فهرست

پرش به محتوا

آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴

جلد

4

فهرست

فهرست

صفحه اصلی کتابخانه محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴ صفحه 4

محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 301)


واُخرى يلاحظها فانيةً في الأفراد لا على نحو الوحدة في الكثرة،بل على نحو الوحدة في الجمع،يعني يلاحظ الأفراد المتكثرة على نحو الجمع واقعاً وحقيقةً في إطار مفهوم واحد ويجعل الحكم عليها كذلك فيكون المجموع موضوعاً واحداً على نحو يكون كل فرد جزء الموضوع لاتمامه.

وثالثةً يلاحظها فانية في صرف وجودها في الخارج ويجعل الحكم عليه.

فعلى الأوّل العموم استغراقي فيكون كل فرد موضوعاً للحكم،وجهة الوحدة بين الأفراد ملغاة في مرتبة الموضوعية،كيف حيث لا يعقل ثبوت أحكام متعددة لموضوع واحد.وعلى الثاني العموم مجموعي فيكون المجموع من حيث المجموع موضوعاً للحكم،فالتكثرات فيه وإن كانت محفوظةً إلّاأ نّها ملغاة في مرتبة الموضوعية.وعلى الثالث العموم بدلي فيكون الموضوع واحداً من الأفراد لا بعينه،فجهة الكثرة وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعية، يعني لم يؤخذ شي منهما في الموضوع.فالنتيجة أنّ منشأ التقسيم ما ذكرناه لا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره).

[الخامسة:عدم كون العشرة و أمثالها من العدد من ألفاظ العموم]

الخامسة: أنّ صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها،منها هيئة الجمع المحلى باللام التي ترد على المادة كقولنا:أكرم العلماء،فانّها موضوعة للدلالة على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخولها وهو العالم.وكذا الحال في كلمة«كل».

ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دلّ على العموم من الصيغ وبين لفظ عشرة ونظائرها،فانّ هذه اللفظة بالاضافة إلى أفرادها حيث إنّها كانت من أسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعةً للدلالة على الطبيعة المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا،فلا تكون من ألفاظ العموم في شيء.

وأمّا بالاضافة إلى مدخولها كقولنا:أكرم عشرة رجال فلا تدل على

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 302)


سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخولها-وهو الرجل-نعم بمقتضى الاطلاق وإن دلت على أنّ المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال على أيّ صنف منهم أراد وشاء،سواء أكان ذلك الصنف من صنف العلماء أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها،إلّاأنّ ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع،وأمّا بالاضافة إلى الآحاد التي يتركب العشرة منها فهي وإن دلت على سراية الحكم المتعلق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنية كما هو الحال في كل مركب يتعلق الحكم به،فانّه لا محالة يسري إلى أجزائه كذلك،إلّاأنّ هذه الدلالة أجنبية عن دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله،حيث إنّ تلك الدلالة دلالة على سراية الأحكام المتعددة المستقلة إلى الأفراد والموضوعات كذلك،وهذا بخلاف هذه الدلالة،فانّها دلالة على سراية حكم واحد متعلق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمناً،يعني أنّ كل جزء من أجزائه متعلق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما هو الحال في جميع المركبات بشتى أنواعها.

ودعوى أنّ استغراق العشرة أو ما شاكلها باعتبار الواحد،حيث إنّ كل مرتبة من مراتب الأعداد التي تكون معنونة بعنوان خاص وباسم مخصوص مؤلفة من الآحاد،والواحد الذي هو بمنزلة المادة ينطبق على كل واحد منها، فالعشرة تكون مستغرقة للواحد إلى حدّها الخاص،والعشرون يكون مستغرقاً له إلى حدّه كذلك وهكذا.وعدم انطباق العشرة بما هي على الواحد غير ضائر،لأنّ مفهوم كل رجل لا ينطبق على كل فرد من أفراده،بل مدخول الأداة بلحاظ سعته ينطبق على كل واحد من أفراده،فاللازم انطباق ذات ما له الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق وشمول وإلّا فليس له إلّامطابق واحد.

خاطئة جداً والوجه فيه:أنّ مراتب الأعداد وإن تأ لّفت من الآحاد إلّاأنّ الواحد ليس مادة لفظ العشرة أو ما شاكله حتى يكون له الشمول والاستغراق

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 303)


بعروض هذه اللفظة عليه أو ما شاكلها من الألفاظ والعناوين.

وإن شئت قلت:إنّ نسبة الواحد إلى العشرة ليست كنسبة العالم مثلاً إلى العلماء حيث إنّه مادة الجمع المحلى باللام،يعني أنّ هيئة هذا الجمع تعرض عليه وتدل على كونه ذا شمول واستغراق،وهذا بخلاف العشرة فانّها لا تعرض على الواحد كيف فانّه جزؤها المقوّم لها،نظراً إلى أ نّها مركبة منه ومن سائر الآحاد وبانتفائه تنتفي،وتكون مباينةً له لفظاً ومعنىً،كما أ نّها مباينة لسائر مراتب الأعداد كذلك.فاذن لا يعقل عروضها عليه كي تدل على شموله وعمومه، ضرورة أنّ الكل لا يعقل عروضه على الجزء فلا تكون من قبيل هيئة الجمع المعرف باللام التي تعرض على مادتها وتدل على عمومها وشمولها لكل فرد من أفرادها.وكذا ليست نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة الرجل إلى لفظة«كل» الداخلة عليه،وذلك لأنّ الواحد كما عرفت جزء العشرة لا أ نّها داخلة عليه كدخول أداة العموم على ذيها لكي تدل على عمومه وشموله لكل ما ينطبق عليه من الآحاد،كما هو الحال في لفظة«كل»الداخلة على الرجل مثلاً.

فالنتيجة:أنّ العشرة ليست من أداة العموم كلفظة«كل»وهيئة الجمع المعرف باللام ونحوهما.

[السادسة:صيغ العموم]

السادسة: أ نّه لا ريب في وجود صيغ تخص العموم كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) 1كلفظة«كل»وما شاكلها،حيث لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي منها العموم وأنّ دلالتها عليه على وفق الارتكاز الذهني،وهكذا الحال في نظائرها.وعلى الجملة:فلا شبهة في أنّ كلمة«كل»في لغة العرب ونظائرها في سائر اللغات موضوعة للدلالة على العموم وأ نّها ونظائرها من صيغ العموم


 

1) <page number=”303″ /><nl />كفاية الاُصول:216.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 304)


خاصة به.ودعوى أنّ الخاص بما هو القدر المتيقن بحسب الارادة خارجاً فوضع اللفظ بازائه أولى من وضعه بازاء العموم خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أبداً،ضرورة أنّ كونه كذلك لا يقتضي وضع اللفظ بازائه دون العموم.

نعم،كون الخاص من المتيقن لو كان على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم ويكون بمنزلة القرينة المتصلة في الكلام بحيث تحتاج إرادة العموم إلى نصب قرينة لأمكن أن يقال إنّ وضع اللفظ للعموم لغو،فالأولى أن يكون موضوعاً للخصوص.ولكنّ الأمر ليس كذلك،فانّ كون الخاص متيقناً إنّما هو بحسب الارادة الخارجية،ومن الطبيعي أنّ مثل هذا المتيقن لا يكون مانعاً عن ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره،غاية الأمر يكون اللفظ نصاً بالاضافة [ إلى ] إرادة الخاص،وظاهراً بالاضافة إلى إرادة العام،ومحطّ النظر إنّما هو في إثبات الظهور وعدمه،وقد عرفت أ نّه لا شبهة في ظهور لفظة«كل»في العموم كما في مثل قولنا:أكرم كل عالم أو أكرم كل رجل وما شاكل ذلك.

ودعوى أنّ المناسب وضع اللفظ للخاص لا للعام،نظراً إلى كثرة استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام إلّاوقد خص فاسدة جداً،ضرورة أنّ مجرد ذلك لا يقتضي الوضع بازائه دونه،إذ لا مانع من أن تكون الاستعمالات المجازية أكثر من الاستعمالات الحقيقية لداع من الدواعي.

وإن شئت قلت:إنّ كون الخاص معنىً مجازياً للعام ليس على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم بحيث تكون إرادة العموم منه تحتاج إلى قرينة كما هو الحال في المجاز المشهور،بل الأمر بالعكس تماماً،فانّه ظاهر في العموم وإرادة الخاص منه تحتاج إلى قرينة.هذا مضافاً إلى ما سيأتي في ضمن البحوث

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 305)


الآتية 1من أنّ التخصيص لايستلزم استعمال العام في الخاص حتى يكون مجازاً، بل العام قد استعمل في معناه بعد التخصيص أيضاً.

[السابعة:كيفية دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم]

السابعة: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وإليك نصه:ربّما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النفي أو النهي،ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً،لضرورة أ نّه لا يكاد يكون الطبيعة معدومةً إلّاإذا لم يكن فرد منها بموجود وإلّا لكانت موجودة،لكن لا يخفى أ نّها تفيده إذا اخذت مرسلة لا مبهمة وقابلة للتقييد،وإلّا فسلبها لا يقتضي إلّااستيعاب السلب لما اريد منها يقيناً،لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها،وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية،فانّها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها،لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليها،كما لا ينافي دلالة مثل لفظ«كل»على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله،ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.

نعم،لا يبعد أن يكون ظاهراً عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها،وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعاً كان أو مفرداً بناءً على إفادته للعموم،ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره.وإطلاق التخصيص على تقييده ليس إلّا من قبيل:ضيّق فم الركية.لكن دلالته على العموم وضعاً محل منع،بل إنّما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة اخرى،وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله،ولا وضع آخر للمركب منهما كما لا يخفى،وربّما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام 2.


 

1) <page number=”305″ /><nl />في ص 541.
2) كفاية الاُصول:217.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 306)


نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:

الاُولى: أنّ المراد من النكرة هو الطبيعة اللا بشرط،ودلالتها على العموم إذا وقعت في سياق النفي أو النهي ترتكز على أن تكون مأخوذةً على نحو الاطلاق،حيث إنّها تدل على عموم ما يراد منها عقلاً،فان اريد منها الطبيعة المطلقة دلت على نفيها كذلك،وإن اريد منها الطبيعة المقيدة دلت على نفيها كذلك،لا مطلقة وبالاضافة إلى جميع أفرادها.فاذن في إثبات دلالة كلمة«لا» على نفي الطبيعة مطلقةً لا بدّ من إثبات أ نّها مأخوذة في تلوها كذلك بمقدمات الحكمة،حيث إنّها بدونها لا تدل عليه،ضرورة أنّ الطبيعة المأخوذة في تلوها إذا لم يمكن إثبات إطلاقها بها لم تدل على نفيها كذلك،بل تدل على نفي المتيقن منها في إطار الارادة.

الثانية: أنّ لفظة«كل»وإن كانت موضوعةً للدلالة على العموم،إلّاأنّ دلالتها على عموم جميع ما ينطبق عليه مدخولها من الأفراد والوجودات تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه وإلّا فلا دلالة لها على ذلك،نظراً إلى أ نّها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها،فان ثبت إطلاقه فهو وإلّا فهي تدل على إرادة المتيقن منه.

الثالثة: أنّ الجمع المعرّف باللام بناءً على إفادته للعموم أيضاً كذلك،يعني أنّ دلالته على العموم-أي عموم أفراد مدخوله-تبتني على إثبات إطلاقه باجراء مقدمات الحكمة فيه،وكذا الحال في المفرد المعرّف باللام.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:

أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة،والوجه فيه ما ذكرناه في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 307)


أوّل بحث النواهي 1من أنّ مقدمات الحكمة إذا جرت في مدخول كلمة«لا» سواء أكانت نافية أم ناهية،فنتيجتها هي العموم الشمولي كقولنا مثلاً:لا أملك شيئاً،فانّ كلمة شيء وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين جميع الأشياء،إلّاأنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء،لا نفي فردٍ مّا منه ووجود البقية عنده،فانّ هذا المعنى باطل في نفسه فلا يمكن إرادته منه.وأمّا إذا افترضنا أ نّه لا إطلاق له،يعني أنّ مقدمات الحكمة لم تجر فيه،فهي لا تدل على العموم والشمول وإنّما تدل على النفي بنحو القضية المهملة التي تكون في حكم القضية الجزئية،كما أ نّه إذا قيد بقيد دلت على نفي ما يمكن أن ينطبق عليه هذا المقيد،ومن هذا القبيل أيضاً قوله:لا تشرب الخمر،وقوله (عليه السلام):

«لا ضرر ولا ضرار في الاسلام» 2وقوله تعالى: «فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي الْحَجِّ» 3وما شاكلها.

وأمّا النقطة الثانية: فهي خاطئة جداً،والسبب فيه:أنّ دلالة لفظة«كل» أو ما شاكلها من أداة العموم على إرادة عموم ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه لاثبات إطلاقه أوّلاً،وإنّما هي تكون مستندةً إلى الوضع،بيان ذلك:أنّ لفظة«كل»أو ما شاكلها التي هي موضوعة لافادة العموم تدل بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصية فيه، ولا يتوقف ذلك على إجراء المقدمات،ففي مثل قولنا:أكرم كل رجل تدل


 

1) <page number=”307″ /><nl />راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 295.
2) <nl />الوسائل 25:/428كتاب إحياء الموات ب 12 ح 3.
3) البقرة 2:197.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 308)


لفظة«كل»على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل،من دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل والأبيض والأسود وما شاكل ذلك،فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصية وقيد في مدخولها.

وبكلمة اخرى:قد ذكرنا في غير مورد أنّ الاطلاق والتقييد خارجان عن حريم المعنى،فانّه عبارة عن الماهية المهملة من دون لحاظ خصوصية من الخصوصيات فيه،منها خصوصية الاطلاق والتقييد،فارادة كل منهما تحتاج إلى عناية زائدة،وعليه فلفظة«كل»في مثل قولنا:أكرم كل رجل تدل على سراية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها بما له من المعنى وضعاً، ومن الواضح أنّ هذه الدلالة بنفسها قرينة على عدم أخذ خصوصية فيه،لا أنّ دلالتها على العموم والشمول مستندة إلى عدم قيام قرينة على تقييده بقيدٍ مّا،وإلّا لكفى جريان مقدمات الحكمة في إثبات العموم من دون حاجة إلى أداته.وعليه فبطبيعة الحال يكون الاتيان بها لغواً محضاً حيث إنّ العموم حينئذ مستفاد من قرينة الحكمة سواء أكانت الأداة أم لم تكن،وعندئذ لا محالة يكون وجودها كعدمها،وهذا خلاف الارتكاز العرفي،ضرورة أنّ العرف يفرّق بين قولنا:أكرم كل عالم وقولنا:أكرم العالم،ويرى أنّ دلالة الأوّل على العموم لا تحتاج إلى أيّة مؤونة زائدة ما عدا دلالة اللفظ عليه،وهذا بخلاف الثاني فانّ دلالته على العموم تحتاج إلى مؤونة زائدة وهي إجراء مقدمات الحكمة.

فالنتيجة:أنّ وضع لفظة«كل»أو ما شاكلها للدلالة على العموم أي عموم مدخولها وشموله بما له من المعنى بنفسه قرينة على عدم أخذ خصوصية وقيد فيه،يعني أنّ دلالتها عليه عين دلالتها على العموم،لا أنّ لها دلالتين:دلالة على العموم،ودلالة على عدم أخذ قيد وخصوصية فيه.وهذه النقطة هي

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 309)


زاوية الامتياز بين العموم المستند إلى الوضع،والعموم المستند إلى قرينة الحكمة، حيث إنّ الثاني يتوقف على عدم بيان دخل قيد ما في غرض المولى مع كونه في مقام البيان كما يأتي بيانه إن شاء اللّٰه تعالى في ضمن البحوث الآتية 1والأوّل بيان على عدم دخله فيه،فهما أشبه شيء بالاُصول والأمارات.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ إمكان تقييد مدخول الأداة كلفظة«كل» في مثل قولنا:أكرم كل عالم عادل،وعدم منافاة هذا التقييد لدلالتها على العموم دليل على أنّ دلالتها على عموم مدخولها وشموله تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه فهو خاطئ جداً،وذلك لأنّ دلالتها على العموم-أي عموم مدخولها-وشموله بما له من المعنى لا ينافيه تقييده بقيدٍ مّا،ضرورة أ نّها لا تدل على أنّ مدخولها جنس أو نوع أو فصل أو صنف،فانّ مفادها بالوضع هو الدلالة على عموم المدخول كيف ما كان،غاية الأمر إن كان جنساً دلت على العموم في إطاره،وإن كان نوعاً دلت على العموم في إطار النوع،وإن كان صنفاً دلت على العموم في إطار الصنف وهكذا.

وإن شئت قلت:إنّه لا فرق بين القول بوضعها للعموم أي عموم المدخول بما له من المعنى،والقول بوضعها لعموم ما يراد من المدخول في هذه النقطة، وهي عدم منافاة التقييد للدلالة على العموم،نعم يمتاز القول الثاني عن القول الأوّل في نقطة اخرى وهي أنّ دلالتها على العموم على القول الثاني لاثبات إطلاق المدخول وإرادته بقرينة الحكمة كي تدل على عمومه وشموله،وعلى القول الأوّل فهي بنفسها تدل على إطلاقه وسعته.

ونتيجة ما ذكرناه إلى هنا:هي أنّ أداة العموم على القول بكونها موضوعةً


 

1) <page number=”309″ /><nl />في ص 530.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 310)


للدلالة على عموم ما يراد من المدخول لا بدّ أوّلاً من إثبات سعته وإطلاقه بقرينة الحكمة حتى تدل على عمومه وشموله،وعلى القول بكونها موضوعة للدلالة [ على ] عموم المدخول بما له من المعنى فهي بنفسها تدل على سعته وإطلاقه من دون حاجة إلى قرينة الحكمة أو نحوها،لما عرفت من أنّ دلالتها على العموم بعينها هي دلالتها على إطلاق المدخول وعدم أخذ خصوصية فيه، ومن الطبيعي أ نّه لا يفرق فيه بين أن يكون مدخولها في نفسه من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف،فانّ السعة إنّما تلاحظ بالاضافة إلى دائرة المدخول،فلا فرق بين قولنا:أكرم كل رجل وقولنا:أكرم كل رجل عالم،فانّ تقييده بهذا القيد لا ينافي دلالته على العموم،فانّ معنى دلالته عليه هو أ نّها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة،سواء أكانت دائرة المدخول واسعة أو ضيّقة في مقابل القول بأنّ دلالته عليه تتوقف على إجراء المقدمات فيه ولو كانت دائرته ضيّقةً، وبما أنّ المدخول هو المقيد فهو لا محالة يدل على عمومه،ولولا ما ذكرناه من الدلالة على العموم لما أمكن التصريح به في موردٍ مّا أبداً مع أ نّه واضح البطلان.

وأمّا النقطة الثالثة: فسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء اللّٰه تعالى 1.

نلخص نتائج هذا البحث في عدة نقاط:

1- الظاهر أنّ العام في كلمات الاُصوليين مستعمل في معناه اللغوي والعرفي وهو الشمول.

2- أنّ الفرق بين العام والمطلق هو أنّ دلالة الأوّل على العموم بالوضع


 

1) <page number=”310″ /> في ص 526.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 311)


والثاني بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.

3- ما هو المنشأ والموجب لتقسيم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي، ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم به،ولكن عرفت نقده وأ نّه ليس منشأً لذلك،بل منشؤه ما ذكرناه آنفاً بشكل موسّع.

4- أنّ العشرة وأمثالها من مراتب الأعداد ليست من ألفاظ العموم،فانّ دلالتها بالاضافة إلى هذه العشرة وتلك بالاطلاق،وبالاضافة إلى الآحاد التي تتركب منها العشرة ضمنية،كما هو الحال في كل مركب بالاضافة إلى أجزائه على تفصيل تقدم.

5- لا شبهة في أنّ للعموم صيغا تخص به وتدل عليه بالوضع،ولا موجب لدعوى أ نّها موضوعة للخصوص باعتبار أ نّه القدر المتيقن أو أ نّه المناسب من جهة كثرة استعمال العام في الخاص على ما تقدم بشكل موسّع.

6- أنّ دلالة العام على العموم كلفظة«كل»أو ما شاكلها لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله كما زعم صاحب الكفاية (قدس سره)،بل هو يدل بالوضع على إطلاق مدخوله وعدم أخذ خصوصيةٍ مّا فيه.

عدّة مباحث:

[المبحث الأوّل:التمسك بالعام بعد ورود التخصيص]

المبحث الأوّل 1: اختلف الأصحاب في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه على أقوال:بيان هذه الأقوال في ضمن ثلاثة بحوث تالية:


 

1) <page number=”311″ /><nl />[ تعرّض للمبحث الثاني في ص 403 بعنوان:«فصل في الفحص عن المخصص»من‌دون ترقيم،وكذا المباحث الآتية ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 312)


الأوّل: يفرض الكلام في الشبهة الحكمية يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الحكم الشرعي،كما إذا افترض ورود عام مثل:أكرم كل عالم،وورد مخصص عليه مثل:لا تكرم المرتكب للكبائر منهم،وشك في خروج المرتكب للصغائر عن حكم العام من ناحية اخرى،لا من ناحية الشك في دخوله تحت عنوان المخصص للقطع بعدم دخوله فيه.

الثاني: يفرض الكلام في الشبهة المفهومية،يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في مفهوم الخاص،أي دورانه بين السعة والضيق كما إذا ورد:أكرم كل عالم ثمّ ورد:لا تكرم الفسّاق منهم، وافترضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة والضيق،أي أ نّه عبارة عن خصوص مرتكب الكبائر أو الجامع بينه وبين مرتكب الصغائر،والشك إنّما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر ومنشؤه إنّما هو إجمال مفهوم الخاص وشموله له،وأمّا في طرف العام فلا إجمال في مفهومه أصلاً.

الثالث: يفرض الكلام في الشبهة المصداقية،يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الاُمور الخارجية كما إذا دلّ دليل على وجوب إكرام كل هاشمي،ودلّ دليل آخر على حرمة إكرام الفاسق منهم وشككنا في أنّ زيداً الهاشمي هل هو فاسق أو لا،فيقع الكلام في إمكان التمسك بالعام بالاضافة إليه وعدم إمكانه.

أمّا الكلام في الأوّل: فالظاهر أنّ عمدة الخلاف فيه إنّما يكون بين العامة 1حيث نسب إلى بعضهم عدم جواز التمسك بالعام مطلقاً،ونسب إلى بعضهم الآخر التفصيل بين ما كان المخصص منفصلاً وما كان متصلاً،فذهب إلى عدم


 

1) <page number=”312″ /><nl />المحصول 1:402،الإحكام للآمدي 2:439.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 313)


جواز التمسك بالعام على الأوّل دون الثاني،هذا.

والصحيح هو جواز التمسك به مطلقاً،أي بلا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل.

أمّا في الأوّل:فهو واضح،حيث إنّ دائرة العام كانت من الأوّل ضيّقاً،نظراً إلى أنّ المخصص المتصل يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم من الابتداء،بل يوجب استقرار ظهوره من الأوّل في الخاص.

وبكلمة اخرى:أ نّه لا تخصيص في البين،وإطلاقه مبني على المسامحة،لما تقدم من أنّ أداة العموم كلفظة«كل»أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على عموم المدخول وشموله بما له من المعنى،سواء أكان من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف،فلا فرق بين قولنا:أكرم كل رجل وقولنا:أكرم كل رجل عادل أو كل رجل إلّاالفساق منهم،فانّ لفظة«كل»في جميع هذه الأمثلة تستعمل في معناها-وهو عموم المدخول وشموله-غاية الأمر أنّ دائرة العموم فيها تختلف سعةً وضيقاً كما هو الحال في سائر الموارد والمقامات،ومن الطبيعي أ نّه لا صلة لذلك بدلالتها على العموم أبداً.فالنتيجة أنّ إطلاق التخصيص في موارد التقييد بالمتصل في غير محلّه.

وأمّا الثاني:وهو ما كان المخصص منفصلاً،فقد يقال إنّ التخصيص كاشف عن أنّ عموم العام غير مراد من الأوّل وإلّا لزم الكذب،فاذا انكشف أنّ العام لم يستعمل في العموم لم يكن حجةً في الباقي لتعدد مراتبه،ومن المعلوم أنّ المعاني المجازية إذا تعددت فارادة كل واحد منها معيّناً تحتاج إلى قرينة،وحيث لا قرينة على أنّ المراد منه تمام الباقي فبطبيعة الحال يصبح العام مجملاً فلا يمكن التمسك به.وعلى الجملة ففي كل مورد كان المعنى المجازي متعدداً فارادة أيّ

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 314)


واحد منه تحتاج إلى قرينتين:إحداهما قرينة صارفة.وثانيتهما قرينة معيّنة، وفي المقام وإن كانت القرينة الصارفة موجودة-وهي المخصص-إلّاأنّ القرينة المعيّنة غير موجودة،وبدونها لا محالة يكون اللفظ مجملاً.

[جواب المحقق النائيني عن الشبهة]

وقد اجيب عنه بوجوه:منها ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وإليك نصه:

والتحقيق في المقام أن يقال:إنّه قد ظهر مما ذكرناه أنّ الميزان في كون اللفظ حقيقةً هو كونه مستعملاً في معناه الموضوع له بحيث إنّ الملقى في الخارج كأ نّه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني،وهذا الميزان متحقق فيما إذا خصص العام كتحققه فيما إذا لم يخصص،وذلك من جهة أنّ أداة العموم لا تستعمل إلّافيما وضعت له،كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلّافيما وضع له.

أمّا عدم استعمال المدخول إلّافي نفس ما وضع له،فلأ نّه لم يوضع إلّالنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة،ومن الواضح أ نّه لم يستعمل إلّا فيها،وإفادة التقييد بدال آخر كافادة الاطلاق بمقدمات الحكمة لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر،ففي موارد التخصيص بالمتصل قد استعمل اللفظ في معناه،واستفيد قيده الدخيل في غرض المتكلم من دال آخر، وأمّا في موارد التخصيص بالمنفصل فالمذكور في الكلام وإن كان منحصراً بنفس اللفظ الموضوع للطبيعة المهملة،ولأجله كانت مقدمات الحكمة موجبةً لظهوره في إرادة المطلق،إلّاأنّ الاتيان بالمقيد بعد ذلك يكون قرينةً على أنّ المتكلم اقتصر حينما تكلم على بيان بعض مراده،إمّا لأجل الغفلة عن ذكر القيد أو لمصلحة في ذلك،وعلى كل تقدير فاللفظ لم يستعمل إلّافي معناه الموضوع له.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 315)


وأمّا عدم استعمال الأداة إلّافيما وضعت له فلأ نّها لا تستعمل أبداً إلّافي معناها الموضوع له،أعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واُخرى يكون أمراً ضيّقاً،وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلاً.

فإن قلت: إنّ ما ذكرته من عدم استلزام تخصيص العام كونه مجازاً لا في ناحية المدخول ولا في ناحية الأداة،إنّما يتم في المخصصات الأنواعية،فانّها لا توجب إلّاتقييد مدخولها فلا يلزم مجاز في مواردها أصلاً،وأمّا التخصيصات الأفرادية فهي لا محالة تنافي استعمال الأداة في العموم فتوجب المجازية في ناحيتها.

قلت: ليس الأمر كذلك،فانّ التخصيص الأفرادي أيضاً لا يوجب إلّا تقييد مدخول الأداة،غاية الأمر أنّ قيد الطبيعة المهملة ربّما يكون عنواناً كلياً كتقييد العالم بكونه عادلاً أو بكونه غير فاسق،وقد يكون عنواناً جزئياً كتقييده بكونه غير زيد مثلاً،وعلى كل حال فقد استعملت الأداة في معناها الموضوع له،ولا فرق فيما ذكرناه من عدم استلزام التخصيص للتجوز بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية،لأنّ الأداة في كل منهما لا تستعمل إلّافي تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها،وأمّا المدخول فهو أيضاً لا يستعمل إلّافي نفس الطبيعة اللا بشرط القابلة لكل تقييد،وكون القضية خارجية أو حقيقية إنّما يستفاد من سياق الكلام،ولا ربط له بمداليل الألفاظ، نظير استفادة الاخبار والانشاء من هيئة الفعل الماضي على ما تقدم.

وبالجملة:أنّ أداة العموم لا تستعمل إلّافيما وضعت له سواء ورد تخصيص على العام أم لم يرد،وسواء أكانت القضية حقيقية أم كانت خارجية،فلا فرق

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 316)


بين موارد التخصيص وغيرها،إلّاأنّ التخصيص بالمتصل أو المنفصل يوجب تقييد مدخول الأداة،ومن الظاهر أنّ التقييد لا يوجب كون ما يرد عليه القيد مستعملاً في غير ما وضع له أصلاً على ما سيجيء تحقيقه في محله إن شاء اللّٰه تعالى.

وأمّا توهم أنّ التخصيص إذا كان راجعاً إلى تقييد مدخول أداة العموم ورافعاً لاطلاقه كان حال العام حال المطلق الشمولي في أنّ استفادة العموم منه تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مورده،وعليه فلا وجه لما تقدّم سابقاً من تقدم العام على المطلق عند التعارض،وبالجملة أنّ شمول الحكم لكل فردٍ من أفراد العام إن كان مستنداً إلى الدلالة الوضعية كان التخصيص الكاشف عن عدم الشمول مستلزماً لكون العام مجازاً،وإن لم يكن الشمول المزبور مستنداً إلى الوضع،بل كان مستفاداً من مقدمات الحكمة لم يكن موجب لتقدم العام على المطلق عند المعارضة.

فهو مدفوع بما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أنّ إحراز لحاظ الماهية مطلقة وإن كان يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في كل من المطلق والعام، إلّا أنّ وجه تقدم العام على المطلق إنّما هو من جهة أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم بالاضافة إلى كل ما يمكن أن ينقسم إليه مدخولها،وهذا بخلاف المطلق،فانّ سراية الحكم فيه إلى الأقسام المتصورة له إنّما هي من جهة حكم العقل بتساوي أفراد المطلق،وحيث ما فرض هناك عام دلّ بمدلوله اللفظي على عدم تسوية أفراد المطلق فهو يكون بياناً له ومانعاً من سراية الحكم الثابت له إلى تمام أفراده 1.


 

1) <page number=”316″ /> أجود التقريرات 2:303-306.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 317)


نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:

الاُولى: أنّ تخصيص العام لا يوجب التجوز لا في أداة العموم ولا في مدخولها،أمّا في الاُولى فلأ نّها دائماً تستعمل في معناها الموضوع له،وهو تعميم الحكم لجميع ما يراد من مدخولها،أي سواء أكان ما يراد منه معنىً وسيعاً أو ضيّقاً،وسواء أكان الدال على الضيق القرينة المتصلة أم كانت القرينة المنفصلة،فانّها في جميع هذه الحالات والفروض مستعملة في معناها الموضوع له بلا تفاوت أصلاً.وأمّا في الثاني فالأمر واضح،حيث إنّ المدخول كالرجل ونحوه وضع للدلالة على الماهية المهملة التي لم تلحظ معها خصوصية من الخصوصيات منها الاطلاق والتقييد،فهما كبقية الخصوصيات خارجان عن حريم المعنى،فاللفظ لا يدل إلّاعلى معناه،ولم يستعمل إلّافيه،وإفادة التقييد إنّما هي بدال آخر،كما أنّ إفادة الاطلاق بمقدمات الحكمة.

الثانية: أ نّه لا فرق فيما ذكرناه من أنّ تخصيص العام لا يوجب تجوّزاً لا في ناحية الأداة ولا في ناحية المدخول،بين كون المخصصات ذات عناوين نوعية وكونها ذات عناوين فردية،ولا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية.

الثالثة: أنّ العام والمطلق يشتركان في نقطة ويفترقان في نقطة اخرى،أمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ إحراز إطلاق الماهية بجريان مقدمات الحكمة مشترك فيه بين العام والمطلق.وأمّا نقطة الافتراق فهي أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم إلى جميع ما يراد من مدخولها من الأقسام والأصناف، وأمّا المطلق فانّ سراية الحكم فيه إلى جميع الأقسام المتصورة له تتوقف على مقدمة اخرى وهي حكم العقل بتساوي أفراده في انطباقه عليها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 318)


أمّا النقطة الاُولى: فهي في غاية الصحة والمتانة حتى بناءً على نظريتنا من أنّ أداة العموم بنفسها متكفلة لافادة العموم وعدم دخل خصوصية مّا في حكم المولى وغرضه.

بيان ذلك:أنّ الدلالات على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الدلالة التصورية-الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ-وهي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له،وليس لعدم القرينة دخل فيها،فالعالم بوضع لفظٍ خاص لمعنىً مخصوص ينتقل إليه من سماعه ولو افترضنا أنّ المتكلم نصب قرينةً على عدم إرادته،بل ولو افترضنا صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن شيء آخر كاصطكاك حجر بحجر مثلاً،وقد ذكرنا في محلّه 1أنّ هذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع بل هي من جهة الاُنس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في معناه أو غيره مما يوجب هذه الدلالة.

الثاني: الدلالة التفهيمية ويعبّر عنها بالدلالة التصديقية أيضاً من جهة تصديق المخاطب المتكلم بأ نّه أراد تفهيم المعنى للغير،وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه،وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أنّ المتكلم في مقام التفهيم وأ نّه لم ينصب قرينةً متصلةً في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية،وإلّا فلا دلالة له على الارادة التفهيمية،وقد ذكرنا في أوّل الاُصول بشكل موسّع أنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع.أمّا على ضوء نظريتنا في حقيقة الوضع حيث إنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني فالاستناد إليه واضح،ضرورة أ نّه لا معنى للتعهد والالتزام


 

1) <page number=”318″ /><nl />راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 115.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 319)


بكون اللفظ دالاً على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار،فانّ هذا أمر غير اختياري فلا معنى لكونه طرفاً للالتزام والتعهد،حيث إنّهما لا يتعلقان إلّا بما هو تحت اختيار الانسان وقدرته،وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته،سواء أكانت الارادة تفهيمية محضة أم كانت جدية أيضاً،وتمام الكلام من هذه الناحية هناك.وأمّا على ضوء نظرية القوم في هذا الباب فالأمر أيضاً كذلك على ما ذكرناه هناك.فالنتيجة أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الوضعية.

الثالث: الدلالة التصديقية،وهي دلالة اللفظ على أنّ الارادة الجدية على طبق الارادة الاستعمالية،يعني أ نّهما متحدتان في الخارج.وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء وتتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً.ومع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفاً عن المراد الجدي،فهذه القرينة إنّما هي تمنع عن كشف هذا الظهور عن الواقع وحجيته لا عن أصله،فانّ الشيء إذا تحقق لم ينقلب عمّا هو عليه.والحاصل أنّ بناء العقلاء قد استقر على أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية ما لم تقم قرينة على الخلاف.

وبعد ذلك نقول: إنّ العام إذا ورد في كلام المتكلم من دون نصبه قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي،فهو لا محالة يدل بالدلالة الوضعية على أنّ المتكلم به أراد تفهيم المخاطب لتمام معناه الموضوع له،كما أ نّه يدل ببناء العقلاء على أنّ إرادته تفهيم المعنى إرادة جدية ناشئة عن كون الحكم المجعول على العام ثابتاً له واقعاً.ولكن هذه الدلالة أي الدلالة الثانية كما تتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام الافادة وعدم نصبه قرينة على اختصاص الحكم ببعض أفراد العام في نفس الكلام،كذلك تتوقف على عدم إتيانه بقرينة تدل على

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 320)


الاختصاص بعد تمامية الكلام ومنفصلة عنه،فانّ القرينة المنفصلة تكون مانعةً عن كشف ظهور العام في كون الحكم المجعول له إنّما هو بنحو العموم في الواقع ونفس الأمر،حيث إنّها تزاحم حجية ظهور العام في العموم التي هي ثابتة ببناء العقلاء وتعهّدهم،ولا تزاحم أصل ظهوره في ذلك الذي هو ثابت بمقتضى ما ذكرناه من التعهد والالتزام،يعني ظهوره في الارادة التفهيمية وكشفه عنها.

وعليه فلا ملازمة بين رفع اليد عن حجية الظهور لدليلٍ ورفع اليد عن أصله،بداهة أ نّه لا ملازمة بين كون المعنى مراداً للمتكلم في مقام التفهيم وكونه مراداً له في مقام الواقع والجد،فاذا افترضنا أنّ المولى في الواقع لا يريد في مثل قوله:أكرم كل عالم إلّاإكرام العالم العادل دون غيره،ولكن لم يتمكن من تقييده بذلك في نفس الكلام،إمّا لوجود مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره من ناحية،ولم يتمكن من تأخير بيان الحكم في الواقعة إلى زمان يتمكن من تقييده من ناحية اخرى،فبطبيعة الحال يلقى الكلام على نحو العموم،ومن المعلوم أ نّه بمقتضى الوضع يدل على إرادة تفهيم المعنى العام،فاذا جاء بعد ذلك بالمخصص المنفصل الدال على اختصاص الحكم بغير أفراد الخاص في الواقع، فانّه لا محالة يكشف عن أنّ الداعي إلى إرادة تفهيم المعنى العام ليس هو الارادة الجدية الناشئة من ثبوت المصلحة في جميع أفراد العام في نفس الأمر بل الداعي لها شيء آخر.

وعلى الجملة: فاللفظ بمقتضى تعهّد الواضع والتزامه بأ نّه متى ما أراد معنىً خاصاً أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً،يدل على إرادة تفهيم معناه إذا كان المتكلم في مقام بيان ذلك ولم يأت بقرينة متصلة في الكلام،وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان ذلك بل كان في مقام عدّ الجملات مثلاً،أو كان في مقام البيان ولكنّه أتى بقرينة متصلة فيه،ففي مثل ذلك على الأوّل لا تعهّد له أصلاً،لا بالاضافة

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 321)


إلى إرادة تفهيم المعنى الحقيقي،ولا بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي.

وعلى الثاني فله تعهد بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي دون الحقيقي.

وأمّا دلالة اللفظ على إرادة المعنى عن جدٍّ فهي دلالة اخرى غير الدلالة الاُولى، حيث إنّ الاُولى مستندة إلى الوضع دون تلك،فانّها مستندة إلى تباني العقلاء وتعهّدهم،ومن هنا قد يشك في هذه الدلالة مع القطع بالدلالة الاُولى،وهذا يكشف عن أ نّه لا ملازمة بين الدلالتين،يعني أنّ هدم الدلالة الثانية بالقرينة لايلازم هدم الدلالة الاُولى،والسر فيه ما عرفت من أنّ الدلالة الاُولى مستندة إلى تعهد الواضع،والدلالة الثانية مستندة إلى تعهد العقلاء،ولذا لو ادعى المتكلم خلاف التعهد الأوّل أو الثاني لم يسمع منه ما لم ينصب قرينة على ذلك، فان نصب قرينةً متصلةً فهي تدل على أ نّه أراد خلاف تعهّد الواضع،وإن نصب قرينةً منفصلةً فهي تدل على أ نّه أراد خلاف تعهد العقلاء،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ ملاك الحقيقة هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضى الوضع،وملاك المجاز هو كون استعمال اللفظ في المعنى على خلاف مقتضاه من جهة قرينة تدل عليه،وقد عرفت أنّ اللفظ بمقتضى الوضع إنّما يدل على إرادة تفهيم المعنى فحسب دون أزيد من ذلك،وهذه الدلالة دلالة حقيقية حيث إنّها استعمال اللفظ في معناه الموضوع له،وأمّا كون هذا المعنى مراداً بارادة جدية أيضاً فهو متوقف على عدم قرينة منفصلة وإلّا فلا دلالة له على ذلك أصلاً،فالقرينة المنفصلة إنّما هي تمنع عن حجية الظهور وكشفه عن المراد الجدي والواقعي،ولا تمنع عن ظهوره في إرادة تفهيمه الذي هو مستند إلى الوضع،وعليه فاذا ورد عام من المولى ثمّ ورد مخصص منفصل فهذا المخصص المنفصل إنّما يزاحم حجية ظهور العام في العموم ومانع عن كشفه عن الواقع،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 322)


دون أصل ظهوره،ضرورة أنّ ظهوره في أنّ المولى أراد تفهيم المعنى العام باقٍ على حاله،والمفروض أنّ هذا الظهور كاشف عن أنّ المتكلم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له.

فالنتيجة: أنّ إرادة المتكلم تفهيم المخاطب لمعنى اللفظ الموضوع له أمر، وكون هذه الارادة جدية وناشئة عن ثبوت الحكم لجميع أفراد المستعمل فيه أمر آخر،والمفروض أنّ المخصص المنفصل إنّما يكون كاشفاً عن عدم ثبوت الحكم لجميع أفراد العام في الواقع ونفس الأمر،لا عن كون استعمال العام استعمالاً مجازياً،ضرورة أ نّك قد عرفت ملاك الاستعمال المجازي والاستعمال الحقيقي وأ نّه لا صلة للمخصص المنفصل بهما أصلاً،لا وجوداً ولا عدماً.

قد يقال كما قيل:إنّ المخصص المنفصل إذا كان كاشفاً عن المراد الجدي وأ نّه غير مطابق للمراد الاستعمالي-وهو العموم-فما هو فائدة التكلم بالعام واستعماله في العموم،وما هو الأثر المترتب على عموم المراد الاستعمالي بعد ما لم يكن مراداً جداً وواقعاً.

وفيه: مضافاً إلى أنّ استعمال العام في العموم كما عرفت قد يكون مما لا بدّ منه،نظراً إلى أنّ المتكلم قد لا يتمكن من التكلم بالخاص لأجل مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره أو تقية أو ما شاكل ذلك،أنّ استعماله فيه إنّما هو ضرب للقاعدة والقانون،حيث إنّه لا يجوز التعدي عنه والخروج عن مقتضاه إلّابقيام دليل على خلافه،فهو حجة بهذا العنوان العام بالاضافة إلى جميع موارده وصغرياته إلّاما قام الدليل على خروجه عنه فنأخذ به،وفي الزائد نرجع إلى عمومه قاعدةً وقانوناً.

وأمّا النقطة الثانية: فالأمر فيها أيضاً كذلك،يعني أ نّه لا فرق بين كون

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 323)


المخصص ذا عنوان نوعي أو فردي،فعلى كلا التقديرين لا يوجب التجوّز في ناحية العام.

وأمّا النقطة الثالثة: فيردّها ما تقدم منّا بشكل موسّع من أنّ أداة العموم بنفسها تدل على أنّ مدخولها ملحوظ مطلقاً،أي بدون أخذ خصوصية ما فيه،من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة:وهي أنّ التخصيص في العام لا يوجب تجوّزاً فيه،بل هو مستعمل في معناه الموضوع له مطلقاً وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً للمتكلم بالارادة الجدية.

وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر فساد ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1على هذا الوجه،وحاصله:أنّ الارادة الاستعمالية إن اريد بها إرادة إيجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والارادة مغفول عنهما حين الاستعمال باعتبار أنّ النظر إليهما آلي،فهذه بعينها هي الارادة الجدية التي يتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى.وإن اريد بها الارادة الهزلية في مقابل الارادة الجدية، فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له،لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الارادة الجدية،إلّاأ نّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هو الارادة الهزلية.

وجه الظهور:ما عرفت من أنّ الارادة الاستعمالية وإن كانت قد تتحد مع الارادة الجدية إلّاأ نّها قد تفترق عنها فيكون المعنى مراداً استعمالياً ولم يكن


 

1) <page number=”323″ /><nl />أجود التقريرات 2:301.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 324)


مراداً عن جد،ولا يلزم حينئذ أن تكون تلك الارادة إرادة هزلية،ضرورة أ نّه لا ملازمة بين عدم كون الارادة جدية وكونها هزلية،فانّ إرادة الاستعمال والتفهيم إرادة حقيقية وليست بهزلية وناشئة عن داعٍ من الدواعي ولم يكن ذلك الداعي الارادة الجدية،وقد عرفت ما هو الداعي لهذه الارادة وما هو الفائدة المترتبة عليها،ومع هذا كيف تكون هزلية.

[جواب آخر عن الشبهة]

ومنها: ما قيل من أنّ تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه، لامكان أن يراد العموم من العام المخصص إرادة تمهيدية ليكون ذكر العام توطئةً لبيان مخصصه،وحيث إنّ العموم يكون مراداً من اللفظ فبطبيعة الحال يكون اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي.

وأورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بما حاصله:أنّ ذكر العام للدلالة على معناه الموضوع له دلالة تصورية توطئةً للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد ضم بعضه إلى بعضه الآخر وإن كان صحيحاً،إلّاأ نّه لا ينطبق إلّافي موارد التخصيص بالمتصل،فتبقى موارد التخصيص بالمنفصل بلا دليل،على أنّ التخصيص فيها لا يستلزم المجاز.

وفيه:أنّ ما أفاده (قدس سره) خلاف ظاهر هذا الوجه،فانّ الظاهر من إرادة العموم من العام إرادة تمهيدية هو أنّ العام قد استعمل فيه واُريد منه هذا المعنى بالارادة المقوّمة للاستعمال يعني الارادة التفهيمية،والتعبير عنها بالارادة التمهيدية نظراً إلى أنّ ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده.وكيف كان فالظاهر أنّ مردّ هذا الوجه إلى ما ذكرناه وليس وجهاً آخر في قباله.


 

1) <page number=”324″ /><nl />أجود التقريرات 2:302.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 325)


[جواب ثالث عن الشبهة]

ومنها: أنّ العام إنّما يستعمل في العموم دائماً من باب جعل القانون والقاعدة في ظرف الشك فلا ينافيه ورود التخصيص عليه بعد ذلك.

وأورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1أيضاً بأنّ ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم الشك ضرباً للقاعدة وإن كان مما لاينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة ونحوهما،إلّاأنّ التخصيص في هذه الموارد قليل جداً،حيث إنّ تقدم شيء عليها غالباً يكون بنحو الحكومة أو الورود،وأمّا العمومات المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية من دون نظر إلى حال الشك وعدمه،فلا يكون عمل أهل العرف بها حال الشك كاشفاً عن كونها واردةً في مقام جعل القانون والقاعدة،حيث إنّ عملهم بها حال الشك في ورود التخصيص عليها إنّما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن كون الظاهر مراداً واقعاً وعن أنّ المتكلم ألقى كلامه بياناً لما أراده في الواقع،وعليه فلا يعقل كون هذه العمومات واردة لضرب القانون والقاعدة في ظرف الشك كما هو ظاهر.

وفيه:أنّ الظاهر من هذا الوجه ليس هو جعل الحكم على العام في ظرف الشك ليرد عليه ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)،بل الظاهر منه أنّ الداعي إلى استعمال العام في معناه الموضوع له قانوناً وقاعدةً إنّما هو كون العام بياناً للمراد ما لم يكن هناك قرينة على التخصيص،ففي كل مورد شك في التخصيص فيه فالمرجع هو عموم العام.فالنتيجة أنّ هذا الوجه أيضاً يرجع إلى ما ذكرناه فليس وجهاً على حدة.


 

1) <page number=”325″ /><nl />أجود التقريرات 2:302.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 326)


[جواب الشيخ الأنصاري عن الشبهة]

ومنها: ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) 1من أنّ التخصيص لا يوجب إجمال العام على تقدير استلزامه المجاز،ولا يمنع من التمسك به في غير ما خرج منه من الأفراد أو الأصناف،وقد أفاد في وجه ذلك:أنّ المجاز فيه إنّما يلزم من ورود التخصيص عليه وخروج بعض أفراده أو أصنافه عنه،لا من بقاء بقية الأفراد أو الأصناف تحته،ضرورة أ نّها داخلة فيه سواء أخصص العام به أم لا.وإن شئت قلت:إنّ المقتضي لبقاء البقية تحت العام موجود وهو عمومه وشموله لها من الأوّل،فالخروج يحتاج إلى دليل،فاذا ورد مخصص على العام فقد خرج أفراده عن تحت العام لا محالة،وأمّا خروج غيرها من الأفراد أو الأصناف عن تحته فهو بلا مقتضٍ وموجب،حيث إنّ المقتضي للبقاء موجود فالخروج يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا،وعليه فاذا شككنا في خروج مقدار زائد عمّا خرج عنه بدليل مخصص فالمرجع هو عموم العام بالاضافة إليه،حيث إنّه لا بدّ من الاقتصار على المقدار الذي نتيقن بخروجه عنه دون الزائد عليه.

وبكلمة اخرى:أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لكل واحد من أفراد مدخوله ليست متوقفةً على دلالته على ثبوت الحكم لغيره من الأفراد جزماً، فكما أنّ ثبوت الحكم لكل فرد غير منوط بثبوته لغيره من الأفراد،فكذلك دلالته على ثبوته لكل فرد غير منوط بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد، والسبب في ذلك واضح،وهو أنّ المجعول في مقام الثبوت والواقع أحكام متعددة بعدد أفراد مدخوله المحققة والمقدرة،فيكون كل فردٍ منها في الواقع محكوماً بحكم مستقل بحيث لو خالفه استحق العقوبة وإن كان ممتثلاً للحكم


 

1) <page number=”326″ /><nl />مطارح الأنظار:192.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 327)


الثابت لغيره من الأفراد.وأمّا في مقام الاثبات فدلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة في عرض واحد،ونقصد به عدم توقف دلالة بعضها على بعضها الآخر،ومن الطبيعي أنّ سقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لدليل خارجي لا يستلزم سقوط غيره من الدلالات عن الحجية،بل هي باقية عليها،لفرض أنّ هذه الدلالات دلالات عرضية لا ترتبط إحداها بغيرها،فاذا سقطت إحداها عن الحجية بقيت الباقية عليها لا محالة لعدم الموجب لسقوطها،وعليه فخروج أفراد العام عن حكمه لا يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمها المخصص.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين المجاز اللازم فيما نحن فيه والمجاز المتحقق في غير المقام كقولنا:رأيت أسداً يرمي،فانّ المجاز اللازم هنا إنّما هو من ناحية خروج بعض ما كان داخلاً في عموم العام،حيث إنّه يستلزم كونه مجازاً في الباقي.وأمّا دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون استعماله فيه مجازاً، فانّه داخل فيه من الأوّل يعني قبل التخصيص،وعليه فالمجاز مستند إلى خروج ما كان داخلاً فيه لا إلى دخول الباقي،ونتيجة ذلك:هي أنّ المعنى المجازي في المقام لا يكون مبايناً للمعنى الحقيقي،فانّ الباقي قبل التخصيص داخل في المعنى الحقيقي وبعده صار معنىً مجازياً،وهذا بخلاف المعنى المجازي في مثل قولنا:

رأيت أسداً يرمي فانّه مباين للمعنى الحقيقي،وعلى ذلك فالمعنى المجازي وإن كان متعدداً في المقام نظراً إلى تعدد مراتب الباقي تحت العام،إلّاأنّ المتعيّن بعد ورود التخصيص عليه هو إرادة تمام الباقي دون غيره من المراتب،لما عرفت من أنّ الخروج عن حكم العام يحتاج إلى دليل دون دخول الباقي،فانّ المقتضي له موجود والمانع مفقود.فاذن لا يحتاج إرادته من بين غيره من المراتب إلى قرينة معيّنة.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 328)


وهذا بخلاف ما إذا كان المجاز متعدداً في غير المقام كالمثال المزبور،فانّه لا يمكن تعيين بعض منه بلا قرينة معيّنة.مثلاً إذا قامت القرينة الصارفة على أنّ المراد من الأسد ليس هو الحيوان المفترس،ودار أمره بين أن يكون المراد منه الرجل الشجاع أو صورته على الجدار مثلاً أو غيرهما من المعاني المجازية له،فبطبيعة الحال يحتاج تعيين كل واحد منها إلى قرينة معيّنة،وبدونها فاللفظ مجمل فلا يدل على شيء منها،وقد قرّب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1هذا الوجه بهذا التقريب وقال:إنّه على تقدير تسليم كون التخصيص مستلزماً للمجاز فلا إجمال في العام أيضاً،وأنّ المرجع في غير أفراد المخصص هو عموم العام.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه،وذلك لما ذكره في الكفاية 2من أنّ الدلالة لا بدّ لها من مقتضٍ وهو إمّا الوضع أو القرينة ولا ثالث لهما،أمّا الأوّل فهو مفقود على الفرض،حيث إنّ العام لم يوضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام الباقي،وإنّما وضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام أفراد مدخوله.وأمّا القرينة فكذلك،فانّ القرينة إنّما قامت على أنّ العام لم يستعمل في معناه الموضوع له، ولا قرينة اخرى تدل على أ نّه استعمل في تمام الباقي،فما ذكره (قدس سره) من أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد وإن كان متيناً جداً،إلّاأنّ ذلك يحتاج إلى مقتضٍ وهو وضع العام للدلالة على العموم،فاذا افترضنا أنّ دلالته على العموم قد سقطت من ناحية التخصيص فلا مقتضي لدلالته على إرادة تمام الباقي،لفرض أنّ دلالته عليها إنّما


 

1) <page number=”328″ /><nl />أجود التقريرات 2:303.
2) <nl />كفاية الاُصول:220.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 329)


هي من جهة دلالته على العموم لا مطلقاً.

وعلى الجملة:فالمقتضي-وهو دلالته على العموم-قد سقط على الفرض، ولا ظهور له بعد ذلك في إرادة تمام الباقي فانّه يرتكز على أحد أمرين:الوضع أو القرينة المعيّنة،وكلاهما مفقود كما عرفت.فاذن ما هو المقتضي لظهوره فيها،فما في كلامه (قدس سره) من أنّ المقتضي لدخول الباقي موجود والخروج يحتاج إلى دليل لا يرجع بالتأمل والتحليل إلى معنىً صحيح على ضوء نظرية أنّ التخصيص يستلزم المجاز،فانّ المقتضي-وهو عموم العام-قد سقط بالتخصيص،فاذن ما هو المقتضي لدخوله،إذ من المحتمل أ نّه قد استعمل بعد التخصيص في بعض مراتب الباقي لا في تمامه،فالتعيين يحتاج إلى قرينة.

نعم،لو كانت دلالة العام على العموم عقلية أو كانت ذاتية لتم ما أفاده (قدس سره) كما هو واضح.ولكنّه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له.

فالنتيجة أ نّه لا دافع للاشكال المزبور إلّاعلى ضوء ما ذكرناه من أنّ التخصيص ولو كان بالمنفصل لا يوجب المجاز،حيث إنّ العام بعد التخصيص أيضاً استعمل في معناه الموضوع له،وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) تبعاً لشيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) من أنّ المقتضي بالاضافة إلى الباقي موجود والمانع مفقود تام ولا مناص عنه،فانّ المقتضي-وهو ظهور العام في العموم المستند إلى الوضع-موجود،والمخصص المنفصل إنّما يكون مزاحماً لحجيته في مقدار سعة مدلوله دون أصل ظهوره.فاذن لا مانع من التمسك به بالاضافة إلى الباقي كلّه،كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة بعدد أفراده،وهذه الدلالات دلالات عرضية لا يتوقف بعضها على بعضها الآخر، فاذا سقطت إحداها عن الحجية لم تسقط غيرها،إنّما يتم على ضوء ما عرفت

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 330)


من أنّ التخصيص لا يوجب المجاز.إذن على هذا الأساس فسقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لا يوجب سقوط غيرها عنها،والسر فيه هو أنّ موضوع الحجية إنّما هو الظهور الكاشف عن مراد المولى،والمفروض أ نّه متحقق في المقام،والمخصص المنفصل إنّما يمنع عن حجية هذا الظهور وكاشفيته بالاضافة إلى مقدار سعة مدلوله دون الزائد عليه،فبالنسبة إلى الزائد فالعام باقٍ على ظهوره وكاشفيته عن الواقع،لعدم المانع عنه على الفرض،وبدون المانع لا موجب لسقوطه أصلاً.

ومن ذلك يظهر نقطة الفرق بين هذه النظرية ونظرية المجاز،وهي أنّ المخصص المنفصل على ضوء تلك النظرية يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم ومزاحماً له لا عن حجيته فحسب دون أصل ظهوره كما هو كذلك على ضوء هذه النظرية،وعليه فاذا افترضنا أنّ ظهوره في العموم قد سقط من جهة التخصيص فبطبيعة الحال لا تبقى له دلالة على العموم بالاضافة إلى الأفراد الباقية،يعني غير أفراد المخصص.ونظير ما ذكرناه هنا موجود في سائر الأمارات والحجج أيضاً،مثلاً إذا افترضنا أنّ البيّنة قامت على أنّ الدار الفلانية والدار المتصلة بها التي هي واقعة في طرف شرقها والدار الاُخرى التي هي واقعة في طرف غربها كلّها لزيد،ثمّ أقرّ زيد بأنّ الدار الواقعة في طرف الشرق ملك لعمرو،فلا يكون هذا الاقرار مانعاً عن حجية البيّنة مطلقاً،وإنّما يكون مانعاً بالاضافة إلى مورده فحسب،والسبب فيه هو أنّ هذه البيّنة تنحل في الواقع إلى بيّنات متعددة فسقوط بعضها عن الحجية لمانع لا يوجب سقوط غيرها عنها،لعدم موجب لذلك أصلاً،وأمثلة ذلك في الروايات كثيرة.

[البحث الثاني:التمسك بالعام في الشبهة المفهومية]

وأمّا الكلام في البحث الثاني: وهو ما يفرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشبهة المفهومية،فيقع في مقامين:الأوّل:فيما إذا كان أمر المخصص

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 331)


المجمل مفهوماً دائراً بين الأقل والأكثر.الثاني:فيما إذا كان أمره دائراً بين المتباينين.

[المقام الأوّل:إجمال المخصص من جهة دورانه بين الأقل و الأكثر]

أمّا المقام الأوّل: فتارةً يكون المخصص المجمل متصلاً،واُخرى يكون منفصلاً.

أمّا إذا كان متصلاً فبما أ نّه مانع عن انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل حيث إنّه لا ينعقد للكلام الملقى للافادة والاستفادة ظهور عرفي في المعنى المقصود إلّابعد فراغ المتكلم منه،فبطبيعة الحال يسري إجماله إلى العام فيكون العام مجملاً حقيقةً،يعني كما لا ينعقد له ظهور في العموم لا ينعقد له ظهور في الخصوص أيضاً.

وإن شئت قلت:إنّ اتصال المخصص بالعام مانع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم،فان لم يكن مجملاً انعقد ظهوره في خصوص الخاص،وأمّا إذا كان مجملاً فهو كما يمنع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم كذلك يمنع عن ظهوره التصديقي في خصوص الخاص أيضاً كقولنا:أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم،إذا افترضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل ودار أمره بين فاعل الكبيرة فحسب أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة،ففي مثل ذلك كما أنّ شمول الخاص لفاعل الصغيرة غير معلوم حيث لا يعلم بوضعه للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة،كذلك شمول العام له نظراً إلى إجماله وعدم انعقاد ظهور له أصلاً،فلا يعلم أنّ الخارج منه فاعلا الكبيرة والصغيرة معاً أو خصوص فاعل الكبيرة،وعليه فلا محالة يكون المرجع في فاعل الصغيرة الأصل العملي.

فإن كان العام متكفلاً لحكم إلزامي والخاص متكفلاً لحكم غير إلزامي أو بالعكس فالمرجع فيه أصالة البراءة.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 332)


وأمّا إن كان كل منهما متكفلاً لحكم إلزامي فيدخل في دوران الأمر بين المحذورين حيث يدور أمره بين وجوب الاكرام وحرمته،فهل المرجع فيه أصالة التخيير عقلاً أو أصالة البراءة ؟ الأظهر هو الثاني فيما إذا كانت الواقعة واحدةً لا مطلقاً على تفصيل يأتي في محلّه 1.

وأمّا إذا كان المخصص المجمل منفصلاً ودار أمره بين الأقل والأكثر كما إذا قال المولى:أكرم العلماء ثمّ قال:لا تكرم الفسّاق منهم وفرضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل ومردد بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة، فلا يكون إجماله مانعاً عن التمسك بعموم العام،حيث إنّ ظهوره في العموم قد انعقد،والمخصص المنفصل كما عرفت لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره فيه، وعليه فلا محالة يقتصر في تخصيصه على المقدار المتيقن إرادته من المخصص المجمل،وهو خصوص فاعل الكبيرة فحسب،وأمّا في المشكوك-وهو فاعل الصغيرة في المثال-فبما أنّ الخاص لا يكون حجةً فيه لفرض إجماله،فلا مانع من التمسك فيه بعموم العام حيث إنّه حجة وكاشف عن الواقع،ولا يسري إجمال المخصص إليه على الفرض.

وإن شئت قلت:إنّ المخصص المنفصل إنّما يكون مانعاً عن حجية العام وموجباً لتقييد موضوعه في المقدار الذي يكون حجةً فيه،فان لم يكن مجملاً فهو لا محالة يكون حجةً في تمام ما كان ظاهراً فيه،وإن كان مجملاً كما في محل الكلام فهو بطبيعة الحال إنّما يكون حجةً في المقدار المتيقن إرادته منه في الواقع دون الزائد،حيث إنّه كاشف عن هذا المقدار فحسب دون الزائد عليه،وعلى الأوّل فهو يوجب تقييد موضوع العام بالاضافة إلى جميع ما كان ظاهراً فيه،


 

1) <page number=”332″ /> مصباح الاُصول 2:383.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 333)


وعلى الثاني فيوجب تقييده بالاضافة إلى المتيقن فحسب دون الزائد المشكوك فيه،فانّه لا يكون حجةً فيه،وعليه فلا مانع من الرجوع فيه إلى عموم العام حيث إنّه شامل له،ولا مانع من شموله ما عدا كون الخاص حجةً فيه وهو غير حجة على الفرض.وعلى هذا الضوء ففي المثال المتقدم قد ثبت تقييد موضوع العام-وهو العالم-بعدم كونه فاعل الكبيرة،وأمّا تقييده بعدم كونه فاعل الصغيرة فهو مشكوك فيه فأصالة العموم في طرف العام تدفعه.

فالنتيجة: أنّ أصالة العموم رافعة لاجمال المخصص حكماً،يعني لا يبقى معها إجمال فيه من هذه الناحية.

[المقام الثاني:إجمال المخصص من جهة دورانه بين المتباينين]

وأمّا المقام الثاني: وهو ما إذا كان أمر المخصص المجمل مردداً بين المتباينين،فأيضاً تارةً يكون المخصص المجمل المزبور متصلاً،واُخرى يكون منفصلاً.

أمّا الأوّل: فالكلام فيه بعينه هو الكلام في المخصص المتصل المجمل الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر،يعني أ نّه يوجب إجمال العام حقيقةً،فلا يمكن التمسك به أصلاً،ومثاله كقولنا:أكرم العلماء إلّازيداً،مثلاً إذا افترضنا أنّ زيداً دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن بكر،فانّه لا محالة يمنع عن ظهور العام في العموم ويوجب إجماله حقيقةً.نعم،يفترق الكلام فيه عن الكلام في ذاك بالاضافة إلى الأصل العملي،بيان ذلك:أنّ العام أو الخاص إذا كان أحدهما متكفلاً للحكم الالزامي والآخر متكفلاً للحكم الترخيصي،فالمرجع فيه أصالة الاحتياط،للعلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما أو بحرمة إكرامه،ومقتضى هذا العلم الاجمالي لا محالة هو الاحتياط.وأمّا إذا كان كلاهما متكفلاً للحكم الالزامي بأن يعلم إجمالاً أنّ أحدهما واجب الاكرام والآخر محرّم الاكرام،فبما أ نّه لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط ولا إلى أصالة البراءة،لعدم إمكان الأوّل

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 334)


واستلزام الثاني المخالفة القطعية العملية،فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة التخيير.

فالنتيجة أ نّهما يشتركان في الأصل اللفظي ويفترقان في الأصل العملي.

وأمّا الثاني: وهو ما إذا كان المخصص المجمل المذكور منفصلاً فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقةً حيث قد انعقد له الظهور في العموم ومن الطبيعي أنّ الشيء لا ينقلب عما هو عليه،إلّاأ نّه يوجب إجماله حكماً،مثلاً لو قال المولى:

أكرم كل عالم ثمّ قال:لا تكرم زيداً وفرضنا أنّ زيداً دار أمره بين زيد بن عمرو وزيد بن خالد،فهذا المخصص المنفصل كغيره وإن لم يكن مانعاً عن ظهور العام في العموم لما عرفت،إلّاأ نّه لا يمكن التمسك بأصالة العموم في المقام،لأنّ التمسك بها بالاضافة إلى كليهما لا يمكن،لأنّ العلم الاجمالي بخروج أحدهما عنه أوجب سقوطها عن الحجية والاعتبار فلا تكون كاشفةً عن الواقع بعد هذا العلم الاجمالي،وأمّا بالاضافة إلى أحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح من دون مرجح،وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً على الفرض.

فالنتيجة أنّ العام في المقام في حكم المجمل وإن لم يكن مجملاً حقيقةً.

وأمّا الكلام في البحث الثالث: وهو ما إذا كان الشك في التخصيص من ناحية الشبهة الموضوعية،فيقع في جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وعدم جوازه.الصحيح هو عدم جوازه مطلقاً،أي سواء أكان المخصص متصلاً أم كان منفصلاً.

[الأوّل:التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مع اتصال المخصص]

أمّا في الأوّل: فلا شبهة في عدم جواز التمسك به في الشبهة المصداقية، ولا خلاف فيه بين الأصحاب،ولا فرق فيه بين أن يكون المخصص المتصل بأداة الاستثناء كقولنا:أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم،أو بغيرها كالوصف أو نحوه كقولنا:أكرم كل عالم تقي وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو فاسق أو هو تقي أو ليس بتقي،ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بأصالة العموم لاحراز أ نّه ليس

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 335)


بفاسق أو هو تقي.

والسبب في ذلك:هو أنّ القضية مطلقاً،أي سواء أكانت خارجية أم كانت حقيقية،وسواء أكانت خبرية أم كانت إنشائية،فهي إنّما تتكفل لبيان حكمها لموضوعه الموجود في الخارج حقيقيةً أو تقديراً من دون دلالة لها على أنّ هذا الفرد موضوع له أو ليس بموضوع له أصلاً،مثلاً قولنا:أكرم علماء البلد إلّا الفسّاق منهم،قضية خارجية تدل على ثبوت الحكم للأفراد الموجودة في الخارج،فلو شككنا في أنّ زيداً العالم الذي هو من علماء البلد هل هو فاسق أوليس بفاسق فهذه القضية لا تدل على أ نّه ليس بفاسق فيجب إكرامه، ضرورة أنّ مفادها وجوب إكرام عالم البلد على تقدير عدم كونه فاسقاً،وأمّا أنّ هذا التقدير ثابت أوليس بثابت فهي لا تتعرض له لا إثباتاً ولا نفياً.

وأمّا في القضية الحقيقية كالقضيتين المتقدمتين ونحوهما فالأمر فيها أوضح من ذلك،فانّ الموضوع فيها بما أ نّه قد اخذ في موضع الفرض والتقدير فلأجل ذلك ترجع في الحقيقة إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له،ومن الطبيعي أنّ القضية الشرطية لا تنظر إلى وجود شرطها في الخارج وعدم وجوده أصلاً،بل هي ناظرة إلى إثبات التالي على تقدير وجود الشرط كقولنا:الخمر حرام،البول نجس،الحج واجب على المستطيع وما شاكل ذلك،فانّها قضايا حقيقية قد اخذ موضوعها مفروض الوجود في الخارج،ومدلول هذه القضايا هو ثبوت الحكم لهذا الموضوع من دون نظر لها إلى وجوده وتحققه في الخارج وعدمه أصلاً،ومن هنا لو شككنا في أنّ المائع الفلاني خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك باطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر لاثبات أ نّه خمر،حيث إنّه خارج عن إطار مدلوله فلا نظر له إليه لا إثباتاً ولا نفياً.فالنتيجة أنّ عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 336)


في موارد التخصيص بالمتصل بمكان من الوضوح،هذا.

مضافاً إلى أنّ العام المخصص بالمتصل لا ينعقد له ظهور في العموم وإنّما ينعقد له ظهور في الخاص فحسب كقولنا:أكرم العلماء إلّاالفساق منهم،فانّه لا ينعقد له ظهور إلّافي وجوب إكرام حصة خاصة من العلماء وهي التي لاتوجد فيها صفة الفسق،وعليه فاذا شككنا في عالم أ نّه فاسق أو ليس بفاسق فلا عموم له بالاضافة إليه حتى نتكلم في جواز التمسك به بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه.

[الثاني:التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مع انفصال المخصص]

وأمّا الثاني: وهو ما إذا كان المخصص منفصلاً،فقد قيل إنّ المشهور بين القدماء جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،وربّما نسب هذا القول إلى السيد (قدس سره) في العروة أيضاً بدعوى أنّ حال هذه المسألة حال المسألة السابقة وهي دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر،فكما يجوز التمسك بعموم العام في تلك المسألة في الزائد على الأقل حيث إنّ الخاص لا يكون حجةً فيه كي يزاحم ظهور العام في الحجية وفي الكشف عن كونه مراداً في الواقع، فكذلك يجوز التمسك به في هذه المسألة ببيان أنّ ظهور العام قد انعقد في عموم وجوب إكرام كل عالم سواء أكان فاسقاً أم لم يكن،وقد خرج منه العالم الفاسق بدليل المخصص،فحينئذ إن علم بفسقه فلا إشكال في عدم وجوب إكرامه،وإن لم يعلم به فلا قصور في شمول عموم العام له،حيث إنّ دليل المخصص غير شامل له باعتبار أ نّه لا عموم أو لا إطلاق له بالاضافة إلى الفرد المشكوك،وعليه فلا مانع من التمسك بعموم العام فيه حيث إنّه بعمومه شامل له،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ هذه النسبة غير مصرّح بها في كلماتهم وإنّما هي استنبطت من بعض الفروع التي هم قد أفتوا بها،كما أنّ شيخنا العلّامة

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 337)


الأنصاري (قدس سره) 1قد استنبط حجية الأصل المثبت عندهم من بعض الفروع التي هم قد التزموا بها وذكر (قدس سره) بعض هذه الفروع وقال:إنّها تبتني على القول بحجية الأصل المثبت وبدون القول بها لا تتم.

وعلى الجملة:فبما أنّ هذه المسألة لم تكن معنونةً في كلماتهم لا في الاُصول ولا في الفروع،ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلّاعلى القول بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،فلأجل ذلك نسب إليهم، هذا.

وأمّا نسبة هذا القول إلى السيد صاحب العروة (قدس سره) فهي أيضاً تبتني على الاستنباط من بعض الفروع التي ذكرها (قدس سره) في العروة 2منها قوله:إذا علم كون الدم أقل من الدرهم وشك في أ نّه من المستثنيات أم لا يبنى على العفو،وأمّا إذا شك في أ نّه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو.

حيث توهم من ذلك أنّ بناءه (قدس سره) على العفو في الصورة الاُولى ليس إلّا من ناحية التمسك بأصالة العموم في الشبهات المصداقية وكذا بناؤه على عدم العفو في الصورة الثانية ليس إلّامن ناحية التمسك بها فيها،بيان ذلك:

أمّا في الصورة الاُولى: فقد ورد في الروايات أ نّه لا بأس بالصلاة في دم إذا كان أقل من درهم منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال«قلت له:الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة،قال:إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ في غيره وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم،وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم


 

1) <page number=”337″ /><nl />فرائد الاُصول 2:662.
2) <nl />العروة الوثقىٰ 1:86 المسألة 3 [ 299 ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 338)


تره» 1. ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال«قلت لأبي عبداللّٰه (عليه السلام):الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته ؟ قال:يغسله ولا يعيد صلاته إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة» 2. ومنها: صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام)«قال:في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة» 3وهذه الروايات استثناء مما دلّ على عدم جواز الصلاة في الدم مطلقاً ولو كان أقل من درهم باعتبار نجاسته، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:قد ورد في رواية اخرى أنّ دم الحيض مانع عن الصلاة مطلقاً ولو كان أقل من الدرهم،وقد ألحق المشهور به دم النفاس والاستحاضة، وهي رواية أبي بصير عن أبي عبداللّٰه أو أبي جعفر (عليه السلام)«قال:لا تعاد الصلاة من دم لم تبصره غير دم الحيض فانّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء» 4فهذه الرواية تقيّد إطلاق الروايات المتقدمة بغير دم الحيض وما الحق به.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين:هي أ نّه إذا شككنا في دم يكون أقل من الدرهم أ نّه من أفراد المخصص يعني الدماء الثلاثة أو من أفراد العام وهو الروايات المتقدمة،فالسيد (قدس سره) تمسك بعموم تلك الروايات وحكم


 

1) <page number=”338″ /><nl />الوسائل 3:/431أبواب النجاسات ب 20 ح 6.
2) <nl />الوسائل 3:/429أبواب النجاسات ب 20 ح 1.
3) <nl />الوسائل 3:/430أبواب النجاسات ب 20 ح 2.
4) <nl />الوسائل 3:/432أبواب النجاسات ب 21 ح 1 وفي بعض النسخ بدون«لم».

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 339)


بعدم البأس به في الصلاة،مع أنّ الشبهة مصداقية،وهذا ليس إلّامن جهة أ نّه (قدس سره) يرى جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وأمّا في الصورة الثانية: فقد ورد في الروايات 1ما دلّ على عدم جواز الصلاة في الثوب المتنجس بلا فرق بين كونه متنجساً بالدم أو بغيره من النجاسات،ولكن قد خرج من ذلك خصوص الثوب المتنجس بالدم إذا كان أقل من الدرهم بالروايات المتقدمة،فعندئذ إذا شككنا في دم أ نّه أقل من الدرهم حتى يكون داخلاً تحت عنوان المخصص أو أزيد منه حتى يكون داخلاً تحت عنوان دليل العام،فالسيد (قدس سره) قد تمسك فيه بعموم دليل العام وحكم بعدم العفو عنه في الصلاة،مع أنّ الشبهة مصداقية،وهذا شاهد على أ نّه (قدس سره) يرى جواز التمسك بالعام فيها،هذا.

ولكنّ التوهم المزبور في كلتا الصورتين قابل للمنع.

أمّا في الصورة الاُولى: فيحتمل أن يكون وجه فتواه بالعفو هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي لاحراز موضوع العام،حيث إنّ موضوعه مركب من أمرين:أحدهما وجودي وهو الدم الذي يكون أقل من الدرهم.وثانيهما عدمي وهو عدم كونه من دم حيض أو نفاس أو استحاضة،والأوّل محرز بالوجدان،والثاني بالأصل،وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ويتحقق فيترتب عليه حكمه بمقتضى عموم تلك الروايات وإطلاقها،أو يحتمل أن يكون وجه فتواه به هو التمسك بأصالة البراءة عن مانعية هذا الدم للصلاة بعد ما لم يمكن التمسك بدليل لفظي من جهة كون الشبهة مصداقية.


 

1) <page number=”339″ /><nl />الوسائل 3:/428أبواب النجاسات ب 19.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 340)


وأمّا في الصورة الثانية: فيحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو هو أصالة عدم كون هذا الدم أقل من درهم،نظراً إلى أنّ عنوان المخصص عنوان وجودي فلا مانع من التمسك بأصالة عدمه عند الشك فيه.وكيف كان فلا يمكن استنباط أ نّه (قدس سره) من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية من هذين الفرعين.ومما يشهد على أ نّه ليس من القائلين بذلك ما ذكره (قدس سره) في كتاب النكاح وإليك نصه:

مسألة 50:إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة وجب الاجتناب عن الجميع،وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ومن لا يجب،وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية،فان شك في كونه مماثلاً أو لا،أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا،فالظاهر وجوب الاجتناب،لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم،فمع الشك يعمل بمقتضى العموم،لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية،بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك 1فانّ هذا شاهد صدق على أ نّه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ ما أفاده (قدس سره) من التمسك بعموم آية وجوب الغض خاطئ جداً،أمّا أوّلاً:فلا عموم في الآية من هذه الناحية،يعني لا يمكن استفادة حرمة النظر من الآية الكريمة.وأمّا ثانياً:فعلى تقدير تسليم دلالتها على ذلك فلا تدل على أنّ جواز النظر مشروط بأمرٍ وجودي،بل مفهومها حرمة النظر إلى المخالف،فتكون الحرمة مشروطةً بأمر وجودي وهو المخالف،


 

1) <page number=”340″ /><nl />العروة الوثقىٰ 2:585 المسألة [ 3682 ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 341)


وتمام الكلام في محلّه.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي أنّ النسبة غير ثابتة.

[حكم المشهور بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عادية أو غير عادية]

ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1ذكر أنّ المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عاديةً أو غير عادية،ولكن لم يعلم وجه فتواهم بذلك هل هو من ناحية التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية أو من ناحية قاعدة المقتضي والمانع،نظراً إلى أنّ المقتضي للضمان موجود وهو اليد،والمانع مشكوك فيه وهو كونها يد أمانة فيدفع بالأصل،أو استصحاب العدم الأزلي نظراً إلى أنّ موضوع الضمان هو الاستيلاء على مال الغير المتصف بكونه مقارناً لعدم رضاه،فاذا كان الاستيلاء محرزاً بالوجدان جرى استصحاب عدم رضا المالك فيثبت الضمان،أو وجه آخر غير هذه الوجوه.فالنتيجة أنّ كون مستند فتواهم به أحد هذه الاُمور الثلاثة غير معلوم،بل هي بأنفسها غير تامة.أمّا الأوّل فسيجيء الكلام فيه.وأمّا الثاني فان اريد بالمقتضي الدليل فقد عرفت أ نّه قاصر عن شمول المورد،وإن أريد به الملاك المقتضي له فلم يمكن إحراز أصل وجوده فيه بعد عدم شمول الدليل له،وإن أريد به اليد الخارجية فقد عرفت أنّ اليد مطلقاً لاتقتضي الضمان والمقتضي له إنّما هو اليد الخاصة،وهي التي لاتكون يد أمين.

ثمّ قال (قدس سره) إنّ الصحيح في وجه ذلك أن يقال:إنّه يمكن التمسك بالأصل لاحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إليه،وملخص ما أفاده (قدس سره):هو أنّ موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاه بذلك،والمفروض في المقام أنّ الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم


 

1) <page number=”341″ /><nl />أجود التقريرات 2:323.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 342)


رضاه بذلك محرز بالأصل،وبضم الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو الضمان.

ولا يخفى أنّ ما أفاده (قدس سره) في غاية الصحة والمتانة،سواء أكانت الدعوى بين المالك وذي اليد في الرضا وعدمه،يعني أنّ المالك يدّعي أ نّه غير راضٍ باستيلائه على ماله وهو يدّعي رضاءه به كما عرفت،أو كانت بينهما في رضا اللّٰه تعالى به وعدمه،يعني أنّ المالك يدّعي أ نّه تعالى غير راضٍ باستيلائه على ماله وهو يدّعي أ نّه راضٍ به،كما إذا افترضنا أنّ المالك يدعي أ نّك غصبت ما بيدك من مالي،وهو يدعي أنِّي وجدت هذا المال وأ نّه كان عندي أمانة برضى اللّٰه سبحانه وتعالى فلا ضمان عليه إذا تلف،ففي هذه الصورة أيضاً لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل،حيث إنّ الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضاه تعالى به محرز بالأصل،فيتم الموضوع ويترتب عليه أثره وهو الضمان.

وإن شئت قلت:إنّ ذي اليد قد اعترف بأنّ المال الذي تحت يده هو مال المدعي،ولكنّه ادعى أ نّه غير ضامن له بدعوى أنّ يده عليه يد امانة،حيث إنّها كانت باذن من اللّٰه تعالى،ولكنّ المالك ادعى أ نّه تعالى لم يأذن به وأنّ يده عليه ليست يد أمانة،ففي مثل ذلك يمكن إحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إلى الأصل،وهو أصالة عدم إذنه تعالى به.

نعم،فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنّه يدعي ضمانه بعوضه وهو يدعي فراغ ذمته عنه،ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم ضمانه، مثاله:ما إذا اختلف المالك وذو اليد في عقد فادعى المالك أ نّه بيع،وادعى ذو اليد أ نّه هبة،فالقول قول مدعي الهبة،وعلى مدعي البيع الاثبات،والوجه فيه:هو أ نّه يدعي اشتغال ذمة المنقول إليه بالثمن وهو ينكر ذلك ويدعي عدم

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 343)


اشتغال الذمة بشيء،فحينئذ إن أقام البيّنة على ذلك فهو وإلّا فله إحلاف المنكر أي المنقول إليه،حيث إنّ قوله مطابق لأصالة عدم الضمان،يعني عدم اشتغال ذمته بالثمن.

هذا فيما إذا كانت العين تالفة أو كان المنقول إليه ذا رحم،وإلّا فله حق استرجاع المال من دون مرافعة،لأنّ العقد إن كان بيعاً في الواقع فبما أنّ المشتري لم يردّ ثمنه فله خيار الفسخ،وإن كان هبةً كذلك يعني في الواقع فبما أ نّها جائزة على الفرض فله فسخها واسترداد المال.نعم،إذا افترضنا الأمر بالعكس بأن يدّعي المالك الهبة ويدّعي ذو اليد البيع،فالقول قول مدعي البيع، وعلى مدعي الهبة الاثبات،وذلك لأنّه يدّعي في الحقيقة زوال ملكية المنقول إليه عن هذا المال برجوعه،فان أقام البيّنة على ذلك فهو وإلّا فالقول قوله مع يمينه.ولكن مثل هذا الفرع خارج عن مورد كلامه (قدس سره) فانّ مفروض كلامه هو ما إذا كان الشك في رضا المالك وعدمه،كما في الفرعين الأوّلين،وأمّا في هذا الفرع فالمفروض أنّ رضا المالك بالتصرف محرز والشك في الضمان إنّما هو من ناحية اخرى.

[ما يمكن أن يستدل به لجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية]

فالنتيجة: أنّ النسبة سواء أكانت مطابقة للواقع أم لم تكن فالصحيح في المقام أن يقال:إنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير جائز،والسبب فيه:أنّ غاية ما يمكن أن يستدل على جواز التمسك به فيها هو ما أشرنا إليه من أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد،والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره،وهذا الظهور متبع فيما لم يعلم خلافه،مثلاً لو أمر المولى بقوله:

أكرم كل عالم ثمّ نهى عن إكرام العالم الفاسق،فالدليل الأوّل وهو العام قد وصل إلينا صغرى وكبرى.أمّا الصغرى فهي محرزة بالوجدان أو بالتعبد.وأمّا الكبرى وهي وجوب إكرام كل عالم قد وصلت إلينا على الفرض،وقد تقدم

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 344)


أ نّها لا تتكفل لبيان حال الأفراد في الخارج،وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم على الموضوع المفروض الوجود فيه،فاذا أحرزنا صغرى هذه الكبرى كما هو المفروض فلا حالة منتظرة للعمل به،وأمّا الدليل الثاني وهو الخاص ففي كل مورد أحرزنا صغراه-وهو العالم الفاسق-نحكم بحرمة إكرامه ونقيّد عموم العام بغيره،وفيما لم نحرزها لا نحكم بحرمة إكرامه،لما عرفت من أنّ العمل بالدليل متوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وبدونه فلا موضوع للعمل به،وعليه فلا يمكن التمسك بالخاص فيما لم نحرز أنّ زيداً العالم مثلاً فاسق أو ليس بفاسق،ولكن لا مانع من العمل بالعام فيه لاحراز الصغرى والكبرى معاً بالاضافة إليه.

وعلى الجملة: فلا يمكن التمسك بأيّ دليل ما لم يحرز صغراه،ولا يكون حجةً بدون ذلك،ومن هنا قلنا في مسألة البراءة إنّا إذا شككنا في مائع أ نّه خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك بعموم ما دلّ على حرمة شرب الخمر،ضرورة أ نّه لا يكون متكفلاً لبيان صغراه،وإنّما هو متكفل لثبوت الحكم لمائع على تقدير أ نّه خمر،كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي لا تتعرض لبيان صغرياتها أصلاً،لا وجوداً ولا عدماً،وإنّما هي ناظرة إلى ثبوت الأحكام لموضوعاتها المقدّر وجودها في الخارج،وأمّا أ نّها موجودة أو غير موجودة فلا نظر لها في ذلك أبداً،فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية كالتمسك به في الشبهة المفهومية فيما إذا دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر،نظراً إلى أنّ المخصص هناك لا يكون حجة إلّافي الأقل دون الزائد عليه،ومن المعلوم أ نّه لا مانع من الرجوع إلى عموم العام في الزائد،لعدم قصور فيه عن الشمول له.

وكذا الحال في المقام حيث إنّ المخصص كقولنا:لا تكرم فسّاقهم لا يكون حجةً إلّافيما إذا احرز صغراه فيه،فاذا علم بفسق عالم فالصغرى له محرزة فلا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 345)


مانع من التمسك به،وإذا شك في فسقه فالصغرى له غير محرزة فلا يكون حجةً،وعليه فلا مانع من كون العام حجةً فيه،هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وقبل أن نأخذ بالنقد على ذلك حريّ بنا أن نقدّم نقطةً:وهي أنّ الحجة قد فسّرت بتفسيرين:أحدهما أن يراد بها ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس وهو معناها اللغوي والعرفي.وثانيهما أن يراد بها الكاشفية والطريقية،يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدي فيحتج على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ الحجة بالتفسير الأوّل تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وإلّا فلا أثر لها أصلاً،ومن هنا قلنا في مسألة البراءة أ نّه يجوز ارتكاب المشتبه بالخمر أو البول أو نحوه،فانّ ما دلّ على حرمة شرب الخمر أو نجاسة البول لا يكون حجةً في المشتبه،لعدم إحراز صغراه.وأمّا الحجة بالتفسير الثاني فلا تتوقف على إحراز الصغرى،ضرورة أ نّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه،سواء أكان لها موضوع في الخارج أم لم يكن.وإن شئت قلت:انّ الحجة بهذا التفسير تتوقف على إحراز الكبرى فحسب.

ومن ناحية ثالثة:أنّ الحجة بالتفسير الثاني هي المرجع للفقهاء في مقام الفتيا،دونها بالتفسير الأوّل،ولذا لو سئل المجتهد عن مدرك فتواه أجاب بالكتاب أو السنّة أو ما شاكلهما،ومن هنا أفتى الفقيه بوجوب الحج على المستطيع سواء أكان المستطيع موجوداً في الخارج أم لم يكن،فاحراز الكبرى فحسب كافٍ من دون لزوم إحراز الصغرى.

ومن ناحية رابعة:أنّ القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 346)


توهم أنّ المراد من الحجة في كل من طرفي العام والخاص هو الحجة بالتفسير الأوّل دون التفسير الثاني،وعلى هذا فحجية كل منهما تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً،وبما أنّ الكبرى في كليهما محرزة فبطبيعة الحال تتوقف حجيتهما على إحراز الصغرى فحسب،فان احرز أ نّه عالم فاسق فهو من صغريات الخاص حيث قد قيد موضوع العام بغيره،وإن شك في فسقه فلا يحرز أ نّه من صغرياته وبدونه لا يكون الخاص حجةً فيه،وأمّا كونه من صغريات العام فالظاهر أ نّه من صغرياته لفرض أنّ العالم بجميع أقسامه وأصنافه-أي سواء أكان معلوم العدل أو معلوم الفسق أو مشكوكه-من صغريات العام،ولكن قد خرج عنه خصوص معلوم الفسق،وأمّا القسمان الآخران فهما باقيان تحته.

والحاصل: أنّ موضوع العام قد قيّد بغير معلوم الفسق بدليل المخصص نظراً إلى أ نّه حجة فيه دون غيره،وأمّا مشكوك الفسق فهو باقٍ تحت العام فلا مانع من التمسك به بالاضافة إليه.

وبعد ذلك نقول:إنّ المراد من الحجة في المقام هو الحجة بالتفسير الثاني يعني الطريقية والكاشفية،والوجه فيه واضح وهو أنّ معنى حجية العام في عمومه وحجية الخاص في مدلوله هو الكاشفية والطريقية إلى الواقع،حيث إنّ حجية كل منهما من باب حجية الظهور،وقد حقق في محلّه أنّ حجيته من باب الكاشفية والطريقية إلى الواقع.ثمّ إنّ الحجة بهذا المعنى تلازم الحجة بالمعنى الأوّل أيضاً،يعني أنّ المولى كما يحتج على عبده بجعل ظهور العام مثلاً حجةً عليه وكاشفاً عن مراده واقعاً وجداً،كذلك يحتج بجعل ظهور الخاص حجةً عليه وكاشفاً عن مراده في الواقع.

وعليه فاذا ورد عام كقولنا:أكرم كل عالم فهو كاشف عن أنّ مراد المولى

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 347)


إكرام جميع العلماء بشتى أنواعهم وأفرادهم كالعدول والفسّاق ونحوهما،ثمّ إذا ورد خاص كقولنا:لا تكرم فسّاقهم فهو يكشف عن أنّ مراده الجدي هو الخاص دون العام بعمومه،ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول،وعليه فبطبيعة الحال يكون مراده فيه إمّا مطلقاً أو مقيداً،ولا ثالث لهما،وحيث إنّه لا يمكن أن يكون هو المطلق،لفرض وجود المقيد والمخصص في البين،فلا محالة يكون هو المقيد،يعني أنّ موضوع العام يكون مقيداً بقيد عدمي،ففي المثال المتقدم يكون موضوع وجوب الاكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقاً،لا مطلق العالم ولو كان فاسقاً،وعلى ضوء هذا البيان فاذا شك في عالم أ نّه فاسق أو ليس بفاسق فكما أنّ صدق عنوان المخصص عليه غير معلوم فكذلك صدق موضوع العام،فالصغرى في كليهما غير محرزة.فاذن لا محالة يكون التمسك بالعام بالاضافة إليه من التمسك به في الشبهات المصداقية،كما أنّ التمسك بالخاص بالاضافة إليه كذلك.

وإن شئت فقل:إنّ التمسك بالعام إنّما هو من ناحية أ نّه حجة وكاشف عن المراد الجدي،لا من ناحية أ نّه مستعمل في العموم،إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً،والمفروض أنّ المراد الجدي هنا غير المراد الاستعمالي،حيث إنّ المراد الجدي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي،وعليه فاذا شك في عالم أ نّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شك في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالاضافة إلى الخاص، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالاضافة إلى كل من العام بما هو حجة والخاص نسبة واحدة فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،فكما لا يمكن التمسك بالخاص بالاضافة إلى هذا الفرد،فكذلك لايمكن التمسك بالعام بالاضافة إليه،ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بالمسألة المتقدمة-وهي ما إذا كان

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 348)


المخصص مجملاً ودار أمره بين الأقل والأكثر-[ خاطئ جدّاً ] ووجه الظهور هو أنّ تقييد العام هناك بالمقدار المتيقن معلوم،وأمّا بالاضافة إلى الزائد فهو مشكوك فيه فندفعه بأصالة العموم.

وعلى الجملة:فالشك هناك ليس من ناحية الشبهة المصداقية،بل من ناحية الشبهة المفهومية فيكون الشك شكاً في التخصيص الزائد بعد العلم بأنّ المشكوك فيه ليس من مصاديق المخصص،دون المقام فانّ الشك فيه ليس شكاً في التخصيص الزائد،وإنّما هو شك في أ نّه من مصاديق العام بما هو حجة أو لا،وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعام لاحراز أ نّه من مصاديقه،هذا.

مضافاً إلى أنّ ما ذكره القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ليس في الحقيقة من التمسك بالعام فيها،بل هو من التمسك بالعام في الشبهات الحكمية،حيث إنّ الشك إنّما هو في التخصيص الزائد بالاضافة إلى الفرد المشكوك كونه من مصاديق الخاص،نظراً إلى أنّ الخاص لا يكون حجةً بالاضافة إليه،وعليه فبطبيعة الحال يكون الشك في تخصيص العام بغيره من الشك في التخصيص الزائد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدّة نتائج:

الاُولى:أنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير ممكن.

الثانية:أنّ ما ذكر في وجه جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ناشئ من الخلط بين التفسيرين المزبورين للحجة.

الثالثة:أ نّه على ضوء هذا الخلط يخرج التمسك بالعام في الموارد المشكوك كونها من مصاديق الخاص من التمسك به في الشبهات المصداقية.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 349)


[التفصيل بين المخصص اللفظي و المخصص اللبي]

ثمّ إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 1قد فصّل في المقام بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً،فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية دون الثاني،وتبعه في ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وقال في وجهه ما إليك نصه:

وأمّا إذا كان-المخصص-لبياً،فان كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل،حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلّافي الخصوص،وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه،والسر في ذلك:أنّ الكلام الملقى من السيد حجةً ليس إلّاما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بدّ من اتباعه ما لم يقطع بخلافه،مثلاً إذا قال المولى أكرم جيراني وقطع بأ نّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم،كان أصالة العموم باقيةً على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته،لعدم حجة اخرى بدون ذلك على خلافه،بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً،فانّ قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كأ نّه كان من رأس لا يعم الخاص،كما كان كذلك حقيقةً فيما كان الخاص متصلاً،والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيته إلّافيما قطع أ نّه عدوّه لا فيما شك فيه،كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه لاحتمال عداوته له وحسن عقوبته على مخالفته،وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور.


 

1) <page number=”349″ /><nl />مطارح الأنظار:194.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 350)


وبالجملة:كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك،ولعلّه لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما بالقاء حجتين هناك تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام كأ نّه لم يعمّه حكماً من رأس، وكأ نّه لم يكن بعام،بخلاف هاهنا،فانّ الحجة الملقاة ليست إلّاواحدة،والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في أكرم جيراني مثلاً لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلّا فيما قطع بخروجه عن تحته،فانّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه فلا بدّ من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.بل يمكن أن يقال إنّ قضية عمومه للمشكوك أ نّه ليس فرداً لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه فيقال في مثل لعن اللّٰه بني اميّة قاطبة أنّ فلاناً وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم،وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً فينتج أ نّه ليس بمؤمن،فتأمل جيداً 1.

نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة خطوط:

1- أنّ المخصص اللبي قد يكون كالمخصص اللفظي المتصل،يعني يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم.

2- أ نّه قد يكون كالمنفصل اللفظي،يعني لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم،ولكنّه يفترق عنه في نقطة وهي أنّ المخصص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسك بالعام في الفرد المشتبه،وأمّا إذا كان لبياً فهو غير مانع عنه،والنكتة في ذلك:هو أنّ الأوّل يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصص من باب تحكيم الخاص على العام،وعليه فاذا شك في فرد أ نّه من أفراد الخاص أو العام لم يمكن التمسك بالعام لاحراز أ نّه من أفراده كما عرفت


 

1) <page number=”350″ /> كفاية الاُصول:222-223.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 351)


بشكل موسّع،وهذا بخلاف الثاني،فانّه لا يوجب تقيد موضوع العام إلّابما قطع المكلف بخروجه عن تحته،فانّ ظهور العام في العموم حجة،والمفروض عدم قيام حجة اخرى على خلافه وإنّما هو قطع المكلف بخروج بعض أفراده عن تحته للقطع بعدم كونه واجداً لملاك حكمه،وهذا القطع حجة فيكون عذراً له في مقام الاحتجاج،وأمّا فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسك بعمومه فيها،حيث إنّ المانع عنه على الفرض إنّما هو قطع المكلف به،ومع فرض عدمه فلا مانع منه أصلاً.

3- أنّ التمسك بعموم العام للفرد المشكوك فيه يكون دليلاً على أ نّه ليس فرداً لما علم بخروجه من العنوان عن حكمه وأنّ هذا الفرد من أفراد العام، هذا.

[إشكال المحقق النائيني على هذا التفصيل]

وقد أورد على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وإليك بيانه:وهذا الكلام – جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبياً غير لفظي – لا يسعنا تصديقه على إطلاقه،فانّ المخصص إذا كان حكماً عقلياً ضرورياً بأن كان صارفاً لظهور الكلام وموجباً لعدم انعقاد الظهور إلّافي الخاص من أوّل الأمر،فحكمه حكم القرينة المتصلة اللفظية فكما لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية معها كذلك لا يجوز التمسك بالعموم معه،وأمّا إذا كان حكماً عقلياً أو إجماعاً بحيث لم يكن صالحاً لصرف ظهور العام من أوّل الأمر، فحكمه حكم المخصص المنفصل اللفظي،إذ كما أنّ المخصص اللفظي بعد تقدمه على عموم العام يكشف عن تقيد المراد الواقعي وعدم كون موضوع الحكم الواقعي مطلقاً فلا يمكن التمسك به عند عدم إحراز تمام موضوعه لأجل الشك في وجود القيد،كذلك المخصص اللبي يكشف عن التقيد المزبور فلا يمكن التمسك بالعموم عند عدم إحراز تمام موضوعه،فانّ الاعتبار في عدم اعتبار

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 352)


جواز التمسك بالعموم إنّما هو بالمنكشف،أعني به تقيد موضوع الحكم لباً،لا بخصوصية الكاشف من كونه لفظياً أو عقلياً 1.

وبعد ذلك نقول: أمّا الخط الأوّل فهو في غاية الصحة والمتانة.

وأمّا الخط الثاني: فيرد عليه ما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لكن فيما إذا كان تطبيق الكبرى على الصغرى وإحرازها موكولاً بنظر المكلف،سواء أكانت القضية حقيقيةً أم كانت خارجيةً،لا مطلقاً حتى فيما إذا لم يكن موكولاً بنظره،فلنا دعويان:الاُولى عدم تمامية هذا الخط فيما إذا كان أمر التطبيق منوطاً بنظر المكلف.الثانية تماميته فيما إذا لم يكن كذلك.

أمّا الدعوى الاُولى 2: فإن كانت القضية المتكفلة لاثبات حكم العام من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق موضوع الحكم فيها على أفراده في الواقع موكولاً بنظر المكلف وإحرازه،فبطبيعة الحال يكون إحراز عدم وجود ملاك الحكم في فردٍ مّا كاشفاً عن أنّ فيه خصوصية قد قيد موضوع العام بعدمها،وتلك الخصوصية قد تكون واضحةً بحسب المفهوم عرفاً والشك إنّما هو في وجودها في فردٍ مّا من أفراد العام،وقد تكون مجملةً بحسب المفهوم كذلك،يعني يدور أمرها بين أمرين أو الأكثر،وهذا تارةً من دوران الأمر بين الأقل والأكثر،واُخرى من المتباينين،أو العموم من وجه،فالأقسام ثلاثة:

أمّا القسم الأوّل:فلا يجوز فيه التمسك بالعام لاثبات الحكم له،لفرض أنّ الشك فيه في وجود موضوعه وتحققه في الخارج ومعه لا محالة يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،ومن الطبيعي أ نّه لا فرق فيه بين أن يكون


 

1) <page number=”352″ /> أجود التقريرات 2:342.
2) <nl />[ تأتي الدعوى الثانية في ص 354 ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 353)


المخصص لفظياً أو لبياً.

وأمّا القسم الثاني:فلا مانع من التمسك به بالاضافة إلى المقدار الزائد عن المتيقن،حيث إنّ مرجعه إلى الشك في التخصيص الزائد،والمرجع فيه لا محالة هو عموم العام.

وأمّا القسم الثالث:فلا يمكن التمسك به لاجماله،نظراً إلى أ نّنا نعلم إجمالاً بتقييد موضوع العام بقيد مردد بين أمرين متباينين أو امور كذلك،ومن الطبيعي أنّ هذا العلم الاجمالي مانع من التمسك به في المقام،حيث إنّ شمول العام لكليهما معاً لا يمكن،وشموله لأحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح من دون مرجّح،وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً،ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال وهو ما إذا ورد دليل يدل على وجوب إكرام كل عالم الشامل للعادل والفاسق وللنحوي وغيره،ثمّ علم من الخارج أنّ ملاك وجوب الاكرام غير موجود في زيد العالم مثلاً،وهذا تارةً من ناحية العلم بكون اتصافه بالفسق مانعاً عن تحقق ملاك وجوب الاكرام فيه،واُخرى من ناحية العلم بكون المانع من تحقق الملاك فيه واحدة من صفتي الفسق والنحوية الموجودتين فيه،فعلى الأوّل لا محالة يستلزم ذلك العلم بتقييد موضوع وجوب الاكرام بعدم كونه فاسقاً، وعليه فبطبيعة الحال لا يجوز التمسك بالعموم لاثبات وجوب الاكرام للعالم الذي شك في فسقه،وعلى الثاني يستلزم العلم بتقييد الموضوع بعدم اتصافه بأحد الوصفين على نحو الاجمال،ولازم ذلك إجمال العام وعدم جواز التمسك به لاثبات وجوب الاكرام للعالم الفاسق أو للنحوي.

نعم،إذا علم أنّ المانع من تحقق الملاك هو صفة الفسق ولكنّها بحسب المفهوم مجمل ويدور أمره بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه وفاعل الصغيرة،أو احتمل أنّ المانع من تحقق الملاك هو اجتماع الوصفين معاً لا كل

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 354)


واحد منهما،أو مع إضافة وصف آخر إليهما،اقتصر في جميع هذه الفروض في تخصيص العام على القدر المتيقن ويتمسك في غيره بأصالة العموم،كما كان هو الحال بعينه فيما دار أمر المخصص اللفظي بين الأقل والأكثر.

فالنتيجة في نهاية الشوط:هو أ نّه لا فرق بين المخصص اللفظي واللبي في شيء من الأحكام المزبورة فيما إذا كانت القضية المتكفلة لاثبات حكم العام من القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق الموضوع على أفراده في الخارج بنظر نفس المكلف.

وأمّا إذا كانت القضية من قبيل القضايا الخارجية،فإن كان المخصص لفظياً لم يجز التمسك بالعام في موارد الشبهات المصداقية،حيث إنّ المخصص اللفظي يكون قرينةً على أنّ المولى أوكل إحراز موضوع حكمه في الخارج إلى نفس المكلف،وبما أنّ موضوعه صار مقيداً بقيد بمقتضى التخصيص فبطبيعة الحال إذا شك في تحقق قيده في الخارج لم يمكن التمسك بالعموم،لفرض عدم كونه ناظراً إلى وجوده فيه أو عدم وجوده كما سبق.وأمّا إذا كان المخصص لبياً فإن علم من الخارج أنّ المولى أوكل إحراز موضوع العام إلى نفس المكلف فحاله حال المخصص اللفظي،كما إذا ورد في دليل:أعط لكل طالب علم في النجف الأشرف كذا وكذا ديناراً،وعلم من الخارج أنّ مراد المولى هو المعيل دون المجرد،ولازم ذلك بطبيعة الحال هو العلم بتقيد موضوع العام بعدم كونه مجرداً، فعندئذ إذا شك في طالب علم أ نّه معيل أو مجرد لم يمكن التمسك بعمومه،لعدم إحراز أ نّه من مصاديق العام.

وإن لم يعلم من الخارج ذلك صحّ التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية،والسبب فيه:أنّ ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن أ نّه بنفسه أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع الأفراد ولم يكل ذلك إلى المكلف،ومن

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 355)


المعلوم أنّ هذا الظهور حجة على المكلف في الموارد المشكوك فيها،فاذا أمر المولى خادمه باكرام جميع جيرانه،فانّ ظهور كلامه في العموم كاشف عن أ نّه لاحظ جميع أفراد موضوع حكمه وأحرز وجود الملاك في الجميع،ومن الطبيعي أنّ هذا الظهور حجة عليه ولا يجوز له التعدي عن مقتضاه إلّاإذا علم خلافه،كما إذا علم بأنّ زيداً مثلاً الذي يسكن في جواره عدوّه وأ نّه لا ملاك لوجوب الاكرام فيه جزماً،وسكوت المولى عن بيانه لعلّه لأجل مصلحة فيه أو مفسدة في البيان أو غفل عنه أو كان جاهلاً بعدم وجود الملاك فيه،وكيف ما كان فالمكلف متى ما علم بعدم وجود الملاك فيه فهو معذور في ترك إكرامه، لأنّ قطعه هذا عذر له،وهذا بخلاف ما إذا شك في فرد أ نّه عدوّه أو لا فلا عذر له في ترك إكرامه،حيث إنّه لا أثر لهذا الشك في مقابل الظهور،نظراً إلى أ نّه حجة فلا يجوز له رفع اليد عنه من دون قيام دليل وحجة أقوى بخلافه.

وأمّا الخط الثالث: فهو صحيح فيما إذا لم يكن إحراز الموضوع موكولاً إلى نظر المكلف كما هو الحال في مثل قوله (عليه السلام):«لعن اللّٰه بني اميّة قاطبة» 1فانّ هذه القضية بما أ نّها قضية خارجية صادرة من الإمام (عليه السلام) من دون قرينة تدل على إيكال إحراز الموضوع فيها في الخارج إلى نظر المكلف،فبطبيعة الحال تدل على أنّ المتكلم لاحظ الموضوع بتمام أفراده وأحرز أ نّه لا مؤمن بينهم،وعليه فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز لعن الفرد المشكوك في إيمانه.أو فقل:إنّا إذا علمنا من الخارج أنّ فيهم مؤمناً فهو خارج عن عمومه فلا يجوز لعنه جزماً،وأمّا إذا شك في فرد أ نّه مؤمن أو ليس بمؤمن فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز لعنه،ويستكشف منه بدليل الانّ أ نّه


 

1) <page number=”355″ /><nl />كامل الزيارات:176.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 356)


ليس بمؤمن.

فالنتيجة: أنّ القضية إن كانت خارجيةً فإن كان المخصص لفظياً أو كان لبياً وقامت قرينة على أنّ إحراز الموضوع في الخارج موكول إلى نظر المكلف، لم يجز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.وأمّا إذا كان المخصص لبياً ولم تقم قرينة على ذلك فالقضية في نفسها ظاهرة في أنّ أمر التطبيق بيد المولى،وأ نّه لاحظ جميع الأفراد الخارجية وجعل الحكم عليها،مثلاً لو قال المولى لعبده:

بع جميع ما عندي من الكتب،فانّه يدل بمقتضى الفهم العرفي على أنّ المولى قد أحرز وجود ملاك البيع في كل واحد واحد من كتبه،ومن المعلوم أنّ هذا الظهور حجة إلّافيما حصل له القطع بالخلاف،فحينئذ يرفع اليد عن هذا الظهور ويعمل على طبق قطعه لأنّ حجيته ذاتية وهو معذور في العمل به وإن كان مخالفاً للواقع،وأمّا في موارد الشك في وجود الملاك فالظهور حجة فيها، ولو خالف ولم يعمل به استحق المؤاخذة واللوم،إذ لا أثر لشكه بعد ما كان أمر التطبيق وإحراز الملاك بيد المولى.

[تفصيل المحقق النائيني في المخصص اللبي]

ومن ضوء هذا البيان يظهر نقد التفصيل الذي اختاره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1وحاصل ما اختاره أنّ المخصص اللبي بحسب مقام الاثبات على أنحاء ثلاثة:

أحدها: ما يوجب تقييد موضوع حكم العام وتضييقه نظير تقييد الرجل في قوله (عليه السلام):«فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا»إلخ بكونه عادلاً،لقيام الاجماع على ذلك،فحال هذا القسم حال المخصص اللفظي في عدم جواز التمسك بالعموم معه في الأفراد المشكوك فيها،


 

1) <page number=”356″ /><nl />أجود التقريرات 2:343-347.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 357)


ولا فرق في ذلك بين كون المخصص اللبي من قبيل القرينة المتصلة كما إذا كان حكماً عقلياً ضرورياً،أو من قبيل القرينة المنفصلة كما إذا كان حكماً عقلياً نظرياً أو إجماعاً،فانّه على كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

وثانيها: ما يكون كاشفاً عن ملاك الحكم وعلته من دون أن يوجب ذلك تقييد موضوع الحكم به،حيث إنّه لا يصلح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه،فإن كان المخصص اللبي من هذا القبيل فلا إشكال في جواز التمسك بالعموم عندئذ في الشبهات المصداقية،وكشف هذا العموم بطريق الانّ عن وجود الملاك في تمام الأفراد،فاذا شك في وجود الملاك في فردٍ كان عموم الحكم كاشفاً عن وجود الملاك فيه ورافعاً للشك من هذه الناحية،كما أ نّه إذا علم بعدم الملاك في فردٍ كان ذلك الفرد خارجاً عن العام من باب التخصيص، فيكون سكوت المولى عن حكم ذلك الفرد إمّا لأجل مصلحة مقتضية له أو مفسدة في بيانه كما في المولى الحقيقي،أو لجهله بعدم الملاك فيه كما ربّما يتفق ذلك في الموالي العرفية.

فالنتيجة:أنّ المخصص اللبي على هذا سواء أكان حكماً ضرورياً أم نظرياً أم إجماعاً لا يوجب تقييد موضوع الحكم في طرف العام،حيث إنّ ملاك الحكم كما عرفت لا يصلح أن يكون قيداً لموضوعه،والسبب في ذلك:هو أنّ إحراز اشتمال الأفراد على الملاك إنّما هو وظيفة نفس المولى،فبعموم الحكم يستكشف أ نّه أحرز وجود الملاك في تمام الأفراد فيتمسك به في الموارد المشكوكة.

وثالثها: ما لا يكشف عن شيء من الأمرين المزبورين،يعني لا يعلم أ نّه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما،فاذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في موارد

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 358)


الشك،فقد فصّل (قدس سره) بين ما إذا كان المخصص اللبي حكماً عقلياً ضرورياً بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان،وما إذا كان حكماً عقلياً نظرياً أو إجماعاً،فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية،حيث إنّ المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيسقط ظهوره في العموم لا محالة،فانّ هذا المخصص اللبي إن كان كاشفاً عن الملاك لم يكن مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم،وإن كان كاشفاً عن تقييد موضوع العام كان مانعاً عنه،وبما أ نّه مردد بين الأمرين فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد الظهور،وعلى الثاني فلا مانع من التمسك بالعموم حيث إنّ ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك به في الشبهات المصداقية، والسبب في ذلك هو أنّ أمر المخصص بما أ نّه يدور بين الأمرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به في الواقع،بل هو مجرد الاحتمال، ومن الطبيعي أنّ ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة،ولا يمكن رفع اليد عنه بمجرد الاحتمال.

[جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في القضايا الخارجية مع كون الدليل لبيا]

وجه الظهور: أي ظهور النقد،هو ما عرفت من أ نّه لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظياً أو لبياً.وأمّا في القضايا الخارجية فإن كان المخصص لفظياً،أو كان لبياً وقامت قرينة على أنّ المولى أوكل أمر التطبيق وإحراز الموضوع إلى نفس المكلف،فأيضاً لا يمكن التمسك بالعموم فيها في موارد الشك في المصداق.نعم،إذا كان المخصص لها لبياً ولم تقم قرينة على إيكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كانت القضية بنفسها ظاهرةً في أنّ المولى لاحظ بنفسه الأفراد الخارجية واشتمالها على الملاك ثمّ جعل الحكم عليها، ومن المعلوم أنّ هذا الظهور حجة ولا يمكن رفع اليد عنه إلّافيما علم بعدم

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 359)


اشتمال فرد على الملاك،فيكون سكوت المولى عن استثنائه لعله لأجل مصلحة في السكوت أو لأجل مفسدة في الاستثناء،أو لأجل جهل المولى به،أو غفلته عنه كما ربّما يتفق ذلك في الموالي العرفية،وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ إحراز اشتمال المتعلق على الملاك وظيفة الحاكم فهو وإن كان صحيحاً إلّاأنّ العلم بعدم اشتمال فرد على الملاك لا ينفك عن العلم بعدم كونه واجداً لخصوصية موجودة في بقية الأفراد وإن كانت تلك الخصوصية أمراً عدمياً،ومن الطبيعي أنّ العلم بدخل هذه الخصوصية في ملاك الحكم ملازم للعلم بأخذها في موضوعه،وعليه فلا يجوز التمسك بالعموم لا محالة فيما إذا شك في انطباق الموضوع بتمام قيوده على فردٍ مّا في الخارج إذا لم يكن أمر التطبيق بيد المولى،هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى:أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ المخصص اللبي قد يدور أمره بين أن يكون كاشفاً عن ملاك الحكم وأن يكون قيداً للموضوع لا يمكن المساعدة عليه بوجه،والسبب فيه:أ نّه لا يوجد مورد يشك في كون ما أدركه العقل من قبيل قيود الموضوع أو من قبيل الملاك المقتضي لجعل الحكم على موضوعه،حيث إنّ كل ما يمكن انقسام الموضوع بالنسبة إليه إلى قسمين أو أزيد يستحيل أن يكون من قبيل ملاكات الأحكام،بل لا بدّ من أن يكون الموضوع بالاضافة إليه مطلقاً أو مقيداً بوجوده أو بعدمه،كما أنّ كل ما يكون مترتباً على فعل المكلف في الخارج من المصالح أو المفاسد يستحيل كونه قيداً لموضوع الحكم وإنّما هو متمحض في كونه ملاكاً له ومقتضياً لجعله على موضوعه.

فالنتيجة:أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،وما اخترناه من التفصيل هو الصحيح.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 360)


تكملة

[ استصحاب العدم الأزلي ]

هل يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم إمكان التمسك بعموم العام بالاضافة إليه ؟ فيه قولان.

فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1إلى القول الأوّل،وشيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2إلى القول الثاني،فهنا نظريتان.والصحيح هو النظرية الأولى دون الثانية.

[اختصاص النزاع بعدم تعنون العام بعنوان وجودي]

ثمّ ليعلم أنّ محل الكلام في جريان هذا الأصل وعدم جريانه إنّما هو فيما إذا كان المخصص ذا عنوان وجودي وموجباً لتقييد موضوع العام بعدمه كقولنا:

أكرم العلماء إلّاالفساق منهم،أو قولنا:أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم، وأمّا إذا كان المخصص موجباً لتقييد موضوع العام بعنوان وجودي كقوله:أكرم العلماء العدول أو أكرم العلماء ثمّ قال:فليكونوا عدولاً،فهو خارج عن محل الكلام،فلو شك في فرد أ نّه عادل أو ليس بعادل فلا أصل لنا لاحراز عدالته.

نعم،لو شك في بقائها فالاستصحاب وإن كان يقتضي ذلك إلّاأ نّه خارج عن مفروض الكلام،حيث إنّ الكلام في وجود الأصل المحرز لعدالته مطلقاً وفي جميع الموارد،ومثل هذا الأصل غير موجود.


 

1) <page number=”360″ /><nl />كفاية الاُصول:224.
2) <nl />أجود التقريرات 2:328.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 361)


ونظير ذلك ما ذكرناه في الفقه 1من أنّ ما دل من الروايات على عدم انفعال الماء مطلقاً إلّابالتغير بأحد أوصاف النجس قد قيد بروايات الكر الدالة على اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة دون القليل،وإلّا لكان عنوان الكر المأخوذ في لسان الروايات لغواً محضاً،وعليه فيكون موضوع عدم انفعال الماء بالملاقاة إلّا إذا تغير هو الماء المقيد بالكر دون مطلق الماء،فاذا شك في ماء أ نّه كر أم لا فلا أصل هنا لاحراز أ نّه كر إلّاإذا كانت لكريته حالة سابقة.

فالنتيجة: أنّ في كل مورد يكون المخصص موجباً لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فهو خارج عن محل الكلام ولا يمكن إثباته بالأصل.فمحل الكلام إنّما هو فيما إذا كان المخصص موجباً لتقيد العام بعنوان عدمي من دون فرق في ذلك بين المخصص المتصل والمنفصل،كتقييد ما دل على انفعال الماء مطلقاً بالملاقاة بما دل على أنّ الماء الكر لا ينفعل بها،فيكون موضوع الانفعال بالملاقاة هو الماء الذي لا يكون كراً،وعليه فاذا شك في ماء أ نّه كر أو ليس بكر،فالصحيح أ نّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل لاثبات عدم كريته يعني عدمها الأزلي،فانّ الموضوع على هذا مركب من أمرين:أحدهما عنوان وجودي.والآخر عنوان عدمي،والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل، فبضم الوجدان إلى الأصل يتحقق الموضوع المركب فيترتب عليه أثره،ففي المثال المزبور يكون الموضوع أي موضوع الانفعال مركباً من الماء وعدم اتصافه بالكرية،والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل،حيث إنّه في زمان لم يكن ماء ولا اتصافه بالكرية ثمّ وجد الماء في الخارج فنشك في اتصافه بالكرية وأ نّه هل وجد أم لا،فنستصحب عدمه أي عدم اتصافه بها.


 

1) <page number=”361″ /><nl />شرح العروة الوثقىٰ 2:97 وما بعدها.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 362)


وكذا الحال في المثال الذي جاء به صاحب الكفاية (قدس سره) 1وهو ما إذا شك في المرأة أ نّها قرشية أو لا،فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم اتصافها بالقرشية وعدم انتسابها بها،حيث إنّ في زمان لم تكن هذه المرأة ولا اتصافها بالقرشية ثمّ وجدت المرأة فنشك في انتسابها إلى قريش فلا مانع من استصحاب عدم انتسابها إليه،وبضم هذا الاستصحاب إلى الوجدان.يثبت أنّ هذه مرأة لم تكن قرشية،والأوّل بالوجدان والثاني بالأصل،فتدخل في موضوع العام.

[إنكار النائيني استصحاب العدم الأزلي نتيجة مقدمات]

ولكن أنكر ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2وقال بأنّ الاستصحاب لا يجري في العدم الأزلي،واستدل على ذلك بعدّة مقدّمات:

الاُولى: أنّ التخصيص سواء أكان بالمتصل أو بالمنفصل وسواء أكان استثناءً أو غيره إنّما يوجب تقييد موضوع العام بغير عنوان المخصص،فاذا كان المخصص أمراً وجودياً كان الباقي تحت العام معنوناً بعنوان عدمي.وإن كان المخصص أمراً عدمياً كان الباقي تحته معنوناً بعنوان وجودي،والوجه فيه هو ما تقدم من أنّ موضوع كل حكم أو متعلقه بالنسبة إلى كل خصوصية يمكن أن ينقسم باعتبار وجودها وعدمها إلى قسمين مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له،ولا بدّ من أن يؤخذ في مقام الحكم عليه إمّا مطلقاً بالاضافة إلى وجودها وعدمها فيكون من الماهية اللا بشرط القسمي،أو مقيداً بوجودها فيكون من الماهية بشرط شيء،أو مقيداً بعدمها فيكون من الماهية بشرط لا،لأنّ الاهمال في الواقع في موارد التقسيمات الأوّلية مستحيل.

مثلاً العالم في نفسه ينقسم إلى العادل والفاسق مع قطع النظر عن ثبوت


 

1) <page number=”362″ /><nl />كفاية الاُصول:223.
2) <nl />أجود التقريرات 2:329-337.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 363)


الحكم له،وعليه فاذا جعل المولى الملتفت إلى ذلك وجوب الاكرام له فهو لا يخلو من أن يجعل له مطلقاً وغير مقيد بوجود العدالة أو بعدمها،أو يجعل له مقيداً باحدى الخصوصيتين،ضرورة أ نّه لا يعقل جهل الحاكم بموضوع حكمه وأ نّه غير ملاحظ له لا على نحو الاطلاق ولا على نحو التقييد،ولا فرق في ذلك بين أنواع الخصوصيات وأصنافها،وعليه فاذا افترضنا خروج قسم من الأقسام عن حكم العام فلا يخلو من أن يكون الباقي تحته بعد التخصيص مقيداً بنقيض الخارج فيكون دليل المخصص مقيداً لاطلاقه ورافعاً له،أو يبقى على إطلاقه بعد التخصيص أيضاً،ولا ثالث لهما،وبما أنّ الثاني باطل جزماً لاستلزامه التناقض والتهافت بين مدلولي دليل العام ودليل الخاص فيتعيّن الأوّل.

نعم،إذا كان المخصص متصلاً فهو مانع من انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل،فاطلاق التقييد والتخصيص عليه مبني على ضرب من المسامحة،حيث إنّه لا تقييد ولا تخصيص في العموم،فانّ الظهور من الأوّل قد انعقد في الخاص، وإنّما التقييد والتخصيص فيه بحسب المراد الواقعي الجدي فهو من هذه الناحية كالمخصص المنفصل فلا فرق بينهما في ذلك اصلاً،وإن كان فرق بينهما من ناحية اخرى كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرناه بين كون التخصيص نوعياً أو صنفياً أو فردياً أصلاً،فالكل يوجب تعنون العام بعنوان عدمي.

وقد ناقش في هذه المقدمة بعض الأعاظم (قدس اللّٰه أسرارهم) 1بما ملخّصه:

أنّ التخصيص لايوجب تعنون العام بأيّ عنوان،حيث إنّه ليس إلّاكموت أحد أفراد العام،فكما أ نّه لا يوجب تعنون العام بأيّ عنوان فكذلك التخصيص، غاية الأمر أنّ الأوّل موت تكويني والثاني موت تشريعي.


 

1) <page number=”363″ /><nl />مقالات الاُصول 1:440،445 وراجع أيضاً نهاية الأفكار 1-2:519.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 364)


ويردّه: أنّ هذا القياس خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،والسبب فيه:أنّ الموت التكويني يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في مرحلة التطبيق، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية التي مردّها إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له،مثلاً قولنا:الخمر حرام يرجع إلى قولنا:إذا وجد مائع في الخارج وصدق عليه أ نّه خمر فهو حرام،وإذا لم يوجد مائع كذلك فلا حرمة،فالحرمة تنتفي في مرحلة التطبيق بانتفاء موضوعها،وهذا ليس تقييداً للحكم في مرحلة الجعل، ضرورة أ نّه مجعول في هذه المرحلة للموضوع المفروض وجوده في الخارج فمتى وجد تحقق حكمه وإلّا فلا حكم في هذه المرحلة،أي مرحلة التطبيق والفعلية، وهذا بخلاف التخصيص فانّه يوجب تقييد الحكم في مرحلة الجعل في مقام الثبوت،يعني أنّ دليل المخصص يكشف عن أنّ الحكم من الأوّل خاص،وفي مقام الاثبات يدل على انتفاء الحكم مع بقاء الموضوع يعني عن الموضوع الموجود،فيكون من السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع كما هو الحال في الموت التكويني.

الثانية: أنّ الوجود والعدم مرةً يضافان إلى الماهية،يعني أ نّها إمّا موجودة أو معدومة.وبكلمة اخرى:أنّ الماهية سواء أكانت من الماهيات المتأصلة كالجواهر والأعراض أو كانت من غيرها،فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما،ضرورة أ نّه لا يعقل خلوّ الماهية عن أحدهما وإلّا لزم ارتفاع النقيضين،فكما يقال إنّ الجسم الطبيعي إمّا موجود أو معدوم،فكذلك يقال:إنّ البياض إمّا موجود أو معدوم،ولا فرق بينهما من هذه الناحية،ويسمى هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم المحموليين،نظراً إلى أ نّهما محمولان على الماهية وبمفادي كان وليس التامتين.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 365)


واُخرى يلاحظ وجود العرض بالاضافة إلى معروضه لا ماهيته،أو عدمه بالاضافة إليه،ويعبّر عن هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم النعتيين تارةً، وبمفاد كان الناقصة وليس الناقصة تارة اخرى،وهذا الوجود والعدم يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج ويستحيل تحققهما بدونه،فهما من هذه الناحية كالعدم والملكة،يعني أنّ التقابل بينهما يحتاج إلى وجود موضوع محقق في الخارج،ويستحيل التقابل بدونه،أمّا احتياج الملكة إليه فظاهر حيث لا يعقل وجودها إلّافي موضوع موجود،وأمّا احتياج العدم فلأنّ المراد منه ليس العدم المطلق،بل المراد منه عدم خاص وهو العدم المضاف إلى محل قابل للاتصاف بالملكة.مثلاً العمى ليس عبارة عن عدم البصر على الاطلاق،ولذا لا يصح سلبه عمّا لا يكون قابلاً للاتصاف به فلا يقال للجدار مثلاً إنّه أعمى يعني ليس ببصير،ومن هنا يصح ارتفاعهما معاً عن موضوع غير موجود من دون لزوم ارتفاع النقيضين،فانّ زيداً غير الموجود لا بصير ولا أعمى.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ اتصاف شيء بكل منهما يحتاج إلى وجوده وتحققه في الخارج،بداهة استحالة وجود الصفة بدون وجود موصوفها،لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له،وما نحن فيه كذلك،فانّ الوجود والعدم النعتيين يستحيل ثبوتهما بدون وجود منعوت وموصوف في الخارج،ومن هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم ارتفاع النقيضين،فانّ الفرد الخارجي من العالم إمّا أن يكون عادلاً أو فاسقاً،وأمّا المعدوم فلا يعقل اتصافه بشيء منهما،وهذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معاً،فانّه من ارتفاع النقيضين،لما عرفت من أنّ الماهية إذا قيست إلى الخارج فلا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 366)


فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ الوجود والعدم إذا كانا نعتيين أمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما،حيث إنّ الشيء قبل وجوده لا يكون متصفاً بوجود الصفة ولا بعدمها،ضرورة أنّ الاتصاف فرع وجود المتصف،وأمّا إذا كانا محموليين فلا يمكن ارتفاعهما عن موضوع،ضرورة أ نّه من ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتاً.

الثالثة: أنّ الموضوع المركب من شيئين لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض فلا رابع لها.

أمّا إذا كان من قبيل الأوّل كأن يكون مركباً من وجودي زيد وعمرو مثلاً،فتارةً يكون كلاهما محرزاً بالوجدان،واُخرى يكون كلاهما محرزاً بالأصل،وثالثة يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر بالأصل،فبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره،كما إذا كان وجود زيد محرزاً بالوجدان وشك في وجود عمرو وأ نّه باقٍ أو مات،فلا مانع من استصحاب بقائه وعدم موته،وبذلك يحرز كلا فردي الموضوع،حيث إنّ الموضوع ليس إلّاذات وجودي زيد وعمرو من دون دخل عنوان انتزاعي آخر فيه وإلّا لخرج عن محل الكلام،فانّ محل الكلام في الموضوعات المركبة دون البسيطة.على أ نّه لا يمكن إحراز ذلك العنوان الانتزاعي البسيط بالأصل.

وأمّا إذا كان من قبيل الثاني فتارةً يكونان عرضين لموضوع واحد كعدالة زيد مثلاً وعلمه،حيث إنّهما قد اخذا في موضوع جواز التقليد يعني ذات وجودي العدالة والعلم،ومعنى أخذهما في الموضوع كذلك هو أ نّه إذا وجد العلم له في زمان كان عادلاً في ذلك الزمان،فقد تحقق الموضوع بكلا جزأيه، حيث لم يؤخذ في موضوعه ما عدا ثبوتهما وتحققهما في زمان واحد من دون

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 367)


أخذ عنوان آخر فيه من التقارن وغيره،والمفروض أنّ أحدهما لا يتوقف على الآخر ولا يكون نعتاً له.وإن كان كل واحد منهما نعتاً لموضوعه ومحتاجاً إليه، فحالهما حال الجوهرين المأخوذين في الموضوع فلا فرق بينهما وبين هذين العرضين من هذه الناحية أصلاً،وعليه فمرةً يكون كل منهما محرزاً بالوجدان كما إذا ثبت كل من علمه وعدالته بالعلم الوجداني،ومرةً اخرى يكون كل منهما محرزاً بالتعبد كما إذا ثبت كل منهما بالبيّنة مثلاً أو بالأصل أو أحدهما بالبيّنة والآخر بالأصل.ومرةً ثالثةً يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر محرزاً بالتعبد كما إذا كان علمه ثابتاً بالوجدان وعدالته بالبيّنة أو بالأصل،وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو جواز التقليد أو نحوه.

واُخرى يكونان عرضين لمعروضين في الخارج كاسلام الوارث مثلاً وموت المورّث حيث إنّ كلاً منهما وإن كان نعتاً لموضوعه إلّاأنّ أحدهما ليس نعتاً للآخر ومتوقفاً عليه،نظير الممكن فانّه في وجوده يحتاج إلى وجود الواجب بالذات ولا يحتاج إلى وجود ممكن آخر.

أو فقل:إنّ الموضوع مركب من وجوديهما العارضين لموضوعين خارجاً من دون أخذ خصوصية فيه كالتقارن أو نحوه،وعليه فحالهما حال الجوهرين وحال العرضين لموضوع واحد،فكما أ نّه يمكن إحراز كليهما بالوجدان أو التعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد،فكذلك في المقام.ومن هذا القبيل ركوع الإمام وركوع المأموم في زمان واحد إذا قلنا إنّ الموضوع مركب من ذاتي ركوع الإمام وركوع المأموم،يعني ركوع المأموم تحقق في زمان كان الإمام فيه راكعاً،وعليه فاذا شك المأموم حينما ركع أ نّه هل أدرك الإمام في ركوعه أو لا،فلا مانع من استصحاب بقاء الإمام فيه وبضمه إلى الوجدان

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 368)


– وهو ركوع المأموم-يلتئم الموضوع فيترتب عليه أثره وهو صحة الاقتداء.

وأمّا إذا قلنا إنّ المستفاد من الأدلة أنّ الموضوع لها عنوان آخر كعنوان الحال أو التقارن أو ما شاكل ذلك لا وجود ركوع الإمام ووجود ركوع المأموم في زمان واحد،فلا يمكن إثباته إلّاعلى القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.

وعلى الجملة:فإن كان المستفاد من الأدلة هو أنّ الموضوع ذاتا الركوعين في زمان واحد من دون أخذ خصوصية اخرى فيه،فلا مانع من جريان الأصل وإثبات الموضوع به،وأمّا إن كان المستفاد منها أ نّه قد اخذ فيه خصوصية اخرى كالتقارن أو نحوه فلا أصل في المقام ليتمسك به إلّاإذا قلنا بالأصل المثبت ولا نقول به.

وأمّا إذا كان من قبيل الثالث وهو ما إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض،فانّه تارةً يكون مركباً من جوهر وعرض لموضوع آخر كما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من وجود زيد مثلاً وعدالة عمرو أو وجود بكر وقيام خالد وهكذا،فحال هذا الشق حال القسم الأوّل والثاني فلا مانع من إثباته بالأصل.وتارةً اخرى يكون مركباً من عرض وموضوعه كزيد وعدالته وعمرو وقيامه وهكذا،ففي مثل هذا الشق لا محالة يكون المأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي،حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له، فعندئذ إن كان لاتصاف الموضوع به وجوداً أو عدماً حالة سابقة جرى استصحاب بقائه وإلّا فلا.مثلاً إذا كان لاتصاف الماء بالكرية أو بعدمها حالة سابقة فلا مانع من استصحاب بقائه،وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة فلا يجري الاستصحاب،فانّ استصحاب عدم الكرية بنحو العدم المحمولي أو استصحاب وجودها بنحو الوجود المحمولي وإن كان لا مانع منه في نفسه،نظراً إلى أنّ له حالة سابقة،إلّاأ نّه لا يجدي في المقام،حيث إنّه لا يثبت الاتصاف المزبور

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 369)


– وهو مفاد كان أوليس الناقصة-إلّاعلى القول بالأصل المثبت.

وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لايمكن إثبات الوجود أو العدم النعتي باستصحاب الوجود المحمولي أو العدم كذلك،وهذا معنى قولنا:إنّ الوجود والعدم المحموليين مغايران للوجود والعدم النعتيين،لا بمعنى أنّ في الخارج عدمين ووجودين أحدهما محمولي والآخر نعتي،ضرورة أنّ في الخارج ليس إلّاعدم واحد ووجود كذلك،ولكنّهما يختلفان باختلاف اللحاظ والاعتبار فتارةً يلحظ وجود العرض أو عدمه في نفسه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم المحمولي،واُخرى يلحظ وجوده أو عدمه مضافاً إلى موضوعه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم النعتي،فاستصحاب الوجود أو العدم المحمولي لا يثبت الموضوع و المحل الذي هو قوام الوجود أو العدم النعتي.مثلاً استصحاب وجود الكر في الخارج لا يثبت اتصاف هذا الماء بالكر فيما إذا علم باستلزام وجوده فيه اتصافه به إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت.

وبعد هذه المقدمات أفاد (قدس سره) أنّ ما خرج عن تحت العام من العنوان لا محالة يستلزم تقييد الباقي بنقيض هذا العنوان بمقتضى المقدمة الاُولى، وأنّ هذا التقييد لا بدّ أن يكون على نحو مفاد ليس الناقصة بمقتضى المقدمة الثالثة،وأنّ هذا العنوان المأخوذ في الموضوع يستحيل تحققه قبل وجود موضوعه بمقتضى المقدمة الثانية،وعليه فلا يمكن إحراز قيد موضوع العام بأصالة العدم الأزلي،ببيان أنّ المستصحب لا يخلو من أن يكون هو العدم النعتي المأخوذ في موضوع العام،أو يكون هو العدم المحمولي الملازم للعدم النعتي بقاءً،فعلى الأوّل لا حالة سابقة له،فانّه من الأوّل مشكوك فيه،وعلى الثاني وإن كان له حالة سابقة إلّاأ نّه لا يمكن باستصحابه إحراز العدم النعتي المأخوذ في الموضوع إلّاعلى القول بالأصل المثبت.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 370)


وبكلمة اخرى:أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد التخصيص بما أ نّه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بالأصل،لعدم حالة سابقة له،والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة إلّاأ نّه لا يمكن باستصحابه إثباته إلّابناءً على الأصل المثبت،وعلى ذلك فرّع (قدس سره) منع جريان أصالة العدم في المشكوك فيه من اللباس بناءً على كون المانعية المجعولة معتبرة في نفس الصلاة ومن قيودها، فانّ الصلاة من أوّل وجودها لا تخلو من أن تكون مقترنةً بالمانع أو بعدمه،فلا حالة سابقة حتى يتمسك باستصحابها ويحرز به متعلق التكليف بضم الوجدان إلى الأصل.وأمّا العدم الأزلي فهو وإن كان متحققاً سابقاً إلّاأ نّك عرفت أنّ استصحابه لا يجدي إلّاإذا قلنا باعتبار الأصل المثبت.

وأمّا إذا كانت المانعية المجعولة معتبرةً في ناحية اللباس وكانت من قيوده، فمرةً يكون الشك في وجود المانع لأجل الشك في كون نفس اللباس من أجزاء غير المأكول،واُخرى لأجل الشك في عروض أجزاء غير المأكول على اللباس المأخوذ من غير ما لا يؤكل لحمه،أمّا الأوّل فلا يجري فيه الأصل،لما عرفت من أنّ العدم النعتي لا حالة سابقة له،والعدم الأزلي وإن كان له حالة سابقة إلّا أنّ استصحابه لا يجدي لاثبات العدم النعتي بناءً على ما هو الصحيح من عدم اعتبار الأصل المثبت،وأمّا الثاني فلا مانع من جريان الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يحرز متعلق التكليف في الخارج.

فالنتيجة: أ نّه لا يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي،فاذن لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام من البراءة أو نحوها.

ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده (قدس سره) بيان ذلك:أنّ ما أفاده (قدس سره)

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 371)


في المقدمة الاُولى من أنّ التخصيص الوارد على العام سواء أكان متصلاً أو منفصلاً وسواء أكان نوعياً أو صنفياً أو فردياً لا محالة يوجب تعنون موضوع العام بعدم عنوان المخصص وتقيده به،في غاية الصحة والمتانة ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول فلا بدّ إمّا من الاطلاق أو التقييد،وحيث إنّ الاطلاق غير معقول لاستلزامه التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاص، فلا مناص من التقييد،فهذه المقدمة لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع العام عدماً نعتياً أصلاً.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) في المقدمة الثانية من أنّ وجود العرض قد يضاف إلى ماهيته ويعبّر عنه بالوجود المحمولي ومفاد كان التامة،ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم المحمولي ومفاد ليس التامة،وقد يضاف إلى موضوعه المحقق في الخارج ويعبّر عنه بالوجود النعتي ومفاد كان الناقصة،ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم النعتي ومفاد ليس الناقصة،فهو في غاية الصحة والمتانة.كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الوجود والعدم إذا كانا محموليين لم يمكن ارتفاعهما عن الماهية،ضرورة أ نّها لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً فلا ثالث لهما،فيلزم من ارتفاعهما ارتفاع النقيضين وهو مستحيل،وأمّا إذا كانا نعتيين فلا مانع من ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما،حيث إنّ الاتصاف بكل منهما فرع وجود المتصف في الخارج فاذا لم يكن متصف فيه فلا موضوع للاتصاف بالوجود أو العدم،وهذا معنى ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم محذور ارتفاع النقيضين،في غاية الصحة والمتانة.وغير خفي أنّ هذه المقدمة أيضاً لا تقتضي كون المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتي.

وأمّا ما أفاده (قدس سره) في المقدمة الثالثة من أنّ الموضوع المركب لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو أحد جزأيه جوهر والآخر

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 372)


عرض ولا رابع لها.أمّا القسم الأوّل والثاني فقد عرفت فيهما أنّ إحراز كلا جزأي الموضوع أو أحدهما بالأصل إذا كان الآخر محرزاً بالوجدان بمكان من الامكان.وأمّا القسم الثالث فكذلك إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى جوهر آخر،وأمّا إذا كان مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى ذلك الجوهر فقد عرفت أ نّه لا يمكن إحرازه بالأصل،فانّ المأخوذ في الموضوع عندئذ هو العرض بوجوده النعتي،حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له، وحينئذ فإن كان له حالة سابقة فهو وإلّا فلا يمكن إحرازه بالأصل.وكذا الحال إذا كان المأخوذ في الموضوع هو العدم النعتي،فانّه إن كانت له حالة سابقة فهو،وإلّا لم يجر الأصل فيه،وأمّا العدم المحمولي فهو وإن كانت له حالة سابقة إلّا أ نّه لا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحابه إلّاعلى القول بالأصل المثبت، فهو متين جداً ولا مناص عنه،إلّاأ نّه لا يقتضي كون العدم-أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام-هو العدم النعتي دون العدم المحمولي.

فالنتيجة في نهاية المطاف:أنّ هذه المقدمات الثلاث التي ذكرها (قدس سره) لاتقتضي الالتزام بما أفاده (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في المقام، فأساس النزاع بيننا وبين شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ليس في هذه المقدمات وإنّما هو في العام المخصص بدليل،وأنّ موضوعه بعد التخصيص هل قيّد بالعدم النعتي أو بالعدم المحمولي،فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بما أفاده (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية،وعلى الثاني فلا مانع من جريانه فيها.مثلاً ما دلّ على أنّ الماء الكر لا ينفعل بالملاقاة يكون مخصصاً للعمومات الدالة على انفعال الماء بالملاقاة مطلقاً ولو كان كراً،وبعد هذا التخصيص وتقييد موضوع حكم العام-وهو الانفعال-بعدم عنوان المخصص – وهو الكر-هل يكون المأخوذ فيه هو الاتصاف بعدم كونه كراً أو المأخوذ

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 373)


فيه هو عدم الاتصاف بكونه كراً ؟ فعلى الأوّل إن كانت له حالة سابقة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه وإلّا لم يجر.واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم النعتي إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به،وعلى الثاني فلا مانع من جريانه وبه يحرز تمام الموضوع،غاية الأمر أنّ أحد جزأيه-وهو الماء-كان محرزاً بالوجدان،وجزأه الآخر-وهو العدم المحمولي-قد احرز بالأصل.وكذا إذا شك في امرأة أ نّها قرشية أو لا،فإن قلنا إنّ المأخوذ في موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه إن كان الاتصاف بعدم القرشية لم يجر الاستصحاب فيه لعدم حالة سابقة له،وإن كان عدم الاتصاف بها لا مانع منه.

[هل التخصيص يوجب تقيّد العام بالعدم النعتي أو المحمولي؟]

فالنتيجة: أنّ محل النزاع إنّما هو في أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه ما هو ؟ هل هو العدم النعتي أو العدم المحمولي،وقد برهن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ المأخوذ فيه هو العدم النعتي دون المحمولي بما حاصله:أنّ المأخوذ في موضوع العام من جهة ورود المخصص عليه لو كان هو العدم المحمولي ليكون الموضوع مركباً من الجوهر وعدم عرضه بمفاد كان التامة،فلا محالة إمّا أن يكون ذلك مع بقاء إطلاق الموضوع بالاضافة إلى كون العدم نعتاً،أو يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتاً أيضاً.وبكلمة اخرى:أنّ العدم النعتي بما أ نّه من نعوت موضوع العام وأوصافه ولذا ينقسم الموضوع باعتباره إلى قسمين،مثلاً العالم الذي هو موضوع في قضية أكرم كل عالم إلّاإذا كان فاسقاً،له انقسامات منها انقسامه إلى اتصافه بالفسق مثلاً واتصافه بعدمه،فلا محالة إمّا أن يكون الموضوع ملحوظاً بالاضافة إليه مطلقاً،أو مقيداً به أيضاً،أو مقيداً بنقيضه،بداهة أنّ الاهمال في الواقع مستحيل.

أمّا القسم الأوّل: وهو ما إذا كان الموضوع بالاضافة إلى العدم النعتي مطلقاً،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 374)


فهو غير معقول للزوم التناقض والتهافت بين إطلاق موضوع العام بالاضافة إلى العدم النعتي وتقييده بالاضافة إلى العدم المحمولي،فانّ الجمع بينهما غير ممكن،حيث إنّ العدم النعتي ذاتاً هو العدم المحمولي مع زيادة شيء عليه وهو إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج،فلا يعقل أن يكون الموضوع في مثل قضية كل مرأة ترى الدم إلى خمسين إلّاالقرشية مثلاً مطلقاً بالاضافة إلى العدم النعتي،وهو اتصافه بعدم القرشية بعد فرض تقييده بالعدم المحمولي،وهو عدم القرشية بمفاد ليس التامة،بداهة أنّ مردّ إطلاق الموضوع في القضية هو أنّ المرأة مطلقاً-أي سواء أكانت متصفة بالقرشية أم لم تكن-تحيض إلى خمسين، وهذا الاطلاق كيف يجتمع مع الاستثناء وتقييد المرأة بعدم كونها قرشيةً بمفاد ليس التامة،فالنتيجة أنّ إطلاق موضوع العام بالاضافة إلى العدم النعتي بعد تقييده بالعدم المحمولي غير معقول.

وأمّا القسم الثاني: فهو أيضاً كذلك،ضرورة أنّ الموضوع قد قيّد بعدم الفسق بمفاد ليس التامة فكيف يعقل تقييده بوجوده بمفاد كان الناقصة،فاذن يتعين القسم الثالث وهو تقيده بالعدم النعتي،فاذا قيّد الموضوع به فهو أغنانا عن تقييده بالعدم المحمولي،حيث إنّه يستلزم لغوية التقييد به.فالنتيجة هي أ نّه لا مناص من تقييد موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه بالعدم النعتي، ومعه لا يمكن التمسك بالاستصحاب في العدم الأزلي.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره):

أوّلاً: أنّ النكتة التي ذكرها (قدس سره) لاستلزام التخصيص تقييد موضوع حكم العام بالعدم النعتي لو تمت لم تختص بخصوص ما نحن فيه،بل تجري في الموضوعات المركبة بشتى أنواعها حتى فيما إذا كان مركباً من

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 375)


جوهرين أو عرضين لمحل واحد أو محلين،والسبب فيه:هو أنّ انقسام كل جزء من أجزاء الموضوع المركب بمقارنته للجزء الآخر زماناً أو مكاناً وعدمها بما أ نّه من الانقسامات الأوّلية والأعراض القائمة بالجوهر فلا بدّ من لحاظها في الواقع،لاستحالة الاهمال فيه،وعليه فبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من أن يلحظ كل جزء مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة للجزء الآخر زماناً أو مكاناً، أو مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له كذلك،أو مطلقاً لا هذا ولا ذاك،ومن المعلوم أنّ الثاني والثالث كليهما غير معقول.

أمّا الثاني فلفرض أنّ تقييد جزء الموضوع بجزئه الآخر قد ثبت في الجملة ومعه كيف يعقل أخذه فيه متصفاً بعدم مقارنته له،ضرورة أ نّه في طرف النقيض معه.وكذا الحال في الثالث،لوضوح أنّ فرض الاطلاق فيه بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة وعدمه يستلزم التدافع بينه وبين التقييد المزبور،فاذن لا مناص من الالتزام بالأوّل،ومن الطبيعي أنّ مع اعتبار التقييد بالاتصاف بالمقارنة بمفاد كان الناقصة يلزم لغوية تقييد كل جزء بنفس وجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة.

والنكتة فيه:أنّ مفاد كان الناقصة هو مفاد كان التامة مع اشتماله على خصوصية زائدة،وهي إضافته إلى موضوعه ومحلّه،وعليه فبطبيعة الحال إذا افترضنا تقييد جزء موضوع بالاضافة إلى جزئه الآخر بمفاد كان الناقصة لزم لغوية تقييده بالاضافة إليه بمفاد كان التامة،ويترتب على ذلك أ نّه لا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس وجود أحد الجزأين مع إحراز الآخر بالوجدان إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت،ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين:

الأوّل: ما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من جوهرين كوجودي زيد

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 376)


وعمرو مثلاً،فانّ وجود كل منهما بالاضافة إلى الآخر لا يخلو من أن يكون ملحوظاً مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بالمقارنة له،أو مقيداً بالاضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له،أو مطلقاً بالاضافة إلى كل منهما لاستحالة الاهمال في الواقع،وحيث إنّ الشقي الثاني والثالث غير معقول فلا محالة يتعين الشق الأوّل،ومعه يكون تقييده بوجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة لغواً محضاً كما عرفت،وعليه فلا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

الثاني: ما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من عرضين في محلّين كاسلام الوارث وموت المورّث،حيث إنّ موضوع الإرث مركب منهما،وعليه فبطبيعة الحال إمّا أن يلحظ كل منهما بالاضافة إلى الآخر مقيداً باتصافه بالمقارنة له بمفاد كان الناقصة،أو مقيداً باتصافه بعدم المقارنة له بمفاد ليس الناقصة،أو مطلقاً بالاضافة إلى كل منهما،ولا رابع لها وذلك لاستحالة الاهمال في الواقع، وقد تقدم أنّ القسمين الثاني والثالث يستلزمان التدافع والتناقض فلا يمكن الأخذ بشيء منهما.وأمّا القسم الأوّل فلا مناص من الأخذ به،ومعه لا محالة يكون تقييد أحدهما بالآخر بمفاد كان التامة لغواً محضاً بعد ثبوت التقييد بينهما بمفاد كان الناقصة.فاذن لا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل،كما إذا كان الموت محرزاً بالوجدان وشك في بقاء إسلام الوارث،فباستصحاب بقائه لا يثبت الاتصاف بالمقارنة إلّاعلى القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة:أنّ لازم ما أفاده (قدس سره) هو أ نّه لايمكن إحراز الموضوعات المركبة بشتى أنواعها وأشكالها بضم الوجدان إلى الأصل.

وثانياً: حلّ ذلك بصورة عامة وهو ما ذكرناه في ضمن بعض البحوث السالفة من أنّ موضوع الحكم أو متعلقه بالاضافة إلى ما يلازمه وجوداً في

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 377)


الخارج لا مطلق ولا مقيد ولا مهمل.أمّا الاطلاق فهو غير معقول حيث إنّ مردّه إلى أنّ ما افترضناه من الموضوع أو المتعلق للحكم ليس موضوعاً أو متعلقاً له،فانّ معنى إطلاقه بالاضافة إليه هو أ نّه لا ملازمة بينهما وجوداً وخارجاً وهو خلف.وأمّا التقييد فهو لغو محض،نظراً إلى أنّ وجوده في الخارج ضروري عند وجود الموضوع أو المتعلق،ومعه لا معنى لتقييده به.

وأمّا الاهمال فهو إنّما يتصور في المورد القابل لكل من الاطلاق والتقييد،فانّ المولى الملتفت إليه لا يخلو من أن يلاحظ متعلق حكمه أو موضوعه بالاضافة إليه مطلقاً أو مقيداً،لاستحالة الاهمال في الواقع،وأمّا إذا لم يكن المورد قابلاً لذلك كما فيما نحن فيه فلا موضوع للاهمال فيه.

وبكلمة اخرى:أنّ الاطلاق والتقييد إنّما يتصوران في المحل القابل لهما،يعني ما يمكن لحاظ الموضوع أو المتعلق بالاضافة إليه مطلقاً تارةً ومقيداً اخرى، كالقبلة مثلاً بالنسبة إلى الصلاة حيث يمكن لحاظ الصلاة مطلقة بالاضافة إليها ويمكن لحاظها مقيدة بها،ولكن بعد تقييد الصلاة بها كما امتنع إطلاقها بالاضافة إليها كذلك امتنع تقييدهابعدم كونها إلى دبر القبلة،فانّ هذا التقييد أصبح ضرورياً بعد التقييد الأوّل،يعني أنّ التقييد الأوّل يغني عنه ويلازمه وجوداً بلا حاجة إليه.

وإن شئت قلت: إنّ للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة،فانّها تستلزم في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق وخلفه في طرف الشمال،بل لها لوازم غير متناهية،ومن الطبيعي كما أ نّه لا معنى لاطلاقها بالاضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها،حيث إنّها قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة،ومعها لا محالة يكون كل من الاطلاق

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 378)


والتقييد بالاضافة إليها لغواً،حيث إنّهما لا يعقلان إلّافي المورد القابل لكل منهما،لا في مثل المقام فانّ تقييدها إلى القبلة يغني عن تقييدها بها،كما هو الحال في كل متلازمين في الوجود الخارجي،فانّ تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر،حيث إنّه لغو صرف بعد التقييد الأوّل،كما أنّ الأمر بأحدهما يغني عن الأمر بالآخر حيث إنّه لغو محض بعد الأمر الأوّل،ولا يترتب عليه أيّ أثر،فلو أمر المولى بالفعل المقيد بالقيام كالصلاة مثلاً فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك،فانّ تقييده به بعد التقييد الأوّل لغو محض.

فالنتيجة: أنّ ما ذكرناه سارٍ في جميع الاُمور المتلازمة وجوداً،سواء أكانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث،فانّ تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر،كما أنّ الأمر به يغني عن الأمر بالآخر،وعليه فلا معنى لاطلاق المأمور به بالاضافة إليه،فانّ إطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول،لفرض تقييده به قهراً،وأمّا إطلاقه بحسب مقام الاثبات فانّه لغو،وكذلك تقييده به في هذا المقام.وما نحن فيه من هذا القبيل،فانّ العدم النعتي ملازم للعدم المحمولي،وعليه فتقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بعنوان الخاص كالقرشية مثلاً لا يبقي مجالاً لتقييده باتصافه بعدم ذلك العنوان الخاص ولا لاطلاقه بالاضافة إليه،فكما أنّ تقييد المراة مثلاً باتصافها بعدم القرشية يغني عن تقييدها بعدم اتصافها بالقرشية،كذلك التقييد بعدم اتصافها بالقرشية يغني عن التقييد باتصافها بعدم القرشية،ضرورة أ نّه مع وجود المرأة في الخارج كان كل من الأمرين المزبورين ملازماً لوجود الآخر لا محالة،فلا يبقى مع التقييد بأحدهما مجال للاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الآخر أصلاً.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 379)


وعلى الجملة: فحيث إنّ العدم النعتي والعدم المحمولي متلازمان في الخارج ولا ينفك أحدهما عن الآخر،فبطبيعة الحال إذا قيّد الموضوع أو المتعلق بأحدهما لم يبق مجال للتقييد أو الاطلاق بالاضافة إلى الآخر.نعم،إنّما تظهر الثمرة بين التقييد بالعدم المحمولي والتقييد بالعدم النعتي في صحة جريان الأصل وعدمها،فعلى الأوّل لا مانع من جريان الأصل في نفس العدم وإحراز تمام الموضوع بضمه إلى الوجدان كما هو الحال في بقية موارد تركب الموضوع من جزأين أو أكثر،وعلى الثاني فلا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس العدم بمفاد ليس التامة إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ أخذ كل من العدم المحمولي والعدم النعتي في الموضوع أو المتعلق يغني عن أخذ الآخر فيه بحسب مقام الثبوت والواقع،فلا مجال للاطلاق أو التقييد بالاضافة إليه أصلاً.نعم،في ظرف الشك فيه تظهر النتيجة بينهما في جريان الأصل وعدمه،نظراً إلى أنّ المأخوذ في الموضوع أو المتعلق إذا كان العدم المحمولي أمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان،وأمّا إذا كان المأخوذ فيه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إلّا على القول بالأصل المثبت.نعم،لو كانت حالة سابقة لنفس ذلك العدم جرى الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يلتئم الموضوع المركب.

ومن هنا يظهر الفرق بين ما إذا كان المأخوذ في الموضوع أو المتعلق الوجود المحمولي وما إذا كان المأخوذ فيه الوجود النعتي،فعلى الأوّل إذا شك في بقائه فلا مانع من جريان الأصل فيه وبه يحرز الموضوع أو المتعلق إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان،كما إذا افترضنا أنّ الصلاة مقيدة بالطهارة بمفاد كان

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 380)


التامة،فعندئذ إذا شك في بقائها فلا مانع من استصحاب بقائها وبه يحرز أنّ المكلف قد صلّى في زمان كان واجداً للطهارة في ذلك الزمان،أمّا الصلاة فيه فهي محرزة بالوجدان وأمّا الطهارة فهي محرزة بالأصل،وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب،وعلى الثاني إذا شك في بقائه لم يمكن إحرازه بجريان الأصل فيه إلّاعلى أساس أحد أمرين:إمّا القول باعتبار الأصل المثبت أو يكون لنفس هذا الوجود حالة سابقة،ومثاله هو ما إذا افترضنا أنّ المأخوذ في الصلاة هو عنوان اقترانها بالطهارة واجتماعها معها،وعليه فلا يمكن إحراز هذا العنوان باستصحاب بقاء الطهارة إلّاعلى القول بحجية الأصل المثبت،أو فيما إذا كانت حالة سابقة لنفس هذا العنوان.

وعلى ضوء هذه النتيجة يقع الكلام في أنّ التخصيص هل يوجب تعنون موضوع العام بعدم اتصافه بعنوان المخصص بمفاد ليس التامة،أو يوجب تعنونه باتصافه بعدم ذلك العنوان بمفاد ليس الناقصة،قد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) الثاني.والصحيح هو الأوّل فلنا دعويان:

الاُولى:بطلان ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره).

الثانية:صحة ما اخترناه.

أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ التخصيص لا يقتضي تقييد موضوع العام بكونه متصفاً بعدم عنوان المخصص ليترتب عليه تركب الموضوع من العرض-وهو العدم النعتي-ومحلّه،فانّ غاية ما يترتب عليه فيما إذا كان المخصص عنواناً وجودياً هو تقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بذلك العنوان الوجودي، بيان ذلك:أ نّه قد حقق في محلّه أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ويستحيل أن يتحقق بدون وجود موضوع محقق في الخارج،حيث

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 381)


إنّ حقيقة وجود العرض حقيقة متقوّمة بالموضوع الموجود خارجاً في مقابل وجود الجوهر حيث إنّه في ذاته غني عن الموضوع وقائم بذاته،ولذا قيل في تعريف الجوهر بأ نّه ماهية إذا وجدت وجدت في نفسه في قبال تعريف العرض بأ نّه ماهية إذا وجدت وجدت في غيره يعني متقوّماً بغيره،ومن هنا يكون وجوده المحمولي عين وجوده النعتي،يعني أنّ في الخارج وجوداً واحداً والاختلاف بينهما إنّما هو في الاضافة باعتبار إضافته إلى نفسه محمولي، وباعتبار إضافته إلى موضوعه نعتي.

وعلى هذا فإن كان الموضوع مركباً من جوهرين أو عرضين في محل واحد أو في محلّين،أو عرض مع غير محلّه وموضوعه ففي جميع ذلك يكون العرض مأخوذاً في الموضوع بوجوده المحمولي وبمفاد كان التامة،فانّ أخذه بمفاد كان الناقصة في هذه الموارد يحتاج إلى عناية زائدة،وإلّا فالقضية في نفسها وبطبعها لا تقتضي أزيد من أخذه بمفاد كان التامة،وأمّا إذا كان مركباً من العرض ومحلّه الخاص كالكرية المأخوذة في الماء والعدالة المأخوذة في زيد مثلاً وهكذا، ففي مثل ذلك لا محالة يكون المأخوذ فيه العرض بوجوده النعتي،ضرورة أنّ الحكم إنّما يترتب على خصوص وجوده في ذلك المحل الخاص والموضوع المخصوص،ومن المعلوم أ نّه بعينه وجود نعتي،لما عرفت آنفاً أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه،فوجود الكرية في ماء هو بعينه ثبوت الكرية له الذي يعبّر عنه باتصافه بالكرية وما هو مفاد كان الناقصة،وكذا وجود العدالة في زيد مثلاً هو بنفسه ثبوت العدالة له المعبّر عنه باتصاف زيد بالعدالة الذي هو مفاد كان الناقصة،فعلى الأوّل لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل،وعلى الثاني لا يمكن ذلك،فانّ استصحاب وجود العدالة بمفاد كان التامة لا يثبت اتصاف زيد بها،وكذا استصحاب وجود

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 382)


الكرية كذلك لا يثبت اتصاف الماء بها إلّاإذا كانت لهذا الاتصاف حالة سابقة، وأمّا في غير هذه الصورة فلا مجال لجريان الاستصحاب وترتب آثار الوجود النعتي إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت،فالأثر المترتب على كرية ماء في الخارج أو عدالة زيد مثلاً إنّما يترتب عليها بضم الوجدان إلى الأصل فيما إذا علم باتصاف الماء بالكرية أو اتصاف زيد بالعدالة ليستصحب بقاؤه عند الشك فيه،وأمّا مع عدم العلم بهذا الاتصاف فلا يمكن إحراز كريته أو عدالته باستصحاب وجود طبيعي الكرية أو العدالة بمفاد كان التامة ولو مع العلم بالملازمة بين وجودها في الخارج واتصافه بها،حيث إنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

فالنتيجة: أنّ الموضوع إذا كان مركباً من العرض ومحلّه فلا محالة يكون المأخوذ فيه هو وجود العرض بمفاد كان الناقصة،حيث إنّ ثبوته لموضوعه بعينه هو اتصافه به كما عرفت.

وأمّا إذا كان مركباً من عدم العرض ومحلّه فلا يلزم أن يكون العدم مأخوذاً فيه بمفاد ليس الناقصة حتى لا يمكن إحرازه بالأصل،بل الظاهر هو أ نّه مأخوذ فيه بمفاد ليس التامة،والسبب في ذلك يرجع إلى الفرق بين وجود العرض وعدمه،حيث إنّ العرض في وجوده يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج لا في عدمه فانّه لا يحتاج إلى موضوع كذلك،بداهة أنّ نقطة الافتقار إلى وجود الموضوع في عالم العين إنّما تكون من لوازم وجود العرض دون عدمه،فكرية الماء مثلاً وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت لا محالة في الموضوع،إلّاأنّ عدم كريته ليس كذلك،بل هو أمر أزلي كان متحققاً قبل تحقق موضوعه،فاذا تحقق ماء في الخارج ولم يكن متصفاً بالكرية كان عدم

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 383)


كريته الذي يعبّر عنه بعدم اتصافه بالكرية باقياً على ما كان عليه في الأزل، وكذا عدم عدالة زيد مثلاً،فانّ عدالته وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت في الموضوع لا محالة إلّاأنّ عدم عدالته ليس كذلك،بل هو ثابت من الأزل سواء أكان موضوعها موجوداً أم لا،فاذا وجد زيد في الخارج ولم يكن متصفاً بالعدالة فبطبيعة الحال كان عدم عدالته المعبّر عنه بعدم اتصافه بالعدالة باقياً على ما كان عليه في الأزل.

نعم،قد يؤخذ في موضوع الحكم اتصافه بعدم شيء على نحو الموجبة المعدولة إلّاأنّ هذا الاعتبار يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة،حيث إنّ صِرف عدم شيء بما هو هو لم تؤخذ فيه أيّة خصوصية من الخصوصيات،منها كونه صفةً ونعتاً لموضوع موجود في الخارج،ضرورة أ نّه بطلان محض،فلا بدّ في أخذه نعتاً لموضوع محقق فيه من اعتبار خصوصية في ذلك الموضوع ملازمةٍ لأخذ العدم كذلك،وتلك الخصوصية هي إضافته إليه،ومن المعلوم أ نّها خصوصية زائدة على أصل العدم وذاته.

وأمّا على تقدير تحقق هذا الاعتبار وأخذ العدم في الموضوع كذلك فلا يجري الاستصحاب في مورده لاحراز تمام الموضوع إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان،إلّاإذا كان لاتصاف الموضوع به حالة سابقة،فعندئذ لا مانع من جريان استصحاب بقائه،وبضم الوجدان إليه يحرز الموضوع بكلا جزأيه.

وأمّا إذا لم تكن حالة سابقة له فلا يجري الاستصحاب فيه،ولا يكفي في صحة جريانه العلم بعدم اتصافه،أي اتصاف الموضوع بوجود ذلك الوصف قبل ذلك،فانّه وإن كان يوجب صحة جريانه في عدم الاتصاف بالوصف الوجودي بمفاد ليس التامة،ضرورة أ نّه لا مانع منه في نفسه،إلّاأ نّه لا يجدي

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 384)


في إحراز موضوع الحكم في محل الفرض،لأنّ المفروض أنّ العدم المأخوذ فيه إنّما هو بمفاد ليس الناقصة والعدم النعتي دون العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة،ومن المعلوم أنّ استصحاب العدم المحمولي وما هو بمفاد ليس التامة لا يثبت العدم النعتي وما هو بمفاد ليس الناقصة الذي له خصوصية وجودية زائدة،وهي خصوصية إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج،إلّاعلى القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة لحدّ الآن:هي أنّ أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة دون العدم المحمولي.

وعلى ضوء هذه النتيجة فالظاهر أنّ عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه هو العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة دون العدم النعتي وما هو مفاد ليس الناقصة،فانّ أخذه فيه يحتاج إلى عناية ونصب قرينة وإلّا فالقضية ظاهرة في أنّ المأخوذ هو الأوّل دون الثاني،مثلاً الظاهر في مثل قضية:أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم هو تقييد موضوعها بعدم الاتصاف بالفسق لا بالاتصاف بعدمه.

وعلى الجملة: إذا اخذ وجود عرض في محلّه موضوعاً لحكم شرعي فهو وإن كان لا بدّ من كونه مأخوذاً فيه على وجه النعتية والصفتية وما هو مفاد كان الناقصة،إلّاأنّ ذلك لا يستدعي أخذ عدم ذلك العرض نعتاً في موضوع عدم ذلك الحكم وارتفاعه،لوضوح أنّ الحكم الثابت للموضوع المقيد بما هو مفاد كان الناقصة إنّما يرتفع عند عدم اتصافه بذلك القيد على نحو السالبة المحصّلة من دون أن يتوقف ذلك على اتصاف الموضوع بعدم ذلك القيد على نحو مفاد ليس الناقصة،وعليه فمفاد قضية:المرأة تحيض إلى خمسين إلّاالقرشية وإن كان هو اعتبار صفة القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم الخاص،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 385)


وهو الحكم بتحيض المرأة القرشية بعد الخمسين،إلّاأنّ من الواضح أ نّه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية أي مفاد ليس الناقصة،وإنّما يستدعي أخذه في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصّلة،أعني به مفاد ليس التامة،فكل امرأة لا تكون متصفةً بالقرشية باقية تحت العام بعد خروج خصوص المرأة المتصفة بها،لا أنّ الباقي تحته المرأة المتصفة بعدمها أي بعدم القرشية.

والنكتة في ذلك:ما عرفت من أنّ أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة في مقام الثبوت والاثبات دون أخذ العدم المحمولي،فقضية:أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم في نفسها ظاهرة في أنّ المأخوذ في موضوعها هو العدم المحمولي،فانّ دلالتها على أنّ المأخوذ فيه هو العدم النعتي تحتاج إلى رعاية نصب قرينة لكي تدل على اعتبار خصوصية زائدة على أخذ نفس العدم فيه،كما أنّ أخذه في مقام الثبوت يحتاج إلى لحاظ عناية زائدة.

وعلى ذلك فاذا شك في كون المرأة الفلانية قرشية من جهة الشبهة الموضوعية دون الحكمية،فلا مانع من التمسك باستصحاب عدمها الثابت لها قبل وجودها في عالم التكوين،حيث إنّ في زمانٍ لم تكن المرأة موجودةً ولا اتصافها بالقرشية،ثمّ وجدت المرأة في الخارج وشك في أنّ اتصافها بالقرشية هل وجد أيضاً،فلا مانع فيه من استصحاب عدم اتصافها بها وأ نّه لم يوجد وبذلك يثبت موضوع العام فانّ كونها مرأة محرز بالوجدان وعدم اتصافها بالقرشية بالاستصحاب،وبضمه إلى الوجدان يحرز الموضوع بكلا جزأيه ويترتب عليه أثره وهو أ نّها تحيض إلى خمسين ولا تحيض إلى ستين.

فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ دعوى استلزام التخصيص بعنوان وجودي أخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على وجه الصفتية والنعتية كما

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 386)


أصرّ على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره)،ولأجل ذلك منع عن جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً، حيث قد عرفت بشكل موسّع أنّ التخصيص بعنوان وجودي سواء أكان بالاستثناء أو بمخصص منفصل إنّما يستلزم تقييد موضوع العام بعدم ذلك العنوان الوجودي بمفاد ليس التامة،نظراً إلى أنّ أخذ عدم عرضٍ مّا في موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلّاأخذه كذلك،فانّ تقييده به بمفاد ليس الناقصة يحتاج إلى عناية زائدة ثبوتاً وإثباتاً،وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية،ويترتب على جريانه فيها ثمرات في أبواب الفقه كما لا يخفى.

بقي هنا شيء: وهو أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من العبارة بقوله:لا يخفى أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص،كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد إلّا ما شذ ممكناً 1ما هو مراده ومقصوده ؟ الظاهر أنّ مراده منها هو أنّ الباقي تحت العام بعد تخصيصه بما أ نّه كان مقيداً بعدم عنوان الخاص،فلا محالة يكون المنافي لحكمه هو وجود هذا العنوان الخاص دون غيره من العناوين،فانّ أيّ عنوان كان وجودياً أو عدمياً فلا يكون اتصافه وتعنونه به مانعاً عن ثبوت حكمه له.

مثلاً في جملة:كل مرأة تحيض إلى خمسين إلّاالقرشية يكون المانع عن


 

1) <page number=”386″ /><nl />كفاية الاُصول:223.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 387)


ثبوت هذا الحكم العام لكل مرأة إنّما هو هذا العنوان الوجودي وهو عنوان القرشية دون غيره من العناوين،إذ أيّ عنوان فرض إمكان اتصاف المرأة به سواء أكان وجودياً أم كان عدمياً دون ذاك،لا يكون مانعاً عن ثبوت هذا الحكم العام لها.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة،وهي أ نّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية إلّافي صورة واحدة،وهي ما إذا كان عموم العام على سبيل القضية الخارجية وكان المخصص له لبياً،فانّ لمثل هذا العام ظهوراً في نفسه في أنّ أمر التطبيق بيد المولى،وعليه فلا محالة يكون عمومه حجةً حتى في الفرد المشكوك فيه على ما تقدم بشكل موسّع.

[الشك في شمول العام لفرد من غير جهة التخصيص]

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أ نّه ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص بل من جهة اخرى،كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقاً للنذر،بأن يقال:وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم،وكلّ ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً،للقطع بأ نّه لولا صحته لما وجب الوفاء به.وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك 1.

ملخّص ذلك:هو أ نّه لا مانع من تصحيح عبادة لم تثبت مشروعيتها من ناحية النذر،حيث إنّ وجوب الوفاء به يكشف عن صحتها وإلّا لم يجب الوفاء به جزماً،نظير الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فانّه كالصلاة قبل الوقت في عدم المشروعية كما في بعض الروايات ومع ذلك يصح بالنذر،وكذا الصوم


 

1) <page number=”387″ /> كفاية الاُصول:223-224.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 388)


في السفر فانّه غير مشروع ومع ذلك يصح بالنذر.

حري بنا أنّ نتكلم في هذه المسألة في مقامين:

الأوّل:في صحة هذا النذر وفساده.

الثاني:في صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر بالنذر.

[المقام الأوّل:في صحة هذا النذر و فساده]

أمّا المقام الأوّل: فلا شبهة في أنّ صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلاً عن المرجوح،ضرورة أنّ ما كان للّٰه‌تعالى لا بدّ وأن يكون راجحاً حتى يصلح للتقرب به إليه تعالى،فانّ المباح لا يصلح أن يكون مقرّباً،فاذن لابدّ أن يكون متعلقه عملاً صالحاً لذلك.

وعلى ضوء ذلك فلو شك في رجحان عمل وعدمه لم يمكن التمسك بعموم أوفوا بالنذور،لفرض أنّ الشبهة هنا مصداقية وقد تقدم أ نّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،بل هو من أظهر أفراد التمسك به في الشبهة المصداقية،ولعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام،يعني فيما إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنواناً وجودياً كما هو المفروض هنا،فانّ موضوع وجوب الوفاء بالنذر قد قيّد بعنوان وجودي وهو عنوان الراجح،وعليه فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر،لفرض أنّ الشك في رجحان هذا الوضوء،ومعه كيف يمكن التمسك به.

فالنتيجة: أ نّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.

[المقام الثاني:في صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر بالنذر.]

وأمّا المقام الثاني: فلأنّ الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك بالنذر.وعلى

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 389)


ذلك فامّا أن نجعل هذه الأدلة مخصصةً لما دلّ على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه،وإمّا أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة 1.

ولكن أورد على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2بأن لازم هذه النظرية إمكان تصحيح النذر في المحرّمات أيضاً بالرجحان الناشئ من قبله فضلاً عن المكروهات،وهو كما ترى.

وفيه: أن ما أورده (قدس سره) على هذه النظرية خاطئ جداً،والسبب في ذلك:أنّ ما دل على حرمة شيء أو كراهته باطلاقه يشمل ما قبل النذر وما بعده،يعني أ نّه كما يدل على حرمته قبل النذر كذلك يدل عليها بعده،بداهة أنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يصلح أن يكون مقيداً لاطلاقه وإلّا لأمكن تحليل جميع المحرّمات والواجبات فعلاً وتركاً بالنذر كما أفاده،والسر فيه:أنّ دليل وجوب الوفاء به لا يكون ناظراً إلى أنّ ما تعلق به النذر راجح أو ليس براجح،وعليه فلا بدّ من إحرازه من الخارج.نعم،قد يكون تعلق النذر به ملازماً لانطباق عنوان راجح عليه فحينئذ يصح النذر،إذ لا يعتبر في صحته أن يكون متعلقه راجحاً قبله أي قبل النذر زماناً،بل يكفي فيها مقارنته معه زماناً.

وعلى الجملة: فدليل وجوب الوفاء بالنذر لا يكون سبباً وموجباً لحدوث الرجحان في متعلقه حتى يستلزم انقلاب الواقع بأن يجعل المبغوض محبوباً والحرام راجحاً،حيث إنّه غير ناظر إلى أنّ متعلقه راجح أو غير راجح حرام


 

1) <page number=”389″ /> العروة الوثقىٰ 1:381 المسألة 17 [ 1207 ].
2) <nl />العروة الوثقىٰ (المحشّاة):2:274 المسألة /17فصل في أوقات الرواتب.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 390)


او ليس بحرام وهكذا،بل لا بدّ من إحراز ذلك من الخارج،فان أحرزنا أ نّه راجح صح النذر،وإن لم يحرز ذلك-سواء أحرزنا أ نّه مرجوح كالمكروه أو الحرام أم لم يحرز-فهو غير صحيح.

وعليه فبما أنّ ما دل على حرمة شيء كشرب الخمر مثلاً أو كراهته باطلاقه يدل عليها حتى بعد تعلق النذر به أيضاً،فلا محالة لا يكون مثل هذا النذر صحيحاً لمرجوحية متعلقه ولا يشمله عموم وجوب الوفاء بالنذر لما عرفت، ولا يقاس ذلك بمسألتي صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر، فانّ صحته في تلك المسألتين إنّما هو من ناحية الروايات الخاصة،ومن الواضح أ نّنا نستكشف من هذه الروايات أنّ تعلق النذر بهما ملازم لانطباق عنوان راجح عليهما أو موجب له،ولأجله يصح النذر ويجب الوفاء به،فتكون تلك الروايات مقيدةً لاطلاق أدلة عدم مشروعية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بغير صورة النذر.

وبكلمة اخرى:أنّ الظاهر كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر،يعني أنّ تعلقه بشيء إذا كان موجباً لانطباق عنوان راجح عليه أو ملازم له ولكن إحراز ذلك يحتاج إلى دليل ففي كل مورد قد دل الدليل على ذلك ولو بالدلالة الالتزامية فلا إشكال في صحة النذر فيه كما هو الحال في تلك المسألتين،وأمّا إذا لم يكن دليل على ذلك فلا يمكن إحرازه،وبدونه لا يمكن الحكم بصحة النذر أصلاً.

فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ صحة الصوم في السفر بالنذر وكذا الإحرام قبل الميقات إنّما هي من ناحية أحد أمرين،إمّا من ناحية أن ما دل على صحتهما بالنذر يكون مقيداً لاطلاق ما دل على اعتبار الرجحان في متعلقه،

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 391)


وإمّا من ناحية كشفه عن عروض عنوان راجح عليه من جهة النذر على الشكل الذي عرفت.

بقي هنا أمران،الأوّل: ما إذا علم بأنّ إكرام زيد مثلاً غير واجب،ولكن لا ندري أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية التخصيص أي تخصيص عموم إكرام كل عالم بغيره،أو أ نّه من ناحية التخصص،يعني أنّ عدم وجوب إكرامه من ناحية أ نّه ليس بعالم،فدار الأمر في المقام بين التخصيص والتخصص، ومثال ذلك في الفقه مسألة الملاقي لماء الاستنجاء،حيث إنّه غير محكوم بالنجاسة إذا توفّرت فيه الشرائط التي ذكرت لعدم تأثير ماء الاستنجاء فيه – الملاقي-فحينئذ لا محالة يدور بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصص أو بالتخصيص،يعني أنّ ما دلّ على طهارة الملاقي له هل يكون مخصصاً لعموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس أو يكون خروجه منه بالتخصص ؟

فيه خلاف بين الأصحاب،فذهب بعضهم إلى الأوّل،وآخر إلى الثاني بدعوى أ نّه لا مانع من التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات طهارة ماء الاستنجاء،نظراً إلى أنّ الاُصول اللفظية كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية أيضاً،فالنتيجة أ نّه لا مانع من التمسك بها لاثبات التخصص.

وبكلمة اخرى:أنّ الحري بنا أن نتكلم في كبرى المسألة فنقول:إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص،فهل يقدم الأوّل على الثاني ؟ فيه قولان.

المعروف في الألسنة هو القول الثاني،واستدل عليه بأصالة عدم التخصيص في طرف العام،وهذه الأصالة كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 392)


العقلية والعادية،نظراً إلى أنّ المثبتات من الاُصول اللفظية حجة.مثلاً إذا علم بخروج زيد عن عموم العام وشك في أنّ خروجه منه بالتخصيص أو بالتخصص فلا مانع من التمسك بأصالة عدم ورود التخصيص عليه لاثبات التخصص.

ولنأخذ بالنقد عليه: وهو أنّ حجية أصالة عدم التخصيص لم تثبت بآية أو رواية حتى نأخذ باطلاقها في أمثال المورد،وإنّما هي ثابتة بالسيرة القطعية من العقلاء،فاذن بطبيعة الحال تتبع حجيتها في كل مورد جريان السيرة منهم على العمل بها في ذلك المورد،وقد ثبت جريان سيرتهم فيما إذا احرز فردية شيء لعام وشك في خروجه عن حكمه،ففي مثل هذا المورد لا مانع من التمسك بها،وأمّا إذا كان الأمر بالعكس بأن علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته لعام كما فيما نحن فيه،حيث إنّا نعلم بأن زيداً مثلاً خارج عن حكم العام ولكن لا نعلم أنّ خروجه من ناحية أ نّه ليس بفرد له أو من ناحية التخصيص،فلا نعلم بجريان السيرة منهم على العمل بها،ومع عدم إحرازه لا يمكن الحكم بحجيتها.

أو فقل:إنّ الاُصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجة،لما ذكرناه في محلّه من أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً،يعني في أصل الوجود والحجية،وقد ذكرنا غير مرّة أ نّه لا يمكن بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها،ضرورة أ نّها تسقط بسقوطها كما حققنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحث عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه 1.هذا فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودةً من جهة ظهور اللفظ أو من جهة بناء العقلاء،وأمّا إذا لم تكن دلالة مطابقية في البين فلا


 

1) <page number=”392″ /><nl />راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 362.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 393)


موضوع للدلالة الالتزامية،لفرض أ نّها متفرعة عليها فكيف يعقل وجودها بدون تلك.

وبعد ذلك نقول: إنّ ما ثبت حجية هذه الأصالة فيه هو ما إذا كان الشيء فرداً لعام وشك في خروجه عن حكمه،ففي مثل ذلك تكون هذه الأصالة حجةً فلا مانع من الأخذ بدلالتها الالتزامية أيضاً،لما عرفت من أ نّها تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والحجية.وأمّا في محل الكلام وهو عكس هذا الفرض تماماً فلا تجري هذه الأصالة،لعدم إحراز بناء العقلاء عليها فيه فما ظنّك بدلالتها الالتزامية.مثلاً لو قال المولى لعبده:بع جميع كتبي الموجودة في مكتبتنا هذه فباع جميعها،فليس للمولى الاعتراض عليه بقوله:لماذا بعت الكتاب الفلاني،بل له إلزام المولى بظهور العام في العموم وعدم نصبه قرينة على الخلاف،وأمّا إذا قال له:بع جميع كتبي ثمّ قال:لا تبع الكتاب الفلاني ونشك في أ نّه وقف أو عارية أو أ نّه ملكه،فعلى الأوّل يكون خروجه من باب التخصص وعلى الثاني من باب التخصيص،فلا يمكن التمسك بأصالة العموم لاثبات التخصص،لعدم إحراز جريان السيرة على التمسك بها في مثل المقام.

ومن هذا القبيل الملاقي لماء الاستنجاء حيث إنّ أمره يدور بين أن يكون خروجه عن عموم ما دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس بالتخصيص أو التخصص.

بيان ذلك:أنّ في ماء الاستنجاء أقوالاً ثلاثة:الأوّل:النجاسة.الثاني:

الطهارة،ونسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب.الثالث:النجاسة لكن مع العفو بمعنى عدم انفعال الشيء بملاقاته.

أمّا القول الأوّل:فلا أصل له،حيث إنّه يقوم على أساس الأخذ بعموم ما

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 394)


دلّ على انفعال الملاقي للماء النجس لما نحن فيه أيضاً،ولكن فساده بمكان من الوضوح،فانّ الملاقي لماء الاستنجاء قد خرج عن هذا العموم جزماً،للنصوص الخاصة الدالة على عدم انفعاله بملاقاته.فاذن هذا القول على تقدير القائل به خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،فيدور الحق بين القولين الأخيرين، ونقول:إنّ هنا طوائف من الروايات:

الاُولى: ما دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس كمفهوم أخبار الكر ونحوه من الروايات المتفرقة الواردة في الموارد الخاصة بعد إلغاء خصوصيات الموارد بنظر العرف.

الثانية: ما دلت على انفعال الملاقي للماء النجس.

الثالثة: ما دلت على عدم انفعال الملاقي لماء الاستنجاء فحسب.ثمّ إنّ هذه الطائفة لا تخلو من أن تكون مخصصةً للطائفة الاُولى بغير ماء الاستنجاء، ونتيجة هذا التخصيص هي طهارته وعدم انفعاله بملاقاة النجس كالبول أو العذرة،وحينئذ تكون طهارة ملاقيه على القاعدة ومن باب التخصص،أو تكون مخصصةً للطائفة الثانية فتكون نتيجة هذا التخصيص نجاسة ماء الاستنجاء من دون تأثيره في انفعال ملاقيه كالبدن أو الثوب،ولا ثالث لهما، فالاحتمال الأوّل يقوم على أساس إحدى دعويين:

الاُولى: أنّ الحكم بطهارة الملاقي لماء الاستنجاء إن كان لطهارته،فلا تخصيص في الطائفة الثانية الدالة على انفعال الملاقي للماء النجس.وإن كان مع نجاسة ماء الاستنجاء،لزم التخصيص في هذه الطائفة،فبأصالة عدم التخصيص تثبت طهارة ماء الاستنجاء.

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 395)


ويرد على هذه الدعوى أوّلاً: أنّ أصالة العموم في هذه الطائفة معارضة بأصالة العموم في الطائفة الاُولى،للعلم الاجمالي بتخصيص إحداهما بالطائفة الثالثة بناءً على ما هو الصحيح من أنّ مثبتاتها حجة،فانّ لازم أصالة العموم في الطائفة الاُولى تخصيص الطائفة الثانية،كما أنّ لازم أصالة العموم في الطائفة الثانية تخصيص الطائفة الاُولى من ناحية،وإثبات التخصص من ناحية اخرى،يعني خروج الملاقي لماء الاستنجاء عن عموم الطائفة الثانية موضوعياً لا حكمياً،فلا يمكن الجمع بينهما معاً،لاستلزامه طرح الطائفة الثالثة رأساً.

وثانياً: أنّ هذه الأصالة لا تجري في مثل المقام في نفسها،للعلم التفصيلي بسقوطها إمّا تخصيصاً وإمّا تخصصاً،فلا تجري لاثبات التخصص.

وبكلمة اخرى:أنّ أصالة العموم إنّما تجري فيما إذا علم بفردية شيء للعام وشك في خروجه عن حكمه،وأمّا إذا علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته له ففي مثل ذلك لا مجال للتمسك بها أصلاً،وما نحن فيه من هذا القبيل.نعم، بناءً على جريانها في نفسها تقع المعارضة بين إطلاق الطائفة الاُولى وإطلاق الطائفة الثانية.ودعوى أنّ الطائفة الثانية واردة في موارد خاصة فلا إطلاق لها خاطئة جداً،فانّها وإن كانت كذلك إلّاأنّ إلغاء خصوصيات الموارد بالارتكاز العرفي مما لا شبهة فيه،وبضم هذا الارتكاز إليها يثبت الاطلاق،وحيث لاترجيح في البين فيسقط كلا الاطلاقين معاً ويرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه طهارة ماء الاستنجاء،ولكن هذا مجرد فرض لا واقع موضوعي له،فالصحيح هو عدم جريانها في نفسها في أمثال المقام.

الثانية: أنّ مقتضى الارتكاز العرفي هو التلازم بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه،وعلى ضوء هذا التلازم فما دلّ على طهارة الملاقي-بالكسر-يدل

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 396)


بالالتزام العرفي على طهارة الملاقى-بالفتح-وفيما نحن فيه بما أنّ الطائفة الثالثة تدل على طهارة الملاقي لماء الاستنجاء فبطبيعة الحال تدل بالالتزام العرفي على طهارة ماء الاستنجاء،فتكون مخصصةً للطائفة الاُولى.

ويرد على هذه الدعوى أوّلاً: أنّ هذه الدلالة الالتزامية معارضة بالدلالة الالتزامية الموجودة فيما دلّ على نجاسة العذرة الشامل باطلاقه للعذرة عند ملاقاة ماء الاستنجاء لها جزماً،حيث إنّه يدل بالدلالة الالتزامية على نجاسته بالملاقاة،فانّ مقتضى تلك الدلالة الالتزامية نجاسة ماء الاستنجاء ومقتضى هذه طهارته فلا يمكن الجمع بينهما للتدافع.نعم،على هذا فالنتيجة هي القول بالطهارة حيث إنّ كلتا الدلالتين الالتزاميتين تسقط فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة الطهارة.

وثانياً: أنّ المستفاد من روايات الباب-وهي الطائفة الثالثة-عدم وجود هذه الدلالة الالتزامية،حيث إنّ محطّ السؤال فيها عن حكم الملاقي لماء الاستنجاء،ومن الطبيعي أنّ السؤال عن حكمه من حيث الطهارة أو النجاسة مساوق لعدم الجزم بالملازمة بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه إمّا في مرتبة ملاقاة الثوب أو البدن لماء الاستنجاء،أو في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة بعد اليقين بنجاسة العذرة،وحكم الإمام (عليه السلام) في تلك الروايات بطهارة الثوب الملاقي لا محالة يدل على عدم الملازمة في إحدى المرتبتين،فإن كان عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمردّه إلى التخصيص في المقام،وإن كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمردّه إلى التخصص، وحيث إنّ تلك الطائفة-يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب-لا تدل على تعيينه،أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة،فلا محالة لا ظهور لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها.فاذن لا مانع من الرجوع إلى

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 397)


عموم الطائفة الاُولى،حيث إنّ قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس.

وقد تحصّل من ذلك:أنّ الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.

ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة ولا سيما معتبرة عبدالكريم بن عتبة الهاشمي قال:«سألت أبا عبداللّٰه (عليه السلام) عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجّس ذلك ثوبه ؟ قال:لا» 1فانّها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على ذلك،وخصوصاً ملاحظة حال المفتي والمستفتي،فانّه إذا سأل العامي مقلّده عما أصابه ماء الاستنجاء وأجابه بأ نّه غير منجّس فهل يشك السائل في طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.

وعليه فهذه الروايات تعيّن عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين النجاسة-وهي العذرة في مفروض المقام-نظراً إلى أ نّها واردة في مورد خاص،دون ما دلّ على نجاسة العذرة فانّه يدل بالالتزام على نجاسة ملاقيها مطلقاً في هذا المورد وغيره،وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة الالتزامية في غير هذا المورد.

[التمسك بالعام لاثبات التخصص]

بقي هنا شيء 2: وهو أنّ ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فرداً له كما إذا تردد أمر زيد في مثل لا تكرم زيداً بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية،ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بأصالة العموم بالاضافة إلى زيد العالم،لفرض أنّ الشك كان


 

1) <page number=”397″ /><nl />الوسائل 1:/223أبواب الماء المضاف والمستعمل ب 14 ح 5.
2) <nl />[ وهو الأمر الثاني ].

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 398)


في خروجه عن حكم العام،وبذلك يثبت التخصص،يعني أنّ الخارج هو زيد الجاهل بناءً على أن مثبتاتها حجة،والوجه فيه هو أنّ هذا المورد من موارد التمسك بها،حيث إنّ فرديته للعام محرزة والشك إنّما هو في خروجه عن حكمه، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة حيث إنّها بعكس ذلك تماماً،يعني أنّ هناك كان خروج الخارج عن حكم العام معلوماً والشك إنّما هو في فرديته له،وقد تقدم أ نّه لا دليل في مثل ذلك على جريان أصالة العموم لاثبات التخصص.

ولكن قد يقال: بأنّ العلم الاجمالي بحرمة إكرام زيد المردد بين العالم وغيره موجب لترك إكرامهما،وأصالة العموم لا توجب انحلاله،نظراً إلى أ نّها غير متكفلة لبيان حال الأفراد،وليس حالها كقيام أمارة على أنّ زيداً العالم يجب إكرامه،حيث إنّه يوجب انحلاله جزماً،نظراً إلى أ نّها متكفلة لبيان حال الفرد دونها،فاذن تسقط عن الحجية بالاضافة إلى زيد العالم أيضاً.

وغير خفي ما في هذا القول،فانّ أصالة العموم وإن لم تكن ناظرةً إلى بيان حال الأفراد،إلّاأ نّها مع ذلك توجب انحلال هذا العلم الاجمالي،بيان ذلك:

هو أنّ لها دلالة مطابقية ودلالة التزامية،فبالاُولى تدل على وجوب إكرام زيد العالم،وبالثانية تدل على انتفاء الحرمة عنه وإثباتها لزيد الجاهل باعتبار أنّ مثبتاتها حجة،وعلى هذا فلا محالة ينحل هذا العلم الاجمالي إلى علمين تفصيليين هما:العلم بوجوب إكرام زيد العالم،والعلم بحرمة إكرام زيد الجاهل فلا تردد حينئذ.

وفي نهاية المطاف قد استطعنا أن نخرج بالنتيجة التالية:وهي أنّ مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصص إذا كانت بالاضافة إلى فرد واحد فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أ نّه لا دليل على جريان أصالة العموم فيها لاثبات التخصص،فاثبات كل منهما يحتاج إلى دليل،ولا دليل عليه إلّاإذا

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 399)


كان هناك أصل موضوعي يحرز به أنّ المشكوك فرد للعام أو ليس بفرد له.

فعلى الأوّل يثبت التخصيص،وعلى الثاني التخصص،ولكنّه خارج عن مفروض الكلام.

نعم،قد يكون مقتضى دليل آخر التخصيص كما في مسألة ماء الاستنجاء فانّ نتيجة التمسك بعموم ما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس هي نجاسة ماء الاستنجاء،وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم بطهارة الملاقي له تخصيصاً في دليل انفعال الملاقي لماء النجس،وقد سبق تفصيل ذلك بشكل موسع 1.وأمّا إذا كانت كبرى مسألة دوران الأمر بينهما بالاضافة إلى فردين يكون أحدهما فرداً للعام والآخر ليس بفرد له فقد عرفت أ نّه لا مانع من الرجوع إلى أصالة العموم لاثبات التخصص.

إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نقاط:

الاُولى: أنّ الكلام في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه يقع في موارد ثلاثة:1-في الشبهات الحكمية.2-في الشبهات المفهومية.3-في الشبهات المصداقية.أمّا في الاُولى فلا خلاف في جواز التمسك بالعام فيها إلّاما نسب إلى بعض العامة من عدم جوازه مطلقاً أو التفصيل بين المخصص المنفصل والمخصص المتصل فلا يجوز في الأوّل دون الثاني.

الثانية: الصحيح هو جواز التمسك بالعام مطلقاً،يعني بلا فرق بين كون المخصص منفصلاً أو متصلاً.ودعوى أنّ المخصص إذا كان منفصلاً يوجب التجوز في العام المستلزم لاجماله فلا يمكن التمسك به خاطئة جداً،وذلك لعدة


 

1) <page number=”399″ /><nl />في ص 394.

 

محاضرات فی أصول الفقه – جلد 4 400)


وجوه منها ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) على تفصيل تقدم.

الثالثة: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) يرجع إلى عدة نقاط وقد ناقشنا في النقطة الثالثة منها فحسب دون غيرها.

الرابعة: أنّ العام دائماً يستعمل في معناه الموضوع له وإن لم يكن مراداً واقعاً وجداً،فانّ الارادة الجدية قد تكون مطابقةً للارادة الاستعمالية وقد لا تكون مطابقة لها،وما أورده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أ نّا لا نعقل للارادة الاستعمالية في مقابل الارادة الجدية معنىً معقولاً،قد ذكرنا خطأه وأ نّه لا واقع موضوعي له.

الخامسة: أنّ الوجه الثاني والثالث كليهما يرجع إلى ما حققناه في المقام وليس وجهاً آخر في قبال ما ذكرناه.

السادسة: أنّ ما عن شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) من أنّ التخصيص في العام وإن استلزم المجاز فيه إلّاأ نّه لا يمنع من التمسك به بالاضافة إلى غير ما هو الخارج عنه من الأفراد،لا يمكن المساعدة عليه بوجه على ما عرفت بشكل موسّع.

السابعة: أنّ المخصص المجمل بحسب المفهوم تارةً يدور أمره بين الأقل والأكثر،واُخرى بين المتباينين،وعلى كلا التقديرين مرةً اخرى يكون متصلاً واُخرى يكون منفصلاً،فإن كان متصلاً منع عن أصل انعقاد ظهور العام في العموم،من دون فرق بين أن يكون دائراً بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين، وإن كان منفصلاً فإن كان أمره دائراً بين الأقل والأكثر فبما أ نّه لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم فبطبيعة الحال يقتصر في تخصيصه بالمقدار المتيقن-وهو خصوص الأقل-وفي الزائد عليه يرجع إلى عموم العام،وإن

Pages: 1 2 3 4 5 6
Pages ( 4 of 6 ): «1 ... 3 4 56»