آثار حضرت آیة الله العظمی شیخ محمد اسحاق فیاض
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴
جلد
4
محاضرات فی أصول الفقه – جلد ۴
جلد
4
كان دائراً بين المتباينين فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقةً إلّاأ نّه يوجب إجماله حكماً فلا يمكن التمسك به.
الثامنة: أ نّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقاً،أي سواء أكان المخصص متصلاً أم كان منفصلاً.أمّا على الأوّل فواضح كما تقدم بشكل موسّع.وأمّا على الثاني فكذلك حيث إنّ القضية سواء أكانت حقيقيةً أم كانت خارجيةً لا تتكفل لبيان موضوعها نفياً وإثباتاً وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم عليه على تقدير تحققه في الخارج،وما نسب إلى المشهور من أ نّهم يجوّزون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مبني على الحدس والاستنباط ولعله لا أصل له.وأمّا ما نسب إلى السيد الطباطبائي (قدس سره) من جواز التمسك به فيها لا أصل له كما عرفت بشكل مفصّل.
التاسعة: أنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) قد ذكر أنّ المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عاديةً أو غير عادية،واحتمل أنّ وجه فتواهم بذلك أحد امور،ثمّ ناقش في جميع هذه الاُمور وبعد ذلك بيّن (قدس سره) وجهاً آخر لذلك وقد تقدم أنّ ما ذكره (قدس سره) من الوجه متين جداً.نعم،فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنّه يدّعي ضمانه بعوضه وهو يدّعي فراغ ذمته عنه،ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم الضمان على تفصيل تقدم.
العاشرة: أنّ ما يمكن أن يستدل به على جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية هو أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاده على الفرض،والمفروض أنّ هذا الظهور حجة ما لم يقم دليل على خلافه،ولا دليل عليه بالاضافة إلى الأفراد المشكوكة،حيث إنّ الخاص لا يكون حجة فيها وقد عرفت بشكل موسّع خطأ هذا الاستدلال فلاحظ.
الحادية عشرة: أنّ شيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) فصّل بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً،فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعام دون الثاني،وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أيضاً وقد أفاد في وجه ذلك ما يرجع إلى عدّة خطوط وقد فصّلنا الكلام حول هذه الخطوط بشكل موسّع وقلنا إنّ هذا التفصيل لا يرجع إلى معنىً محصّل،فالصحيح هو تفصيل آخر:وهو أنّ في كل مورد ثبت أنّ أمر التطبيق أيضاً بيد المولى يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،وكل مورد كان أمر التطبيق بيد المكلف لا يجوز التمسك به.
الثانية عشرة: الصحيح جريان الأصل في الأعدام الأزلية،وعليه فيمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام وترتب حكمه عليه،ولكن أنكر ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وشدّد ذلك ببيان مقدمات،وقد ذكرنا أنّ المقدمات التي ذكرها (قدس سره) بأجمعها في غاية الصحة والمتانة إلّاأ نّها لا تقتضي عدم جريان هذا الأصل،وأنّ المأخوذ في موضوع العام بعد التخصيص هو العدم النعتي لا المحمولي،وقد عرفت أنّ المأخوذ فيه هو العدم المحمولي،وعليه فلا مانع من جريان هذا الأصل لاحراز أنّ الفرد المشتبه داخل في أفراد العام ومحكوم بحكمه.
الثالثة عشرة: أ نّه يعتبر في صحة النذر أن يكون متعلقه راجحاً،فلو شك في ذلك لم يجز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر،لأنّ الشبهة مصداقية فلا يجوز التمسك بالعام فيها،وأمّا صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر وكذلك الصوم في السفر فانّما هي من جهة الروايات الخاصة لا من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر.
الرابعة عشرة: إذا علم بخروج فرد عن حكم العام وشك في أنّ خروجه
من باب التخصيص أو من باب التخصص فلا يمكن التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات أنّ خروجه من باب التخصص،فانّ الاُصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجةً إلّاأ نّه لا دليل على جريانها في مثل المقام.
الخامسة عشرة: أنّ الأقوال في ماء الاستنجاء ثلاثة،الصحيح بمقتضى الفهم العرفي أ نّه طاهر،فانّ ما دلّ على طهارة ماء الاستنجاء بالملازمة العرفية يتقدم على ما دلّ على نجاسته كذلك،لوروده في مورد خاص.
قبل التكلم في ادلته ينبغي تقديم ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1تبعاً للمحقق صاحب الكفاية 2وهو نقطة الفرق بين الفحص هنا والفحص في موارد الاُصول العملية وحاصلها:هو أنّ الفحص في المقام إنّما هو عن المانع والمزاحم لحجية الدليل مع ثبوت المقتضي لها-وهو ظهوره في العموم-حيث إنّه قد انعقد،لفرض عدم الاتيان بالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهوره في العموم،والفحص إنّما هو عن وجود قرينة منفصلة وهي إنّما تزاحم حجية العام لا ظهوره،فالمقتضي للعمل به موجود-وهو الظهور-والفحص إنّما هو لرفع احتمال وجود المانع عنه في الواقع،وهذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالاُصول العملية،فانّه لتتميم المقتضي.
أمّا بالاضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح،حيث إنّ العقل لا يستقل
بقبح العقاب بدون بيان ما لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى المتوجهة إليه،لوضوح أ نّه لا يجب على المولى إيصال الأحكام إلى المكلفين على نحو لا يخفى عليهم شيء منها،بل الذي هو وظيفة المولى بيان الأحكام لهم على النحو المتعارف بحيث إنّهم لو قاموا بما هو وظيفتهم وهي الفحص عنها لوصلوا إليها.
وعلى هذا الضوء فلايكون موضوع أصالة البراءة العقلية محرزاً قبل الفحص، فانّ موضوعها عدم البيان فلا بدّ في جريانها من إحرازه،ومن المعلوم أ نّه قبل الفحص غير محرز حيث يحتمل وجود بيان في الواقع بحيث لو تفحّصنا عنه لوجدناه،ومع هذا الاحتمال كيف يكون محرزاً.فالنتيجة:أنّ عدم جريانها قبل الفحص إنّما هو لعدم المقتضي لها،والفحص إنّما هو لتتميمه وإحراز موضوعها.
وعلى الجملة فمن البديهي أنّ العقل يستقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول إذا لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى مع احتمال قيام المولى بما هو وظيفته من بيان أحكامه المتوجهة إلى عبده بحيث إنّ العبد لو تفحص عنها لظفر بها،ومعه كيف يكون العقل مستقلاً بعدم استحقاق العقاب عليها.
وقد ذكرنا في محلّه أ نّه لا تنافي بين هذه القاعدة وقاعدة قبح العقاب من دون بيان،لاختلافهما مورداً وموضوعاً.أمّا مورداً،فلأن مورد تلك القاعدة ما كان التكليف الواقعي فيه منجّزاً بمنجّزٍ مّا،دون مورد هذه القاعدة،أي قاعدة قبح العقاب حيث إنّ التكليف الواقعي فيه غير منجّز لفرض عدم قيام منجّز عليه.وأمّا موضوعاً،فلأنّ موضوع تلك القاعدة هو ما قام بيان على التكليف ومنجّز عليه ولو كان ذلك البيان والمنجّز نفس احتماله في الواقع،حيث إنّه منجّز بحكم العقل إذا كان قبل الفحص،وأمّا موضوع هذه القاعدة هو ما
لا يقوم بيان ومنجّز عليه.
وأمّا البراءة الشرعية فأدلتها على تقدير تماميتها سنداً وإن كانت مطلقة وغير مقيدة بالفحص،إلّاأنّ إطلاقها قد قيّد باستقلال العقل بوجوب الفحص وأ نّه لا يجوز العمل باطلاقها،وإلّا لزم كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً، ضرورة أ نّه لو لم يجب الفحص بحكم العقل والنظر لم يمكن إثبات أصل النبوة، حيث إنّ إثباتها يتوقف على وجوب النظر إلى المعجزة وبدونه لا طريق لنا إلى إثباتها.وعلى الجملة فكما أنّ ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل المستقل لاستلزامه نقض الغرض الداعي إلى بعث الرسل وإنزال الكتب،فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعية المتوجهة إلى العباد بعين هذا الملاك.
فالنتيجة:أنّ موضوع أدلة البراءة الشرعية قد قيّد بما بعد الفحص، فالفحص في مواردها إنّما هو متمم لموضوعها،ومن ذلك يظهر حال دليل الاستصحاب أيضاً حرفاً بحرف.
ولنأخذ بالنظر على ما أفاداه (قدس سرهما) بيان ذلك:أنّ هذه النظرية وإن كانت لها صورة ظاهرية،إلّاأ نّه لا واقع موضوعي لها،فانّ الفحص في كلا المقامين كان مرّةً عن ثبوت المقتضي والموضوع،ومرّةً اخرى عن وجود المزاحم والمانع،توضيح ذلك:أنّ العمومات الواردة في الكتاب أو السنّة أو من الموالي العرفية إن كانت في معرض التخصيص بحيث قد قامت قرينة من الخارج على أنّ المتكلم بها قد اعتمد في بيان مراداته منها على القرائن المنفصلة والبيانات الخارجية المتقدمة أو المتأخرة زماناً،حيث إنّ دأبه إنّما هو على عدم بيان مراده في مجلس واحد،أو أخّر البيان لأجل مصلحة مقتضية لذلك كما هو الحال في عمومات الكتاب،حيث إنّ اللّٰه تعالى أوكل بيان المراد منها إلى النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السلام).
ومن هنا قد ورد من الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) مخصصات بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة أو ورد منهم (عليهم السلام) عمومات ولكن اخّر بيانها إلى أمد آخر لأجل مصلحة تقتضي ذلك أو مفسدة في البيان كخلاف تقية أو نحوها،ونتيجة ذلك:أنّ مثل هذه العمومات التي قد علمنا من الخارج أ نّها في معرض التخصيص وأنّ دأب المتكلم بها إنّما هو على بيان مراداته الواقعية منها بالقرائن المنفصلة المتأخرة عنها زماناً أو المتقدمة عليها كذلك، لا يكون حجةً قبل الفحص،لعدم إحراز بناء العقلاء على العمل بها قبله، وبدونه فلا يمكن التمسك بها،حيث إنّ عمدة الدليل على حجيتها إنّما هو بناء العقلاء على التمسك بها،وبما أ نّنا لم نحرز البناء منهم على التمسك بتلك الطائفة من العمومات قبل الفحص عن وجود القرائن على خلافها،فلا يمكن الحكم بحجيتها بدونه،فاذن بطبيعة الحال كان الفحص عن وجود تلك القرائن بالاضافة إلى هذه العمومات متمماً للموضوع والمقتضي للعمل بها وبدونه لا يتم،وعليه فحالها من هذه الناحية حال أصالة البراءة فكما أنّ الفحص في موارد التمسك بها يكون متمماً للموضوع والمقتضي له،فكذلك الفحص في موارد التمسك بهذه العمومات.
وأمّا إذا كانت العمومات ليست من تلك العمومات التي تكون في معرض التخصيص كما هو الحال في أكثر العمومات الواردة من الموالي العرفية بالاضافة إلى عبيدهم وخدمهم،أو من الموكّلين بالاضافة إلى وكلائهم،أو من الاُمراء بالاضافة إلى المأمورين،فانّ هذه العمومات ليست في معرض التخصيص، ولأجل ذلك لا مانع من العمل بها قبل الفحص،حيث إنّها كاشفة عن أنّ المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي وظاهرة في ذلك،وهذا الظهور حجة ما لم تقم قرينة على الخلاف ولا يجب عليهم الفحص.
والسر في ذلك كلّه:هو أنّ السيرة القطعية من العقلاء قد جرت على العمل بها قبل الفحص،فالتوقف عن العمل بها قبله خلاف تلك السيرة الجارية بينهم،وهذا بخلاف تلك العمومات فانّ السيرة لم تجر على العمل بها قبل الفحص عن وجود المخصصات والقرائن على الخلاف،نظراً إلى أ نّها غير كاشفة عن مطابقة الارادة الاستعمالية للارادة الجدية،فاذا كانت العمومات من هذا القبيل لم يجب الفحص عنها إلّافيما إذا علم إجمالاً بورود مخصص عليها، فعندئذ لا محالة يجب الفحص لأجل هذا العلم الاجمالي،حيث إنّه لو لم ينحل بالفحص لكان موجباً لسقوطها عن الحجية والاعتبار،وضرورة أنّ أصالة العموم تسقط في أطرافه.
ومن الواضح أنّ الفحص حينئذ إنّما هو عن وجود المانع والمزاحم مع ثبوت المقتضي للعمل بها،يعني هذا العلم الاجمالي يكون مانعاً عن العمل بها مع ثبوت المقتضي له،ومثل هذه العمومات الاُصول العملية في الشبهات الموضوعية حيث إنّ المقتضي للعمل بها في تلك الشبهات تام ولا قصور فيه أصلاً،نظراً إلى أنّ جريانها فيها لا يتوقف على الفحص إلّافي موارد العلم الإجمالي،كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين مثلاً أو بخمرية أحدهما،فانّه مانع عن جريان الاُصول في أطرافه مع ثبوت المقتضي لها وعدم قصور فيه أبداً،ولذا لو انحل هذا العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بنجاسة أحدهما وجداناً أو تعبداً فلا مانع من جريانها في الآخر.
فالنتيجة: أ نّه لا فرق بين الاُصول العملية في الشبهات الموضوعية وتلك الطائفة من العمومات وأ نّهما من وادٍ واحد.
إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النقطة،وهي أ نّه لا فرق بين الفحص في موارد الاُصول اللفظية والفحص في موارد الاُصول العملية،فما أفاده شيخنا
الاُستاذ (قدس سره) تبعاً للمحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من الفرق بينهما خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.
وبعد ذلك نقول: إنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص،وهذا هو الصحيح واستدل على ذلك بعدة وجوه،ولكنها بأجمعها مخدوشة وغير قابلة للاستدلال بها.
الأوّل: أنّ الظن بمراد المولى من العموم لا يحصل قبل الفحص،فلزوم الفحص إنّما هو لتحصيل الظن به.وإن شئت قلت:إنّ حجية أصالة العموم ترتكز على إفادة الظن بمراد المولى،وبما أ نّها لا تفيد الظن قبل الفحص عن وجود المخصصات في الواقع فيجب حتى يحصل الظن به.
ويرد عليه أوّلاً: أ نّه أخص من المدعى،فانّ المدعى هو وجوب الفحص مطلقاً وإن فرض حصول الظن منها قبل الفحص،مع أنّ لازم هذا الوجه هو عدم وجوبه في هذا الفرض. وثانياً: أنّ حجية أصالة العموم إنّما هي من باب إفادة الظن النوعي دون الشخصي كما ذكرناه بشكل موسّع في محلّه،وعليه فهي حجة سواء أفادت الظن أم لم تفد،بل لا يضر بحجيتها قيام الظن الشخصي على الخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق.
الثاني: أنّ خطابات الكتاب والسنّة خاصة بالمشافهين فلا تعم غيرهم من الغائبيين والمعدومين،وعليه فلا يمكن لهم أن يتمسكوا بعموم تلك الخطابات لفرض أ نّها غير متوجهة إليهم،بل لا بدّ في إثبات الحكم المتوجه إلى المشافهين لهم من التمسك بذيل قانون الاشتراك في التكليف،ومن الطبيعي أنّ التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم المشافهين من تلك الخطابات وأ نّه عام أو
خاص،ومن المعلوم أنّ تعيينه منها يتوقف على الفحص،فاذن يجب على غير المشافهين الفحص.
فالنتيجة:أنّ هذه النظرية تستلزم وجوب الفحص عن القرائن والمخصصات على غير المشافهين.
ويرد عليه أوّلاً: أ نّه أخص من المدعى،حيث إنّ جميع الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة بشتى أنواعها ليس من الخطابات المشافهيّة،ضرورة أنّ بعضها ورد على نحو القضية الحقيقية،ومن الطبيعي أ نّها غير مختصة بالمشافهين كقوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1وما شاكله، وكقوله (عليه السلام):«كل شيء نظيف حتى تعلم أ نّه قذر» 2و«كل مسكر حرام» 3وما شابهها.
وثانياً: أ نّا سنذكر في ضمن البحوث الآتية 4أ نّها لا تختص بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب،بل تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين أيضاً.
الثالث: أنّ كل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة يعلم إجمالاً بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة فيهما.وبتعبير آخر:أنّ المتصدي لذلك يعلم إجمالاً بوجود قرائن على إرادة خلاف الظواهر من الكتاب والسنّة،وقضية هذا العلم الاجمالي عدم جواز العمل بها إلّابعد الفحص عن
المخصص والمقيد،كما أنّ قضية العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة المقدّسة عدم جواز العمل بالاُصول العملية إلّابعد الفحص عن الحجة على التكليف.
وقد يورد عليه: بأنّ المدرك لوجوب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي لكانت قضيته وجوب الفحص عن كل ما يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد،سواء أكان من الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة أم كان من غيرها.
أو فقل:إنّ لازم ذلك هو وجوب الفحص عن كل كتاب يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد من دون فرق بين كون ذلك الكتاب كتاباً فقهياً أو اصولياً أو غيرهما.ومن الطبيعي أنّ المجتهد لا يتمكن من الفحص عن كل مسألة مسألة كذلك،حيث إنّ عمره لا يفي بذلك،وهذا دليل على أنّ المدرك لوجوب الفحص ليس هذا العلم الاجمالي.
والجواب عنه: أنّ لنا علمين إجماليين:أحدهما علم إجمالي بوجود مخصصات ومقيدات في ضمن الروايات الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام).وثانيهما:
علم إجمالي بوجودهما في ضمن خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة وفي الأبواب المناسبة للمسألة،وقضية العلم الاجمالي الأوّل وإن كانت هي وجوب الفحص عن كل كتاب أو باب يحتمل وجود المخصص أو المقيد فيه،إلّاأنّ هذا العلم الاجمالي ينحل بالعلم الاجمالي الثاني،حيث إنّ المعلوم بالاجمال في ذاك العلم ليس بأزيد من المعلوم بالاجمال في هذا العلم، ومعه لا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني،يعني أ نّه لا علم لنا بوجود مخصص أو مقيد في الخارج عن دائرة العلم الاجمالي الثاني
وإن كان احتماله موجوداً إلّاأ نّه لا أثر له ولا يكون مانعاً عن التمسك بالعموم أو الاطلاق.
ومن الطبيعي أنّ الفحص عن وجود المخصص أو المقيد في كل مسألة في الأبواب المناسبة لها بمكان من الامكان ولا يلزم منه محذور العسر والحرج عادةً فضلاً عن عدم إمكان ذلك،نظير ذلك ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة عشرة إناءات في ضمن مائة إناء،ثمّ علمنا إجمالاً بنجاسة عشرة في ضمن خمسين، ونحتمل أن تكون العشرة في ضمن المائة بعينها هي العشرة في ضمن الخمسين.
وعلى هذا فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني،يعني لا علم لنا بالنجاسة الخارجة عن دائرة العلم الاجمالي الثاني وهذا هو معنى الانحلال،فاذن لا يجب الاجتناب إلّاعن أطراف هذا العلم الاجمالي الثاني دون الزائد عنها،وقد أجبنا بمثل هذا الجواب عن هذه الشبهة التي أوردها هناك أيضاً على وجوب الفحص في موارد التمسك بالاُصول العملية فلاحظ.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ هذا الاشكال غير وارد على هذا الوجه.
نعم،يرد عليه اشكال آخر:هو أنّ المقتضي لوجوب الفحص لو كان هذا العلم الاجمالي فبطبيعة الحال أ نّه إنّما يقتضي وجوبه ما دام لم ينحل،فاذا انحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال لم يكن مقتضٍ لوجوب الفحص بعده لا محالة.
وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم قبل الفحص،مع أنّ المدعى وجوبه مطلقاً ولو بعد الانحلال،ومن هنا يعلم أنّ العلم الاجمالي بما هو لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوبه على الاطلاق.
هذا،وقد تصدى شيخنا الاُستاذ (قدس سره) لاثبات أنّ هذا العلم
الاجمالي غير قابل للانحلال وأفاد في وجه ذلك ما إليك نصه:ليس الميزان في انحلال العلم الاجمالي هو مجرد وجود القدر المتيقن في البين ليترتب عليه ما ذكرت من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف أو المخصصات المستلزم لعدم وجوب الفحص بعد ذلك عند احتمال تكليف أو تخصيص،بل الميزان في الانحلال أمر آخر لا بدّ في توضيحه من بيان امور:
الأوّل: أ نّه لا بدّ في موارد العلم الاجمالي من تشكيل قضية شرطية على سبيل منع الخلو،ضرورة أ نّه لازم العلم بأصل وجود الشيء مع الشك في خصوصيته وانطباقه على كل واحد من أطرافه.
الثاني: أ نّه يختلف موارد العلم الاجمالي،فتارةً تكون القضية الشرطية التي لابدّ منها في موارد العلم الاجمالي مؤتلفةً من قضية متيقنة وقضية اخرى مشكوك فيها كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر.واُخرى تكون القضية الشرطية المزبورة مؤتلفةً من قضيتين يكون كل منهما مشكوكاً فيه كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين المتباينين.وثالثةً تكون تلك القضية جامعةً لكلتا الخصوصيتين فهي من جهة تكون مؤتلفةً من قضية متيقنة واُخرى مشكوك فيها،ومن جهة اخرى مؤتلفة من قضيتين مشكوك فيهما،ولازم ذلك انحلال العلم الاجمالي إلى علمين اجماليين أحدهما من قبيل القسم الأوّل، والثاني من قبيل القسم الثاني.
الثالث: من القضايا التي قياساتها معها هو استحالة أن يزاحم ما لا يقتضي خلاف شيء لما يقتضي ذلك.
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ الانحلال في القسم الأوّل كعدمه في القسم الثاني مما لا ريب فيه ولا إشكال.وأمّا القسم الثالث ففي انحلال العلم الاجمالي فيه وعدمه خلاف،وتوهم الانحلال فيه هو الموجب لتوهم الانحلال في المقام.
ولكنّ التحقيق خلافه،وتوضيحه مع التطبيق على المقام هو أن يقال:إنّنا إذا علمنا بعد المراجعة إلى ما بأيدينا من الكتب المعتبرة أنّ فيها ما يخالف الاُصول اللفظية والعملية فكل ما فيها من التكاليف الالزامية والتخصيصات الواردة على العمومات يكون منجّزاً لا محالة،لأنّ المفروض تعلق العلم به بهذا العنوان،أعني به وروده في تلك الكتب،وهذا العلم يوجب التنجز بمقدار عنوان متعلقه.
وعليه فالأحكام والمخصصات الواقعية الموجودة في تلك الكتب بما أ نّها معلومة بهذا العنوان مع قطع النظر عن كميتها تكون ذات علامة وتعيّن،فلا ينحل العلم بها بالظفر بمقدار يعلم بتحققه من التكاليف والمخصصات في هذه الكتب،فانّ العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر إنّما يكون منحلاً إلى العلم بوجود الأقل والشك في وجود الأكثر إذا لم يكن الأكثر طرفاً لعلم إجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلحظ فيه الكمية.
وأمّا فيما إذا كان كذلك كما في المقام فلا يكون العلم بوجود الأقل موجباً للانحلال،لأنّ غاية الأمر أنّ العلم بالتكاليف أو المخصصات من جهة تعلقه بما هو مردد بين الأقل والأكثر لا يكون مقتضياً لتنجّز الأكثر وذلك لا ينافي تنجّزها من جهة تعلقه بما له تعيّن وعلامة.
وعليه فكل حكم احتمل المكلف جعله في الشريعة المقدّسة أو كل عام احتمل أن يكون له مخصص يجب الفحص عنه في تلك الكتب،لكونه من أطراف العلم الاجمالي المتعلق بما له تعيّن وعلامة.ولا يفرق في ذلك بين الظفر بالمقدار المتيقن من حيث الكمية والعدد وعدم الظفر به.
وبالجملة: المعلوم بالاجمال في محل الكلام وإن كان مردداً بين الأقل
والأكثر،إلّاأنّ ذلك بمجرده لا يكفي في عدم تنجّز الأكثر بعد تعلق العلم به بعنوان آخر لم تلحظ فيه الكمية والعدد،فغاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني للتنجز بالاضافة إلى المقدار الزائد على المتيقن،لا أ نّه يقتضي عدم التنجز بالاضافة إلى ذلك المقدار،فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم الأوّل للتنجز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدمة الثالثة.ونظير ذلك ما إذا كنت عالماً بأ نّك مديون لزيد بمقدار مضبوط يمكن العلم به تفصيلاً بالمراجعة إلى الدفتر،فهل يساعد وجدانك على أن تكتفي بمراجعة الدفتر بمقدار يكون فيه القدر المتيقن من الدين،وهل عدم الاكتفاء به إلّامن جهة العلم باشتغال الذمة بمجموع ما في الدفتر الموجب لتنجّز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.
فاتضح مما ذكرناه أنّ الانحلال يتوقف زائداً على كون المعلوم مردداً بين الأقل والأكثر على أن لا يكون متعلق العلم معنوناً بعنوان آخر غير ملحوظ فيه الكمية والعدد.وأمّا إذا كان كذلك فلا يعقل فيه الانحلال،ويستحيل أن يكون مجرد اليقين بمقدار معيّن مما يندرج تحت ذلك العنوان موجباً له،فانّه يستلزم سقوط ما فيه الاقتضاء عن اقتضائه لأجل ما لا اقتضاء فيه وهو غير معقول 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الاُولى: أنّ الضابط في انحلال العلم الاجمالي ليس هو الظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن،بل له نكتة اخرى لا بدّ في الحكم بالانحلال من توفر تلك النكتة،
وسوف يأتي توضيحها في ضمن النقاط التالية.
الثانية: أنّ القضية المتشكلة في مورد العلم الاجماليمرةً تكون مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها كما هو الحال فيما إذا كان المعلوم بالاجمال مردداً بين الأقل والأكثر.واُخرى تكون مركبة من قضيتين مشكوكتين كما إذا تردد المعلوم بالاجمال بين أمرين متباينين.وثالثةً تكون جامعة بين الأمرين يعني أنّ العلم الاجمالي في هذه الصورة ينحل في الحقيقة إلى علمين اجماليين، فالمعلوم بالاجمال في أحدهما مردد بين الأقل والأكثر وفي الآخر بين المتباينين، فهذه الصورة في الحقيقة مركبة من الصورتين الأوّلتين وليست صورة ثالثة في قبالهما.
الثالثة: أنّ العلم الاجمالي إنّما يكون قابلاً للانحلال فيما إذا تعلق بعنوان لوحظ فيه الكمية والعدد من دون أن يكون ذا علامة وتعين في الواقع كما هو الحال في أكثر موارد العلم الاجمالي.
وأمّا إذا كان متعلقاً بعنوان ذات علامة وتعيّن في الواقع ولم تلحظ فيه الكمية والعدد فهو غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن،ومثال ذلك:هو ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءات،وعلم أيضاً بنجاسة خصوص إناء زيد مثلاً المردد بين تلك الاناءات واحتمل أن يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل هو إناء زيد كما احتمل أن يكون غيره،وبما أنّ المعلوم بالعلم الاجمالي الثاني ذو علامة وتعيّن في الواقع دون المعلوم في العلم الاجمالي الأوّل،فلا ينحل الثاني بانحلال الأوّل بالظفر بالمقدار المعلوم،حيث إنّ نسبة إناء زيد إلى كل واحد من هذه الاناءات على حد سواء من دون فرق بين المعلوم منها بالتفصيل والمشكوك منها بالشك البدوي.
وإن شئت قلت:إنّ العلم التفصيلي بنجاسة أحدها وإن كان يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل جزماً،إلّاأ نّه لا يؤثر بالاضافة إلى العلم الاجمالي الثاني، فانّ المعلوم بالاجمال فيه وإن احتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل إلّاأنّ مجرد ذلك لا يكفي بعد ما كانت نسبته إلى كل واحد منها نسبة واحدة،فلا تنحل القضية الشرطية فيه إلى قضيتين حمليتين إحداهما متيقنة والاُخرى مشكوك فيها،حيث إنّ ملاك انحلال العلم الاجمالي هو انحلال هذه القضية وهي قد انحلت في العلم الاجمالي الأوّل على الفرض دون العلم الاجمالي الثاني.
وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ لنا علمين إجماليين:أحدهما متعلق بوجود المخصصات والمقيدات المردد في الواقع بين الأقل والأكثر.وثانيهما متعلق بوجوداتهما في خصوص الكتب الأربعة مثلاً،فالعلم الاجمالي الثاني يمتاز عن العلم الاجمالي الأوّل حيث إنّ المعلوم بالاجمال في العلم الثاني ذات علامة وتعيّن في الواقع دون المعلوم بالاجمال في العلم الأوّل.
ونتيجة ذلك هي:أنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم دون الثاني،نظراً إلى أنّ المعلوم بالاجمال فيه ذات علامة وتعيّن في الواقع من دون لحاظ الكمية والعدد فيه.
وعلى الجملة: فاذا ظفرنا بمقدار من المخصص والمقيد فان لوحظ بالاضافة إلى العلم الاجمالي الأوّل،فإن كان بمقدار المعلوم بالاجمال فيه فقد انحل لا محالة،وإن لوحظ بالاضافة إلى العلم الاجمالي الثاني لم يؤثر فيه أصلاً حيث لم تلحظ فيه الكمية،فما دام العلم الاجمالي متعلقاً بما له تعيّن وعلامة في الواقع فهو غير قابل للانحلال،ولا ينتفي إلّابانتهاء تعيّنه وعلامته فيه،ولازم ذلك هو وجوب الاحتياط بالاضافة إلى كل ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال المعنون بهذا العنوان والعلامة،وفي المقام العلم الاجمالي الأوّل الذي يدور المعلوم
بالاجمال فيه بين الأقل والأكثر وإن انحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال – وهو الأقل-ولازمه هو عدم وجوب الفحص عن المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر،إلّاأنّ هذا الأكثر طرف للعلم الاجمالي الثاني،وهو يقتضي وجوب الفحص عنه في ضمنه فلا يزاحم ما لا اقتضاء له-وهو العلم الاجمالي الأوّل-ما له اقتضاء وهو العلم الاجمالي الثاني.
الرابعة: ما إذا علم شخص إجمالاً بأ نّه مديون لزيد مثلاً بمقدار مضبوط في الدفتر يمكن العلم به تفصيلاً بالمراجعة إليه،لم يجز له الرجوع إلى أصالة البراءة عن الزائد بعد العلم التفصيلي بالمقدار المتيقن من الدين،وليس هذا إلّامن ناحية أنّ المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي ذات علامة وتعيّن في الواقع، فهو لا محالة يوجب تنجّز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أمّا النقطة الاُولى: فهي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً،والسبب فيه:هو أنّ الضابط في انحلال العلم الاجمالي إنّما هو الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال تفصيلاً بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي،فانّه إذا ظفر المكلف بهذا المقدار واحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه كما هو كذلك،فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بالاضافة إلى المقدار المعلوم بالاجمال والشك البدوي بالاضافة إلى غيره،فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى الأصل في غير موارد العلم التفصيلي.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلوم بالاجمال ذات علامة وتعيّن في الواقع وأن لايكون كذلك،ضرورة أنّ المعلوم بالاجمال إذا احتمل انطباقه على المعلوم
بالتفصيل أو على المعلوم بالاجمال في علم إجمالي آخر فضلاً عن إحرازه،فقد انحل ولو كان ذا علامة وتعيّن في الواقع،ولا تبقى القضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو،بل تنحل إلى قضيتين حمليتين:إحداهما متيقنة والاُخرى مشكوك فيها،وليس لانحلاله نكتة اخرى سوى ما ذكرناه،وما أفاده (قدس سره) من النكتة سوف يأتي بطلانها بشكل موسّع في ضمن البحوث التالية.
وأمّا النقطة الثانية: فيرد عليها أنّ فرض القضية المتشكلة في موارد العلم الاجمالي مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها بعينه هو فرض انحلال العلم الاجمالي،أو فقل:إنّ في كل مورد كان المعلوم بالاجمال مردداً بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ففيه صورة للعلم الاجمالي لا واقعه الموضوعي.
نعم،فيما إذا كان الأقل والأكثر ارتباطيين فالعلم الاجمالي في مواردهما وإن كان موجوداً إلّاأنّ القضية الشرطية فيها ليست مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها،بل هي مركبة من قضيتين مشكوكتين،حيث إنّ العلم الاجمالي في موردهما قد تعلق بالجامع بين الاطلاق والتقييد وكل منها مشكوك فيه،وبما أنّ الأصل في طرف الاطلاق غير جارٍ لعدم الكلفة فيه،فلا مانع من جريانه في طرف التقييد،وبذلك ينحل العلم الاجمالي حكماً،لما حققناه في الاُصول من أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما يقوم على أساس عدم جريان الاُصول في أطرافه وسقوطها من جهة المعارضة.
وأمّا إذا افترضنا أنّ الأصل قد جرى في بعض أطرافه بلا معارض،فلا يكون العلم الاجمالي مؤثراً،وما نحن فيه من هذا القبيل.فالنتيجة:أنّ ما فرضه (قدس سره) من تركب القضية في مورده-أي مورد العلم الاجمالي-هو
فرض انحلاله لا فرض وجوده.
وأمّا النقطة الثالثة: فهي لو تمت فانّما تتم في المثال الذي ذكرناه لا في المقام،والسبب فيه:هو أنّ المعلوم بالاجمال هنا وإن كان ذا علامة وتعيّن في الواقع،إلّاأ نّه إنّما يمنع من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر كالمثال الذي قدّمناه آنفاً.
وأمّا إذا كان ما له العلامة والتعين مردداً أيضاً بين الأقل والأكثر،فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع،فكما أنّ ما ليس له العلامة والتعيّن فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم،فكذلك ما له العلامة والتعين،وما نحن فيه كذلك،فانّ ما له العلامة والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعيّن،فلا فرق بينهما من هذه الناحية،يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.
وإن شئت فقل: كما أنّ العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في الشريعة المقدّسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن،كذلك العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل بذلك، والنكتة فيه أنّ المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي كالمعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل،يعني أنّ أمره دائر بين الأقل والأكثر.
وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلاً،فلا علم بعده بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر،والشاهد عليه هو أ نّنا لو أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص أو المقيد فيها، وهذا معنى انحلال العلم الاجمالي.
وعلى الجملة:أنّ قوام العلم الاجمالي إنّما هو بالقضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو،فاذا انحلّت هذه القضية إلى قضيتين حمليتين:
إحداهما متيقنة والاُخرى مشكوك فيها،فقد انحل العلم الاجمالي ولا يعقل بقاؤه.
والمفروض في المقام أ نّه قد انحلت هذه القضية إلى هاتين القضيتين،ومجرد كون المعلوم بالاجمال فيه ذا علامة وتعيّن في الواقع لا يمنع عن انحلاله بعد ما كان في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر،كالمعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يتم في المثال الذي ذكرناه أيضاً بناءً على ضوء نظريته (قدس سره) من أنّ العلم الاجمالي مقتضٍ للتنجيز لا علة تامة،والوجه في ذلك:هو أنّ المكلف إذا علم بوجود نجس بين إناءات متعددة مردد بين الواحد والأكثر وعلم أيضاً بنجاسة إناء زيد بالخصوص المعلوم وجوده بين هذه الاناءات،فانّه إذا علم بعد ذلك وجداناً أو تعبداً بنجاسة أحد تلك الاناءات بعينه،فهذا العلم التفصيلي كما يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل المتعلق بوجود النجس بينها المردد بين الأقل والأكثر،كذلك يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني،لاحتمال أنّ الاناء المعلوم نجاسته تفصيلاً هو إناء زيد،فلا علم بوجود إناء زيد بين الاناءات الباقية،كما لا علم بوجود النجس بينها،فاذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في الاناءات الباقية، ولا يلزم من جريانها فيها مخالفة قطعية عملية،والمفروض أنّ المانع عن جريان الاُصول في أطراف العلم الاجمالي إنّما هو لزوم المخالفة القطعية العملية،فاذا افترضنا أنّ جريانها في أطرافه لا يستلزم تلك المخالفة فلا مانع منه.
وبكلمة اخرى:أنّ تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على تعارض الاُصول في أطرافه،بتقريب أنّ جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية،وفي البعض دون الآخر ترجيح من غير مرجّح،فلا محالة تسقط في الجميع،وأمّا إذا افترضنا أ نّه لا يلزم من جريانها في أطرافه المخالفة القطعية العملية التي هي المانع الوحيد عنه فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً،وحينئذ لا مانع من جريانها فيها.وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من جريان أصالة الطهارة في الاناءات الباقية بأجمعها،لفرض عدم لزوم المخالفة القطعية العملية منه التي هي ملاك المعارضة بين جريانها فيها الموجبة لسقوطها،فاذا جرت أصالة الطهارة فيها فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي فيصبح وجوده كعدمه.
وفي نهاية الشوط قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة،وهي أ نّه بناءً على أساس نظريته (قدس سره) من أنّ العلم الاجمالي يكون مقتضياً للتنجيز لا العلة التامة كما قوّينا أيضاً هذه النظرية،لا يفرق بين كون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتعيّن في الواقع وما لا علامة وتعيّن له،وما له العلامة لا يفرق فيه بين أن يكون مردداً بين الأقل والأكثر وما لا يكون مردداً بينهما،فانّ العلم الاجمالي في جميع هذه الصور ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم،يعني أ نّه لا مانع بعد ذلك من الرجوع إلى الاُصول فيما عدا هذا المقدار المتيقن تفصيلاً،حيث إنّ المانع من الرجوع إليها في أطرافه إنّما هو وقوع المعارضة بينها،وحيث إنّ منشأه لزوم المخالفة القطعية العملية وهي غير لازمة في المقام في تمام هذه الشقوق [ فلا مانع من الرجوع إلى الاُصول ].
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه:أنّ العلم الاجمالي بوجود المخصصات أو المقيدات لا يصلح أن يكون ملاكاً لوجوب الفحص،وإلّا لكان لازمه عدم وجوبه بعد انحلاله مع أنّ الأمر ليس كذلك.
وأمّا النقطة الرابعة: فقد ظهر خطؤها مما ذكرناه،فانّ مجرد العلم الاجمالي بكون مقدار الدين مضبوطاً في الدفتر لا يوجب الاحتياط والفحص بعد الظفر بالمقدار المتيقن ثبوته،لفرض أ نّه قد انحل بعد الظفر بهذا المقدار إلى قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها.
ومجرد كون المعلوم بالاجمال هنا ذا علامة وتعيّن في الواقع لا يمنع عن انحلاله كما عرفت آنفاً،ولا سيّما فيما إذا كان مردداً بين الأقل والأكثر كما هو كذلك في المثال،فانّه ينحل لا محالة بالظفر بالمقدار المتيقن.
وعليه فوجوب الفحص عن الزائد على هذا المقدار يحتاج إلى دليل آخر يدل عليه بعد عدم الاطمئنان باشتمال الدفتر على الزائد عنه.
ومن هنا لو لم يتمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه أو نحو ذلك لم يجب عليه الاحتياط جزماً بأداء ما يقطع معه بفراغ الذمة واقعاً،بل يرجع إلى أصالة البراءة بالاضافة إلى الزائد على المقدار المعلوم والمتيقن،لفرض الشك في اشتغال الذمة به،وهذا دليل على أنّ العلم الاجمالي المزبور لا يكون منجّزاً للواقع على ما هو عليه.
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1بيّن وجهاً آخر لوجوب الفحص وحاصله:هو أنّ حجية أصالة العموم إنّما هي لكشفها عن مراد المتكلم في الواقع وهو متقوّم بجريان مقدمات الحكمة في مدخوله التي تكشف عن عدم دخل قيدٍ مّا في مراده،نظراً إلى أنّ أداة العموم إنّما وضعت للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ولا تكون متكفلةً لبيان أنّ المراد من مدخولها هو الطبيعة المطلقة دون المقيدة،فانّ إثبات ذلك يتوقف على جريان مقدمات الحكمة كما
تقدم ذلك في ضمن البحوث السالفة موسّعاً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:حيث إنّنا قد علمنا بعد مراجعة الأدلة الشرعية أنّ طريقة الشارع قد استقرت على إبراز مراداته وبيان مقاصده من ألفاظه الصادرة منه في هذا المقام بالقرائن المنفصلة حتى قيل إنّه لم يوجد عام في الكتاب والسنّة إلّاوقد ورد عليه تخصيص منفصل عنه،لا يكون للعمومات الواردة فيهما ظهور تصديقي كاشف عن المراد قبل الفحص عن مخصصاتها.
ومن الطبيعي أنّ ما لم يكن لها هذا الظهور،يعني الظهور التصديقي الكاشف عن المراد قبل الفحص عنها،لا محالة لا تكون حجةً يصح الاعتماد عليها.
وعلى ضوء هذا العلم،يعني العلم بأنّ ديدن الشارع قد استقر على ذلك، فقد انهدم أساس جريان مقدمات الحكمة في مدخول الأداة أي أداة العموم، فانّها إنّما تجري في مدخول العمومات التي يكون المتكلم بها في مقام بيان مراداته منها،ولم تستقر سيرته على بيان مقاصده بالقرائن المنفصلة كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّها واردة في عصر النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) ومخصصاتها قد وردت في عصر الأئمّة (عليهم السلام)،وكذا الحال في العمومات الصادرة منهم (عليهم السلام)،فان بناءهم ليس على إبراز مقاصدهم ومراداتهم في مجلس واحد لمصلحة دعت إلى ذلك أو لمفسدة في البيان.
ومن الطبيعي أنّ هذا العلم أوجب هدم أساس المقدمات فلا يعقل جريانها في مدخول مثل هذه العمومات،لفرض أنّ من مقدمات الحكمة عدم نصب المتكلم القرينة على الخلاف،فاذا علمنا من الخارج أنّ ديدن هذا المتكلم قد جرى على نصب القرينة المنفصلة على الخلاف فكيف تجري المقدمات في كلامه،فاذا لم تجر المقدمات لم ينعقد له ظهور تصديقي في العموم حتى يكون
كاشفاً عن مراده الجدي في الواقع.
فالنتيجة: أنّ عدم جواز التمسك بالعمومات أو المطلقات الواردة في الكتاب أو السنّة قبل الفحص إنّما هو لأجل هذه النكتة.
ولنأخذ بالنقد على هذا الوجه بأمرين:
الأوّل: ما ذكرناه سابقاً بشكل موسّع 1من أنّ أداة العمومات بنفسها متكفلة لاثبات إطلاق مدخولها،يعني أ نّها تدل بمقتضى وضعها على تسرية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة فيه.
الثاني: سوف ما نذكره إن شاء اللّٰه تعالى في مبحث المطلق والمقيد أنّ مقدمات الحكمة إنّما تجري لاثبات ظهور المطلق في الاطلاق،فاذا صدر كلام مطلق عن متكلم في مجلس ولم يصدر منه قرينة على الخلاف جرت مقدمات الحكمة فيه،وبها يثبت ظهوره في الاطلاق والعلم بأنّ سيرة المتكلم قد جرت على إبراز مراداته ومقاصده بالقرائن المنفصلة،وليس بناؤه على إبرازها في مجلس واحد لا يمنع عن جريان مقدمات الحكمة في كلامه إذا لم ينصب قرينةً متصلةً على الخلاف،والسبب فيه واضح هو أنّ القرينة المنفصلة لا تمنع عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق،وإنّما هي تمنع عن حجية ظهوره فيه، والمفروض أنّ جريان مقدمات الحكمة إنّما هو لاثبات ظهوره فلا يكون العلم المزبور مانعاً عنه.
وعلى الجملة: فبناءً على تسليم نظريته (قدس سره) من أنّ دلالة أدوات العموم على إرادته من مدخولها تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه،فما
أفاده (قدس سره) في المقام غير تام،فانّ القرائن المنفصلة لا تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في المطلق لاثبات ظهوره في الاطلاق،والمانع عنه إنّما هو القرينة المتصلة،فالمراد من عدم البيان الذي هو من إحدى مقدماتها هو عدم البيان المتصل لا المنفصل،فلا يتوقف انعقاد ظهوره في الاطلاق على عدم بيانه أيضاً.
وعليه فلا محالة ينعقد ظهور العام في العموم،مع أنّ لازم ما أفاده (قدس سره) هو عدم جواز التمسك بالعموم فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملاً،حيث إنّه يصلح أن يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة في مدخوله،فاذا لم تجر لم ينعقد ظهور العام في العموم.
أو فقل:إنّ عمومات الكتاب والسنّة لا تخلو من أن ينعقد لها ظهور في العموم ولا يتوقف انعقاده فيه على عدم وجود القرائن المنفصلة أو لا ينعقد لها ظهور فيه.
فعلى الأوّل لا بدّ من التزام شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بعدم وجوب الفحص،حيث إنّ ملاكه على ما ذكره (قدس سره) إنّما هو عدم ظهورٍ لها في العموم،فاذا افترضنا أنّ الظهور لها قد انعقد فيه فلا مقتضي له بعد ذلك.
وعلى الثاني لا بدّ له من الالتزام بعدم جواز التمسك بها حتى فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملاً،ضرورة أ نّه لو توقف انعقاد ظهور العام في العموم على عدم البيان أصلاً حتى المنفصل فبطبيعة الحال لا يفرق في المخصص المجمل بين كونه متصلاً أو منفصلاً،فكما أنّ إجمال الأوّل يسري إلى العام ويمنع عن انعقاد ظهوره في العموم،فكذلك الاجمال الثاني مع أ نّه (قدس سره) غير ملتزم به.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنّ هذه الوجوه التي ذكرت لوجوب الفحص لا يتم شيء منها.
فالصحيح في المقام أن يقال:إنّ ما دلّ على وجوب الفحص عن الحجة في موارد الاُصول العملية بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الاُصول اللفظية، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً،فالملاك لوجوبه في كلا البابين واحد، وذكرنا هناك أنّ ما دلّ على وجوبه أمران:
الأوّل: حكم العقل بذلك حيث إنّه يستقل بأنّ وظيفة المولى ليست إلّا تشريع الأحكام وإظهارها على المكلفين بالطرق العادية ولا يجب عليه تصدّيه لجميع ما له دخل في الوصول إليهم بحيث يجب على المولى إيصال التكليف إلى العبد ولو بغير الطرق العادية المتعارفة إذا امتنع العبد من الاطلاع على تكاليف مولاه بتلك الطرق،كما أ نّه يستقل بأن وظيفة العبد إنّما هي الفحص عن تكاليف المولى التي جعلها وأظهرها بالطرق العادية لئلّا يقع في مخالفتها،ضرورة أ نّه لو لم يتصدّ للفحص عنها وتمسك بأصالة البراءة أو استصحاب العدم في كل مورد احتمل التكليف فيه لزم إبطال فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب حيث لا يمكن الوصول إلى تلك التكاليف إلّابالفحص.
وعلى الجملة: فالعقل كما يستقل بوجوب النظر إلى المعجزة وإلّا لزم إفحام جميع الأنبياء والأوصياء،كذلك يستقل بوجوب الفحص في مقام الرجوع إلى البراءة أو الاستصحاب،فالملاك لاستقلاله في كلا الموردين واحد،والسر في ذلك ما عرفت من أ نّه لايجب على المولى إيصال الأحكام والتكاليف التي جعلها في الشريعة المقدّسة إلى العباد بالطرق غير العادية،فالواجب عليه بيانها بالطرق المتعارفة العادية بحيث يتمكن المكلف من الوصول إليها بالمراجعة والفحص،
فلو لم يفحص ووقع في مخالفتها لم يكن معذوراً.
وهذا الوجه بعينه جارٍ في موارد الرجوع إلى الاُصول اللفظية،فانّ المكلف لو تمسك بها بدون الفحص عن القرائن على خلافها مع علمه بأنّ بيان الأحكام الشرعية كان على نحو التدريج وبالطرق العادية المتعارفة لوقع في مخالفة تلك الأحكام كثيراً ولا يكون معذوراً،حيث إنّ العقل يرى أنّ وظيفته هي الفحص عن القرائن المحتملة في الواقع وأ نّه لو تفحّص عنها لوصل إليها لو كانت موجودة،ومعه كيف يكون معذوراً.
فالنتيجة:أنّ وظيفة المولى بيان الأحكام بالطرق العادية ووظيفة العبد الفحص عن تلك الأحكام،بلا فرق في ذلك بين موارد الاُصول العملية والاُصول اللفظية.
الثاني: الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص،أمّا الاُولى:فمنها قوله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ» 1ومنها قوله تعالى: «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» إلخ 2وغيرهما من الآيات.وأمّا الثانية:فمنها قوله (عليه السلام):«إنّ اللّٰه تعالى يقول لعبده في يوم القيامة هلّا عملت ؟ فقال:ما علمت،فيقول:هلّا تعلّمت» 3وغيرها من الروايات.
ومن الواضح أنّ هذا الوجه لا يختص بموارد الرجوع إلى الاُصول العملية،
بل يعمّ غيرها من موارد الرجوع إلى الاُصول اللفظية أيضاً،ضرورة أ نّه لا يكون في الآيات والروايات ما يوجب اختصاصهما بها.
فالنتيجة: أ نّهما لا تختصان بمورد دون مورد وتدلان على وجوب التعلم والفحص مطلقاً،بلا فرق بين موارد الاُصول العملية وموارد الاُصول اللفظية، هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.
وأمّا مقداره فهل يجب الفحص على المكلف بمقدار يحصل له العلم الوجداني بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه وإن احتمل وجوده في الواقع،أو بمقدار يحصل له الاطمئنان بذلك،أو لا هذا ولا ذاك،بل يكفي تحصيل الظن به ؟ فيه وجوه.
أمّا الأوّل: فهو غير لازم جزماً،لأنّ تحصيل العلم الوجداني بعدم وجوده بالفحص يتوقف على الفحص في جميع الكتب المحتمل وجوده فيها وإن لم يكن الكتاب من كتب الحديث،ومن الطبيعي أنّ هذا يحتاج إلى وقت طويل،بل لعلّه لا يفي العمر بالفحص كذلك في باب واحد من أبواب الفقه فضلاً عن جميع الأبواب،هذا مضافاً إلى عدم الدليل على وجوبه كذلك.
وأمّا الثاني: فهو الصحيح،نظراً إلى أ نّه حجة فيجوز الاكتفاء به،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ تحصيله لكل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بمكان من الامكان،نظراً إلى أنّ الاطمئنان يحصل بعدم وجوده بالفحص عنه في الأبواب المناسبة،ولا يتوقف على الفحص في الزائد عليها،والمفروض أنّ تحصيل الزائد على مرتبة الاطمئنان غير واجب.
وأمّا الثالث: فلا يجوز الاكتفاء به لعدم الدليل بعد ما لم يكن حجة شرعاً.
فالنتيجة:أنّ المقدار الواجب من الفحص هو ما يحصل الاطمئنان منه بعدم
وجود المخصص أو المقيد في مظانه دون الزائد،ولا أثر لاحتمال وجوده في الواقع بعد ذلك،كما أ نّه لا يجوز الاكتفاء بما دونه يعني الظن لعدم الدليل عليه.
ولصاحب الكفاية (قدس سره) 1في المقام كلام وحاصله:هو أنّ عمومات الكتاب والسنّة بما أ نّها كانت في معرض التخصيص فالمقدار اللازم من الفحص هو ما به يخرج عن المعرضية له.
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدس سره) لا يرجع بظاهره إلى معنىً محصّل،فانّ تلك العمومات إذا كانت في معرض التخصيص لم تخرج عن المعرضية بالفحص عن مخصصاتها،لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه،بل القطع الوجداني بعدم المخصص لها لا يوجب خروجها عن المعرضية فضلاً عن الاطمئنان،ولعلّه (قدس سره) أراد الاطمئنان من ذلك.
وكيف كان،فالصحيح ما ذكرناه من أنّ الفحص الواجب إنّما هو بمقدار يحصل منه الاطمئنان بالعدم دون الزائد عليه.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أنّ النزاع فيها يتصور على وجوه:
الأوّل: أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفل له الخطاب هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب ؟ ولا يفرق فيه بين كون الخطاب شفاهياً أو غيره كقوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 2وقوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» 3وما شاكلها.
الثاني: أن يكون النزاع في إمكان المخاطبة مع المعدومين أو الغائبين وعدم إمكانها،يعني أ نّه هل يمكن توجيه الخطاب إليهما أم لا ؟ فالنزاع على هذين الوجهين يكون عقلياً.
الثالث: أن يكون في وضع أدوات الخطاب،يعني أ نّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.
وبعد ذلك نقول: الذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو هذا الوجه يعني الوجه الأخير دون الوجهين الأوليّن،لأنّهما غير قابلين لأن يجعلا محلاً للنزاع والكلام.
أمّا الأوّل: فلأنّ جعل التكليف بمعنى البعث أو الزجر الفعلي لا يعقل ثبوته
للمعدومين بل للغائبين،ضرورة أ نّه يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج-وهو العاقل البالغ القادر-والتفاته إلى التكليف حتى يكون فعلياً في حقّه وإلّا استحال فعليته.
وأمّا جعل التكليف بمعنى الانشاء وإبراز الأمر الاعتباري على نحو القضية الحقيقية فثبوته للمعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان،لوضوح أ نّه لا بأس بجعل التكليف كذلك للموجودين والمعدومين معاً،حيث إنّ الموضوع فيها قد اخذ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع وجعل الحكم له،سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن،فالوجود الفرضي لا يقتضي الوجود الحقيقي حيث لا مانع من فرض المعدوم موجوداً.
وإن شئت قلت:إنّا قد ذكرنا في محلّه 1أنّ الاعتبار خفيف المؤونة،فكما أ نّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الاستقبالي كما هو الحال في الواجب المشروط بالشرط المتأخر.وعليه فلا مانع من جعل الحكم للموجودين والمعدومين بنحو القضية الحقيقية التي ترجع إلى القضية الشرطية،حيث إنّ مردّها إلى الشرط المتأخر لا محالة.ونظير ذلك مسألة الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة،حيث إنّ الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطناً بعد بطن،بحيث إنّ كل بطن لاحق يتلقى الملك من الواقف لا من البطن السابق،ومعنى ذلك هو أنّ الواقف من حين الوقف يعتبر ملكيته له، فيكون زمان المعتبر متأخراً عن زمان الاعتبار.فالنتيجة أنّ النزاع بهذا المعنى لا يرجع إلى معنىً معقول.
وأمّا الثاني: فإن اريد من إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين
توجيهه إليهما بقصد التفهيم حقيقةً فهو غير معقول،ضرورة أنّ توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس الخطاب إذا كان غافلاً مستحيل فما ظنك بالمعدوم والغائب،فيكون نظير الخطاب إلى الحجر فانّه لا يعقل إذا قصد به تفهيمه، وكتوجيه الخطاب باللغة العربية إلى من لايكون عارفاً بها أو بالعكس وهكذا، فانّ الخطاب الحقيقي في جميع هذه الموارد غير معقول.
وإن اريد بذلك شيئاً آخر كاظهار العجز أو المظلومية أو ما شاكل ذلك، فتوجيه الخطاب بهذا المعنى إلى المعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان، كما هو المشاهد في الصبي كثيراً حينما يخاف أو يضربه شخص نادى يا أباه يا امّاه مع أ نّه يعلم بأنّ أباه أو امّه غير حاضر عنده فغرضه من هذا الخطاب إظهار العجز والتظلم.
فالنتيجة:أنّ الخطاب الحقيقي الذي يكون الداعي إليه قصد التفهيم لا يمكن توجيهه إلى الغائب بل إلى الحاضر إذا كان غافلاً فضلاً عن المعدوم.وأمّا الخطاب الانشائي الذي يكون الداعي إليه إظهار العجز أو الشوق أو الولاء أو ما شاكل ذلك فتوجيهه إلى المعدوم فضلاً عن الغائب بمكان من الامكان.
وهنا شق ثالث للخطاب:وهو أن يقصد المتكلم تفهيم المخاطب حينما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره،كما إذا افترضنا أنّ المخاطب نائم فيكتب المتكلم ويخاطبه بقوله:إذا قمت من النوم افعل الفعل الفلاني،أو خاطب ولده بقوله:يا ولدي إذا كبرت فافعل كذا وكذا،أو سجّل خطابه في شريط ثمّ يرسله إلى مكان أو بلد آخر ليسمع الناس خطابه في ذلك المكان أو البلد فيكون قصده تفهيمهم من حين وصول الخطاب إليهم وسماعهم إيّاه،لا من حين الصدور،أو خاطب شخصاً في بلد آخر بالتلفون حيث إنّ خطابه لم يصل إليه من حين صدوره منه بل لا محالة وصوله إليه كان بعده بزمان وإن كان ذلك
الزمان قليلاً جداً.ومن الطبيعي أ نّه إذا جاز الفصل بين صدور الخطاب من المتكلم وبين قصده تفهيم المخاطب بزمان لم يفرق بين الزمان القليل والكثير، فاذا جاز في القليل جاز في الكثير أيضاً.وعليه فلا مانع من أن يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة جميع البشر إلى يوم القيامة، يعني كل من وصلت إليه تلك الخطابات فهو مقصود به كما هو كذلك.وكيف ما كان فلا إشكال في إمكان ذلك أصلاً.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه:أنّ النزاع في هذا الوجه أيضاً لا يرجع إلى معنىً محصّل.
فالذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو الوجه الأخير،وهو أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للدلالة على الخطاب الحقيقي أو الانشائي،فعلى الأوّل لا يمكن شموله للغائبين فضلاً عن المعدومين،بل لا يمكن شموله للحاضر في المجلس إذا كان غافلاً عنه فما ظنك بالغائب والمعدوم كما أشرنا إليه آنفاً،وعلى الثاني فلا مانع من شموله للمعدومين والغائبين حيث إنّ مفادها حينئذ إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعٍ من الدواعي،فلا مانع عندئذ من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه بمنزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقية،هذا.
والظاهر أ نّها موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي،فانّ المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب هو إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعٍ من الدواعي.
ومن الواضح أنّ الخطابات بهذا المعنى تشمل المعدومين بعد فرضهم منزلة الموجودين فضلاً عن الغائبين.هذا مضافاً إلى أنّ لازم القول بكون هذه الأدوات مستعملةً في الخطاب الحقيقي في موارد استعمالاتها في الخطابات الشرعية هو اختصاص تلك الخطابات بالحاضرين في مجلس التخاطب وعدم
شمولها للغائبين فضلاً عن المعدومين،وهذا مما نقطع بعدمه،لأنّ اختصاصها بالمدركين لزمان الحضور وإن كان محتملاً في نفسه إلّاأ نّه لا يحتمل اختصاصها بالحاضرين في المجلس جزماً.
وعليه فلا مناص من الالتزام باستعمالها في الخطاب الانشائي ولو كان ذلك بالعناية،فاذن يشمل المعدومين أيضاً بعد تنزيلهم منزلة الموجودين على ما هو لازم كون القضية حقيقيةً،هذا كلّه على تقدير كون الخطابات القرآنية خطاباً من اللّٰه تعالى بلسان رسوله (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) إلى امّته.
وأمّا إذا قلنا بأ نّها نزلت على قلبه (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) قبل قراءته فلا موضوع عندئذ لهذا النزاع،حيث إنّه لم يكن حال نزولها على هذا الفرض من يتوجه إليه الخطاب حقيقةً ليقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب أو عمومها للغائبين بل المعدومين.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1في المقام من التفصيل بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية،بتقريب أنّ الخطاب في القضايا الخارجية يختص بالمشافهين،فانّ عمومه للغائبين فضلاً عن المعدومين يحتاج إلى عناية زائدة وبدونها فلا يمكن الحكم بالعموم،وأمّا في القضايا الحقيقية فالظاهر أ نّه يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين،حيث إنّ توجيه الخطاب إليهم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهم منزلة الموجودين الذي هو المقوّم لكون القضية حقيقيةً،لا يتم فانّ كون القضية حقيقيةً وإن كان يقتضي بنفسه فرض الموضوع فيها موجوداً والحكم على هذا الموضوع المفروض وجوده إلّاأنّ مجرد ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين،ضرورة أنّ صِرف وجود الموضوع
خارجاً لا يكفي في توجيه الخطاب إليه،بل لا بدّ فيه من فرض وجوده في مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب وإلّا لصحّ خطاب الغائب في القضية الخارجية من دون عناية وهو خلاف المفروض كما عرفت.
فالنتيجة:أنّ الصحيح هو ما ذكرناه من أنّ أدوات الخطاب موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي دون الحقيقي،وقد مرّ أ نّه لا مانع من شمول الخطاب الانشائي للمعدومين فضلاً عن الغائبين.
الكلام في ثمرة هذا البحث: قد ذكر له عدّة ثمرات نذكر منها ثمرتين:
إحداهما: أ نّه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فظواهره تكون حجة عليهم بالخصوص،وعلى القول بعدمه فلا تكون حجةً عليهم كذلك.
وأورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1بأ نّها تبتني على مقدمتين:الاُولى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه.الثانية:أن يكون المقصود بالافهام من خطابات القرآن هو خصوص الحاضرين في مجلس التخاطب.
ولكن كلتا المقدمتين خاطئة وغير مطابقة للواقع.أمّا المقدمة الاُولى فلما حققناه في محلّه 2من عدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين بالافهام بل تعم الجميع من المقصودين وغيرهم،وذلك لعدم الفرق في السيرة العقلائية القائمة على العمل بها بين مَن قصد إفهامه من الكلام ومَن لم يقصد وتمام الكلام في محلّه.وأمّا المقدمة الثانية فلأنّ المقصود بالافهام من خطابات
القرآن جميع الناس إلى أن تقوم الساعة من الحاضرين والغائبين والمعدومين، والنكتة في ذلك أنّ القرآن لا يختص بطائفة دون طائفة وبزمان دون زمان،بل هو يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر،ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا 1ولا يمكن القول بأنّ المقصود بالافهام من خطاباته هم الحاضرون في مجلس التخاطب دون غيرهم،حيث إنّه لا يناسب مكانة القرآن وعظم شأنه وأ نّه كتاب إلهٰي نزل لهداية البشر جميعاً،فلا محالة يكون المقصود بالافهام منها جميع البشر،غاية الأمر أنّ من يكون حاضراً في مجلس التخاطب يكون مقصوداً بالافهام من حين صدورها،ومن لم يكن حاضراً أو كان معدوماً فهو مقصود به حينما وصلت إليه الآيات والخطابات.
ثانيتهما: أ نّه على القول بالعموم والشمول يصح التمسك بعمومات الكتاب والسنّة بالاضافة إلى الغائبين والمعدومين كقوله تعالى مثلاً: «إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ» 2فانّه لا مانع من التمسك بعمومه على هذا القول لاثبات وجوب السعي لهما.
وأمّا على القول بالاختصاص وعدم العموم فلا يصحّ التمسك بها،لفرض أنّ وجوب السعي في الآية عندئذ غير متوجه إلينا لنتمسك بعمومه عند الشك في تخصيصه،بل هو خاص بالحاضرين في المجلس فاثباته للمعدومين يحتاج إلى تمامية قاعدة الاشتراك في التكليف هنا،وهذه القاعدة إنّما تثبت الحكم لهم إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف.وأمّا مع الاختلاف فيه فلا مورد لتلك القاعدة،مثلاً الحكم الثابت للمسافر لا يمكن إثباته بهذه القاعدة للحاضر
وبالعكس.نعم،إذا ثبت حكم لشخص خاص بعنوان كونه مسافراً ثبت لجميع من يكون متحداً معه في هذا العنوان ببركة تلك القاعدة.
وأمّا في المقام فهل يمكن التمسك بهذه القاعدة لاثبات الحكم الثابت للحاضرين في ذلك العصر للمعدومين فيه ؟ وجهان الأظهر عدم إمكان التمسك بها،وذلك لعدم إحراز اشتراكهم معهم في الصنف،لاحتمال أنّ لوصف الحضور دخلاً فيه،ومع هذا الاحتمال لا يمكن التمسك بهذه القاعدة.
وعلى الجملة:فلا شبهة في أ نّه لا يمكن اختلاف أهل شريعة واحدة في أحكام تلك الشريعة.نعم،هم مختلفون فيها حسب اختلافهم في الصنف فيثبت لكل صنفٍ منهم حكم خاص لا يثبت للآخر،مثلاً للحائض حكم وللجنب حكم آخر وللمستطيع حكم ثالث وللمسافر حكم رابع وللحاضر حكم خامس وهكذا،ولا يمكن اختلاف أفراد صنفٍ واحد في ذلك الحكم،فاذا ثبت لفرد منه ثبت للباقي.فاذا دلّ دليل على ثبوت حكم لشخصٍ ثبت لغيره من الأفراد المتحدة معه في الصنف،ونظير ذلك كثير في الروايات حيث إنّ رواية لو كانت متكفلة لحكم شخص خاص باعتبار ورودها فيه فالحكم لا يختص به،بل يعمّ غيره مما هو متحد معه في الصنف بقانون الاشتراك في التكليف.
وأمّا إذا لم يحرز الاتحاد فيه فلا يمكن التمسك بهذه القاعدة لتسرية الحكم من مورده إلى غيره مما لم يحرز اتحاده معه فيه،وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّنا لم نحرز اتحاد المعدومين مع الحاضرين في الصنف،لاحتمال دخل وصف الحضور فيه فلا يمكن التمسك بتلك القاعدة.
فالنتيجة:أنّ الثمرة تظهر بين القولين،فعلى القول بشمول الخطابات للمعدومين يجوز لهم التمسك بها،وعلى القول بعدمه فلا يجوز لهم ذلك،هذا.
وقد أورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بما إليك نصه:ولا يذهب عليك أ نّه يمكن إثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقداً له مما كان المشافهون واجدين له باطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به،وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق مع إرادة المقيد منه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان وإن صحّ فيما لا يتطرق إليه ذلك.وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلّاالاتحاد فيما اعتبر قيداً في الأحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام،بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام، وإلّا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين فضلاً عن المعدومين حكم من الأحكام.
ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به شك في شمولها لهم أيضاً،فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك،ومعه كان الحكم يعمّ غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم فتأمل جيداً.
فتلخص أ نّه لا يكاد تظهر الثمرة إلّاعلى القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام،وقد حقق عدم الاختصاص في غير المقام واُشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام 1.
وملخّص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف لا يمكن إلّافيما احرز الاتحاد في الصنف،ومن الطبيعي أ نّه لا يمكن إحرازه فيه إلّا باحراز عدم [ دخل ] ما كان المشافهون في ذلك الزمان واجدين له دون
غيرهم،ومن المعلوم أ نّه لايمكن إحراز ذلك إلّابالتمسك باطلاق الخطاب لاثبات عدم دخله في الحكم،وهو لا يمكن إلّافي الأوصاف المفارقة دون الأوصاف اللازمة للذات،حيث إنّ ما يحتمل دخله فيه مما كان المشافهون واجدين له إن كان من الأوصاف المفارقة وكان دخيلاً في مطلوب المولى واقعاً فعليه بيانه بنصب قرينة دالة على التقييد،وإلّا لأخل بغرضه.وإن كان من الأوصاف اللازمة وكان دخيلاً فيه كذلك لم يلزم عليه بيانه ولا إخلال بالغرض بدونه.
والنكتة في ذلك:هي أنّ ما يحتمل دخله فيه إن كان من تلك الأوصاف لم يمكن التمسك بالعموم والاطلاق،حيث إنّ التمسك به فرع جريان مقدمات الحكمة،ومع الاحتمال المزبور لا تجرى المقدمات إذ على تقدير عدم البيان لا يكون إخلال بالغرض،نظراً إلى عدم انفكاك الوصف المزبور عن الموضوع.
وغير خفي أنّ ما أورده (قدس سره) من الايراد على هذه الثمرة يتم في غير المقام ولا يتم فيه فلنا دعويان:الاُولى تمامية ما أفاده (قدس سره) في غير المقام،وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل دخلها في الحكم الشرعي من العوارض المفارقة كالعلم والعدالة والفسق وما شاكلها.الثانية:عدم تماميته في المقام،وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل [ دخلها ] فيه من العوارض اللازمة للذات كالهاشمية والقرشية وما شاكلهما.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ احتمال دخل مثل هذه الأوصاف في ثبوت حكم لجماعة كانوا واجدين لها مع عدم البيان من قبل المولى على دخله فيه لا يكون مانعاً عن التمسك بالاطلاق،لوضوح أ نّه لو كان دخيلاً فيه واقعاً فعلى المولى بيانه وإلّا لكان مخلاً بغرضه وهو خلف.
والسر في ذلك:هو أنّ الوصف المزبور بما أ نّه من الأوصاف والعوارض المفارقة،يعني أ نّه قد يكون وقد لا يكون،فمجرد أنّ هؤلاء الجماعة واجدين له
حين ثبوت الحكم لهم غير كافٍ لبيان دخله فيه ولتقييد إطلاق الكلام،حيث إنّه ليس بنظر العرف مما يصح أن يعتمد عليه المتكلم في مقام البيان إذا كان دخيلاً في غرضه واقعاً،بل عليه نصب قرينة تدل على ذلك وإلّا لكان إطلاق كلامه في مقام الاثبات محكّماً وكاشفاً عن إطلاقه في مقام الثبوت،يعني أنّ مقتضى إطلاق كلامه هو ثبوت الحكم لهم في كلتا الحالتين،أي حالة وجدان الوصف المزبور وحالة فقدانه.
فالنتيجة:أنّ احتمال دخل مثل هذا الوصف لا يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة والتمسك بالاطلاق.
وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ احتمال دخل مثل تلك الأوصاف في ثبوت الحكم مانع عن جريان مقدمات الحكمة،والسبب فيه:أنّ الحكم إذا ثبت لطائفة كانوا واجدين لوصف لازم لذاتهم كالهاشمية أو نحوها وكان الوصف المزبور دخيلاً فيه واقعاً صحّ عرفاً اعتماد المتكلم عليه في مقام البيان فلا يحتاج إلى بيان زائد.وعليه فاذا احتمل دخله وكان المتكلم في مقام البيان فبطبيعة الحال يحتمل اعتماده في هذا المقام عليه،ومعه كيف يمكن التمسك بالاطلاق.
فالنتيجة:أنّ عدم دخله يحتاج إلى قرينة خارجية دون دخله فيه.وبكلمة اخرى:ليس لهم حالتان:حالة كونهم واجدين للوصف المزبور وحالة كونهم فاقدين له حتى يكون لكلامه إطلاق بالاضافة إلى كلتا الحالتين،فالتقييد يحتاج إلى دليل،بل لهم حالة واحدة وهي حالة كونهم واجدين له فلا إطلاق لكلامه حتى يتمسك به لاثبات الحكم الثابت لهم لغيرهم فالاطلاق يحتاج إلى دليل،وما نحن فيه من هذا القبيل نظراً إلى أن ما يحتمل دخله في الحكم-وهو وصف الحضور-من الأوصاف اللازمة،ومع احتمال دخله فيه لا يمكن التمسك باطلاق الخطابات لاثبات الحكم لغير الحاضرين بعين الملاك المتقدم.
فالنتيجة: أ نّه لا بأس بهذه الثمرة.
نتائج البحوث المتقدمة عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وتبعه فيه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الفرق بين الفحص في المقام والفحص في موارد الاُصول العملية،فانّ الفحص هنا عن وجود المزاحم والمانع مع ثبوت المقتضي له، وأمّا الفحص هناك إنّما هو عن ثبوت أصل المقتضي لها،لا يمكن المساعدة عليه،لما عرفت من أ نّه لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه والفحص هناك.
الثانية: أنّ ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص هو الصحيح وإن كان ما استدلوا عليه من الوجوه مخدوشة بتمامها.
الثالثة: قد يستدل على وجوب الفحص بالعلم الاجمالي بوجود مخصصات ومقيدات،وهذا العلم الاجمالي أوجب لزوم الفحص عنها،حيث إنّ أصالة العموم لا تجري ما لم ينحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم.وناقش في انحلال هذا العلم الاجمالي شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وقد تقدم بشكل موسّع أنّ العلم الاجمالي ينحل،وما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من عدم الانحلال لا يرجع إلى معنىً محصّل،وبالتالي ذكرنا أنّ العلم الاجمالي لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوب الفحص.
الرابعة: أنّ الدليل على وجوب الفحص بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الاُصول العملية،وقد ذكرنا هناك أنّ الدليل عليه أمران:أحدهما حكم العقل بذلك.وثانيهما:الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص.
الخامسة: أنّ النزاع المعقول في شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين والغائبين إنّما هو في وضع أدوات الخطاب وأ نّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين،أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين فحسب.ثمّ إنّه لا يمكن أن يكون النزاع في توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين حقيقةً فانّه غير معقول،نعم توجيه الخطاب إليهم انشاءً أو بداع آخر كاظهار العجز أو التحسر أو نحو ذلك أمر معقول.
السادسة: ذكرنا للمسألة ثمرتين:
الاُولى:أ نّه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فالظواهر حجة بالخصوص،وعلى القول بعدم عمومه فلا تكون حجةً عليهم كذلك.
وأورد على هذه الثمرة صاحب الكفاية (قدس سره) بأ نّها تبتني على مقدمتين، وكلتاهما خاطئة.
الثانية:أ نّه على القول بعموم الخطاب يجوز التمسك بعمومات الكتاب والسنّة بالاضافة إلى الغائبين والمعدومين،وعلى القول بعدم عمومه لا يجوز التمسك بها.وهذه الثمرة لا بأس بها،ولا يرد عليها ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره).
إذا عقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده،فبطبيعة الحال يدور الأمر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير بالالتزام بالاستخدام فيه،ومثّلوا لذلك بقوله تعالى: «وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ» إلى قوله تعالى: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» 1فانّ كلمة المطلّقات تعمّ الرجعيات وغيرها،والضمير في قوله تعالى: «وَ بُعُولَتُهُنَّ» يرجع إلى خصوص الرجعيات، حيث إنّ حقّ الرجوع للزوج إنّما ثبت فيها دون غيرها من المطلّقات،فاذن يقع الكلام في أنّ المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك ؟ وجوه بل أقوال.
اختار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 2القول الأخير،وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه:لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى أصالة العموم ولا إلى أصالة عدم الاستخدام.أمّا أصالة العموم فلأنّ تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه،حيث إنّ ذلك داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف،ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به إلّاعلى القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً وهو غير ثابت جزماً.وأمّا أصالة عدم الاستخدام فلأنّ الأصل اللفظي إنّما يكون متبعاً ببناء العقلاء فيما إذا
شك في مراد المتكلم من اللفظ،وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته وأ نّها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا أصل هناك لتعيّنها.
وعلى الجملة:فالاُصول اللفظية بشتى أشكالها إنّما تكون حجةً في تعيين المراد من اللفظ فحسب،دون كيفية إرادته من عموم أو خصوص وحقيقة أو مجاز،لفرض عدم بناء من العقلاء على العمل بها لتعيينها وإنّما بناؤهم على العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه،وبما أنّ المراد من الضمير فيما نحن فيه معلوم والشك إنّما هو في كيفية استعماله وأ نّه على نحو الحقيقة أو المجاز،فلا يمكن التمسك بأصالة عدم الاستخدام لاثبات كيفية استعماله،لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد على الفرض،والدليل الآخر غير موجود.
فالنتيجة لحدّ الآن:هي عدم جريان كلا الأصلين في المقام،لكن كلّ بملاك، فانّ أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية،وأصالة عدم الاستخدام بملاك أنّ الشك فيها ليس في المراد وإنّما هو في كيفية استعماله،فاذن لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه الناحية،هذا.
ولكن قد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 1القول الأوّل وهو جريان أصالة العموم دون أصالة عدم الاستخدام،وقد أفاد في وجه ذلك وجوهاً:
الأوّل: أنّ الاستخدام في الضمير إنّما يلزم فيما إذا اريد من المطلّقات في الآية الكريمة معناها العام ومن الضمير الراجع إليها خصوص الرجعيات منها،ومن الواضح أنّ هذا يقوم على أساس أن يكون العام بعد التخصيص مجازاً،إذ على هذا يكون للعام معنيان:أحدهما معنىً حقيقي وهو جميع ما يصلح أن ينطبق عليه مدخول أداة العموم.وثانيهما معنىً مجازي وهو الباقي من أفراده بعد
تخصيصه،وعليه فبطبيعة الحال إذا اريد بالعام معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام.وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ العام لا يكون مجازاً بعد التخصيص فلا يكون له إلّامعنىً واحد حقيقي وليس له معنىً آخر ليراد من الضمير الراجع إليه معنىً مغاير لما اريد من نفسه كي يلزم الاستخدام.
ويرد على هذا الوجه:أنّ لزوم الاستخدام في طرف الضمير لا يتوقف على كون العام مجازاً بعد التخصيص،ضرورة أ نّه لو اريد من العام جميع أفراده ومن الضمير الراجع إليه بعضها فهو استخدام وإن لم يستلزم كون العام مجازاً، حيث إنّه خلاف الظاهر،فانّ الظاهر اتحاد المراد من الضمير وما يرجع إليه، وملاك الاستخدام هو أن يكون على خلاف هذا الظهور ولأجل ذلك يحتاج إلى قرينة،وإذا لم تكن فالأصل يقتضي عدمه،فالمراد من أصالة عدم الاستخدام هو هذا الظهور.
الثاني: أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها ولو مع قطع النظر عن معارضتها بأصالة العموم،والسبب في ذلك ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة 1من أنّ أصالة الظهور إنّما تكون حجةً إذا كان الشك في مراد المتكلم، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته من أ نّه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري.وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ أصالة عدم الاستخدام إنّما تجري إذا كان الشك فيما اريد بالضمير،وأمّا إذا كان المراد به معلوماً والشك في الاستخدام وعدمه إنّما هو من ناحية الشك فيما اريد بالمرجع فلا مجال لجريانها أصلاً.
ويرد على هذا الوجه:أنّ المراد بالضمير في المقام وإن كان معلوماً،إلّاأنّ من يدعي جريان أصالة عدم الاستخدام لا يدّعي ظهور نفس الضمير في إرادة شيء ليرد عليه ما أفاده (قدس سره)،بل إنّما هو يدعي ظهور الكلام بسياقه في اتحاد المراد بالضمير وما يرجع إليه،يعني ظهور الضمير في رجوعه إلى عين ما ذكر أوّلاً،لا إلى غير ما اريد منه،وحيث إنّ المراد بالضمير في مورد الكلام معلوم،فبطبيعة الحال يدور الأمر بين رفع اليد عن الظهور السياقي الذي مردّه إلى عدم إرادة العموم من العام ورفع اليد عن أصالة العموم التي تقتضي الالتزام بالاستخدام.
ولكنّ الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم،بل الأمر كذلك بنظرهم حتى فيما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن ظهور اللفظ في كون المعنى المراد به المعنى الحقيقي،يعني يلزم في مثل ذلك أيضاً رفع اليد عن ظهور اللفظ في إرادة المعنى الحقيقي وحمله على إرادة المعنى المجازي،مثلاً في مثل قولنا:رأيت أسداً وضربته يتعيّن حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع إذا علم أ نّه المراد بالضمير الراجع إليه.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ أصالة عدم الاستخدام تتقدم بنظر العرف على أصالة العموم فيما إذا دار الأمر بينهما.
الثالث: أ نّنا لو سلّمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد،إلّا أ نّها إنّما تجري فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع،كما إذا قال المتكلم:
رأيت أسداً وضربته وعلمنا أنّ مراده بالضمير هو الرجل الشجاع واحتملنا أن يكون المراد بلفظ الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية هو الرجل الشجاع
أيضاً لئلّا يلزم الاستخدام،وأن يكون المراد به الحيوان المفترس ليلزم ذلك، ففي مثل ذلك نسلّم جريان أصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم فيثبت بها أنّ المراد بلفظ الأسد في المثال هو الرجل الشجاع دون الحيوان المفترس.
وأمّا فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير هو خصوص الرجعيات، بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه يعني كلمة المطلّقات في الآية الكريمة،فالمراد بالضمير فيها إنّما هو مطلق المطلّقات،وإرادة خصوص الرجعيات منها إنّما هي بدال آخر-وهو عقد الحمل في الآية-فانّه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته.
فالنتيجة:أنّ ما استعمل فيه الضمير هو بعينه ما استعمل فيه المرجع، وعليه فأين الاستخدام في الكلام لتجري أصالة عدمه فتعارض بها أصالة العموم،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أ نّه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم أيضاً من جهة اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً،وذلك لأنّ الملاك في مسألة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية إنّما هو اشتمال الكلام على لفظ مجمل من حيث المعنى بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده كما في مثل قولنا:أكرم العلماء إلّاالفسّاق منهم إذا افترضنا أنّ لفظ الفاسق يدور أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة،فلا محالة يسري إجماله إلى العام.
ولكن هذا خارج عن ما نحن فيه،فانّ ما نحن فيه هو ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة حيث إنّ الجملة المشتملة على
العام متكفلة لحكم-وهو لزوم التربص والعدة-والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لحكمٍ آخر مغاير له-وهو أحقية الزوج بالرجوع إلى الزوجة في مدة التربص والعدة-والحكم الأوّل ثابت لجميع أفراد العام،والحكم الثاني ثابت لبعض أفراده،ومن الواضح أنّ ثبوت الحكم الثاني لبعض أفراده لا يكون قرينةً على اختصاص الحكم الأوّل به أيضاً،ضرورة أ نّه لا صلة له به من هذه الناحية أصلاً،كيف حيث قد عرفت أ نّه حكم مغاير له.
وإن شئت قلت:إنّه لا مانع من أن يكون العام بجميع أفراده محكوماً بحكم وببعضها محكوماً بحكم آخر مغاير للأوّل،ولا مقتضي لكون الثاني قرينة على تخصيص الأوّل بوجه،وهذا بخلاف ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكم واحد كالمثال المتقدم حيث إنّ إجمال المخصص فيه يسري إلى العام لا محالة.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة:وهي أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.
ويرد على هذا الوجه:أنّ ما أفاده (قدس سره) من كون الضمير في الآية الكريمة مستعملاً في العموم وإن كان في غاية الصحة والمتانة،حيث إنّ قيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض أقسام المطلّقات في أثناء العدة لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص،أعني به خصوص الرجعيات من أقسام المطلّقات،وذلك لما حققناه في ضمن البحوث السالفة 1من أنّ التخصيص لا يستلزم كون العام مجازاً،إلّاأنّ ما أفاده (قدس سره) من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل المذكور في الآية الكريمة وهو قوله تعالى: «أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» حيث إنّه يدل على كون الزوج أحق
برد زوجته،خاطئ جداً.
والسبب فيه:أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الحكم المذكور فيها عام لجميع المطلّقات بشتى ألوانها وأشكالها من دون اختصاصه بقسم خاص منها،فليس فيها ما يدل على الاختصاص،فالاختصاص إنّما ثبت بدليل خارجي ولأجل ذلك يكون حاله حال المخصص المنفصل،يعني أ نّه لا يستلزم كون اللفظ مستعملاً في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.
وبكلمة اخرى:أنّ الآية الكريمة قد تعرّضت لثبوت حكمين للمطلّقات:
أحدهما لزوم التربص والعدة لهنّ.وثانيهما أحقية الزوج بردّ زوجته،فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بعموم كلا الحكمين لجميع أقسام المطلّقات،حيث ليس فيها ما يدل على الاختصاص ببعض أقسامهنّ،وإنّما ثبت ذلك بدليل خارجي،فقد دلّ دليل من الخارج على أنّ الحكم الثاني خاص بالرجعيات فحسب دون غيرها من أقسام المطلّقات.
كما أنّ الدليل الخارجي قد دلّ على أنّ الحكم الأوّل خاص بغير اليائسة ومن لم يدخل بها،فاذن بطبيعة الحال كما أنّ لفظ المطلّقات في الآية استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو بدليل خارجي وهو لايوجب استعماله في الخاص، كذلك الحال في الضمير فانّه استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب استعماله في الخاص.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وإن كان تاماً كما عرفت تفصيله بشكل موسّع في ضمن كلامه (قدس سره) إلّاأنّ هنا نكتة اخرى وهي تمنع عن التمسك بأصالة العموم،وتلك النكتة هي التي أشرنا إليها سابقاً من أنّ المرتكز العرفي في أمثال
المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتحاد المراد من الضمير مع ما يرجع إليه ورفع اليد عن ظهور العام في العموم،يعني أنّ ظهور الكلام في الاتحاد يكون قرينةً عرفيةً لرفع اليد عن أصالة العموم،إذ من الواضح أنّ أصالة العموم إنّما تكون متبعةً فيما لم تقم قرينة على خلافها،ومع قيامها لا مجال لها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين:
الاُولى: أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني،يعني الأخذ بأصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم،لما عرفت من النكتة فيه.وعليه ففي كل مورد إذا فرض دوران الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم، كان اللازم هو رفع اليد عن أصالة العموم وإبقاء ظهور الكلام في عدم الاستخدام.
الثانية: أنّ الآية الكريمة أو ما شاكلها خارجة عن موضوع المسألة،حيث إنّ موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العام في خصوص بعض أقسامه فدار الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم، وقد عرفت أنّ الضمير الراجع إلى العام في الآية المباركة غير مستعمل في خصوص بعض اقسامه،بل هو مستعمل في العام،والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب كونه مستعملاً في خصوص الخاص.
ثمّ إنّه هل يكون لهذه المسألة صغرىً في الفقه أم لا ؟ الظاهر عدمها،حيث إنّه لم يوجد في القضايا المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية مورد يدور الأمر فيه بين رفع اليد عن أصالة العموم ورفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام،وعلى هذا الضوء فلا تترتب على البحث في هذه المسألة ثمرة في الفقه.
هل يقدّم المفهوم على العموم أو بالعكس أو لا هذا ولا ذاك ؟ فيه وجوه.
قيل: بتقدم العموم على المفهوم بدعوى أنّ دلالة العام على العموم ذاتية أصلية ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية،ومن الطبيعي أنّ الدلالة الأصلية تتقدم على الدلالة التبعية في مقام المعارضة.
ويرد عليه: أنّ دلالة اللفظ على المفهوم لا تخلو من أن تكون مستندةً إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة فلا ثالث لهما.
وبكلمة اخرى:قد تقدم في مبحث المفاهيم 1أنّ دلالة القضية على المفهوم إنّما هي من ناحية دلالتها على خصوصية مستتبعة له،ومن المعلوم أنّ دلالتها على تلك الخصوصية إمّا من جهة الوضع أو من جهة مقدمات الحكمة، والمفروض أنّ دلالة العام على العموم أيضاً لا تخلو من أحد هذين الأمرين، يعني الوضع أو مقدمات الحكمة،فاذن ما هو معنى أنّ دلالة العام على العموم أصلية ودلالة القضية على المفهوم تبعية.فالنتيجة:أ نّه لم يظهر لنا معنىً محصّل لذلك.
وقيل: بتقدم المفهوم على العموم ولا سيما إذا كان من المفهوم الموافق،ببيان أنّ دلالة القضية على المفهوم عقلية ودلالة العام على العموم لفظية،فلا يمكن
رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم.وبتعبير واضح أنّ المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي كانت في المنطوق،ومن الطبيعي أ نّه لا يعقل رفع اليد عنه من دون أن يرفع اليد عن تلك الخصوصية،ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن الملزوم،ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب،لفرض أ نّها ليست طرفاً للمعارضة مع العام،وما هو طرف لها-وهو المفهوم-فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول.أو فقل:إنّ رفع اليد عن المفهوم بدون التصرف في المنطوق مع أنّ المفروض لزوم المفهوم له أمر غير ممكن،والتصرف في المنطوق ورفع اليد عنه مع أ نّه ليس طرفاً للمعارضة بلا مقتضٍ وموجب، وعليه فلا محالة يتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير المفهوم.
ويرد عليه: أنّ التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام،والسبب فيه:أنّ المفهوم كما عرفت لازم عقلي للخصوصية الموجودة في طرف المنطوق،ومن الطبيعي أنّ انتفاء الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم،فلا يعقل انفكاكٌ بينهما لا ثبوتاً ولا نفياً،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ القضية التي هي ذات مفهوم فقد دلت على تلك الخصوصية بالمطابقة وعلى لازمها بالالتزام،غاية الأمر إن كان اللازم موافقاً للقضية في الايجاب والسلب سمي ذلك بالمفهوم الموافق،وإن كان مخالفاً لها في ذلك سمي بالمفهوم المخالف.
ومن ناحية ثالثة:أنّ الدليل المعارض قد يكون معارضاً للملزوم ويسمى ذلك بالمعارض للمنطوق،وقد يكون معارضاً للازم ويسمى ذلك بالمعارض للمفهوم،ولكن على كلا التقديرين يكون معارضاً لكليهما معاً،ضرورة أنّ ما يكون معارضاً للملزوم ويدل على نفيه فلا محالة يدل على نفي لازمه أيضاً،
وكذا بالعكس،أي ما يكون معارضاً للازم ويدل على نفيه،فبطبيعة الحال يدل على نفي ملزومه أيضاً،لما أشرنا إليه آنفاً من أنّ نفي الملزوم كما يستلزم نفي اللازم،كذلك نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم،إلّاأن يكون اللازم أعم من الملزوم أو أخص منه،فعندئذ لا ملازمة بينهما.وأمّا إذا كان اللازم لازماً مساوياً له كما هو الحال في المفهوم حيث إنّه لازم مساوٍ للمنطوق فلا يعقل رفع اليد عنه بدون رفع اليد عن المنطوق،لأنّ مردّه إلى انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث:هي أنّ العام المعارض للمفهوم بعمومه-كما هو مفروض مسألتنا هذه-فهو في الحقيقة معارض للمنطوق ويدل على نفيه،نظراً إلى ما عرفت من أنّ التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه بدون التصرف في المنطوق ورفع اليد عنه غير ممكن حتى يعقل كونه طرفاً للمعارضة مستقلاً،فاذا افترضنا أنّ العام بعمومه يكون منافياً للمفهوم فبطبيعة الحال يكون منافياً للمنطوق أيضاً ولا محالة يمنع عن دلالة القضية على الخصوصية المستتبعة له (المفهوم) وإلّا فلا يعقل كونه منافياً له ومانعاً عن دلالة القضية عليه بدون منعه عن دلالتها على تلك الخصوصية،لاستلزام ذلك انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.فاذن المعارضة في الحقيقة لا تعقل إلّا بينه وبين المنطوق كما هو الحال في جميع موارد يكون الدليل معارضاً للمفهوم، هذا.
وقد فصّل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام وإليك نصّه:
وتحقيق المقام أ نّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينةً للتصرف في الآخر،ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم،فالدلالة على كل منهما إن كانت بالاطلاق
بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم،لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة،كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك،فلا بدّ من العمل بالاُصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم،إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر،وإلّا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر.ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال،وأ نّه لا بدّ أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر،وإلّا فهو المعوّل والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل 1.
أقول: ما أفاده (قدس سره) يحتوي على نقطتين:
الاُولى: أن يكون العام وما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد،فعندئذ لا يخلوان من أن تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع،أو إحداهما بالوضع والاُخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
فعلى الأوّل والثاني لا ينعقد الظهور لشيء منهما،أمّا على الأوّل فلأنّ انعقاد ظهور كل منهما في مدلوله يرتكز على تمامية مقدمات الحكمة فيه،والمفروض أ نّها غير تامة في المقام،حيث إنّ كلاً منهما مانع عن جريانها في الآخر.وأمّا على الثاني فلفرض أنّ كلاً منهما يصلح أن يكون قرينةً على الآخر،وعليه فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،ومعه لا محالة لا ينعقد الظهور لشيء منهما.إذن يكون المرجع في مورد المعارضة هو الاُصول العملية.
وعلى الثالث فما كانت دلالته بالوضع يتقدم على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدمات الحكمة،حيث إنّ ظهوره في مدلوله لا يتوقف على شيء،دون ذاك فانّه يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية في المقام،لفرض أنّ ظهوره في مدلوله مانع عن جريانها.
الثانية: أن يكونا في كلامين منفصلين،وعندئذ فتارةً تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة،واُخرى تكون بالوضع،وثالثةً تكون إحداهما بالوضع والاُخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
فعلى الفرض الأوّل والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلّاإذا كان ظهور أحدهما أقوى من الآخر على نحو يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه،فحينئذ يتقدم عليه كما إذا كان أحدهما خاصاً والآخر عاماً.
وعلى الفرض الثالث يتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما هو ظاهر،هذا.
والصحيح في المقام هو التفصيل بشكل آخر غير هذا الذي أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) وسوف يظهر ما فيه من المناقشة والاشكال في ضمن بيان ما اخترناه من التفصيل،بيان ذلك:أ نّك عرفت أنّ التعارض في الحقيقة إنّما هو بين منطوق القضية وعموم العام لا بينه وبين مفهومها فحسب كما هو ظاهر، وعليه فلا بدّ من ملاحظة النسبة بينهما،ومن الطبيعي أنّ النسبة قد تكون عموماً من وجه،وقد تكون عموماً مطلقاً.أمّا على الأوّل فقد ذكرنا في تعارض الدليلين بالعموم من وجه أ نّه إذا كان أحدهما ناظراً إلى موضوع الآخر ورافعاً له دون العكس فلا إشكال في تقديمه عليه من دون ملاحظة النسبة بينهما،لفرض أنّ ما كان ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر حاكم عليه.
ومن الواضح أ نّه لا تلاحظ النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم كما لا تلاحظ بقية المرجحات،لفرض أ نّه لا تعارض بينهما في الحقيقة،كما هو الحال في تقديم مفهوم آية النبأ على عموم العلة فيها،حيث إنّ الآية الكريمة على تقدير دلالتها على المفهوم-وهو حجية خبر العادل-تكون حاكمةً على عموم العلة ونحوها، فانّ المفهوم يرفع موضوع العام فلا يكون العمل بخبر العادل بعد ذلك من إصابة القوم بجهالة ومن العمل بغير العلم،حيث إنّه علم شرعاً بمقتضى دلالة الآية، ومعه كيف يكون عموم العلة مانعاً عن ظهورها في المفهوم،ضرورة أنّ العلة بعمومها لا تنظر إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج لا وجوداً ولا عدماً،يعني أ نّها لا تقتضي وجودها فيه ولا تقتضي عدمها،حيث إنّ شأنها شأن بقية القضايا الحقيقية فلا تدل إلّاعلى ثبوت الحكم لأفراد موضوعها على تقدير ثبوتها في الخارج.
ومن هنا لا يمكن التمسك بعمومها في مورد إلّابعد إحراز أ نّه من أفرادها ومصاديقها كما هو الحال في غيرها من العمومات،فاذا كان هذا حال عموم العلة أو ما شاكلها فكيف يكون مانعاً عن انعقاد ظهور الآية في المفهوم، لوضوح أنّ ظهورها فيه يمنع عن كون مورد المفهوم فرداً للعام،وقد عرفت أ نّه لا نظر لها إلى كون هذا المورد فرداً لها أو لا،فاذن كيف يعقل أن يكون مزاحماً لما يدل على كون هذا المورد ليس فرداً لها.أو فقل:إنّ جواز التمسك بعموم العام في مورد لاثبات حكمه له يتوقف على كون ذلك المورد في نفسه فرداً للعام،والمفروض أنّ كونه فرداً له يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم وإلّا لم يكن فرداً له،ومعه كيف يعقل أن يكون عموم العام مانعاً عن دلالتها عليه وإلّا لزم الدور،نظراً إلى أنّ عموم العام يتوقف على كون المورد في نفسه فرداً للعام وهو يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم،فلو كان
ذلك متوقفاً على عموم العام لزم الدور لا محالة.
ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين كون العام متصلاً بما له المفهوم في الكلام وكونه منفصلاً عنه،فانّه على كلا التقديرين يتقدم المفهوم على العام،حيث إنّ النكتة التي ذكرناها لتقديمه عليه لا يفرق فيها بين الصورتين.
وأمّا إذا لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر،فعندئذ إن كان تقديم أحدهما على الآخر موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوعه دون العكس تعيّن العكس ويكون ذلك من أحد المرجّحات عند العرف،ولنأخذ لذلك بمثالين:
أحدهما: أنّ ما دلّ على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة كصحيحة ابن بزيع 1معارض بما دلّ على انفعال الماء القليل كمفهوم قوله (عليه السلام):
«إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» 2بيان ذلك:أنّ الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء البئر تارةً بملاحظة التعليل الوارد فيها وهو قوله (عليه السلام):
«لأنّ له مادة»واُخرى:بملاحظة صدرها بدون حاجة إلى ضم التعليل الوارد فيها وهو قوله (عليه السلام):«ماء البئر واسع لا يفسده شيء».
أمّا إذا كان الاستدلال فيها بلحاظ التعليل فهو خارج عن مورد كلامنا هنا،حيث إنّ التعليل يكون أخص مطلقاً من المفهوم،لأنّ المفهوم يدل بالالتزام على انحصار ملاك الاعتصام ببلوغ الماء حدّ الكر،وينفي وجوده عن غيره،والتعليل نص في أنّ المادة ملاك للاعتصام وهو صريح في النظر إلى الماء القليل،ضرورة أ نّه لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليل في الصحيحة مسوقاً ابتداءً لبيان اعتصام ماء البئر،وأن يكون مسوقاً كذلك لبيان ارتفاع النجاسة عنه بعد زوال التغير،حيث إنّ المتفاهم العرفي بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة، لا أنّ مطهريتها له تعبد من الشارع من دون كونها سبباً لاعتصامه.
ودعوى أنّ مطهرية المادة لماء البئر أو نحوه لا تختص بالقليل بل تعم الكثير أيضاً،فلو كانت المطهرية من آثار سببيتها للاعتصام لاختصت بالقليل باعتبار اختصاص سببيتها به حيث لا معنى لكونها سبباً لاعتصام الكثير خاطئة جداً فانّ الاختصاص ليس من ناحية قصور في المادة وأ نّها لا تصلح أن تكون سبباً لاعتصام الكثير،بل من ناحية عدم قابلية المحل حيث إنّ المعتصم في نفسه غير قابل للاعتصام بسبب خارجي،وبما أنّ الكثير معتصم في نفسه فيستحيل أن يقبل الاعتصام ثانياً بسبب خارجي كالمادة.واحتمال أنّ عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة إنّما هو من ناحية اعتصامه في نفسه كما هو مقتضى صدر الصحيحة لا من ناحية وجود المادة فيه مدفوع بأنّ هذا الاحتمال خلاف الارتكاز،حيث إنّ العرف لا يرى بالمناسبات الارتكازية خصوصيةً في ماء البئر بها يمتاز عن غيره مع قطع النظر عن وجود المادة فيه،فامتيازه عن غيره إنّما هو بوجودها،ومن هنا قلنا إنّ المتفاهم العرفي من الصحيحة أنّ سبب اعتصامه إنّما هو المادة.
وعلى الجملة:أنّ احتمال دخل خصوصية عنوان البئر في اعتصامه في نفسه غير محتمل جزماً،ضرورة أنّ العرف لا يرى فرقاً بين الماء الموجود في باطن الأرض كالبئر والموجود في سطحها مع غضّ النظر عن المادة.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أنّ التعليل في الصحيحة وإن فرضنا أ نّه
مسوق ابتداءً لبيان ارتفاع النجاسة عن ماء البئر بعد زوال التغير،إلّاأنّ العرف يرى بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لطهارته وارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه،ولازم ذلك أنّ التعليل فيها مطلقاً بحسب مقام اللب والواقع راجع إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو محط البحث والنظر،وإن كان بحسب ظاهر القضية راجعاً إلى ارتفاع النجاسة عنه، وعليه فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ التعليل راجع إلى اعتصامه أو إلى ارتفاع النجاسة عنه.
ومن ضوء ما بيّناه من النكتة يظهر خطأ ما قيل من أنّ التعليل إذا افترضنا أ نّه راجع إلى بيان ارتفاع النجاسة دون الاعتصام قابل للتقييد بالكثير،نظراً إلى أ نّه باطلاقه حينئذ يشمل ما إذا كان ماء البئر قليلاً،وبنكتة أنّ الرفع يستلزم أولوية الدفع بالمناسبة الارتكازية العرفية يدل على اعتصامه أيضاً.أو فقل:إنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه يستلزم سببيّتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة بالأولوية،باعتبار أنّ الدفع أهون من الرفع عرفاً.وعلى هذا فلا محالة يعارض إطلاقه مع إطلاق ما يدل على انفعال الماء القليل بالملاقاة، فانّ مقتضى إطلاق التعليل بلحاظ النكتة المزبورة أنّ الماء القليل إذا كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة،فيكون معارضاً لما دلّ على انفعاله ولا يكون أخص منه،فعندئذ يمكن تقييد إطلاق التعليل بخصوص الكثير،يعني أنّ مطهرية المادة تختص بما إذا كان الماء في نفسه كثيراً.
والسبب في خطأ ذلك:أنّ هذا التقييد مضافاً إلى أ نّه خلاف الارتكاز جزماً،حيث إنّ المرتكز عرفاً بمناسبة الحكم والموضوع أ نّه لا فرق في مطهرية المادة بين كون الماء كثيراً في نفسه وكونه قليلاً ولا يرون للكثرة أيّة دخل في المطهرية،أو فقل:إنّ العرف بمقتضى المناسبات الارتكازية يرون الملازمة في
مطهرية المادة بين كون الماء المطهر-بالفتح-كثيراً في نفسه وكونه قليلاً فلا يمكن التفكيك بينهما في نظرهم،أنّ ذلك التقييد إنّما يمكن فيما إذا لم يكن ارتفاع النجاسة عنه بالمادة من آثار سببيتها لاعتصامه،وأمّا إذا كان من آثارها كما استظهرناه بمقتضى الفهم العرفي فلا يمكن هذا التقييد،لما عرفت من أنّ سببيّتها للاعتصام تختص بخصوص القليل،حيث لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة فيكون أخص مطلقاً من دليل انفعال القليل.
وبكلمة اخرى:أنّ للمادة أثرين:الأوّل كونها سبباً للاعتصام.الثاني:كونها سبباً لارتفاع النجاسة،ودليل انفعال الماء القليل إنّما يكون معارضاً للتعليل باعتبار أثرها الأوّل دون أثرها الثاني كما هو ظاهر،وقد عرفت أ نّه بهذا الاعتبار-أي باعتبار أثرها الأوّل-أخص منه مطلقاً فلا محالة يخصصه بغير مورده.
وأمّا إن كان الاستدلال فيها بلحاظ صدر الصحيحة مع قطع النظر عن التعليل الوارد في ذيلها،نظراً إلى أ نّه لا مانع من الاستدلال به على طهارة ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة ولو كان قليلاً،فهو حينئذ لا محالة يكون معارضاً بالعموم من وجه مع ما دلّ على انفعال الماء القليل،سواء أكان راكداً أو بئراً، ويتعين عندئذ تقديم إطلاق صدر الصحيحة على إطلاق دليل الانفعال في مورد الالتقاء والاجتماع،بنكتة أ نّنا إذا قدّمنا الصدر فلا يلزم منه إلغاء عنوان الماء القليل عن الموضوعية للانفعال رأساً،بل يلزم منه تضييق دائرة دليل الانفعال وتقييده بغير ماء البئر،وهذا لا مانع منه.
وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا إطلاق دليل انفعال الماء القليل على صدر الصحيحة،فهو يستلزم إلغاء عنوان البئر عن الموضوعية للاعتصام رأساً،حيث لا يكون عندئذ فرق بين ماء البئر وغيره من المياه أصلاً،فانّ اعتصام الجميع
إنّما هو بالكثرة وببلوغه حدّ الكر،فاذن يصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً محضاً،وحيث إنّه لا يمكن بمقتضى الارتكاز العرفي لاستلزامه حمل كلام الحكيم على اللغو،فلا محالة يكون قرينةً على تقديم الصحيحة على دليل الانفعال.
وثانيهما: ما دلّ على طهارة بول الطير وخرئه مطلقاً ولو كان غير مأكول اللحم كقوله (عليه السلام) في معتبرة أبي بصير«كل شيء يطيرفلا بأس ببوله وخرئه» 1معارض بما دلّ على نجاسة بول غير المأكول مطلقاً ولو كان طيراً، ومورد التعارض والالتقاء بينهما هو البول من الطير غير المأكول،ففي مثل ذلك لا بدّ من تقديم دليل طهارة بول الطير وخرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه،حيث إنّ العكس يؤدي إلى إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع دليل الطهارة،نظراً إلى أنّ الحكم بتقيده حينئذ [ يكون ] بما إذا كان الطير محلل الأكل،ومن الواضح أنّ مرد ذلك إلى إلغاء عنوان الطير رأساً وجعل الموضوع للطهارة عنوان آخر-و هو عنوانا ما يؤكل لحمه-وهو قد يكون طيراً وقد يكون غيره.
وهذا بخلاف ما لو قيّد دليل نجاسة بول غير المأكول بما إذا لم يكن طيراً،إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن إطلاق موضوعيته للنجاسة،ومن الطبيعي أ نّه كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق موضوعية عنوانٍ للحكم ورفع اليد عن أصل موضوعيته له رأساً يتعين الأوّل بنظر العرف،وما نحن فيه كذلك فانّ تقديم دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه على دليل طهارة بول الطير يستلزم إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع الطهارة رأساً،وأمّا العكس فلا يستلزم
إلّا تقييد إطلاق موضوعية عنوان غير المأكول للنجاسة،وهذا أخف مؤونة من الأوّل بمقتضى فهم العرف وارتكازهم.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ المفهوم إن كان حاكماً على المنطوق فلا شبهة في تقديمه عليه وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه،وكذا لا شبهة في تقديمه عليه إذا كان تقديم المنطوق عليه موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم فيه رأساً دون العكس.وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض إن كانت،وإلّا فالحكم هو التساقط على تفصيل يأتي في مبحث التعادل والترجيح.
وأمّا لو كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً،فلا شبهة في تقديم الخاص على العام،حيث إنّه يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه،ومن المعلوم أنّ ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذيها وإن افترض أنّ ظهورها بالاطلاق ومقدّمات الحكمة وظهور ذاك بالوضع،كما إذا افترضنا ورود دليل يدل بالوضع على أنّ كل ماء طاهر لا ينفعل بالملاقاة إلّاإذا تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه،فانّه مع ذلك لا يقاوم مفهوم روايات الكر على الرغم من أنّ دلالته على انفعال الماء القليل بالملاقاة بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ حال التعارض بين المفهوم والمنطوق بعينه حاله بين المنطوقين من دون تفاوت في البين أصلاً.
إذا تعقب الاستثناء جملاً متعددة فهل الظاهر هو رجوعه إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في شيء منهما ؟ فيه وجوه بل أقوال.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بقوله:والظاهر أ نّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال،ضرورة أنّ رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة،وكذا في صحة رجوعه إلى الكل،وإن كان المتراءى من صاحب المعالم (قدس سره) حيث مهّد مقدمةً لصحة رجوعه إليه أ نّه محل الاشكال والتأمل،وذلك ضرورة أنّ تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى،كان الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً،وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه فيما كان واحداً كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال.وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوماً،وبذلك يظهر أ نّه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة وإن كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير.نعم،غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم لاكتنافه بما لايكون معه ظاهراً فيه،فلا بدّ في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الاُصول،إلّاأن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعياً،لا ما إذا كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة فانّه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع
فتأمل 1.
ما أفاده (قدس سره) يحتوي على عدة نقاط:
الاُولى: أ نّه لا إشكال في صحة رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة على كل حال،حيث إنّ رجوعه إلى ما عداها لا يمكن بلا قرينة.وكذا لا إشكال في صحة رجوعه إلى الجميع.
الثانية: أنّ صحة رجوعه إلى الجميع لا تتوقف على كون الموضوع له في الحروف عاماً،بل يصح رجوعه إليه ولو كان الموضوع له فيها خاصاً،والسر فيه:أنّ تعدد المستثنى منه لا يوجب تفاوتاً في ناحية الأداة،فان تعدده إنّما هو بحسب الخارج لا في مقام اللحاظ والاستعمال،فانّه في هذا المقام واحد سواء أكان مطابقه في الخارج أيضاً واحداً أم كان متعدداً،فتعدده فيه لا يوجب تعدد الاخراج في مقام اللحاظ وظرف الاستعمال،فالاخراج واحد في هذا المقام وكذا المخرج منه وإن كان متعدداً في الخارج،ومن الطبيعي أنّ تعدده فيه إنّما يوجب تعدد إضافة الاخراج لا نفسه كما هو واضح.
الثالثة: أ نّه لا ظهور للاستثناء في الرجوع إلى الجميع ولا إلى خصوص الأخيرة وإن كان رجوعه إليها متيقناً،هذا من ناحية.ومن ناحية اخرى:أنّ رجوع الاستثناء إلى غير الأخيرة من الجمل وإن كان غير معلوم إلّاأ نّه مع ذلك لا ظهور لها في العموم لاكتنافها بما يصلح للقرينية،هذا.
والصحيح في المقام أن يقال:إنّ تعدد العمومات المتعقبة بالاستثناء لا يخلو من أن يكون بتعدد خصوص موضوعاتها أو بتعدد خصوص محمولاتها أو بتعدد كليهما معاً،لوضوح أنّ القضية كما تتعدد بتعدد الموضوع والمحمول معاً،
كذلك تتعدد بتعدد الموضوع فقط مع وحدة المحمول،أو المحمول فقط مع وحدة الموضوع،والأوّل كقولنا:زيد قائم وعمرو قائم،والثاني كقولنا:زيد عادل وزيد متكلم،فالصور ثلاث:الاُولى:أن يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب.
الثانية:أن يكون تعددها بتعدد المحمول كذلك.الثالثة:أن يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول معاً.
أمّا الصورة الاُولى: فإن لم يتكرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل:أكرم العلماء والأشراف والسادة إلّاالفسّاق منهم،أو قيل:أكرم الفقهاء والاُصوليين والمتكلمين إلّامن كان فاسقاً منهم،فالظاهر بل لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع،حيث إنّ ثبوت الحكم الواحد لهم جميعاً قرينة عرفاً على أنّ الجميع موضوع واحد في مقام اللحاظ والجعل وإن كان متعدداً في الواقع، والتكرار لا يخلو من أن يكون لنكتة فيه أو لعدم وضع لفظ للجامع بين الجميع.
وإن شئت قلت:إنّ القضية في مثل ذلك وإن كانت متعددةً صورةً إلّاأ نّها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بحكم واحد وهو وجوب إكرام كل فرد من الطوائف الثلاث إلّاالفسّاق منهم،فمردّ هذه القضية بنظر العرف إلى قولنا:أكرم كل واحد من هذه الطوائف الثلاث إلّامن كان منهم فاسقاً.
وأمّا إذا كرّر فيها عقد الحمل كما إذا قيل:أكرم العلماء والأشراف،وأكرم الشيوخ إلّاالفسّاق منهم،فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت،لأنّ تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أ نّه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات،وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجملات السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الحمل إلى دليل آخر،وحيث إنّه مفقود على الفرض فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في تلك الجملات.
ودعوى أ نّها داخلة في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،ومعه لا ينعقد لها ظهور في العموم حتى يتمسك به خاطئة جداً،وذلك لأنّ كبرى احتفاف الكلام بذلك إنّما هي فيما إذا صحّ اعتماد المتكلم عليه وإن كان مشتبه المراد عند المخاطب والسامع كلفظ الفاسق مثلاً إذا افترضنا أ نّه مجمل عند المخاطب فلا يعلم أ نّه موضوع لخصوص مرتكب الكبائر أو للأعم منه ومن الصغائر،فانّه إذا ورد في كلام المولى مقترناً بعام أو مطلق كقوله:أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم،فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة،حيث إنّه يصح للمتكلم أن يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي، ومعه لا ينعقد لكلامه ظهور في العموم حتى يتمسك به.
فالنتيجة: أنّ مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة إنّما هي موارد إجماله واشتباه المراد منه للسامع،وهذا بخلاف المقام حيث لا إجمال في الاستثناء في مفروض المسألة،فانّه ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة المتكرر فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت دون الجمل السابقة عليها،فاذن لا مانع من انعقاد ظهورها في العموم والتمسك به.
وعلى الجملة:فلو أراد المولى تخصيص الجميع ومع ذلك قد اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الحمل في البين لكان مخلاً ببيانه، حيث إنّ الاستثناء المزبور ظاهر بمقتضى الفهم العرفي في خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده دون ما كان سابقاً عليه،ومعه لا موجب لرجوعه إلى الجميع،فاذن كيف يكون المقام داخلاً في تلك الكبرى.
نعم،لو كان الاستثناء مجملاً وغير ظاهر لا في رجوعه إلى خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده ولا إلى الجميع وكان صالحاً لرجوعه إلى كل منهما لكان المقام داخلاً فيها لا محالة.
وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا كان تعدد القضية بتعدد المحمول فحسب، فإن كان الموضوع فيها غير متكرر كما في مثل قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تٰابُوا» 1فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الجميع،نظير ما إذا قال المولى لعبده:بع كتبي وأعرها وآجرها إلّاما كان مكتوباً على ظهره أ نّه مخصوص لي،فانّه ظاهر في رجوعه إلى الجميع ولا شبهة في هذا الظهور،والوجه فيه واضح وهو رجوع الاستثناء إلى الموضوع، حيث إنّه يوجب تضييق دائرته وتخصيصه بحصة خاصة.
وعليه فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع،ويدل بمقتضى الارتكاز العرفي [ على ] أنّ هذه الأحكام المتعددة ثابتة لهذه الحصة دون الأعم،مثلاً لو قال المولى:أكرم العلماء وأضفهم وجالسهم إلّاالفسّاق منهم،فلا يشك أحد في رجوع هذا الاستثناء إلى العلماء وتخصيصهم بخصوص العدول وأنّ هذه الأحكام ثابتة لهم خاصة دون الأعم منهم ومن الفسّاق.
وعلى الجملة:فالقضية في المقام وإن كانت متعددةً بحسب الصورة إلّاأ نّها في حكم قضية واحدة،فلا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون القضية واحدةً حقيقةً وأن تكون متعددةً صورةً،فانّها في حكم الواحدة،والتعدد إنّما هو من جهة عدم تكفل القضية الواحدة لبيان الأحكام المتعددة.فالنتيجة:أ نّه لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع في هذا الفرض.
وأمّا إذا تكرر الموضوع فيها ثانياً كما في مثل قولنا:أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلّاالفسّاق منهم،فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص
الجملة المتكرر فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل إن كانت،والسبب فيه:
هو أنّ تكرار عقد الوضع قرينة عرفاً على قطع الكلام عما قبله،وبذلك يأخذ الاستثناء محلّه من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الوضع إلى دليل آخر وهو مفقود على الفرض.
فالنتيجة: أ نّه يختلف الحال بين ما إذا لم يكرّر الموضوع أصلاً وإنّما كرر الحكم فحسب،وما إذا كرّر الموضوع أيضاً،فعلى الأوّل يرجع الاستثناء إلى الموضوع المذكور في الجملة الاُولى فيوجب تخصيصه بالاضافة إلى جميع الأحكام الثابتة له،وعلى الثانية يرجع إلى ما اعيد فيه الموضوع وما بعده على تفصيل تقدم في ضمن البحوث السالفة.
وعليه فلا مانع من جواز التمسك بالعموم في الجملة الاُولى،وكذا الثانية إذا كان ما اعيد فيه الموضوع هو الجملة الثالثة وهكذا،لما عرفت من ظهور رجوع الاستثناء إليه دون ما سبقه من الجمل،ومعه لا محالة تكون أصالة العموم محكّمة.وأمّا ما قيل من احتفافها بما يصلح للقرينية ومعه لا ينعقد الظهور لها في العموم،فقد عرفت خطأه وأنّ المقام غير داخل في هذه الكبرى كما عرفت بشكل موسع.
وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما إذا تعددت القضية بتعدد الموضوع والمحمول معاً،فيظهر حالها مما تقدم يعني أنّ الاستثناء فيها أيضاً يرجع إلى الجملة الأخيرة دون ما سبقها من الجملات لعين ما عرفت حرفاً بحرف.
والظاهر أ نّه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم،والمخالف في المسألة إنّما هو العامة 1وهم بين من أنكر تخصيصه به مطلقاً،وبين من فصّل تارةً بما إذا خصص العام الكتابي بمخصص قطعي قبله،وما إذا لم يخصص به كذلك،فقال بالجواز على الأوّل دون الثاني.
ولعل وجهه هو تخيل أنّ التخصيص يوجب التجوز في العام فاذا صار العام مجازاً بعد التخصيص جاز تخصيصه ثانياً بخبر الواحد،نظراً إلى أنّ التخصيص الثاني لا يوجب شيئاً زائداً على ما فعله فيه التخصيص الأوّل،وعليه فلا مانع منه.
وفيه: ما عرفت من أنّ التخصيص لا يوجب التجوز في العام.
وتارة اخرى:بين المخصص المتصل والمنفصل،فقال بالجواز في الأوّل دون الثاني.ولعل وجهه هو أنّ الأوّل لا يوجب التجوز في العام دون الثاني.
وفيه: ما مرّ من أنّ التخصيص مطلقاً لا يوجب التجوز فيه.ومنهم من توقف في المسألة وهو الباقلاني.فالنتيجة:أنّ هذه الأقوال منهم لا ترتكز على أساس صحيح.
والتحقيق هو ما ذهب إليه علماؤنا (قدّس اللّٰه أسرارهم) من جواز تخصيصه بخبر الواحد مطلقاً،والسبب في ذلك:هو أ نّنا إذا أثبتنا حجية خبر الواحد
شرعاً بدليل قطعي،فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه به إلّارفع اليد عنه بالقطع،لفرض أ نّا نقطع بحجيته.وبكلمة اخرى:
أنّ التنافي إنّما هو بين عموم الكتاب وسند الخبر،ولا تنافي بينه وبين دلالته، لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف،حيث إنّها تكون قرينةً عندهم على التصرف فيه،ومن الواضح أ نّه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذيها.
وعلى هذا فاذا أثبتنا اعتبار سنده شرعاً بدليل فلا محالة يكون مخصصاً لعمومه أو مقيداً لاطلاقه،ولا يكون مردّ هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب حتى لا يمكن،ضرورة أ نّه لا تنافي بين سنده وبين الخبر لا سنداً ولا دلالة، وإنّما التنافي كما عرفت بين دلالته على العموم أو الاطلاق وبين سند الخبر، وأدلة اعتبار السند حاكمة عليها ورافعة لموضوعها،وهو الشك في إرادة العموم،حيث إنّه بعد اعتباره سنداً مبيّن لما هو المراد من الكتاب في نفس الأمر والواقع فيكون مقدّماً عليه وهذا واضح.
وإنّما الكلام في عدّة من الشبهات التي توهمت في المقام.
منها: أنّ الكتاب قطعي السند والخبر ظني السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعي بالظني.
ويردّه: ما عرفت الآن من أنّ القطعي إنّما هو سند الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة،والمفروض أنّ الخبر لا ينافي سنده أصلاً لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة،وأمّا دلالته على العموم أو الاطلاق فلا تكون قطعيةً،ضرورة أ نّنا نحتمل عدم إرادته تعالى العموم أو الاطلاق من عمومات الكتاب ومطلقاته، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عنه من رفع اليد عن القطعي بالظني، فلو كانت دلالة الكتاب قطعيةً لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر،بل لا بدّ من طرحه في مقابلها.
وعلى الجملة:فحجية أصالة الظهور إنّما هي ببناء العقلاء،ومن المعلوم أنّ بناءهم عليها إنّما هو فيما إذا لم تقم قرينة على خلافها وإلّا فلا بناء منهم على العمل بها في مقابلها،والمفروض أنّ خبر الواحد بعد اعتباره وحجيته يصلح أن يكون قرينةً على الخلاف جزماً،من دون فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الصدور أو مقطوع الاعتبار،وقد جرت على ذلك السيرة القطعية العقلائية.
ومن الطبيعي أنّ عمومات الكتاب أو مطلقاته لا تمتاز عن بقية العمومات أو المطلقات من هذه الناحية أصلاً،بل حالها حالها.
فالنتيجة:أنّ رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه بخبر الواحد ليس من رفع اليد عن القطعي بالظني.
ومنها: أ نّه لا دليل على اعتبار خبر الواحد إلّاالاجماع،وبما أ نّه دليل لبي فلا بدّ من الأخذ بالمقدار المتيقن منه،والمقدار المتيقن هو ما إذا لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو إطلاقه وإلّا فلا يقين بتحقق الاجماع على اعتباره في هذا الحال،ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه.
ويرد عليه: أنّ عمدة الدليل على اعتبار الخبر إنّما هو السيرة القطعية من العقلاء لا الاجماع بما هو إجماع،وقد عرفت أنّ بناءهم على العمل بالعموم أو الاطلاق إنّما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلافه،حيث إنّه يكون بنظرهم قرينةً على التصرف فيه.
ومنها: الأخبار 1الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب اللّٰه،وأنّ ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله أو ما شاكل ذلك،
وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضاً،وعليه فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها.
والجواب عن ذلك: هو أنّ الظاهر بل المقطوع به عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة البدوية كمخالفة الخاص للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما،والنكتة فيه:أنّ هذه المخالفة لا تعدّ مخالفةً عند العرف،حيث إنّهم يرون الخاص قرينةً على التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق،ومن الطبيعي أ نّه لا مخالفة عندهم بين القرينة وذيها،وعليه فالمراد من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو التباين للكتاب أو العموم والخصوص من وجه،حيث إنّ هذه المخالفة تعدّ مخالفةً عندهم حقيقةً وتوجب تحيّرهم في مقام العمل،ويدل على ذلك أمران:
الأوّل: أ نّا نقطع بصدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه من النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم (عليهم السلام) لعموماته ومطلقاته،فلو كان مثل هذه المخالفة مشمولاً لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم (عليهم السلام).
الثاني: أنّ في جعل موافقة الكتاب من مرجحات تقديم أحد الخبرين على الآخر في مقام المعارضة شاهداً على أنّ الخبر المخالف حجة في نفسه وإلّا فلا موضوع للترجيح،لوضوح أنّ التعارض إنّما يقع بين الخبرين يكون كل منهما حجة في نفسه وإلّا فلا يعقل التعارض.وعليه فبطبيعة الحال يكون الخبر المخالف كالموافق حجة في نفسه بحيث لو لم يكن له معارض لوجب العمل به.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أ نّه لا شبهة في أنّ هذه المخالفة يعني المخالفة
بالعموم المطلق لا تكون مشمولة لتلك الأخبار،هذا.
مضافاً إلى أنّ أكثر الأخبار الواردة في أبواب العبادات والمعاملات لاتكون مخالفةً لعموم الكتاب،حيث إنّها متكفلة للأحكام التي ليست بموجودة في عموم القرآن ليقال إنّها مخالفة له،والوجه في ذلك:هو أنّ جل الآيات الواردة في أبواب العبادات إنّما هي في مقام التشريع فلا إطلاق لها فضلاً عن العموم.
وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الروايات الدالة على اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مخالفة لها بنحو من المخالفة.وأمّا الآيات الواردة في أبواب المعاملات وإن كان لكثير منها إطلاق إلّاأ نّه لا مانع من تقييده بخبر الواحد وإن لم نقل بجواز التخصيص به،والنكتة فيه:أنّ ثبوت الاطلاق يتوقف على جريان مقدمات الحكمة،ومن الطبيعي أ نّها لا تجري مع قيام خبر الواحد على الخلاف، وهذا بخلاف عموم العام،فانّه لا يتوقف على شيء ما عدا الوضع.
ومن ضوء هذا البيان يظهر:أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1من أ نّا لو قلنا بشمول الأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالأخبار المخالفة للكتاب لمثل هذه المخالفة-يعني المخالفة بالعموم والخصوص المطلق – لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه،خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له،لما عرفت من أ نّنا لو قلنا بالشمول المزبور فمع ذلك لا يلزم إلغاء الخبر بالمرّة،بل له موارد كثيرة لا بدّ من العمل به في تلك الموارد من دون كون العمل به فيها مخالفاً للكتاب بوجه.
ومنها: لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به أيضاً،
حيث إنّه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الأزمان فلا فرق بينهما إلّا في أنّ التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الأفراد العرضية،وذاك تخصيص بحسب الأفراد الطولية.ومن الطبيعي أنّ مجرد هذا لايوجب الحكم بجواز الأوّل وامتناع الثاني،فلو جاز الأوّل جاز الثاني أيضاً مع أ نّه ممتنع جزماً،فيكون هذا شاهداً على امتناع الأوّل كالثاني.
وفيه: أنّ الاجماع قد قام من الخاصة والعامة على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد،وهذا الاجماع ليس إجماعاً تعبدياً،بل هو من صغريات الكبرى المسلّمة وهي أنّ الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر ولكنّه لم يشتهر فيكشف عدم وجوده.والنسخ من هذا القبيل فانّه لو كان جائزاً بخبر الواحد لبان واشتهر بين العامة والخاصة بحيث يكون غير قابل للانكار،فمن عدم اشتهاره بين المسلمين أجمع يكشف كشفاً قطعياً عن عدم وقوعه وأ نّه لا يجوز نسخ الكتاب به،فلو دلّ خبر الواحد على نسخه لا بدّ من طرحه وحمله إمّا على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه كما هو الحال بالاضافة إلى إثبات قرآنية القرآن،حيث إنّها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة ولذا لا يثبت باخبار عمر الآية:«الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما»لأنّ إخباره بها داخل في خبر الواحد والقرآن لا يثبت به،وإنّما يثبت بالخبر المتواتر عن النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) وعليه فلا بدّ من حمله على أحد الوجوه الآنفة الذكر.
وعلى الجملة:فالتزام المسلمين أجمع بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد يكشف كشفاً جزمياً عن أنّ الأمر كذلك في عصر النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) والنكتة فيه هي التحفظ على صيانة القرآن.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أ نّه لا مانع من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد،بل عليه سيرة الأصحاب إلى زمان الأئمة (عليهم السلام).
إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور:
الاُولى: أن يكون الخاص متصلاً بالعام،ففي هذه الصورة لا يعقل النسخ حيث إنّه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة،والمفروض أنّ الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاص رافعاً له،بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آنٍ واحد ودليل فارد.
الثانية: أن يكون الخاص متأخراً عن العام ولكنّه كان قبل حضور وقت العمل به،ففي مثل ذلك هل يمكن أن يكون الخاص ناسخاً له ؟ فذكر بعض الأعلام أ نّه لا يمكن أن يكون ناسخاً،والنكتة فيه:أ نّه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم تحققه وفعليته في الخارج بفعلية موضوعه،ضرورة أ نّه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغواً محضاً،حيث إنّ الغرض من جعله إنّما هو صيرورته داعياً للمكلف نحو الفعل فاذا علم بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا الداعي لغواً فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم.
نعم،يمكن ذلك في الأوامر الامتحانية،حيث إنّ الغرض من جعلها ليس بلوغها مرتبة الفعلية،ولذا لا مانع من جعلها مع علم المولى بعدم قدرة المكلف على الامتثال،نظراً إلى أنّ الغرض منها مجرد الامتحان وهو يحصل بمجرد إنشاء الأمر،فلا يتوقف على فعليته بفعلية موضوعه،وهذا بخلاف
الأوامر الحقيقية حيث إنّه لا يمكن جعلها مع علم الآمر بانتفاء شرطها وعدم تحققه في الخارج،ولا يفرق في ذلك بين القضية الحقيقية والخارجية،فكما أنّ جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته وامتثاله في الخارج في القضية الحقيقية من اللغو الواضح،كذلك جعله مع علمه بانتفاء شرط امتثاله في الخارج في القضية الخارجية.
وعلى الجملة:فجعل الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض من جعلها إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل والاتيان بالمأمور به مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها وامتثالها في الخارج،لا محالة يكون لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك،هذا.
وقد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) بما إليك نصه:ولكنّ التحقيق أنّ ما ذكروه في المقام إنّما نشأ من عدم تمييز أحكام القضايا الخارجية من أحكام القضايا الحقيقية،وذلك لأنّ الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لصحّ ما ذكروه،وأمّا إذاكان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدّر وجودها في الخارج – كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدسة-فلا مانع من نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقل،لأنّه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له أصلاً،إذ المفروض أ نّه جعل على موضوع مقدّر الوجود.
نعم،إذا كان الحكم المجعول في القضية الحقيقية من قبيل الموقتات كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضية الحقيقية،كان نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجية قبل وقت العمل به،فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلاً حكماً مولوياً مجعولاً بداعي البعث أو الزجر.
وبالجملة:إذا كان معنى النسخ هو ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده،فلا محالة يختص ذلك بالقضايا الحقيقية غير الموقتة،وبالقضايا الخارجية،والقضايا الحقيقية الموقتة بعد حضور وقت العمل بها،وأمّا القضايا الخارجية أو الحقيقية الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحاكم الملتفت،والوجه في ذلك ظاهر 1.
نلخّص ما أفاده (قدس سره) في نقطة:وهي أنّ الحكم المجعول إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية الموقتة لم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به،وإذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية غير الموقتة جاز نسخه قبل ذلك،وقد تعرّض (قدس سره) هذا التفصيل بعينه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فلاحظ.
ويرد عليه: أ نّه لا يتم باطلاقه والسبب فيه:ما عرفت من أ نّه لا يكفي في الأوامر الحقيقية مجرد فرض وجود موضوعها في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها فيه،ضرورة أنّ المولى على الرغم من هذا لو جعلها بداعي البعث حقيقةً لكان من اللغو الواضح فكيف يمكن صدوره منه مع التفاته إلى ذلك،وقد مرّ آنفاً أ نّه لا يفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية غير الموقتة، والقضايا الحقيقية الموقتة،والقضايا الخارجية،فكما أنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكن المكلف منه مستحيل في القسمين الأخيرين، فكذلك مستحيل في القسم الأوّل من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، ولا ندري كيف ذهب شيخنا الاُستاذ (قدس سره) إلى هذا التفصيل،مع أ نّه
قد صرح في عدة موارد 1أنّ امتناع فعلية الحكم يستلزم امتناع جعله.هذا كلّه في الأوامر.
وأمّا النواهي فاذا علم المولى أ نّه لا يترتب أيّ أثر على جعل النهي خارجاً ولا يبلغ مرتبة الزجر لعلمه بانتفاء شرط فعليته،فلا محالة يكون جعله لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك،وأمّا إذا علم بأنّ جعل الحكم وتشريعه هو السبب لانتفاء موضوعه كما هو الشأن في جعل القصاص والديات والحدود،حيث إنّ تشريع هذه الأحكام سبب لمنع المكلف وزجره عن إيجاد موضوعها في الخارج فلا مانع منه،بل يكون تمام الغرض من جعلها ذلك فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه.
فالنتيجة في نهاية المطاف:هي أنّ جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه في الخارج لا يمكن من الحكيم الملتفت إليه من دون فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي والقضايا الحقيقية والخارجية.نعم،إذا كان جعل الحكم وتشريعه في الشريعة المقدسة سبباً لانتفاء موضوعه وشرطه فلا مانع منه كما عرفت.
الثالثة: أن يكون الخاص المتأخر وارداً بعد حضور وقت العمل بالعام فهل مثل هذا الخاص يكون مخصصاً له أو ناسخاً ؟ فيه وجهان.
فذهب جماعة إلى الثاني بدعوى أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، وعليه فيتعين كونه ناسخاً لا مخصصاً،ولكنّهم وقعوا في الاشكال بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّ مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة الأطهار
(عليهم السلام) قد وردت بعد حضور وقت العمل بها،ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بتخصيصها بها،والالتزام بالنسخ في جميع ذلك بعيد جداً بل نقطع بخلافه،بداهة أنّ لازم ذلك هو نسخ كثير من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة،وهذا في نفسه مما يقطع ببطلانه،لا من ناحية ما قيل من أنّ النسخ لا يمكن بعد زمن النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله) لانقطاع الوحي،وذلك لأنّ الوحي وإن انقطع بعد زمانه (صلّى اللّٰه عليه وآله) إلّاأ نّه لا مانع من أ نّه (صلّى اللّٰه عليه وآله) أوكل بيانه إلى الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كبيان سائر الأحكام.بل من ناحية أنّ نسخ تلك الأحكام بتلك الكثرة في نفسها لا يناسب مثل هذه الشريعة الخالدة التي تجعل من قبل اللّٰه تعالى وأمر رسوله (صلّى اللّٰه عليه وآله) وأوصيائه (عليهم السلام) ببيانها،ولأجل ذلك يقطع بخلافه.
ومن هنا قد قاموا بعدة محاولات للتفصي عن هذا الاشكال،أحسنها ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) 1تبعاً لشيخنا العلّامة الأنصاري (قدس سره) 2من أنّ هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل بها قد صدرت بأجمعها ضرباً للقاعدة،يعني أ نّها متكفلة للأحكام الظاهرية فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص،فاذا ورد المخصص عليها كان ناسخاً بالاضافة إلى الأحكام الظاهرية ومخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية والأحكام الواقعية.
وقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ كون العموم مراداً بالارادة الاستعمالية لا يلازم كونه مراداً بالارادة الجدية،كما أنّ كونه مراداً ظاهراً
ضرباً للقانون والقاعدة لا يلازم كونه مراداً واقعاً وجداً،وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مراداً ظاهراً ويكون الناس مأمورين بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيء المخصص له،فاذا جاء فيكون مخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية وناسخاً بالاضافة إلى الحكم الظاهري.
ويرد عليه: أنّ هذه العمومات لا تخلو من أن تكون ظاهرةً في إرادة العموم واقعاً وجداً في مقام الاثبات والدلالة أو لا تكون ظاهرةً فيه من جهة نصب قرينة على أ نّها مرادة في مقام الظاهر وغير مرادة بحسب مقام الواقع والجد، يعني أنّ القرينة تدل على أ نّها وردت ضرباً للقاعدة بالاضافة إلى الحكم الظاهري دون الواقعي،ومن الطبيعي أنّ هذه القرينة تمنع عن انعقاد ظهورها في إرادة العموم واقعاً وجداً،فعلى الأوّل يبقى إشكال قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بحاله ولا يندفع به الاشكال المزبور،ضرورة أ نّها على هذا الفرض ظاهرة في إرادة العموم واقعاً،والبيانات المتأخرة عنها الواردة بعد حضور وقت العمل بها على الفرض كاشفة عن عدم إرادة العموم فيها،وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة.وعلى الثاني فلا ظهور لها في العموم في مقام الاثبات حتى يتمسك به ضرباً للقاعدة،وعليه فلا يكون حجةً في ظرف الشك.
فالنتيجة:أنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) لدفع الاشكال المذكور لا يرجع إلى معنىً صحيح.
فالتحقيق في المقام أن يقال:إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما هو لأحد أمرين لا ثالث لهما:
الأوّل: أ نّه يوجب وقوع المكلف في الكلفة والمشقة من دون مقتضٍ لها في
الواقع،كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم إلزامي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملاً على حكم ترخيصي،فانّه لا محالة يوجب إلزام المكلف ووقوعه بالاضافة إلى تلك الأفراد المباحة في المشقة والكلفة من دون موجب ومقتضٍ لها،وهذا من الحكيم قبيح.
الثاني: أ نّه يوجب إلقاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة عنه،كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم ترخيصي في الظاهر،ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجباً أو محرّماً،فانّه على الأوّل يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلف،وعلى الثاني يوجب إلقاءه في المفسدة،وكلاهما قبيح من المولى الحكيم.ولكن من المعلوم أنّ هذا القبيح قابل للرفع،ضرورة أنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقاءه في الكلفة والمشقة فلا قبح فيه أصلاً.
فاذن لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه،بل هو كقبح الكذب يعني أ نّه في نفسه قبيح مع قطع النظر عن طروء أيّ عنوان حسن عليه.فاذا افترضنا أنّ المصلحة تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وكانت أقوى من مفسدة تأخيره،أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى منها فبطبيعة الحال لا يكون تأخيره عندئذ قبيحاً،بل هو حسن ولازم،كما هو الحال في الكذب فانّ قبحه إنّما هو في نفسه وذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان حسن عليه.
فاذا فرضنا أنّ إنجاء مؤمنٍ في موردٍ يتوقف عليه لم يكن قبيحاً،بل هو حسن يلزم العقل به،وكذا حسن الصدق فانّه ذاتي بمعنى الاقتضاء وأ نّه صفة المؤمن كما في الكتاب العزيز،ومع ذلك قد يعرض عليه عنوان ذو مفسدة موجب لاتصافه بالقبح كما إذا كان الصدق موجباً لقتل مؤمن أو ما شاكل ذلك،فانّ
مثله لا محالة يكون قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً،فما لا ينفك عنه القبح-هو الظلم-حيث إنّه علة تامة له فيستحيل تحقق عنوان الظلم في مورد بدون اتصافه بالقبح،كما أنّ حسن العدل ذاتي بهذا المعنى،أي بمعنى العلة التامة فيستحيل انفكاكه عنه.
فالنتيجة: أنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بما أ نّه ذاتي بمعنى الاقتضاء دون العلة التامة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير،أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحاً.
وبكلمة اخرى:أنّ حال تأخير البيان عن وقت الحاجة في محل الكلام كحال تأخيره في أصل الشريعة المقدّسة،حيث إنّ بيان الأحكام فيها كان على نحو التدريج واحداً بعد واحد لمصلحة التسهيل على الناس،نظراً إلى أنّ بيانها دفعة واحدة عرفية يوجب المشقة عليهم وهي طبعاً توجب النفرة والاعراض عن الدين وعدم الرغبة فيه.ومن الطبيعي أنّ هذا مفسدة تقتضي أن يكون بيانها على نحو التدريج ليرغب الناس فيه رغم أنّ متعلقاتها مشتملة على المصالح والمفاسد من الأوّل،فتأخير البيان وتدريجيته إنّما هو لمصلحة تستدعي ذلك-وهي التسهيل على الناس ورغبتهم في الدين-ومن الواضح أنّ هذه المصلحة أقوى من مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلف.
ومن هنا قد ورد في بعض الروايات 1أنّ أحكاماً بقيت عند صاحب الأمر (عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف) وهو (عليه السلام) بعد ظهوره يبيّن تلك الأحكام للناس،ومن المعلوم أنّ هذا التأخير إنّما هو لمصلحة فيه أو لمفسدة في
البيان،وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة عند اقتضاء المصلحة ذلك،أو كان في تقديم البيان مفسدة ملزمة،ولا يفرق في ذلك بين تأخيره عن وقت الحاجة في زمان قليل كساعة مثلاً أو أزيد،فانّه إذا جاز تأخيره لمصلحة ساعةً واحدةً جاز كذلك سنين متطاولة،ضرورة أنّ قبحه لو كان كقبح الظلم لم يجز تأخيره أبداً حتى في آنٍ واحدٍ،لاستحالة صدور القبيح من المولى الحكيم.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أ نّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك،أو كانت في تقديمه مفسدة مانعة عنه.
وعلى ضوء هذه النتيجة يتعين كون الخاص المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام مخصصاً لا ناسخاً،وعليه فلا إشكال في تخصيص عمومات الكتاب والسنّة الواردة في عصر النبي الأكرم (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) بالمخصصات الواردة في عصر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حيث إنّ المصلحة تقتضي تأخيرها عن وقت الحاجة والعمل،أو كانت في تقديمها مفسدة ملزمة تمنع عنه.
الصورة الرابعة: ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به، ففي هذه الصورة يتعين كون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر،حيث إنّه لا مقتضي للنسخ هنا أصلاً،وإلّا لزم كون جعل الحكم لغواً محضاً وهو لا يمكن من المولى الحكيم على ما تقدم تفصيله.
الصورة الخامسة: ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به،ففي هذه الصورة يقع الكلام في أنّ الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر أو
أنّ العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم،وتظهر الثمرة بينهما حيث إنّه على الأوّل يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة هو حكم الخاص دون العام،وعلى الثاني ينتهي حكم الخاص بعد ورود العام،فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة بعد وروده هو حكم العام.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) 1أنّ الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً وأفاد في وجه ذلك:أنّ كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى اشتهر ما من عام إلّاوقد خص وندرة النسخ فيها جداً أوجبتا كون ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وإن كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة أقوى من ظهور العام في العموم وإن كان بالوضع،وعليه فلا مناص من تقديمه عليه، هذا.
وأورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) 2بما ملخّصه:أنّ دليل الحكم يستحيل أن يكون متكفلاً لاستمرار ذلك الحكم ودوامه أيضاً،ضرورة أنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخرة عن نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجود الحكم أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود،وبما أنّ موضوع الاستمرار هو نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجوده أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار.
ومن الطبيعي أنّ دليل الواحد لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم وإثبات ما يتوقف على كون ذلك الحكم مفروض الوجود في الخارج وهو استمراره.
فاذن لابدّ له في الحكم باستمراره إمّا من الرجوع إلى استصحاب عدم النسخ أو إلى قوله (عليه السلام):حلال محمّد (صلّى اللّٰه عليه وآله) إلخ 1.
ولكن كلا الأمرين غير تام.
أمّا الأوّل:فلأ نّه محكوم بدليل اجتهادي وهو أصالة العموم في المقام،حيث إنّ الأمر دائر فيه بين التمسك بها والتمسك بأصالة عدم النسخ،والمفروض أنّ الاُولى حاكمة على الثانية نظراً إلى أ نّها من الاُصول اللفظية،وتلك من الاُصول العملية.
وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر منه هو استمرار الشريعة المقدسة إلى يوم القيامة وأ نّها لا تنسخ بشريعة اخرى،ولا ينافيه نسخ بعض الأحكام وعدم استمراره.
أو فقل:إنّ المراد منه ليس استمرار كل حكم في هذه الشريعة حتى يتمسك بعموم هذا الدليل في كل مورد يشك فيه في استمرار الحكم.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وهو أنّ الاستمرار مرةً يلاحظ بالاضافة إلى نفس الحكم فحسب،ومرة اخرى يلاحظ بالاضافة إلى متعلقه وموضوعه،وما أفاده (قدس سره) من أنّ دليلاً واحداً لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم واستمراره معاً إنّما يتم في الفرض الأوّل دون الفرض الثاني،حيث إنّه لا مانع من استفادة استمرار الحكم من إطلاق متعلقه وموضوعه إذا كان الدليل المتكفل له في مقام البيان كقولنا:
لا تشرب الخمر مثلاً فانّه كما يدل باطلاقه على العموم بالاضافة إلى أفراده العرضية يعني كل ما ينطبق عليه عنوان الخمر في الخارج سواء أكان متخذاً
من العنب أو التمر أو ما شاكل ذلك،فالقضية تدل على حرمة شربه كذلك يدل عليه بالاضافة إلى أفراده الطولية يعني بحسب الأزمان لاطلاق المتعلق والموضوع وعدم تقييده بزمان خاص دون زمان،مع كون المتكلم في مقام البيان.
وإن شئت قلت:إنّ المتكلم كما يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد العرضية،وهذا يعني أ نّه تارةً يقيّد المتعلق بحصة خاصة منه ككونه متخذاً من العنب مثلاً،واُخرى لا يقيده بها فيلاحظه مطلقاً ومرفوضاً عنه القيود بشتى أشكالها فعندئذ لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات الحكم لجميع ما ينطبق عليه،كذلك يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد الطولية، يعني تارةً يقيده بزمان خاص دون آخر،واُخرى لا يقيده به فيلاحظه مطلقاً بالاضافة إلى جميع الأزمنة،فعندئذ بطبيعة الحال يدل على دوام الحكم واستمراره من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له.فاذن ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ الخاص يدل على الدوام والاستمرار بالاطلاق ففي غاية الصحة والمتانة من هذه الناحية.
نعم،يرد على ما أفاده (قدس سره) من أنّ الخاص يتقدم على العام وإن كانت دلالته على الدوام والاستمرار بالاطلاق ومقدمات الحكمة ودلالة العام على العموم بالوضع،والسبب فيه:هو أ نّه لا يمكن الحكم بتقديم الخاص على العام في هذه الصورة،حيث إنّ العام يصلح أن يكون بياناً على خلاف الخاص، ومعه كيف تجري مقدمات الحكمة فيه.
وبكلمة اخرى:أنّ دلالة الخاص على الدوام والاستمرار تتوقف على جريان مقدمات الحكمة،ومن الطبيعي أنّ عموم العام بما أ نّه مستند إلى الوضع
مانع عن جريانها،فاذن كيف يحكم بتقديم الخاص عليه.وكثرة التخصيص وندرة النسخ فيما إذا دار الأمر بينهما لا توجبان إلّاالظن بالتخصيص ولا أثر له أصلاً.على أنّ فيما نحن فيه لا يدور الأمر بينهما،حيث إنّ الخاص هنا لا يصلح أن يكون مخصصاً للعام،فانّ صلاحيته للتخصيص تتوقف على جريان مقدمات الحكمة،وهي غير جارية على الفرض،فعندئذ بطبيعة الحال يقدّم العام على الخاص فيكون ناسخاً له.
ولكن هذا الذي ذكرناه إنّما يتم في الأحكام الصادرة من المولى العرفي،فانّه إذا صدر منه خاص ثمّ صدر عام بعد حضور وقت العمل به فلا محالة يكون العام ناسخاً للخاص إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاص في الدوام والاستمرار مستنداً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة.
وأمّا في الأحكام الشرعية الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تام،والسبب في ذلك:هو أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الشريعة الاسلامية المقدّسة حيث إنّها هي ظرف ثبوتها فلا تقدم ولا تأخر بينها في هذا الظرف،وإنّما التأخر والتقدم بينها في مرحلة البيان،فقد يكون العام متأخراً عن الخاص في مقام البيان،وقد يكون بالعكس،مع أ نّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.
وعلى هذا الضوء فالعام المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص وإن كان بيانه متأخراً عن بيان الخاص زماناً،إلّاأ نّه يدل على ثبوت مضمونه في الشريعة المقدّسة مقارناً لثبوت مضمون الخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما في مقام الثبوت والواقع.
ومن هنا تكشف العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) عن ثبوتها من الأوّل لا من حين صدورها،ولذا لو صلّى أحد في الثوب النجس
نسياناً ثمّ بعد مدة مثلاً تذكر وسأل الإمام (عليه السلام) عن حكم صلاته فيه فأجاب (عليه السلام) بالاعادة،فهل يتوهم أحد أ نّه (عليه السلام) في مقام بيان حكم صلاته بعد ذلك لا من الأوّل.
فالنتيجة: أنّ الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من العمومات والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأوّل،ولا إشكال في هذه الدلالة والكشف،ومن هنا يصح نسبة حديث صادر عن الإمام المتأخر إلى الإمام المتقدم كما في الروايات.ومن الطبيعي أ نّه لم تكن النسبة صحيحة،فما فيها من أ نّهم (عليهم السلام) جميعاً بمنزلة متكلم واحد إنّما هو ناظر إلى هذا المعنى يعني أنّ لسان جميعهم لسان حكاية الشرع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة:وهي أنّ العام المتأخر زماناً عن الخاص إنّما [ المتأخر ] هو زمان بيانه فحسب لا ثبوت مدلوله،فانّه مقارن للخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما بحسبه،مثلاً العام الصادر عن الصادق (عليه السلام) مقارن مع الخاص الصادر عن أمير المؤمنين (عليه السلام)،بل عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) والتأخير إنّما هو في بيانه،وعليه فلا موجب لتوهم كونه ناسخاً للخاص،بل لا مناص من جعل الخاص مخصصاً له،ومن هنا قلنا إنّ العام الصادر عن الصادق (عليه السلام) يصح نسبته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
ومن المعلوم أ نّه لو كان صادراً في زمانه (عليه السلام) لم تكن شبهة في كون الخاص مخصصاً له،فكذا الحال فيما إذا كان صادراً في زمان الصادق (عليه السلام) بعد ما عرفت من أ نّه لا أثر للتقدم والتأخر من ناحية البيان وأنّ الصادر في زمانه (عليه السلام) كالصادر في زمان الأمير (عليه السلام) أو
الرسول (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم)،ومن هنا يكون دليل المخصص كاشفاً عن تخصيص الحكم العام من الأوّل لا من حين صدوره وبيانه.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية،فانّ صدور الحكم من المولى العرفي لا يدل على ثبوته من الأوّل وإنّما يدل على ثبوته من حين صدوره،فاذا افترضنا صدور خاص منه وبعد حضور وقت العمل به صدر منه عام فلا محالة يكون العام ظاهراً في نسخه للخاص، وهذا بخلاف ما إذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخر فانّه يدل على ثبوته من الأوّل لا من حين صدوره،والتأخير إنّما هو في بيانه لأجل مصلحة من المصالح أو لأجل مفسدة في تقديم بيانه،ولأجل هذه النقطة تفترق الأحكام الشرعية عن الأحكام العرفية فيما تقدّم من النسخ والتخصيص في بعض الموارد.
فالنتيجة في نهاية المطاف:أنّ المتعيّن هو التخصيص في جميع الصور المتقدمة ولا مجال لتوهم النسخ في شيء منها.
وهو في اللغة 1بمعنى الازالة،ومنه نسخت الشمس الظل.وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه،ولا يفرق فيه بين أن يكون حكماً تكليفياً أو وضعياً.ومنه يظهر أنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ووجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان وهكذا ليس من النسخ في شيء،والوجه في ذلك:هو أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ للحكم المجعول في الشريعة المقدّسة مرتبتين:
الاُولى: مرتبة الجعل وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الحكم في هذه المرتبة مجعول على نحو القضايا الحقيقية التي لاتتوقف على وجود موضوعها في الخارج،فانّ قوام تلك القضايا إنّما هو بفرض وجود موضوعها فيه سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن، مثلاً قول الشارع:شرب الخمر حرام ليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة،بل مردّه هو أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة فيها سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن.
الثانية: مرتبة الفعلية وهي مرتبة ثبوت ذلك الحكم في الخارج بثبوت موضوعه فيه،مثلاً إذا تحقق الخمر في الخارج تحققت الحرمة المجعولة له في
الشريعة المقدّسة،ومن الطبيعي أنّ هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجاً فلا يعقل انفكاكها عنه،حيث إنّ نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية نسبة المعلول إلى العلة التامة،وعليه فاذا انقلب الخمر خلاً فبطبيعة الحال ترتفع تلك الحرمة الفعلية الثابتة له في حال خمريته،ضرورة أ نّه لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلّا لزم الخلف.
وبعد ذلك نقول: إنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء ولا كلام في إمكانه ووقوعه في الخارج،وإنّما الكلام في إمكان ارتفاع الحكم عن موضوعه المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل.
المعروف والمشهور بين المسلمين هو إمكان النسخ بالمعنى المتنازع فيه (رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والجعل).
وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ واستندوا في ذلك إلى شبهةٍ لا واقع موضوعي لها،وحاصلها:هو أنّ النسخ يستلزم أحد محذورين لايمكن الالتزام بشيء منهما،إمّا عدم حكمة الناسخ أو جهله وكلاهما مستحيل في حقّه تعالى،والسبب فيه:أنّ تشريع الأحكام وجعلها منه (سبحانه وتعالى) لا محالة يكون على طبق الحكم والمصالح التي هي تقتضيه،بداهة أنّ جعل الحكم جزافاً وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى فلا يمكن صدوره منه.
وعلى هذا الضوء فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة لموضوعه لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم الناسخ بها،أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك غالباً في الأحكام والقوانين العرفية ولا ثالث لهما،والأوّل ينافي حكمة الحكيم المطلق فانّ مقتضى حكمته استحالة صدور الفعل منه جزافاً.ومن المعلوم أنّ رفع الحكم مع بقاء
مصلحته المقتضية لجعله أمر جزاف فيستحيل صدوره منه.والثاني يستلزم الجهل منه تعالى وهو محال في حقّه سبحانه.
فالنتيجة: أنّ وقوع النسخ في الشريعة المقدّسة بما أ نّه يستلزم المحال فهو محال لا محالة.
والجواب عنها: أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة من قبل الحكيم تعالى على نوعين:
أحدهما: ما لايراد منه البعث أو الزجر الحقيقيين كالأحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شاكله.ومن الواضح أ نّه لا مانع من إثبات هذا النوع من الأحكام أوّلاً ثمّ رفعه،حيث إنّ كلاً من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة،لفرض أنّ حكمته – وهي الامتحان-قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقاؤه،ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى حيث لا واقع له غير هذا.
وثانيهما: ما يراد منه البعث أو الزجر الحقيقي،يعني أنّ الحكم المجعول حكم حقيقي ومع ذلك لا مانع من نسخه بعد زمان،والمراد من النسخ كما عرفت هو انتهاء الحكم بانتهاء أمده،يعني أنّ المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان فلا مصلحة له بعد ذلك،وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول على طبقها بحسب مقام الثبوت مقيداً بذلك الزمان الخاص المعلوم عند اللّٰه تعالى المجهول عند الناس،ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قيّد به في الواقع وحلول أجله الواقعي الذي انيط به،وليس المراد منه رفع الحكم الثابت في الواقع ونفس الأمر حتى يكون مستحيلاً على الحكيم تعالى العالم بالواقعيات.
فالنتيجة: أنّ النسخ بالمعنى الذي ذكرناه أمر ممكن جزماً ولايلزم منه شيء من المحذورين المتقدمين،بيان ذلك:أ نّه لا شبهة في دخل خصوصيات الأفعال في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلاف تلك الخصوصيات،سواء أكانت تلك الخصوصيات زمانية أو مكانية أو نفس الزمان كأوقات الصلاة والصيام والحج وما شاكل ذلك،فانّ دخلها في الأحكام المجعولة لهذه الأفعال مما لا يشك فيه عاقل فضلاً عن فاضل،فاذا كانت خصوصيات الزمان دخيلةً في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلافها،فلتكن دخيلةً في استمرارها وعدمه أيضاً،ضرورة أ نّه لا مانع من أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة في مدة معيّنة وفي قطعة خاصة من الزمان فلايكون مشتملاً عليها بعد انتهاء تلك المدة.
وعليه فبطبيعة الحال يكون جعل الحكم له من الحكيم المطلق العالم باشتماله كذلك محدوداً بأمد تلك المصلحة فلايعقل جعله منه على نحو الاطلاق والدوام، فاذن لا محالة ينتهي الحكم بانتهاء تلك المدة حيث إنّها أمده.
وعلى الجملة: فاذا أمكن أن يكون لليوم المعيّن أو الاُسبوع المعيّن أو الشهر المعيّن دخل في مصلحة الفعل وتأثير فيها أو في مفسدته أمكن دخل السنة المعيّنة أو السنين المعيّنة فيها أيضاً،فاذا كان الفعل مشتملاً على مصلحة في سنين معيّنة لم يجعل له الحكم إلّافي هذه السنين فحسب،فيكون أجله وأمده انتهاء تلك السنين،فاذا انتهت انتهى الحكم بانتهاء أمده وحلول أجله،هذا [ بحسب مقام الثبوت،وأمّا ] بحسب مقام الاثبات،فالدليل الدال عليه وإن كان مطلقاً إلّا أ نّه كما يمكن تقييد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل فكذلك يمكن تقييد إطلاقه من جهة الزمان أيضاً بدليل منفصل،حيث إنّ المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق،مع أنّ المراد الجدي هو الخاص أو المقيد والموقت بوقت خاص ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل.
فالنسخ في مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده،وفي مقام الاثبات رفع الحكم الثابت لاطلاق دليله من حيث الزمان،ولا يلزم منه خلاف الحكمة ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى.هذا بناءً على وجهة نظر العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها،وأمّا على وجهة نظر من يرى تبعية الأحكام لمصالح في أنفسها فالأمر أيضاً كذلك،فانّ المصلحة الكامنة في نفس الحكم تارةً تقتضي جعله على نحو الاطلاق والدوام في الواقع،وتارة اخرى تقتضي جعله في زمان خاص ووقت مخصوص فلا محالة ينتهي بانتهاء ذلك الوقت-وهذا هو النسخ-وإن كان الفعل باقياً على ما هو عليه في السابق،أو فقل:إنّ في إيجاب شيء تارةً مصلحة في جميع الأزمنة،واُخرى في زمان خاص دون غيره.
فالنتيجة في نهاية الشوط:هي أ نّه لا ينبغي الشك في إمكان النسخ بل وقوعه في الشريعة المقدّسة على وجهة نظر كلا المذهبين كمسألة القبلة أو نحوها.
قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات،وخالف في ذلك العامة 1وقالوا باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى،ومن هنا نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه،وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم بالبداء.
ولكن من الواضح أ نّهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلّا لم ينسبوا إليهم هذا الافتراء الصريح والكذب البيّن.وممّن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى: «يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ» قال:
قالت الرافضة البداء جائز على اللّٰه تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده 2وهذا كما ترى كذب صريح على الشيعة.وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه تعالى،كيف فانّ الشيعة ملتزمون به، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل عليه سبحانه وتعالى.
وقد ورد في بعض الروايات أنّ«من زعم أنّ اللّٰه (عزّ وجلّ) يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه» 3وفي بعضها الآخر«فأمّا من قال بأنّ اللّٰه
تعالى لا يعلم الشيء إلّابعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد» 1.
وقد انفقت كلمة الشيعة الإمامية على أنّ اللّٰه تعالى لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى حكم العقل الفطري وطبقاً للكتاب والسنّة، بيان ذلك:أ نّه لا شبهة في أنّ العالم بشتى ألوانه وأشكاله تحت قدرة اللّٰه تعالى وسلطانه المطلق،وأنّ وجود أيّ ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وإعمال قدرته،فان شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده،هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى:أنّ اللّٰه سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وأنّ لها بجميع أشكالها تعييناً علمياً في علم اللّٰه الأزلي،ويعبّر عن هذا التعيين بتقدير اللّٰه مرّةً وبقضائه مرّة اخرى.
ومن ناحية ثالثة:أنّ علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة اللّٰه تعالى واختياره عنها،ضرورة أنّ حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شيء فيه،فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الاناطة بمشيئة اللّٰه واختياره، فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء،وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسّع 2.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث:هي أنّ معنى تقدير اللّٰه تعالى للأشياء وقضائه بها أنّ الأشياء بجميع ضروبها كانت متعيّنةً في العلم الإلهٰي منذ الأزل على ما هي عليه من أنّ وجودها معلّق على أن تتعلق المشيئة الإلهٰية
بها حسب اقتضاء الحِكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهٰي.
ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهٰية بخلافه،ومن هنا قالوا يد اللّٰه مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والاعطاء، ووجه الظهور:ما عرفت من أنّ قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة اللّٰه تعالى على الأشياء حين إيجادها،حيث إنّه تعلق بها على واقعها الموضوعي من الاناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها.
ومن الغريب جداً أ نّهم (لعنهم اللّٰه) التزموا بسلب القدرة عن اللّٰه ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد،مع أنّ الملاك في كليهما واحد-وهو العلم الأزلي-فانّه كما تعلّق بأفعاله تعالى كذلك تعلّق بأفعال العبيد.
فالنتيجة:أ نّهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وأنّ قلم التقدير والقضاء لا ينافيها،وسلب القدرة عن اللّٰه تعالى وأنّ قلم التقدير والقضاء ينافيها،وهذا كما ترى.
وبعد ذلك نقول: إنّ المستفاد من نصوص الباب أنّ القضاء الإلهٰي على ثلاثة أنواع.
الأوّل: قضاؤه تعالى الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه حتى نبيّنا محمّد (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) وهو العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه المعبّر عنه باللوح المحفوظ تارةً وباُمّ الكتاب تارةً اخرى.ولا ريب أنّ البداء يستحيل أن يقع فيه،كيف يتصور فيه البداء وأنّ اللّٰه سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في الأرض ولا في السماء،
ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم لا أ نّه يقع فيه:
منها: ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي أنّ الرضا (عليه السلام) قال لسليمان المروزي«رويت عن أبي عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام) أ نّه قال:إنّ للّٰه(عزّ وجلّ) علمين:علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلّا هو،من ذلك يكون البداء،وعلماً علّمه ملائكته ورسله،فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه» 1.
ومنها: ما عن بصائر الدرجات باسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام)«قال إنّ للّٰهعلمين:علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّاهو،من ذلك يكون البداء،وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه» 2.
الثاني: قضاء اللّٰه الذي أخبر نبيّه وملائكته بأ نّه سوف يقع حتماً،ولا شبهة في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء،ضرورة أنّ اللّٰه تعالى لا يكذّب نفسه ورسله وملائكته وأولياءه،فلا فرق بينه وبين القسم الأوّل من هذه الناحية.نعم،يفترق عنه من ناحية اخرى وهي أنّ هذا القسم لا ينشأ منه البداء دون القسم الأوّل.
وتدل على ذلك عدة روايات:
منها: قوله (عليه السلام) في الرواية المتقدمة عن الصدوق«إنّ علياً (عليه السلام) كان يقول:العلم علمان،فعلم علّمه اللّٰه ملائكته ورسله،فما
علّمه ملائكته ورسله فانّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله،وعلم عنده مخزون لم يُطلع عليه أحداً من خلقه يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» 1.
ومنها: ما روى العياشي عن الفضيل قال:«سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:من الاُمور امور محتومة جائية لا محالة،ومن الاُمور امور موقوفة عند اللّٰه يقدّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يُطلع على ذلك أحداً – يعني الموقوفة-فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته» 2.
الثالث: قضاء اللّٰه الذي أخبر نبيّه وملائكته بوقوعه في الخارج لا بنحو الحتم،بل معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئة اللّٰه على خلافه،وفي هذا القسم يقع البداء عنه بعالم المحو والاثبات وإليه أشار بقوله: «يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ» 3، «لِلّٰهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ» 4وقد دلت على ذلك عدة نصوص:
منها: ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبداللّٰه بن مسكان عن أبي عبداللّٰه (عليه السلام)«قال:إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء اللّٰه تعالى في تلك السنة،فاذا أراد اللّٰه أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الذي