آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴
جلد
4
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴
جلد
4
والسبب فيه:هو أنّ القضية الشرطية في جميع هذه الموارد تستعمل في معنى واحد وليس استعمالها في موارد ترتب العلة على المعلول أو ترتب أحد المعلولين على الآخر مجازاً لنحتاج إلى لحاظ وجود قرينة في البين وإعمال عناية،بل إنّه كاستعمالها في موارد ترتب المعلول على العلة التامة على نحو الحقيقة،ضرورة أ نّه لا فرق بين قولنا:إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وبين قولنا:إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة،فكما أنّ الأوّل على نحو الحقيقة فكذلك الثاني،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
نعم،يفترق الأوّل عن الثاني في نقطة اخرى وهي أنّ الترتب في الأوّل مطابق للواقع الموضوعي دون الثاني،فانّ الترتب فيه بمجرد افتراض من العقل من دون واقع موضوعي له.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ القضية الشرطية موضوعة للدلالة على ترتب الجزاء على الشرط من دون الدلالة على أ نّه من ترتب المعلول على العلة التامة فضلاً عن كونها منحصرةً،فالموضوع له هو الجامع بين جميع أنواع الترتب،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ القضية الشرطية لا تدل على المفهوم في موارد البرهان الإنّي،لوضوح أنّ غاية ما تقتضيه القضية في تلك الموارد هو أنّ تحقق المقدّم يستلزم تحقق التالي ويكشف عنه فيكون وسطاً للاثبات والعلم دون الثبوت والوجود،ولا تدل على امتناع وجود التالي من دون وجود المقدّم،بداهة أنّ وجود المعلول وإن كان يكشف عن وجود العلة إلّاأنّ عدمه لا يكشف عن عدمها،لامكان أن يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع لا إلى عدمها.مثلاً وجود الممكن في الخارج كاشف عن وجود الواجب بالذات نظراً إلى استحالة وجوده في نفسه،ولكن عدمه لا يكشف عن عدمه ولا عن عدم وجود ممكن آخر لجواز أن يكون عدمه
مستنداً إلى ما يخصه من المانع.
نعم،عدم المعلول يكشف عن عدم علته التامة،كما أنّ وجوده يكشف عن وجودها،وعدم أحد المعلولين لعلة ثالثة يكشف عن عدم الآخر كما يكشف عن عدم علته التامة.
وعلى هذا الضوء فالقضايا الشرطية في موارد البراهين الإنّية إنّما تدل على الثبوت عند الثبوت ولا تدل على انتفاء الجزاء عند انتفاء المقدّم،لاحتمال أن يكون انتفاء المقدّم مستنداً إلى وجود المانع لا إلى انتفاء الجزاء،والوجه في ذلك:هو أ نّه لا فرق بين استعمال القضايا الشرطية في موارد العلة الناقصة واستعمالها في موارد العلة التامة،فكما أ نّه على نحو الحقيقة في الثانية فكذلك في الاُولى،فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أ نّه لا ظهور للقضايا الشرطية في ترتب المعلول على العلة لا بالوضع ولا بالاطلاق،هذا.
ولكن لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام كلام:وهو أ نّه بعد ما اعترف من أنّ استعمالها في موارد غير ترتب المعلول على العلة ليس مجازاً، قال:إنّ ظاهر القضية الشرطية ذلك،أي ترتب المعلول على العلة،وذلك لأنّ ظاهر جعل شيء مقدّماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتب التالي على المقدّم، فان كان هذا الترتب موافقاً للواقع ونفس الأمر بأن يكون المقدّم علةً للتالي فهو،وإلّا لزم عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع مع كون المتكلم في مقام البيان على ما هو الأصل في المخاطبات العرفية،وعليه فمن ظهور الجملة الشرطية في ترتب التالي على المقدّم يستكشف كون المقدّم علةً للتالي وإن لم يكن ذلك
مأخوذاً في نفس الموضوع له.
وهذا الذي أفاده (قدس سره) وإن كان غير بعيد في نفسه،نظراً إلى أنّ المتكلم إذا كان في مقام بيان تفرّع الجزاء على الشرط وترتبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع لدلت القضية على ذلك في مقام الاثبات أيضاً للتبعية،نظير ما إذا قلنا جاء زيد ثمّ عمرو فانّه يدل على تأخر مجيء عمرو عن مجيء زيد بحسب الواقع ونفس الأمر وإلّا لم يصح استعماله فيه.
وأمّا إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان ذلك بل كان في مقام الاخبار أو الانشاء،فلا يتم ما أفاده (قدس سره)،وذلك لأنّ القضية الشرطية عندئذ لا تدل إلّاعلى أنّ إخبار المتكلم عن وجود الجزاء متفرع على فرض وجود الشرط،أو إنشاء الحكم واعتباره متفرّع على فرض وجوده وتحققه،وأمّا أنّ وجود الجزاء واقعاً مترتب على وجود الشرط فلا دلالة للقضية على ذلك أصلاً،ضرورة أ نّه لا مانع من أن يكون الاخبار عن وجود العلة متفرّعاً على فرض وجود المعلول في الخارج،والاخبار عن وجود أحد المتلازمين متفرعاً على فرض وجود الملازم الآخر فيه،والسرّ فيه:هو أ نّه لا يعتبر في ذلك إلّا فرض المتكلم شيئاً مفروض الوجود في الخارج ثمّ إخباره عن وجود شيء آخر متفرّعاً على وجوده ومعلّقاً عليه كقولنا:إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة،حيث إنّ المتكلم فرض وجود النهار في الخارج ثمّ أخبر عن طلوع الشمس على تقدير وجوده،أو فرض وجود شيء فيه ثمّ أنشأ الحكم على هذا التقدير كقولنا:إن جاءك زيد فأكرمه،حيث إنّه جعل وجوب الاكرام على تقدير تحقق مجيئه في الخارج وهكذا.
وعلى الجملة:فبما أنّ القضية الشرطية لم توضع للدلالة على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة،فبطبيعة الحال تستند دلالتها على
ذلك في مورد إلى قرينة حال أو مقال،وإلّا فلا دلالة لها على ذلك أصلاً.
وأمّا الركيزة الرابعة: وهي دلالة القضية على كون الشرط علةً منحصرةً للجزاء فهي واضحة الفساد،لما عرفت من أ نّها لا تدل على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فضلاً عن دلالتها على أنّ هذا الترتب من الترتب على العلة المنحصرة.
فالنتيجة لحدّ الآن:هي أ نّه لا دلالة للقضية الشرطية على المفهوم أصلاً، وإنّما تدل على الثبوت عند الثبوت فحسب.
قد يقال كما قيل: إنّ القضية الشرطية وإن لم تدل على المفهوم وضعاً إلّا أ نّها تدل عليه إطلاقاً،بيان ذلك:هو أنّ المتكلم فيها إذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على الخلاف فمقتضى إطلاقها هو أنّ الشرط علة منحصرة للجزاء، وأنّ ترتبه عليه من الترتب على العلة المنحصرة،ضرورة أ نّه لو كانت هناك علة اخرى سابقة عليه وجوداً لكان الجزاء مستنداً إليها لا محالة،كما أ نّه لو كانت هناك علة اخرى في عرضها لكان مستنداً إليهما معاً،وبما أنّ المتكلم أسند وجود الجزاء إلى وجود الشرط فمقتضى إطلاق هذا الاسناد هو أ نّه ليس له علة اخرى سابقة أو مقارنة،ونستكشف من هذا الاطلاق الاطلاق في مقام الثبوت والواقع وأنّ العلة منحصرة فيه فليس له علة اخرى غيره.
ولكن هذا القول خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له،والسبب في ذلك:هو أنّ غاية ما تدل القضية الشرطية عليه هو ثبوت الملازمة بين التالي والمقدّم فحسب،وأمّا ترتب التالي على المقدّم فانّه ليس مدلولاً لها،وإنّما هو قضية تفريعه عليه في ظاهر القضية وتعليقه،ومن هنا قلنا إنّ القضية مع هذا التفريع لا تدل إلّاعلى مطلق ترتب الجزاء على الشرط.وأمّا الترتب الخاص وهو ترتب المعلول على العلة فلا يستفاد منها إلّابقرينة خاصة فضلاً عن كون هذا
الترتب من ترتب المعلول على العلة المنحصرة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ القضية الشرطية لا تدل على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.
ومن هنا أخذ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1طريقاً ثالثاً لاثبات المفهوم لها وهو التمسك باطلاق الشرط،بيان ذلك:أنّ القضية الشرطية على نوعين:
أحدهما:ما يكون الشرط فيه في حدّ ذاته مما يتوقف عليه الجزاء عقلاً وتكويناً.
وثانيهما:ما لا يكون الشرط فيه كذلك،بل يكون توقف الجزاء عليه بجعل جاعل ولا يكون عقلياً وتكوينياً.
أمّا النوع الأوّل: فبما أنّ ترتب الجزاء على الشرط في القضية قهري وتكويني فبطبيعة الحال لا يكون لمثل هذه القضية الشرطية مفهوم،لأنّها مسوقة لبيان تحقق الموضوع فيكون حالها حال اللقب فلا يكون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،وهذا كقولنا:إن رزقت ولداً فاختنه،وإن جاء الأمير فخذ ركابه وما شاكل ذلك،فانّ القضية الشرطية في أمثال هذه الموارد تكون مسوقةً لبيان تحقق الحكم عند تحقق موضوعه،فيكون حال الشرط المذكور فيها حال اللقب فلا تدل على المفهوم أصلاً،بداهة أنّ التعليق في أمثال هذه القضايا لو دلّ على المفهوم لدلّ كل قضية عليه ولو كانت حملية،وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له،مع أنّ دلالتها عليه ممنوعة جزماً.
وأمّا النوع الثاني: وهو ما لا يتوقف الجزاء فيه على الشرط عقلاً وتكويناً فقد ذكر (قدس سره) أ نّه يدل على المفهوم وأفاد في وجه ذلك:أنّ الحكم الثابت في الجزاء لايخلو من أن يكون مطلقاً بالاضافة إلى وجود الشرط المذكور في القضية الشرطية أو يكون مقيّداً به ولا ثالث لهما،وبما أ نّه رتّب في ظاهر القضية الشرطية على وجود الشرط فبطبيعة الحال يمتنع الاطلاق ويكون مقيداً بوجود الشرط لا محالة،وعلى هذا فان كان المتكلم في مقام البيان وقد أتى بقيد واحد ولم يقيده بشيء آخر-سواء أكان التقييد بذكر عِدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو لتكون نتيجته تركب قيد الحكم من أمرين كما في مثل قولنا:إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه-استكشف من ذلك انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية الشرطية.
وعلى الجملة: فالقضية الشرطية وإن كانت بحسب الوضع لا تدل على تقييد الجزاء بوجود الشرط المذكور فيها فحسب،وذلك لما عرفت من صحة استعمالها في موارد القضية المسوقة لبيان الحكم عند تحقق موضوعه،إلّاأنّ ظاهرها فيما إذا كان التعليق على ما لا يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلاً هو ذلك، فاذا كان المتكلم في مقام البيان فكما أنّ إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بالواو مثلاً يدل على عدم كون الشرط مركباً من المذكور في القضية وغيره،فكذلك إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بأو يدل على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية وليس له شرط آخر وإلّا لكان عليه ذكره.وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة،فكما أنّ قضية إطلاقها عدم سقوط الواجب باتيان ما يحتمل كونه عدلاً له فيثبت بذلك كون الوجوب تعيينياً،فكذلك قضية إطلاق الشرط في المقام فانّها انحصار قيد الحكم به وأ نّه لا بدل له في سببية الحكم وترتبه عليه.
ومن ضوء هذا البيان يظهر:أنّ ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) على هذا التقريب خاطئ جداً وحاصل ما أورده:هو أنّ قياس المقام بالوجوب التعييني قياس مع الفارق،وذلك لأنّ الوجوب التعييني سنخ خاص من الوجوب مغاير للوجوب التخييري فهما متباينان سنخاً،وعلى هذا فلا بدّ للمولى إذا كان في مقام البيان من التنبيه على أحدهما بخصوصه والاشارة إليه خاصة،وبما أنّ بيان الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر خصوصية في الكلام، أعني بها العدل كما في مثل قولنا:أعتق رقبةً مؤمنةً،أو صم شهرين متتابعين، أو أطعم ستين مسكيناً،فاذا لم يذكر كان مقتضى الاطلاق كون الوجوب تعيينياً وأ نّه غير متعلق إلّابما هو مذكور في الكلام،وهذا بخلاف المقام فانّ ترتب المعلول على علته المنحصرة ليس مغايراً في السنخ لترتبه على غير المنحصرة،بل هو في كليهما على نحو واحد.فاذن لا مجال للتمسك بالاطلاق لاثبات انحصار العلة بما هو مذكور في القضية.
وجه الظهور: هو أنّ الاطلاق المتمسك به في المقام ليس هو إطلاق الجزاء وإثبات أنّ ترتبه على الشرط إنّما هو على نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ليرد عليه ما ذكر،بل هو إطلاق الشرط بعدم ذكر عدل له في القضية، وذلك لما عرفت من أنّ ترتب الجزاء على الشرط وإن لم يكن مدلولاً للقضية الشرطية وضعاً إلّاأ نّه يستفاد منها بحسب المتفاهم العرفي سياقاً،وذلك يستلزم تقييد الجزاء بوجود الشرط في غير القضايا الشرطية المسوقة لبيان تحقق الحكم بتحقق موضوعه كما تقدم،وبما أنّ التقييد بشيء واحد يغاير التقييد بأحد الشيئين على البدل سنخاً،يلزم على المولى بيان الخصوصية إذا كان في مقام البيان،وحيث إنّه لم يبيّن العدل مع أ نّه يحتاج إلى البيان،تعيّن كون الشرط واحداً وأنّ القيد منحصر به.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره).
أمّا أوّلاً: فلأنّ ما ذكره (قدس سره) من الملاك لدلالة القضية الشرطية على المفهوم لو تمّ فلا يختص الملاك بها،بل يعمّ غيرها أيضاً كالقضايا الوصفية ونحوها،والسبب في ذلك:هو أنّ التمسك بالاطلاق المزبور لا يثبت مفهوم الشرط في مقابل مفهوم القيد،فلو أثبت المفهوم فهو إنّما يثبته بعنوان مفهوم القيد ببيان أنّ الحكم الثابت لشيء مقيد بقيد كقولنا:أكرم العالم العادل مثلاً، فالقيد لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الكلام ولم يذكر المتكلم عدلاً له كالمثال المزبور،أو ذكر عدلاً له كقولنا:أكرم العالم العادل أو الهاشمي،فالقضية على الأوّل تدل على أنّ الحكم الثابت للعالم مقيد بقيد واحد وهو العدالة،وعلى الثاني تدل على أ نّه مقيد بأحد القيدين:وهما العدالة والهاشمية،وبما أنّ التقييد بأحدهما على البدل يحتاج إلى بيان زائد في الكلام كالعطف بأو أو نحوه،كان مقتضى إطلاق القيد وعدم ذكر عدل له انحصاره به،أي بما هو مذكور في القضية،وإلّا لكان على المولى البيان،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في ذلك بين كون القضية شرطية أو وصفية أو ما شاكلها،والسر في هذا هو أنّ ملاك دلالة القضية على المفهوم إنّما هو إطلاق القيد المذكور فيها،ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق في ذلك بين كونه معنوناً بعنوان الشرط أو الوصف أو نحو ذلك.
وبكلمة اخرى: أنّ الحكم المذكور في القضية قد يكون مقيداً بقيود عديدة مذكورة فيها،وقد يكون مقيداً بأحد قيدين أو قيود على سبيل البدل،وقد يكون مقيداً بقيد واحد،فما ذكره (قدس سره) من البيان لاثبات المفهوم للقضية الشرطية إنّما هو لازم تقييده بقيد واحد،حيث إنّ مقتضى إطلاقه هو انحصاره به،وهذا الملاك لا يختص بها،بل يعم غيرها من القضايا أيضاً.
فالنتيجة: أنّ ما أفاده (قدس سره) لو تمّ فهو لا يثبت مفهوم الشرط في
مقابل مفهوم القيد.
وأمّا ثانياً: فلأنّ مقتضى إطلاق القيد في الكلام وعدم ذكر عِدل له وإن كان وحدته تعييناً في مقابل تعدده أو كونه واحداً لا بعينه،إلّاأ نّه لا يدل على انحصار الحكم به،بل غاية ما يدل عليه هو أنّ الحكم في القضية غير ثابت لطبيعي المقيد على الاطلاق،وإنّما هو ثابت لحصة خاصة منه،ولكنّه لا يدل على أ نّه ينتفي بانتفاء تلك الحصة،فانّه لازم انحصار الحكم به لا لازم إطلاقه وعدم ذكر عدل له،فانّ لازمه عدم ثبوت الحكم للطبيعي على الاطلاق ولا يدل على انتفائه عن حصة اخرى غير هذه الحصة.
وعلى الجملة:فملاك دلالة القضية على المفهوم إنّما هو انحصار الحكم بالقيد المذكور فيها وأ نّه علته المنحصرة لا إطلاقه،حيث إنّ لازمه ما ذكرناه لا المفهوم بالمعنى الذي هو محل الكلام،وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً.
فالنتيجة:أنّ ما أفاده (قدس سره) من البيان لا يكون ملاك دلالة القضية الشرطية على المفهوم.
وأمّا ثالثاً: فلما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) هنا وحاصله:
هو أنّ المتكلم بالقضية الشرطية ليس في مقام البيان من هذه الناحية،أي من ناحية انحصار الشرط بما هو مذكور فيها،بل الظاهر أ نّه في مقام بيان مؤثرية الشرط على نحو الاقتضاء بمعنى عدم قصوره في حد ذاته عن التأثير،وليس هو في مقام بيان مؤثريته الفعلية وانحصارها بما هو مذكور في القضية بلحاظ عدم ذكر عدل له حتى يتمسك باطلاقه لاثبات انحصار المؤثر الفعلي فيه.
نعم،لو كانت القضية في مقام البيان من هذه الناحية لدلت على المفهوم لا محالة،إلّاأنّ هذه النكتة التي توجب دلالتها على المفهوم لا تختص بها،بل
تعم القضية الوصفية أيضاً،حيث إنّها لو كانت في مقام البيان من هذه الناحية، أي من ناحية انحصار القيد المؤثر بما هو مذكور فيها وعدم وجود غيره،لدلت بطبيعة الحال على المفهوم،وقد تقدم منّا أنّ هذا المفهوم ليس من مفهوم الشرط الذي هو محل الكلام في مقابل مفهوم القيد بل هو هو بعينه،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ كون المتكلم فيها في مقام البيان حتى من هذه الناحية نادر جداً،فلا يمكن أن يكون هذا هو مراد القائلين بالمفهوم فيها،حيث إنّه رغم كونه نادراً وغير مناسب أن يكون مراداً لهم فيحتاج إثباته إلى قرينة خاصة،ومن المعلوم أنّ مثله خارج عن مورد كلامهم وإن لم يكن نادراً،فانّ كلامهم في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً،وأمّا دلالتها عليه بواسطة القرينة الخاصة فلا نزاع فيها أبداً.
وبكلمة اخرى:أنّ المتكلم في القضية الشرطية إنّما هو في مقام بيان ترتب مفاد الجزاء على الشرط،وليس في مقام بيان انحصار العلة والمؤثر بما هو مذكور فيها بملاحظة عدم ذكر عدل له في الكلام،ومن هنا قلنا إنّ القضية الشرطية لا تدل إلّاعلى مطلق ترتب الجزاء على الشرط،فلا تدل على أ نّه على نحو ترتب المعلول على علته فضلاً عن الترتب على علته المنحصرة.
وعلى ضوء ذلك فالناحية التي يكون المتكلم فيها في مقام البيان فالتمسك بالاطلاق فيها لا يجدي لاثبات كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة،والناحية التي يجدي التمسك بالاطلاق فيها فالمتكلم لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الطريقة لاثبات المفهوم للقضية الشرطية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ ما ذكروه من الوجوه لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً لا يتم شيء منها، ومن هنا قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1عدم دلالتها على المفهوم إلّافيما قامت قرينة على ذلك،ولكن أين هذه من دلالتها عليه وضعاً أو إطلاقاً.
فالصحيح في المقام أن يقال:إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء،ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في البابين،فلنا دعويان:
الاُولى:عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم على وجهة نظرية المشهور في هذين البابين،لا بالوضع ولا بالاطلاق.
الثانية:دلالتها عليه على وجهة نظريتنا فيهما.
أمّا الدعوى الاُولى: فقد ذكرنا في محلّه أنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه،والجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إيجاد المعنى في الخارج.
وعلى ضوء ذلك فلا يمكن إثبات المفهوم للقضية الشرطية لا من ناحية الوضع ولا من ناحية الاطلاق،لما تقدم من أنّ غاية ما تدل القضية عليه هو ترتب الجزاء على الشرط وتفرّعه عليه،سواء أكانت القضية في مقام الاخبار أم كانت في مقام الانشاء.وأمّا كون الجزاء معلولاً للشرط فقد عرفت عدم دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق فضلاً عن الوضع،وعلى تقدير التنزل عن ذلك وتسليم دلالتها عليه،إلّاأ نّها لا تدل على كون هذا الترتب على نحو ترتب
المعلول على علته المنحصرة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع.
أمّا الدعوى الثانية: فقد ذكرنا في بحث الانشاء والاخبار أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه،وذلك لأمرين:
الأوّل: أ نّها لا تدل على ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه ولو دلالة ظنّية مع قطع النظر عن حال المخبر من حيث وثاقته وما شاكل ذلك وقطع النظر عن القرائن الخارجية،مع أنّ من الطبيعي أنّ دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع،وعليه فما فائدته.
وعلى الجملة:فاذا افترضنا أنّ الجملة الخبرية لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا تكشف عنها ولو كشفاً ظنياً فما معنى كونها موضوعة بازائها، فبطبيعة الحال يكون وضع الجملة لها لغواً محضاً فلا يصدر من الواضع الحكيم.
الثاني: أنّ الوضع على ضوء نظريتنا عبارة عن التعهد والالتزام النفساني المبرز بمبرزٍ مّا في الخارج وتوضيحه كما حققناه في محلّه:أنّ كل متكلم من أهل أيّ لغة كان تعهّد والتزم في نفسه أ نّه متى ما أراد تفهيم معنىً خاص يبرزه بلفظ مخصوص،وعليه فاللفظ بطبيعة الحال يدل بمقتضى قانون الوضع على أنّ المتكلم به أراد تفهيم معنىً خاص.
ثمّ إنّ من الطبيعي أنّ التعهد والالتزام لا يتعلقان إلّابالفعل الاختياري، ضرورة أ نّه لا معنى لتعهد الشخص بالاضافة إلى الأمر الخارج عن اختياره، فالتعهد إنّما يتعلق بالفعل في إطاره الخاص وهو الفعل الاختياري،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه في
القضايا أمر خارج عن الاختيار،يعني عن اختيار المتكلم بها،بل هو تابع لثبوت عللها وأسبابها في الواقع،وعليه فلا يمكن تعلق التعهد والالتزام به.
ومن ناحية ثالثة:أنّ ما هو بيد المتكلم واختياره في تلك القضايا إنّما هو إبراز قصد الحكاية فيها والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع وهو قابل لأن يتعلق به التعهد والالتزام.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:هي تعيّن تعلق التعهد والالتزام بابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.
ومن هذا البيان قد ظهر أمران:
الأوّل:أ نّه بناءً على ضوء نظريتنا في باب الوضع لا يمكن وضع الجملة الخبرية للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.
الثاني:تعين وضعها للدلالة على إبراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً،ونتيجة هذا أنّ الجملة الخبرية-بمقتضى تعهد الواضع بأ نّه متى ما قصد الحكاية عن ثبوت شيء في الواقع أو نفيه عنه أن يتكلم بها-تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها وتحققها في الخارج ذلك،وعليه فبطبيعة الحال تكون الجملة بنفسها مصداقاً للحكاية والاخبار.
ثمّ إنّ هذه الدلالة لا تنفك عن الجملة أبداً حتى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والافادة في الواقع ما لم ينصب قرينةً على الخلاف في مقام الاثبات،غاية الأمر أنّ تكلّمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهّده والتزامه على ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع،ومن هنا قلنا إنّ الجملة الخبرية لا تتصف بالصدق مرّةً وبالكذب اخرى من ناحية الدلالة الوضعية،لما عرفت من أنّ تلك الدلالة ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب،فقولنا:
زيد عدل مثلاً يدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية عن ثبوت العدالة لزيد والاخبار عنه،وأمّا أ نّه مطابق للواقع أو غير مطابق فالجملة لا تدل عليه وأ نّه لا صلة لها بما لها من الدلالة الوضعية بهذه الجهة أصلاً.
ولأجل ذلك قلنا إنّ الجملة الخبرية تشترك مع الجملة الانشائية في الدلالة الوضعية،فكما أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم إبراز الأمر الاعتباري النفساني،فكذلك الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الواقع فلا فرق بينهما من هذه الناحية،ولذا لا تتصف الجملة الخبرية كالجملة الانشائية بالصدق والكذب من هذه الجهة، والفرق بينهما إنّما هو من ناحية اخرى وهي أنّ لمدلول الجملة الخبرية واقعاً موضوعياً دون مدلول الجملة الانشائية،ولذا تتصف الاُولى بالصدق والكذب بملاحظة مطابقة مدلولها للواقع وعدم مطابقته له دون الثانية،هذا ملخّص القول في الجملة الخبرية.
وأمّا الجملة الانشائية فقد حققنا في محلّها أ نّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ولم توضع للدلالة على إيجاد المعنى فيه كما اشتهر في ألسنة الأصحاب،وذلك لما ذكرناه هناك من أ نّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني الخارجي كايجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات، ولا نحتمل أ نّهم أرادوا ذلك،كيف فانّ الموجودات الخارجية بشتى أنواعها وأشكالها ليست مما توجد بالانشاء،بداهة أنّ الألفاظ لم تقع في سلسلة عللها وأسبابها.وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة والملكية والزوجية وما شاكل ذلك،فيرد عليه:أ نّه يكفي في إيجاد هذه الاُمور نفس اعتبار المعتبر من دون حاجة إلى التكلم بأيّ كلام والتلفظ بأيّ لفظ،لوضوح أنّ الأمر الاعتباري بيد من له الاعتبار رفعاً ووضعاً،فله إيجاده في عالم
الاعتبار سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.
نعم،اللفظ مبرز له في عالم الخارج لا أ نّه موجد له،وتقدّم تفصيل ذلك بصورة موسّعة فلاحظ.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ مفاد الجملة الشرطية إذا كانت إخبارية فهو الدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت شيء في الواقع على تقدير ثبوت شيء آخر فيه،لا على نحو الاطلاق والارسال بل على تقدير خاص وفي إطار مخصوص،مثلاً جملة إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود،تدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية والاخبار عن وجود النهار،لا على نحو الاطلاق وإلّا لكان كاذباً،بل على تقدير خاص وهو تقدير طلوع الشمس،ومن الطبيعي أنّ لازم هذه النكتة يعني كون إخباره على تقدير خاص هو انتفاؤه عند انتفاء هذا التقدير،لفرض أ نّه لم يخبر عنه على نحو الاطلاق وإنّما أخبر عنه على تقدير خاص وفي إطار مخصوص،وعليه فبطبيعة الحال ينتفي إخباره بانتفاء هذا التقدير،وهذا معنى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم،مثلاً في جملة:لو شرب زيد سمّاً لمات،أو لو قطع رأسه لمات،فقد أخبر المتكلم عن وقوع الموت في الخارج على تقدير خاص وهو تقدير شرب السم أو قطع الرأس لا مطلقاً،ولازم ذلك قهراً انتفاء إخباره بانتفاء هذا التقدير.
ومن ضوء هذا البيان يظهر:أنّ إخباره عن موت زيد على هذا التقدير لا يتصف بالكذب عند انتفائه،يعني انتفاء هذا التقدير خارجاً وعدم تحققه فيه،والسبب في ذلك:هو أنّ المناط في اتصاف القضية الشرطية بالصدق تارةً وبالكذب اخرى ليس صدق التالي ومطابقته للواقع وعدم مطابقته له،بل المناط في ذلك إنّما هو ثبوت الملازمة بين المقدّم والتالي وعدم ثبوتها،فان
كانت الملازمة بينهما ثابتة في الواقع فالقضية الشرطية صادقة وإلّا فهي كاذبة، من دون فرق في ذلك بين كون المقدّم والتالي صادقين أم كاذبين،بل لا يضر بصدقها كونهما مستحيلين في الخارج،وذلك كقوله سبحانه وتعالى: «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» 1فانّ القضية صادقة على الرغم من كون كلا الطرفين مستحيلاً،فلا يكون إخباره تعالى عن فساد العالم على تقدير وجود الآلهة كاذباً وغير مطابق للواقع،بل هو صادق ومطابق له،حيث إنّ إخباره سبحانه عنه لا يكون مطلقاً،بل يكون على تقدير خاص وهو تقدير وجود الآلهة في هذا العالم.نعم،لو لم يقع الفساد فيه على تقدير وجود الآلهة لكانت القضية كاذبة لكشف ذلك عن عدم الملازمة بينهما في الواقع.
والسر في ذلك:أي في أنّ صدق القضية الشرطية وكذبها يدوران مدار ثبوت الملازمة بينهما في الواقع ونفس الأمر وعدم ثبوتها فيه ولا يدوران مدار صدق طرفيهما وكذبهما،هو أنّ المخبر به فيها إنّما هو قصد الحكاية والاخبار عن الملازمة بينهما لا عن وجودي المقدّم والتالي،لوضوح أنّ المتكلم فيها غير ناظر إلى أ نّهما موجودان أو معدومان ممتنعان أو ممكنان،وعليه فان كانت الملازمة في الواقع ثابتة وكان لها واقع موضوعي فالقضية صادقة وإلّا فهي كاذبة.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ القضية الشرطية على ضوء نظريتنا موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن وجود التالي على تقدير وجود المقدّم، وعليه فبطبيعة الحال تدل بالالتزام على انتفاء الاخبار عنه على تقدير انتفائه أي المقدّم،وهذا معنى دلالتها على المفهوم بالدلالة الالتزامية الوضعية،يعني
أ نّها لازمة للدلالة المطابقية باللزوم البين بالمعنى الأخص.
وأمّا الجمل الانشائية فهي على نوعين:
الأوّل:ما يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً وتكويناً كقولنا:إن رزقت ولداً فاختنه،وإن ملكت شيئاً تصدق به وما شاكل ذلك.
الثاني:ما لا يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً بل يكون التعليق والتوقف بجعل المولى واعتباره كقولنا:إن كان زيد عالماً فأكرمه وما شابه ذلك.
أمّا النوع الأوّل: فهو خارج عن محل الكلام ولا يدل على المفهوم، والسبب في ذلك:هو أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين:الاُولى:أن يكون الموضوع فيها غير الشرط وهو الذي علّق عليه الجزاء.الثانية:أن لا يكون التعليق والتوقف عليه عقلياً،وعلى ذلك فأيّة قضية شرطية كانت فاقدة لهاتين الركيزتين أو لاحداهما فلا مفهوم لها،والأوّل كالمثالين المتقدمين والثاني كقولنا:إن جاءك أمير فاستقبله،فانّ الشرط في هذه القضية وإن كان غير الموضوع إلّاأنّ توقف الجزاء عليه عقلي.
وعلى الجملة:فتوقف الجزاء على الشرط في أمثال هذه القضايا عقلي وتكويني ولا دخل لجعل المولى إياه مترتباً على الشرط ومعلّقاً عليه أصلاً، ضرورة أنّ توقف الجزاء عليه واقعي موضوعي وأ نّه يستحيل وجوده وتحققه في الخارج بدون وجوده وتحققه،ومن هنا لا يفرق في ذلك بين ما لو جيء به على نحو القضية الشرطية،وما لو جيء به على نحو القضية الوصفية،فانّ توقفه عليه على كلا التقديرين واقعي وانتفاءه بانتفائه عقلي،ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً كما هو الحال في جميع موارد انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.فاذن كيف يمكن عدّ هذا الانتفاء من المفاهيم،وقد تقدم أنّ المفاهيم مداليل للألفاظ
وقد دلت عليها القضية بالدلالة الالتزامية ولم تكن أجنبية عنها أصلاً.
وأمّا النوع الثاني: وهو ما لا يتوقف الجزاء بنفسه على الشرط بل إنّما هو بجعل المولى وتعليقه عليه وذلك مثل قولنا:إن جاءك زيد فأكرمه،فبما أنّ الركيزتين المتقدمتين قد توفرتا فيه فبطبيعة الحال يدل على المفهوم،بيان ذلك:
أنّ الموضوع في هذا النوع من القضية الشرطية غير الشرط المذكور فيها،يعني أنّ له حالتين،فالجزاء معلّق على إحداهما دون الاُخرى،ولا يكون هذا التعليق عقلياً وإنّما هو بجعل المولى وعنايته،كما هو الحال في المثال المذكور فانّ الموضوع فيه هو زيد والشرط فيه هو مجيؤه،ولا يكون توقف الجزاء وهو وجوب الاكرام عليه عقلياً،ضرورة عدم توقف إكرامه عليه بل يمكن ذلك في كلتا الحالتين،فمثل هذه القضية الشرطية يدل على المفهوم لا محالة بناءً على ضوء النكتة التي ذكرناها في تفسير الانشاء.
وحاصلها:هو أنّ حقيقة الانشاء عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا،ومن الطبيعي أنّ هذا الاعتبار قد يكون مطلقاً،وقد يكون معلّقاً على شيء خاص وتقدير مخصوص كما في مثل المثال السابق حيث إنّ المولى لم يعتبر إكرام زيد على ذمة المكلف على نحو الاطلاق، وإنّما اعتبره على تقدير خاص وهو تقدير تحقق مجيئه وإبرازه في الخارج بقوله:
إن جاءك زيد فاكرمه،فانّه بطبيعة الحال يكشف عن ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت المجيء وتحققه بالمطابقة وعن انتفائه عند انتفائه في الخارج وعدم تحققه فيه بالالتزام،وقد تقدم أنّ الملازمة بينهما بيّنة بالمعنى الأخص،والسر فيه ما عرفت من أنّ اعتبار المولى إذا كان مقيداً بحالة خاصة فلازمه عدم اعتباره عند انتفاء هذه الحالة،ومن الطبيعي أنّ هذا اللازم بيّن بالمعنى الأخص،حيث إنّ النفس تنتقل إليه من مجرد تصور عدم الاطلاق في اعتبار المولى وأ نّه يكون
على تقدير خاص ومقيداً به،فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ولا تتوقف هذه الدلالة على أيّة نكتة ومقدمة اخرى.
والسبب في ذلك:ما تقدم من أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج،وعلى هذا الضوء فاذا كانت الجملة الانشائية شرطيةً كقضية إن استطعت فحج مثلاً أو نحوها،دلت على أنّ اعتبار المولى مفاد الجزاء على ذمة المكلف كالحج لا يكون على نحو الاطلاق،بل هو على تقدير خاص وهو تقدير تحقق الشرط كالاستطاعة،ولازم ذلك دلالتها على عدم اعتباره على تقدير عدم تحققه،غاية الأمر أنّ دلالتها على الأوّل بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.
وبكلمة ثانية: أنّ اعتبار الفعل في مقام الثبوت على ذمة المكلف أو اعتبار ملكية شيء لشخص مثلاً إذا كان معلّقاً على تقدير ثبوت شيء ولم يكن مطلقاً كاعتبار الصلاة مثلاً على تقدير تحقق الزوال أو الحج على تقدير الاستطاعة أو اعتبار الموصي ملكية ماله لشخص على تقدير موته وهكذا،كان مردّه إلى أمرين:أحدهما:اعتبار هذا الشيء على هذا التقدير الخاص.وثانيهما:عدم اعتباره عند عدم تحقق هذا التقدير،لفرض أنّ الشارع لم يعتبر الصلاة مثلاً على ذمة المكلف عند فرض عدم تحقق الزوال أو الحج عند فرض عدم الاستطاعة،وكذا الموصي لم يعتبر ملكية ماله له على تقدير عدم موته،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ هذين الأمرين متلازمان على نحو يكون اللزوم بينهما من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص،هذا بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات فالكاشف عن ذلك إن كان هو القضية الوصفية فهي لا تدل على المفهوم،أي الانتفاء عند الانتفاء وإنّما تدل على أنّ الحكم في
القضية لم يجعل على نحو الاطلاق كما سيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية 1.وإن كان هو القضية الشرطية فهي تدل عليه بمقتضى التعليق،أي تعليق الجزاء على الشرط،غاية الأمر أنّ دلالتها على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة وعلى الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.
فالحاصل:أنّ دلالتها على المفهوم نتيجة النكتة المتوفرة فيها ولم تكن متوفرة في غيرها وهي تعليق المولى مفاد الجزاء على الشرط واعتباره متوقفاً عليه ومترتباً بعد ما لم يكن كذلك في نفسه.
ثمّ إنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع،أي وضع أدوات الشرط للدلالة على ذلك ككلمة«إن»و«إذا»و«لو»وما شاكل ذلك في أيّة لغة كانت،ولم تكن مستندةً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة،لفرض أ نّها لازمة بيّنة بالمعنى الأخص لدلالتها المطابقية وهي دلالتها على التعليق والثبوت،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون تعليق مدلول الجزاء على شرط واحد كقولنا إن جاءك زيد فأكرمه أو ما شاكله،أو يكون على شرطين بمثل العطف بالواو كقولنا:إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه،أو العطف بأو كقولنا:إن جاءك زيد أو عمرو فاعط له هذا المال،فعلى الأوّل يكون الشرط في الحقيقة مجموع الأمرين بحيث يكون كل واحد منهما جزءه لاتمامه،وعلى الثاني أحدهما،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً،ضرورة أنّ ملاك دلالتها في الجميع واحد وهو تعليق المولى الجزاء على الشرط ثبوتاً وإثباتاً،غاية الأمر إذا كان الشرط مجموع الأمرين انتفى الجزاء
بانتفاء واحد منهما،وإذا كان أحدهما لا بعينه لم ينتف إلّابانتفاء الجميع.
وإن شئت قلت:إنّ مفاد القضية الشرطية هو تعليق الجزاء على الشرط، وأمّا كون الشرط واحداً أو متعدداً وعلى تقدير التعدد كان ملحوظاً على نحو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي فكل هذه الخصوصيات خارجة عن مفادها فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة،نظير ذلك لفظ«كل»فانّه موضوع للدلالة على إرادة العموم والشمول بالاضافة إلى أفراد مدخوله ومتعلقه،ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة لا تختلف باختلاف مدخوله سعةً وضيقاً،ضرورة أ نّه غير ناظر إلى ذلك أصلاً،فلا فرق بين قولنا:أكرم كل عالم،وقولنا:أكرم كل إنسان،فانّ كلمة«كل»في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد،وهو الدلالة على إرادة عموم أفراد مدخوله.
إلى هنا قد ظهر لنا هذه النتيجة وهي الفرق بين القضية الشرطية والقضية الحقيقية مثل قولنا:يجب على المسافر القصر وعلى الحاضر التمام وما شاكل ذلك،فانّ المبرز عن اعتبار المولى إن كان هو القضية الحقيقية فهي لا تدل على المفهوم،لما تقدم من أنّ مدلولها هو قصد المتكلم الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع الخاص المفروض وجوده في الخارج،ولا يستلزم نفيه عن غيره كما هو واضح وأشرنا إليه آنفاً أيضاً،وهذا بخلاف القضية الشرطية كقولنا:إن سافرت فقصّر،فانّها كما تدل على ثبوت وجوب القصر عند ثبوت السفر وتحققه،كذلك تدل على نفيه عند عدم تحققه،والحجر الأساسي لهذا الفرق هو أنّ عنوان المسافر أو نحوه بما أ نّه قد اخذ موضوعاً للحكم بنفسه في القضية الحقيقية فبطبيعة الحال لا تدل إلّاعلى ثبوته لهذا الموضوع الخاص ولا تدل على نفيه عن غيره.ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وأمّا في القضية الشرطية فالموضوع فيها هو نفس المكلف في المثال المتقدم
وحيث إنّ له حالتين:حالة سفره،وحالة عدم سفره،فالمولى قد علّق الحكم على إحدى حالتيه وهي حالة سفره،وعليه فلا محالة تدل على انتفائه عند انتفاء هذه الحالة.ومن هنا قلنا إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين:هما كون الموضوع فيها غير الشرط،وأن لا يكون توقف الجزاء عليه عقلياً.
قد وصلنا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة:وهي أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم بناءً على وجهة نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء من الواضحات، وأمّا بناءً على نظرية المشهور في هذين البابين فلا يمكن إثبات دلالتها عليه.
نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الاُولى: أنّ المراد من المفهوم ليس كل معنى يفهم من اللفظ،بل المراد منه حصة خاصة من المعنى،في مقابل المنطوق حيث إنّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة،والمفهوم يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية المستندة إلى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم.
الثانية: تمتاز الملازمة بين المفهوم والمنطوق عن الملازمة في مباحث الاستلزامات العقلية-كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته وبين وجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك-في نقطة،وهي أنّ الملازمة بينهما هنا من اللزوم البيّن بخلاف الملازمة هناك فانّها غير بيّنة،وعلى ضوء هذه النقطة قد خرجت دلالة الاقتضاء والاشارة والتنبيه عن المفهوم حيث إنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن فتحتاج إلى ضم مقدمة خارجية،وهذا بخلاف اللزوم في موارد الدلالة على المفهوم،فانّه بيّن فلا تحتاج الدلالة عليه إلى ضم مقدمة خارجية،خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث جعل اللزوم في
تلك الموارد من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم،وقد تقدم نقده.
الثالثة: أنّ كون مسألة المفاهيم من المسائل الاُصولية واضح حيث تتوفر فيها ركائزها،وإنّما الكلام في أ نّها من المسائل الاُصولية العقلية أو اللفظية، وقد تقدم أنّ لها حيثيتين واقعيتين:فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاُصولية العقلية،ومن الاُخرى تناسب أن تكون من المسائل الاُصولية اللفظية، ولكن لا أثر للبحث عن هذه الجهة أصلاً.
الرابعة: أنّ محل الكلام ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده،بل إنّما هو في أصل وجوده كما هو الحال في جميع مباحث الألفاظ.
الخامسة: أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركائز،وتلك الركائز وإن تتم بعضها ولكن بما أ نّها لا تتم جميعاً فلا دلالة لها على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.
السادسة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد أخذ طريقاً آخر لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وهو التمسك باطلاق الشرط.وقد تقدم نقده بشكل موسّع.
السابعة: أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء،ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في هذين البابين.وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسّعة.
بقي أُمور
الأوّل: أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط عند انتفائه،وأمّا انتفاء شخصه فهو إنّما يكون بانتفاء موضوعه ولو بلحاظ انتفاء بعض قيوده وحالاته،ومن الطبيعي أ نّه عقلي ولا صلة له بدلالة اللفظ أبداً،
مثلاً انتفاء شخص وجوب الاكرام المنشأ في قولنا:إن جاءك زيد فأكرمه بانتفاء المجيء الذي هو من حالات الموضوع وقيوده عقلي ولا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم أصلاً،ضرورة استحالة بقاء المعلّق بدون المعلّق عليه،ومن هنا لو لم نقل بدلالتها على المفهوم أيضاً انتفى هذا الوجوب الخاص بانتفاء ما علّق عليه وهو المجيء في المثال.
فالذي يصلح أن يكون محلاً للنزاع ومورداً للكلام بين الأصحاب إنّما هو دلالة القضية الشرطية على انتفاء فرد آخر من هذا الحكم عن الموضوع المذكور فيها عند انتفاء الشرط وعدم ثبوته،ومن الطبيعي أنّ الحكم لو ثبت له في هذه الحالة-أي حالة انتفاء الشرط-لا محالة كان حكماً آخر غير الحكم الثابت له عند ثبوت الشرط،غاية الأمر أ نّه من سنخه،ومن المعلوم أنّ ثبوت هذا الحكم له في تلك الحالة وعدم ثبوته كلاهما أمر ممكن بحسب مقام الثبوت، والكاشف عن عدم ثبوته وانتفائه في مقام الاثبات إنّما هو دلالة القضية الشرطية على المفهوم.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط،لا انتفاء شخص هذا الحكم،فانّه كما عرفت أمر عقلي وضروري عند انتفاء المعلّق عليه وليس قابلاً للنزاع.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أ نّه ليس انتفاء الحكم في باب الوصايا والأقارير والأوقاف وما شاكلها عن غير مواردها من باب الدلالة على المفهوم كما توهم،بل نسب إلى الشهيد (قدس سره) في تمهيد القواعد 1أ نّه نفى الاشكال عن دلالة هذه القضايا على المفهوم بدعوى أ نّها تدل على انتفاء
الوصية عن غير موردها،وانتفاء الوقف عن غير الموقوف عليه،وانتفاء الاقرار عن غير موضوعه،ووجه الظهور ما عرفت من أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي لايرتبط بدلالة اللفظ أبداً،والموارد المذكورة من هذا القبيل، لوضوح أنّ الواقف إذا أوقف شيئاً على عنوان خاص كعنوان أولاده الذكور مثلاً أو على عنوان عام كعنوان أهل العلم أو السادة أو ما شاكل ذلك فبطبيعة الحال ينتفي الوقف بانتفاء هذا العنوان،كما أ نّه منتفٍ عن غيره من العناوين، وكلاهما غير منوط بدلالة اللفظ.أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي فلا صلة له باللفظ أبداً.وأمّا الثاني فلعدم المقتضي حيث إنّه جعل وقفاً على العنوان المزبور فحسب،فانتفاؤه عن غيره ليس من ناحية دلالة اللفظ،بل هو من ناحية عدم المقتضي لثبوته،وكذلك الحال في غيره من الموارد.
فالنتيجة: أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط بانتفائه،ونقصد بسنخ الحكم الحكم الكلي المنشأ في الجزاء فانّه بما هو حكم ينتفي عن الموضوع مطلقاً بانتفاء شرطه،لا خصوص الفرد الثابت منه،فيمتاز المفهوم من هذه الناحية عن مطلق انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر:أنّ الحكم المستفاد من الجزاء المعلّق على الشرط إذا كان مفهوماً اسمياً بأن يكون مدلولاً لكلمة وجب أو يجب أو ما شاكل ذلك،فلا إشكال في دلالة القضية الشرطية عندئذ على المفهوم،نظراً إلى أ نّه حكم كلي.وأمّا إذا كان مفهوماً حرفياً ومستفاداً من الهيئة فقد يشكل في دلالة القضية على المفهوم حينئذ،نظراً إلى أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي،وقد عرفت أنّ انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء شرطه عقلي ولا صلة له بدلالة القضية على المفهوم أصلاً،فانّ معنى دلالتها هو انتفاء سنخ
الحكم بانتفاء شرطه.
ومن هنا فصّل شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 1بين ما كان الحكم في الجزاء مستفاداً من المادة كقوله (عليه السلام):«إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور»وما كان مستفاداً من الهيئة كقولنا:إن جاءك زيد فأكرمه، حيث إنّه (قدس سره) التزم بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأوّل دون الثاني بملاك أنّ الحكم في الأوّل كلي وفي الثاني جزئي.
وقد اجيب عن هذا الاشكال بوجوه عديدة،ولكن بما أنّ تلك الوجوه بأجمعها مبنية على أساس وجهة نظر المشهور في باب الانشاء فلا يجدينا شيء منها،لما تقدم من فساد هذه النظرية،فعليه لسنا بحاجة إلى بيان تلك الوجوه والمناقشة فيها.
وأمّا على ضوء نظريتنا في باب الانشاء فلا مجال لهذا الاشكال أبداً،وذلك لما ذكرناه غير مرة من أ نّه لا واقع موضوعي للوجوب والثبوت ما عدا اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا،ومن الطبيعي أ نّه لا يفرق في المبرز بين القول والفعل،كما أ نّه لا يفرق في القول بين الهيئة والمادة، ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بالاعتبار النفساني،ومن المعلوم أ نّه لا يختلف باختلاف المبرز والكاشف،كيف حيث إنّه لا شأن له ما عدا ذلك،وعلى هذا فالمولى مرّةً يعتبر الفعل على ذمة المكلف على نحو الاطلاق ومرّةً اخرى يعتبره على تقدير خاص دون آخر كاعتبار الصلاة والطهارة على ذمة المكلف على تقدير زوال الشمس لا مطلقاً،واعتبار الحج على تقدير الاستطاعة،وهكذا.
فاذا كان الاعتبار قابلاً للاطلاق والتقييد فالقضية الشرطية بمنطوقها تدل
على التعليق،أي تعليق الاعتبار على الشرط،وبمفهومها تدل على انتفاء هذا الاعتبار عند انتفاء الشرط والمعلّق عليه،ومن الواضح أ نّه لا فرق في دلالة القضية عليه بين أن يكون المبرز عن ذلك الاعتبار النفساني هيئةً كقولنا:إن جاءك زيد فأكرمه،أو قولنا:إن استطعت فحج،أو مادةً كقوله (عليه السلام):
«إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة» 1أو ما شاكل ذلك.
والسبب فيه:هو أ نّه لا واقع موضوعي لهذا الاشكال بناءً على ضوء نظريتنا،لوضوح أنّ الاعتبار المزبور كما عرفت قابل للاطلاق والتقييد،فاذا افترضنا أنّ المولى اعتبره مقيداً بشيء ومعلّقاً عليه من دون اقتضائه ذلك بنفسه فبطبيعة الحال ينتفي بانتفائه،والمبرز عن ذلك في مقام الاثبات إنّما هو القضية الشرطية على نحو الالتزام باللزوم البيّن بالمعنى الأخص.أو فقل:إنّ الملازمة بين ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت هذا الشيء وانتفائه عند انتفائه موجودة في مقام الثبوت،فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام،ولا نقصد بالمفهوم إلّاذلك،ومن المعلوم أ نّه لا فرق فيه بين أن يكون الجزاء مستفاداً من المادة أو الهيئة.
الثاني: أ نّه لا فرق فيما حققناه من دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً كالأمثلة المتقدمة أو ما شاكلها أو يكون متعدداً،سواء أكان تعدده على نحو التركيب أو التقييد،والأوّل كقولنا:إن جاءك زيد وأكرمك وسلّم عليك فأكرمه،فانّ الشرط مركب من امور:
المجيء،والاكرام،والسلام،ولازم ذلك هو انتفاء الحكم بانتفاء كل واحد منها.
والثاني كقولنا:إن ركب الأمير في يوم الجمعة والساعة الفلانية فخذ ركابه، فيكون الشرط وهو الركوب مقيداً بقيدين:هما يوم الجمعة والساعة الفلانية، وبانتفاء كل منهما ينتفي الحكم لا محالة.
فالنتيجة: أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين كون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً.نعم،على الأوّل ينتفي الحكم المستفاد من الجزاء بانتفائه،وعلى الثاني ينتفي بانتفاء المجموع،وانتفاؤه تارةً يكون بانتفاء جميع أجزائه أو قيوده،واُخرى بجزء أو قيد منه،وهذا ظاهر.
الثالث: أنّ الحكم الثابت في الجزاء المعلّق على الشرط على نوعين:
أحدهما:أ نّه حكم غير انحلالي وذلك كوجوب الصلاة والحج وما شاكل ذلك حيث إنّه ثابت لطبيعي الفعل على نحو صرف الوجود،ومن المعلوم أ نّه لا ينحل بانحلال أفراده ومصاديقه.نعم،هو ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج-وهو المكلف-ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يكون مفهوم القضية الشرطية هو انتفاء هذا الحكم بانتفاء شرطه.
وثانيهما:أ نّه حكم انحلالي كقوله«الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء» 1فانّ الشيء نكرة وبما أ نّه وقع في سياق النفي فبطبيعة الحال يدل على العموم، وعليه فلا محالة ينحل الحكم المجعول في الجزاء المعلّق على الشرط المذكور في القضية بانحلال أفراده ومصاديقه في الخارج،هذا مما لا كلام فيه،وإنّما الكلام في مفهوم مثل هذه القضية وهل هو إيجاب جزئي أو كلي ؟ فيه وجهان بل قولان.
اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) القول الثاني وقد أفاد في وجه ذلك ما هو نصه:ولكنّ التحقيق أن يقال:إنّ النظر في علم الميزان بما أ نّه مقصور على القواعد الكلية لتأسيس البراهين العقلية لا ينظر فيه إلى الظواهر،ومن ثمّ جعلت الموجبة الجزئية نقيضاً للسالبة الكلية،وهذا بخلاف علم الاُصول فانّ المهم فيه هو استنباط الحكم الشرعي من دليله ويكفي في ذلك إثبات ظهور الكلام في شيء وإن لم يساعده البرهان المنطقي،فلا منافاة بين كون نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية وظهور القضية التي علّق فيها السالبة الكلية على شيء في ثبوت الموجبة الكلية بانتفاء ذلك الشيء،فبين النظرين عموم وخصوص من وجه،وعلى ذلك فان كان المعلّق على الشرط بحسب ظاهر القضية الشرطية هو نفس عموم الحكم وشموله كما في العام المجموعي،فلا محالة كان المنتفي بانتفاء الشرط هو عموم الحكم أيضاً فلا يكون المفهوم حينئذ إلّا موجبة جزئية.وأمّا إذا كان المعلّق على الشرط هو الحكم العام أعني به الحكم المنحل إلى أحكام عديدة بانحلال موضوعه إلى أفراده ومصاديقه،كان المعلّق في الحقيقة على وجود الشرط حينئذ هو كل واحد من تلك الأحكام المتعددة فيكون المنتفي عند انتفاء الشرط هو كل واحد من تلك الأحكام أيضاً.
وبالجملة:الحكم الثابت في الجزاء ولو فرض كونه استغراقياً ومنحلاً إلى أحكام متعددة إلّاأنّ المعلّق على الشرط في القضية الشرطية تارةً يكون هو مجموع الأحكام،واُخرى كل واحد واحد منها،وعلى الأوّل فالمفهوم يكون جزئياً لا محالة،بخلاف الثاني فانّه فيه كلي كالمنطوق،هذا بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الاثبات:فان كان العموم المستفاد من التالي معنىً اسمياً مدلولاً عليه بكلمة كل وأشباهها،أمكن أن يكون المعلّق على الشرط هو
نفس العموم أو الحكم العام فلا بدّ في تعيين أحدهما من إقامة قرينة خارجية.
وأمّا إذا كان معنىً حرفياً مستفاداً من مثل هيئة الجمع المعرّف باللام ونحوها وغير قابل لأن يكون ملحوظاً بنفسه ومعلّقاً على الشرط،أو كان مستفاداً من مثل وقوع النكرة في سياق النهي ولم يكن هو بنفسه مدلولاً عليه باللفظ،فلا محالة يكون المعلّق في القضية الشرطية حينئذ هو الحكم العام كما في الرواية المزبورة،إذ المعلّق على الكرية فيها إنّما هو عدم تنجس الماء بملاقاة كل واحد من النجاسات،لأنّه مقتضى وقوع النكرة في سياق النفي،فتدل الرواية على عدم تنجس الكر من الماء بملاقاة البول أو الدم أو نحوهما،فيثبت بانتفاء الشرط-أعني به كرية الماء-تنجسه بملاقاة كل واحد منها،فلا معنى حينئذ للقول بأنّ المفهوم موجبة جزئية وأ نّه لا يثبت بالرواية إلّاتنجس الماء القليل بملاقاة نجسٍ مّا دون جميع النجاسات،هذا.
مع أ نّا لو قلنا بأنّ المفهوم فيما لو كان التالي سالبة كلية لا يكون إلّاموجبة جزئية لما ترتب عليه أثر في خصوص المثال،لأنّه إذا تنجس الماء القليل بنجسٍ مّا ثبت تنجسه بكل نجس من أنواع النجاسات،إذ لا قائل بالفصل بينها،فلا تترتب ثمرة على البحث عن كون مفهوم الرواية موجبة كلية أو موجبة جزئية.
وأمّا توهم أنّ ما تدل عليه الرواية على القول بكون المفهوم موجبة جزئية إنّما هو تنجسه بملاقاة نجسٍ مّا،غاية الأمر أ نّه يتعدى من ذلك إلى بقية النجاسات بعدم القول بالفصل،لكن عدم القول بالفصل مختص بالأعيان النجسة فلا يمكن إثبات تنجس الماء القليل بملاقاته المتنجس إلّاعلى تقدير كون المفهوم موجبة كلية فهو مدفوع بأ نّه ليس المراد من الشيء المذكور في الرواية هو كل ما يصدق عليه أ نّه شيء،إذ لا معنى لاشتراط عدم انفعال الماء
عند ملاقاته الأجسام الطاهرة بكونه كراً،بل المراد به هو الشيء الذي يكون في نفسه موجباً لتنجس ملاقيه،وعليه فان ثبت من الخارج تنجيس المتنجس فذلك يكفي في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته من دون احتياج في ذلك إلى التمسك بمفهوم الرواية،وإن لم يثبت ذلك فالمتنجس غير داخل في عموم المنطوق لتثبت بمفهومها نجاسة الماء القليل بملاقاته على تقدير كون المفهوم موجبة كلية 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الاُولى: أنّ بين النظر المنطقي والنظر الاُصولي عموماً من وجه حيث إنّ الأوّل يقوم على أساس البراهين العقلية-سواء أكانت مطابقة لظاهر الدليل أم لم تكن-والثاني يقوم على أساس الدليل في المسألة والحجة فيها،وهو قد يكون مطابقاً للبرهان العقلي وقد لا يكون.
الثانية: أنّ العام المعلّق على الشرط في ظاهر القضية الشرطية قد يكون عاماً مجموعياً وقد يكون استغراقياً،فعلى الأوّل يكون مفهومها قضية جزئية، وعلى الثاني قضية كلية.
الثالثة: أنّ العموم المستفاد من الجزاء في مقام الاثبات إن كان معنى اسمياً بأن يكون مدلولاً لكلمة«كل»أو ما شاكلها أمكن أن يكون المعلّق على الشرط هو العموم المجموعي،كما أمكن أن يكون هو العموم الاستغراقي.وإن كان معنىً حرفياً بأن يكون مستفاداً من هيئة الجمع المعرّف باللام أو نحوها أو مستفاداً من مثل وقوع النكرة في سياق النهي فلا محالة يكون المعلّق على الشرط هو العموم الاستغراقي،والرواية المزبورة من هذا القبيل حيث إنّ العموم
فيها مستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي.
الرابعة: أ نّا إذا افترضنا أنّ مفهوم السالبة الكلية لا يكون إلّاموجبةً جزئيةً إلّاأ نّه لا ثمرة لذلك في المقام.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي وإن كانت تامةً بحسب الكبرى إلّاأنّ الظاهر عدم تحقق الصغرى لها كما سوف يتضح ذلك في ضمن النقطة الآتية.
وما قيل من أنّ مفهوم السالبة الكلية في القضية الشرطية قد يكون قضية كلية وذلك كما إذا افترضنا أنّ المعلّق على الشرط هو الجامع بين المطلق والمقيد والاطلاق المستفاد من قرينة الحكمة يطرأ عليه،ففي مثل ذلك لا محالة يكون مفهومها قضية كلية،فانّ انتفاء الجامع لا يمكن إلّابانتفاء كلا فرديه المطلق والمقيد معاً،وعلى الجملة:فإن كان التعليق وارداً على المطلق والعموم فالمفهوم قضية جزئية حيث إنّه نفي العموم لا عموم النفي،وإن كان التعليق وارداً على الطبيعي الجامع والاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يطرأ عليه فالمفهوم قضية كلية حيث إنّه نفي الجامع وهو لا يكون إلّابنفي جميع أفراده،ومن هنا يفترق الحال بين ما كان العموم مستفاداً من اللفظ وما كان مستفاداً من قرينة الحكمة،فعلى الأوّل التعليق وارد على العموم وعلى الثاني العموم وارد على التعليق.
لا يمكن المساعدة عليه، أمّا أوّلاً:فلأنّ المعلّق على الشرط إذا لم يكن هو المطلق والعموم بل كان الطبيعي الجامع فليست القضية في مرتبة التعليق حينئذ قضية سالبة كلية،لفرض أنّ الكلية المستفادة من قرينة الحكمة تطرأ عليه،فما أفاده المناطقة من أنّ نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية لا ينتقض بذلك.
وأمّا ثانياً:فلأنّ المتفاهم العرفي من تلك القضايا الشرطية التي يكون إطلاق الجزاء فيها مدلولاً لقرينة الحكمة هو أنّ التعليق فيها أيضاً وارد على المطلق، مثلاً المتفاهم عرفاً من مثل قوله (عليه السلام):«إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» 1هو ورود التعليق على المطلق لا أ نّه في مرتبة سابقة عليه،والسر في ذلك هو أنّ المعلّق على الشرط في القضية بطبيعة الحال إنّما يكون هو مراد المتكلم ومقصوده حسب فهم العرف ولو كان بضميمة قرينة خارجية كقرينة الحكمة أو نحوها.
فالنتيجة: أنّ فرض ورود الاطلاق على المعلّق وإن كان ممكناً بحسب مقام الثبوت إلّاأ نّه لا يمكن إثباته بدليل.
وأمّا النقطة الثانية: فهي مبنية على نقطة خاطئة وهي أن يكون الدال على كل حكم منحل بانحلال أفراد الطبيعة المحكوم عليها قضية مستقلة في مقام الاثبات والدلالة لتكون هناك قضايا متعددة بعدد أفرادها،ولكن الأمر ليس كذلك،ضرورة أنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه فانّه فيما إذا كان الدال على جميع هذه الأحكام الثابتة لأفراد هذه الطبيعة قضية واحدة في مقام الاثبات والدلالة،والمفروض أنّ هذه القضية لا تدل على ثبوت حكم لكل فرد منها بعنوانه واستقلاله،بل هي تدل على ثبوت حكم الطبيعة السارية إلى أفرادها على تقدير تحقق شرطه،فاذن بطبيعة الحال يكون مفهومها انتفاء هذا الحكم الساري،ومن الطبيعي أنّ انتفاءه يتحقق بانتفائه عن بعض أفراده فيكون مساوقاً للقضية الجزئية.
وبكلمة اخرى:أنّ انحلال الحكم وتعدده في القضية بحسب مقام الثبوت
والواقع لا يجدي في كيفية استفادة المفهوم منها في مقام الاثبات والدلالة على الشكل الذي أفاده (قدس سره) وهو القضية الكلية،وذلك لأنّ مدلول القضية في مقام الاثبات والدلالة واحد حيث إنّ الشارع في مقام الابراز والجعل فقد أبرز حكماً واحداً،غاية الأمر أنّ ذلك الحكم الواحد يتعدد بتعدد أفراد متعلقه وينحل بانحلاله،بل ربّما ينحل إلى أحكام غير متناهية من ناحية عدم تناهي أفراد متعلقه،ولكن هذا الانحلال إنّما هو في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل والابراز.
وعلى ضوء ذلك فالقضية الشرطية في أمثال هذه الموارد لا تدل إلّاعلى انتفاء الحكم الساري عن الطبيعة كذلك عند انتفاء شرطه،حيث إنّ منطوقها ثبوت هذا الحكم لها كذلك،ومن الطبيعي أ نّه يتحقق بانتفائه عن بعض الأفراد ولا يتوقف تحققه على انتفائه عن جميع الأفراد،ضرورة أنّ النفي المتوجه إلى الحكم الساري المطلق بسريان أفراد متعلقه مساوق للموجبة الجزئية،ولا فرق في ذلك بين أن يكون السريان والاطلاق مدلولاً وضعياً للفظ أو مدلولاً لقرينة الحكمة،فانّه على كلا التقديرين يكون المعلّق على الشرط هو الاطلاق والسريان،وعليه فبطبيعة الحال تدل القضية على انتفائه بانتفاء الشرط،ومن المعلوم أنّ ذلك مساوق للقضية الجزئية.
ولنأخذ لتوضيح ذلك بعدة أمثلة:
الأوّل كقولنا:إذا لبس زيد لأمة حربه لم يخف أحداً،فانّه لا إشكال في أنّ المتفاهم العرفي منها هو تحقق الخوف له في الجملة عند انتفاء الشرط وهو مساوق للموجبة الجزئية،بداهة أنّ مفهومها ليس تحقق الخوف له من كل أحد حتى من الجبناء.
الثاني كقولنا:إذا غضب الأمير لم يحترم أحداً،فانّه لا يدل على أ نّه يحترم
كل أحد عند انتفاء غضبه ولو كان عدواً له،بل يدل على ذلك في الجملة وهو مساوق للقضية الجزئية.
الثالث كقولنا:إذا جدّ زيد في درسه فلا يفوقه أحد،فانّ مفهومه عرفاً هو أ نّه إذا لم يجد في درسه فسوف يفوقه أحد،لا أنّ مفهومه هو أ نّه إذا لم يجد في درسه يفوقه كل أحد،وعليه فلا يكون مفهوم قولهم (عليه السلام):«إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء»إلّاثبوت النجاسة له في الجملة بملاقاة النجس عند انتفاء الكرية لا ثبوت النجاسة له بملاقاة كل نجس.
فالنتيجة: أنّ المتفاهم العرفي من الأمثلة التي ذكرناها وما شاكلها من القضايا الشرطية هو أنّ مفهومها قضية جزئية لا قضية كلية 1ولا فرق في
هذه الاستفادة العرفية بين أن يكون العموم في طرف الجزاء استغراقياً أو مجموعياً،فكما أنّ نفي العموم المجموعي يلائم مع قضية موجبة جزئية فكذلك نفي العموم الاستغراقي.
وأمّا النقطة الثالثة: فقد ظهر مما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة خطؤها.
أمّا أوّلاً:فلما تقدم بشكل موسع في ضمن بحث الحروف أنّ ما اشتهر في الألسنة من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلةً والمعنى الاسمي استقلالاً لا أصل له، وقد ذكرنا هناك أ نّه لا فرق بينهما في هذه النقطة أبداً.
وأمّا ثانياً:فعلى فرض تسليم ذلك إلّاأ نّه لا نتيجة له فيما نحن فيه،لما عرفت من عدم الفرق بين كون العموم في طرف الجزاء مجموعياً أو استغراقياً في كيفية استفادة المفهوم عرفاً من القضية الشرطية.
وأمّا النقطة الرابعة: فهي تامة بالاضافة إلى الأعيان النجسة وخاطئة بالاضافة إلى الأعيان المتنجسة،فلنا دعويان:الاُولى:أنّ الثمرة لا تظهر في الأعيان النجسة بين كون مفهوم قولهم (عليهم السلام):«إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء» 1موجبة كلية أو جزئية.الثانية:أ نّها تظهر في الأعيان المتنجسة بين الأمرين.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأ نّه إذا ثبت انفعال الماء القليل بملاقاة عين النجس في الجملة ثبت انفعاله بملاقاة جميع أنواعها،لعدم القول بالفصل بينهما جزماً، وأنّ التفكيك بينها في ذلك خلاف المرتكز العرفي،ومن الطبيعي أنّ هذا الارتكاز قرينة عرفية على ذلك.فاذن لا تظهر ثمرة بين وجهة نظرنا في المقام ووجهة نظر شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وأمّا الدعوى الثانية: فلأ نّه بعدما ثبت من الخارج تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس بناءً على ضوء نظرية
شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من استفادة العموم في جانب المفهوم.وأمّا بناءً على ضوء نظريتنا من عدم استفادة العموم في جانب المفهوم وأ نّه موجبة جزئية فلا نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته،وذلك لأنّ القدر المتيقن من المفهوم عندئذ هو تنجسه بملاقاة عين النجس فلا يدل على أزيد من ذلك،والقول بعدم الفصل بين المتنجس والأعيان النجسة غير ثابت،والتفكيك بينهما بالحكم بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة الأوّل وانفعاله بملاقاة الثاني ليس على خلاف الارتكاز العرفي ليتمسك به.
ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام من أ نّه إذا دلّ دليل خارجي على تنجيس المتنجس لما لاقاه كفى ذلك في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس فلا حاجة حينئذ إلى التمسك بالمفهوم،وإن لم يدل دليل من الخارج على ذلك فالمتنجس غير داخل في المنطوق فيختص المنطوق بالأعيان النجسة،وعليه فلا يترتب على القول بكون المفهوم موجبةً كليةً الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته،وجه الظهور:هو أ نّه لو كان للدليل الخارجي إطلاق أو عموم فالأمر كما أفاده (قدس اللّٰه سرّه) حيث إنّ مقتضى إطلاقه هو تنجيس المتنجس لما لاقاه مطلقاً،أي سواء أكان ماءً أو كان غيره.وأمّا إذا افترضنا أ نّه لا يدل إلّاعلى تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من دون أن يكون له إطلاق أو عموم،فعندئذٍ يدخل المتنجس في موضوع ما يكون قابلاً لتنجيس ملاقيه،فتدل الرواية بحسب المنطوق على عدم انفعال الكر بملاقاته.
وعلى هذا فلو قلنا بكون مفهوم الرواية موجبة كلية لدلت على انفعال الماء
القليل بملاقاة المتنجس كما تدل على انفعاله بملاقاة الأعيان النجسة،وإلّا فهي ساكتة عن حكم ملاقاته له فلا بدّ فيه من التماس دليل آخر،والقول بعدم الفصل بين أفراد ملاقي المتنجس غير ثابت ليتمسك به.
وإن شئت قلت:إنّ ما دلّ على تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من غير دلالته على تنجيس الماء القليل بملاقاته بالخصوص أو العموم لا يمكن التعدي عن مورده المتيقن إلى غيره من الموارد بعدم القول بالفصل،بدعوى أ نّه إذا ثبت تنجيس المتنجس لملاقيه في موردٍ ثبت في جميع الموارد من دون فرق بين أقسام ملاقيه في ذلك،كما أ نّه لم يثبت القول بعدم الفصل بين أنواع المتنجس وأفراده،والثابت إنّما هو القول بعدم الفصل بين أنواع النجس فحسب.
وعلى هذا الضوء تترتب ثمرة مهمة على هذا البحث-أي البحث عن كون مفهوم القضية الكلية كالرواية المتقدمة قضية كلية أو جزئية-حيث إنّه على الأوّل تدل الرواية على انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس دون الثاني.
[تعدد الشرط واتحاد الجزاء]
الرابع: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما في قضيتي:إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفي الجدران فقصّر،فبناءً على ضوء دلالة القضية الشرطية على المفهوم لا محالة تقع المعارضة بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاُخرى،وعليه فيقع الكلام في طريق علاج هذه المعارضة وقد ذكر لذلك طرق أربعة:
نظراً إلى أنّ دلالة القضية
الشرطية على المفهوم تقوم على أساس دلالتها على العلية المنحصرة،وحيث إنّ العلة في مفروض المقام لم تكن منحصرةً،فلا مقتضي لدلالتها على المفهوم أصلاً.وقد اختار هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بدعوى أ نّه مما يساعد عليه العرف.
الثاني: أن يلتزم في هذه الموارد أنّ الشرط هو عنوان أحدهما الذي هو نتيجة العطف بكلمة«أو»وعليه فان كان لهما جامع ذاتي فذلك الجامع الذاتي هو الشرط في الحقيقة،وإن لم يكن لهما جامع كذلك فالجامع الانتزاعي هو الشرط فيها،ونتيجة ذلك:هي ترتب وجوب القصر على خفاء أحدهما وإن لم يخف الآخر.
الثالث: أن يلتزم بأنّ الشرط هو المركب من الأمرين الذي هو نتيجة العطف بكلمة«واو»لا كل واحد منهما مستقلاً،وعلى هذا فاذا خفيا معاً وجب القصر وإلّا فلا وإن فرض خفاء أحدهما.
الرابع: أن يلتزم بتقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر من دون تصرف في شيء من المنطوقين.فهذه هي الوجوه المتصورة في هذه الموارد.
نعم،ذكر المحقق النائيني (قدس سره) 2وجهاً خامساً وهو أن يكون كل منهما شرطاً مستقلاً ثمّ قال:وعليه يترتب لزوم تقييد إطلاق كل من الشرطين المذكورين في القضيتين باثبات العدل له فيكون وجود أحدهما كافياً في ثبوت الجزاء.
ولكن غير خفي أنّ هذا الوجه بعينه هو الوجه الثاني فليس وجهاً آخر في قباله كما هو ظاهر. وبعد ذلك نقول:
أمّا الوجه الرابع: فبظاهره غير معقول إلّاأن يرجع إلى الوجه الثاني، والسبب في ذلك هو ما تقدم من أنّ المفهوم لازم عقلي للمنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص،وعليه فلا يعقل التصرف فيه بتقييد أو تخصيص من دون التصرف في المنطوق أصلاً،بداهة أنّ مردّ ذلك إلى انفكاك اللازم من الملزوم والمعلول عن العلة وهو مستحيل.وعلى الجملة:فقد عرفت أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم إنّما هي بدلالة التزامية على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص،ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة بما أ نّها دلالة قهرية ضرورية لدلالة القضية على المنطوق،فلا يمكن رفع اليد عنها والتصرف فيها من دون رفع اليد والتصرف في تلك،فاذن لا بدّ من إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الثاني.وعليه فالوجوه المعقولة في المسألة ثلاثة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الوجوه:
أمّا الوجه الأوّل: وهو الالتزام برفع اليد عن المفهوم فيهما معاً فيردّه:أ نّه بلا مقتضٍ وموجب،بداهة أنّ الضرورة تتقدر بقدرها،ومن الطبيعي أنّ الضرورة لا تقتضي رفع اليد عن مفهوم كلتا القضيتين معاً والالتزام بعدم دلالتهما عليه أصلاً،بل غاية ما تقتضي هو رفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بالاُخرى بمثل العطف بكلمة«أو»او بكلمة«واو»وبه تعالج المعارضة بينهما ويدفع التنافي بينهما رأساً،وعليه فكيف يساعد العرف على هذا الوجه.
وسيأتي بيانه بشكل موسّع من دون موجب للالتزام بعدم المفهوم في ضمن البحوث التالية.
وأمّا الوجه الثاني: وهو أن يكون الشرط عنوان أحدهما في الحقيقة،فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أنّ العقل يعيّن هذا الوجه وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه هذا:أنّ الاُمور المتباينة المتعددة بما هي كذلك لا يعقل أن تؤثر أثراً واحداً،وذلك لاستحالة صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير، لاستلزام ذلك اجتماع علل مستقلة على معلول واحد وهو محال،وقد تقدم بيان ذلك بشكل موسّع في ضمن بحوث الجبر والتفويض،وحيث إنّ المعلول في المقام واحد وهو وجوب القصر،فلا يعقل أن يكون المؤثر فيه الشرطين المذكورين في القضيتين على نحو الاستقلال،وإلّا لزم تأثير الكثير في الواحد وهو مستحيل.فاذن بطبيعة الحال يكون الشرط هو الجامع بينهما بقانون أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر،وعليه فلا بدّ من الالتزام بهذا الوجه وإن كان مخالفاً لما هو المرتكز في أذهان العرف من أنّ كل واحد منهما بعنوانه الخاص وإطاره المخصوص شرط ومؤثر فيه،إلّاأنّ هذا الارتكاز العرفي إنّما يكون متبعاً فيما أمكن الالتزام به،لا في مثل المقام حيث قد عرفت استحالة كون كل منهما بعنوانه الخاص شرطاً ومؤثراً.ثمّ بعد ذلك ذكر بقوله:وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلّابدليل آخر،إلّاأن يكون ما ابقي على المفهوم أظهر.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما أفاده من أنّ قاعدة الواحد لايصدر إلّامن الواحد ويستحيل صدوره عن الكثير فيرد عليه:
أوّلاً: ما ذكرناه غير مرّة من أنّ هذه القاعدة إنّما تتم في الواحد الشخصي
الحقيقي حتى يكشف عن جامع وحداني كذلك،ولا تتم فيما إذا كانت وحدة المعلول اعتبارية،فانّه لا يكشف إلّاعن وحدة كذلك،ومن المعلوم أنّ وحدة الجزاء في المقام وحدة اعتبارية لا حقيقية،وعليه فلا يكشف عن جامع واحد ذاتي.
وثانياً: أ نّه لا شمول ولا عموم لتلك القاعدة بالاضافة إلى جميع الأشياء بشتى ألوانها وأشكالها،بل إنّ لها إطاراً خاصاً وموضعاً مخصوصاً وهو إطار سلسلة العلل والمعاليل الطبيعيتين،دون إطار سلسلة الأفعال الاختيارية،وقد تقدّم 1الحجر الأساسي للفرق بين السلسلتين في ضمن نقد مذهب التفويض بشكل موسّع وقلنا هناك باختصاص القاعدة بالسلسلة الاُولى فحسب دون الثانية،وعليه فلا تنطبق على ما نحن فيه،وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر وليست باُمور تكوينية،وأ نّها فعل اختياري للشارع وصادرة منه باختياره وإعمال قدرته،وليس للاُمور الخارجية دخل وتأثير فيها أصلاً،وإلّا لكانت اموراً تكوينية بقانون التطابق والسنخية.نعم،لها موضوعات خاصة وقد استحال انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية ولكن هذه الاستحالة إنّما هي من ناحية لزوم الخلف لا من ناحية انفكاك المعلول عن العلة التامة،لفرض أ نّه ليس لها أيّ تأثير في الأحكام أبداً.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ ما نحن فيه ليس من موارد تلك القاعدة في شيء ليتمسك بها لاثبات أنّ الشرط هو الجامع بين الأمرين،وعليه فكما يمكن أن يكون الشرط هو الجامع بينهما،يمكن أن يكون الشرط هو مجموعهما
من حيث المجموع.
وثالثاً: أ نّه قد لا يعقل الجامع الماهوي بينهما،وذلك كما إذا افترضنا كون أحد الشرطين من مقولة والشرط الآخر من مقولة اخرى،فاذن لا يعقل أن يكون بينهما جامع حقيقي،لاستحالة وجود الجامع كذلك بين المقولتين.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) بقوله:إلّاأن يكون ما ابقي على المفهوم أظهر، فلعله سهو من قلمه الشريف،وذلك لأن مجرد رفع اليد عن مفهوم أحدهما وبقاء الآخر على مفهومه لا يوجب علاج التعارض والتنافي بين القضيتين، وذلك لأنّ التنافي إنّما هو بين مفهوم كل واحدةمنهما ومنطوق الاُخرى،ورفع اليد عن مفهوم إحداهما فحسب إنّما يرفع التنافي بين مفهومها ومنطوق الاُخرى،وأمّا التنافي بين مفهوم الاُخرى ومنطوق تلك باقٍ على حاله،ومن هنا قال بعض أصحاب الحواشي أ نّه ضرب في النسخة المصححة خط المحو على هذه العبارة.
لحدّ الآن قد تبين أنّ ما تمسك به المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) لاثبات كون الشرط هو الجامع بين الأمرين غير تام،هذا.
وقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ الشرط هو مجموع الأمرين لا كل واحد منهما،وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه:التحقيق أنّ دلالة كل من الشرطيتين على ترتب الجزاء على الشرط المذكور فيهما باستقلاله من غير انضمام شيء آخر إليه إنّما هي بالاطلاق المقابل بالعطف بالواو،كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيهما مستفاد من الاطلاق المقابل للعطف بأو،وبما أ نّه لا بدّ من رفع اليد عن أحد الاطلاقين ولا مرجح لأحدهما على الآخر،يسقط كلاهما عن الحجية،لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحققه عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير.وأمّا في فرض انفراد كل من
الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه،ولا أصل لفظي في المقام على الفرض،لسقوط الاطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي،فتكون النتيجة موافقة لتقييد الاطلاق المقابل بالعطف بالواو.
وأمّا ما ربما يقال من لزوم رفع اليد عن خصوص الاطلاق المقابل بالعطف بأو،لكونه متاخراً في الرتبة عن الاطلاق المقابل بالعطف بالواو،ضرورة أنّ انحصار الشرط متأخر رتبة عن تعينه وتشخصه،فيدفعه:أنّ تقدم أحد الاطلاقين على الآخر في الرتبة لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر،لأنّ الموجب لرفع اليد عن الاطلاقين إنّما هو وجود العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما،ومن الواضح أنّ نسبة العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بخصوصه دون الآخر 1.
ملخّص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ الاطلاقين بما أ نّه لا يمكن الأخذ بكليهما معاً من ناحية العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما فيسقطان معاً،فلا يكون في المسألة أصل لفظي من عموم أو إطلاق ليتمسك به لاثبات الجزاء، وهو وجوب القصر في المثال عند افتراض تحقق أحد الشرطين في الخارج.
فاذن بطبيعة الحال تصل النوبة إلى الأصل العملي،وبما أنّ وجوب القصر في مفروض المقام عند انفراد كل من الشرطين بالوجود مشكوك فيه فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة البراءة،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أ نّه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء وجوب التمام،لفرض شك المكلف في هذا الحال في تبدل الوظيفة من التمام إلى القصر، ومعه لا قصور في أدلة الاستصحاب عن شمول المقام.وإن شئت قلت:إنّه
لا شبهة في وجوب التمام على المكلف قبل خفاء الأذان والجدران معاً،كما أ نّه لا إشكال في وجوب القصر عليه بعد خفائهما كذلك،فهاتان الصورتان خارجتان عن محل الكلام ولا إشكال فيهما،وإنّما الاشكال والكلام في الصورة الثالثة وهي ما إذا خفي أحدهما دون الآخر ففي هذه الصورة بما أنّ إطلاق كل منهما قد سقط عن الاعتبار من ناحية العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فبطبيعة الحال ينتهي الأمر إلى الأصل العملي وهو في المقام استصحاب بقاء وجوب التمام،للشك في بقائه وتبدله بالقصر.فاذن النتيجة هي نتيجة التقييد بالعطف بالواو.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) صغرى وكبرى:
أمّا بحسب الصغرى: فلأنّ مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده (قدس سره) من الكبرى وهي الرجوع إلى الأصل العملي،بل هو من صغريات كبرى اخرى وهي الرجوع إلى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق، فلنا دعويان:الاُولى أنّ المقام ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي.
الثانية:أ نّه من موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ وجوب القصر وجواز الافطار في حال السفر قد ثبتا في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنّة،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ السفر المأخوذ في موضوعهما أمر عرفي وهو بهذا المعنى العرفي مأخوذ فيه على الفرض.ومن ناحية ثالثة:أ نّه لا شبهة في صدق عنوان المسافر على من خرج من البلد قاصداً السفر ولا يتوقف هذا الصدق على وصوله إلى حدّ الترخص.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي:أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً ولو قبل وصوله إلى حدّ الترخص أي
بمجرد صدق عنوان المسافر عليه،ولكن قد قيّد هذا المطلق في عدّة من النصوص به،يعني حدّد وجوب القصر وجواز الافطار فيها بخفاء الأذان والتواري عن الجدران الذي عبّر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء الجدران،نظراً إلى أ نّه لا طريق للمسافر إلى تواريه عن الجدران إلّابخفائها وإلّا فهذه الكلمة لم ترد في نصوص الباب.
فالنتيجة: أنّ هذه الروايات توجب تقييده بما ذكر،وعليه فما لم يصل المسافر إلى حدّ الترخص لم يجب عليه التقصير.وعلى ضوء هذا البيان فاذا خفي أحدهما دون الآخر فالمكلف وإن شكّ في وجوب القصر وجواز الافطار إلّا أنّ المرجع فيه ليس أصالة البراءة عنه واستصحاب بقاء التمام،بل المرجع الأصل اللفظي وهو الاطلاق المتقدم ومقتضاه وجوب القصر في هذا الفرض دون التمام.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي أنّ المورد داخل في كبرى الرجوع إلى الأصل اللفظي دون العملي فيظهر حالها مما بيّناه في الدعوى الاُولى،وتوضيحه:هو أنّ القدر الثابت من تقييد هذه المطلقات الدالة على وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً،حيث إنّ الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الافطار،وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييدها،ومعه لا مناص من الرجوع إليها لاثبات وجوب القصر وجواز الافطار،لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد سقوط كلا الاطلاقين من ناحية المعارضة،فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بأو على عكس ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وقد تحصّل من ذلك: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الكبرى لا ينطبق على المقام.
نعم،إذا افترضنا قضيتين شرطيتين في مورد كانتا واردتين لبيان الحكم الابتدائي تمّ ما أفاده (قدس سره)،وذلك كما إذا ورد في دليل:إذا خفي الأذان فتصدق،وورد في دليل آخر:إذا خفي الجدران فتصدق،وبما أ نّه لا يمكن الجمع بين الاطلاقين معاً للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فيسقطان، فالمرجع عندئذ بطبيعة الحال هو الأصل العملي،وهو أصالة البراءة عن وجوب التصدق عند خفاء أحدهما دون الآخر،لا في مثل المقام حيث إنّهما واردتان لبيان تقييد الحكم الثابت بالعموم والاطلاق،فحينئذ لا محالة يكون المرجع في مورد الشك في التقييد والتخصيص هو ذاك العموم والاطلاق كما عرفت.
وأمّا بحسب الكبرى: فالصحيح أنّ القاعدة تقتضي تقييد الاطلاق المقابل للعطف بأو دون العطف بالواو كما اختاره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) والسبب في ذلك:هو أ نّه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدمتين،ضرورة أنّ وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ينافي وجوبه عند خفاء الجدران أيضاً، لفرض أنّ ثبوت حكم لشيء لا يدل على نفيه عن غيره،وكذا لا منافاة بين مفهوميهما،لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران،إذ عدم ثبوت حكم عند عدم شيء لا يقتضي ثبوته عند عدم شيء آخر ليكون بينهما تناف.
فالنتيجة: أنّ المنافاة إنّما هي بين إطلاق مفهوم إحداهما ومنطوق الاُخرى مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم،ولذا لو كان الوارد في الدليلين:إذا خفي الأذان فقصّر،ويجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران،كان بين ظهور القضية الاُولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة،فانّ مقتضى إطلاق مفهوم الاُولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وإن فرض خفاء الجدران،ومقتضى القضية
الثانية وجوب القصر في هذا الفرض.
وقد تحصّل من ذلك:أنّ المعارضة في مورد الكلام إنّما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاُخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه، فاذن لا بدّ لنا من علاج هذه المعارضة وقد ذكروا في مقام علاجها وجوهاً:
الأوّل: ما تقدم من المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1وهو رفع اليد عن مفهوم إحداهما دون الاُخرى.
وفيه: ما عرفت من أ نّه لا تعارض بين المفهومين حتى يعالج بذلك،ومن هنا قلنا إنّ هذا سهو من قلمه (قدس سره).
الثاني: ما تقدم من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وهو رفع اليد عن كلا الاطلاقين معاً والرجوع إلى الأصل العملي.
أقول: إنّ ما أفاده (قدس سره) وإن أمكن علاج المعارضة به،إلّاأنّ الأخذ به بلا موجب بعد إمكان الجمع العرفي بين الدليلين،والسبب في ذلك هو أ نّه إذا أمكن في موردٍ علاج المعارضة بين الدليلين على ضوء الجمع العرفي وما هو المرتكز عندهم لم تصل النوبة إلى علاجها بطريق آخر خارج عنه ليس معهوداً ومرتكزاً بينهم،وبما أنّ ما أفاده من الجمع هنا خارج عن المتفاهم العرفي فلا يمكن المساعدة عليه،ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً وهو ما إذا ورد الأمر باكرام العلماء الظاهر في وجوب إكرامهم،ثمّ ورد في دليل آخر أ نّه لا يجب إكرام زيد العالم،فانّ التنافي بينهما وإن كان يرتفع بحمل الأمر في الدليل العام على الاستحباب إلّاأ نّه بلا مقتض،حيث إنّ العرف لا يساعد على ذلك، فانّ الموجب للتنافي في المقام ليس إلّاظهور الدليل الأوّل في العموم،ومن
المعلوم أنّ المرتكز العرفي في أمثال ذلك هو رفع اليد عن العموم وتخصيصه بالدليل الثاني،لا حمل الأمر في الدليل الأوّل على الاستحباب فانّه خارج عن المرتكز العرفي.
وعلى الجملة: فالتنافي في المثال المزبور إنّما هو بين ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص به وعدم كون العام بعمومه مراداً،ولا تنافي بين ظهور الخاص في التخصيص به وبين ظهور الأمر في طرف العام في الوجوب مع قطع النظر عن ظهوره في العموم،وعليه فبطبيعة الحال يحمل العام على الخاص نظراً إلى أنّ ظهوره أقوى منه فيكون قرينةً عليه عرفاً،كما هو الحال في جميع موارد تعارض الظهورات بعضها مع بعضها الآخر.وأمّا التصرف في ظهور الأمر في طرف العام وحمله على الاستحباب فهو بلا ضرورة تستدعيه وإن كان يرتفع به التعارض كما هو يرتفع بحمل أحدهما على التقية،مع أ نّه لم يقل به أحد فيما نعلم،أو بحمل الخاص على أفضل أفراد الواجب أو ما شاكل ذلك.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ كل ما يمكن به دفع التنافي والتعارض بين الدليلين لا يمكن الأخذ به ما لم يساعد عليه العرف.وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام من رفع اليد عن كلا الاطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي لا يمكن المساعدة عليه بوجه،وذلك لأنّ التعارض وإن كان يُدفع بما ذكره (قدس سره) إلّاأ نّك عرفت أنّ كل ما يمكن به دفع التعارض والتنافي بين الدليلين لا يمكن الأخذ به إلّافيما إذا ساعد عليه العرف،يعني يكون الجمع بينهما جمعاً عرفياً،ومن الطبيعي أنّ رفع اليد عن كلا الاطلاقين فيما نحن فيه والرجوع إلى دليل آخر ليس من الجمع العرفي في شيء.
والسبب في ذلك:هو ما تقدم من أنّ التعارض بينهما إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاُخرى وإن افترض عدم دلالتها على المفهوم،فلو كان الوارد في الدليلين إذا خفي الأذان فقصّر،ويجب التقصير عند خفاء الجدران،لكان بين ظهور القضية الاُولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة،وحيث إنّ نسبة المنطوق إلى المفهوم نسبة الخاص إلى العام،فبطبيعة الحال يقيّد إطلاقه به،وبما أنّ التصرف في المفهوم بدون التصرف في المنطوق لا يمكن،لما عرفت من أ نّه لازم عقلي له،فيدور مداره سعةً وضيقاً،فلا يمكن انفكاكه عنه ولو بالاطلاق والتقييد،فلا محالة يستلزم التصرف فيه التصرف في المنطوق،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ التصرف في إطلاق مفهوم كل من القضيتين بهذا الشكل لا محالة يستدعي التصرف في إطلاق منطوق كل منهما بنتيجة العطف بكلمة«أو»ولازم ذلك هو أنّ الشرط أحدهما،والسر فيه:هو أ نّنا إذا قيّدنا إطلاق مفهوم قوله (عليه السلام):«إذا خفي الأذان فقصّر»بمنطوق قوله (عليه السلام):«إذا خفى الجدران فقصّر» 1وبالعكس،أي تقييد إطلاق مفهوم القضية الثانية بمنطوق القضية الاُولى،فالنتيجة هي عدم وجوب التقصير إلّاإذا خفي أحدهما،وهذا معنى أنّ ذلك نتيجة تقييد إطلاق كل من القضيتين بالعطف بكلمة«أو»وأمّا التقييد بالعطف بكلمة«واو»فلا مقتضي له أصلاً وإن كان يرتفع به التعارض.
وقد تحصّل من ذلك عدة امور:
الأوّل:أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام خاطئ صغرى وكبرى فلا واقع موضوعي له.
الثاني:أنّ ما ذكرناه من الجمع هنا هو المطابق للارتكاز العرفي في أمثال المقام دون غيره.
الثالث:أنّ الجمع بين ظواهر الأدلة لا بدّ أن يكون في إطار مساعدة العرف عليه وإلّا فهو غير مقبول.
الرابع:أنّ التعارض في محل الكلام إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاُخرى.
الخامس:أنّ نسبة مفهوم كل منهما إلى منطوق الاُخرى نسبة العموم المطلق.
السادس:أنّ التصرف في المفهوم لا يمكن بدون التصرف في المنطوق.
[تداخل الأسباب والمسببات]
الأمر الخامس: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء وثبت من الخارج أو من نفس ظهور القضيتين أو القضايا كون كل شرط مستقلاً في ترتب الجزاء عليه، فهل القاعدة في مثل ذلك تقتضي تداخل الشروط في تأثيرها أثراً واحداً أو لا ؟ مثلاً إذا اجتمع أسباب عديدة للوضوء أو الغسل في شخص واحد كالنوم والبول وخروج الريح والجنابة ومسّ الميت والحيض وما شاكل ذلك فهل تستدعي أثراً واحداً أو متعدداً،وعلى تقدير اقتضائها التعدد فهل القاعدة تقتضي تداخل الجزاء أو لا ؟ ونقصد بتداخل الجزاء الاكتفاء بوضوء واحد أو غسل في مقام الامتثال،وبعدم تداخله عدم الاكتفاء به في هذا المقام،بل لا بدّ من الاتيان به متعدداً حسب تعدد الشرط.
وبعد ذلك نقول: إنّ الكلام يقع في مقامين:الأوّل:في تداخل الأسباب.
الثاني:في تداخل المسببات.وقبل البحث عنهما ينبغي تقديم خطوط تالية:
الأوّل: أنّ الكلام في التداخل أو عدمه إنّما هو فيما إذا لم يعلم من الخارج ذلك وإلّا فهو خارج عن محل الكلام،كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل حيث علم من الخارج أ نّه لا يجب على المكلف عند اجتماع أسبابه إلّاوضوء واحد،وكذا الحال في الغسل.ومنشأ هذا العلم هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين.
أمّا في باب الوضوء،فلأنّ الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل:«لا ينقض الوضوء إلّاحدث» 1وما شاكل ذلك،ومن الطبيعي أنّ صفة النقض لاتقبل التكرر والتكثر،وعليه فبطبيعة الحال يكون المتحصّل من نصوص الباب أنّ أسباب الوضوء إنّما تؤثر في وجود صفة واحدة وهي المعبّر عنها بالحدث،إن اقترنت أثر مجموعها في هذه الصفة على نحو يكون كل واحد منها جزء السبب لاتمامه،وإن ترتبت تلك الأسباب استند الأثر إلى المتقدم منها دون المتأخر كما هو الحال في العلل المتعددة التي لها معلول واحد.فالنتيجة على ضوء هذا البيان:أنّ التداخل في باب الوضوء إنّما هو في الأسباب دون المسببات.
وأمّا في باب الغسل،فلأنّ الوارد في لسان عدة من رواياته هو إجزاء غسل واحد عن المتعدد كصحيحة زرارة«إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة،فاذا اجتمعت عليك حقوق (اللّٰه) أجزأها عنك غسل واحد-ثمّ قال-وكذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها» 2وموثقته عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:«إذا حاضت المرأة وهي جنب
أجزأها غسل واحد» 1وصحيحة شهاب بن عبد ربّه قال:«سألت أبا عبداللّٰه (عليه السلام) عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتاً،له أن يأتي أهله ثمّ يغتسل ؟ فقال:سواء،لا بأس بذلك إذا كان جنباً غسل يده وتوضأ وغسل الميت وهو جنب.وإن غسل ميتاً توضأ ثمّ أتى أهله ويجزئه غسل واحد لهما» 2ونحوها غيرها.
فالنتيجة: أنّ المستفاد من هذه الروايات هو أنّ التداخل في باب الغسل إنّما هو في المسببات لا في الأسباب،هذا فيما إذا علم بالتداخل في الأسباب أو المسببات.وأمّا إذا لم يعلم بذلك كما إذا أفطر الصائم مثلاً في نهار شهر رمضان بالأكل أو الشرب أو الجماع أو نحو ذلك مرات عديدة فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة،وسيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية إن شاء اللّٰه تعالى 3.
الثاني: إذا فرض أ نّه لا دليل على التداخل ولا على عدمه فما هو قضية الأصل العملي،فهل هي التداخل أو عدمه أو التفصيل بين الأسباب والمسببات، يعني يقتضي التداخل في الاُولى دون الثانية ؟ وجوه.
الصحيح هو الوجه الأخير،وهو التفصيل بينهما،والسبب في ذلك:هو أنّ مردّ الشك في تداخل الأسباب وعدمه إلى الشك في ثبوت تكليف زائد على التكليف الواحد المتيقن،ومن الطبيعي أنّ مقتضى الأصل عدمه،ومثال ذلك:
ما إذا علم المكلف بحدوث وجوب الوضوء عند حدوث سببه كما إذا بال أو نام ولكن شك في ثبوته زائداً على هذا المتيقن كما إذا بال أو نام مرّةً ثانية،فحينئذ
لا محالة يكون مقتضى الأصل عدم ثبوته،وهذا بخلاف الشك في تداخل المسببات،فانّه حيث إنّا نعلم بتعدد التكليف هناك والشك إنّما هو في سقوط كلا التكليفين بسقوط أحدهما بالامتثال،فبطبيعة الحال يكون مقتضى الأصل عدم سقوطه.
ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه في كلا الموردين لا يفرق فيه بين الأحكام الوضعية والتكليفية،لوضوح أنّ الشك إذا كان في وحدة الحكم وتعدده عند تعدد شرطه فمقتضى الأصل عدم تعدده،يعني عدم حدوث حكم آخر زائداً على المتيقن،ومن المعلوم أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون المشكوك حكماً تكليفياً أو وضعياً،كما أ نّه إذا شك في سقوطه بعد العلم بثبوته فمقتضى الأصل عدم سقوطه،ولا يفرق فيه أيضاً بين كونه حكماً تكليفياً أو وضعياً.
فالنتيجة: أنّ مقتضى الأصل العملي هو التداخل في موارد الشك في تأثير الأسباب وعدم التداخل في موارد الشك فيه في المسببات.ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1من أ نّه لا ضابط كلي لجريان الأصل في موارد الأحكام الوضعية فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه والرجوع فيه إلى ما يقتضيه الأصل لا يمكن المساعدة عليه،وذلك لما عرفت من أ نّه لا فرق في جريانه في كلا المقامين بين الحكم التكليفي والوضعي أصلاً.
الثالث: أنّ محل الكلام في تداخل الأسباب أو المسببات إنّما هو فيما إذا كان الجزاء قابلاً للتعدد كالوضوء أو الغسل أو ما شاكل ذلك،وأمّا إذا لم يكن قابلاً لذلك فهو خارج عن محل الكلام،كالقتل فانّ مَن يستحق ذلك بارتداد أو نحوه فلا معنى للبحث عن تداخل الأسباب أو المسببات فيه وفي أمثاله.نعم،
قد يكون قتله مورداً لحقوق متعددة متباينة كما إذا افترض أ نّه قتل عدّة أشخاص متعمداً،فانّه يثبت لولي كل من المقتولين حق قتله على نحو الاستقلال،فلو أسقط أحد الأولياء حقه لم يسقط حقّ الآخرين فلهم اقتصاصه.
نعم،لو اقتصه أحدهم سقط حقّ الباقين قصاصاً بسقوط موضوعه،ولكن لهم عندئذ أن يأخذوا الدية من أمواله،هذا بالاضافة إلى حقوق الناس.
وكذلك الحال بالاضافة إلى حقوق اللّٰه كما إذا افترضنا أنّ أحداً زنى بأحد محارمه كاُخته أو امّه أو بنته أو ما شاكل ذلك مرّتين أو أزيد،فانّه بطبيعة الحال لا يترتب على الزنا في المرّة الثانية إلّاتأكد الجزاء حيث إنّ القتل غير قابل للتعدد.
ثمّ إنّه ربما لا يكون الجزاء قابلاً للتأكد أيضاً كاباحة شيء مثلاً أو طهارته، نظراً إلى أنّ الطهارة كالاباحة غير قابلة للشدة والتأكد فضلاً عن الزيادة،مثلاً إذا غسل الثوب المتنجس في الماء الكر وطهر فلا أثر لغسله ثانياً في الماء الجاري ولا يوجب ذلك تأكد طهارته وشدتها،وكذا إذا افترضنا إباحة شيء بعدة أسباب مجتمعة عليه دفعيةً أو تدريجية كاجتماع الاكراه والاضطرار وما شاكلهما في مادة شخص واحد حيث إنّه لا يوجب شدة إباحة الفعل المضطر إليه أو المكره عليه على الرغم من كون كل واحد منها سببا تاما لذلك.
الرابع: ما نسب إلى فخر المحققين 1من أنّ القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباباً أو معرّفات،فعلى الأوّل لا يمكن القول بالتداخل،وعلى الثاني لا مانع منه حيث إنّ اجتماع معرّفات عديدة على شيء واحد بمكان من الوضوح.
وغير خفي أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،والسبب فيه:أ نّه إن اريد بكونها معرّفات أ نّها غير دخيلة في الأحكام الشرعية كدخل العلة في المعلول،فهو وإن كان متيناً جداً، لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخر من أ نّه لا دخل للاُمور التكوينية في الأحكام الشرعية أصلاً،ولا تكون مؤثرةً فيها كتأثير العلة في المعلول وإلّا لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الاُمور التكوينية ومسانخة لها بقانون التناسب والسنخية،والحال أنّ الأمر ليس كذلك،بداهة أنّ وجوب صلاتي الظهرين مثلاً ليس معلولاً لزوال الشمس وإلّا لكان معاصراً له من ناحية وأمراً تكوينياً من ناحية اخرى بقانون التناسب.وكذا الحال في وجوب صلاتي المغرب والعشاء فانّه ليس معلولاً لغروب الشمس،ووجوب صلاة الفجر فانّه ليس معلولاً لطلوع الفجر،ووجوب الحج فانّه ليس معلولاً للاستطاعة ونحوها،ووجوب الصوم فانّه ليس معلولاً لدخول شهر رمضان ونحوه من شرائطه.
وعلى الجملة:فالأحكام الشرعية بأجمعها امور اعتبارية فرفعها ووضعها بيد الشارع وفعل اختياري له،ولا يؤثر فيها شيء من الاُمور الطبيعية.نعم، الملاكات الموجودة في متعلقاتها وإن كانت اموراً تكوينية إلّاأنّ دخلها في الأحكام الشرعية ليس كدخل علة طبيعية في معلولها،بل هي داعية لجعل الشارع واعتباره إيّاها.أو فقل إنّها تدعو الشارع لجعلها واعتبارها كبقية الدواعي للأفعال الاختيارية،لا أ نّها تؤثر في نفسها.فان اريد من كون الأسباب الشرعية معرّفات ذلك فهو وإن كان متيناً من هذه الناحية إلّاأ نّه يرد عليه من ناحية اخرى،وهي أ نّه لا ملازمة بين عدم دخلها في الأحكام الشرعية وكونها معرّفات،بل هنا أمر ثالث وهو كونها موضوعات لها،يعني أنّ الشارع جعل الأحكام على تلك الموضوعات في مرحلة الاعتبار والانشاء
على نحو القضية الحقيقية،مثلاً أخذ الشارع زوال الشمس مع بقية الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة،وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحج وهكذا،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أنّ عدم دخل الأسباب الشرعية في أحكامها كدخل العلة الطبيعية في معلولها لا يستلزم كونها معرّفات محضة، بل هي موضوعات لها وتتوقف فعليتها على فعلية تلك الموضوعات،ولا تنفك عنها أبداً،ومن هنا تشبه العلة التامة من هذه الناحية،أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها.
وإن اريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات الأحكام في الواقع،ولا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه،مثلاً عنوان الافطار في نهار شهر رمضان ليس بنفسه موضوعاً لوجوب الكفارة،بل هو معرّف لما هو الموضوع له في الواقع.وكذا الحال في مثل عنوان البول والنوم وما شاكلهما، فانّ هذه العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ليست بأنفسها موضوعات للأحكام بل هي معرّفات لها،ومن الطبيعي أ نّه لا مانع من اجتماع معرّفات متعددة على موضوع واحد.
فيرد عليه: أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه إلّاأنّ ظواهر الأدلة لا تساعد على ذلك،حيث إنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام،لا أ نّها معرّفات لها،فالحمل على المعرّف يحتاج إلى قرينة وبدونها لا يمكن.وعلى الجملة:فالظاهر من الدليل عرفاً أنّ عنوان
الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة،لا أ نّه معرّف لما هو الموضوع له واقعاً،وكذا عنوان البول والنوم ونحوهما.
وإن اريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعية،ففيه:أ نّها ليست بكاشفة عنها بوجه،فانّ الكاشف عنها إجمالاً إنّما هو نفس الحكم الشرعي،وأمّا ما سمي سبباً له فلا يكون بكاشف عنها أصلاً.
فالنتيجة في نهاية المطاف:أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.هذا إذا كان المراد من الأسباب الشرعية موضوعات الأحكام وشرائطها كما هو كذلك.وأمّا لو اريد بها ملاكاتها الواقعية فالأمر في غاية الوضوح حيث إنّه لا معنى لدعوى كونها معرّفات كما هو ظاهر.
الخامس: أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان الشرط قابلاً للتعدد والتكرر،وأمّا إذا لم يكن قابلاً له فهو خارج عن محل الكلام،لعدم الموضوع عندئذ للقول بالتداخل وعدمه،وذلك كالافطار متعمداً في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة،حيث إنّه من العناوين التي لا تقبل التعدد والتكرر،فلو أكل الصائم عالماً عامداً في نهار شهر رمضان مرّةً واحدةً صدق عليه عنوان الافطار العمدي،وأمّا إذا أكل بعده مرّةً ثانيةً فلا يصدق عليه هذا العنوان،وبما أنّ موضوع وجوب الكفارة بحسب لسان الروايات 1هو عنوان الافطار دون الأكل أو الشرب،فبطبيعة الحال لا يجري فيه النزاع المتقدم،ومن هنا لو أكل أو شرب في نهار شهر رمضان مرّات عديدة لم يجب
عليه إلّاكفارة واحدة.نعم،في خصوص الجماع والاستمناء تتعدد الكفارة بتعددهما،نظراً إلى أنّ الجماع والاستمناء بعنوانهما قد اخذا في موضوع الكفارة في لسان الروايات 1،ومن الطبيعي أ نّها تتعدد بتعددهما خارجاً.
وبكلمة اخرى:أنّ غير الجماع والاستمناء من المفطرات بما أ نّها لم تؤخذ في موضوع وجوب الكفارة بعناوينها الأوّلية وإنّما اخذت فيه بعنوان المفطر فمن الطبيعي أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب في نهار شهر رمضان،باعتبار أنّ الصوم قد افطر ونقض به فلا يصدق هذا العنوان على وجوده الثاني،لوضوح أنّ ما نقض غير قابل للنقض مرّةً ثانية،وإن كان الامساك بعد النقض والافطار أيضاً واجباً عليه إلّاأ نّه ليس بعنوان الصوم الواجب،ومن هنا يجب قضاؤه ولا يكون الامساك المزبور مجزئاً عنه.
فالنتيجة:أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب فلا يصدق على وجوده الثاني والثالث وهكذا،ولذا لا تتعدد الكفارة بتعدده،وهذا بخلاف الجماع والاستمناء حيث إنّ المأخوذ في لسان الرواية عنوان إتيان الأهل في نهار شهر رمضان وعنوان الاستمناء وهما من العناوين القابلة للتعدد والتكرر خارجاً،وعليه فلا محالة تتعدد الكفارة بتعددهما،فلو أتى أهله أو استمنى في نهار شهر رمضان متعدداً وجبت عليه الكفارة كذلك،هذا.
ولكنّ السيد الطباطبائي صاحب العروة (قدس سره) 2قال في جواب بعض المسائل التي سئل عنها:إنّ الكفارة تتعدد بتعدد الجماع والأكل،بدعوى
أنّ عنوان الافطار كناية عن نفس الأكل والشرب ونحوهما من دون أن تكون له خصوصية،فأخذه في لسان الروايات إنّما هو بعنوان المعرّف لما هو الموضوع له واقعاً،ثمّ قال:وتدل عليه الروايات أيضاً.
وفيه:ما تقدم 1من أنّ ظاهر الروايات هو أنّ عنوان الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة لا أ نّه كناية عن الأكل والشرب،فحمله على المعرّف والكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة على الفرض.وأمّا ما أفاده (قدس سره) من دلالة الروايات على ذلك فيردّه:أ نّا لم نجد في هذا الموضوع ولا رواية واحدة تدل على ترتب وجوب الكفارة على عنوان الأكل والشرب فلا ندري ما هو مقصوده (قدس سره) من الروايات الدالة على ذلك.وبعد ذلك نقول:
أمّا الكلام في المقام الأوّل: وهو التداخل في الأسباب فيقوم على أساس أنّ القضية الشرطية ظاهرة في نفسها في التداخل أو في عدمه،فلو أتى المكلف أهله في نهار شهر رمضان مرّات عديدة،فان قلنا بالأوّل لم تجب عليه إلّا كفارة واحدة،وإن قلنا بالثاني وجبت عليه كفارات متعددة.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ما إليك نصه:والتحقيق أ نّه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه،وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط،كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقةً أو وجوداً محالاً،ضرورة أنّ لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل:إذا بلت فتوضأ،وإذا نمت فتوضأ، أو فيما إذا بال مكرراً أو نام كذلك،محكوماً بحكمين متماثلين وهو واضح
الاستحالة كالمتضادين،فلا بدّ على القول بالتداخل من التصرف فيه إمّا بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث،بل على مجرد الثبوت،أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلّاأ نّه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط 1إلّاأنّ الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها كما في:
أكرم هاشمياً وأضف عالماً،فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة،ضرورة أ نّه بضيافته بداعي أمرين يصدق أ نّه امتثلهما ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وإن كان له امتثال كل منهما على حدة كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة،وأضاف العالم غير الهاشمي 2.
ما أفاده (قدس سره) يحتوي على عدة نقاط:
1- أنّ القضية الشرطية في نفسها ظاهرة في الحدوث عند الحدوث،ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط في القضية بنفسه سبباً للجزاء أو يكون كاشفاً عن السبب.
2- أنّ الأخذ بهذا الظاهر لا يمكن،نظراً إلى أنّ متعلق الجزاء بما أ نّه حقيقة واحدة فلازم الأخذ به هو اجتماع الحكمين المتماثلين فيها وهو مستحيل كاجتماع المتضادين.
3- أ نّه على القول بالتداخل لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين:إمّا أن يلتزم برفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث،وإمّا أن يلتزم
بأنّ متعلق الجزاء وإن كان واحداً صورةً إلّاأ نّه متعدد واقعاً.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:أمّا النقطة الاُولى:فهي في غاية الصحة والمتانة.وأمّا النقطة الثانية:فيرد عليها-مضافاً إلى ما سوف يأتي في ضمن البحوث التالية-ما ذكرناه غير مرّة من أ نّه لا مانع من اجتماع الحكمين المتماثلين في شيء واحد،غاية الأمر أ نّه يوجب التأكد والاندكاك وصيرورتهما حكماً واحداً مؤكداً.ومن ذلك يظهر حال النقطة الثالثة حيث إنّه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث،كما أ نّه لا معنى لدعوى أنّ الوضوء أو ما شاكله حقائق متعددة في الواقع ونفس الأمر،هذا.
ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام كلام وهو في غاية الصحة والجودة وإليك نصه:والحق هو القول بعدم التداخل مطلقاً،وتوضيح ذلك إنّما يتم ببيان أمرين:
الأوّل: ما تقدم سابقاً من أ نّه لا إشكال في أنّ كل قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية،كما أنّ كل قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له،فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد،وإنّما الاختلاف في كيفية التعبير عنه،وعليه فكما أنّ الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة،إذ المفروض أنّ فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له،كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه،لأنّ أدوات الشرط اسمية كانت أم حرفية إنّما وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض،فلا يكون بين القضية الشرطية والحقيقية فرق من جهة الانحلال أصلاً،وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجوداً،كما يتعدد بتعدد موضوعه في الخارج.
وأمّا تعدد الحكم بتعدد شرطه جنساً فهو إنّما يستفاد من ظهور كل من القضيتين في أنّ كلاً من الشرطين مستقل في ترتب الجزاء عليه مطلقاً،فانّ ظاهر قضية:إذا بلت فتوضأ،هو أنّ وجوب الوضوء مترتب على وجود البول ولو قارنه أو سبقه النوم مثلاً،وكذلك ظاهر قضية:إذا نمت فتوضأ،هو ترتب وجوب الوضوء على النوم ولو قارنه أو سبقه البول مثلاً،فاطلاق كل من القضيتين يستفاد منه استقلال كل من النوم والبول في ترتب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير،ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج ووجودهما فيه.
الثاني: أنّ تعلق الطلب بشيء لا يقتضي إلّاإيجاد ذلك الشيء خارجاً ونقض عدمه المطلق،وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من وجودات الطبيعة،يكون الاتيان به مجزئاً في مقام الامتثال عقلاً.وأمّا توهم أنّ ذلك من جهة تعلق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات فهو فاسد،إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلق الطلب بعد عدم كونه مدلولاً عليه بالهيئة ولا بالمادة،ضرروة أنّ المادة لم توضع إلّالنفس الماهية المعرّاة عن الوجود والعدم.وأمّا الهيئة فهي لا تدل إلّاعلى طلب إيجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهراً على أوّل الوجودات،وليس هناك ما يدل على اعتبار صرف الوجود في متعلق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئةً ومادةً،وعليه فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه،بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلقه خارجاً ونقض عدمه المطلق،فاذا فرض تعلق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كل منهما إيجاد تلك الماهية،فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرتين،كما هو الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيتين
بماهية واحدة،فتعدد الايجاد تابع لتعدد الارادة تشريعيةً كانت أم تكوينية.
وبالجملة:أنّ كل أمر في نفسه لا يدل إلّاعلى الطلب المقتضي لايجاد متعلقه، وأمّا كون هذا الطلب واحداً أو متعدداً فليس في الأمر بهيئته ومادته دلالة عليه قطعاً.نعم،إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدد الطلب وقد فرض تعلق الأمر بالطبيعة كان الطلب واحداً قهراً،إلّاأ نّه من جهة عدم المقتضي لتعدده لا من جهة دلالة اللفظ عليه،فاذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب،أو فرض تعدد القضية الشرطية في نفسها،كان ظهور القضية في تعدد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب-أعني به عدم المقتضي للتعدد-ووارداً عليه.
ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب،لكان ذلك من جهة عدم ما يدل على التعدد.فاذا دلت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب،كان هذا الظهور لكونه لفظياً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب.ومن هنا يظهر الفرق بين المقام الذي التزمنا فيه بتعدد الطلب،ومسألة تعلق الأمر بشيء واحد مرتين كما إذا قال المولى:صم يوماً،ثمّ قال:صم يوماً،التي التزمنا فيها بحمل الأمر الثاني على التأكيد كما تقدم،وذلك لأنّ ظهور الأمر الثاني في التأسيس وتعدد الحكم ليس ظهوراً لفظياً ليكون قرينة على صرف ظهور وحدة المتعلق في وحدة الحكم، بل هو من الظهورات السياقية،فكما يمكن أن يكون هو قرينة على التأسيس والتعدد،كذلك يمكن أن تكون وحدة المتعلق قرينة على الوحدة والتأكد فلا ينعقد حينئذ للكلام ظهور في التأسيس،ومعه لا مناص من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد على المتيقن فتكون النتيجة نتيجة التأكيد.وهذا بخلاف المقام فان ظهور القضية الشرطية في تعدد الحكم بما أ نّه ظهور لفظي
يكون رافعاً لظهور الجزاء في وحدة الحكم فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل 1.
ملخّص ما أفاده (قدس سره) نقطتان:
الاُولى: أنّ القضية الشرطية ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطه،حيث إنّ الشرط فيها هو الموضوع في القضية الحقيقية بعينه،ولا شبهة في انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعه،ونتيجة ذلك هي تعدد الحكم بتعدد سببه وشرطه من دون فرق بين أن يكون التعدد بحسب الأفراد أو الأجناس.
الثانية: أنّ تعلق الطلب بشي والبعث نحوه يقتضي إيجاده في الخارج ونقض عدمه،فاذا فرض تعلق الطلب به ثانياً فهو يقتضي في نفسه إيجاده كذلك،نظراً إلى أنّ تعدد البعث يقتضي تعدد الانبعاث نحو الفعل لا محالة. ودعوى أنّ متعلق الطلب والبعث بما أ نّه صرف الوجود فهو غير قابل للتكرر،وعليه فبطبيعة الحال تكون نتيجة الطلبين إلى طلب واحد،بمعنى أنّ الطلب الثاني يكون مؤكداً للأوّل خاطئة جداً، وذلك لأن متعلق الطلب والبعث إيجاد الطبيعة،ومن المعلوم أنّ إيجادها يتعدد بتعدد وجوداتها في الخارج،فيكون لكل وجود منها فيه إيجاد خاص فلا مانع من تعلق كل طلب بايجاد فرد منها،ولا موجب لحمل الطلب والبعث الثاني على التأكيد،فانّه يحتاج إلى قرينة وإلّا فكل بعث نحو فعلٍ يقتضي في نفسه انبعاث المكلف إلى إيجاده،غاية الأمر في صورة التعدد يقتضي إيجاده متعدداً فيكون إيجاد كل فرد متعلقاً لبعث،كما هو مقتضى انحلال الحكم بانحلال شرطه وموضوعه.
فالنتيجة على ضوء هاتين النقطتين:هي أ نّه لا موضوع للتعارض بين ظهور
القضية الشرطية في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور الجزاء في وحدة التكليف،حيث لا ظهور للجزاء في ذلك،بل قد عرفت أنّ تعدد الطلب والبعث ظاهر في نفسه في تعدد الانبعاث والمطلوب،فالحمل على التأكيد يحتاج إلى قرينة من حال أو مقال،كما إذا علم من الخارج أنّ الأمر الثاني للتأكيد أو علم ذلك من جهة ذكر سبب واحد لكلا الأمرين،كما إذا كرّر نفس السبب في القضية الاُولى مرّةً ثانية من دون التقييد بقيد كمرّةً اخرى أو نحوها،مثل ما إذا قال المولى:إن جامعت فكفّر ثمّ قال:إن جامعت فكفّر،ففي مثل ذلك لا محالة يكون الأمر في القضية الثانية للتأكيد دون التأسيس،حيث إنّ ذكر سبب واحد لكليهما معاً قرينة على ذلك.
وأمّا إذا لم تكن قرينة في البين فلا محالة يكون تعدد الأمر ظاهراً في تعدد المطلوب فيكون تكليفان متعلقان بطبيعة واحدة،فاذا أتى المكلف بها مرّةً سقط أحدهما من دون تعيين،وإذا أتى بها مرّةً ثانية سقط الآخر،ونظير ذلك:ما إذا أتلف أحد درهماً من شخص واستقرض منه درهماً آخر،فحينئذ الثابت في ذمته درهمان:أحدهما من ناحية الاتلاف والآخر من ناحية القرض،فاذا أدّى أحد الدرهمين سقط أحدهما عن ذمته وبقي الآخر من دون تعيين وتمييز في أنّ الساقط هو الدرهم التالف أو الدرهم القرض،حيث إنّه لا تمييز بينهما في الواقع وفي ظرف ثبوتهما-وهو الذمة-وكذا إذا كان الثابت في ذمته صوم يومين أو أزيد من جهة نذر أو عهد أو قضاء صوم شهر رمضان أو ما شاكل ذلك،ففي مثل ذلك لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما عن ذمته من دون تعيين،لفرض عدم واقع معيّن لهما حتى في علم اللّٰه تعالى.وكذا الحال فيما إذا كان مديوناً بصلاتين متماثلتين بناءً على عدم اعتبار الترتيب بينهما.
والنكتة في ذلك:أنّ ما ثبت في الذمة من تكليف كالصلاة والصوم ونحو
ذلك أو وضع إذا كان له طابع خاص وإطار مخصوص من ناحية الزمان أو المكان أو ما شاكل ذلك،فلا بدّ في مقام الوفاء من الاتيان بما ينطبق عليه ما له طابع خاص وإلّا لم يف به،كما إذا نذر صوم يومي الخميس والجمعة مثلاً حيث إنّ لكل منهما طابعاً خاصاً في الواقع فلا ينطبق على غيره.وأمّا إذا لم يكن له طابع خاص وخصوصية مخصوصة كما إذا نذر صوم يومين من الأيام من دون اعتبار خصوصية في شيء منهما،ففي مثل ذلك بطبيعة الحال لا يكون بينهما ميز في الواقع ونفس الأمر حتى في علم اللّٰه سبحانه باعتبار أ نّه لا واقع له ما عدى ثبوته في الذمة،فعندئذ لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما لا بعينه من دون تمييز،حيث لا يتوقف سقوطه على وجود ميز في الواقع.
ودعوى أ نّه لا يمكن الحكم بالسقوط في أمثال المقام،فانّ الحكم بسقوط هذا دون ذاك ترجيح من دون مرجّح والحكم بسقوط كليهما بلا موجب فلا محالة يتعين الحكم بعدم سقوط شيء منهما خاطئة جداً،حيث إنّ المفروض أ نّه لا تعيّن ولا ميز بينهما في الواقع ونفس الأمر حتى في علم اللّٰه تعالى ليقال إنّ الساقط هذا أو ذاك،فانّ الاشارة تستدعي أن يكون بينهما ميز في الواقع،وقد عرفت عدمه.فاذن لا محالة يكون الساقط أحدهما المبهم غير المميز والمعيّن في الواقع لانطباقه على المأتي به في الخارج جزماً وهو واضح.
أمّا الكلام في المقام الثاني -وهو التداخل في المسببات-فلا شبهة في أنّ مقتضى القاعدة هو عدم التداخل،لوضوح أنّ تعدد التكليف يقتضي تعدد الامتثال،والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل،وقد قام الدليل على ذلك في باب الغسل،حيث قد ثبت أنّ الغسل الواحد يجزئ عن الأغسال المتعددة ولو كان ذلك هو غسل الجمعة يعني لم يكن واجباً.وأمّا فيما لم يقم
دليل على ذلك فلا مناص من الالتزام بتعدد الامتثال،كما إذا وجبت على المكلف كفارة متعددة من ناحية أ نّه أتى أهله مثلاً في نهار شهر رمضان مرّات متعددة،أو من ناحية اخرى ففي مثل ذلك لا تكفي كفارة واحدة عن الجميع حيث قد عرفت أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط التكاليف المتعددة بامتثال واحد.
نعم،يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين متعلقي التكليفين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضيتي أكرم عالماً وأكرم هاشمياً، فانّ مقتضى القاعدة فيه هو سقوط كلا التكليفين معاً باتيان المجمع وامتثاله – وهو إكرام العالم الهاشمي-لانطباق متعلق كل منهما عليه،ومن الطبيعي أ نّه لا يعتبر في تحقق الامتثال عقلاً إلّاالاتيان بما ينطبق عليه متعلق الأمر.
وبكلمة اخرى:أنّ مقتضى إطلاق متعلق كل من الدليلين هو جواز امتثالهما منفرداً ومجتمعاً،حيث إنّ إكرام العالم لا يكون مقيداً بغير الهاشمي وبالعكس، وعليه فلا محالة إذا أتى المكلف بالمجمع بينهما انطبق عليه متعلق كل منهما،وهذا معنى سقوط كلا التكليفين بفعل واحد.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ المقام ليس من تأكد الحكم في مورد الاجتماع أصلاً كما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وذلك لأنّ التأكد في أمثال المقام إنّما يتصور فيما إذا تعلق كل من الحكمين بنفس مورد الاجتماع،كما إذا كان التكليف في كل من العامين من وجه انحلالياً،فعندئذ يكون مورد الالتقاء والاجتماع بنفسه متعلّقاً لكلا الحكمين معاً فيحصل التأكد بينهما فيصبحان حكماً واحداً مؤكداً،لاستحالة بقاء كل منهما بحدّه،وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف في كل منهما بدلياً كما هو المفروض في المقام،فعندئذ لا يكون المجمع
بنفسه مورداً لكل من الحكمين،بل هو مما ينطبق عليه متعلق كل منهما،حيث إنّ متعلق التكليف في العموم البدلي هو الطبيعي الجامع الملغى عنه الخصوصيات، فالفرد المأتي به ليس بنفسه متعلقاً للأمر ليتأكد طلبه عند تعلق الأمرين به،بل هو مصداق لما يتعلق به الطلب والأمر.فالنتيجة:أنّ التداخل في أمثال المقام على القاعدة فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة.
وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة بين الواجب والمستحب عموماً من وجه وكان كل من الوجوب والاستحباب متعلقاً بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات،أو كانت النسبة بين المستحبين كذلك.والأوّل كالنسبة بين صوم الاعتكاف،وصوم شهر رمضان أو قضائه أو صوم واجب بالنذر أو نحوه، حيث إنّ النسبة بينهما عموم من وجه،فاذا أتى المكلف بالمجمع بينهما فانّه يجزئ عن كليهما معاً،لانطباق متعلق كل منهما عليه.والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب،حيث إنّ الأمر المتعلق بكل منهما مطلق فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال باتيان المجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب،فانّها تجزئ عن كليهما معاً،لانطباق متعلق كل منهما عليها،وكذا الحال بين صلاة جعفر ونافلة المغرب.
نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الاُولى: أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط،وأمّا انتفاء شخص الحكم المعلّق عليه بانتفائه فهو قهري فلا صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم،فالمراد منه انتفاء فرد آخر من الحكم عن الموضوع المذكور فيها بانتفاء الشرط.وعلى هذا فلا يكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه من المفهوم في شيء،ولا يفرق في ذلك بين كون الحكم المستفاد من الجزاء
مدلولاً إسمياً أو حرفياً.
الثانية: أ نّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً،كان تعدده على نحو التركيب أو التقييد.
الثالثة: أنّ الحكم الثابت في طرف الجزاء المعلّق على الشرط قد يكون انحلالياً وقد يكون غير انحلالي،وعلى الأوّل فهل مفهومه إيجاب جزئي أو كلي ؟ اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) الثاني،والصحيح هو الأوّل وقد تقدم تفصيل ذلك بشكل موسّع.
الرابعة: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فمقتضى القاعدة فيه هو أنّ الشرط أحدهما،حيث إنّها تقتضي تقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، فالنتيجة من ذلك هي نتيجة العطف بكلمة أو.
الخامسة: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل القاعدة تقتضي التداخل في الأسباب أو المسببات أو لا هذا ولا ذاك،وقد تقدم أنّ مقتضى القاعدة عدم التداخل في كلا المقامين،فالتداخل يحتاج إلى دليل،وقد قام الدليل عليه في بابي الوضوء والغسل على تفصيل قد سبق.
السادسة: أنّ كون الأسباب الشرعية معرّفات لا يرجع عند التحليل إلى معنىً صحيح ومعقول.
السابعة: أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان كل من الشرط والجزاء قابلاً للتعدد والتكرر وإلّا فلا موضوع لهذا البحث على ما عرفت بشكل موسّع.
الثامنة: أنّ مقتضى القاعدة التداخل في المسبب فيما إذا كانت النسبة بين
الدليلين عموماً من وجه وكان العموم فيهما بدلياً،فانّ الاتيان بالمجمع في مورد الاجتماع يجزئ عن كلا التكليفين،لانطباق متعلق كل منهما عليه.
الأوّل: أنّ محل الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضية بأن يكون مذكوراً فيها كقولنا:أكرم إنساناً عالماً،أو رجلاً عادلاً،أو ما شاكل ذلك.
وأمّا الوصف غير المعتمد على موصوفه كقولنا:أكرم عالماً أو عادلاً أو نحو ذلك فهو خارج عن محل الكلام ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم،ضرورة أ نّه لو كان داخلاً في محل الكلام لدخل اللقب فيه أيضاً،لوضوح أ نّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية،فكما أنّ الأوّل لا يدل على المفهوم من دون خلاف فكذلك الثاني،ومجرد أنّ الوصف ينحل بتعمل من العقل إلى شيئين:ذات ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الاشتقاقية لا يوجب فارقاً بينه وبين اللقب في هذه الجهة،حيث إنّ هذا الانحلال لا يتعدى عن افق النفس إلى افق آخر فلا أثر له في القضية في مقام الاثبات والدلالة أصلاً،حيث إنّ المذكور فيها شيء واحد وهو الوصف دون موصوفه.
وكيف كان،فالظاهر أ نّه لا خلاف ولا إشكال في عدم دلالته على المفهوم، والسبب فيه هو أنّ الحكم الثابت في القضية لعنوانٍ اشتقاقياً كان أو ذاتياً فلا تدل القضية إلّاعلى ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلاً فيه،وأمّا انتفاؤه عن غيره فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة،بل لو دلّ على المفهوم لكان
الوصف الذاتي أولى بالدلالة،نظراً إلى أنّ المبدأ فيه مقوّم للذات وبانتفائه تنتفي الذات جزماً،وهذا بخلاف الوصف غير الذاتي فانّ المبدأ فيه حيث إنّه خارجي غير مقوّم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات بانتفائه.فالنتيجة أ نّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف،فانّ ملاك عدم الدلالة فيهما واحد.
الثاني: أنّ الوصف تارةً يكون مساوياً لموصوفه كقولنا:أكرم إنساناً ضاحكاً وما شاكله،واُخرى يكون أعم منه مطلقاً كقولنا:أكرم إنساناً ماشياً،وثالثةً يكون أخص منه كذلك كقولنا:أضف انساناً عالماً،ورابعةً يكون أعم منه من وجه كقوله (عليه السلام):«في الغنم السائمة زكاة» 1.
أمّا الأوّل والثاني:فلا إشكال في خروجهما عن محل النزاع والوجه فيه ظاهر،وهو أنّ الوصف في هاتين الصورتين لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف حتى يكون له دلالة على المفهوم،حيث إنّ معنى دلالة الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه،وهذا فيما لا يوجب انتفاؤه انتفاء الموصوف،والمفروض أنّ في هاتين الصورتين يكون انتفاؤه موجباً لانتفاء الموصوف فلا موضوع لدلالته على المفهوم.
وأمّا الثالث:فلا إشكال في دخوله في محل الكلام،فانّ ما ذكرناه من الملاك لدلالته على المفهوم موجود فيه.
وأمّا الرابع:فهو أيضاً داخل في محل الكلام حيث إنّه يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيد الغنم في المثال المتقدم بخصوص السائمة،فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدل على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضية بانتفائه،فلا زكاة في الغنم المعلوفة.نعم،لا يدل على انتفائه عن غير
هذا الموضوع كالابل المعلوفة كما نسب ذلك إلى بعض الشافعية 1فنفى وجوب الزكاة عن الابل المعلوفة استناداً إلى دلالة وصف الغنم بالسائمة على انتفاء حكمها،يعني وجوب الزكاة عن فاقد هذا الوصف مطلقاً ولو كان موضوعاً آخر،ووجه عدم دلالته على ذلك واضح،لما عرفت من أنّ معنى دلالته على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه،وأمّا غير المذكور فيها فلا يكون فيه تعرض لحكمه لا نفياً ولا إثباتاً،فما نسب إلى بعض الشافعية لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً.
وبعد ذلك نقول: إنّ الصحيح هو عدم دلالة الوصف على المفهوم،بيان ذلك:أنّ دلالة القضية على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلق،وبما أنّ الوصف في القضية يكون قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم أصلاً،فانّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على نفيه عن غيره،ضرورة أنّ ثبوت شيء لشيء لا يدل بوجه على نفيه عن غيره،ولا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع شيئاً واحداً كاللقب أو كالوصف غير المعتمد على موصوفه أو يكون مقيداً بقيد كالموصوف المقيد بوصف خاص،فانّ ملاك عدم الدلالة على المفهوم في الجميع واحد،وهو أنّ ثبوت حكم لموضوع خاص وإن كان مركباً أو مقيداً لا يدل على نفيه عن غيره،فلا فرق بين قولنا:أكرم رجلاً وأكرم رجلاً عادلاً،حيث إنّهما يشتركان في نقطة واحدة وهي الدلالة على ثبوت الحكم لموضوع خاص، غاية الأمر أنّ الموضوع في الجملة الثانية مقيد بقيد خاص فتدل على ثبوت الحكم له ولا تدل على نفيه عن غيره كما إذا كان الموضوع واحداً.
ومن ضوء ذلك يظهر الفرق بين القضية الوصفية والقضية الشرطية،نظراً إلى أنّ الشرط في القضية الشرطية راجع إلى الحكم دون الموضوع فيكون الحكم معلّقاً عليه فلأجل ذلك تدل على انتفائه عند انتفاء الشرط،وهذا بخلاف الوصف في القضية الوصفية فانّه راجع إلى الموضوع فيها دون الحكم.
فالنتيجة أنّ دلالة الوصف على المفهوم ترتكز على أن يكون قيداً لنفس الحكم لا لموضوعه أو متعلقه وإلّا فلا دلالة له عليه أصلاً.
ولكن مع ذلك قد يستدل على المفهوم بوجوه:
الأوّل: أنّ الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان الآتي به لاغياً وهو مستحيل في حقّ المتكلم الحكيم،فاذن لا مناص من الالتزام بدلالته عليه.
ويرد عليه: أ نّه مبني على إحراز أنّ الداعي للآتي به ليس إلّادخله في الحكم نفياً وإثباتاً حدوثاً وبقاءً بمعنى أ نّه علة منحصرة له،فاذا كان كذلك فبطبيعة الحال ينتفي الحكم عن الموصوف بانتفائه.
ولكن من المعلوم أنّ هذا الاحراز يتوقف أوّلاً:على كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق،وقد عرفت أنّ الأمر بالعكس تماماً.
وثانياً:على الالتزام بأنّ إثبات حكم لموضوع خاص يدل على انتفائه عن غيره،وقد مرّ أ نّه لا يدل على ذلك،بل لا يكون فيه إشعار به فضلاً عن الدلالة.
وثالثاً:على أن لا يكون الداعي له أمراً آخر حيث إنّ فائدته لا تنحصر بما ذكر.
ورابعاً:على أ نّه لا يكفي في الخروج عن كونه لغواً الالتزام بدلالته على اختصاص الحكم بحصة خاصة من موصوفه وعدم ثبوته له على نحو الاطلاق،
والمفروض أ نّه يكفي في ذلك ولا يتوقف على الالتزام بدلالته على المفهوم – وهو الانتفاء عند الانتفاء-.
فالنتيجة:أنّ هذا الوجه ساقط فلا يمكن الاستدلال به على إثبات المفهوم للوصف.
الثاني: أنّ الوصف الموجود في الكلام مشعر بعليته للحكم عند الاطلاق.
ويرد عليه: أنّ مجرد الاشعار على تقدير ثبوته لا يكفي لاثبات المفهوم جزماً،حيث إنّه لا يكون من الدلالات العرفية التي تكون متبعة عندهم،بل لا بدّ في إثبات المفهوم له من إثبات ظهور القضية في كون الوصف علةً منحصرةً للحكم المذكور فيها،ومن الطبيعي أنّ إثبات ظهورها في كونه علةً في غاية الاشكال بل خرط القتاد،فما ظنك بظهورها في كونه علةً منحصرةً،كيف حيث إنّ مردّ هذا الظهور إلى كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق وأ نّه يدور مداره وجوداً وعدماً وبقاءً وارتفاعاً،وقد تقدم أنّ القضية الوصفية ظاهرة في كون الوصف قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم.فالنتيجة أنّ مجرد الاشعار بالعلية غير مفيد وما هو مفيد-وهو الظهور فيها-فهو غير موجود.
الثالث: أنّ القضية الوصفية لو لم تدل على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيد،حيث إنّ النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره،وبدون توفر هذه النكتة لا موجب له،ومن الطبيعي أنّ هذه النكتة بعينها هي نكتة دلالة الوصف على المفهوم.
ويرد عليه: أنّ نكتة حمل المطلق على المقيد غير تلك النكتة،فانّها نكتة
دلالة القيد على المفهوم وقد عرفت عدم توفرها فيه وأ نّه لا يدل على المفهوم أصلاً.وأمّا حمل المطلق على المقيد فلا يتوقف على تلك النكتة،فانّه على ضوء نظرية المشهور يتوقف على أن يكون التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصرف وجوده،ففي مثل ذلك إذا تعلق التكليف في دليل آخر بحصة خاصة منه وعلم من القرينة أنّ التكليف واحد حمل المطلق على المقيد،نظراً إلى أنّ المقيد قرينة بنظر العرف على التصرف في المطلق،ومن المعلوم أ نّه لا صلة لهذا الحمل بدلالة القيد على المفهوم أي نفي الحكم عن غير مورده،ضرورة أنّ المقيد لا يدل إلّا على ثبوت الحكم لموضوع خاص من دون دلالة له على نفيه عن غيره بوجه، ومع ذلك يحمل المطلق على المقيد.وأمّا إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بمطلق وجوده المستلزم انحلاله بانحلال وجوداته وأفراده خارجاً،ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيد،لعدم التنافي بينهما،وذلك كما إذا ورد في دليل:أكرم كل عالم،وورد في دليل آخر:أكرم كل عالم عادل،فلا موجب لحمل الأوّل على الثاني أصلاً،حيث إنّ النكتة التي توجب حمل المطلق على المقيد غير متوفرة هنا فلا مانع من أن يكون كل منهما واجباً،غاية الأمر يحمل المقيد هنا على أفضل أفراد الواجب.
وأمّا بناءً على ضوء نظريتنا من عدم الفرق في حمل المطلق على المقيد بين ما كان التكليف واحداً أو متعدداً،فأيضاً لا يتوقف هذا الحمل على دلالة القيد على المفهوم يعني نفي الحكم عن غير مورده،بل يكفي فيه دلالته على عدم ثبوت الحكم للطبيعي على نحو الاطلاق،وسنبيّن إن شاء اللّٰه تعالى عن قريب أ نّه لا شبهة في دلالته على ذلك كما أ نّه لا شبهة في عدم دلالته على نفي الحكم عن غير مورده.
وعلى الجملة:سوف نذكر في مبحث المطلق والمقيد إن شاء اللّٰه 1أنّ ظهور المطلق في الاطلاق كما يتوقف حدوثاً على عدم دليل صالح للتقييد كذلك بقاءً، حيث إنّ ظهوره يتوقف على جريان مقدمات الحكمة،ومن الواضح أ نّها لا تجري مع وجود الدليل الصالح للتقييد،والمفروض أنّ دليل المقيد يكون صالحاً لذلك عرفاً.ومما يدل على أنّ حمل المطلق على المقيد لا يبتني على دلالة القضية الوصفية على المفهوم،هو أ نّه يحمل المطلق على المقيد حتى في الوصف غير المعتمد على موصوفه،كما إذا ورد في دليل:أكرم عالماً،وورد في دليل آخر:أكرم فقيهاً،يحمل الأوّل على الثاني مع أ نّه لا يدل على المفهوم أصلاً.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ النكتة التي ذكرناها في القضية الشرطية لدلالتها على المفهوم عرفاً-وهي تعليق الحكم فيها على الشرط تعليقاً مولوياً-غير متوفرة في القضية الوصفية،حيث إنّ الحكم فيها غير معلّق على الوصف،يعني أنّ الوصف ليس قيداً للحكم كالشرط بل هو قيد للموضوع أو المتعلق،ومن المعلوم أنّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على انتفائه عن غيره.فما ذكرناه لحدّ الآن هو المعروف والمشهور بين الأصحاب في تقرير المسألة.
ولكنّ الصحيح فيها هو التفصيل،بيان ذلك:أنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم تارةً بمعنى أنّ تقييد الموضوع أو المتعلق به يدل على انتفاء الحكم عن غيره،فلو ورد في الدليل:أكرم رجلاً عالماً يدل على انتفاء وجوب الاكرام عن غير مورده،يعني عن الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسبب آخر.واُخرى بمعنى أنّ تقييده به يدل على عدم ثبوت الحكم له
على نحو الاطلاق،أو فقل:إنّ معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الاطلاق وأ نّه غير ثابت له كذلك.
فإن كان النزاع في المعنى الأوّل فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى،ضرورة أنّ قولنا:أكرم رجلاً عالماً لا يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة اخرى منه كالرجل العادل أو الهاشمي أو ما شاكل ذلك،لوضوح أ نّه لا تنافي بين قولنا:أكرم رجلاً عالماً،وقولنا:أكرم رجلاً عادلاً مثلاً بنظر العرف أصلاً،فلو دلت الجملة الاُولى على المفهوم-أي نفي الحكم عن حصص اخرى منه-لكان بينهما تنافٍ لا محالة.وقد تقدم وجه عدم دلالته على المفهوم بشكل موسع.
وإن كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر أ نّه يدل على المفهوم بهذا المعنى.
ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلقه إلّاأن تقوم قرينة على عدم دخله فيه،ففي مثل قولنا:أكرم رجلاً عالماً،يدل على أنّ وجوب الاكرام لم يثبت لطبيعي الرجل على الاطلاق ولو كان جاهلاً،بل ثبت لخصوص حصة خاصة منه-وهي الرجل العالم-وكذا قولنا:أكرم رجلاً هاشمياً،أو أكرم عالماً عادلاً وهكذا،والضابط أنّ كل قيد اتي به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلق، يعني أنّ الحكم غير ثابت له إلّامقيداً بهذا القيد لا مطلقاً،وإلّا لكان القيد لغواً،فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة.
والحاصل:أنّ مثل قولنا:أكرم رجلاً عالماً وإن لم يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة اخرى من الرجل كالعادل أو نحوه ولو بملاك آخر،إلّاأ نّه لا شبهة في دلالته على أنّ وجوب الاكرام غير ثابت لطبيعي الرجل على نحو الاطلاق.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إن كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسبب آخر،فقد عرفت أ نّها لا تدل على ذلك بوجه،بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة.وإن كان في دلالتها على نفي هذا الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فقد عرفت أ نّها تدل على ذلك جزماً،حيث لا شبهة في ظهورها فيه إلّافيما قامت قرينة على خلافه.ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه وغير المعتمد عليه كقولنا:أكرم عالماً مثلاً،فانّه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وإن انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيء له العلم إلّاأ نّه لا أثر له في مقام الاثبات بعد ما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان:
أحدهما موصوف والآخر صفة له.
ثمّ إنّ هذه النقطة التي ذكرناها قد اهملت في كلمات الأصحاب ولم يتعرضوا لها في المقام لا نفياً ولا إثباتاً،مع أنّ لها ثمرة مهمة في الفقه،منها:ما في مسألة حمل المطلق على المقيد حيث إنّ المشهور قد خصّوا تلك المسألة-فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين-بما إذا كان التكليف فيهما واحداً،وأمّا إذا كان متعدداً فلا يحملوا المطلق على المقيد.وأمّا على ضوء ما ذكرناه من النقطتين فيحمل المطلق على المقيد ولو كان التكليف متعدداً،كما إذا ورد في دليل:لا تكرم عالماً،وورد في دليل آخر:لا تكرم عالماً فاسقاً،فانّه يحمل الأوّل على الثاني مع أنّ التكليف فيهما انحلالي.وكذا إذا ورد في دليل:أكرم العلماء ثمّ ورد في دليل آخر:أكرم العلماء العدول،فيحمل الأوّل على الثاني،والنكتة في ذلك هي ظهور القيد في الاحتراز،يعني أ نّه يدل على أنّ الحكم-وهو وجوب الاكرام – لم يثبت للعالم على نحو الاطلاق،وإنّما ثبت لحصة خاصة منه-وهو العالم العادل في المثال دون العالم مطلقاً ولو كان فاسقاً-ومن الواضح أ نّه لا فرق في
دلالة القيد على ذلك بين كون التكليف واحداً أو متعدداً.
نلخّص هذا المبحث في ضمن عدة نقاط:
الاُولى: أنّ محل الكلام هنا كما عرفت إنّما هو في الوصف المعتمد على موصوفه،وأمّا غير المعتمد فيكون حاله حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم.
الثانية: أنّ ملاك الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعاً إلى الحكم، وأمّا إذا كان راجعاً إلى الموضوع أو المتعلق فلا دلالة له عليه،وبما أنّ الوصف من القيود الراجعة إلى الموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم.
الثالثة: أ نّه قد استدلّ على المفهوم بوجوه ثلاثة وقد عرفت نقدها جميعاً.
الرابعة: أنّ الحق في المقام هو التفصيل على شكل قد تقدم.
الخامسة: أنّ لهذه الدلالة ثمرة مهمة تظهر في الفقه.
يقع الكلام فيه في مقامين،الأوّل:في المنطوق.الثاني:في المفهوم.
أمّا المقام الأوّل: فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم المغيّي وعدم دخولها فيه فيما إذا كانت الغاية غايةً للمتعلق أو الموضوع على وجوه بل أقوال،ثالثها:التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّي وعدم كونها من جنسه،فعلى الأوّل الغاية داخلة فيه دون الثاني.ورابعها:التفصيل بين كون الغاية مدخولةً لكلمة«حتى»وكونها مدخولةً لكلمة«إلى»فعلى الأوّل هي داخلة في المغيّي دون الثاني.
وقد قبل هذا التفصيل في الجملة شيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث قال:
وهذا التفصيل وإن كان حسناً في الجملة لأنّ كلمة«حتى»تستعمل غالباً في إدخال الفرد الخفي في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلةً في المغيّى لا محالة،لكن هذا ليس بنحو الكلية والعموم فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه،والحكم فيه بدخول الغاية في حكم المغيّى أو عدمه 1.
ولكنّ الصحيح هو القول الثاني،يعني عدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً، فلنا دعويان،الاُولى:صحة هذا القول.الثانية:بطلان سائر الأقوال.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ المرجع في المقام إنّما هو فهم العرف وارتكازهم، والظاهر أنّ المتفاهم العرفي من القضية المغيّاة بغاية كقولنا:صم إلى الليل وكقوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ» 2وما شاكلهما هو عدم دخول الغاية في المغيّى إلّافيما قامت قرينة على الدخول كما في مثل قولنا:
سرت من البصرة إلى الكوفة أو ما شاكل ذلك.
وأمّا الدعوى الثانية: فيظهر مما ذكرناه في الدعوى الاُولى بطلان القول الأوّل والثالث،حيث إنّه لا فرق في فهم العرف كما عرفت بين كون الغاية من جنس المغيّى وعدمه،وكذا القول الرابع بعين هذا الملاك،وأمّا ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الفرق في الجملة بين كون الغاية مدخولةً لكلمة«إلى» وكونها مدخولةً لكلمة«حتى»نشأ من الخلط بين مورد استعمال كلمة«حتى» عاطفةً،وموارد استعمالها لافادة كون مدخولها غايةً لما قبلها،فانّها في أيّ مورد من الموارد إذا استعملت لادراج الفرد الخفي كما في مثل قولنا:مات
الناس كلّهم حتى الأنبياء،لا تدل على كون ما بعدها غايةً لما قبلها،بل هي من أدوات العطف.فالنتيجة:أنّ مقتضى الظهور العرفي والارتكاز الذهني عدم دخول الغاية في المغيّى،هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
وأمّا المقام الثاني: فالغاية قد تكون غايةً للموضوع كما في مثل قوله تعالى:
«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ»
1
وقد تكون غايةً للمتعلق كقوله تعالى: «أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَى اللَّيْلِ» 2.وقد تكون غايةً للحكم كقوله (عليه السلام):
«كل شيء لك حلال حتى تعلم أ نّه حرام» 3وقوله (عليه السلام):«كل شيء نظيف حتى تعلم أ نّه قذر» 4أو كقولنا:يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه، فانّ الغاية في أمثال هذه الموارد غاية للحكم دون المتعلق أو الموضوع.وأمّا إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم ترتكز على دلالة الوصف عليه،حيث إنّ المراد من الوصف كما عرفت مطلق القيد الراجع إلى الموضوع أو المتعلق،سواء أكان وصفاً اصطلاحياً أو حالاً أو تمييزاً أو ظرفاً أو ما شاكل ذلك،وعليه فالتقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف.
وأمّا إذا كانت غاية للحكم فالكلام فيها تارةً يقع في مقام الثبوت،واُخرى في مقام الاثبات.
أمّا المقام الأوّل: فلا شبهة في دلالة القضية على انتفاء الحكم عند تحقق
الغاية،بل لا يبعد أن يقال:إنّ دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة القضية الشرطية عليه،ضرورة أ نّه لو لم يدل على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه،يعني ما فرض غايةً له ليس بغاية وهذا خلف،فاذن لا ريب في الدلالة على المفهوم في هذا المقام.
وأمّا المقام الثاني: وهو مقام الاثبات،فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل-وهو المتعلق-دون الموضوع،حيث إنّ حالها حال بقية القيود،فكما أنّ الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار أ نّه معنىً حدثي كذلك الظاهر من الغاية.وأمّا رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدل عليه كما في الآية الكريمة المتقدمة حيث إنّ قوله تعالى: «إِلَى الْمَرٰافِقِ» 1في هذه الآية غاية للموضوع وهو اليد لا للمتعلق وهو الغسل،وذلك لأجل قرينة وخصوصية في المقام وهي إجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو قرينة على أ نّه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حدّ المغسول من اليد ومقداره،ومن هنا قد اتفق الشيعة والسنّة على أنّ الآية في مقام تحديد المغسول،لا في مقام بيان الترتيب،ولذا يقول العامة 2بجواز الغسل من المرفق إلى الأصابع وأفتوا بذلك،وإن كانوا بحسب العمل الخارجي ملتزمين بالغسل منكوساً،ونظير الآية في ذلك المثال المشهور:اكنس المسجد من الباب إلى المحراب،فانّه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في أنّ كلمة«إلى»غاية للموضوع وبيان لحدّ المسافة التي امر بكنسها،وليست في مقام بيان الترتيب،ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»
1
حيث إنّ الظاهر بمقتضى خصوصية المقام هو أنّ كلمة«إلى»غاية لتحديد حدّ الممسوح لا لبيان الترتيب،ومن هنا ذهب المشهور إلى جواز المسح منكوساً وهو الأقوى،إذ مضافاً إلى إطلاق الآية فيه رواية خاصة.هذا كلّه فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة.
وأمّا إذا كان الحكم فيها مستفاداً من مادة الكلام فان لم يكن المتعلق مذكوراً فيه كقولنا:يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه،فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم،وأمّا إذا كان المتعلق مذكوراً فيه كما في مثل قولنا:يجب الصيام إلى الليل،فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلق،فلا تكون لها دلالة على المفهوم لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ الحكم في القضية إن كان مستفاداً من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيداً للمتعلق لا للموضوع، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2من أنّ مفاد الهيئة معنىً حرفي،والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد،وذلك لما حققناه في بحث الواجب المشروط 3من أ نّه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة،بل الوجه فيه هو أنّ القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة،وإن كان الحكم مستفاداً من مادة الكلام فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم إن لم يكن المتعلق
مذكوراً وإلّا فلا ظهور له في شيء منهما،فدلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضية في رجوعها إلى الحكم ولو بمعونة قرينة.
نتائج هذا البحث عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الصحيح هو القول بعدم دخول الغاية في المغيّى مطلقاً،أي سواء أكانت من جنسه أم لم تكن،وسواء أكانت بكلمة«إلى»أم كانت بكلمة«حتى»، فما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل بينهما قد عرفت نقده.
الثانية: أنّ الغاية إذا كانت قيداً للمتعلق أو الموضوع فحالها حال الوصف فلا تدل على المفهوم،وإذا كانت قيداً للحكم فحالها حال القضية الشرطية،بل لا يبعد كونها أقوى دلالةً منها على المفهوم.
الثالثة: أنّ الغاية في القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من الهيئة ظاهرة في رجوعها إلى المتعلق،فالرجوع إلى الموضوع يحتاج إلى دليل،وفي القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من المادة،فإن لم يكن المتعلق مذكوراً فيها فالظاهر هو رجوعها إلى الحكم،وإلّا فهي مجملة من هذه الجهة.
يقع الكلام في أداته، منها: كلمة«إلّا»ولا يخفى أنّ هذه الكلمة إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء كما هو الظاهر منها عرفاً كقولنا مثلاً:
جاء القوم إلّازيداً،فانّها تدل على نفي الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ولذا يكون الاستثناء من الاثبات نفياً ومن النفي إثباتاً،وأمّا إذا كانت صفة بمعنى«غير»فلا تدل على ذلك،بل حالها حينئذ حال سائر قيود الموضوع،
وقد تقدم عدم دلالتها على المفهوم.
ومنها: كلمة«إنّما»وقد نص أهل الأدب 1على أ نّها من أداة الحصر وتدل عليه.هذا مضافاً إلى أ نّه المتبادر منها أيضاً.نعم،ليس لها مرادف في لغة الفرس على ما نعلم حتى نرجع إلى معنى مرادفها في تلك اللغة لنفهم معناها، نظراً إلى أنّ الهيئات مشتركة بحسب المعنى في تمام اللغات،مثلاً لهيئة اسم فاعل معنىً واحد في تمام اللغات بشتى أنواعها وكذا غيرها،وهذا بخلاف المواد فانّها تختلف باختلاف اللغات.وكيف كان فيكفي في كون هذه الكلمة أداةً للحصر ومفيدةً له تصريح أهل الأدب بذلك من جهة،والتبادر من جهة اخرى.
ثمّ إنّها قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة وقد تستعمل في عكس ذلك وهو الغالب.
وعلى الأوّل فهي تستعمل في مقام التجوز أو المبالغة كقولنا:إنّما زيد عالم أو مصلح أو ما شاكل ذلك،مع أنّ صفاته لا تنحصر به حيث إنّ له صفات اخرى غيره،ولكنّ المتكلم بما أ نّه بالغ فيه وفرض كأ نّه لا صفة له غيره فجعله مقصوراً عليه ادعاءً.
وعلى الثاني فهي تفيد الحصر كقولنا:إنّما الفقيه زيد مثلاً،وإنّما القدرة للّٰه تعالى وما شاكل ذلك،فانّها تدل في المثال الأوّل على انحصار الفقه به وأنّ فقه غيره في جنبه كالعدم.وفي المثال الثاني على انحصار القدرة به (سبحانه وتعالى) حيث إنّ قدرة غيره في جنب قدرته كلاقدرة،وإن كان له أن يفعل وله أن يترك،إلّاأنّ هذه القدرة ترتبط بقدرته تعالى في إطار ارتباط المعلول بالعلة، وتستمد منها في كل آن بحيث لو انقطع الامداد منها في آنٍ انتفت القدرة في ذلك
الآن،وقد أوضحنا ذلك بشكل موسّع في ضمن البحوث المتقدمة في مسألة الأمر بين الأمرين 1.فالنتيجة:أنّ هذه الكلمة غالباً تستعمل في قصر الصفة على الموصوف وهي تفيد الحصر عندئذ.نعم،قد تستعمل للمبالغة في هذا المقام أيضاً،وعندئذ لا تدل على الحصر.
ثمّ إنّ العجب من الفخر الرازي 2حيث أنكر دلالة كلمة«إنّما»على الحصر وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ» 3فانّه بعد إنكاره أنّ المراد من «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» إلخ في الآية هو علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) كما قال الشيعة،بل المراد منه عامة المؤمنين قال:إنّ الشيعة قد استدلوا على أنّ الآية نزلت في حق علي (عليه السلام) بأنّ كلمة «إنّما»للحصر وتدل على حصر الولاية باللّٰه وبرسوله وبالذين موصوفون بالصفات المذكورة في الآية،ومن المعلوم أنّ من كان له هذه الصفات فهو الولي المتصرف في أمر الاُمّة وهو لا يكون إلّاالإمام (عليه السلام).
ودعوى أنّ المراد من الولي ليس معنى المتصرّف،بل هو بمعنى الناصر والمحب خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً،لأنّ الولاية بهذا المعنى تعم جميع المؤمنين فلاتختص باللّٰه وبرسوله وبالذي يكون موصوفاً بالصفات المزبورة، فاذن بطبيعة الحال يكون المراد من الولاية في الآية معنى التصرف والسلطنة، ومن المعلوم أ نّها بهذا المعنى تختص باللّٰه وبالرسول وبالإمام وهو علي بن أبي
طالب (عليه السلام).
ثمّ أورد على هذا الاستدلال بأ نّا لا نسلّم أنّ الولاية المذكورة في الآية غير عامة،حيث إنّ عدم العموم يبتني على كون كلمة«إنّما»مفيدة للحصر، ولا نسلّم ذلك،والدليل عليه قوله تعالى: «إِنَّمٰا مَثَلُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ السَّمٰاءِ» 1ولا شك أنّ الحياة الدنيا لها أمثال اخرى ولا تنحصر بهذا المثل.
وقوله تعالى: «إِنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» 2ولا شك في أنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها.
والجواب عنه أوّلاً: بالنقض بقوله تعالى: «وَ مَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلاّٰ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» 3وقوله سبحانه: «وَ مٰا هٰذِهِ الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلاّٰ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ» 4حيث لا شبهة في إفادة كلمة«إلّا»الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم إلّاأبو حنيفة 5فاذن ما هو جواب الفخر الرازي عن هاتين الآيتين.فان أجاب بأنّ عدم دلالة كلمة«إلّا»على الحصر فيهما إنّما هو من ناحية قيام قرينة خارجية على ذلك،وهو العلم الخارجي بعدم انحصار الحياة الدنيا بهما،نقول بعين هذا الجواب عن الآيتين المتقدمتين وأنّ عدم دلالة كلمة«إنّما»على الحصر فيهما إنّما هو من جهة القرينة الخارجية.
وثانياً: بالحل،بيان ذلك:أنّ الحياة مرّةً تضاف إلى الدنيا واُخرى تكون الدنيا صفةً لها.
أمّا على الأوّل فالمراد منها حياة هذه الدنيا في مقابل حياة الآخرة كما هو المراد في قوله تعالى: «مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا الدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا» 1وقوله تعالى:
«إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا الدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ»
2
فيكون المراد من الحياة فيهما هو حياة هذه الدنيا في قبال الآخرة،كما أنّ المراد من الحيوان في قوله تعالى: «وَ إِنَّ الدّٰارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوٰانُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ» 3هو الحياة الاُخروية.
وأمّا على الثاني وهو أن تكون الدنيا صفةً للحياة فالمراد منها الحياة الدانية في مقابل الحياة العالية الراقية،وهي بهذا المعنى تارةً تطلق ويراد منها الحياة في مقابل الحياة الاُخروية،نظراً إلى أنّ الحياة الدنيوية وإن كانت حياة الأنبياء والأوصياء فهي دانية بالاضافة إلى الحياة الاُخروية،حيث إنّها حياة راقية دائمية أبدية ومملوءة بالطمأنينة والراحة.وأمّا هذه الحياة فهي موقتة وزائلة ومقدّمة لتلك الحياة الأبدية ومملوءة بالتعب وعدم الراحة فكيف يقاس هذه بتلك،وعليه فبطبيعة الحال تكون الحياة في هذه الدنيا ولو كانت حياة عالية وراقية كحياة الأنبياء والصالحين التي هي مملوءة بالعبودية والاطاعة للّٰهسبحانه إلّا أ نّها مع ذلك تكون في جنب الحياة الاُخروية دانية.
وتارة اخرى تطلق ويراد منها الحياة الدانية في هذه الدنيا،في مقابل الحياة
الراقية فيها،يعني أنّ الحياة في هذه الدنيا على نوعين:أحدهما حياة دنيّة حيوانية كالحياة المملوءة باللعب واللهو ونحوهما.وثانيهما حياة عالية راقية كحياة الأنبياء والأولياء ومن يتلو تلوهما،حيث إنّ حياتهم بشتى أنواعها وأشكالها عبادة وطاعة للّٰهتعالى.
وبعد ذلك نقول:إنّ المراد من الحياة في الآية الثانية هي الحياة الدانية، فالدنيا صفة لها،وهي تنحصر باللعب واللهو،يعني أنّ الحياة الدنيّة في هذه الدنيا هي اللعب واللهو بمقتضى دلالة كلمة«إنّما»ويؤيد ذلك دلالة الآيتين المتقدمتين على حصر الحياة الدنيّة بهما.هذا مضافاً إلى أنّ في الآية الكريمة ليس كلمة«إنّما»بكسر الهمزة،بل هي بفتحها 1،ودلالتها على الحصر لا تخلو عن إشكال بل منع.فاذن لا وقع للاستشهاد بهذه الآية المباركة على عدم دلالة كلمة«إنّما»على الحصر.ومن هنا يظهر حال الآية الاُولى.
فالنتيجة:أنّ دلالة كلمة«إنّما»على الحصر واضحة،وإنكار الفخر دلالتها عليه مبني على العناد أو التجاهل.
ثمّ إنّه ذكر في مقام تقريب عدم دلالة الآية الثانية على الحصر بأنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها أي غير الحياة الدنيا،ففيه-مضافاً إلى منع ذلك – أنّ الآية في مقام بيان حصر الحياة الدنيا بهما،لا في مقام حصرهما بها،فلا يكون حصولهما في غير الحياة الدنيا يعني الحياة الاُخروية مانعاً عن دلالة الآية على الحصر.وإن أراد من ذلك حصولهما في الحياة العالية في هذه الدنيا وعدم انحصارهما بالحياة الدانية فيها،فيردّه أوّلاً:منع ذلك وأنّ الحياة العالية خالية عنها.وثانياً:أ نّه لا يضر بدلالة الآية على الحصر،فانّ الآية تدل على حصر
الحياة الدانية بهما ولا تدل على حصرهما بها،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم ؟ فيه وجهان.
اختار المحقق النائيني (قدس سره) الأوّل وقال:إنّ دلالتها على الحصر داخلة في الدلالات المنطوقية دون المفهومية 1نظراً إلى أنّ ضابط المفهوم لا ينطبق على المقام،حيث إنّ الركيزة الأساسية للمفهوم هي أنّ الموضوع فيه بعينه هو الموضوع في المنطوق،غاية الأمر أنّ دلالة القضية على ثبوت الحكم له على تقدير ثبوت المعلّق عليه تكون بالمطابقة في المنطوق وعلى انتفائه عنه عند انتفاء المعلّق عليه بالالتزام في المفهوم،وهذه الركيزة مفقودة في المقام،فانّ كلمة«إنّما»في مثل قولنا:إنّما الفقيه زيد،تدل على ثبوت الفقه لزيد ونفيه عن غيره،فلا يكون النفي والاثبات واردين على موضوع واحد.نعم،لا بأس بتسمية هذا بالمفهوم أيضاً ولا مشاحة فيها.كما أنّ دلالة كلمة«إلّا»على النفي أو الاثبات مسمّاة بالمفهوم مع أ نّهما غير واردين على موضوع واحد.وكيف كان فلا أثر لهذا البحث أصلاً.
وأمّا كلمة«إلّا»فلا شبهة في وضعها لافادة الحصر،ومن هنا ذهب بعض إلى أنّ دلالتها عليه بالمنطوق لا بالمفهوم.وكيف كان فلا خلاف في إفادتها ذلك إلّا عن أبي حنيفة 2حيث ذهب إلى عدم دلالتها عليه واستدل على ذلك بقوله (عليه السلام):«لا صلاة إلّابطهور» 3.
وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بوجوه:
الأوّل:أنّ المراد من الصلاة في هذا التركيب هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور،فيكون مفاده أنّ الصلاة التي كانت واجدةً للأجزاء والشرائط المعتبرتين فيها لا تكون صلاةً إلّاإذا كانت واجدةً للطهارة وبدونها لا تكون صلاة على القول بالصحيح وصلاة تامة على القول بالأعم.
ويرد عليه:أ نّه واضح البطلان،حيث إنّ لازم ذلك هو استعمال الصلاة في معانٍ متعددة حسب تعدد هذا التركيب،فانّها في هذا التركيب قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور،وفي مثل قوله (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم):
«لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» 2قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا فاتحة الكتاب،مع أنّ المتفاهم العرفي منها معنىً واحد في كلا التركيبين.
الثاني:أنّ عدم دلالتها على الحصر في مثل هذا التركيب إنّما هو من جهة وجود القرينة ولولاه لكانت دالة عليه.
وفيه:أ نّه لا قرينة هنا حيث إنّه لا فرق بين استعمالها في هذا التركيب واستعمالها في غيره من الموارد.
ولعلّه لأجل ذلك عدل عنه وأجاب بجواب ثالث وهو أنّ كلمة«إلّا»في مثل هذا التركيب تدل على نفي الامكان،يعني أنّ الصلاة لا تكون ممكنةً بدون الطهور ومعه تكون ممكنة.
وفيه:أنّ موارد استعمالاتها تشهد بأ نّها تستعمل للنفي الفعلي أو الاثبات
كذلك.
وبكلمة اخرى:أنّ ظاهر هذا التركيب كمثل قولنا:لا أقرأ القرآن إلّامع الطهارة ولا أزور الحسين (عليه السلام) إلّاحافياً ونحو ذلك،هو أنّ خبر«لا» المقدّر فيه موجود لا ممكن.فالنتيجة:أ نّه لا يمكن الاعتماد على شيء من هذه الوجوه ولا واقع موضوعي لها أصلاً.
فالصحيح في المقام أن يقال:إنّ المتفاهم العرفي من مثل هذا التركيب هو أنّ مردّه إلى قضيتين:ايجابية وسلبية،مثلاً قوله (عليه السلام):«لا صلاة إلّا بطهور»ينحل إلى قولنا:إنّ الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة وإذا تحققت فلا محالة تكون مع الطهارة،وكذا قولنا:لا آكل الطعام إلّامع الملح،فانّه ينحل إلى قولنا:إنّ الأكل لا يتحقق بدون ملح،وأ نّه متى تحقق تحقق مع ملح،وليس [ معنى ] قوله (عليه السلام):«لا صلاة إلّابطهور»أنّ الطهور متى تحقق تحققت الصلاة،وكذا قولنا:لا آكل الطعام إلّامع الملح،ليس معناه أنّ الملح متى تحقق تحقق الأكل،ومنه قولنا:لا اطالع الكتب إلّاكتب الفقيه،فانّ معناه ليس أ نّه متى تحقق كتب الفقيه تحققت المطالعة.ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجملة في مقام الاخبار أو الانشاء،كما أنّ المتبادر من جملة:«لا صلاة إلّابطهور»هو أ نّها مسوقة لانشاء شرطية الطهور للصلاة.وعلى الجملة:فلا شبهة في أنّ المتفاهم عرفاً من أمثال هذه التراكيب ما ذكرناه دون ما توهمه أبو حنيفة.
ومن ضوء هذا البيان يظهر حال كلمة التوحيد،فانّ دلالتها عليه بمقتضى فهم العرف وارتكازهم،ولا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال،والسبب فيه ما عرفت من أنّ الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال.
ولكن قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأنّ خبر«لا»بما أ نّه مقدّر في
الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو من أن يكون المقدّر ممكناً أو موجوداً،فان كان الأوّل فالكلمة لا تدل على وجوده تعالى،وإن كان الثاني فهي لا تنفي إمكان إلٰه آخر،حيث إنّ نفي الوجود أعم من نفي الامكان.
والجواب عنه:هو أنّ إمكان ذاته تعالى مساوق لوجوده ووجوبه،نظراً إلى أنّ الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالامكان الخاص،فانّ المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم،فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له،فمفهوم واجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب ذلك كما في الباري (سبحانه وتعالى) وإن لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك الباري،فأمر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا ثالث لهما.والحاصل:أنّ إمكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالامكان العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه،كما أنّ عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه،وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكناً أو موجوداً.
وقد يستدل على ذلك كما عن بعض:بأنّ الممكن بالامكان العام إذا لم يوجد في الخارج فبطبيعة الحال إمّا أن يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضي أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع،وكل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود،ضرورة أنّ وجوده لا يعقل أن يستند إلى وجود المقتضي مع توفر الشرط وعدم المانع فيه وإلّا لانقلب الواجب ممكناً،بل نفس تصوّره يكفي للتصديق بوجوده،ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين عند العرفاء، ومدلوله هو أنّ نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه الموضوعي تكفي للتصديق بوجوده في الخارج وإلّا لم يكن التصور تصور مفهوم واجب الوجود وهذا خلف،ولعل هذا هو مراد بعض فلاسفة الغرب من أنّ مجرد تصور مفهوم الصانع لهذا العالم وما فوقه يكفي للتصديق بوجوده بلا حاجة إلى إقامة برهان.
وكيف كان فلا شبهة في أنّ إمكانه تعالى مساوق لوجوده وبالعكس،فنفي إمكانه عين نفي وجوده كما أنّ نفي وجوده عين نفي إمكانه.ومن هنا يظهر حال صفاته (سبحانه وتعالى) فانّه إذا أمكن ثبوت صفة له فقد وجب وإلّا امتنع.
ثمّ إنّ الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد هو أنّ الخبر المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها مثل قولنا:لا رئيس في هذا البلد،وقولنا:لا رجل في الدار وهكذا،فانّ المتفاهم العرفي منها هو أنّ الخبر المقدّر لكلمة«لا»فيها موجود لا ممكن،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:
أنّ المستفاد من كلمة التوحيد أمران،أحدهما:التصديق بوجود الصانع للعالم كما هو مقتضى كثير من الآيات القرآنية.وثانيهما:التصديق بوحدانيته ذاتاً وصفةً ومعبوداً وإليه أشار بقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» وقوله تعالى:
«إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» فهذان الأمران معتبران في كون شخصٍ مسلماً فلو عبد غيره تعالى فقد خرج عن ربقة الاسلام.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتائج:
الاُولى: أنّ كلمة«إلّا»إنّما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء، وأمّا إذا كانت بمعنى الصفة فلا تدل عليه.
الثانية: أنّ كلمة«إنّما»وضعت للدلالة على إفادة الحصر،للتبادر عند العرف وتصريح أهل الأدب بذلك وإن لم يكن لها نظائر في لغة الفرس ليرجع إليها،إلّاأ نّه لا حاجة إليها بعد ثبوت وضعها لذلك.
الثالثة: أنّ كلمة«إنّما»قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة فحينئذ لا تدل على الحصر،بل تدل على المبالغة،وقد تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كما هو الغالب وحينئذ تدل على الحصر.نعم،قد تستعمل في هذا المقام أيضاً في المبالغة.
الرابعة: أنّ الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة«إنّما»على الحصر،وقد صرّح بذلك في تفسير قوله تعالى: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ» وقد عرفت ما في إنكاره وأ نّه لا محمل له إلّاالحمل على العناد أو التجاهل.
الخامسة: أ نّه لا ثمرة للبحث عن أنّ دلالة هذه الكلمة على الحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أصلاً وإن اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) الأوّل،وقد تقدم وجهه موسّعاً.
السادسة: لا شبهة في دلالة كلمة«إلّا»على الحصر وأ نّها موضوعة لذلك، ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة وأ نّه استدل على عدم إفادتها الحصر بقوله (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم):«لا صلاة إلّابطهور»،وأجاب عن هذا الاستدلال صاحب الكفاية (قدس سره) بعدة وجوه،وقد عرفت عدم تمامية شيء منها،والصحيح في الجواب عنه ما ذكرناه كما تقدم فلاحظ.
السابعة: أنّ كلمة التوحيد تدل على الحصر بمقتضى الارتكاز العرفي، وليست دلالتها مستندةً إلى قرينة حال أو مقال كما عن صاحب الكفاية (قدس سره).والاشكال على دلالتها بأنّ الخبر المقدّر فيها لا يخلو من أن يكون موجوداً أو ممكناً،وعلى كلا التقديرين فهي لا تدل على التوحيد مدفوع بما تقدم بشكل موسع.
الثامنة: أنّ الظاهر من هذه الكلمة بحسب المتفاهم العرفي هو أنّ خبر«لا» المقدّر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها،هذا تمام الكلام في مفهوم الحصر.
إن اريد به أنّ للقضية مثل:تصدّق بخمسة دراهم دلالة على أ نّه لا يجزئ التصدق بأقل من ذلك،فالأمر وإن كان كذلك إلّاأ نّه ليس من جهة دلالة العدد على المفهوم،بل من جهة أ نّه لم يأت بالمأمور به،يعني أنّ المأمور به لا ينطبق على المأتي به في الخارج حتى يكون مجزئاً،نظير ما إذا قال المولى:
أكرم زيداً مثلاً في يوم الجمعة،فلو أكرمه في يوم الخميس لم يجزئ لعدم انطباق المأمور به على المأتي به،وكذا إذا قال:صل إلى القبلة فصلّى إلى جهة اخرى، وهكذا.
وبكلمة اخرى:أنّ قضية تصدّق بخمسة دراهم لا تدل إلّاعلى وجوب التصدق بها،وأمّا بالاضافة إلى الأقل فهي ساكتة نفياً وإثباتاً،يعني لا تدل على نفي وجوب التصدق عنه ولا على إثباته،وأمّا عدم الاجزاء به فهو من ناحية أنّ المأمور به في هذه القضية لا ينطبق عليه،وأمّا بالاضافة إلى الزائد على هذا العدد فان قامت قرينة على أنّ المولى في مقام التحديد ولحاظ العدد بشرط لا بالاضافة إليه فتدل القضية على نفي الوجوب عن الزائد،يعني أنّ التصدق بالستّة غير واجب،بل هو مضر،نظير الزيادة في الصلاة،وإن لم تقم قرينة على ذلك،فمقتضى إطلاق كلامه أنّ الزيادة لا تكون مانعةً عن حصول المأمور به في الخارج،وأمّا بالاضافة إلى حكمه [ أي ] الزائد فهو ساكت عنه نفياً وإثباتاً يعني لا يدل على وجوبه ولا على عدم وجوبه ولا على استحبابه، فحال العدد من هذه الناحية حال اللقب.
قبل الوصول إلى محل البحث لا بأس بالاشارة إلى عدة نقاط:
الاُولى: أنّ العام معناه الشمول لغةً وعرفاً،وأمّا اصطلاحاً فالظاهر أ نّه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي،ومن هنا فسّروه بما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله.
الثانية: ما هو الفرق بين العام والمطلق الشمولي كقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 1و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ» 2وما شاكلهما،حيث إنّه يدل على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله ؟ أقول:الفرق بينهما هو أنّ دلالة العام على العموم والشمول بالوضع ودلالة المطلق على ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة، وتترتب على هذه النقطة من الفرق ثمرات تأتي في ضمن البحوث الآتية.
الثالثة: أنّ العموم ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي،فالحكم في الأوّل وإن كان واحداً في مقام الانشاء والابراز إلّاأ نّه في مقام الثبوت والواقع متعدد بعدد أفراد العام،ففي مثل قولنا:أكرم كل عالم،وإن كان الحكم في مقام الانشاء واحداً إلّاأ نّه بحسب الواقع ينحل بانحلال أفراد موضوعه،فيكون في قوة قولنا:أكرم زيداً العالم وأكرم بكراً العالم وهكذا،فيثبت لكل فردٍ حكم مستقل غير مربوط بالحكم الثابت لآخر.
وفي الثاني واحد في مقامي الاثبات والثبوت باعتبار أنّ المتكلم قد جعل المجموع من حيث المجموع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه.
وفي الثالث أيضاً كذلك،حيث إنّ الحكم فيه تعلق بصرف وجود الطبيعة السارية إلى جميع أفرادها كقولنا مثلاً:أكرم أيّ رجل شئت،والمفروض أنّ صرف الوجود غير قابل للتعدد،وعليه فلا محالة يكون الحكم المتعلق به واحداً.
الرابعة: ما هو منشأ هذا التقسيم،ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) 1أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام،حيث إنّه يتعلق به تارةً على نحو يكون كل فردٍ موضوعاً على حدة للحكم،واُخرى يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فردٍ جزء الموضوع لاتمامه،وثالثةً يكون كل فردٍ موضوعاً على البدل.
وفيه: أنّ الأمر ليس كذلك،والسبب فيه:هو أنّ المولى في مرحلة جعل الحكم إذا لم يلاحظ الطبيعة بما هي مع قطع النظر عن أفرادها،أي من دون لحاظ فنائها فيها،ولم يجعل الحكم عليها كذلك كما هو الحال في القضية الطبيعية كقولنا:الانسان نوع والحيوان جنس وما شاكلهما التي لا صلة لها بالعام والخاص،فبطبيعة الحال تارةً يلاحظ الطبيعة فانية في أفرادها على نحو الوحدة في الكثرة،يعني يلاحظ الأفراد الكثيرة واقعاً وحقيقةً في ضمن مفهوم واحد وطبيعة فاردة ويجعل الحكم على الأفراد فيكون كل واحد منها موضوعاً مستقلاً.