابل للجعل شرعاً،فكذلك الانطباق وعدمه في الماهيات المخترعة،وهذا معنى قولنا:إنّ الصحة والفساد فيها أمران واقعيان وليسا بمجعولين أصلاً لا أصالةً ولا تبعاً.


 

1) <page number=”141″ /> راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 155.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 142)


وأمّا في المعاملات فكذلك،حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والامضاء،وإنّما تتصف بهما في مقام الانطباق والخارج،مثلاً البيع ما لم يوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد،فاذا وجد فيه فان انطبق عليه البيع الممضى شرعاً اتصف بالصحة وإلّا فبالفساد،وكذا الحال في الاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك.

وبكلمة اخرى:أنّ الممضاة شرعاً إنّما هي المعاملات الكلية بمقتضى أدلة الامضاء كقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» 2و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 3وقوله (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم):«النكاح سنّتي» 4وقوله (عليه السلام):«الصلح جائز بين المسلمين» 5ونحو ذلك،دون أفرادها الخارجية،وإنّما تتصف تلك الأفراد بالصحة تارةً وبالفساد اخرى باعتبار انطباق تلك المعاملات عليها وعدم انطباقها،فاذا وقع بيع في الخارج،فان انطبق عليه البيع الكلي الممضى شرعاً حكم بصحته وإلّا فلا،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:قد عرفت أنّ الانطباق وعدمه أمران تكوينيان غير قابلين للجعل تشريعاً.

فالنتيجة على ضوئهما:أنّ حال الصحة والفساد في المعاملات حالهما في العبادات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،هذا كلّه في الصحة الواقعية.


 

1) <page number=”142″ /><nl />البقرة 2:275.
2) المائدة 5:1.
3) <nl />النساء 4:29.
4) المستدرك 14:/149أبواب مقدمات النكاح ب 1 ح 1 (مع اختلاف يسير).
5) <nl />الوسائل 18:/443كتاب الصلح ب 3 ح 2.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 143)


وأمّا الصحة الظاهرية فالصحيح أ نّها مجعولة شرعاً في العبادات والمعاملات.

أمّا في الاُولى: فكالصحة في موارد قاعدتي التجاوز والفراغ،فانّه لولا حكم الشارع بانطباق المأمور به على المشكوك فيه تعبداً،لكانت العبادة محكومة بالفساد لا محالة.

وأمّا في الثانية: فكالصحة في موارد الشك في بطلان الطلاق أو نحوه،فانّه لولا حكم الشارع بالصحة في هذه الموارد لكان الطلاق مثلاً محكوماً بالفساد لا محالة،هذا.

والصحيح: ما اخترناه وهو التفصيل بين كون الصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً وفي المعاملات مجعولين كذلك.

أمّا في العبادات،فقد عرفت أ نّهما منتزعان من انطباقها على الموجود الخارجي وعدم انطباقها عليه فلا تنالهما يد الجعل أصلاً.

وأمّا في المعاملات،فالأمر فيها ليس كذلك،والسبب فيه هو أ نّها تمتاز عن العبادات في نقطة واحدة وتلك النقطة هي الموجبة لافتراقها عن العبادات من هذه الناحية،وهي:أنّ نسبة المعاملات إلى الامضاء الشرعي في إطار أدلته الخاصة نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه،وهذا بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها،فانّ نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة المتعلق لا الموضوع، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى: أ نّنا قد حققنا في محلّه 1أنّ موضوع الحكم في القضايا الحقيقية قد اخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون متعلقه،ولذا


 

1) <page number=”143″ /><nl />راجع ص 263،335،والمجلد الثالث من هذا الكتاب ص 181.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 144)


تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون الحكم فعلياً فيها بدون فعلية موضوعه،فلا حكم قبل فعليته إلّاعلى نحو الفرض والتقدير.

ومن ناحية ثالثة: أنّ الحكم ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج فيثبت لكل فردٍ منه حكم على حدة.

ومن ناحية رابعة: أنّ معنى اتصاف المعاملات بالصحة أو الفساد إنّما هو ترتب الأثر الشرعي عليها وعدم ترتبه،ومن الواضح أنّ الأثر الشرعي إنّما يترتب على المعاملة الموجودة في الخارج دون الطبيعي غير الموجود فيه.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي أنّ المعاملات بما أ نّها اخذت مفروضة الوجود في لسان أدلتها فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء على فعليتها في الخارج،فما لم تتحقق المعاملة فيه لم يعقل تحقق الامضاء لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه.وعلى ذلك فاذا تحقق بيع مثلاً في الخارج تحقق الامضاء الشرعي وإلّا فلا إمضاء أصلاً،لما عرفت من أنّ الامضاء الشرعي في باب المعاملات لم يجعل لها على نحو صرف الوجود لتكون صحتها منتزعةً من انطباقها على الفرد الموجود،وفسادها من عدم انطباقها عليه.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ المعاملات بما أ نّها موضوعات للامضاء الشرعي فبطبيعة الحال يتعدد الامضاء بتعدد أفرادها،فيثبت لكل فرد منها إمضاء مستقل،مثلاً الحلية في قوله تعالى «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1تنحل بانحلال أفراد البيع فتثبت لكل فردٍ منه حلية مستقلة غير مربوطة بالحلية الثابتة لفرد آخر منه وهكذا،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أ نّا لا نعقل للصحة والفساد في باب المعاملات معنىً إلّا


 

1) <page number=”144″ /><nl />البقرة 2:275.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 145)


إمضاء الشارع لها وعدم إمضائه من جهة شمول الاطلاقات والعمومات لها وعدم شمولها،فكل معاملة واقعة في الخارج من البيع أو نحوه،فإن كانت مشمولة لاطلاقات أدلة الامضاء وعموماتها فهي محكومة بالصحة وإلّا فبالفساد.

وعلى هذا الضوء لا يمكن تفسير الصحة فيها إلّابحكم الشارع بترتيب الأثر عليها،كما أ نّه لا يمكن تفسير الفساد فيها إلّابعدم حكم الشارع بذلك.وعلى الجملة:فمعنى أنّ هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعاً ليس إلّاحكم الشارع بترتيب الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية،كما أ نّه لا معنى لفساده شرعاً إلّاعدم حكمه بذلك.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ الصحة والفساد في العبادات أمران واقعيان وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد تبيّن بطلان نظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الصحة والفساد في المعاملات كالصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً لا أصالة ولا تبعاً،ووجه التبين ما عرفت من أنّ هذه النظرية تبتني على نقطة واحدة وهي كون المعاملات كالعبادات متعلقات للامضاءات الشرعية لا موضوعات لها،وعليه فبطبيعة الحال تكون صحتها منتزعة من انطباقها على ما في الخارج،وفسادها من عدم انطباقها،ولكن من المعلوم أنّ هذه النقطة خاطئة حتى عنده (قدس سره) فلا واقع موضوعي لها،حيث إنّه قد صرّح في غير مورد أنّ نسبة المعاملات إلى الأحكام الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه،وعلى ذلك فالجمع بين كون الصحة والفساد في المعاملات أمرين منتزعين واقعاً،وبين كون نسبة المعاملات إلى آثارها الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم جمع بين المتناقضين،ضرورة أنّ لازم كون نسبتها إليها نسبة الموضوع إلى الحكم هو كونهما أمرين مجعولين شرعاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 146)


كما أ نّه ظهر بذلك فساد ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من التفصيل بين المعاملات الكلية كالبيع والاجارة والصلح والنكاح وما شاكل ذلك،وبين المعاملات الشخصية الواقعة في الخارج،فبنى (قدس سره) على أنّ الصحة والفساد في الاُولى مجعولان شرعاً،وفي الثانية منتزعان واقعاً،بدعوى أنّ المعاملات الشخصية غير مأخوذة في موضوع أدلة الامضاء،حيث إنّ المأخوذ فيها هو المعاملات بعناوينها الكلية،وعندئذ فان انطبقت هذه المعاملات عليها في الخارج اتصفت بالصحة وإلّا فبالفساد،ووجه الظهور:هو أنّ أخذ تلك العناوين الكلية في موضوع أدلة الامضاء إنّما هو للاشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج حيث قد تقدم أ نّها اخذت مفروضة الوجود فيه، وعليه فبطبيعة الحال يكون الموضوع هو نفس تلك الأفراد فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل وإمضاء على حدة كما مرّ ذلك آنفاً بشكل موسع.

فما أفاده (قدس سره) من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

[السابعة:أقسام تعلق النهي بالعبادة]

السابعة: أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أقسام:

الأوّل:ما يتعلق بذات العبادة كالنهي عن صلاة الحائض وصوم يومي العيدين وهكذا.

الثاني:ما يتعلق بجزء منها.

الثالث:ما يتعلق بشرط منها.

الرابع:ما يتعلق بوصفها الملازم لها كالجهر والخفت في القراءة.

الخامس:ما يتعلق بوصفها المفارق وغير الملازم لها كالتصرف في مال الغير


 

1) <page number=”146″ /><nl />كفاية الاُصول:184.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 147)


الملازم لأكوان الصلاة في مورد الالتقاء والاجتماع-وهو الأرض المغصوبة – لا مطلقاً،ومن هنا يكون هذا التلازم بينهما اتفاقياً لا دائمياً،هذا مجمل الأقسام وإليكم تفصيلها:

[القسم الأوّل:دلالة النهي عن ذات العبادة على فسادها]

أمّا القسم الأوّل: وهو النهي المتعلق بذات العبادة،فلا شبهة في دلالته على الفساد وثبوت الملازمة بين حرمتها وبطلانها،والسبب في ذلك واضح،وهو أنّ العبادة كصلاة الحائض مثلاً وصومي العيدين وما شاكلهما إذا كانت محرّمة ومبغوضة للمولى لم يمكن التقرب بها،لاستحالة التقرب بما هو مبغوض له فعلاً،كيف فانّه مبعّد والمبعّد لا يعقل أن يكون مقرّباً،ومعه لا تنطبق الطبيعة المأمور بها عليه لا محالة،وهذا معنى فساده.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون حرمتها ذاتية أو تشريعية.نعم،فرق بين الصنفين من الحرمة في نقطة اخرى،وهي أنّ صلاة الحائض لو كانت حرمتها ذاتية فمعناها أ نّها محرّمة مطلقاً ولو كان الاتيان بها بقصد التمرين،فحالها من هذه الناحية حال سائر المحرّمات.وإن كانت حرمتها تشريعية فمعناها أ نّها لا تكون محرّمة مطلقاً،بل المحرّم إنّما هو حصة خاصة منها وهي الحصة المقترنة بقصد القربة،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ التشريع العملي عبارة عن الاتيان بالعمل مضافاً إلى المولى سبحانه فيكون عنواناً له،ومن هنا قلنا إنّه افتراء عملي،وعلى ذلك بما أنّ هذه الحصة الخاصة من الصلاة وهي الصلاة مع قصد القربة محرّمة على الحائض ومبغوضة للمولى،يستحيل أن تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها،لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب،فاذن لا محالة تقع فاسدةً.

فالنتيجة: هي أ نّه لا فرق في استلزام حرمة العبادة فسادها بين كونها ذاتية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 148)


أو تشريعية،فهما من هذه الناحية على صعيد واحد،هذا من جهة.

ومن جهة اخرى:أ نّه لايمكن تصحيح هذه العبادة المنهي عنها بالملاك بتخيل أنّ الساقط إنّما هو أمرها،نظراً إلى عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد،وأمّا الملاك فلا موجب لسقوطه أصلاً،وذلك لعدم الطريق إلى إحراز كونها واجدةً للملاك في هذا الحال،فانّ الطريق إلى إحراز ذلك أحد أمرين:

الأوّل:وجود الأمر بها،فانّه يكشف عن كونها واجدةً له.الثاني:انطباق الطبيعة المأمور بها عليها،والمفروض هنا انتفاء كلا الأمرين كما عرفت.

هذا مضافاً إلى أ نّها لو كانت واجدةً للملاك لم يكن ذلك الملاك مؤثراً في صحتها قطعاً،ضرورة أ نّها مع كونها محرّمة فعلاً ومبغوضةً كذلك كيف يكون ملاكها مؤثراً في محبوبيتها وصالحاً للتقرب بها،وهذا واضح.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه:أ نّه لا شبهة في فساد العبادة المنهي عنها، بلا فرق بين أن يكون النهي عنها نهياً ذاتياً أو تشريعياً.هذا كلّه في النهي المتعلق بذات العبادة.

[القسم الثاني:كلام صاحب الكفاية في النهي المتعلق بجزء العبادة]

وأمّا القسم الثاني: وهو النهي المتعلق بجزء العبادة فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أ نّه لا إشكال في استلزامه فساد الجزء،ولكنّه لا يوجب فساد العبادة إلّاإذا اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال،وأمّا إذا لم يقتصر عليه وأتى بعده بالجزء غير المنهي عنه تقع العبادة صحيحة لعدم المقتضي لفسادها عندئذ،إلّاأن يستلزم ذلك موجباً آخر للفساد كالزيادة العمدية أو نحوها،وهذا أمر آخر أجنبي عمّا هو محل الكلام هنا.


 

1) <page number=”148″ /><nl />كفاية الاُصول:185.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 149)


فالنتيجة: أنّ النهي عن الجزء بما هو نهي عنه لا يوجب إلّافساده دون فساد أصل العبادة.

ولكن أورد على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وإليك نصه:وأمّا النهي عن جزء العبادة فالتحقيق أ نّه يدل أيضاً على فسادها،وتوضيح الحال فيه:

هو أنّ جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاص كالوحدة المعتبرة في السورة بناءً على حرمة القِران،وإمّا أن لا يؤخذ فيه ذلك.

أمّا الأوّل: أعني به جزء العبادة المعتبر فيه عدد خاص،فالنهي المتعلق به يقتضي فساد العبادة لا محالة،لأنّ الآتي به في ضمن العبادة إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه،وعلى كلا التقديرين لا ينبغي الاشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه،فانّ الجزء المنهي عنه لا محالة يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئية أو عمومه فيكون وجوده كعدمه،فان اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها جزءها،وإن لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض.ومن هنا تبطل صلاة من قرأ إحدى العزائم في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر،لأنّ قراءتها تستلزم الاخلال بالفريضة من جهة ترك السورة أو من جهة لزوم القِران،بل لو بنينا على جواز القِران لفسدت الصلاة في الفرض أيضاً،لأنّ دليل الحرمة قد خصص دليل الجواز بغير الفرد المنهي عنه فيحرم القِران بالاضافة إليه لا محالة.هذا مضافاً إلى أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالاضافة إليه بشرط لا،سواء اتي به في محلّه المناسب له كقراءة العزيمة بعد الحمد أم اتي به في غير محلّه كقراءتها بين السجدتين.

ويترتب على ذلك امور كلّها موجبة لبطلان العبادة المشتملة عليه:

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 150)


الأوّل:كون العبادة مقيدة بعدم ذلك الجزء المنهي عنه فيكون وجوده مانعاً عن صحتها،وذلك يستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده.

الثاني:كونه زيادةً في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها،ولا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس أحد أجزاء العمل.نعم،يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.

الثالث:خروجه عن أدلة جواز مطلق الذكر في الصلاة،فان دليل الحرمة لا محالة يوجب تخصيصها بغير الفرد المحرّم فيندرج الفرد المحرّم في عموم أدلة بطلان الصلاة بالتكلم العمدي،إذ الخارج عن عمومها إنّما هو الذكر غير المحرّم.وما ذكرناه هو الوجه في بطلان الصلاة بالذكر المنهي عنه.وأمّا ما يتوهم من أنّ الوجه في ذلك هو دخوله في كلام الآدميين فهو فاسد،لأنّ المفروض أ نّه ذكر محرّم،ومن الواضح أ نّه لا يخرج بسبب النهي عنه عن كونه ذكراً ليدخل في كلام الآدميين.

وأمّا الثاني: وهو ما لم يؤخذ فيه عدد خاص،فقد اتضح الحال فيه مما تقدم،لأن جميع الوجوه المذكورة المقتضية لفساد العبادة المشتملة على الجزء المنهي عنه جارية في هذا القسم أيضاً،وإنّما يختص القسم الأوّل بالوجه الأوّل منها 1انتهى.

نحلّل ما أفاده (قدس سره) من البيان إلى عدة نقاط:

الاُولى:بطلان العبادة في صورة اقتصار المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام الامتثال.


 

1) <page number=”150″ /> أجود التقريرات 2:217-219.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 151)


الثانية:أنّ حرمة الجزء توجب تخصيص دليل جواز القِران بغير الفرد المنهي عنه لا محالة،فيحرم القِران بالاضافة إلى هذا الفرد في ظرف الامتثال.

الثالثة:أنّ النهي عن جزء لا محالة يوجب تقييد العبادة بغيره.

الرابعة:أ نّه لا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من سنخ أجزاء العمل.

الخامسة:أنّ الجزء المنهي عنه خارج عن عموم ما دلّ على جواز مطلق الذكر في الصلاة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:

أمّا النقطة الاُولى: فالأمر كما أفاده (قدس سره) من أنّ المكلف إذا اقتصر عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة فقدانها الجزء،ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجزء مأخوذاً بشرط لا أو لا بشرط كما هو واضح.

وأمّا النقطة الثانية: فيردّها أ نّه بناءً على القول بجواز القِران في العبادة وعدم كونه مانعاً عن صحتها كما هو المفروض لم تكن حرمة الجزء في نفسها موجبة لبطلانها ما لم يكن هناك موجب آخر له،والوجه في ذلك واضح،وهو أنّ حرمة الجزء في نفسها لا توجب اعتبار عدم القِران في صحة العبادة ليكون القِران مانعاً عنها،كيف فانّ مانعية القِران في العبادة عبارة عن اعتبار عدم اقتران جزء بمثله في صحة تلك العبادة،ومن المعلوم أنّ حرمة جزء لا تستلزم ذلك،ضرورة أنّ اعتباره يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي في اعتباره مجرد حرمته ومبغوضيته.فاذن لا يترتب عليها إلّابطلان نفسه وعدم جواز الاقتصار به في مقام الامتثال دون بطلان أصل العبادة،إلّاإذا كان هناك موجب آخر له كالنقيصة أو الزيادة.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 152)


وأمّا النقطة الثالثة: فيرد عليها أنّ حرمة جزء العبادة لو كانت موجبة لتقييد العبادة بغيره من الأجزاء لكانت حرمة كل شيء موجبة لذلك،ضرورة أ نّه لا فرق في ذلك بين كون المحرّم من سنخ أجزاء العبادة وبين كونه من غير سنخها من هذه الناحية أصلاً.وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام ببطلان كل عبادة قد أتى المكلف في أثنائها بفعل محرّم كالنظر إلى الأجنبية مثلاً في الصلاة،مع أنّ هذا واضح البطلان.فاذن الصحيح في المقام أن يقال:إنّ حرمة شيء تكليفاً لا تستلزم تقييد العبادة بالاضافة إليه بشرط لا،بداهة أ نّه لا تنافي بين صحة العبادة في الخارج وحرمة ذلك الشيء المأتي به في أثنائها.

فالنتيجة: أنّ حال الجزء المنهي عنه حال غيره من المحرّمات،فكما أنّ الاتيان بها في أثناء العبادة لا يوجب فسادها،فكذلك الاتيان بهذا الجزء المنهي عنه،فلا فرق بينهما من تلك الناحية أبداً.

وعلى الجملة: فحرمة الجزء في نفسها لا تستلزم فساد العبادة إلّاإذا كان هناك موجب آخر له كالزيادة العمدية أو النقيصة أو نحو ذلك،لوضوح أ نّه لا منشأ لتخيل اقتضاء حرمته الفساد إلّاتخيل استلزامها تقييد العبادة بالاضافة إليه بشرط لا،ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع موضوعي له أصلاً،وذلك لأنّ ما دلّ على حرمته لا يدل على تقييد العبادة بغيره،لوضوح أنّ تقييدها كذلك يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي فيه مجرد حرمة شيء تكليفاً وإلّا لدلّ عليه كل دليل قام على حرمة شيء كالنظر إلى الأجنبية أو إلى عورة شخص أو نحو ذلك،مع أنّ هذا واضح البطلان.

وبكلمة اخرى:أنّ التقييد بعدم شيء على نحوين:

أحدهما:شرعي وهو تقييد الصلاة بعدم القهقهة والتكلم بكلام الآدميين وما شاكلهما،فانّ مردّ هذا التقييد إلى أنّ وجود هذه الأشياء مانع عنها شرعاً

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 153)


وعدمها معتبر فيها.

وثانيهما:عقلي وهو عدم انطباق الصلاة المأمور بها على المقيد بذلك الشيء، أي لا يكون المقيد به مصداقاً لها،فان هذا التقييد لا يرجع إلى أنّ وجود هذا الشيء مانع عنها شرعاً وعدمه معتبر فيها كذلك،بل مردّه إلى أنّ المأمور به هو حصة خاصة من الصلاة وهي لا تنطبق على المقيد به،وما نحن فيه من قبيل الثاني،فان ما دلّ على حرمة جزء لا محالة يقيد إطلاق الأمر المتعلق بهذا الجزء بغير هذه الحصة فلا ينطبق الجزء المأمور به عليها،لاستحالة انطباق المأمور به على الفرد المنهي عنه.مثلاً ما دلّ على حرمة قراءة سور العزائم في الصلاة بطبيعة الحال يقيد إطلاق ما دلّ على جزئية السورة بغيرها،ومن المعلوم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ الواجب هو الصلاة المقيدة بحصة خاصة من السورة فلا تنطبق على الصلاة الفاقدة لتلك الحصة،وعليه فان اقتصر المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام الامتثال بطلت الصلاة من ناحية عدم انطباق الصلاة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج،وإن لم يقتصر عليه بل أتى بعده بالفرد غير المنهي عنه أيضاً فلا موجب لبطلانها أصلاً،غاية الأمر أ نّه قد ارتكب في أثناء الصلاة أمراً محرّماً وقد عرفت أ نّه لا يوجب البطلان.

وأمّا النقطة الرابعة: فمضافاً إلى أ نّها لو تمت لكانت خاصة بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات،يرد عليها:أنّ صدق عنوان الزيادة في الجزء على ما بيّناه في محلّه يتوقف على قصد جزئية ما يؤتى به في الخارج وإلّا فلا تصدق الزيادة، من دون فرق في ذلك بين أن يكون ما أتى به من جنس أجزاء العمل أو من غير جنسها.نعم،لا يتوقف صدق الزيادة على القصد في خصوص الركوع والسجود،بل لو أتى بهما من دون قصد ذلك لكان مبطلاً للصلاة،إلّاأنّ ذلك من ناحية النص الخاص الوارد في المنع عن قراءة العزيمة في الصلاة معللاً بأ نّها

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 154)


زيادة في المكتوبة،وهذا النص وإن ورد في السجود خاصة إلّاأ نّا نقطع بعدم الفرق بينه وبين الركوع،وتمام الكلام في محلّه 1.

فالنتيجة:أ نّه لا يصدق على الاتيان بالجزء المنهي عنه بدون قصد الجزئية عنوان الزيادة لتكون مبطلةً للصلاة.

وأمّا النقطة الخامسة: فمضافاً إلى اختصاص تلك النقطة بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات،أ نّه لا دليل على بطلان الصلاة بالذكر المحرّم،فانّ الدليل إنّما يدل على بطلانها بكلام الآدميين،ومن المعلوم أنّ الذكر المحرّم ليس من كلامهم على الفرض.

[القسم الثالث:كلام الآخوند و النائيني في النهي عن شرط العبادة]

وأمّا القسم الثالث: وهو النهي المتعلق بالشرط،فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية 2أنّ حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به أيضاً إلّاإذا كان الشرط عبادة.وبكلمة اخرى:أنّ الشرط إذا كان توصلياً كما هو الغالب في شرائط العبادات فالنهي عنه لا يوجب فساده فضلاً عن فساد العبادة المشروطة به،فانّ الغرض منه يحصل بصرف إيجاده في الخارج ولو كان إيجاده في ضمن فعل محرّم.وأمّا إذا كان عبادياً كالوضوء أو الغسل أو نحو ذلك فالنهي عنه لا محالة يوجب فساده،ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى،ومن المعلوم أنّ فساده يستلزم فساد العبادة المشروطة به،هذا.

ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 3في المقام كلام وملخصه:هو أنّ شرط


 

1) <page number=”154″ /> شرح العروة 18:8-9.
2) <nl />كفاية الاُصول:185.
3) <nl />أجود التقريرات 2:220.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 155)


العبادة الذي عبّر عنه باسم المصدر ليس متعلقاً للنهي،ضرورة أنّ النهي تعلق بالفعل الصادر عن المكلف باختياره وإرادته،لا بما هو نتيجته وأثره،وما هو متعلق للنهي الذي عبّر عنه بالمصدر ليس شرطاً لها.فاذن ما هو شرط للعبادة ليس متعلقاً للنهي،وما هو متعلق له ليس شرطاً لها.مثلاً الصلاة مشروطة بالستر فاذا افترضنا أنّ الشارع نهى عن لبس ثوب خاص فيها فعندئذ إن كان مردّ هذا النهي إلى النهي عن الصلاة فيه فهو لا محالة يوجب بطلانها،وإن لم يكن مردّه إلى ذلك كما هو المفروض حيث قد عرفت أنّ متعلق النهي غير ما هو شرط فعندئذ لا وجه لبطلانها أصلاً ويكون حاله حال النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية فيحصل الغرض منها ولو بايجادها في ضمن فعل محرّم.

ومن هنا يظهر بطلان تقسيم الشرط إلى كونه عبادياً كالطهارات الثلاث وغير عبادي كالتستر ونحوه،فانّ ما هو شرط للصلاة هو الطهارة بمعنى اسم المصدر المقارنة لها زماناً،وأمّا الأفعال الخاصة كالوضوء والغسل والتيمم فهي بأنفسها ليست بشرط،وإنّما تكون محصّلةً للشرط.فاذن ما هو شرط لها وهو الطهارة بالمعنى المزبور ليس بعبادة،وما هو عبادة وهو تلك الأفعال الخاصة ليس بشرط،ولذا لا يعتبر فيها قصد القربة وإنّما يعتبر قصد القربة في تلك الأفعال فحسب،فحال الطهارة من هذه الناحية حال بقية الشرائط.فالنتيجة:

أنّ النهي عن الشرط إن رجع إلى النهي عن العبادة المتقيدة به فهو يوجب بطلانها لا محالة،وإلّا فلا أثر له أصلاً.

نحلّل ما أفاده (قدس سره) إلى عدة نقاط:

الاُولى:أنّ النهي المتعلق بالشرط يرجع في الحقيقة إلى النهي عمّا هو مفاد المصدر،والمفروض أ نّه ليس بشرط،وما هو شرط-وهو المعنى الذي يكون

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 156)


مفاد اسم المصدر-ليس بمنهي عنه.

الثانية:أنّ الشرط في مثل الوضوء والغسل والتيمم إنّما هو الطهارة المتحصلة من تلك الأفعال لا نفس هذه الأفعال.

الثالثة:أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النقاط:

أمّا النقطة الاُولى: فيرد عليها أ نّه (قدس سره) إن أراد من المصدر واسم المصدر المقدمة وما يتولد منها،بدعوى أنّ النهي المتعلق بالمقدمة لا يوجب فساد ما يتولد منها ويترتب عليها كالنهي عن غسل الثوب مثلاً أو البدن بالماء المغصوب فانّه لا يوجب فساد الطهارة الحاصلة منه،فلا يمكن المساعدة عليه أصلاً،والوجه في ذلك:هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ ما عبّر عنه باسم المصدر لا يغاير المعنى الذي عبّر عنه بالمصدر إلّابالاعتبار،فالمصدر باعتبار إضافته إلى الفاعل،واسم المصدر باعتبار إضافته إلى نفسه كالايجاد والوجود فانّهما واحد ذاتاً وحقيقةً والاختلاف بينهما بالاعتبار،حيث إنّ الايجاد باعتبار إضافته إلى الفاعل والوجود باعتبار إضافته إلى نفسه،وليس المصدر واسم المصدر من قبيل المثال المذكور،ضرورة أنّ المثال من السبب والمسبب والعلة والمعلول،ومن الواضح جداً أنّ المصدر ليس علةً وسبباً لاسم المصدر،بداهة أنّ العلية والسببية تقتضي الاثنينية والتعدد بحسب الوجود الخارجي، والمفروض أ نّه لا اثنينية ولا تعدد بين المصدر واسم المصدر أصلاً،بل هما أمر واحد وجوداً وماهية.

نعم،في مثل المثال المزبور لا مانع من أن تكون المقدمة محرّمةً وما يتولد منها واجباً إذا لم تكن المقدمة منحصرة وإلّا فتقع المزاحمة بينهما كما تقدم في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 157)


بحث مقدمة الواجب مفصّلاً 1إلّاأ نّك عرفت أ نّه خارج عن محل الكلام هنا حيث إنّه في المصدر واسم المصدر وقد عرفت أ نّهما أمر واحد وجوداً وخارجاً،فلا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه،لاستحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب،وعليه فلا محالة يكون النهي عن شرط يوجب تقييد العبادة المشروطة به بغير هذا الفرد المنهي عنه،مثلاً إذا نهى المولى عن التستر في الصلاة بثوب خاص فلا محالة يوجب تقييد الصلاة المشروطة بالستر بغير هذا الفرد ولا تنطبق طبيعة الصلاة المأمور بها على هذه الحصة المقترنة به.

وإن أراد (قدس سره) من المصدر واسم المصدر واقعهما الموضوعي،فيرد عليه:ما عرفت الآن من أ نّهما متحدان حقيقةً وذاتاً ومختلفان بالاعتبار،ومعه لا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه. ودعوى أنّ النهي تعلق به باعتبار إضافته إلى الفاعل-وهو المعبّر عنه بالمصدر-والأمر تعلق به باعتبار إضافته إلى نفسه فلا تنافي بينهما عندئذ خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً،وذلك ضرورة أنّ الشيء الواحد لا يتعدد بتعدد الاضافة،ومعه كيف يعقل أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً،ومحبوباً ومبغوضاً في زمان واحد،وعلى هذا فاذا افترضنا أنّ المولى نهي عن التستر حال الصلاة بثوب خاص أو نهى عن الوضوء أو الغسل بماء مخصوص،فلا محالة يكون مردّ هذا النهي إلى مبغوضية تقيد الصلاة بهذا الفرد الخاص،وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الصلاة المقترنة به مأموراً بها،لاستحالة اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً.


 

1) <page number=”157″ /><nl />[ بل تقدّم في مبحث الضد في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 495،510 ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 158)


وبكلمة اخرى:أنّ النهي عن الشرط والقيد لا محالة يرجع إلى تقييد إطلاق دليل العبادة بغير هذه الحصة المنهي عنها،ولازم ذلك أنّ الواجب هو الصلاة المقيدة بغير تلك الحصة فلا ينطبق عليها،ومع عدم الانطباق لا محالة تقع فاسدة.

فالنتيجة: أنّ حال النهي عن الشرط من هذه الناحية حال النهي عن الجزء فلا فرق بينهما.نعم،فرق بينهما من ناحية اخرى:وهي أنّ الأجزاء بأنفسها متعلقة للأمر وعبادة فلا تسقط بدون قصد القربة،وهذا بخلاف الشرائط،فانّ ذواتها ليست متعلقة للأمر والمتعلق له إنّما هو تقيد العبادات بها،ومن هنا تكون الشرائط خارجةً عن مقام ذات العبادة وغير داخلة فيها،ولذا لا يعتبر في سقوطها قصد القربة،فلو أتى بالصلاة غافلاً عن كونها واجدةً للشرائط كالستر والاستقبال إلى القبلة ونحوهما صحت.

وكيف كان،فلا فرق بين الجزء والشرط فيما نحن فيه،فكما أنّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة كالصلاة مثلاً بغير الحصة المشتملة على هذا الجزء فلا يعقل أن تكون تلك الحصة مصداقاً للمأمور به وفرداً له،لاستحالة كون المبغوض مصداقاً للمحبوب،فكذلك النهي عن الشرط فانّه يوجب تقييد إطلاق العبادة بغير الحصة المقترنة به بعين الملاك المزبور.

وقد تحصّل مما ذكرناه: أ نّه بناءً على ثبوت الملازمة بين حرمة عبادة وفسادها لا يفرق في ذلك بين أن تكون الحرمة متعلقة بذاتها أو بجزئها أو شرطها،فعلى جميع التقادير تقع فاسدةً بملاك واحد وهو عدم وقوعها مصداقاً للعبادة المأمور بها،فما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ النهي متعلق بالشرط بالمعنى المصدري،وما هو شرط في الواقع والحقيقة هو المعنى الاسم المصدري فلا يوجب الفساد،لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً،لما عرفت من

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 159)


أ نّهما متحدان ذاتاً وخارجاً ومختلفان اعتباراً،وقد عبّر عنهما في لغة العرب بلفظ واحد،ويفرق بينهما بقرائن الحال أو المقال.نعم،عبّر في لغة الفرس عن كل منهما بلفظ خاص.وكيف كان،فلا يمكن أن يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقاً للنهي.

وأمّا النقطة الثانية: وهي أنّ الطهارة الحاصلة من الأفعال الخاصة شرط للصلاة دون نفس هذه الأفعال،فيردّها:أنّ ذلك خلاف ظواهر الأدلة من الآية والروايات،فانّ الظاهر منها هو أنّ الشرط لها نفس تلك الأفعال، والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبباً عنها.وعلى الجملة:فما ذكره (قدس سره) من كون الطهارة مسببة عنها وإن كان مشهوراً بين الأصحاب إلّاأ نّه لا يمكن إتمامه بدليل،ومن هنا قلنا:إنّ ما ورد في الروايات من أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور وأ نّه طهور 1ونحو ذلك،ظاهر في أنّ الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبباً عنها على ما فصّلنا الكلام فيه في محلّه.

ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة أيضاً:وهي أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية،ووجه الظهور ما عرفت من أنّ نفس هذه الأفعال شرائط لها وهي تعبدية لا توصلية،وعليه صحّ تقسيم شرائط الصلاة إلى تعبدية وتوصلية.

فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من عدم صحة هذا التقسيم خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

[القسم الرابع:حكم النهي المتعلق بوصف العبادة]

وأمّا القسم الرابع: وهو النهي عن الوصف الملازم للعبادة،فحاله حال النهي عن العبادة بأحد العناوين السالفة،والوجه في ذلك:هو أنّ النهي عن


 

1) <page number=”159″ /><nl />الوسائل 1:/377أبواب الوضوء ب 8 ح 8،3.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 160)


مثل هذا الوصف لا محالة يكون مساوقاً للنهي عن موصوفه باعتبار أنّ هذا الوصف متحد معه خارجاً ولا يكون له وجود بدون وجوده،وعليه فلا يعقل أن يكون أحدهما منهياً عنه والآخر مأموراً به،لاستحالة كون شيء واحد مصداقاً لهما معاً،ومثال ذلك:الجهر والخفت بالقراءة فانّ النهي عن الجهر بالقراءة مثلاً لا محالة يكون نهياً حقيقةً عن القراءة الجهرية،أي عن هذه الحصة الخاصة،ضرورة أ نّه لا وجود للجهر بدون القراءة،كما أ نّه لا وجود للقراءة بدون الجهر أو الخفت في الخارج،فلا يعقل أن يكون الجهر بالقراءة منهياً عنه دون نفس القراءة،بداهة أ نّها حصة خاصة من مطلق القراءة، فالنهي عن الجهر بها نهي عن تلك الحصة لا محالة.

فالنتيجة: أنّ النهي عن الجهر أو الخفت يرجع إلى النهي عن العبادة،غاية الأمر أنّ القراءة لو كانت بنفسها عبادة دخل ذلك في النهي عن نفس العبادة، وإن كانت جزءاً لها دخل في النهي عن جزئها،وإن كانت شرطاً لها دخل في النهي عن شرطها،وعلى هذا الضوء فلا يكون هذا القسم نوعاً آخر في مقابل الأقسام المتقدمة،بل هو يرجع إلى أحد تلك الأقسام لا محالة كما هو واضح.

و أمّا القسم الخامس:و هو النهي عن الوصف المفارق للموصوف

فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة،وذلك لأنّ هذا الوصف إن كان متحداً مع موصوفه في مورد الالتقاء والاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع،وعندئذ يدخل في كبرى مسألتنا هذه.وإن كان غير متحد معه وجوداً فيه ولم نقل بسراية الحكم من أحدهما إلى الآخر فلا مناص من القول بالجواز،وعندئذ لا يكون داخلاً فيها.فالنتيجة:أنّ هذا القسم داخل في المسألة المتقدمة لا في مسألتنا هذه كما لا يخفى.

[الثامنة:مقتضى الأصل في المقام]

الثامنة: أ نّه لا أصل في المسألة الاُصولية ليعوّل عليه عند الشك في ثبوتها،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 161)


والسبب في ذلك:ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الملازمة المزبورة وإن لم تكن داخلةً تحت إحدى المقولات كالجواهر والأعراض،إلّاأ نّها مع ذلك أمر واقعي أزلي، أي ثابت من الأزل وليست لها حالة سابقة،فان كانت موجودة فهي من الأزل وإن كانت غير موجودة فكذلك،فلا معنى لأن يشك في بقائها لا وجوداً ولا عدماً،بل الشك فيها دائماً إنّما هو في أصل ثبوتها من الأزل وعدم ثبوتها كذلك،ومن المعلوم أ نّه لا أصل هنا ليعتمد عليه في إثباتها من الأزل أو عدم إثباتها كذلك.

ومن هنا يظهر الحال فيما لو كان المبحوث عنه في هذه المسألة دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته عليه،حيث إنّه لا أصل على هذا الفرض أيضاً ليعوّل عليه في إثبات هذه الدلالة أو نفيها،هذا كلّه في المسألة الاُصولية.

وأمّا في المسألة الفرعية:فيجري الأصل فيها-وهو أصالة الفساد-وإنّما الكلام في أ نّه هل يقتضي الفساد في العبادات والمعاملات مطلقاً أو في المعاملات فحسب دون العبادات ؟ فيه قولان.

فاختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1القول الثاني،وقد أفاد في وجه ذلك:أنّ الأصل في جميع موارد الشك في صحة المعاملة يقتضي الفساد،لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة الخارجية المشكوك صحتها،وبقاء متعلقها على ما كان قبل تحققها،من دون فرق في ذلك بين أن يكون الشك لأجل شبهة حكمية أو موضوعية.وأمّا العبادة فان كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها.وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم بالصحة والفساد عند


 

1) <page number=”161″ /><nl />أجود التقريرات 2:212.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 162)


الشك فيهما يبتني على الخلاف في جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في كبرى مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين،هذا حسب ما تقتضيه القاعدة الأوّلية.

وأمّا بالنظر إلى القواعد الثانوية الحاكمة على القواعد الأوّلية فربّما يحكم بصحة العبادة أو المعاملة عند الشك فيها بقاعدة الفراغ أو التجاوز أو الصحة أو نحو ذلك.

وأمّا صاحب الكفاية (قدس سره) 1ففي بعض نسخ كتابه وإن كان هذا التفصيل موجوداً إلّاأ نّه ضرب خط المحو عليه واختار القول الأوّل-وهو الفساد مطلقاً-وقال:نعم،كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة،وأمّا العبادة فكذلك لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.

والصحيح هو ما اختاره صاحب الكفاية (قدس سره) من النظرية في المسألة بيان ذلك:

أمّا في العبادات: فلأنّ محل الكلام هنا ليس في مطلق الشك في صحة العبادة وفسادها سواء أكانت متعلقة للنهي أم لم تكن وكانت الشبهة موضوعية أم كانت حكمية،بل محل الكلام إنّما هو في خصوص عبادة شك في صحتها وفسادها من ناحية كونها متعلقة للنهي ومحرّمة فعلاً،وأمّا ما لا تكون كذلك فليس من محل الكلام في شيء،سواء أكان الشك في صحتها وفسادها من ناحية الشك في انطباق المأمور به عليها أو من الشك في أصل مشروعيتها،أو في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مع عدم الشك في أصل مشروعيتها،فانّ


 

1) <page number=”162″ /><nl />كفاية الاُصول:184.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 163)


كل ذلك خارج عن مفروض الكلام في المسألة.وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الأصل في هذه الموارد وإن كان تاماً في الجملة إلّاأ نّه أجنبي عن محل الكلام،فمحل الكلام في المسألة ما ذكرناه.

وعلى هذا فلا محالة يكون مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد،والسبب فيه واضح،وهو أنّ العبادة إذا كانت محرّمة ومبغوضة فعلاً للمولى فبطبيعة الحال هي توجب تقييد إطلاق دليلها بغيرها-الحصة المنهي عنها-بداهة أنّ المحرّم لا يعقل أن يقع مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب،فاذن كيف يمكن الحكم بصحتها.

وإن شئت قلت: إنّ صحتها ترتكز على أحد أمرين:الأوّل:أن تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها.الثاني:أن تكون مشتملة على الملاك في هذا الحال،ولكن شيئاً من الأمرين غير موجود.أمّا الأوّل:فلما عرفت من استحالة كون العبادة المنهي عنها مصداقاً للمأمور به.وأمّا الثاني:فلما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا يمكن إحراز اشتماله على الملاك إلّابأحد طريقين:وجود الأمر به.وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه،وأمّا إذا افترضنا أ نّه لا أمر ولا انطباق فلا يمكن إحراز اشتمالها على الملاك،والمفروض فيما نحن فيه هو انتفاء كلا الطريقين معاً،ومعه كيف يمكن إحراز اشتمالها على الملاك،فانّ سقوط الأمر كما يمكن أن يكون لأجل وجود مانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل عدم المقتضي له في هذا الحال.

فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد مطلقاً.

وأمّا في المعاملات: فإن كان هناك عموم أو إطلاق وكان الشك في صحة المعاملة المنهي عنها وفسادها من جهة الشبهة الحكمية فلا مانع من التمسك به

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 164)


لاثبات صحتها،ضرورة أ نّه لا تنافي بين كون معاملة محرمة ووقوعها صحيحة في الخارج،إلّاأنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام،حيث إنّه فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق في البين يقتضي صحتها،أو كان ولكنّ الشبهة كانت موضوعية فلا يمكن التمسك بالعموم فيها،فعندئذ بطبيعة الحال المرجع هو الأصل العملي،ومقتضاه الفساد.

مثلاً لو شككنا في صحة نكاح الشغار أو فساده ولم يكن دليل من الخارج على صحته أو فساده لا عموماً ولا خصوصاً فالمرجع هو الأصل،وهو يقتضي فساده وعدم حصول العلقة الزوجية بين الرجل والمرأة.وكذا الحال فيما إذا شككنا في صحة معاملة وفسادها من ناحية الشبهة الموضوعية.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ مقتضى الأصل في المعاملات أيضاً هو الفساد مطلقاً،فلا فرق بينها وبين العبادات من هذه الناحية.نعم،فرق بينهما من ناحية اخرى وهي أ نّه لا تنافي بين حرمة المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً كما ستأتي الاشارة إلى ذلك بشكل موسع 1وهذا بخلاف العبادة فانّ حرمتها لا تجتمع مع صحتها كما عرفت.

وبكلمة واضحة: أنّ النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشادياً ومسوقاً لبيان مانعية شيء عنها كالنهي عن بيع الغرر أو بيع ما ليس عندك وما شاكل ذلك فلا إشكال في دلالته على الفساد،ومن هنا قلنا بخروج هذا القسم من النهي عن محل الكلام في المسألة،وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن البحوث المتقدمة بشكل موسع 2فالكلام هنا إنّما هو في دلالة النهي النفسي المولوي على الفساد


 

1) <page number=”164″ /><nl />في ص 166.
2) <nl />في ص 135-136.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 165)


وعدم دلالته عليه،بمعنى ثبوت الملازمة بين حرمة معاملة وفسادها وعدم ثبوتها،وقد اختلفت كلمات الأصحاب حول ذلك،ونسب إلى أبي حنيفة والشيباني 1دلالة النهي على الصحة،ونسب إلى آخر دلالته على الفساد، وفصّل ثالث بين ما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبيب وما إذا تعلق بالسبب، فعلى الأوّل يدل على الصحة دون الثاني.

واختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) حيث قال-بعد ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة-:والتحقيق أ نّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب،لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر،ولا يكاد يقدر عليهما إلّافيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة 2.

وإليك توضيح ما أفاده: وهو أنّ النهي إذا افترض تعلّقه بالتسبيب،أي ايجاد الملكية من سبب خاص دون آخر كالنهي عن بيع الكلب مثلاً،فبطبيعة الحال يدل على صحة هذا السبب ونفوذه في الشريعة وحصول الملكية به، ضرورة أ نّه لو لم يكن هذا السبب نافذاً شرعاً ولم تحصل الملكية به لكان النهي عن إيجادها به لغواً محضاً وكان نهياً عن غير مقدور لفرض أ نّها لا تحصل بانشائها به (السبب الخاص) مع قطع النظر عن النهي،فاذن لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن أمر غير مقدور وهو مستحيل.

ومن هنا يظهر الحال فيما إذا تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن تمليك المصحف لكافر،فانّه يدل على صحة هذه المعاملة-وهي البيع-لوضوح أ نّها لو لم تكن


 

1) <page number=”165″ /><nl />شرح تنقيح الفصول:173.
2) كفاية الاُصول:189.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 166)


صحيحةً وممضاةً شرعاً لم تكن سبباً لحصول الملكية وبدون ذلك لا معنى للنهي عن الملكية المسببة عن هذا السبب الخاص،لفرض أ نّه لا يقدر على إيجادها بايجاد سببها،ومعه لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن غير مقدور وهو محال،لاعتبار القدرة في متعلقه كالأمر.

وقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1تفصيلاً ثانياً في المقام:وهو أنّ النهي إذا تعلق بالمسبب دلّ على الفساد وإذا تعلق بالسبب لم يدل عليه.هذه هي الأقوال في المسألة.

والصحيح في المقام أن يقال:إنّ النهي عن المعاملة لا يدل على فسادها وأ نّه لا ملازمة بين حرمة معاملة وبطلانها أصلاً،بيان ذلك يحتاج إلى مقدمة:وهي أ نّنا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية بشتى أشكالها وألوانها:التكليفية والوضعية امور اعتبارية لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:قد تقدم منّا في أوّل بحث النواهي بصورة موسّعة أنّ حقيقة النهي وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل وبُعده عنه،وإبرازه في الخارج بمبرزٍ من قول أو فعل،كما أنّ حقيقة الأمر وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك،وهذا هو واقع الأمر والنهي.وأمّا الوجوب والحرمة والبعث والزجر وما شاكل ذلك فليس شيء منها مدلولاً للأمر والنهي،بل الجميع منتزع من إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج ولا واقع موضوعي لها ما عدا ذلك،فانّ الأمر والنهي لا يدلّان إلّاعلى إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج دون غيره.


 

1) <page number=”166″ /><nl />أجود التقريرات 2:227.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 167)


ومن ناحية ثالثة:أنّ لهذا الأمر الاعتباري متعلقا و موضوعا،ومتعلقه هو فعل المكلف كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما شاكل ذلك،وموضوعه العقل والبلوغ ودخول الوقت والاستطاعة والدم والخمر والخنزير وغير ذلك من الجواهر والأعراض.

أمّا الأوّل: وهو المتعلق فلا ينبغي الشك في عدم دخله في الحكم الشرعي أصلاً ولا يؤثر فيه أبداً،لا في مرحلة التشريع والاعتبار ولا في مرحلة الفعلية والامتثال.

أمّا عدم دخله في مرحلة التشريع فواضح،حيث إنّه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على أيّ شيء ما عدا اختياره وإعمال قدرته.نعم،نظراً إلى أنّ صدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل فبطبيعة الحال يتوقف اعتباره وصدوره منه على وجود داع ومرجح له،والداعي له إنّما هو المصالح والحِكم الكامنة في نفس الأفعال والمتعلقات بناءً على ما هو المشهور بين العدلية،أو في نفس الاعتبار والتشريع بناءً على ما ذهب إليه بعض العدلية والأشاعرة.ومن الواضح أنّ دخل تلك المصالح فيه على نحو دخل الداعي في المدعو لا على نحو دخل العلة في المعلول،وإلّا لزم خروج الحكم الشرعي عن كونه أمراً اعتبارياً بقانون التناسب والسنخية بينهما من ناحية،وعن كونه فعلاً اختيارياً للشارع من ناحية اخرى.

وأمّا عدم دخله في مرحلة الفعلية فأيضاً واضح،وذلك لأنّ فعلية الأحكام إنّما هي بفعلية موضوعاتها وتدور مدارها وجوداً وعدماً،ولا تتوقف على فعلية متعلقاتها،كيف فانّ فعليتها توجب سقوطها خارجاً.

وأمّا الثاني: وهو الموضوع فأيضاً لا دخل له في الحكم الشرعي أبداً،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 168)


وذلك لما عرفت من أ نّه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على شيء ما عدا إرادته واختياره.نعم،جعله حيث كان غالباً على نحو القضايا الحقيقية فبطبيعة الحال يكون مجعولاً للموضوع المفروض الوجود خارجاً،فإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تتوقف فعليته على فعلية موضوعه وإلّا لزم الخلف،أي ما فرض موضوعاً له ليس بموضوع،ولأجل ذلك يطلق عليه السبب تارةً، والشرط تارة اخرى فيقال:إنّ الاستطاعة شرط لوجوب الحج،والسفر بقدر المسافة شرط لوجوب القصر،والبلوغ شرط للتكليف والبيع سبب للملكية وهكذا،مع أ نّه عند التحليل لا شرطية ولا سببية في البين أصلاً.

وبكلمة اخرى:أنّ الموجودات الخارجية لا تؤثر في الأحكام الشرعية وإلّا لكانت تلك الأحكام من الاُمور التكوينية بقانون التناسب والسنخية المعتبر في تأثير العلة في المعلول من ناحية،ولخرجت عن كونها أفعالاً اختيارية من ناحية اخرى.وعلى ضوء ذلك فبطبيعة الحال يكون إطلاق الشرط على موضوعاتها مبنيّاً على ضرب من المسامحة،نظراً إلى أ نّها حيث اخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار فيستحيل انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية،فتكون من هذه الناحية كالسبب والشرط.مثلاً إذا جعل الشارع وجوب الحج للمستطيع على نحو القضية الحقيقية انتزع عنوان الشرطية للاستطاعة باعتبار أنّ فعلية وجوبه تدور مدار فعليتها خارجاً واستحالة انفكاكها عنها.

ومن هدى هذا البيان يظهر حال الأحكام الوضعية أيضاً،تفصيل ذلك:أنّ الأحكام الوضعية على طائفتين:

إحداهما: منتزعة من الأحكام التكليفية وذلك كالجزئية والشرطية والمانعية وما شاكل ذلك.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 169)


وثانيتهما: مجعولة على نحو الاستقلال كالأحكام التكليفية،وذلك كالملكية والزوجية والرقية والولاية وما شابه ذلك.أمّا الطائفة الاُولى:فهي خارجة عن محل كلامنا في المسألة،لما عرفت من أنّ محل الكلام فيها إنّما هو في المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود والايقاعات.

وبعد ذلك نقول:إنّا قد حققنا في محلّه 1أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب من أنّ صيغ العقود والايقاعات أسباب للمسببات خاطئ جداً ولاواقع موضوعي له أصلاً،كما أ نّا ذكرنا أ نّه لا أصل لما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها،والسبب في ذلك:ما بيّناه في مبحث الانشاء والاخبار بشكل موسع 2ملخّصه:أنّ ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أنّ الانشاء إيجاد المعنى باللفظ لا واقع له أصلاً،وذلك لأنّهم إن أرادوا به الايجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول،بداهة أنّ اللفظ لا يعقل أن يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده.وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري فيرد عليه:أ نّه يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن،لوضوح أنّ اللفظ لا يكون سبباً لايجاده الاعتباري ولا آلة له،كيف فانّ الأمر الاعتباري كما ذكرناه غير مرّة لا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار في افق النفس،ولا يتوقف وجوده على أيّ شيء آخر غيره.نعم،إبرازه في الخارج يحتاج إلى مبرز،والمبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب،وقد يكون كتابة أو إشارة خارجة،وقد يكون فعلاً كذلك،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أ نّا إذا حلّلنا واقع المعاملات تحليلاً موضوعياً لم نجد


 

1) <page number=”169″ /><nl />راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 219.
2) <nl />راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 97-98.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 170)


فيها إلّاأمرين:الأوّل:الاعتبار القائم بنفس المعتبر بالمباشرة.الثاني:إبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك.فالمعاملات أسامٍ للمركب من هذين الأمرين،أي الأمر الاعتباري النفساني،وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا، مثلاً عنوان البيع والاجارة والصلح والنكاح لايصدق على مجرد الأمر الاعتباري النفساني بدون إبرازه في الخارج،فلو اعتبر شخص في افق نفسه ملكية داره لزيد مثلاً من دون أن يبرزه في الخارج لم يصدق عليه أ نّه باع داره أو وهب فرسه مثلاً،كما أ نّه لا يصدق تلك العناوين على مجرد الابراز الخارجي من دون اعتبار نفساني كما إذا كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الايقاعات،أو كان التكلم بها بداعٍ آخر لا بقصد إبراز ما في افق النفس من الأمر الاعتباري.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي:أنّ المعاملات بشتى ألوانها مركبة من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا وأسامٍ لهما،وكلاهما أمر مباشري ولا يعقل التسبيب بالاضافة إلى ذاك الأمر الاعتباري.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد اتضح:أ نّه ليس في باب المعاملات سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذيها ليقال إنّ النهي قد يتعلق بالسبب وقد يتعلق بالمسبب،هذا من جانب.ومن جانب آخر:أنّ المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك قد اخذت مفروضة الوجود في لسان أدلة الامضاء والجعل كقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 2وقوله (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم):«النكاح سنّتي» 3و«الصلح


 

1) <page number=”170″ /><nl />البقرة 2:275.
2) <nl />النساء 4:29.
3) المستدرك 14:/149أبواب مقدمات النكاح ب 1 ح 1 (مع اختلاف يسير).

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 171)


جائز بين المسلمين» 1ونحو ذلك،كما أ نّها مأخوذة كذلك في موضوع إمضاء العقلاء،وعلى هذا فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء الشرعي على فعلية هذه المعاملات وتحققها في الخارج،فمرجع قوله تعالى «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» مثلاً إلى قولنا:إذا وجد شيء في الخارج وصدق عليه أ نّه بيع فهو ممضى شرعاً، ومن هنا قلنا فيما تقدم إنّ الصحة في المعاملات مجعولة شرعاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ نسبة صيغ العقود أو الايقاعات إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى المسببات،ولا نسبة الآلة إلى ذيها،بل نسبة المبرز-بالكسر-إلى المبرز-بالفتح-كما أنّ نسبتها إلى الامضاء الشرعي ليست نسبة الأسباب إلى المسببات،كيف فانّ المعاملات بهذه العناوين الخاصة مأخوذة في موضوعه،ومن المعلوم أنّ الموضوع ليس سبباً لحكمه وعلّة له.ومن هنا يظهر أنّ نسبة هذه المعاملات كما تكون إلى الامضاء الشرعي نسبة الموضوع إلى الحكم كذلك تكون نسبتها إلى الامضاء العقلائي.

وعلى أساس هذا البيان يظهر:أ نّه لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية من هذه الناحية أصلاً،فكما أ نّه لا سببية ولا مسببية في باب الأحكام التكليفية حيث إنّ نسبتها إلى موضوعاتها كالاستطاعة والبلوغ والعقل ودخول الوقت وما شاكل ذلك ليست نسبة المعلول إلى العلة فلا تأثير ولا ارتباط بينهما ذاتاً،فكذلك الحال في الأحكام الوضعية.وعليه فلم يظهر لنا


 

1) <page number=”171″ /><nl />الوسائل 18:/443كتاب الصلح ب 3 ح 2.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 172)


لحدّ الآن وجه ما اصطلحوا عليه الفقهاء من التعبير عن موضوعات الأحكام التكليفية بالشرائط وعن موضوعات الأحكام الوضعية بالأسباب،مع أ نّهما من وادٍ واحد فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

وكيف كان،فلا يقوم هذا الاصطلاح على واقع موضوعي،حيث قد عرفت أ نّه ليس في كلا البابين معاً إلّاجعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده في الخارج من دون أيّ تأثير له في ثبوت الحكم تكويناً.نعم،لا بأس بالتعبير عن الموضوع بالشرط نظراً إلى رجوع القضية الحقيقية إلى القضية الشرطية، مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له،ولكن هذا الشرط بمعنى آخر غير الشرط الذي هو من أجزاء العلة التامة.

وقد تحصّل من مجموع ما حققناه:أنّ الموجود في مورد المعاملة عدّة امور:

الأوّل:الاعتبار النفساني القائم بنفس المعتبر بالمباشرة.

الثاني:إبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو نحو ذلك.

الثالث:الامضاء العقلائي،وهو فعل اختياري للعقلاء وخارج عن اختيار المتعاملين.

الرابع:الامضاء الشرعي،وهو فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره،وقد تقدم أنّ موضوعه هو المعاملة بعناوينها الخاصة كالبيع أو نحوه.

وبعد ذلك نقول: إنّ النهي المتعلق بالمعاملة لا يخلو من أن يكون متعلقاً بالامضاء الشرعي المعبّر عنه في لسان الفقهاء بالملكية الشرعية،أو متعلقاً بالامضاء العقلائي،أو بالأمر الاعتباري النفساني،أو بالمبرز الخارجي،أو بالمجموع المركب منهما،فلا سادس في البين.

أمّا الأوّل: وهو الامضاء الشرعي فلا معنى للنهي عنه،بداهة أ نّه فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره،ومن الطبيعي أ نّه

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 173)


لا معنى لنهي الشارع عن فعل نفسه،غاية الأمر إذا كانت فيه مفسدة ملزمة لم يصدر منه،كما هو الحال في مثل بيع الكلب والخنزير والخمر والبيع الربوي وما شاكل ذلك،فانّ عدم إمضاء الشارع هذه المعاملات وعدم اعتباره الملكية فيها من جهة وجود مفسدة ملزمة في تلك المعاملات فانّها تكون مانعة منه،لا أ نّها موجبة للنهي عنه.

وتوهم أنّ هذه الدعوى لا تلائم مع نهي الشارع عن هذه المعاملات من ناحية،وكون النهي عنها متوجهاً إلى المتعاملين من ناحية اخرى، فاسد جداً، وذلك لأنّ هذا النهي ليس نهياً تكليفياً ليقال إنّه غير معقول،بل هو نهي إرشادي فيرشد إلى عدم إمضاء الشارع تلك المعاملات.وقد ذكرنا غير مرّة أنّ شأن النهي الارشادي شأن الاخبار،فكأنّ المولى أخبر عن فساد هذه المعاملات وعدم إمضائها.نعم،بعض هذه المعاملات-وهو المعاملة الربوية – وإن كان محرّماً تكليفاً أيضاً إلّاأنّ الحرمة متعلقة بفعل المتعاملين لا بالامضاء الشرعي والملكية الشرعية،وقد عرفت أنّ المعاملات أسامٍ للأفعال الصادرة عن آحاد الناس فلا مانع من تعلق الحرمة بها.

فالنتيجة:هي أ نّه لا معنى لتعلق النهي بالملكية الشرعية،ومن هنا يظهر الحال في:

الأمر الثاني: وهو الامضاء العقلائي،فانّه حيث كان خارجاً عن اختيار المتعاملين فلا معنى للنهي عنه ولا يعقل تعلق النهي في باب المعاملات به.

وأمّا الثالث: وهو فرض تعلق النهي بالأمر الاعتباري النفساني فحسب، فهو وإن كان شيئاً معقولاً في نفسه إلّاأ نّه لا يستلزم فساد المعاملة،لأنّ النهي عنه لا يكون نهياً عن المعاملة حتى يستلزم فسادها،لما عرفت من أنّ المعاملات من العقود والايقاعات أسامٍ للمركب من ذلك الأمر الاعتباري

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 174)


النفساني وإبرازه في الخارج بمبرزٍ ما،فلا تصدق على الاعتبار النفساني فحسب، ولا على المبرز الخارجي كذلك.وعلى هذا الضوء فما يتعلق به النهي ليس بمعاملة وما هو معاملة ليس بمنهي عنه.

وإن شئت قلت:إنّ تعلق النهي بذلك الأمر الاعتباري النفساني مع قطع النظر عن إبرازه في الخارج غير محتمل في نفسه،وعلى تقدير تعلقه به فهو لا يدل على صحة المعاملة ولا على فسادها.

وأمّا الرابع: وهو فرض تعلق النهي بالمبرز-بالكسر-فحسب،فقد ظهر أ نّه لا يستلزم فساد المعاملة أيضاً،حيث إنّ النهي عنه لا يكون نهياً عنها حتى يدل على فسادها،ومثال ذلك:ما إذا افترضنا أنّ أحداً تكلم أثناء الصلاة بقوله:بعت داري أو زوجتي طالق أو ما شاكل ذلك،فانّ التكلم بهذا القول بما هو قول آدمي أثناء الصلاة وإن كان محرّماً بناءً على نظرية المشهور،بل ادعي الاجماع على ذلك،إلّاأنّ هذه الحرمة لا تدل على فساد هذا العقد أو الايقاع، لوضوح أنّ المحرّم إنّما هو التكلم بهذه الصيغة بما هي كلام آدمي،لا بما هي بيع أو إجارة أو طلاق أو نحو ذلك،فاذن لا يكون نهي عن المعاملة ليقال باستلزامه فسادها.

نتيجة ما ذكرناه لحدّ الآن:هي أنّ النهي عن الأمر الأوّل والثاني غير معقول في نفسه،وأمّا النهي عن الأمر الثالث والرابع وإن كان معقولاً إلّاأ نّه ليس نهياً عن المعاملة بما هي معاملة ليقع البحث عن أ نّه هل يدل على فسادها أم لا.

ومن ضوء هذا البيان يظهر:أنّ ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني-وهو الذي اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أيضاً من أنّ النهي إذا تعلق بالمسبب أو التسبيب يدل على الصحة-خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أبداً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 175)


أمّا أوّلاً:فلما عرفت في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من أ نّه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلاً كي يفرض تارةً تعلق النهي بالسبب واُخرى بالمسبب وثالثاً بالتسبيب.

وأمّا ثانياً:فلما تقدم من أ نّهم فسّروا المسبب فيها بالملكية الشرعية،وقد عرفت أ نّه لا معنى للنهي عنها ليقال إنّه يدل على الصحة.

وأمّا ثالثاً:فعلى تقدير تسليم أ نّهم أرادوا بالمسبب فيها الاعتبار النفساني ولكن قد عرفت أنّ النهي عنه في إطاره الخاص لا يكون نهياً عن المعاملة ليقال إنّه يدل على صحتها.وعلى الجملة:فصحة المعاملة تابعة لامضاء الشارع إيّاها ولا صلة لها بالنهي عن الأمر الاعتباري النفساني أصلاً.

وأمّا الخامس: وهو فرض تعلق النهي بالمعاملة من العقود أو الايقاعات ولو باعتبار جزئها الداخلي أو الخارجي،فقد ذكر شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أنّ الحق في المقام هو التفصيل بين تعلق النهي بالسبب على نحو يساوق معنى المصدر وتعلقه بالمسبب على نحو يساوق معنى اسم المصدر،فالتزم (قدس سره) أ نّه على الأوّل لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه،بيان ذلك:

أمّا وجه عدم دلالة الأوّل على الفساد،فلأنّ الانشاء في المعاملة بما أ نّه فعل من أفعال المكلف فالنهي عنه إنّما يدل على مبغوضيته فحسب،ومن الطبيعي أنّ مبغوضيته لا تستلزم فساد المعاملة وعدم ترتب أثر شرعي عليها،ضرورة أ نّه لا منافاة بين حرمة إنشاء المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً.

وأمّا وجه دلالة الثاني على الفساد،فلما ذكره (قدس سره) من أنّ صحة


 

1) <page number=”175″ /><nl />أجود التقريرات 2:227.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 176)


المعاملة ترتكز على ركائز ثلاث:

الاُولى:أن يكون كل من المتعاملين مالكاً للعين أو ما بحكمه كالوكيل أو الولي أو ما شاكل ذلك.

الثانية:أن لا يكون ممنوعاً عن التصرف بأحد أسباب المنع كالسفه أو الفلس أو الحجر لتكون له سلطنة فعلية على التصرف فيها.

الثالثة:أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاص وآلة خاصة،وعلى ذلك فاذا فرض تعلق النهي بالمسبب وهو الملكية المنشأة بالصيغة أو بغيرها كما هو الحال في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر،فلا محالة يكون النهي عنه معجّزاً مولوياً للمكلف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه،وبذلك تختل الركيزة الثانية المعتبرة في صحة المعاملة-وهي سلطنة المكلف عليها في حكم الشارع وعدم كونه ممنوعاً عن التصرف فيها-ويترتب على هذا فساد المعاملة لا محالة.

وعلى ضوء ذلك يظهر:وجه تسالم الفقهاء على فساد الاجارة على الأعمال الواجبة على المكلف مجاناً،فانّ العمل بما أ نّه مملوك للّٰه‌تعالى وخارج عن سلطان المكلف فلا يمكنه تمليكه من غيره باجارة أو نحوها،وكذا وجه تسالمهم على بطلان بيع منذور الصدقة،فانّ نذره أوجب حجره عن التصرف بكل ما ينافي الوفاء بنذره فلا تنفذ تصرفاته المنافية له،وكذا وجه تسالمهم على فساد معاملة شيء إذا اشترط في ضمنها عدم معاملته من شخص آخر كما إذا فرض أ نّه باع داره من زيد مثلاً واشترط عليه عدم بيعها من عمرو،فانّ وجوب الوفاء بهذا الشرط يجعل المشتري محجوراً من البيع،فلو خالف وباع الدار من عمرو لم يكن نافذاً،وغير ذلك من الموارد.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 177)


ولكن من ضوء ما حققناه في ضمن البحوث السالفة قد تبيّن نقد ما أفاده (قدس سره) ملخّص ما ذكرناه هناك:هو أ نّه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلاً لكي يفرض تعلق النهي مرّةً بالسبب واُخرى بالمسبب،كما أ نّا ذكرنا هناك أنّ نسبة صيغ العقود إلى الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة ليست من قبيل نسبة السبب إلى المسبب،ولا المصدر إلى اسم المصدر،وأمّا نسبتها إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي من قبيل نسبة الموضوع إلى الحكم لا السبب إلى المسبب كما عرفت ولا المصدر إلى اسم المصدر، بداهة أنّ المصدر واسم المصدر كما مرّ متحدان ذاتاً ووجوداً ومختلفان اعتباراً كالايجاد والوجود،ومن المعلوم أنّ صيغ العقود أو الايقاعات تباين الملكية الانشائية وجوداً وذاتاً،فلا صلة بينهما إلّاصلة الابراز،أي كونها مبرزة لها، كما أ نّه لا صلة بينها وبين الملكية الشرعية أو العقلائية إلّاصلة الموضوع والحكم.

وعلى ذلك فإن أراد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من المسبب الملكية الشرعية فقد تقدم-مضافاً إلى أ نّها ليست مسببة عن شيء-أنّ النهي عنها غير معقول،وإن أراد به الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة المبرزة في الخارج بالصيغ المزبورة،أو نحوها فقد عرفت أنّ النهي عنها لا يوجب فساد المعاملة وإن فرض تعلقه بها بوصف كونها مبرزة في الخارج بمبرز ما كما هو مفروض الكلام هنا،ضرورة أ نّه لا ملازمة بين حرمة معاملة تكليفاً وفسادها وضعاً،فلا مانع من أن تكون المعاملة محرّمةً شرعاً كما إذا أوقعها أثناء الصلاة مثلاً،فانّها محرّمة على المشهور،ومع ذلك يترتب عليها أثرها.ومن هنا لو أوقع شخص طلاق زوجته أثناء الصلاة لم يشك أحد في صحته إذا كان واجداً لسائر شرائط الصحة،وكذا لو باع داره أثناءها مع أ نّه

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 178)


منهي عنه على المشهور ومحرّم.

وعلى الجملة: فالنهي المولوي عن الأمر الاعتباري بوصف كونه مبرزاً في الخارج،وكذا النهي عن المبرز-بالكسر-بوصف كونه كذلك لا يدلّان بوجه على فساد المعاملة لعدم التنافي بين حرمتها وصحتها أصلاً،وإنّما يدل النهي على فساد العبادة من ناحية التنافي بينهما وعدم إمكان الجمع كما عرفت.

وبكلمة اخرى:أنّ النهي عن المسبب بالمعنى المتقدم في باب المعاملات لا يوجب تقييد إطلاق دليل الامضاء بغير الفرد المنهي عنه إذا كان له إطلاق يشمله بنفسه،وذلك لما عرفت من عدم التنافي بين حرمته تكليفاً وإمضاء الشارع إيّاه وضعاً،حيث إنّ كلاً منهما في إطاره الخاص تابع لملاك كذلك ولا تنافي بين الملاكين أصلاً،والسر فيه واضح،وهو أ نّه إذا كان لدليل الامضاء كقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1أو نحوه إطلاق أو عموم،فالنهي تكليفاً عن معاملة في موردٍ لا يوجب تقييد إطلاقه أو تخصيص عمومه بغيرها،لعدم كونه مانعاً عن شموله لها،كيف حيث إنّه لا تنافي بين كون معاملة محكومة بالحرمة تكليفاً وكونها محكومة بالصحة وضعاً،ولذا صحّ تصريح المولى بذلك، فإذا لم تكن منافاة بينهما فلا مانع من التمسك باطلاقه أو عمومه لاثبات صحتها.

ومن هنا يظهر أنّ مثل هذا النهي لا يوجب حجر المكلف ومنعه عن إيجاده وعدم إمضاء الشارع إيّاه عند تحققه،فانّ ما يوجب ذلك إنّما هو النهي الوضعي دون التكليفي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر:أنّ قياس المقام بموارد ثبوت الحجر الوضعي


 

1) <page number=”178″ /><nl />البقرة 2:275.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 179)


خاطئ جداً وأ نّه قياس مع الفارق،وذلك لأنّ النهي عن المعاملة في تلك الموارد إرشاد إلى فسادها،حيث إنّ المكلف ممنوع من التصرف فيها وضعاً، هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ ما رتّبه (قدس سره) من الفروع على ما ذكره من الضابط أيضاً قابل للنقد بيان ذلك:

أمّا الفرع الأوّل: وهو تسالم الفقهاء على بطلان الاجارة على الواجبات المجانية،فانّه وإن كان صحيحاً إلّاأنّ البطلان غير مستند إلى ما أفاده (قدس سره) من كون تلك الواجبات مملوكة له (سبحانه وتعالى) بل هو مستند إلى نقطة اخرى،فلنا دعويان:الاُولى:أنّ بطلان الاجارة غير مستند إلى ما ذكره.الثانية:أ نّه مستند إلى نقطة اخرى.

أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ نحو ملكه تعالى لشيء يغاير نحو الملك الاعتباري فلا يوجب بطلان العقد عليه،فانّ معنى كون هذه الواجبات مملوكة له تعالى هو إضافتها إليه سبحانه،ومن البديهي أنّ مجرد هذه الاضافة لا يقتضي بطلان الاجارة عليها وإلّا لزم بطلانها في كل مورد يتصف متعلقها بالوجوب ولو كان الوجوب كفائياً كما في الصناعات الواجبة كذلك،وهذا مما لا نظن أن يلتزم به أحد حتى هو (قدس سره).

فالنتيجة:أنّ مقتضى القاعدة صحة الاجارة على الواجبات،فالوجوب بما هو لا يقتضي سلب المالية عنها ولا يوجب خروجها عن قابلية التمليك.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ المانع من صحة الاجارة عليها إنّما هو إلزام الشارع بالاتيان بها مجاناً،ومن الطبيعي أنّ هذا العنوان لا يجتمع مع عنوان الاجارة عليها.

وبكلمة اخرى:قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية جواز الاجارة على

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 180)


كل واجب إلّاما قامت القرينة من الخارج على لزوم الاتيان به مجاناً وبلا عوض،وعلى هذا فبما أ نّنا علمنا من الخارج بوجوب الاتيان بتلك الواجبات مجاناً ومن دون عوض،فبطبيعة الحال لا تصحّ الاجارة عليها،فالنتيجة:أنّ البطلان مستند إلى هذه النقطة دون ما أفاده (قدس سره).

وأمّا الفرع الثاني: وهو بيع منذور الصدقة،فانّ النذر إذا لم يكن نذر النتيجة فلا يكون بطلان بيع المنذور مما تسالم عليه الفقهاء،بل هو محل خلاف بينهم،فاذن كيف يجوز الاستشهاد به على بطلان المعاملة فيما نحن فيه.وبقول آخر:أنّ النذر المتعلق بشيء على قسمين:أحدهما:نذر النتيجة.وثانيهما:نذر الفعل.أمّا الأوّل فعلى تقدير تسليم صحته فهو وإن كان يوجب بطلان البيع نظراً إلى أنّ المال المنذور قد انتقل من ملك الناذر إلى ملك المنذور له،وعليه فلا محالة يكون بيع الناذر إيّاه بيع لغير ملكه فيلحقه حكمه،إلّاأنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه (قدس سره) حيث إنّ كلامه ناظر إلى أنّ المانع عن صحة بيعه هو وجوب الوفاء به،لا صيرورة المال المنذور ملكاً للمنذور له، هذا.

والصحيح أنّ وجوب الوفاء به غير مانع عنها،والسبب في ذلك:هو أنّ وجوب الوفاء بالنذر لا ينافي إمضاء البيع،حيث إنّه لا منافاة بين لزوم إبقاء المال على الناذر تكليفاً بمقتضى التزامه به وصحة البيع وضعاً على تقدير تحققه في الخارج،غاية الأمر أ نّه يترتب على البيع المزبور استحقاق العقاب على المخالفة ولزوم الكفارة،ومن الطبيعي أنّ شيئاً منهما لا يستلزم بطلان البيع،بل إذا افترضنا أنّ المال المنذور قد انتقل إليه ثانياً بعد بيعه وفي ظرف الوفاء بالنذر لم يلزم الحنث أيضاً من هذه الناحية،أي من ناحية بيعه إيّاه.

وعلى الجملة:حيث إنّه كان وجوب الوفاء بالنذر وجوباً تكليفياً محضاً

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 181)


فبطبيعة الحال أ نّه لا يستلزم بطلان البيع أصلاً.فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ الناذر من جهة لزومه الوفاء بنذره يكون محجوراً عن التصرف في المال المنذور خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له.ومن هنا يظهر حال:

الفرع الثالث: وهو ما إذا اشترط البائع على المشتري أن لا يبيع المال المشترى من غيره،فانّ غاية ما يترتب على هذا وجوب الوفاء به،وقد عرفت أ نّه لا ينافي صحة البيع وإمضاءه على تقدير تحققه في الخارج،فلا بدّ في الحكم بفساده من التماس دليل آخر وإلّا لكان مقتضى الاطلاق صحته وترتب الأثر عليه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشاداً إلى مانعية شيء عنها فلا إشكال في دلالته على فسادها،من دون فرق في ذلك بين أن يكون النهي متعلقاً بنفس العقد أو الايقاع كالنهي عن بيع الوقف وما لا يملك وبيع المجهول والنكاح في العدة والطلاق في طهر المواقعة وما شاكل ذلك،وأن يكون متعلقاً بآثاره كقوله (عليه السلام)«ثمن العذرة سحت» 1«وثمن الكلب سحت» 2ونحو ذلك،فهذه الطائفة من النواهي بكلا نوعيها تدل على فساد المعاملة جزماً وبلا خلاف وإشكال،ومن هنا قلنا بخروجها عن محل الكلام.

وأمّا إذا كان النهي نهياً مولوياً ودالاً على حرمتها ومبغوضيتها فقد عرفت أ نّه لا يدل على فسادها بوجه،سواء أكان متعلقاً بأحد جزأي المعاملة أو بكلا جزأيها.ثمّ لا يخفى أنّ هذا القسم من النهي في باب المعاملات من العقود


 

1) <page number=”181″ /><nl />الوسائل 17:/175أبواب ما يكتسب به ب 40 ح 1 (باختلاف يسير).
2) الوسائل 17:/118أبواب ما يكتسب به ب 14 ح 2 وغيره.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 182)


والايقاعات قليل جداً والغالب فيه إنّما هو القسم الأوّل.

بقي الكلام حول الروايات 1الواردة في عدم نفوذ نكاح العبد بدون إذن
سيده.

قد يتوهم أنّ تلك الروايات تدل على عدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها،ببيان أنّ مفادها هو أنّ عصيان السيد لا يستلزم بطلان نكاح العبد رأساً وإنّما يوجب ذلك أن تتوقف صحته على إجازته وإذنه،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ عصيان السيد بما أ نّه يستلزم عصيانه تعالى فبطبيعة الحال تدل تلك الروايات من جهة هذه الملازمة على عدم استلزام عصيانه (سبحانه وتعالى) بطلان النكاح.ومن ناحية ثالثة:أنّ ما دلّ على أنّ عصيانه تعالى مستلزم لفساده وهو مفهوم قوله (عليه السلام)«إنّه لم يعص اللّٰه وإنّما عصى سيده»إلخ،فلا بدّ أن يراد به العصيان الوضعي بمعنى أنّ العبد لم يأت بالنكاح غير المشروع في نفسه كالنكاح في العدة على ما مثّل الإمام (عليه السلام) له بذلك لئلا يكون قابلاً للصحة،بل جاء بأمر مشروع في نفسه وقابل للصحة باجازة المولى.فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:أنّ هذه الروايات تدل على أنّ النهي التكليفي لا يدل على فساد المعاملة بوجه،وأمّا النهي الوضعي فانّه يدل على فسادها جزماً.

تفصيل الكلام حول هذه المسألة:فنقول:إنّ الأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل:أنّ صحة نكاح العبد تتوقف على إجازة السيد فاذا أجاز جاز.

الثاني:أ نّه فاسد مطلقاً،أي سواء أجاز سيده أم لا،وإليه ذهب كثير من العامة.


 

1) <page number=”182″ /><nl />الوسائل 21:/114أبواب نكاح العبيد والاماء ب 24 ح 1،2.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 183)


الثالث:التفصيل بين ما إذا أوقع العبد العقد لنفسه وما إذا أوقع فضولةً ومن قبل غيره،فانّه على الأوّل فاسد مطلقاً دون الثاني.هذه هي الأقوال في المسألة.

أمّا القول الأوّل: فانّه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به، وذلك لأنّه مضافاً إلى أنّ صحته بالاجازة على طبق القاعدة،قد دلّت عليها روايات الباب بالصراحة،وسيأتي توضيح ذلك في ضمن البحوث الآتية إن شاء اللّٰه تعالى.

وأمّا القول الثاني: فهو واضح البطلان،فانّه مضافاً إلى أنّ الالتزام به بلا موجب،خلاف صريح الروايات المشار إليها.

وأمّا القول الثالث: فقد اختاره شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 1ونسبه إلى الشيخ التستري (قدس سره) ونسبه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2إلى المحقق القمي (قدس سره) وكيف كان،فقد ذكر في وجهه:أنّ العقد الصادر منه لنفسه لا يمكن تصحيحه باجازة المولى المتأخرة،لفرض أ نّه من حين صدوره يقع فاسداً،ومن الطبيعي أنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه،فاذن كيف يعقل انقلابه من الفساد إلى الصحة بالاجازة المتأخرة،وهذا بخلاف العقد الصادر منه لغيره فانّه وإن كان فضولياً حيث إنّه بدون إذن سيده إلّاأنّ السيد إذا أجازه جاز،نظراً إلى استناده إلى من له العقد من هذا الحين-أي من حين الاجازة-فتشمله الاطلاقات والعمومات،والسر في ذلك:هو أنّ هذا العقد لم يقع من الأوّل فاسداً،بل فساده كان مراعىً بعدم إجازة المولى،نظير بقية العقود الفضولية،فاذا أجاز صحّ.


 

1) <page number=”183″ /><nl />مطارح الأنظار:164.
2) <nl />أجود التقريرات 2:234.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 184)


وبتعبير آخر: أنّ النكاح الصادر من العبد لنفسه بدون إذن مولاه كالنكاح الصادر من الصبي أو المجنون أو السفيه لنفسه بدون إذن وليّه،فكما أ نّه غير قابل للتصحيح باجازته نظراً إلى أ نّه فاسد من حين صدوره فكذلك نكاح العبد،وهذا بخلاف ما إذا كان لغيره فانّ من له العقد بما أ نّه غيره فصحته تتوقف على استناده إليه والمفروض أنّ الاجازة المتأخرة مصححة له،هذا.

ولنأخذ بالمناقشة على هذا التفصيل،ملخّصها أمران:

الأوّل: أ نّه لا فرق بين هذه الموارد وسائر موارد الفضولي،فان صحته بالاجازة على القاعدة في جميع الموارد بلا فرق بين مورد دون مورد،بل لا يبعد أن يكون الحكم بالصحة في هذه الموارد أولى من غيرها،وذلك لأنّ الاستناد هنا إلى مالك العقد موجود ولا قصور فيه إلّامن ناحية أنّ صحته وترتب الأثر عليه شرعاً تتوقف على إجازة السيد أو الولي.

وعلى الجملة:فلا فرق في صحة عقد الفضولي بالاجازة المتأخرة بين أن يكون عدم صحته من ناحية عدم استناده إلى المالك أو مَن هو في حكمه،أو من ناحية عدم إجازة من يكون لاجازته دخل في صحته،ففي جميع هذه الموارد يكون حكم الشارع بفساد العقد معلّقاً على عدم الاجازة،فاذا أجاز مَن له الاجازة جاز وصحّ،ومن الطبيعي أنّ هذا ليس من انقلاب الشيء عما وقع عليه،فانّ الحكم بالفساد إنّما هو من جهة عدم تحقق شرط الصحة وهو الاجازة فاذا تحقق حكم بها لا محالة،وهذا ليس من الانقلاب في شيءٍ.على أنّ إشكال لزوم الانقلاب لو تمّ لا يختص بموردٍ دون مورد،بل يعم تمام موارد العقد الفضولي كما هو ظاهر.

الثاني: لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مقتضى القاعدة عدم صحة عقد الفضولي والصحة تحتاج في كل مورد إلى دليل خاص،إلّاأنّ روايات الباب

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 185)


تكفينا دليلاً على الصحة في المقام،فانّ هذه الروايات وإن وردت في خصوص نكاح العبد بغير إذن سيده إلّاأ نّه يستفاد منها الكبرى الكلية وهي:أنّ المعاملات إذا كانت في أنفسها ممضاة شرعاً لم يضر عصيان السيد بصحتها أصلاً سواء أكانت نكاحاً أم كانت غيره،ضرورة أ نّه لا خصوصية للنكاح في ذلك،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا خصوصية لعصيان السيد بما هو سيد إلّامن جهة أنّ صحة المعاملة تتوقف على إجازته وإذنه،فاذا أجاز جازت.وعلى ذلك فكل من كانت إجازته دخيلة في صحة معاملةٍ فعصيانه لا يضر بها فاذا أجاز المعاملة جازت.

وعلى الجملة:فهذه الروايات في مقام بيان الفرق بين المعاملات الممضاة شرعاً في أنفسها والمعاملات غير الممضاة كذلك كالنكاح في العدة ونحوه، وتدل على أنّ الطائفة الاُولى إذا وقعت في الخارج فضولة وبدون إجازة من له الاجازة صحت باجازته المتأخرة دون الثانية.مثلاً لو باع شخص مال غيره فضولةً أو تزوج بامرأة كذلك فعندئذ إن أجازه المالك صحّ العقد.

فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ المراد من العصيان في تلك الروايات هو العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي كما سيأتي بيانه بشكل موسع.فاذن تلك الروايات أجنبية عن محل الكلام في المسألة بالكلية،فانّها كما لا تدل على أنّ النهي عن المعاملة يدل على الصحة كذلك لاتدل على أنّ النهي عنها يدل على الفساد.

ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1قد استدلّ بهذه الروايات على دلالة النهي على الفساد ببيان أنّ المراد من عصيان اللّٰه تعالى فيها المستلزم للفساد


 

1) <page number=”185″ /><nl />أجود التقريرات 2:232-233.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 186)


بمقتضى مفهومها هو العصيان التكليفي.وأمّا ما ذكر من تحقق عصيانه (سبحانه وتعالى) في المقام نظراً إلى أنّ عصيان السيد يستلزم عصيانه تعالى،فانّه وإن كان صحيحاً إلّاأنّ المنفي في روايات الباب ليس مطلق عصيانه ولو كان مع الواسطة،بل خصوص عصيانه المتحقق بمخالفة نهيه الراجع إلى حقّه تعالى على عبيده مع قطع النظر عن حقوق الناس بعضهم على بعض،فيكون المتحصّل من الروايات هو أنّ عصيان العبد لسيده بنكاحه من دون إذنه لو كان ناشئاً من مخالفة نهي متعلق بذلك النكاح من حيث هو في نفسه لما فيه من المفسدة المقتضية لذلك،لأوجب ذلك فساده لا محالة كالنهي عن النكاح في العدة أو عن النكاح الخامس وهكذا،وذلك لأنّ متعلق هذا النهي مبغوض للشارع حدوثاً وبقاءً،لفرض استمرار مفسدته المقتضية للنهي عنه،وهذا بخلاف عصيان العبد الناشئ من مخالفة النهي عن التمرد على سيده فانّه بطبيعة الحال يدور مدار تمرده عليه حدوثاً وبقاءً،فاذا افترضنا أنّ سيده رضي بما عصاه ارتفع النهي عنه بقاءً،وعليه فلا يبقى موجب لفساده أصلاً ولا مانع من الحكم بصحته.

فالنتيجة: أنّ المستفاد من الروايات:هو أنّ الفساد يدور مدار النهي الإلهٰي حدوثاً وبقاءً،غاية الأمر أ نّه إذا كان ناشئاً من تفويت حقّ الغير فهو إنّما يوجب فساد المعاملة فيما إذا كان النهي باقياً ببقاء ملاكه وموضوعه،وأمّا إذا ارتفع حقّ الغير بارتفاع موضوعه باجازة مَن له الحق تلك المعاملة ارتفع النهي عنها أيضاً.

وقد تحصّل من ذلك: أنّ هذه الروايات تدل على أنّ النهي عن المعاملة ذاتاً يوجب فسادها وأنّ صحتها لا تجتمع مع عصيانه تعالى.نعم،إذا كان العصيان ناشئاً من تفويت حق مَن له الحق توقفت صحة المعاملة على إجازته

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 187)


كما عرفت.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال التعليل الوارد فيها وهو قوله (عليه السلام):

«إنّه لم يعص اللّٰه وإنّما عصى سيده فاذا أجاز جاز»فانّ المراد من أ نّه لم يعص اللّٰه يعني أ نّه لم يأت بما هو منهي عنه بالذات ومبغوض له تعالى من ناحية اشتماله على مفسدة ملزمة،وإنّما أتى بما هو مبغوض لسيده فحسب من جهة تفويت حقه فلا يكون مبغوضاً له تعالى إلّابالتبع،ومن هنا يرتفع ذلك برضا سيده بما فعله وعصاه فيه.

أو فقل:إنّ نكاح العبد بما أ نّه ليس من أحد المحرّمات الإلهٰية في الشريعة المقدّسة،بل هو أمر سائغ في نفسه ومشروع كذلك وإنّما هو منهي عنه من ناحية إيقاعه خارجاً بدون إذن سيده،وعليه فبطبيعة الحال يرتفع النهي عنه باذن سيده وإجازته،ومع الارتفاع لا موجب للفساد أصلاً.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره):وهو أ نّه لايمكن أن يراد من العصيان في الروايات العصيان التكليفي،بل المراد منه العصيان الوضعي في كلا الموردين،والسبب في ذلك:هو أنّ النكاح المزبور بما أ نّه مشروع في نفسه في الشريعة المقدسة لا يكون مانع من صحته ونفوذه بمقتضى العمومات إلّاعدم رضا السيد به وعدم إجازته له،فاذا ارتفع المانع بحصول الاجازة جاز النكاح،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:قد تقدم منّا في ضمن البحوث السالفة أنّ حقيقة المعاملات عبارة عن الاعتبارات النفسانية المبرزة في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو كتابة أو نحو ذلك،ومن الطبيعي أنّ إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرزٍ مّا ليس من التصرفات الخارجية ليقال إنّه حيث كان بدون إذن السيد فهو محكوم بالحرمة،بداهة أ نّه لا يحتمل إناطة جواز تكلم العبد باذن سيده،ومن هنا لو عقد العبد لغيره لم يحتج نفوذه

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 188)


إلى إذن سيده جزماً،فلو كان مجرد صدور العقد منه بدون إذنه معصية له فبطبيعة الحال كان نفوذه يحتاج إلى إذنه بمقتضى روايات الباب مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وعلى الجملة: فلا نحتمل أن يكون تكلم العبد بصيغة النكاح بدون إذن سيده محرّماً شرعاً،كما أ نّا لا نحتمل أنّ اعتباره الزوجية في افق النفس بدون إذنه من أحد المحرّمات في الشريعة،ومن هنا تكون النسبة بين توقف نفوذ العقد على إجازة السيد وبين صدور العقد من العبد عموماً من وجه،فانّه قد يصدر العقد من العبد ومع ذلك لا يتوقف نفوذه على إجازة سيده كما إذا أوقعه لغيره،وقد يصدر العقد من غيره ولكن مع ذلك يتوقف نفوذه على إجازته كما إذا أوقعه للعبد مع أ نّه لا عصيان هنا من أحد،وقد يجتمع الأمران كما إذا أوقع العبد العقد لنفسه.

فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أ نّه لا مناص من القول بأنّ المراد من العصيان في الروايات العصيان الوضعي،وعلى هذا الضوء فحاصل معنى الروايات:هو أنّ النكاح لو كان غير مشروع في نفسه كما إذا كان العقد في العدة أو ما شاكل ذلك لكان باطلاً وغير قابل للصحة أصلاً.وأمّا إذا كان مشروعاً في نفسه،غاية الأمر يتوقف نفوذه خارجاً وترتب الأثر عليه على رضا السيد به فهو بطبيعة الحال يدور فساده مدار عدم رضاه به حدوثاً وبقاءً، فاذا رضي صحّ ونفذ.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النقطة:وهي أنّ هذه الروايات كما لا تدل على أنّ النهي عن المعاملات يقتضي الفساد كذلك لا تدل على أ نّه يقتضي الصحة فهي ساكتة عن ذلك بالكلية.

فالصحيح هو ما حققناه من عدم الملازمة بين حرمة المعاملة شرعاً

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 189)


وفسادها.ومما يؤكد ذلك:أ نّنا إذا افترضنا حرمة المعاملة بعنوان ثانوي كما إذا أوقع العقد قاصداً به وقوع الضرر على غيره أو نحو ذلك لم يحكم بفساده جزماً مع أ نّه محرّم شرعاً.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:

الاُولى: أنّ الجهة المبحوث عنها في مسألتنا هذه تغاير الجهة المبحوث عنها في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة،حيث إنّها في تلك المسألة في الحقيقة عن إثبات الصغرى لمسألتنا هذه.

الثانية: أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاُصولية العقلية،أمّا كونها اصولية فلتوفر ركائز المسائل الاُصولية فيها،وأمّا كونها عقلية فلأنّ الحاكم بها هو العقل ولا صلة لها باللفظ.

الثالثة: أنّ القضايا العقلية على شكلين:مستقلة وغير مستقلة،وتقدم ما هو ملاك الاستقلال وعدمه.

الرابعة: أنّ محل النزاع في المسألة إنّما هو في النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات.وأمّا النواهي الارشادية فهي خارجة عن محل النزاع حيث لا نزاع بين الأصحاب في دلالتها على الفساد.

الخامسة: لا شبهة في أنّ النهي التحريمي المتعلق بالعبادة داخل في محل النزاع،وكذا النهي التنزيهي المتعلق بها إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في ذاتها.نعم،إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في تطبيقها على حصة خاصة منها فهو خارج عن محل الكلام.وأمّا النهي الغيري فهو أيضاً خارج عنه ولا يوجب الفساد.

السادسة: أنّ المراد من العبادة في محل الكلام هو العبادة الشأنية لا الفعلية،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 190)


لاستحالة اجتماعها مع النهي الفعلي.والمراد من المعاملات كل أمر اعتباري قصدي بحيث يتوقف ترتب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد إنشائه واعتباره،فما لا يتوقف ترتيب الأثر عليه على ذلك فهو خارج عن محل الكلام.

السابعة: أنّ الصحة والفساد أمران منتزعان في العبادات ومجعولان شرعاً في المعاملات،وعلى كلا التقديرين فهما صفتان عارضتان على الموجود المركب في الخارج باعتبار ما يترتب عليه من الأثر وعدمه،فالماهية لا تتصف بهما كالبسيط.

الثامنة: أنّ النهي تارةً يتعلق بذات العبادة واُخرى بجزئها وثالثةً بشرطها ورابعةً بوصفها الملازم لها وخامسةً بوصفها المفارق.أمّا الأوّل:فلا شبهة في استلزامه الفساد من دون فرق بين كونه ذاتياً أو تشريعياً،لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى.وأمّا الثاني:فالصحيح أ نّه لا يدل على فساد العبادة،نعم لو اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة كونها فاقدةً للجزء.وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ النهي عنه يدل على فساد العبادة فقد تقدم نقده بشكل موسع.وأمّا الثالث:فحاله حال النهي عن الجزء من ناحية عدم انطباق الطبيعة المأمور بها على الحصة المنهي عنها على تفصيل قد سبق.وأمّا الرابع:فهو يرجع إلى أحد هذه الأقسام وليس قسماً آخر في قبالها.وأمّا الخامس:فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي.نعم على القول بالامتناع يدخل مورد الاجتماع في أحد الأقسام المزبورة.

التاسعة: أ نّه لا أصل في المسألة الاُصولية ليعتمد عليه عند الشك وعدم قيام الدليل عليها إثباتاً أو نفياً.نعم،الأصل في المسألة الفرعية موجود،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 191)


ومقتضاه الفساد مطلقاً في العبادات والمعاملات.

العاشرة: نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي عن المعاملة على صحتها،واختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وقد تقدم نقده بصورة موسعة،والصحيح هو أنّ النهي عنها لا يدل على صحتها ولا على فسادها، يعني لا ملازمة بين حرمتها وفسادها.

الحاية عشرة: أنّ نسبة صيغ العقود إلى الملكية المنشأة ليست نسبة السبب إلى المسبب،ولا نسبة الآلة إلى ذيها،بل نسبتها إليها نسبة المبرز إلى المبرز، فالملكية من الأفعال القائمة بالمتعاقدين بالمباشرة لا بالتسبيب.وأمّا نسبة الصيغ إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي نسبة الموضوع إلى الحكم لا غيرها،وعليه فلا معنى لفرض تعلق النهي بالسبب تارةً وبالمسبب اخرى.

الثانية عشرة: أنّ حقيقة الأحكام الشرعية بأجمعها من التكليفية والوضعية امور اعتبارية لا واقع موضوعي لها إلّااعتبار من بيده الاعتبار فلا دخل للّفظ أو لغيره من الاُمور الخارجية بها أصلاً.

الثالثة عشرة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد فصّل بين تعلق النهي بالسبب وتعلقه بالمسبب،والتزم بأ نّه على الأوّل لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه،وقد تقدم نقده بشكل مفصّل فلاحظ.

الرابعة عشرة: أنّ الروايات الواردة في نكاح العبد بدون إذن سيده لا تدل على فساد النكاح ولا على صحته وأ نّها أجنبية عن ذلك،وما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أ نّها تدل على الفساد بتقريب أنّ المراد من العصيان فيها هو العصيان التكليفي لا الوضعي،قد سبق نقده وقلنا إنّ المراد منه العصيان الوضعي ولا يمكن أن يكون المراد منه العصيان التكليفي.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 192)


مباحث المفاهيم

قد يطلق المفهوم ويراد منه كل معنى يفهم من اللفظ فحسب،سواء أكان من المفاهيم الافرادية أو التركيبية،وقد يطلق على مطلق ما يفهم من الشيء،سواء أكان ذلك الشيء لفظاً أم كان غيره كالاشارة أو الكتابة أو نحو ذلك.وغير خفي أنّ هذين الاطلاقين خارجان عن محل الكلام حيث إنّه في المفهوم المقابل للمنطوق دون ما فهم من الشيء مطلقاً.

[معنى المفهوم و المنطوق]

وعلى ذلك فلا بدّ لنا من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق والمفهوم فنقول:

أمّا المنطوق: فانّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة وذلك كقولنا:رأيت أسداً،فانّه يدل على كون المرئي هو الحيوان المفترس بالمطابقة وكقوله تعالى: «وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً» 1حيث إنّه يدل على طهورية الماء بالمطابقة وعلى طهورية جميع أفراده بالاطلاق والقرينة العامة،كما أنّ قولنا:رأيت أسداً يرمي يدل على كون المرئي هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصة وهكذا.وعلى الجملة:فما دلّ عليه اللفظ وضعاً أو إطلاقاً أو من ناحية القرينة العامة أو الخاصة فهو منطوق،نظراً إلى أ نّه يفهم من شخص ما نطق به المتكلم.

وأمّا المفهوم: فانّه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظراً


 

1) <page number=”192″ /><nl />الفرقان 25:48.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 193)


إلى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الأخص أو الأعم بينه وبين المنطوق،فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أوّلاً وبالذات وعلى المفهوم ثانياً وبالتبع،وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصية موجودة في القضية قد دلّت عليها بالمطابقة أو بالاطلاق والقرينة العامة،مثلاً دلالة القضية الشرطية على المفهوم-وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً-تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط علة منحصرة للحكم وضعاً أو إطلاقاً على ما يأتي.

وبكلمة اخرى:أنّ انفهام المعنى من اللفظ لا يخلو من أن يكون أوّلاً وبالذات-أي لا يحتاج إلى شيء ما عدا الوضع أو القرينة العامة أو الخاصة – أو يكون ثانياً وبالتبع،أي يحتاج انفهامه زائداً على ما عرفت إلى خصوصية اخرى،وتلك الخصوصية تستتبع ذلك،فانّ القضية الشرطية كقولنا:إن جاءك زيد فأكرمه مثلاً بناءً على دلالتها على المفهوم تدل على الثبوت عند الثبوت أوّلاً وبالذات وعلى الانتفاء عند الانتفاء ثانياً وبالتبع،بمعنى أنّ انفهامه منها تابع لانفهام المعنى الأوّل.ومنشأ هذه التبعية هو دلالتها على الخصوصية المزبورة،وهي كون الشرط علةً منحصرةً للحكم،ومن الطبيعي أنّ لازم ذلك هو كون انفهام المفهوم تابعاً لانفهام المنطوق في مقام الاثبات والدلالة.

فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ المفهوم في محل الكلام عبارة عما كان انفهامه لازماً لانفهام المنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم فلا يحتاج إلى شيء آخر زائداً على ذلك.

ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب المقدمة وحرمة الضد وما شاكلهما عن محل الكلام،فانّ الملازمة على القول بها وإن كانت ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته،ووجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك،إلّا أ نّها ليست على نحو اللزوم البيّن،ضرورة أنّ النفس لا تنتقل من مجرد تصور

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 194)


وجوب الشيء ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصور مقدمة اخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما.فالنتيجة:أنّ الملازمة في تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البيّن.

ودعوى أنّ تبعية انفهام معنى لانفهام معنى آخر لا تعقل أن تكون جزافاً فبطبيعة الحال تكون مستندة إلى ملاك واقعي وهو وجود الملازمة بين المعنيين، فلا فرق بين تبعية انفهام المفهوم لانفهام المنطوق في المقام وبين التبعية في تلك الموارد،فكما أنّ تبعية انفهام وجوب المقدمة لانفهام وجوب ذيها مستندة إلى مقدمة خارجية-وهي إدراك العقل ثبوت الملازمة بينهما-فكذلك تبعية انفهام المفهوم في القضية الشرطية لانفهام المنطوق مستندة إلى مقدمة خارجية-وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم-فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،وعليه فلا يكون تعريف المفهوم مطّرداً حيث تدخل فيه الموارد المذكورة.

خاطئة جداً وذلك لأنّ التبعية في المقام تمتاز عن التبعية في تلك الموارد في نقطة واحدة،وهي أنّ التبعية هنا وإن كانت تستند إلى كون الشرط علةً منحصرةً للحكم،إلّاأ نّه ليس من المقدمات الخارجية فانّه مدلول للجملة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً فلا نحتاج في انفهام المفهوم منها إلى مقدمة خارجية، وهذا بخلاف التبعية هناك،فانّها تحتاج إلى مقدمة خارجية وهي حكم العقل المزبور زائداً على مدلول الجملة كصيغة الأمر أو ما شاكلها.

وعلى الجملة:فالنقطة الرئيسية للفرق بينهما هي أنّ التبعية في المقام مستندة إلى الحيثية التي يكون الدال عليها هو اللفظ،والتبعية هناك مستندة إلى الحيثية التي يكون الحاكم بها هو العقل دون اللفظ،ولأجل ذلك تكون الملازمة هنا بين الانفهامين بيّنة حيث لا تحتاج إلى مقدمة خارجية،وهناك غير بيّنة

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 195)


لاحتياجها إليها،كما أ نّه ظهر بذلك خروج مثل دلالة الاقتضاء والتنبيه والاشارة وما شاكل ذلك عن محل الكلام،فانّ اللزوم في مواردها من اللزوم غير البيّن فيحتاج الانتقال إلى اللازم فيها إلى مقدمة خارجية.مثلاً دلالة الآيتين الكريمتين على كون أقل الحمل ستة أشهر كما أ نّها ليست من الدلالة المطابقية كذلك ليست من الدلالة الالتزامية التي يعتبر فيها كون اللزوم بيّناً،والمفروض أنّ الملازمة فيها غير بيّنة،بل هي من الدلالة الاقتضائية فتحتاج إلى ضم مقدمة اخرى وبدونها فلا دلالة.فالنتيجة:أنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن.

ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من الخلط بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم غير البيّن،حيث إنّه (قدس سره) مثّل للأوّل بتلك الدلالات مع أ نّك عرفت أنّ اللزوم فيها غير بيّن لاحتياجها إلى ضم مقدمة خارجية،فهذا هو نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن واللزوم غير البيّن.

وأمّا نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم البيّن بالمعنى الأخص فهي أمر آخر،وهو أ نّه يكفي في اللزوم البيّن بالمعنى الأخص نفس تعقل الملزوم في الانتقال إلى لازمه،وهذا بخلاف اللزوم البيّن بالمعنى الأعم فانّه لا يكفي فيه ذلك،بل لا بدّ فيه من تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما في الجزم باللزوم،نعم هما يشتركان في نقطة اخرى وهي عدم الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ في كل مورد لم يحتج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضم مقدمة اخرى فهو من اللزوم البيّن


 

1) <page number=”195″ /><nl />أجود التقريرات 2:243.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 196)


– سواء أكان بالمعنى الأعم أو الأخص-وفي كل مورد احتاج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضمّها فاللزوم لا يكون بيّناً أصلاً.

فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ هذه الدلالة من اللازم البيّن بالمعنى الأعم في غير محلّه.

ثمّ إنّ لزوم المفهوم للمنطوق هل هو من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم ؟ الظاهر هو الأوّل،والسبب في ذلك:هو أنّ اللازم إذا كان بيّناً بالمعنى الأعم قد يغفل المتكلم عن إرادته كما أنّ المخاطب قد يغفل عنه،نظراً إلى أنّ الذهن لا ينتقل إليه من مجرد تصور ملزومه ولحاظه في افق النفس،بل لا بدّ من تصوره وتصور اللازم والنسبة بينهما،ومن الطبيعي أنّ اللّازم بهذا المعنى لاينطبق على المفهوم،لوضوح أنّ معنى كون القضية الشرطية أو ما شاكلها ذات مفهوم هو أ نّها تدل على كون الشرط أو نحوه علةً منحصرةً للحكم،ومن الطبيعي أنّ مجرد تصورها يوجب الانتقال إلى لازمها وهو الانتفاء عند الانتفاء من دون حاجة إلى تصور أيّ شيء آخر،وهذا معنى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.

لحدّ الآن قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ لزوم المفهوم للمنطوق من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص 1.

[اصولية بحث المفاهيم]

الثانية: أنّ مسألة المفاهيم هل هي من المسائل الاُصولية العقلية أو اللفظية؟ فيه وجهان بل قولان.

قد يقال كما قيل:إنّها من المباحث اللفظية بدعوى أنّ الدال عليها اللفظ،


 

1) <page number=”196″ /> [ وهذا هي الجهة الاُولى من البحث ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 197)


غاية الأمر أنّ دلالته على المنطوق بالمطابقة وعلى المفهوم بالالتزام،ومن هنا تفترق مسألة المفاهيم عن مسألة الضد ومقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي وما شاكل ذلك،حيث إنّها من المباحث اللفظية دون تلك المسائل فانّها من المباحث العقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.

ولكن يمكن أن يقال:إنّها من المسائل العقلية أيضاً والوجه في ذلك:هو أنّ الحيثية التي تقتضي المفهوم وتستلزمه وهي العلية المنحصرة وإن كانت مدلولاً للّفظ وضعاً أو إطلاقاً،حيث إنّ الدال عليها هو الجملة الشرطية أو نحوها،إلّا أنّ هذه الحيثية نفسها ليست بمفهوم على الفرض،فانّ المفهوم ما هو لازم لها وهو الانتفاء عند انتفائها،ومن المعلوم أنّ الحاكم بذلك-أي بانتفاء المعلول عند انتفاء علته التامة-إنّما هو العقل ولا صلة له باللفظ.

وبكلمة اخرى:أنّ للمفاهيم حيثيتين واقعيتين،فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاُصولية العقلية،ومن الاُخرى تناسب أن تكون من المسائل الاُصولية اللفظية،وذلك لأنّه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول عند انتفاء العلة هو العقل فحسب فهي من المسائل الاُصولية العقلية،وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضاً فهي من المسائل الاُصولية اللفظية،لفرض أنّ الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت،فاذن يكون المفهوم مدلولاً للّفظ التزاماً.وكيف كان فلا يترتب أيّ أثر على البحث عنها من هذه الناحية وإنّما الأثر مترتب على كونها اصولية،سواء أكانت عقلية أم كانت لفظية،والمفروض أ نّها من المسائل الاُصولية لتوفر ركائزها فيها – وهي وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها من دون ضم كبرى أو صغرى اصولية إليها-فلا أثر للبحث عن أنّ الحاكم فيها هل هو العقل أو غيره أصلاً.

الثالثة: أنّ كلامنا هنا ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده،بل

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 198)


الكلام إنّما هو في أصل وجوده وتحققه خارجاً،بمعنى أنّ الجملة الشرطية أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أم لا كما هي ظاهرة في المنطوق،والوجه فيه أنّ البحث في جميع مباحث الألفاظ إنّما هو عن ثبوت الصغرى-وهي إثبات الظهور لها-بعد الفراغ عن ثبوت الكبرى،وهي حجية الظواهر في الجملة.

وبعد ذلك نقول: إنّ الكلام يقع في عدة موارد،الأوّل في:

مفهوم الشرط

[توقف ثبوت المفهوم للشرط على إثبات امور أربعة]

اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدم دلالتها عليه،وليعلم أنّ دلالتها على المفهوم ترتكز على ركائز.

الاُولى:أن يرجع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة،بأن يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة اخرى.

الثانية:أن تكون ملازمة بين الجزاء والشرط.

الثالثة:أن تكون القضية ظاهرةً في أنّ ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول على العلة لا من باب ترتب العلة على المعلول ولا من باب ترتب أحد المعلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر.

الرابعة:أن تكون ظاهرةً في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها.

فمتى توفرت هذه الركائز في القضية تمت دلالتها على المفهوم وإلّا فلا،وعلى هذا فلا بدّ لنا من درس كل واحدة منها.

أمّا الركيزة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة،والسبب في ذلك:هو ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطية ظاهرة عرفاً في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 199)


تعليق مفاد الجملة وهي الجزاء على مفاد الجملة الاُخرى وهي الشرط،مثلاً قولنا:إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يدل على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس،كما أنّ قوله (عليه السلام):«إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» 1يدل على تعليق عدم الانفعال على بلوغ الماء قدر كر وهكذا،وكيف كان فلا شبهة في ظهور القضية الشرطية في ذلك.

نعم،لو بنينا على رجوع القيد إلى المادة كما اختاره شيخنا الأنصاري (قدس سره) 2فحال القضية الشرطية عندئذ حال القضية الوصفية في الدلالة على المفهوم وعدمها،لما سيأتي 3من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل سائر المتعلقات،بل المراد منه مطلق القيد سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود،ومن هنا لو عبّر عن مفهوم الوصف بمفهوم القيد لكان أولى.

وعلى الجملة:فعلى هذه النظرية يدخل مفهوم الشرط في مفهوم الوصف ويكون من أحد أفراده ومصاديقه.فالنتيجة:أنّ القول بمفهوم الشرط في قبال مفهوم الوصف يقوم على أساس رجوع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة.

وأمّا الركيزة الثانية: وهي دلالة القضية الشرطية على كون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة لزومية فانّها أيضاً تامة،وذلك لأن استعمالها في موارد الاتفاق وعدم العلاقة في أيّة لغة كان لو لم يكن غلطاً فلا شبهة في أ نّه نادر


 

1) <page number=”199″ /><nl />الوسائل 1:/158أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 وغيره (مع اختلاف).
2) <nl />مطارح الأنظار:45-46،52.
3) <nl />لاحظ مبحث مفهوم الوصف ص 272.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 200)


جداً،لوضوح أ نّه لا يصح تعليق كل شيء على كل شيء من دون علاقة وارتباط بينهما.وكيف كان فلا شك في أنّ الاستعمال في تلك الموارد لو صحّ فانّه يحتاج إلى رعاية علاقة وإعمال عناية وبدونهما فالقضية ظاهرة في وجود العلاقة اللزومية بينهما.

ومن ضوء هذا البيان يظهر:أنّ تقسيم المناطقة القضية الشرطية إلى لزومية واتفاقية لا يقوم على أساس صحيح،فانّ ما مثّلوا للثانية بقولهم:إن كان الانسان ناطقاً فالحمار ناهق أو ما شاكل ذلك لم يكن بحسب الواقع والحقيقة قضية شرطية،بل صورتها صورة القضية الشرطية.وكيف كان فلا شبهة في ثبوت هذه الركيزة وأ نّها أساس للقضية الشرطية.

وأمّا الركيزة الثالثة: وهي دلالة القضية الشرطية على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فهي خاطئة جداً،وذلك لأنّها وإن دلّت على ترتب الجزاء على الشرط والتالي على المقدم كما هو مقتضى كلمة الفاء إلّاأ نّها لا تدل على أنّ هذا الترتب من ترتب المعلول على العلة التامة بحيث يكون استعمالها في غيره مجازاً،بل هي تدل على مطلق الترتب سواء أكان من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة كترتب وجوب الحج على الاستطاعة وترتب وجوب إكرام زيد مثلاً على مجيئه وترتب عدم انفعال الماء على بلوغه كراً وما شاكل ذلك،أو كان من قبيل ترتب العلة على المعلول كما هو الحال في البرهان الإني كترتب طلوع الشمس على وجود النهار وترتب تغير العالم على حدوثه،والأوّل كقولنا:إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة.

والثاني كقولنا:إن كان العالم حادثاً فهو متغير ونحو ذلك،أو كان من قبيل ترتب أحد معلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر كقوله:إن كان النهار موجوداً فالعالم مضيء وغير ذلك.

Pages: 1 2 3 4 5 6
Pages ( 2 of 6 ): «1 2 3 ... 6»